ج5 - ف71
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
71- (أسينيّون وفرّيسيّون: مَثَل الوكيل الخائن)
10 / 02 / 1946
جَمع غفير ينتظر المعلّم، وهو منتشر على سفوح جبل شِبه منعزل. يطفو على تقاطع وديان تحيط به، منها تطلع سفوحه، أو بالحريّ تقفز بانحدار شديد، شِبه شاقوليّ، في بعض الأماكن هو شاقوليّ بحقّ. للوصول إلى القمّة، درب منحوت في صخر كلسي هو في بعض المواضع يخمش سفوح الجبل مُشكّلاً مُنعَرَجات، وهو في مواضع أخرى محصور بين جدار الجبل شديد الانحدار وهاوية. هذا الدَّرب الوَعِر، ذو اللون الأصفر الذي يميل إلى الاحمرار، يبدو وكأنّه شريط مشلوح في خضرة مُغبرّة لدغل منخفض وشائك. أقول إنّ الأوراق التي تغطّي السفوح القاحلة والصخرية هي نفسها واخزة، وقد أَزهَرَت هنا وهناك زهرة معمّرة حمراء بنفسجيّة تُشبه قبّرة أو ندفة حرير مُنتَزَعة مِن ثياب بعض البائسين المارّين خلال هذا العلّيق. هذا الكساء غير المستوي المكوّن مِن رؤوس شائكة، الأخضر الضارب إلى الزرقة، حزين وكأنّه مكسوّ برماد دقيق للغاية، ينتشر على شكل شرائط حتّى في أسفل الجبل وعلى الهضبة بين هذا الجبل وجبال أخرى، في الشمال الغربيّ كما في الجنوب الشرقيّ، بالتبادل مع المواضع الأخرى حيث العشب الحقيقيّ والشجيرات الحقيقيّة التي لا تكون مضنية وعديمة الفائدة.
الناس مُخيّمون هنا، منتظرين بكلّ صبر قدوم الربّ. يُفتَرَض أنّه اليوم التالي لحديثه للرُّسُل، فالصبيحة منعشة والندى لم يتبخّر بعد على السُّوق. الأمر هكذا خاصّة في الظلّ حيث يُضفي على الأشواك والأوراق بهاء، ويُحوّل الزهور غير المألوفة للشجيرات الشائكة إلى نُدَف ماسيّة. بالتأكيد هذا أوان جمال الجبل الحزين. بالفعل في الأوقات الأخرى، تحت الشمس التي لا ترحم أو في الليالي المقمرة، يُفتَرَض أن يبدو في مظهر مكان كفّارة جهنّميّ رهيب. في الشرق تُرى مدينة ثريّة وكبيرة في السهل الخصيب جدّاً. لا شيء آخر يُرى مِن هذه الجهة المنخفضة حيث الحجّاج، أمّا على القمّة فيُفترَض أن تَستَمتِع العين بمنظر لا شبيه له في المناطق المجاورة. أظنُّ أنّه بسبب ارتفاع الجبل، يُفتَرض أنّه يمتدّ إلى البحر الميت ومناطقه الشرقيّة، كما كذلك إلى سلسلة جبال السامرة وتلك التي تُخفي أورشليم، ولكنّني لم أذهب إلى القمّة، هكذا…
يَجول الرُّسُل وسط الجمع، مُحاوِلين تهدئتهم وتنظيمهم، ووضع المرضى في أفضل الأماكن. يساعدهم التلاميذ، قد يكونون ممّن يعملون في المنطقة، والذين كانوا قد جَلَبوا مِن ضواحي اليهوديّة الحُجّاج الراغبين بسماع المعلّم.
يَظهَر يسوع فجأة بثوبة الكتانيّ الأبيض، متدثّراً بمعطفه الأحمر ليوفّق بين حرارة ساعات الشمس مع رطوبة الليالي التي ليست بعد ليالي صيف. يَنظُر، دون أن يُرى، إلى الناس الذين ينتظرونه ويبتسم. يبدو وكأنّه جاء مِن خلف الجبل قليل الارتفاع الذي في الغرب، ويَهبط مُسرِعاً مِن الـمَسلَك الصعب. يُبصِره وَلَد أوّلاً. وقد يكون تَبِع طيران عصافير مِن الأدغال وقد طارت مذعورة مِن حَجَر تدحرَجَ مِن الأعلى، أو قد يكون يسوع قد لَفَتَ انتباهه. وهو إذ رآه يهتف قافزاً على قدميه: «هو الربّ!»
يلتفت الجميع ويَرَون يسوع الذي أَصبَحَ على مسافة قريبة، مائتي متر على الأكثر. يتأهّبون للجري باتّجاهه، ولكنّه يقوم بحركة وبصوته الذي يَصِل بنقاء، والذي قد يكون صدى الجبل يقوّيه، يقول: «امكثوا حيث أنتم.» وهو ما يزال يبتسم، يَهبط صوب الذين ينتظرونه، متوقّفاً في أعلى نقطة مِن المسطَّح. مِن هناك، يُلقي التحيّة: «السلام لجميعكم» وبابتسامة خاصّة يُكرِّر السلام للرُّسُل والتلاميذ الذين يزدحمون حوله.
