ج4 - ف144
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
144- (الاثنان والسبعون يَروُون ليسوع ما فعلوه)
19 / 09 / 1945
أثناء غَسَق طويل لأحد أيّام تشرين الأوّل (أكتوبر) الصافية، يَعود الاثنان والسـبعون مع إيلي ويوسف ولاوي، تَعِبين، يكسوهم الغبار، إنّما سُعداء للغاية! والرُّعاة الثلاثة سُعداء لكونهم قد أَصبَحوا أحراراً لخدمة المعلّم. سعداء كذلك لكونهم، بعد انفصال دام سنوات كثيرة، عادوا للانضمام إلى رِفاق أيّام زمان. الاثنان والسبعون سُعداء لاختبارهم أوّل مهمّة رسوليّة لهم. الوجوه تُشِعّ أكثر مِن المصابيح الصغيرة التي تُنير الأكواخ المبنيّة لهذا العدد مِن جموع الحجّاج.
كوخ يسوع في الوسط، وأدنى منه كوخ مريم ومارغزيام الذي يُساعِدها في إعداد العشاء. وحولهما أكواخ الرُّسُل. مريم التي لحلفى في كوخ يعقوب ويوضاس؛ مريم سالومة وزوجها في كوخ يوحنّا ويعقوب؛ وفي الكوخ المجاور سُوسَنّة مع زوجها، الذي لا هو رسولاً ولا تلميذاً... بشكل رسميّ... بل إنّما الذي لا بدّ أنّه قد فَرَضَ حقّ بقائه هناك، وذلك لأنّه سَمَحَ لامرأته بأن تكون بكُلِّيتها ليسوع. ثمّ حَولَها أكواخ التلاميذ، مَن لديهـم عائلات ومَن ليس لديهم. والذين بمفردهم، وهؤلاء هُم الأكثر عدداً، كانوا قد انضمّوا إلى رفيق أو أكثر. يوحنّا الذي مِن عين دور مع هرمست المنعزل، إنّما الذي كان قد سَعى كي يكون أقرب ما يمكن مِن كوخ يسوع، بشكل أن مارغزيام يَذهب إليه غالباً، حاملاً له هذا الغرض أو ذاك، أو مُفرِحاً إيّاه بآرائه، آراء طفل ذكيّ وسعيد لكونه مع يسوع ومريم وبطرس، وفي عِيد.
بعد العشاء، يتوجّه يسوع إلى منحدرات بستان الزيتون يتبعه التلاميذ جماعات. في مَعزل عن الضوضاء والجموع، وبعد أن صَلّوا بشكل جماعيّ، فإنَّهم يَقصّون على يسوع بتفصيل أكثر ممّا كانوا قد فَعَلوا سابقاً، وسط رَواح الجموع ومَجيئهم.
إنّهم مندهشون وفَرِحون حينما يقولون: «هل تَعلَم، يا معلّم، أنّ ليست الأمراض فقط، بل الشياطين أيضاً خَضَعَت لنا بقوّة اسمكَ؟ يا له مِن أمر، يا معلّم! نحن، نحن المساكين، لمجرّد أنّكَ أنتَ أَرسَلتَنا، كنا نتمكّن مِن تحرير الإنسان مِن سُـلطان الشـيطان المريع!...» ويَروُون الأحداث الكثيرة التي حَصَلَت هنا وهناك. حَدَث واحد فقط قالوا عنه: «الأهل، أو بالأحرى أُمّه والأقارب، جَلَبوه لنا مُرغَماً، ولكنّ الشيطان سَخِر منّا قائلاً: "لقد عُدتُ هنا بإرادته، بعد أن طَرَدَني يسـوع الناصري، ولن أتركه أبداً لأنّه يحبّني أكثر مِن معلّمكم، وقد بَحَثَ عنّي"، وفجأة، وبقوة هائلة، انتَزَعَ الرجل ممّن كان يُمسِك به ورماه أسفل هوّة. ركضنا لنرى إذا ما كان قد كُسِرَ له شيء ما. ولكن لا! كان يَجري مِثل ظَبية فتيّة مُطلِقاً الشتائم والسخريات، وهي بالتأكيد ليست مِن هذه الأرض... لقد أشفَقنَا على الأُمّ... إنّما هو! إنّما هو! آه! هل يمكن للشيطان أن يتصرّف هكذا؟»
«بإمكانه فِعل ذلك، بل حتّى أكثر.» يقول يسوع وهو حزين.
«يُحتَمَل أنّكَ لو كنتَ هناك...»
«لقد قُلتُ له: "اذهب ولا تَعُد تُخطئ". وهو أراد ذلك. كان يَعلَم أنّه يريد الشرّ وأراد ذلك. لقد ضاع. هناك فرق بين مَن يُستَحوَذ عليه بسبب جهله المبدئيّ، والذي يستسـلم للاستحواذ، عالِماً أنّه بِفِعله هذا يبيع نفسه للشيطان مِن جديد. ولكن لا تتحدّثوا عنه. إنّه عُضو مَبتور، دون رجاء. إنّه مُريد للشرّ بمشيئته. فلنُسبِّح بالأحرى الربّ للانتصارات التي مَنَّ بها علينا. إنّني أعرف اسم الخاطئ وأعرف أسماء المخلَّصين. رأيت الشيطان هابطاً مِن السماء كالصاعقة بفضل جدارتكم التي اتَّحَدَت مع اسمي. لأنّني رأيتُ تضحياتكم وصلواتكم والحبّ الذي مَلَأ قلوبكم بينما أنتم ماضون إلى البؤساء لِتُنجِزوا ما طلبتُ منكم فِعله. لقد تصرّفتم بحبّ، وقد بارككم الله. سوف يَفعَل آخرون ما تَفعَلون، ولكنّهم سيفعلونه بدون حُبّ. ولن يهتدي أحد على أيديهم... حينئذ، لا تَفرَحوا بإخضاع الأرواح، ولكن افرحوا لأنّ أسماءكم مَكتوبة في السماء. فلا تَجعَلوها تُمحى مِن هناك...»
