ج5 - ف55
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
55- (يسوع في جَثْسَيْماني وبيت عنيا)
03/ 01 / 1946
يَلِج يسوع في سكون خُضرة بستان الزيتون. ما يزال مارغزيام إلى جانبه، ويبتسم وهو يفكّر بالجري المؤدّي إلى اللّهاث الذي سيُجريه حتماً بطرس ليلحق بهما. يقول: «آه! يا معلّم! الله أَعلَم ما الذي سيقوله! ولو كنتَ تستمرّ حتّى بيت عنيا دون توقُّف هنا، فسيكون حتماً في وضع حزين.»
يبتسم يسوع كذلك وهو يَنظر إلى الصبيّ ويُجيبه: «نعم، سوف يغمرني بِـمَناحاته. ولكن ذلك سيفيده في المرّة القادمة ليكون أكثر تنبّهاً. كنتُ أتحدَّث. وهو كان يتلهّى مثرثراً مع هذا وذاك...»
«لقد كانوا يَسأَلونه، يا ربّ.» يقول، ملتمساً له العذر، مارغزيام الذي لم يعد يضحك.
«تجدر الإشارة بالإجابة لاحقاً، بعد أن يصمت كلمة الربّ. تذكّر هذا لمستقبلكَ حينما ستصبح كاهناً. وَفِّر الاحترام الأكبر للساعات والأمكنة التي يُعطى فيها التعليم.»
«ولكن، يا ربّ، سيكون حينذاك مارغزيام المسكين هو الذي يتحدّث...»
«لا يهمّ. هو الله الذي يتحدّث على الدوام بشفاه خُدّامه، في أثناء خدمتهم. وفي هذه الأحوال يجب الإنصات إليهم بصمت وباحترام.»
يُقطِّب مارغزيام وجهه بشكل يُعبِّر عما يجول في خاطره.
يسوع الذي يلاحظه يقول: «ألم تقتنع بذلك؟ لماذا هذا الوجه؟ قُل يا ولدي دون خوف.»
«ربّي، كنتُ أتساءل إذا ما كان الله على شفاه كَهَنَة هذا الزمن... و... كنتُ أتساءل بِهَلَع إذا ما كان كَهَنَة المستقبل سيصبحون على شاكلتهم... وكنتُ قد استنتجتُ مِن ذلك أنّ... كَهَنَة كثيرين سَيُحقِّرون وجه الربّ... لقد أخطأتُ بالتأكيد... ولكنّ قلبهم سيّئ وشحيح وجاف لدرجة أنّهم...»
«لا تَدنْ. إنما تذكّر آنئذ شعور الاشمئزاز هذا. فليكن حاضراً في ذهنكَ مستقبَلاً، وحاول بكل قوّتكَ ألاّ تكون على مثال أولئك الذين يجعلونكَ تشمئز. وألاّ يكون كذلك التابعون لكَ. اجعل، حتّى الشرّ الذي تراه، يَخدم في سبيل الخير. كلّ فِعل وكلّ معرفة، يجب أن يتحوّلا إلى فِعل خير مروراً بمحاكمة وبإرادة مستقيمتين.»
«آه! ربي! قبل الدخول إلى المنزل الذي أضحى مرئيّاً، أجبني على سؤال آخر! أنتَ لا تُنكِر أنّ الكهنوت الحالي معيب. تقول لي ألاّ أُدين. أمّا أنتَ فتدين ولكَ أن تفعل. وتدين بعدل. الآن، يا ربي، اسمع بماذا أُفكِّر. عندما يتحدّث الكَهَنَة الحاليّون عن الله وعن الدِّين، في الوضع الذي هُم عليه في الغالبيّة العظمى، وأتحدّث الآن عن الأسوأ منهم، هل يجب الإنصات إليهم كما لو أنّهم يقولون الحقيقة؟»
«دائماً، يا بنيّ، احتراماً لرسالتهم. عندما يقومون بالأفعال المنوطة بهم في كهنوتهم، فلا يعود حنّان الإنسان أو صادوق الإنسان، إلخ، بل هو "الكاهن". فافصل دائماً الكهنوت عن البشريّةَ المسكينة.»
«ولكن لو كان أداؤهم لواجبهم سيّئاً...»
«الله سوف يسدّ النقص. وثمّ!... اسمع يا مارغزيام! ما مِن إنسان كامل الصَّلاح، ولا إنسان كامل السُّوء. وما مِن أحد صالح تماماً لدرجة يحقّ له معها أن يدين إخوته السيّئين تماماً. يجب التنبّه إلى نقائصنا، وأن نقابلها بالصفات الحسنة لِمَن نريد أن ندينه، حينئذ يصبح لدينا المقياس العادل للحكم الـمُحِبّ. لم أجد بعد الإنسان كامل السوء.»
«حتّى ولا دوراس، يا ربّ؟»
«حتّى ولا هو، فإنهّ زوج فاضل وأب مُحِبّ.»
«حتّى ولا والد دوراس؟»
«هو كذلك كان زوجاً فاضلاً وأباً مُحِبّاً.»
«ولكن مع ذلك لم يكن غير ذلك!»
«لم يكن غير ذلك، ولكنّه في ذلك لم يكن سيّئاً. وإذاً هو لم يكن كامل السوء.»
«وحتّى يهوذا ليس سيّئاً؟»
«لا.»