يسوع جماله متألِّق. مع الشمس التي تنير وجهه والجانب المخضرّ مِن الجبل جهة الخلف، تحسبها رؤية حلم. الساعات التي أمضاها في العُزلة، بعض المجريات التي نجهلها، قد تكون تدفّق ملاطفات أبويّة له، لستُ أدري ما هي، أَبرَزَت دائماً جماله الكامل، وجَعَلَته بَهيّاً ومهيباً، هادئاً، صافياً، أقول فَرِحاً، كَمَن عاد مِن موعد حبّ، ويحمل معه بهجةً في كلّ مظاهره، في ابتسامته وفي نظرته. هنا انعكاس موعد الحبّ هذا، الإلهيّ، ينتشر خارجاً. يتضاعف مائة ومائة مرّة عمّا يُرى بعد موعد بشريّ هزيل. إنّها رؤيا ساطعة. تُسيطِر على الذين هنا، وهُم، وقد استولى عليهم الإعجاب، يتأمّلونه بصمت كما لو كان هالهم حسّ داخليّ بسرّ وحدة العليّ مع كلمته... إنّه سرّ، ساعة حبّ سرّية بين الأب وابنه. لن يعرفها أحد مطلقاً. ولكنّ الابن يحتفظ مِن ذلك ببصمة كما لو أنّه، بعد أن كان كلمة الآب في السماء، كان يَشعُر بضير مِن أن يعود ابن الإنسان. اللانهائيّة، والسموّ يضيره أن يصبح "الإنسان". الألوهة تطفح، تتفجّر، تتوهّج مِن الإنسانيّة مثل زيت عَذب مِن إناء صلصال ذي مسامّ، أو النور الآتي مِن أتّون عَبْر وِشاح مِن زجاج شفّاف.
يَخفض يسوع عينيه المشعّتين، يحني رأسه الطوباويّ، يخفي ابتسامته المدهشة بانحناءته على المرضى الذين يلاطفهم ويشفيهم وهُم ينظرون بدهشة إلى هذا الوجه الشمسيّ والـمُحِبّ المنحني على بؤسهم ليمنحهم الفرح. إلاّ أنّه لا بدّ له في النهاية مِن رفع وجهه، وعليه أن يُظهِر للجموع ماهية وجه الـمُحِبّ للسلام، القدّوس، لله الذي صار بشراً، وما زال مغلّفاً بالإشراقة التي أبقتها النشوة الروحيّة. يُكرّر: «السلام لكم.» حتّى صوته أكثر تناغماً مِن المعتاد، فيُسمع منه علامات ناعمة ومُهَيمِنة... ذات سلطان، تسود على المستمعين الصامتين، تبحث عن القلوب، تلاطفها، تحرّكها، وتدعوها إلى الحبّ.
وفيما عدا مجموع الفرّيسيّين، الجافّ واللّاذع، الشائك والعابس أكثر مِن الجبل ذاته، القابع في زاوية كالتماثيل غير المدركة والحاقدة، وفيما عدا المجموع الآخر، اللّابس الأبيض، القابع متنحّياً والـمُنصِت مِن أعلى منحدر، والذين أسمع برتلماوس والاسخريوطيّ يُشيران إليهم "كأسّينيّين". وبطرس الذي يُهمهِم: «وهكذا يُصبِح الحال مثل خُمّ بواشق!» فإنّ الجميع متأثّرون بشدّة.
«آه! دعكَ منهم. الكلمة هو للجميع!» يقول يسوع لبطرسه مبتسماً، مُلمّحاً للأسّينيّين. ثمّ يبدأ الكلام.
«جميل هو أن يكون الإنسان كاملاً كما يريد آب السماوات. كاملاً في جميع أفكاره، عواطفه وأفعاله. ولكن الإنسان لا يعرف أن يكون كاملاً ويسيء استخدام نِعَم الله الذي مَنَحَ الإنسان حرّيّة التصرّف، وقد أوصاه مع ذلك بالأمور الجيّدة، ناصحاً إيّاه بالأمور الكاملة كي لا يقول الإنسان: "لم أكن أعرف".
كيف يستخدم البشر الحرّيّة التي مَنَحَهم إيّاها الله؟ كما يستطيع طفل استخدامها في القسم الأكبر مِن البشريّة، أو كأبله، أو كمجرم في البقيّة الباقية مِن البشريّة. ولكن يأتي الموت بعدئذ ويَخضَع الإنسان للديّان الذي يَسأَله بصرامة: "كيف استخدمتَ وأسأتَ استخدام ما كنتُ قد وهبتُكَ إيّاه؟". سؤال رهيب! كم ستبدو أدنى مِن قشّ التبن ثروات الأرض التي غالباً ما ارتَكَبَ الإنسان الخطايا مِن أجلها! فقير ذو عَوَز أبديّ، وقد تعرّى مِن ثوب لا شيء يحلّ محلّه، ويظل ذليلاً ومرتَجِفاً أمام عَظَمة الربّ، ولن يَجِد ما يبرّر به ذاته. على الأرض، بالفعل، سهل تبرير الذات بخداع الناس المساكين، أمّا في السماء، فمستحيل خداع الله. مطلقاً. والله لا يتنازل إلى تسويات. مطلقاً.
