ج4 - ف154

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

154- (الرحيل عن جيراسا)

 

29 / 09 / 1945

 

تَخرُج القافلة مِن دار اسكندر، بالترتيب كما لاستعراض عسكريّ. على نَسَق، يسوع مع أَتبَاعه. الإبل، بأحمالها الثقيلة، تتقدّم وهي تتمايل بِخُطى مُنتَظَمة، وفي كلّ خطوة تبدو رؤوسها وكأنّها تَسأَل: "لماذا؟ لماذا؟" بحركة صامتة ولكنّها نموذجيّة مثل طيور الحمام التي تبدو في كلّ لحظة وكأنّها تقول: "نعم، نعم." لكلّ ما تراه. على القافلة أن تجتاز المدينة. فَتَنسَلّ في جوّ الصباح الصّاحي. كلّ الرجال يتدثّرون ألبسة وثيرة لأنّ الطقس بارد. أجراس الإبل و"كررر" الجَمَّالين، وشَكوى أحد الجِّمال الذي يتأسّف على الاصطبل الساكن، كلّ ذلك ينبّه الجيراسيّين إلى رحيل يسوع.

 

يَنتَشِر الخبر بسرعة البرق، ويأتي جيراسيّون لتحيّته، وحَمل الهدايا إليه، مِن ثِمار وأطعمة أخرى. ها هو أحد الرجال يَهرَع ومعه طفل مريض: «بارِكه لكي يَبرأ. الرحمة‍!»

 

يَرفَع يسوع ذراعه ويُبارك مُضيفاً: «اذهب وأنتَ مُطمئنّ. آمِن.»

 

ويُجيب الرجل بنعم مُفعَم ثقة، حتّى إنّ إحدى النسـاء تَسـأَل: «إنّ زوجي مصاب بتقرّحات في عينيه، فهل تُبرِئه؟»

 

«إذا كنتِ أهلاً للإيمان، نعم.»

 

«إذاً سآتي به. انتظرني يا سيّد.» وتَطير، مُسرعة وكأنّها طَير سنونو.

 

انتَظِر، قِيلَت بسرعة! الجِّمال تتقدّم. اسكندر في المقدّمة لا يدري ما الذي يجري في الآخِر. ما مِن وسيلة إلّا تنبيه الرجل.

 

«اركض يا مارغزيام. اذهب وقُل للتاجر أن يتوقَّف قبل الخروج مِن الأسوار.» يقول يسوع. ومارغزيام ينصَرِف لإتمام مهمّته.

 

تتوقّف القافلة، بينما التاجر يأتي صوب يسوع. «ما الذي يجري؟»

 

«ابق وسوف ترى.»

 

تَعود المرأة الجيراسيّة مُسرِعة بصحبة زوجها المصاب في عينيه. بشيء آخر غير التَّقرُّحات! إنّهما ثُقبَان مُمتَلِئان نتانة يَنفَتِحان وسط وجهه. العين هنا في الوسط، تغشاها الدموع، حمراء، شِبه عمياء، ويَخرُج منها سائل كريه. لا يكاد الرجل يَنـزَع الغِطاء القاتم الذي يَحجب النور حتّى تزداد شكواه، لأنّ النور يُهيِّج ألم العين المصابة.

 

يئنّ الرجل: «الرحمة! إنّني أتألّم كثيراً!»

 

«لقد خَطِئتَ كذلك كثيراً. ألّا تنتحب لذلك؟ ألا تغتم إلّا لإمكانيـّة فقدان رؤية العالم المسكين هذا؟ ألا تعرف شيئاً عن الله؟ ألا تخشى الظُّلُمات الأبديّة؟ لماذا اقتَرَفتَ الخَطايا؟»

 

يَبكي الرجل ويُطأطئ رأسه دون أن يتكلّم. كذلك امرأته تئنّ وتبكي: «أنا غَفَرتُ...»