«بيد أنّه ليس صالحاً!»
«هو ليس صالحاً تماماً، كما أنّه ليس سيّئاً تماماً. ألم تقتنع بما أقول؟»
«أنا مقتنع أنّكَ، أنتَ، كامل الصَّلاح، وخالٍ تماماً مِن كلّ خُبث. هذا نعم. فأنتَ كذلك لدرجة أنّكَ لا تَجِد أبداً أيّة تهمة، على أيّ أحد...»
«آه! يا وَلَدي! لو كنتُ بُحتُ بأوّل مقطع مِن كلمة اتّهام، لكنتم انقضضتم على المتَّهَم كالوحوش!... وأنا أتحاشى أن تُلطِّخوا أنفسكم بخطيئة الإدانة إن تصرّفتم هكذا. افهمني يا مارغزيام. هذا لا يعني أنّي لا أرى الشرّ حيث هو. هذا لا يعني أنّي لا أرى مزيج الخير والشرّ في الكثيرين. هذا لا يعني أنّني لا أُدرِك عندما تَصعَد نَفْس أو تهبط عن المستوى الذي أوصلتُها إليه. هذا ليس مِن أجل أيّ شيء مِن كلّ ذلك، يا بنيّ. ولكنّه على سبيل الحيطة لتحاشي نقص المحبّة فيكم. وسوف أتصرّف دوماً على هذه الشاكلة. حتّى في العصور المقبلة عندما يكون عليَّ إعلان موقفي مِن إحدى الخلائق. ألا تَعلَم، يا بنيّ، أنّ كلمة مديح، أحياناً، كلمة تشجيع، تكون أفضل مِن ألف لائمة؟ ألا تَعلَم أنّ بين مائة حالة سيّئة للغاية، والمعتبرة وكأنّها صالحة، هناك نصفها على الأقلّ تصبح حقيقة صالحة، لأنّه حينئذ، بعد كلمتي العطوفة، لا تعوز مساعدة الطيّبين الذين، في ظرف آخر، كانوا سيجعلون الشخص المعتبر فاسداً يفرّ؟ يجب دعم النفوس، وليس إنهاكها. ولكن إن لم أكن أنا، أوّل مَن يدعمها، مَن يَستر نقائصها، مَن يستنهض فيكم العطف والعون لها، فلن تَهَبوا ذواتكم لها مطلقاً برحمة فاعلة. تذكّر ذلك، يا مارغزيام...»
«نعم، يا ربّ... (تنهيدة عميقة). سوف أتذكّر ذلك... (تنهيدة أخرى)... ولكنّ ذلك صعب جدّاً أمام بيّنات كثيرة...»
يُمعِن يسوع فيه النَّظَر، ولكنّه لا يرى مِن الصبيّ سوى أعلى الجبهة، ذلك أنّه يخفض وجهه كثيراً.
«مارغزيام، ارفع وجهكَ. انظر إليَّ. وأجبني. ما هي البيّنة التي يصعب إهمالها؟»
ارتَبَكَ مارغزيام... وعلا الاحمرارُ بشرته المائلة إلى السُّمرة... ويُجيب: «ولكن... هناك منها الكثير، يا ربّ...»
ضَيَّقَ عليه يسوع: «لماذا ذكرتَ يهوذا بالاسم؟ هل لأنه "بيّنة"؟ وقد تكون البيّنة الأكثر صعوبة في تجاوزها... ماذا فَعَلَ لكَ يهوذا؟ بماذا سَبَّبَ لكَ الشكوك؟» ويضع يسوع يديه على كتفيّ الصبيّ الذي أَصبَحَ الآن كالأرجوان مِن شدّة الاحمرار.
يَنظُر إليه مارغزيام، وقد أَبرَقَت عيناه، ثمّ يُفلِت منه ويَهرُب وهو يصيح: «إنّه مُنتَهِك للحُرُمات، يهوذا!... إنما لا يمكنني القول... احترمني، يا ربّ!...» ويمضي ليختبئ وهو يبكي، ويسوع يناديه دون جدوى بحركة تنمّ عن ألم مُثبّط للعزيمة.
ولقد لَفَتَت صيحته انتباه الناس المتواجدين في بيت جَثْسَيْماني، وعلى عَتَبَة المطبخ ظَهَرَ يونا وأُمّ يسوع، وخلفهما النساء التلميذات: مريم التي لحلفى، مريم سالومة وبورفيرا. رأوا يسوع وساروا صوبه.
«السلام لكم جميعاً! ها أنا ذا يا أُمّي!»
«وحدكَ؟ لماذا؟»
«لقد أسرعتُ في المجيء. أمّا الآخرون فقد تركتُهم في الهيكل... ولكنّني كنتُ مع مارغزيام...»
«وأين هو الآن، ابني الذي لا أراه؟» تَسأَل بورفيرا القَلِقة قليلاً.
«لقد صَعَدَ إلى الأعلى... ولكنّه سيعود. هل لديكم طعام يكفي الجميع؟ فالآخرون على وشك الوصول.»
«لا، يا ربّ. كنتَ قد قلتَ إنّكَ ذاهب إلى بيت عنيا...»
«نعم... ولكنّني فكّرتُ أنّه كان حسناً أن يكون الأمر هكذا. هيّا وليُتَّخَذ ما يلزم بسرعة. وأنا، سوف أبقى مع أُمّي.»