كيف الخلاص إذن؟ كيف نجعل كلّ شيء في خدمة الخلاص، حتّى ما يتأتّى مِن الفساد الذي عَلَّمَ أنّ المعادن الثمينة والجواهر هي أدوات الغِنى، الذي أجّج رغبات السُّلطة والشهوات الجسديّة؟ ألا يستطيع الإنسان، مهما كان فقيراً، أن يرتكب الخطيئة بفرط شهوته للذهب والأمجاد والنساء –حينئذ يُصبِح سارقاً ليحصل على ما يمتلكه الغنيّ- فالإنسان فقيراً كان أم غنيّاً، ألا يمكنه أن يخلص؟ بلى، يمكنه ذلك. وكيف؟ بجعله الثروات تُستخدَم للخير، بجعله البؤس مُستَخدَماً في سبيل الخير. الفقير الذي لا يشتهي، لا يلعن، لا يمسّ ما هو للغير، ولكنّه يقتنع بما هو له، يجعل وَضعه المتواضع وسيلة لنيل قداسته المستقبليّة، وفي الحقيقة إنّ أغلب الفقراء يعرفون التصرّف هكذا. الأغنياء أقلّ معرفة في فِعله، فالثروات فخّ دائم ينصبه لهم الشيطان، الشهوة الثلاثيّة.
لكن استمعوا إلى مَثَل وَسَترون أنّ بإمكان الأغنياء كذلك أن يخلصوا وهُم أغنياء، أو إصلاح الأخطاء الماضية بِحُسن استخدام الثروات ذاتها التي حصلوا عليها بشكل خاطئ. ذلك أنّ الله الكلّيّ الصلاح يجعل دائماً سبلاً كثيرة لأبنائه كي يخلصوا.
إذن كان غنيّ ولديه قيّم. وبعضهم كانوا أعداء له لغيرتهم مِن وضعه الجيّد، أو أصدقاء حميمين للغنيّ وبالتالي مهتمّين برفاهيّته، يَشكون القيّم إلى معلّمه. "إنّه يُبدِّد ثرواتكَ، أو هو يستولي عليها، أو هو يُهمِل استثمارها. انتبه! احترس لنفسكَ!"
الغنيّ، بعد استماعه إلى هذه الشكاوى المتكرّرة، يأمُر القيّم المثول أمامه ويقول له: "قيل لي عنكَ كذا وكذا. لماذا إذن تصرّفتَ بهذه الطريقة؟ قَدِّم لي حساباً عن إدارتكَ، ذلك أنّني لم أعد أَسمَح لكَ بالاضطلاع بها. لا يمكنني الوثوق بكَ ولا يمكنني إعطاء مِثال للإجحاف وأفسح المجال لما يُشجّع الخُدّام الآخرين ليتصرّفوا كما تصرّفتَ أنتَ. اذهب وعُد إليَّ في الغد مع كلّ الوثائق، لأتفحّصها كي أطّلع على حال أملاكي قبل أن أعهَدَ بها إلى قيّم آخر". ويصرف القيّم الذي يمضي مشغول البال مُحدّثاً نفسه: "والآن؟ كيف العمل الآن وقد قرّر المعلّم عزلي؟ لم أوفّر شيئاً لأنّني، مقتنعاً بما كنتُ عليه ناجياً بنفسي، كنتُ أصرف كلّ ما كنتُ آخُذه. أأعمل فلاّحاً تحت إمرة معلّم، هذا لا يلائم لأنّني لم أعتد على العمل وأنا مُثقَل بالأطعمة الفاخرة. طَلَب المعونة، هذا أقلّ ملاءمة لي. هذا مُذلّ جدّاً! ما العمل؟"
بعد طول تفكير يَجِد وسيلة للخروج مِن وضعه المؤلم. يقول: "وجدتُها! بالطريقة ذاتها التي أَمَّنتُ فيها حتّى الآن حياة رفاه، سوف أجعل لنفسي أصدقاء يستقبلونني كردّ جميل عندما لا أعود قيّماً. فالذي يَخدِم يحصل دائماً على أصدقاء. هيّا لتقديم الخدمة كي تُرَدَّ لي، وهيّا في الحال قبل أن ينتشر الخبر ويتأخّر الوقت".
ذَهَبَ إلى مدينين كثيرين لمعلّمه، وقال للأوّل: "كم يتوجّب عليكَ لمعلّمي مِن المبلغ الذي أقرَضَكَ إيّاه في الربيع منذ ثلاثة أعوام؟"
فيجيبه الآخر: "مائة برميل زيت صغير عن المبلغ والفوائد".