 

«وأنا أَغفر له إذا ما أَقسَمَ لي هنا أنّه لن يعود إلى ارتكاب خطيئته.»

 

«نعم، نعم! اغفِر لي. الآن أَعلَم ما تَجلِبه الخطيئة معها. اغفر لي. مِثل المرأة اغفِر لي. أنتَ الصالح.»

 

«أنا أَغفِر لكَ. اذهب إلى الجدول واغسِل وجهكَ بالماء، وسَتَبرَأ.»

 

«الماء البارد يؤذيه، يا سيّدي.» تئنّ المرأة.

 

ولكنّ الرجل لا يُفكِّر في غير الذهاب، ويَمضي بِحَذَر يتلمّس الطريق حتّى يأخذه يوحنّا الرَّسول بيده، وقد أَخَذَتـه الرَّأفة بـه، ويقوده وَحده، ولكنّ المرأة تأخذه بعدئذ مِن اليد الأُخرى. يَهبط الرجل إلى حافّة المياه الجليديّة التي تتخبّط على الحصى، يَنحَني، يأخُذ ماء مِلء راحَتيه، يَغسل وجهه ويَغسله ثانية. لا يُبدي أيّة بادِرة أَلَم، بل على العكس يبدو أنّه يتحسّس عِلاجاً.

 

ثُمَّ، يَصعَد إلى الضفّة، ووجهه ما يزال مُبلَّلاً، ويعود باتّجاه يسوع الذي يَسأَله: «حسناً، هل شُفيتَ؟»

 

«لا يا سيّدي، ليس بَعد. ولكنّكَ أنتَ قُلتَ وأنا سأبرأ.»

 

«إذاً حافِظ على رجائكَ. وداعاً.»

 

تَنهار المرأة وهي تبكي... لقد خاب أملها. يُشير يسوع إلى التاجر أنّ بإمكانه المضيّ. والتاجر، وقد خاب أمله كذلك، يَنقُل الأمر. تُعاوِد الجِّمال السير بحركاتها التي تتماوج كالمراكِب، ويَخرُجون مِن الأسوار. يأخذون طريق القوافل الماضية، الترابيّة العريضة، باتّجاه الجنوب الغربي.

 

الأخيران في المجموعة الرسوليّة، أي يوحنّا الذي مِن عين دور وسمعان الغيور، تجاوَزا الأسوار بحوالي العشرين متراً، وإذا بِصَرخَة تدوّي في الأجواء الصامتة. تبدو وكأنّها مَلَأَت الدنيا، وتتردّد وهي تَعلو باستمرار، أكثر فَرَحاً، أكثر احتفاليّة: « إني أرى! يا يسوع! يا يسوع المبارك! إنّني أرى! إنّني أرى! لقد آمَنتُ! إنّي أرى! يسوع، يا يسوع! بوركتَ يا يسوع!» والرجل الذي عاد وجهه سليماً تماماً، وعادت عيناه جميلتين، كياقوتتين مُشِـعَّتين ومتألِّقَتَين، يَختَرِق صفوف الرُّسُل ويَخرّ عند قدميّ يسوع، يكاد يكون تحت أقدام جَمَل التاجر الذي تمكَّنَ مِن إبعاده عن الرجل الذي يجثو في الوقت المناسب.

 

يُقبِّل الرجل ثوب يسوع وهو يُردِّد: «لقد آمَنتُ! لقد آمَنتُ وأنا أرى. بوركتَ يا يسوع!»

 

«انهض وكُن سـعيداً، وبشكل أخصّ كُن صـالحاً... قُل لزوجتكَ أن تَعرِف كيف تؤمن إيماناً تامّاً. وداعاً.» ويُفلِت يسوع مِن عِناق الذي جَرَت عليه المعجزة ويُعاوِد السير.

 

يُداعِب التاجر لحيته وهو مُستَغرِق... أخيراً يَسأَل: «ولو لم يكن يعرف أن يستمر بالإيمان بعد خيبة أمله في الغسل؟»

 

«كان سيبقى كما كان قبلاً.»