تُطيع النساء التلميذات دون مناقشة.
يبقى يسوع وحده مع مريم، ويسيران ببطء تحت الأغصان المتشابكة التي يتخلّلها انسياب أشعّة الشمس التي ترسم دوائر ذهبية على العشب الأخضر الـمُزهِر.
«بعد الغذاء سوف أمضي إلى بيت عنيا، مع سمعان.»
«سمعان بن يونا؟»
«لا، بل سمعان الغيور. وسوف آخذ مارغزيام معي...» ويَصمت يسوع شارد الذهن.
تُلاحظ مريم ذلك، ثمّ تَسأَل: «هل يُسبِّب لكَ مارغزيام غَمّاً؟»
«لا، يا أُمّي. على العكس! لماذا تراودكِ هذه الأفكار؟»
«لماذا أنتَ شارد الذهن؟... لماذا ناديتَه بصيغة الأمر؟ ولماذا تركَكَ هو؟ لماذا أَفلَت منكَ كما لو أنّه كان خَجِلاً؟ حتّى إنّه لم يأتِ ليسلّم على أُمّه وعليَّ أنا!»
«لقد فرَّ الصبيّ بسبب سؤال كنت قد طرحتُهُ عليه.»
«آه!...» مريم مندهشة للغاية. تَصمت برهة، ثمّ تُتمتم كما لو أنّها كانت تُكلِّم نفسها: «الاثنان في الفردوس الأرضيّ هَرَبا، بعد الخطيئة، لدى سماع صوت الله... ولكن، يا بنيّ، يَجِب الرأفة بالصبيّ. إنّه يَبدأ طَور الرجولة... ويا بنيّ... قد يَلدَغ الشيطان كلّ الرجال...» مريم مُفعَمَة رأفة وتَوسُّلاً…
يَنظُر إليها يسوع ويقول لها: «يا لأمومتكِ! أنتِ هي "الأُمّ"! ولكن لا تظنّي أنّ الصبيّ قد ارتَكَبَ خطيئة. على العكس عليكِ أن تظنّي أنّه يُعاني بسبب صدمة مِن وحي. إنّه كثير النقاء. إنّه طيّب للغاية... سوف آخذه معي اليوم لأجعله يُدرِك، دون كلام، أنّني أفهمه. وكلّ كلمة ستكون زائدة... عدا عن أنّني لن أجد كلمات أُبرّر بها مَن انتَهَكَ البراءة.» يسوع صارم مع تلك الكلمات الأخيرة.
«آه! يا وَلَدي! هذا هو بيت القصيد! لستُ أسألكَ عن الاسم. إنّما لو كان بيننا مَن هو قادر على أن يكدّر الصبيّ، فليس هناك سوى واحد يمكنه أن يكونه... يا للشيطان!»
«هيّا بنا نبحث عن مارغزيام. فهو لن يفرَّ منكِ.»
يَمضيان ويَجِدانه خَلفَ دَغْل زعرور.
«هل كنتَ تقطف لي الأزهار، يا بنيّ؟» تَسأل مريم وهي تدنو منه وتعانقه…
«لا، ولكنّني كنتُ مشتاقاً إليكِ.» يقول مارغزيام والدموع ما تزال على خدّيه.
«وها أنا قد أتيتُ. هيّا بنا، بسرعة! فاليوم عليكَ أن تذهب مع يسوعي إلى بيت عنيا! ويجب أن يكون مظهركَ لائقاً.»
يشعّ وجه مارغزيام، وقد نَسِيَ الكدر الذي كان يعاني منه، ويقول: «أنا وحدي، معه؟»
«ومع سمعان الغيور.»
مارغزيام، الذي ما يزال طفلاً، يقفز مِن الفَرَح ويجري خارجاً مِن مخبئه ليرتمي على صدر يسوع... تراه مرتبكاً. ولكنّ يسوع يدفعه قائلاً: «اركض لترى إذا ما أتى أبوكَ.»
وبينما يمضي مارغزيام وهو يجري، يُعلِّق يسوع: «إنّه طفل حقّاً، رغم أنّ تفكيره قد نضج. فَجَعْل قلبه يضطرب جريمة كبرى، ولكنّني سوف أحتاط.» وبينما هو يتكلّم يمضي صوب البيت مع مريم. وقبل أن يَصِلا يَرَيان مارغزيام يعود أدراجه مُهرولاً.
«يا معلم... أُمّي... هناك أناس... ممّن كانوا في الهيكل... الصابئة... هناك امرأة... امرأة تريد رؤيتكِ، يا أُمّي... تقول إنّها عرفتكِ في بيت لحم... تُدعى نُعْمي.»
«لقد عرفتُ الكثيرات، آنذاكَ! ولكن هيّا بنا...»
يَبلغون الساحة الصغيرة حيث المنزل. جماعة مِن الناس ينتظرون، وما أن يَروا يسوع حتّى يَركَعوا. إلّا أن امرأة تَنهَض في الحال لتذهب وترتمي عند قدميّ مريم، وهي تناديها باسمها.
«مَن تكونين؟ أنا لا أتذكّركِ. انهضي.»
تَنهَض المرأة وتوشِك أن تتكلّم عندما يَصِل الرُّسُل، وهُم يَلهَثون.