«آه! المسكين! أنتَ، مع كمّ مِن الأولاد، أنتَ، مع أولاد مرضى، يُفرَض عليكَ الدفع بهذا القَدر؟! ألم يُعطكَ بقيمة ثلاثين برميلاً صغيراً؟"
"بلى. ولكنّني كنتُ في حاجة ماسّة، وهو قال لي: ‘أُعطيكَ حاجتكَ، إنّما بشرط أن تُعيد المبلغ مع ما يجنيه لكَ في ثلاثة أعوام’. وقد جنيتُ منها بقيمة مائة برميل صغير، وعليَّ أن أدفعها".
"ولكنّه مُرابٍ! لا. لا. هو غنيّ وأنتَ بالكاد تملك ما يُقيتُكَ. هو عائلته صغيرة، وأنتَ عائلتك كبيرة جدّاً. اكتُب بأنّ هذا جَعَلَك تجني فقط خمسين برميلاً ولا تَعُد تفكّر في ذلك. سوف أُقسِم بأنّ هذا صحيح، وأنتَ تستفيد منه."
"ولكن ألا تخونني؟ وإذا ما توصَّلَ إلى معرفة ذلك؟
هل تظنّ ذلك؟ أنا القيّم وما أُقسِم عليه مقدّس. افعل ما أقوله لكَ، وكُن سعيداً".
يَكتُب الرجل ويوقِّع ويقول: "بارَكَكَ الله! يا صديقي ومخلّصي! كيف أكافئكَ؟"
"ولا بطريقة! ولكن إن كان عليَّ أن أعاني وأُطرَد بسببكَ، فستستقبلني اعترافاً بالجميل".
"ولكن بالطبع! بالطبع! يمكنكَ الاعتماد على ذلك".
مَضى القيّم للقاء مدين آخر ليُجرِي معه الحِوار نفسه تقريباً. وهذا كان عليه تسديد مائة صاع مِن الحبوب، ذلك أنّ الجفاف خلال ثلاث سنوات قد دَمَّر كلّ محاصيله وكان عليه الاستدانة مِن الغنيّ لإطعام عائلته.
"ولكن ألا تظنّ: مُضاعَفَة ما أعطاكَ! يستغل الحاجة للقمح! يَفرض الضعف على جائع وعنده أولاد، بينما الدود يَنخَر مخزونه الفائض جدّاً! اكتب ثمانين".
"ولكن لو تذكَّرَ أنّه أعطاني عشرين ثمّ عشرين ثمّ عشرة؟"
"ولكن ماذا تريده أن يتذكّر؟ فأنا الذي أعطيتُكَ إيّاها، وأنا لا أريد أن أتذكّر. افعل، افعل هكذا وتَخلَّص مِن المأزق. يجب أن يكون هناك عدل بين الفقراء والأغنياء! بالنسبة إليَّ، لو كنتُ ربّ العمل، فلا أُطالِب بسوى الخمسين، وحتّى قد أُقدِّمها لكَ هديّة".
"أنتَ طيّب. لو كان الناس جميعاً مثلكَ! تذكّر أنّ بيتي هو لكَ بيت صديق".
ومضى القيّم إلى الآخرين بالطريقة ذاتها، مُعلِناً أنّه جاهز للمعاناة ليعيد الأمور إلى نصابها بعدل. وانهَمَرَت عليه وعود بالمساعدات والبركات. وإذ اطمأنّ للمستقبل، مضى هادئاً للقاء المعلّم الذي، مِن جهته، اقتفى أثر القيّم واكتشف لعبته. فأثنى عليه مع ذلك قائلاً: "أسلوبكَ في التصرّف ليس صالحاً ولا أُوافِق عليه. ولكنّني أشيد توجّهكَ. الحقّ، الحقّ، إنّ أبناء هذا الجيل هُم أكثر فِطنة مِن أبناء النور".
وما قاله الغنيّ، أنا كذلك أقوله: "الغشّ ليس حسناً، ولا أُثني على أحد مِن أجله مطلقاً. ولكنّني أحثّكم على أن تكونوا على الأقلّ مِثل أبناء الجيل، فَطِنين باستخدام وسائل الجيل، لِتُقايضوا بها الدخول إلى ملكوت النور". أعني، بالثروات الأرضيّة، الوسائل الموزّعة والمستخدمة بشكل جائر للحصول على رفاهية زائلة، لا قيمة لها في الملكوت الأبديّ، فاجعلوا بها لكم أصدقاء يَفتَحون لكم الأبواب. افعلوا خيراً بالوسائل التي تملكونها، أعيدوا ما أخذتموه أنتم أو أحد أفراد عائلتكم دون وجه حقّ، تحرّروا مِن التعلّق الـمَرَضيّ أو الأثيم بالثروات. وكلّ هذه الأمور تكون كالأصدقاء الذين في ساعة الموت يفتحون لكم الأبواب الأبديّة ويستقبلونكم في المساكن السعيدة.