 

«لماذا تُصِرّ أنتَ على كلّ هذا القَدْر مِن الإيمان لِتَجتَرِح معجزة؟»

 

«لأنّ الإيمان هو الشَّاهِد على وجود الرجاء وحُبّ الله.»

 

«ولماذا أردتَ أوّلاً التوبة؟»

 

«لأنّ التوبة تَجعَله صَديقاً لله.»

 

«أنا الذي لستُ مُصاباً بمرض، ماذا ينبغي لي أن أفعل لأشهَد بأنّني أؤمن؟»

 

«أن تُقبِل إلى الحقّ.»

 

«وهل يمكنني المجيء دون صَداقة الله؟»

 

«بل لا يمكنكَ المجيء دون صلاح الله. الربّ يسمح للذي ما يزال دون توبة، أن يسعى إليها، ويتوصّل إلى إيجادها. إذ إنّ التوبة تأتي عادة عندما يكون الإنسان، عن قصد أو بقليل مِن حِسّ الضمير بما تريده نفسه، يَعرِف الله. وقد كان قبلاً كالأبله، تقوده غرائزه فقط. ألم تختبر أبداً الحاجة إلى الإيمان؟»

 

«مَرّات كثيرة، كنتُ فيها غير راض بما كان لديَّ. كنتُ أشعر بأنّ هناك ما هو أقوى مِن المال ومِن أولادي ومِن أمنياتي... ولكنّني لم أكن بعدئذ أتحمّل عناء أن أعمَل على معرفة ما كنتُ أبحث عنه لا شعوريّاً.»

 

«إنّ نفسكَ كانت تبحث عن الله. صلاح الله سَمَحَ بأن تَجِد الله. التوبـة عن ماضيكَ العقيم الذي مَرَّ بعيداً عن الله سوف يمنحكَ صداقة الله.»

 

«إذن، مِن أجل... من أجل الحصول على معجزة رؤية الحقّ بالنَّفْس، عليَّ التوبة عن الماضي؟»

 

«بالتأكيد. توبتكَ وعزمكَ على تغيير حياتكَ تغييراً شاملاً...»

 

يعود الرجل إلى مُداعَبَة لحيته، إنَّه يُركِّز نَظَرَه لدرجة يبدو معها وكأنّه يَدرُسُ ويَعُدُّ وَبَرَ عُنق الجَّمَل. وبغير قصد، يَهمز الدّابة بِعَقبه، فأَدرَكَت أنّها إشارة لحثّ الخُطى، وهي تفعل ذلك منطلقة بالتاجر قُدُماً، إلى مقدّمة القافلة. لا يوقفه يسوع. على العكس، إنّه يتوقّف تاركاً أيضاً النساء والرُّسُل يتجاوزونه حتّى يُدرِكه سمعان الغيور ويوحنّا الذي مِن عين دور. وينضمّ يسوع إليهما.

 

«عن أيّ شيء تتحدَّثان؟» يَسأَل.

 

«كنّا نتحدّث عن القُنوط الذي يَختَبِره مَن لا يؤمن، أو مَن فَقَدَ إيمانه الذي كان له. في الأمس كانت سِنْتيخي قَلِقَة بحقّ، رغم انتقالها إلى إيمان كامل.» يقول الغيور.

 

«أنا كنتُ أقول لسمعان بأنّه، إذا كان مؤلماً الانتقال مِن الخير إلى الشرّ، فإنّه مُذهِل ومُحيِّر كذلك الانتقال مِن الشرّ إلى الخير. في الحالة الأولى يتعذّب المرء بالضمير الذي يؤنِّب. في الثانية يتمزَّق... كَمَن يُقاد إلى بلد غريب مجهول تماماً... أو إنّه فَزَع رجل بائس وغير مثقّف، يَجِد نفسه وقد اقتيد إلى قصر مَلِك، وسط علماء وأثرياء. إنّه أَلَمْ... أنا أعرفه... أَلَمْ عظيم جدّاً... لا يمكن التصوّر بأنّه حقيقيّ، وأنّه مِن الممكن أن يستمرّ... مِن الممكن أن نستحقّه... خاصّة عندما تكون النَّفْس دَنِسَة... كما كانت نفسي...»