«ولكن يا ربّ! ولكن لماذا؟ لقد ركضنا كالمجانين عَبْر أورشليم. كنا نظنّ أنّكَ ذهبتَ إلى بيت يُوَنّا أو بيت أناليا... لماذا لم تتوقّف؟» تتقاطع الأسئلة والاستعلام وتتداخل.
«الآن نحن معاً. مِن غير المجدي شرح الـ لماذا. دعوا هذه المرأة تتكلّم بسلام.»
يتجمّع الكلّ ليَسمَعوا.
«أنتِ لا تتذكّرينني، يا مريم بيت لحم. أمّا أنا، فمنذ واحد وثلاثين عاماً، أتذكّر اسمكِ ووجهكِ، كالذي للرحمة.كنتُ قد أتيتُ، أنا أيضاً، مِن البعيد، مِن برجة، مِن أجل المنشور. وقد كنتُ حبلى. ولكنّني كنتُ آمل العودة في الوقت المناسب. مَرِض زوجي في الطريق، وفي بيت لحم بَلَغَ به السقم حدّ الموت. وفي لحظة موته كان قد مضى على ولادتي عشرون يوماً. صراخي شقَّ السماء وقَطَعَ الحليب منّي أو أفسَدَهُ. وقد كَسَت البثور جسدي، وكذلك ابني... ورُمينا في كهف لنموت فيه... وإذ ذاكَ... أنتِ، أنتِ وحدكِ أتيتِ بِحَذَر، خلال شهر قمريّ تقريباً، لتجلبي لي الغذاء وتُداوي لي الجراح، باكية معي، مانحة الحليب لابني الذي ما زال على قيد الحياة بفضلكِ، بفضلكِ أنتِ فقط... لقد عَرَّضتِ نفسكِ للموت تحت وقع ضربات الحجارة، لأنّهم كانوا ينادونني "البرصاء"... آه! يا نجمتي اللطيفة! لم أَنسَ هذا. لقد سافرتُ بعد شفائي. عَلِمتُ بالمجزرة في أفسس. بحثتُ عنكِ كثيراً! كثيراً! كثيراً! لم يكن بإمكاني الاعتقاد بأنّكِ كنتُ قد قُتلتِ مع ابنكِ في تلك الليلة الفظيعة. ولكنّني لم أعثر عليكِ أبداً. في الصيف الماضي، واحد مِن أفسس سَمِعَ ابنكِ، عَرف مَن يكون، تَبِعَه بعض الوقت، كان مع آخرين في إثره في المجامع... ولدى عودته، تكلَّمَ. أنا، أتيتُ لرؤيتكِ، أيّتها القدّيسة، قبل أن أموت. لأبارككِ بعدد المرّات التي منحتِ فيها نقاط الحليب ليوحنّاي، رافعة إيّاه لابنكِ المبارك...» وتبكي المرأة في وضعها المعبّر عن الاحترام، منحنية قليلاً، وهي تشدّ بيديها على ذراعيّ مريم…
«الحليب، لا يُمنَع أبداً، يا أختي. و...»
«آه! لا. لستُ أختكِ! فأنتِ أُمّ الـمُخلِّص، وأنا امرأة مسكينة، تائهة، بعيداً عن بيتها، أرملة مع وليد على صدري، على صدري الجافّ مثل سيل في أيّام الصيف... لولاكِ، لكنتُ قد متُّ. لقد مَنَحتِني كلّ شيء، وتمكّنتُ مِن العودة إلى إخوتي، التجّار في أفسس، بفضلكِ أنتِ.»
«لقد كُنّا أُمَّين، أُمَّين مسكينتين، مع وَليدَين خارِجَين إلى العالم. أنتِ، كنتُ تعانين مِن ألم الترمُّل، أمّا أنا، فَمِن وُجوب اختراق سيف لقلبي بسبب ابني، كما كان سمعان الشيخ قد قال في الهيكل. لم أقم سوى بواجبي كأخت، بمنحكِ ما كنتِ قد فقدتِه. وابنكِ، هل هو على قيد الحياة؟»
«إنّه هنا. وابنكِ القدّيس قد شفاه لي هذا الصباح. فليكن مباركاً!» وتجثو المرأة أمام الـمُخلِّص هاتفة: «تعال، يا يوحنّا، لتشكر الربّ.»
يَترك رَجُل بعمر يسوع رفاقه، ليتقدّم، قويّاً، ذا وجه صادق ليس ذا جمال. الجميل فيه هو تعبير عينيه العميقتين.
«السلام لكَ، يا أخ بيت لحم، ممَّ شفيتُكَ؟»
«مِن العمى، يا ربّ. واحدة مفقودة، والأخرى تكاد تكون كذلك. كنتُ رئيس المعبد، ولكنّني كنتُ قد عجزتُ عن قراءة اللُّفافات المقدَّسة.»
«الآن ستقرأها بإيمان أعظم.»
«لا، يا ربّ. الآن أنتَ مَن سوف أقرأ. أريد أن أبقى كتلميذ، مِن غير ما اعتبار لنقاط الحليب التي تجرَّعتُها مِن الصدر الذي أرضعكَ. فلا أهميّة لأيّام شهر قمريّ في خَلق رابط، إنّما كلّ الأهميّة لرحمة أمّكَ آنذاك، ورحمتكَ أنتَ هذا الصباح.»