كيف تُطالِبون الله بإعطائكم خيراته الفردوسيّة، إذا كان يَرى أنّكم لا تجيدون استخدام حتّى الخيرات الأرضيّة؟ هل تريدون افتراضاً مستحيلاً، أن يَقبَل مُبذّرين في أورشليم السماويّة؟ لا، مطلقاً. هناك في الأعالي العيش في المحبّة والسخاء والعدل. الكلّ للواحد والكلّ للكلّ. اتّحاد القدّيسين مجتمع فاعل ونزيه، إنّه مجتمع قدّيس. ولا أحد يمكنه الدخول إذا ما ظَهَرَ ظالماً وغير أمين.
لا تقولوا: "في الأعالي سنكون أُمناء وعادلين، إذ في الأعالي سيكون لنا كلّ شيء دون خوف مِن أيّ نوع". لا. فغير الأمين في الأمور الصغيرة يكون غير أمين حتّى لو امتَلَكَ الكلّ، والظالم في الأمور الصغيرة هو ظالم في الكبيرة. الله لا يعهد بالثروات الحقيقيّة لِمَن يَظهَر في الاختبار الأرضيّ لا يَعرِف استخدام الثروات الأرضيّة. كيف يمكن لله أن يعهد إليكم يوماً في السماء دعم إخوتكم على الأرض في حين أَظهَرتم أنّكم لا تعرفون سوى الابتزاز والغشّ أو الاحتفاظ بِنَهَم؟ سوف يَرفض لكم كنـزكم، الذي كان قد حَفِظه لكم، ليمنحه إلى الذين عرفوا أن يكونوا فَطِنين على الأرض، جاعلين ما هو ظالم وفاسد في خدمة الأعمال المستقيمة والسليمة.
لا يمكن لأحد أن يخدم سيّدين. فهو إمّا يكون لهذا أو لذاك، أو هو يبغض هذا أو ذاك. السيّدين اللذين على الإنسان أن يختار أحدهما هما الله والشيطان. ولكن إذا أردتم أن تكونوا للأوّل، فلا يمكنكم ارتداء زيّ الآخر ولا الإنصات إلى صوته ولا استخدام وسائله.»
يَرتَفِع صوت مِن جماعة الأسينيّين: «الإنسان ليس حرّاً في الاختيار. هو مُرغَم على اتّباع قَدَره. نحن لا نقول إنّه موزَّع دون حكمة. على العكس فإنّ الفكر الكامل قد ثبّتَ، وفقاً لمخطّط كامل قد رسمه هو، عدد الذين سيكونون أهلاً للسماوات. وعبثاً يجاهد الآخرون لبلوغها. إنّ الأمر هو هكذا. ولا يمكن أن يكون غير ذلك. فإذا ما خَرَجَ أحدهم مِن بيته قد يلقى حتفه بسبب حجر يُفلِت مِن الإفريز، بينما آخر قد يعود مِن حرب عاتية دون إصابته بخدش، على النحو ذاته، مَن يريد أن يخلص، فإذا لم يكن ذلك مكتوباً، لن يعمل إلاّ الخطيئة حتّى دون أن يدري لأنّ دينونته مدوّنة.»
«لا، أيّها الرجل. الأمر ليس كذلك، ثُب إلى رشدكَ. بتفكيركَ هذا، أنتَ توجّه شتيمة هائلة للربّ.»
«لماذا؟ دُلّني عليها وأنا سأرجع عنها.»
«لأنّكَ بقولكَ هذا، تُقِرّ منطقيّاً بأنّ الله ظالم تجاه خلائقه. لقد خَلَقَهم على النحو ذاته وبالحبّ ذاته. هو أب. كامل في أبوّته كما هو في كلّ شيء. فكيف إذن يمكنه أن يجعل اختلافات، وعندما يتمّ الحَبَل بإنسان يَلعَنه بينما هو ليس سوى جنين بريء؟ منذ ذلك الوقت الذي يكون فيه غير قادر على ارتكاب خطيئة؟»
«كي يثأر للإهانة التي لَحِقت به مِن الإنسان.»
«لا. فالله لا ينتقم هكذا! لا يَقنَع بضحيّة بائسة كتلك، ضحيّة مظلومة، مفروضة. الإهانة التي لحقت بالله لا يمكن أن يمحوها إلاّ الله المتأنّس. هو مَن سيُكفِّر، وليس هذا أو ذاك مِن الناس. آه! لو كان ممكناً ألاّ أزيل إلاّ الخطيئة الأصليّة! لو لم يكن في الأرض قايين، ولا لامك ولا لوطي فاسد ولا قاتل ولا سارق ولا فاسق، ولا زانٍ ولا كافر ولا أولاد لا يحبّون أهلهم ولا مَن يحلف زوراً الخ... ولكنّ الإنسان خاطئ. الله قد تَرَكَ لأبنائه حرّية اختيار الخير أو الشرّ.»