 

«والآن يا يوحنّا؟» يَسأَل يسوع.

 

وجه يوحنّا الذي مِن عين دور الـمُنهَك، الـمُنهَك والحزين، يَشعّ بابتسـامة تجعله يبدو أقلّ هزالاً. يقول: «الآن لَم يَعُد هذا. بل يبقى العرفان بالجميل، حتّى إنّه ينمو، للربّ الذي شاء ذلك. وتَبقَى فقط ذكرى الماضي لِتُحافِظ على تَواضُعي. إنّما الآن الأمان. أَشعُر أنّني قد تأقلمتُ، ولم أعد غريباً في عالم الوداعة هذا الذي هو عالمكَ، عالم الغفران والحبّ. وإنّني الآن أعيش بسلام وصفاء وسعادة.»

 

«هل تَجِد تجربتكَ جيّدة؟»

 

«نعم. لو لم يكن يؤسفني أنَّني كنتُ خاطئاً، لأنّني بتلك الخطيئة كنتُ قد أحزنت الله، لكنتُ قلتُ إنّ ماضيّ هذا كان خيراً. بحيث يمكنه أن يساعدني كثيراً في حماية النُّفوس ذوات الإرادة الطيّبة، إنّما التائهة، في اللحظات الأولى لإيمانها الجديد.»

 

«سمعان امض وقُل للصبيّ ألّا يركض كثيراً لأنّه سيُنهك حتّى المساء.»

 

يَنظُر سمعان إلى يسوع، ولكنّه يُدرِك حقيقة الأمر. فيبتسم ابتسامة ذكيّة ويَترُكهما وحدهما.

 

«الآن وقد أَصبَحنَا بمفردنا، فاسمع ما هي رغبتي يا يوحنّا. أنتَ، ولأسباب كثيرة، تمتلك سِعة في الحُكم والتفكير لا يمتلكها أحد آخر مِن الذين يتبعونني. ولديكَ ثقافة أَوسَع مِن عامّة الإسرائيليّين. لذلك أطلب منكَ مساعدتي...»

 

«أنا أساعدكَ؟ في أيّ شيء؟»

 

«مِن أجل سِنْتيخي. إنّكَ معلّم كثير الطّيبة! مارغزيام يتعلّم بسرعة وجيّداً معكَ. لدرجة أنّني عازم على ترككما معاً لبضعة أشهر، لأنّني أريد لمارغزيام امتلاك معرفة أوسع مِن معرفة عالَم إسرائيل الصغير. إنّه فرح لك الاهتمام به. كذلك بالنسبة إليَّ هو فرح أن أراكما مجتمعين، أنتَ لتثقيفه وهو ليتعلّم؛ أنتَ لاستعادة شبابكَ، وهو لِيَنضُج بانشغاله. إنّما عليكَ كذلك الاهتمام بسِنْتيخي. كأُخت لكَ تائهة. لقد قُلتَها: إنّه تِيه... فساعِدها على التأقلم مع جَوّي. أتفعل هذا لأجلي؟»

 

«ولكنّها مِنّة لي أن أفعل، يا سيّدي! لم أكن أتقرَّب إليها، لأنّ ذلك كان يبدو لي غير ضروريّ. ولكن إن شئتَ أنتَ. إنّها تَقرَأ لُفافاتي؛ منها ما هو مُقدَّس ومنها ما هو للثقافة فقط: الرومانيّة واليونانيّة. أراها تُفكِّر وتَطَّلع عليها، ولكنّني لم أتدخّل لمساعدتها. إن شئتَ أنتَ ذلك...»