يلتفت يسوع صوب المرأة: «وأنتِ، ما رأيكِ؟»
«رأيي هو أنّ ابني يخصّكَ مرّتين. اقبله، يا ربّ، وسيكون حلم نُعْمي المسكينة قد تحقّق.»
«حسناً. ستكون للمسيح. وأنتم، اقبَلوا هذا الرفيق باسم الربّ.» يقولها متوجّهاً إلى الرُّسُل.
ويَنفَعِل الصابئة متأثّرين. وأراد الناس البقاء في الحال. جميعهم. ولكنّ يسوع يقول بحزم: «لا. أنتم، ابقوا على ما أنتم عليه. عودوا إلى بيوتكم محتفظين بالإيمان، ومنتظرين ساعة الدعوة. وليكن الربّ معكم على الدوام. هيّا.»
«هل يمكننا إيجادكَ مرّة أخرى هنا؟» يَسأَلون.
«لا. كعصفور ينتقل مِن غصن إلى غصن، هكذا سأمضي دون توقّف. لن تجدوني هنا. لا خط سير ولا محلّ إقامة ثابِتَين لي. ولكن، إن كان صواباً، فسوف نلتقي وسوف تسمعونني. امضوا. ولتبقَ المرأة مع التلميذ الجديد.»
يَدخُل إلى البيت تتبعه النساء والرُّسُل وهُم يُعلِّقون بتأثّر على الحقبة التي ظلَّت إلى ذلك الحين مجهولة، وعلى محبّة مريم العميقة...
...يَمضي يسوع، بخطى سريعة، إلى بيت عنيا. وإلى جانبه سمعان الغيور ومارغزيام، سعيدين لكونهما معاً المختارين لهذه الزيارة. مارغزيام، وقد استعاد هدوءه تماماً، يطرح ألف سؤال حول المرأة القادمة مِن أفسس. يَسأَل إذا ما كان يسوع عالماً بذاك الحدث، إلخ…
«لم أكن على عِلم به. أفعال أُمّي الطيّبة لا حصر لها، وقد تمَّت بصمت لطيف لدرجة أنّ الغالبيّة العظمى منها بقيت غير معروفة.»
«ومع ذلك، فالحقبة جميلة جدّاً.» يقول الغيور.
«نعم. لدرجة أنّني أريد جعل يوحنّا الذي مِن عين دور يعرفها. ما قولكَ، يا معلّم؟ هل سنجد رسائله في بيت عنيا؟»
«أكاد أكون متأكّداً.»
«يُفتَرض أن نجد أيضاً المرأة التي شُفِيَت مِن البرص.» يقول الغيور.
«نعم، لقد حافَظَت على الأحكام بكلّ أمانة، إنّما الآن فينبغي أن يكون زمن التطهير قد تمّ.»
تَظهَر بيت عنيا على هضبتها.
يَمرون قرب البيت الذي كان في السابق يحوي الطواويس والنحامات. والآن هو مُهمَل ومُقفَل. يُلاحِظ سمعان ذلك، ولكنّ ملاحظته يقطعها سلام مبتهج مِن مكسيمين الذي يَخرُج خارج البوّابة.
«آه! أيّها المعلّم القدّيس! يا للسعادة وسط هذا الألم العظيم!»
«السلام لكَ. لماذا الألم؟»
لأنّ لعازر يُعاني مِن قروح ساقيه، ونحن لا ندري ماذا نفعل لنخفّف هذا الألم. إنّما برؤيتكَ، سوف يُصبِح أفضل، فيما يخصّ روحه.»
يَلِجون الحديقة، وبينما يجري مكسيمين إلى الأمام، يتقدّمون هُم ببطء صوب البيت.
تَهرَع مريم المجدليّة إلى الخارج وهي تهتف عابدة «رابّوني» تتبعها مرثا الأكثر هدوءاً. كلتاهما شاحبتان كَمَن تألّم وسَهر.
«انهضا. هيّا بنا بسرعة لرؤية لعازر.»
«آه! يا معلّم! المعلّم القادر على كلّ شيء، اشف أخي!» تقول مرثا متوسِّلة.
«نعم، أيّها المعلّم الطيّب! إنّه يتألّم بما يفوق قدرته على التحمّل! مُنهَك هو، يئنّ. وإذا ما استمرّ على هذه الحال فحتماً هو سيموت. ارحمه، يا ربّ!» تلحّ مريم.
«أنا كُلّيّ الرحمة. ولكنّ ساعة المعجزة بالنسبة إليه لم تحن. فليكن شجاعاً، وأنتما معه. ساعِداه على إتمام مشيئة الربّ.»
«آه! تريد القول إنّ عليه أن يموت؟!» تئنّ وتَسأَل مرثا وهي تبكي.
وتُغرورَق عينا مريم بالدموع، الدموع التي تلمع حبّاً، حبّاً مضاعفاً تجاه يسوع وتجاه أخيها: «آه! يا معلّم، ولكن بتصرّف على هذا النحو، تمنعني مِن أن اتبعكَ وأن أخدمكَ، وتمنع أخي مِن الاستمتاع بقيامتي. ألا تريد إذن أن يستمتع أهل بيت لعازر بقيامة؟»
يَنظُر إليها يسوع نظرة ناعمة وطيّبة ويقول: «بواحدة؟ فقط واحدة؟ هيّا! أنتما تؤمنان بي بالقليل جدّاً، إذا كنتما تؤمنان أنّني لا أستطيع سوى أمر واحد! كونا طيّبتين وشجاعتين. هيّا. ولا تبكيا هكذا. فتُرهقانه بهموم أليمة.» ويبتعد أوّلاً.