«لم يُحسِن التصرّف» يصيح أحد الكَتَبَة. «لقد جرّبنا بما يتجاوز قدراتنا. عالماً أنّنا ضعفاء، جاهلون، مسمّمون، فعرّضنا للإغواء. هذا تهوّر أو خبث. وأنتَ، المستقيم، عليكَ الموافقة على أنّني أقول الحقّ.»
«تتفوّه بالكذب لتجرّبني. كان الله قد مَنَحَ آدم وحواء كلّ النُّصح، فماذا نَفَعَ ذلك؟»
«لقد أساء التصرّف آنذاك كذلك. ما كان ينبغي أن يضع الشجرة، التجربة، في الجنّة.»
«حينئذ أين يكون استحقاق الإنسان؟»
«كانت أموره سالكة. كان يعيش دون استحقاق، باستحقاق الله وحده.»
«هُم يريدون الإيقاع بكَ، يا معلّم. دع الأفاعي هؤلاء، وأَنصِت إلينا، نحن الذين نعيش في العفاف والتأمّل» يهتف الأسينيّ مِن جديد.
«نعم، تعيشون فيهما، إنّما بشكل خاطئ. لماذا لا تعيشون فيهما بقداسة؟»
لا يُجيب الأسينيّ على هذا السؤال، ولكنّه يَسأَل: «كما أنّكَ أعطيتَني حجّة مقبولة حول حرّية الاختيار، وأنا سوف أتأمّل فيها دون تحيّز، آمِلاً القُدرة على تقبّلها، قُل لي الآن. هل تؤمن حقّاً بقيامة الجسد وحياة الأرواح التي يأتي ذاك يكملها؟»
«وتريد أن يضع الله نهاية لحياة الإنسان هكذا؟»
«ولكنّ النَّفْس... بما أنّ المكافأة تجعلها سعيدة، فما الفائدة مِن قيامة المادّة؟ هل هذا يَزيد مِن فرح القدّيسين؟»
«لا شيء يزيد مِن فَرَح القدّيس عندما يُصبِح الله مِن نصيبه. أو بالحريّ شيء واحد يزيده في اليوم الأخير: معرفة أنّه لم يَعُد للخطيئة وجود. ولكن ألا يبدو لكَ أنّه مِن العدل، بما أنّ الجسد والنَّفْس هما متّحدان اليوم في النضال للحصول على السماء، أن يتّحد في يوم الأبديّة الجسد والنَّفْس للتمتّع بالمكافأة؟ ألم تَقتَنِع بهذا؟ وإذاً لماذا تعيش في العفاف والتأمّل؟»
«كي... كي أكون أكثر إنسانيّة مِن الحيوانات الأخرى التي تطيع رغباتها بلا مقاومة، ولكي أتفوّق على الغالبيّة العظمى مِن الناس الـمُلَوَّثين بالحيوانيّة، حتّى ولو تكدّست عليهم الطلاسم والأهداب، والشرّابات والثياب الفضفاضة، ولو كانوا يَعتَبِرون أنفسهم "مميّزين".»
لعنة! لقد تلقّى الفرّيسيّون لسعة السهم كاملة، والتي سبّبت همهمات تعجّب وسط الجمع. فيتلوّون ويصيحون كَمَن أصابهم مسّ. «يشتموننا، يا معلّم! وأنتَ تعرف قداستنا. دافِع عنّا» يَصيحون وهم يشوّرون.
يُجيب يسوع: «هو كذلك يَعرِف رياءكم. فلا دخل للثياب بالقداسة. استحقّوا المديح وسأتمكّن مِن الكلام. أمّا أنتَ أيّها الأسينيّ، فأجيبكَ بأنّكَ تضحّي مِن أجل القليل القليل. لماذا؟ لِمَن؟ لِكَم مِن الوقت؟ مِن أجل مديح بشريّ. مِن أجل جسد قابل للموت. مِن أجل زمن سريع كطيران الصقر. ارفع مِن تضحيتكَ. آمِن بالله الحقيقيّ، بالقيامة السعيدة، بحرّيّة إرادة الإنسان. عِش بِزُهد، إنّما مِن أجل هذه الأسباب فائقة الطبيعة. ومع جسدكَ القائم مِن الموت، سوف تَسعَد في الفرح الأبديّ.»
«تأخَّر الوقت كثيراً! أصبحتُ عجوزاً! قد أكون أضعتُ حياتي بمكوثي في حيّز خطأ... لقد انتهى الأمر!...»