 

«نعم، أريد ذلك، أودُّ رؤيتكما صَدِيقَين. فهي كذلك، مثل مارغزيام ومثلكَ، سَتَبقون بعض الوقت في الناصرة. سيكون الأمر رائعاً. أُمّي وأنتَ مُعلِّمان لِنَفسَين تَنفَتِحان على الله. أُمّي: المعلّمة الملائكيّة لِعِلم الله؛ وأنتَ: المعلّم الخبير في المعرفة البشريّة، إنّما التي تستطيع الآن أن تَشرَحها بتطبيقات فائقة الطبيعة. سيكون الأمر جميلاً ومفيداً.»

 

«نعم، يا سيّدي المبارك! جميل جدّاً بالنسبة ليوحنّا المسكين!...» ويبتسم الرجل لفكرة أيّام السلام الـمُقبِلة إلى جانب مريم، في بيت يسوع…

 

وينبَسِط الطريق في دفء للشمس يتزايد الإحساس به باستمرار، في ريف فَتَّان مُنبَسِط، بعد محاذاة مرتفعاته الخفيفة التي بَعدَ جيراسا. طريق هي كذلك معتنى بها، والسـير عليها سهل. ويعاودون المسير بعد استراحة الظهيرة. كان قد اقترب المساء عندما سَمِعتُ سِنْتيخي لأوّل مرّة تضحكَ مِن قلبها، عندما يروي لها مارغزيام لستُ أدري ماذا، ممّا يُضحِك كلّ النساء. أرى اليونانيّة تنحني لِتُلاطِف الصبيّ وتَطبَع قُبلة على جبهته، يعود بعدها الصبيّ إلى القفز كما لو أنّه لم يكن يَشعُر بالتعب.

 

ولكن الآخرين، جميعهم، تَعِبون، وبِفَرَح يتلقّون خبر قرار قضاء الليلة في "نبع الجمّالة". يقول التاجر: «إنّي دائماً أمضي الليل هناك. طويل جدّاً هو الشـوط الفاصل بين جيراسا وبصرى، ومُتعِب للرجال والدَّواب.»

 

«إنّ هذا التاجر يتمتّع بحسّ إنسانيّ» يُبدي الرُّسُل الملاحظة فيما بينهم، وهم يُجرون المقارنة بينه وبين دوراس…

 

"نبع الجمّالة" ليست سِوى حَفْنة مِن البيوت حول آبار عديدة. شَكل مِن أشكال الواحة، ليست في الصحراء القاحلة، لأنّ هنا لا يوجد جفاف، ولكنّها واحة في الرَّحابة غير المأهولة للحقول والبساتين المتتالية على مدى أميال وأميال، والتي لدى حلول عشيّة تشرينيّة (أكتوبر)، يَنبَعِث منها حُزن البحر عند الغَسَق ذاته. وكذلك رؤية البيوت، وسـماع جَلَبة الأصوات وبُكاء الرضّع، وشمّ رائحة المواِقد التي تُدخِّن، ورؤية المصابيح الأولى تَشتَعِل، كلّ ذلك شيء لطيف كوصول المرء إلى بيته الخاص.

 

بينما يتوقّف الجَمَّالة لِتَشرب الجِّمال أوّل مرّة، يَتبَع الرُّسل والنساء يسوع الذي يَدخُل مع التاجر إلى... الفندق الذي يعود إلى ما قبل التاريخ، والذي سيأويهم أثناء الليل…

 

...في الغرفة المدخِّنة حيث تناولوا طعامهم، وحيث سينام الرجال، وبينما شَرَعَ الخُدّام في تهيئة مراقِد القشّ المكدَّس على مَشابِك، يجتمع الكلّ أمام موقد عريض يَشغَل صَدر القاعة كلّه. وقد أُضرِمَت النار فيه، ذلك أنّ المساء قد حَمَلَ معه الرطوبة والبرد.

 

«حسبنا ألّا يَهطل المطر» يتنهّد بطرس.