لعازر، بكلّ تأكيد مِن أجل تسهيل العناية به، نُقِلَ إلى قاعة جانب المكتبة، مقابل القاعة الكبيرة المعَدَّة للولائم. يدلّه مكسيمين على الباب، ولكنّه يتركه يدخل وحده.
«السلام لكَ، يا لعازر، صديقي!»
«آه! أيّها المعلّم القدّيس! السلام لكَ. بالنسبة إليَّ، لم يَعُد مِن سلام في أعضائي. روحي منهك. أتألّم كثيراً، يا ربّ! أَصدِر لي أمركَ الثمين: "لعازر، هلمّ خارجاً"، وسوف أنهَض معافى لأخدمكَ...»
«سوف أمنحكَ ذلك. إنّما ليس الآن.» يُجيب يسوع وهو يعانقه.
لعازر هزيل جدّاً، أصفر السحنة، غائر العينين. فهو، بشكل ملحوظ، مريض جدّاً وضعيف جدّاً. يبكي كطفل مُظهِراً ساقيه المتورّمتين، المزرورقتين، بقروح دوالي، وقد انفتحت في مواقع عديدة. إنّه يأمل إمكانيّة أن يتأثّر يسوع لدى إظهاره هذا الخراب الحاصل له ويجترح المعجزة. ولكنّ يسوع يكتفي بأن يعيد الأقمشة المطليّة بالمرهم، على جراحه، بكلّ لطف.
«هل أتيتَ لتبقى؟» يَسأَل لعازر خائب الأمل.
«لا. ولكنّني سوف آتي كثيراً.»
«كيف؟ ألا تُعيِّد الفصح معي، حتّى هذه السنة؟ لقد جعلتُهُم يأتون بي إلى هنا متعمِّداً. كنتَ قد وعدتَني في عيد المظالّ أنّكَ ستقيم معي طويلاً بعد عيد الأنوار...»
«وسوف أبقى. إنما ليس الآن. هل أضايقكَ ببقائي هنا جالساً على حافة سريركَ؟»
«آه! لا. يبدو أن نداوة يدكَ تخفّف لهيب حرارتي. لماذا لا تبقى، يا ربّ؟»
«لأنّه، كما أنتَ مُعذَّب مِن قروحكَ، كذلك أنا مِن أعدائي. بالرغم مِن أنّ الجميع متّفقون على اعتبار أنّ بيت عنيا هي ضمن الحدود مِن أجل الفصح، إنّما بالنسبة لي، فقد تُعتَبَر خطيئة أن أقضي الفصح هنا. فبالنسبة إلى السنهدرين والفرّيسيّين، كلّ ما أفعله هو بغيض وعائق...»
«آه! يا للفرّيسيّين! حقّاً! ولكن في أحد بيوتي، إذن... هذا على الأقلّ!»
«هذا، نعم. ولكن، مِن قَبيل الحيطة والحذر، سوف أقول ذلك في اللحظة الأخيرة.»
«آه! نعم! لا تأمن لهم. لقد جرت الأمور كلّها حسناً مع يوحنّا. هل تَعلَم؟ لقد أتى تولماي أمس مع آخرين، وقد جَلَبَ لي رسائل موجَّهة إليكَ. أُختاي تحتفظان بها. ولكن أين ظلَّتا، مرثا ومريم؟ ألا تهتمّان بتشريفكَ؟» لعازر هائج مِثل مرضى كثيرين.
«اهدأ! إنّهما خارجاً مع سمعان ومارغزيام. لقد أتيتُ معهما ولستُ في حاجة إلى شيء. سوف أناديهم.» وبالفعل ينادي الذين، مِن قَبيل الحيطة، كانوا قد مَكَثوا خارجاً.
تَخرُج مرثا لتعود بلفافتين تعطيهما ليسوع. وفي تلك الأثناء تُعلِمهم مريم بأنّ خادم نيقوديموس قال إنّه قد سبق معلّمه الذي يأتي مع يوسف الذي مِن الرّامة. وفي الوقت ذاته، يتذكّر لعازر أنّ امرأة «حَضَرَت أمس باسمكَ» يقول.
«آه! نعم! هل تَعلَم مَن تكون؟»
«لقد قالت لنا ذلك. إنّها ابنة أحد أغنياء أريحا، الذي هاجَرَ إلى سوريا وهو في ريعان الشباب، منذ سنوات. وقد سمّاها أنستاسيا، تخليداً لذكرى زهرة الصحراء. حينذاك لم تشأ أن تُفصِح عن اسم زوجها.» تَشرح مرثا.
«لا داعي لذلك. فلقد طلّقها، فهي إذن فقط "التلميذة". أين هي؟»
«إنّها مُتعَبة جدّاً، وهي نائمة. لقد عاشت في الآونة الأخيرة أيّاماً وليالي سيّئة. إذا شئتَ، فسوف أناديها.»
«لا. دعيها تنام. سوف أهتمّ بأمرها غداً.»
يَنظُر لعازر إلى مارغزيام بإعجاب. ومارغزيام يتحرّق لمعرفة ما تحويه اللّفائف. يُدرِك ذلك يسوع ويَفتَحها. ويقول لعازر: «كيف؟ هل هو على عِلم بذلك؟»
«نعم. هو والآخرون، ما عدا نثنائيل وفليبّس وتوما ويهوذا...»