«لا. أبداً لم ينتهِ للذي يريد الخير! اسمعوا، يا أيّها الخَطَأة، يا أيّها الذين في الخطأ، أنتم يا مَن مهما يكن ماضيكم. توبوا. هلمّوا إلى الرحمة. إنّها تَفتَح لكم ذراعيها. هي تُرشِدكم إلى الطريق. أنا الينبوع النقيّ، ينبوع الحياة. انبذوا الأشياء التي أضلَّتكم حتّى الآن. تعالوا عُراة إلى الـمَغطَس. البسوا النور. ولتولدوا مِن جديد. هل سَلَبتُم مثل لصوص على الطرقات، أو كأسياد عُظَماء بدهاء في أنواع التجارة والإدارات؟ هلمّوا. هل كانت لكم رذائل وميول دَنِسة؟ هلمّوا. هل كنتم ظالمين؟ تعالوا. هلمّوا. توبوا. تعالوا إلى الحبّ وإلى السلام. آه! ولكن اسمحوا لحبّ الله أن ينسكب عليكم. أريحوا هذا الحبّ القَلِق بسبب مقاومتكم، خوفكم، تردّدكم. أنا، أرجوكم، باسم أبي وأبيكم. تعالوا إلى الحياة والحقّ وستنالون الحياة الأبديّة.»
يَهتف رَجُل وسط الجمع: «أنا غنيّ وخاطئ. ماذا عليَّ أن أفعل كي آتي؟»
«تنازل عن كلّ شيء حبّاً بالله وبنفسكَ.»
يُهمهِم الفرّيسيّون ضدّ يسوع ويحتقرونه كـ "بائع أوهام وهرطقات"، كـ "خاطئ يتظاهر بالقداسة"، ويَلفتون نظره إلى أنّ الهراطقة هُم هراطقة دائماً، وأنّ هذا هو حال الأسينيّين. يقولون إنّ الهدايات الفجائيّة ليست سوى انفعال آنيّ، وإنّ النَّجِس يبقى كذلك على الدوام؛ السارق يبقى سارقاً، والقاتل قاتلاً؛ ويُنهون بالقول إنّهم هُم فقط، الذين يعيشون في قداسة كاملة، يملكون الحقّ بالسماء والوعظ.
«كان يوماً سعيداً. بِذار قداسة كان يقع في القلوب. وحُبّي، تُغذّيه قُبلة الله، كان يمنح الحياة للبِذار. وكان ابن الإنسان سعيداً بالتقديس... فسمَّمتُم اليوم. ولكن لا يهمّ. أنا أقول لكم -وإن لم أكن لطيفاً، والخطأ في ذلك سيكون منكم- أقول لكم إنّكم مِن أولئك الذين يتظاهرون بالاستقامة، أو يُحاوِلون ذلك بوجود الناس، ولكنّكم لستم مستقيمين. الله عالِم بما في قلوبكم. فما هو عظيم في عيون البشر هو مُنكَر أمام لا محدودية وكمال الله. أنتم تَذكرون الشريعة القديمة. لماذا إذن لا تعيشونها؟ إنّكم تُعدِّلون الشريعة لمصلحتكم، تُثقِلونها بأثقال تعود عليكم بالفائدة. فلماذا إذن لا تسمحون لي بتعديلها بما يعود بالفائدة على هؤلاء الصغار، بإزالة كلّ الشرّابات (الأهداب) والتعقيدات غير ذات الفائدة منها، وتلك الأحكام التي وضعتموها وهي على هذا الحال والعدد الكثير بحيث يموت تحتها ما هو أساسيّ في الشريعة خنقاً؟ أنا أُشفِق على هذه الجموع، هذه النُّفوس التي تبحث عن عزاء في الدّين فتجد أنشوطة (عُقدة)، تبحث عن محبّة فتجد رعباً…
لا. تعالوا يا صغار إسرائيل. الشريعة محبّة هي! الله محبّة! هكذا أتحدّث أنا إلى الذين أَخَفتموهم. الشريعة الصارمة والأنبياء المتوعِّدون الذين تنبّأوا عنّي، ولكنّهم لم ينجحوا في إبعاد الخطيئة رغم صرخات نبوءاتهم الـمُقلِقة، توقَّفَت عند يوحنّا. وبعد يوحنّا يأتي ملكوت الله، ملكوت المحبّة. وأنا أقول للمتواضعين: "ادخلوا، فهو لكم". ولكلّ ذوي الإرادة الصالحة الذين يسعون جاهدين للدخول إليه. أمّا الذين لا يريدون أن يحنوا رؤوسهم، ويقرعوا صدورهم، ليقولوا: "لقد أخطأتُ"، فليس لهم الملكوت. قيل: "اختنوا قلوبكم، ولا تعودوا تُقسُّون رقابكم".