 

يُطمئِنه التاجر: «ما زال يجب الانتظار حتّى نهاية القمر هذا، حتّى يأتي الطقس السيّئ. أمّا هذا الطقس فهو عادة هكذا كلّ مساء، إنّما غداً ستُشرِق الشمس.»

 

«هذا مِن أجل النساء، هل تَعلَم؟ وليس مِن أجلي أنا. إنّني صيّاد وأعيش في الماء. أؤكّد لكَ أنّني أُفضِّل الماء على الجَّبَل والغبار.»

 

يسوع يتحدّث إلى النساء وإلى ابنيّ عمّه. كذلك يوحنّا الذي مِن عين دور والغيور يستمعان إليه. مِن جهتهم تيمون وهرمست ومتّى يَقرأون إحدى لفافات يوحنّا، والإسرائيليّان يَشـرَحان لهرمست الأحداث التوراتيّة الأكثر إبهاماً بالنسبة إليه.

 

مارغزيام يُنصِت إليهم، مُنتَشِياً، ولكنّ وجهه ناعس. تَرَاه مريم التي لحلفى وتقول: «هذا الصبيّ تَعِب. تعال يا حبيبي، سوف نَمضي نحن إلى النوم. تعالي يا أليس. تعالي يا سالومة. فليس أفضل مِن السرير للعجائز والصغار. ويحسن بكنّ أن تذهبن أنتنّ إلى النوم. إنكنّ تَعِبات.»

 

وباستثناء مارسيل ويُوَنّا امرأة خُوزي، فلا أحد مِن النساء المسنّات يتحرّك.

 

بعد أن نِلن البركة وذهبن، يُتمتِم متّى: «مَن كان ليقول لهؤلاء النساء، ولو حتّى قبل الآن بقليل، أنَّه سيكون عليهنّ النوم على القشّ، بعيداً جدّاً عن بيوتهنّ!»

 

«إنّني أبداً لم أَنَم أفضل.» تؤكّد بإصرار مريم المجدليّة، ومرثا تؤكد الأمر ذاته. حينئذ بطرس يؤيّد رفيقه: «إنّ متّى مُحِقّ. فإنّني أتساءل دون أن أفهَم، لماذا أتى بكنَّ المعلّم إلى هنا؟»

 

«ولكن لأنّنا النساء التلميذات!»

 

«ولكن لو كان ذَهَبَ... إلى حيث تعيش سِباع، هل كنتنَّ ستذهبن؟»

 

«طبعاً، يا سمعان بطرس! فَمُمتِع السير، ولو بضعة خطوات! وبقربه!»

 

«وهذا يُعَدّ بحقّ خطوات كثيرة، بالنسبة إلى نساء لم يَعتَدنَ على ذلك...»

 

ولكن تحتجّ النساء في الوقت الذي يَرفَع بطرس كتفيه، ويصمت.

 

يعقوب بن حلفى، وهو يرفع رأسه، يَلمَح ابتسامة مُشرِقة جدّاً على وجه يسوع ويَسأَله: «هل لكَ أن تقول لنا، فيما بيننا، السبب الحقيقيّ لهذه الرحلة، مع النساء... وليس معنا إلّا القليل القليل مِن الفاكهة، مقارنة مع الـمَشقَّة؟»

 

«هل يمكنكَ الزَّعم برؤية ثِمار البُذور المدفونة في الحقول التي اجتزناها؟»

 

«أنا، لا. سوف أراها في الربّيع.»

 

«أنا كذلك أقول لكَ: "سوف تَرَى ذلك في أوانه".»

 

لا يُجيب الرُّسُل بشيء. وها هو صوت مريم الفضّيّ يرتفع: «كنّا اليوم نتحدّث فيما بيننا عمّا قُلتَه في راموت، وقد كانت لكلّ مِنّا انطباعات وآراء مختلفة. هل تريد أن تقول لنا ما هي فكرتكَ؟ أنا، كنتُ أقول إنّه مِن الأفضل أن نناديكَ مباشرة، ولكنّكَ كنتَ تتحدّث إلى يوحنّا الذي مِن عين دور.»