«أحسنتَ صُنعاً بأن أبقيتَ ذلك خافياً عليه!» يقول لعازر مُقاطِعاً. «فأنا أرتاب به كثيراً...»
«أنا لستُ متهوّراً يا صديقي» يُقاطِعه يسوع، ويقرأ اللُّفافات مُعلِناً بعد ذلك الأخبار الرئيسيّة، للعِلم أنّ الاثنين قد تأقلما، وأنّ المدرسة مزدهرة، وأنّ، ما عدا ازدياد ضعف يوحنّا، كلّ شيء يسير على ما يُرام. ولكنّه لا يستطيع أن يقول أكثر، لأنّه قد أُعلِن عن قدوم نيقوديموس ويوسف.
«ليحفظكَ الله، يا معلّم! على الدوام، كهذا الصباح!»
«شكراً لكَ يا يوسف. وأنتَ، يا نيقوديموس، ألم تكن موجوداً؟»
«لا. ولكن لمجرّد علمي أنّكَ كنتَ قد وصلتَ، فقد فكّرتُ في المجيء إلى بيت لعازر، وكنتُ شبه متأكّد أنّني سأجدكَ. وقد أتى يوسف معي.»
يتحدّثون عن أحداث الصباح حول سرير لعازر الذي يُبدي بها اهتماماً بالغاً، حتّى ليبدو وكأنّه قد نسي ألمه.
«ولكنّ غَمَالائيل هذا، يا ربّ! هل سمعتَ؟» يقول يوسف الذي مِن الرّامة.
«سمعتُ.»
يقول نيقوديموس: «أنا، بالمقابل، أقول: يا ليهوذا الاسخريوطيّ هذا، يا ربّ! بعد ذهابكَ، التقيتُه، يَصيح مثل شيطان، وسط مجموعة مِن تلاميذ الرابّيين. كان يتّهمكَ ويُدافع عنكَ في الوقت ذاته. وأنا على يقين بأنّه كان حقّاً مُقتَنعاً بأنّه يُجيد التصرّف. هُم كانوا يريدون أن يُثبِتوا عليكَ الخطأ، يدفعهم إلى ذلك معلّموهم. وهو كان يُجابه اتّهاماتهم بحميّة حزينة قائلاً: "ليس لمعلّمي سوى خطأ واحد! هو الإقلال جدّاً في تفجير قُدرته. إنّه يَدَع الفرصة تمرّ. يُرهق الطيّبين بلطفه الذي يغالي فيه. إنّه مَلِك! وينبغي أن يتصرّف كَمَلِك. أنتم تعاملونه على أنّه خادم وعبد لأنّه وديع. وهو يدمِّر نفسه لكونه ليس سوى وديع. بالنسبة إليكم، أيّها الجبناء والمجرمون، لا ينفع معكم سوى سوط السلطان المطلق والعنيف. آه! لماذا لا أستطيع أن أجعل منه شاول عنيفاً؟"»
يهز يسوع رأسه دون أن يتكلّم.
«ومع ذلك فهو يحبّكَ.» يقول نيقوديموس.
«يا له مِن رجل مُحيِّر!» يقول لعازر.
«نعم. أحسنتَ قولاً. أنا، ما زلتُ لا أفهمه، وها قد مضى على وجودي معه عامان.» يؤكّد الغيور.
تَنهَض مريم المجدليّة بجلال مَلِكَة، وتُعلِن بصوتها الرائع: «أنا، قد فهمتُه أفضل مِن الجميع: إنّه الخزي إلى جانب الكمال. وما مِن شيء آخر يمكن قوله.» وتَخرُج لقضاء حاجة، آخذة معها مارغزيام.
«قد تكون مريم على حقّ.» يقول لعازر.
«وأنا كذلك، أُفكِّر في هذا.»
وأنتَ، يا معلّم، ما قولكَ؟»
«أنا أقول إنّ يهوذا هو "الإنسان". مثل غَمَالائيل. الإنسان المحدود أمام الله اللامحدود. الإنسان ضيّق جدّاً في تفكيره، وطالما لا يمنحه نَفَساً فائق الطبيعة، فلن يمكنه تقبّل سوى فكرة واحدة، يتأصّل فيها أو تتأصّل فيه، ويكتفي بها. حتّى رغم الوضوح. عنيداً. متعنّتاً. قد يكون مِن أجل الإيمان، الشيء الذي أثَّر فيه أكثر. فغَمَالائيل لديه إيمان في العمق، كما عند قليلين في إسرائيل، بالمسيح الذي قابَلَه وتعرَّف عليه في طفل. وهو أمين لكلمة ذاك الطفل... وكذلك يهوذا. المشبع بالفكرة المَسيّانيّة التي يستثمرها القسم الأكبر مِن إسرائيل، وقد تأكَّدَت لديه مِن التجلّي الأوّل الذي رآه فيَّ، فرأى، ويريد أن يرى فيَّ المسيح الـمَلِك. الـمَلِك الزمنيّ وصاحب السلطان... وهو أمين للفكرة التي تكوَّنَت.