هذه الأرض رأت معجزة أليشع الذي حلّى المياه الـمُرّة بإضافة الملح إليها. وأنا ألستُ أرمي ملح الحكمة في قلوبكم؟ وإذن، لماذا أنتم أدنى مستوى مِن المياه ولا تُغيّروا روحكم؟ اجعلوا صِيَغكم تتشرّب بملحي وسيكون لها طعم جديد، لأنّها ستعيد للشريعة قدرتها المبدئيّة. ابتداء منكم أنتم المحتاجين لذلك بالأكثر. أتقولون إنّني أُغيّر الشريعة؟ لا. لا تكذبوا. أنا أعيد للشريعة شكلها المبدئيّ الذي شوّهتموه. ذلك أنّها شريعة تدوم ما دامت الأرض، الأرض والسماء تزولان قبل أن يزول عُنصر واحد أو مشورة منها. وإذا ما غيّرتموها، لأنّ ذلك يرضيكم، وإذا مَاحَكتُم بحثاً عن مخرج لأخطائكم، اعلموا أنّ هذا لن يفيد في شيء. هذا لا يفيد، يا صموئيل! هذا لا يفيد يا إشَعياء! لقد قيل على الدوام: "لا تزنِ"، وأنا أُكمِل: "مَن يَردّ امرأته ليتزوّج أخرى فقد زنى، ومن يتزوّج امرأة طلَّقَها زوجها فقد زنى، ذلك أنّ ما جمعه الله لا يفرّقه إلاّ الموت".
ولكنّ الكلام القاسي هو للخاطئين الذين لا يتوبون. أمّا الذين أخطأوا ولكنّهم يأسفون ويحزنون لفعلتهم، فليعلموا، ليؤمنوا أنّ الله صلاح هو، وليأتوا للذي يَصفح، يَغفر ويقود إلى الحياة. امضوا بهذا اليقين. انشروه في القلوب. اكرزوا بالرحمة التي تمنحكم السلام، مع مباركتكم باسم الربّ.»
يبتعد الناس على مهل، إن بسبب ضِيق الدرب، وإن بسبب انجذابهم ليسوع. ولكنّهم يمضون…
يبقى الرُّسُل مع يسوع، ويَشرعون بالسير وهم يتكلّمون. يلتمسون الظلّ أثناء مسيرهم بالقرب مِن دَغل خرنوب زينة منتفش. ولكن في داخله أحد الأسينيّين. هو الذي تكلّم مع يسوع. إنّه يخلع ثيابه البيضاء.
بطرس، الذي يسير في المقدّمة، يقف منذهلاً وهو يرى الرجل ولم يبق على جسده سوى سرواله الداخليّ القصير. يَرجَع القهقرى وهو يجري ويقول: «يا معلّم! مجنون! ذلك الذي كان يتكلّم معكَ، الأسينيّ. لقد تعرّى، وهو يبكي ويتنهّد. لا يمكننا الذهاب هناك.»
ولكنّ الرجل النحيل والملتحي، الذي لم يترك على بدنه سوى سرواله الداخليّ القصير وحذائه، يَخرُج من الدغل ويُقبِل إلى يسوع باكياً وقارعاً صدره. يجثو: «أنا، شُفِيَ قلبي بمعجزة. لقد شَفَيتَ روحي. أنا أطيع كلمتكَ. أعود فألبس النور تاركاً كلّ فكر آخر كان يُلبِسني الخطأ. أَنفَصِل لأتأمّل بالله الحقيقيّ، لأنال الحياة والقيامة. هل هذا يكفي؟ أَطلِق عليَّ اسماً جديداً وعيّن لي مكاناً أحيا فيه بكَ وبكلامكَ.»
«إنّه مجنون! إنّنا لا نعرف أن نعيش فيه، ونحن الذين نسمع الكثير مِن كلامه! وهو... مِن حديث واحد...» يقول الرُّسُل فيما بينهم.
ولكنّ الرجل الذي يسمعهم يقول: «هل تريدون وضع حدود لله؟ هو كَسَر قلبي كي يمنحني روحاً حرّاً. يا ربّ!...» ويتوسّل مادّاً ذراعيه باتّجاه يسوع.
«نعم. اتَّخِذ اسم إيليا وكُن ناراً. في هذا الجبل كهوف كثيرة. اذهب وعندما ستشعر أنّ الأرض تهتزّ بزلزال مريع، اخرج وابحث عن خُدّام الربّ لتنضمّ إليهم. ستكون قد عُدتَ للحياة لتكون خادماً أنتَ كذلك. اذهب.»
يُقبِّل الرجل قدميّ يسوع، ينهض ويمضي.
«ولكنّه يذهب عارياً؟» يَسأَلون مندهشين.
«أعطوه معطفاً، سكيناً، فتيلاً وقدّاحة ورغيف خبز. سوف يسير اليوم وغداً وثمّ، حيث أقمنا، سيختلي ليصلّي، والله سيتدبّر أمر احتياجات ابنه.»
ويَمضي أندراوس ويوحنّا جرياً ويلحقان به في اللحظة التي كان سيختفي بها عند أحد المنعطفات.
يعودان قائلين: «لقد أَخَذَها. ولقد حدّدنا له المكان الذي كنّا فيه. يا للغنيمة غير المتوقّعة، يا ربّ!»
«حتّى على الصخور يجعل الله زهوراً تُزهِر. حتّى في صحارى القلوب، يُنهِض لتعزيتي أرواح بإرادة صالحة. والآن فلنمضِ صوب أريحا. سوف نتوقّف في بيت ريفيّ ما.»