 

«في الحقيقة، كنتُ أنا مَن أثارَت السؤال. فأنا وثنيّة مسكينة، ولا أَملك أنوار إيمانكم الرائعة. يجب الإشفاق عليَّ.»

 

«أمّا أنا فأودُّ لو تكون لي نفسكِ، يا أُختاه!» تقول مريم المجدليّة بحماس. وإذ هي لا تزال طافِحَة بالحيويّة، تُعانِقها وهي تشدّها إليها بإحدى ذراعيها. رائعة هي في جمالها، تبدو أنّها وحدها تنير الكوخ البائس، جالبة له فخامة منزلها الباذخ. واليونانيّة المشدودة إليها، المختلفة تماماً، ومع أنّها متفرّدة بشخصها، إنّما تضيف تعبيراً تأملياً إلى صرخة الحبّ التي تبدو وكأنّها تفلت من مريم المتأثّرة. فيما العذراء، الجالسة بوجهها الوديع المرتفع صوب ابنها، الضّامّة يديها كما لو أنّها تصلّي، وشكلها الجانبيّ الشديد النقاء يظهر على الجدار المظلم، هي العابدة الدائمة.

 

تجلس سُوسَنّة في ظلّ زاوية وتغفو، بينما تستفيد مرثا مِن نور الموقِد مِن أجل تثبيت حلقات على ثوب مارغزيام الصغير، نشيطة هي كذلك رغم التعب وإلحاح الآخرين.

 

يقول يسوع لسِنْتيخي: «ولكن لم تكن فكرة مؤلمة. لقد سمعتُكِ تضحكين.»

 

«نعم، بسبب الصبيّ الذي حلّ المسألة بسهولة قائلاً: "أنا لا أريد العودة إلّا إذا عاد يسوع. ولكن إذا كنتِ تريدين معرفة كلّ شيء، فاذهبي إلى هناك، وعودي لِتُخبِرينا إذا ما كنتِ تتذكّرين"...» تضحك جميعهنّ مِن ذلك ويَقلن إنّ سِنْتيخي كانت تَطلُب مِن مريم شرحاً عمّا لم تكن قد فَهِمَته جيّداً حول الذكرى التي تحتفظ بها النُّفوس، والتي تُفسِّر إمكانيّات كثيرة لدى الوثنيّين بامتلاك ذكريات مُبهَمَة عن الحقيقة.

 

«أنا كنتُ أقول: "أيمكن أن يؤكّد ذلك نظريّة التقمّص التي يؤمِن بها وثنيّون كثيرون؟" وأُمّكَ، يا معلّم، كانت تُفسّر لي أنّ ما تقوله هو شيء آخر. والآن، أتسمح بأن تُفسِّر لي هذا أيضاً يا سيّدي؟»

 