آه! كم سيُدمّرون أنفسهم، حتّى في المستقبل، بسبب فكرة عن الإيمان مغلوطة، خارجة على كلّ منطق! أمّا أنتم، فماذا تعتقدون؟ أنّه مِن السهل اتّباع الحقيقة والعدل في كلّ شيء؟ ماذا تعتقدون؟ أنّه مِن السهل أن يَخلص المرء لأنّه غَمَالائيل أو يهوذا الرَّسول؟ لا. الحقّ، الحقّ أقول لكم إنّه لأسهل على طفل أو مؤمن مِن العامة الحصول على الخلاص، منه على مَن تربّى مِن أجل مهمّة خاصّة، رسالة خاصّة. بشكل عام، الذين يكونون مدعوّين إلى مصير غير عاديّ، يَدَعون كبرياء دعوتهم يَلِج إلى داخلهم، وهذا الكبرياء يفتح الأبواب للشيطان، طارداً الله. إنّ سقوط النجوم يأتي أسهل مِن سقوط الحصى. الملعون يُحاوِل إطفاء الكواكب ويتسلّل، يتسلّل بِمُراءاة ليعمَل عَمَل العَتَلة للمختارين كي يجعلهم يَسقطون. إذا سَقَطَ ألف أو عشرة آلاف إنسان في الأخطاء المشتركة، فإنّ أخطاءهم لا تجرُّ معها سواهم. إنّما لو سقط أحد مِن المختارين لمصير غير عادي، وأَصبَحَ أداة للشيطان بدل أن يكون أداة في يد الله، وصوته، بدل أن يكون "صوتي"، وتلميذه بدل أن يكون "تلميذي"، حينذاك يكون الخراب أعظم، وقد يولِّد حتّى هرطقات عميقة تَجرَح أرواحاً لا حصر لها.
الخير الذي أمنحه لأحد ما سوف يُنتِج خيراً كثيراً إذا ما سَقَطَ في أرض متواضعة وتعرف أن تبقى كذلك. أمّا لو وَقَعَ في أرض متكبّرة، أو إنّها تُصبح كذلك بسبب العطيّة الممنوحة، حينئذ يصبح الخير شرّاً. لقد مُنِح غَمَالائيل واحدة مِن أوائل تجلّيات المسيح. وكان ينبغي أن يكون ذلك، بالنسبة إليه، نداء مبكّراً للاتّجاه صوب المسيح. إنّه منطق صَمَّه عن سماع نداء صوتي الذي يدعوه. بالنسبة إلى يهوذا، فقد مُنِحَ أن يكون رسولاً: أحد الاثني عشر رسولاً مِن بين آلاف الرجال في إسرائيل. كان يجب أن يكون ذلك تقديساً له. ولكن ماذا سيكون ذلك؟... أصدقائي إنّ الإنسان هو آدم الأزليّ... كان آدم يملك كلّ شيء، كلّ شيء إلّا شيئاً واحداً. وأراد الحصول عليه. ورغم أنّ الإنسان يبقى آدم! ولكنّه غالباً ما يُصبِح لوسيفوروس. يملك كلّ شيء ما عدا الألوهة. وهو يريد هذه. يريد فائق الطبيعة ليُدهِش، ليُهَلَّل له، ليُهاب، ليصبح معروفاً، ومُعَظَّماً... ولكي يحصل على شيء وحده الله يمكنه أن يمنحه مجّاناً، يتعلّق بالشيطان، المقلِّد لله الذي يمنح عطايا مزعومة على أنّها فائقة الطبيعة. آه! يا لهول مصير أولئك المنتمين إلى الشيطان!
أترككم، يا أصدقائي. أنسحب بعض الوقت. أنا في حاجة لأن أختلي بالله...» ويَخرج يسوع وهو في اضطراب شديد.
والذين ظلّوا: لعازر، يوسف، نيقوديموس، والغيور، ينظرون إلى بعضهم.
«هل رأيتَ كم هو مضطرب؟» يوسف يَسأَل لعازر بصوت خافت.
«لقد رأيتُه. وكأنّي به يرى مشهداً مريعاً.»
«ماذا يمكن أن يكون حاملاً في قلبه؟» يَسأَل نيقوديموس.
«ما مِن أحد يعرف سواه والأزليّ.» يُجيب يوسف.
«ألا تعرف شيئاً يا سمعان؟»
«لا. الأكيد هو أنّه، منذ أشهر، وهو قلق جدّاً.»
«فلينقذه الله. مِن المؤكّد أنّ الكراهية تتعاظم.»
«نعم، يا يوسف، الكراهية تتعاظم... أظنّ أنّ الكراهية سوف تتغلّب قريباً على الحبّ.»
«لا تقل ذلك، يا سمعان! إذا كان ينبغي أن يكون الأمر كذلك، فلن أطلُب الشفاء! فالموت أفضل مِن مشاهدة أكثر الأخطاء هولاً.»
«مِن المفروض أن تقول انتهاكات المقدّسات، يا لعازر...»
«ومع ذلك... فإنّ إسرائيل قادرة على هذا. لقد نَضَجَت لدرجة أنّها أَصبَحَت أهلاً لأن تُكرِّر فِعل لوسيفوروس، مُعلِنة الحرب على الربّ المبارك.» يتنهّد نيقوديموس.
وخَيَّم صمت ثقيل، كعضّة تشدّ على الخناق... ويهبط الليل على الغرفة حيث أربعة رجال نزيهين يفكّرون في أَثَمة المستقبل.