«اسمعي. ليس لكِ أن تؤمني وتُصدّقي، لمجرّد أنّ الأرواح لها ذكريات عفويّة عن الحقيقة، أنّ هذا يُثبت أنّنا نعيش الحياة مِراراً وتِكراراً. لقد أَصبَحتِ الآن مثقّفة بشكل كاف لِتَعرفِي كيف خُلِق الإنسان، كيف أخطأ الإنسان، وكيف عُوقِبَ. إنّ شرحاً قُدِّم لكِ عن كيفيّة وضع نَفْس وحيدة مِن قِبَل الله داخل كل إنسان حيوانيّ. وهذه النَّفْس تُخلَق في كلّ مرّة، ولا تُستَخدَم أبداً لتجسُّدات متتالية. هذا اليقين قد يلغي ما أؤكّده حول ذكريات النُّفوس. إنّه يلغيه بالنسبة لكلّ كائن آخر سوى الإنسان، الـمُنعَم عليه بِنَفْس مِن صُنع الله. لا يمكن للحيوان أن يتذكّر شيئاً لأنّه يُخلَق مرّة واحدة. أمّا الإنسان فيمكنه التذكّر رغم كون ولادته هي أيضاً لمرّة واحدة. إنَّه يتذكَّر بفعل الجزء الأفضل الذي فيه: النَّفْس. فَمِن أين تأتي النَّفْس؟ كلّ نَفْس بشريّة؟ مِن الله. ومَن هو الله؟ الروح الذكيّ جدّاً، القادر جدّاً، والكامل. هذا الشيء الـمُذهِل الذي هو النَّفْس، الشيء المخلوق مِن الله لِيَمنَح الإنسان صورته ومثاله، كإشارة لا تَقبَل الجَّدَل حول أُبوّته الكلّيّة القداسة، يَنتج عنها صفات خاصة مِن تلك التي هي للذي خَلَقَها. فهي إذن ذكيّة، روحانيّة، حرّة، وخالدة كالأب الذي خَلَقَها. تَخرُج مِن الفِكر الإلهيّ كاملة، وفي لحظة خَلْقها، هي تُشبِه، لجزء مِن الألف مِن اللحظة، نَفْس الإنسان الأوّل: كمال يُدرِك الحقيقة نتيجة نِعمة مجّانيّة ممنوحة. جزء مِن ألف مِن اللحظة. ثمّ ما إن تتشكّل حتّى تُوصَم بالخطيئة الأصليّة. ولجَعْلكِ تُدركين بشكل أفضل، أقول إنّ ذلك يكون وكأنّ الله كان يَحمل النَّفْس التي يَخلِقها، والكائن المخلوق، لحظة وِلادته، يُجرَح بعلامة لا تُمحى. هل تَفهَمين ما أقول؟»

 

«نعم، أي طالما أنَّ النَّفْس هي فكرة، فهي كاملة، وفي جزء مِن ألف مِن اللحظة تصبح الفِكرة مخلوقة. ثمّ، الفكرة تُتَرجم إلى فِعل، والفعل يغدو خاضعاً لسطوة الشريعة الناجمة عن الخطيئة.»

 

«لقد أَجَدتِ الإجابة. إذن فالنَّفْس تَلِج هكذا في الجسد البشريّ، حاملة معها تلك الجوهرة السريّة لكيانها الروحيّ، ذِكرى الكائن الخالق، أي الحقّ. ثمَّ يُولَد الطفل. قد يكون طيّباً، رائعاً، كما يمكن أن يكون خائناً. يمكنه أن يُصبِح أيّ شيء لأنّه حُرّ في إرادته. على هذه الذكريات ينشر الملائكة أنوارهم، ويُلقي زارع الشِّراك ظُلُماته. وطالما الإنسان يَتبَع الأنوار، وبالتالي فَضائِل تتنامى باطّراد، جاعلاً النَّفْس سيّدة كيانه، فتنمو فيها مَلَكَة التذكّر، كما لو أنّ الفضيلة كانت تجعل الحاجز المتوضِّع بين النَّفْس والله يرقّ باستمرار. هذا ما يجعل الناس الفاضلين مِن كلّ البلاد يُحِسّون بالحقّ، ليس بشكل كامِل، لأنّ مَذاهِب مُعاكِسة، أو جهلاً قاتلاً يُسيطِر عليهم، إنّما بما يكفي لإعطاء صفحات مِن التشكيل الأخلاقي للشعوب التي ينتمون إليها. هل فهمتِ، هل اقتنعتِ؟»

 

«نعم. والخلاصة: إنّ دِين الفضائل التي تُمارَس ببطولة يَهدي النَّفْس للدِّين الحقيقيّ ولمعرفة الله.»

 

«هذا هو بالضبط. والآن اذهبي لتستريحي، وكوني مباركة. وأنتِ أيضاً، يا أُمّي، وأنتنّ أيّتها الأخوات والتلميذات. وليحلّ سلام الله على راحتكن.»