«يا معلّم،» يقول أحد التلاميذ، لا أعرف اسمه، «متى يأتي أولئكَ الذين لن يحصلون على هدايات؟ هل يُحتَمل أن يكون ذلك عندما لا تَعود معنا؟»
«لا، يا أغابّو، في كلّ وقت.»
«كيف؟ حتّى في حين تُعلِّمنا وتُحبّنا؟»
«حتّى حينذاك. وأمّا بالنسبة للحبّ فسأحبّكم على الدوام، حتّى ولو كنتم بعيدين عنّي. سوف يَصِل حبّي إليكم دائماً وسوف تحسّون به.»
«آه! إن ذلك لحقيقيّ. لقد اختبرتُهُ ذات مساء كنتُ فيه حزيناً لأنّني لم أكن أدري بما أجيب أحدهم وقد طَرَحَ عليَّ سؤالاً. كنتُ مُزمِعاً على الهروب مِن شدّة خجلي، ولكنّني تذكرتُ كلامكَ: "لا تخافوا. فما يجب أن تقولوه يُعطى لكم في حينه"، ودَعَوتُكَ بروحي. قلتُ: "يسوع يحبّني بكلّ تأكيد. فأُنادي حبّه لنجدتي". وقد وافاني الحُبّ، مِثل نار، نور... قوّة... الرجل الذي كان يواجهني كان يُلاحِظني وكان يسـتهزئ بي، بتهكّم، ويَغمز أصدقاءه. لقد كان متأكّداً مِن فوزه في النقاش. فتحتُ فَمي، وكان سيل مِن الكلام يَخرُج بِفَرح مِن فمي الأبله. يا معلّم، هل أتيتَ حقّاً أم كان وَهماً؟ أنا لا أعرف. ما أعرفه هو أنّ الرجل، في النهاية، وقد كان أحد الكَتَبَة الشباب، قد ألقى بذراعيه على عنقي وهو يقول: "مغبوط أنتَ ومغبوط الذي قادَكَ إلى هذه الحكمة. وكان يبـدو لي أنّه راغب في البحث عنكَ. هل سيأتي؟»
«فِكر الإنسان غير ثابت ككلمة مكتوبة على الماء، وإرادته مضطربة كجناح السنونو الطائر للحصول على وجبة النهار الأخيرة. ولكن أنتَ، صَلِّ مِن أجله... نعم. أنا مَن أتى إليكَ. ومعكَ حَصَلَ عليَّ أيضاً متّياس وتيمون ويوحنّا الذي مِن عين دور وسمعان وصموئيل ويونا. لاحَظَني البعض والبعض الآخر لا. ولكنّني كنتُ معكم. وسأكون مع مَن يَخدِمني بالحبّ والحقّ إلى آخر الدهور.»
«يا معلّم، لم تَقُل لنا بعد إذا ما كان بَين الحاضرين مَن سوف يَكونون بِدون حُبّ...»
«معرفة ذلك ليست ضروريّة. فإنّ إظهار أيّة إشارة احتقار تجاه رفيق لا يعرف أن يحبّ لهو دليل على تقصير منّي في الحبّ.»
«ولكن هل يوجد؟ بإمكانكَ أن تقول هذا...»
«يوجد. الحبّ هو الشيء الأكثر بسـاطة، الأكثر رقّة والأكثر نُدرة. وهو حتّى ولو زُرعَ، فإنّه لا ينبت على الدوام.»
«ولكن لو لم نحبّكَ نحن فَمَن يمكنه أن يحبّكَ؟» على هذا فإنّ سُخطاً يبدو الآن بين الرُّسُل والتلاميذ الذين يهزّهم الألم والريبة.
يُغمِض يسوع عينيه. حتّى إنّه يُخفي نَظَرَه لكيلا يُعطي إشارة. ولكنّه يقوم بِفِعل مِلؤه الاستكانة والرقّة والحزن بفتحه كَفَّيه إلى الخارج، فِعل بَوح مُذعِن، تَحقُّق مُستكين، ويقول: «لا بدّ أن يكون هذا. كثيرون ما يزالون لا يعرفون أنفسهم، أمّا أنا، فإنّني أعرفهم وأُشفِق عليهم»
«آه! يا معلّم، يا معلّم! ولكن لن أكون أنا هو، أليس كذلك؟» يَسـأَل بطرس، وهو ذاهب إلى جانب يسوع، وقد هَصَرَ المسكين مارغزيام بينه وبين المعلّم، وواضعـاً ذراعيه القصيرتين ومفتولتيّ العضلات على كتفيّ يسوع الذي يمسـكه ويهزّه، وقد جُنَّ رُعباً مِن أن يكون هو أحد الذين لا يُحبّون يسوع.
يَفتَح يسوع عينيه البرّاقتين ومع ذلك حزينتين، ويَنظُر إلى وجه بطرس السَّائِل والخائف، ويقول له: «لا، يا سمعان بن يونا. لستَ أنتَ. فإنّكَ تَعرِف أن تُحبّ، وسوف تَعرِف على الدوام أن تُحبّ أكثر. أنتَ صخرتي، يا سمعان بن يونا، صخرة صالحة. وعليها سأُسنِد الأشياء الأعزّ عليَّ، وأنا واثق أنّكَ ستحميها دون أن تَعرِف اضطراباً.»
«إذن أنا؟»؛ «أنا؟»؛ «أنا؟» وتتردَّد الأسئلة كالصدى مِن فم إلى فم.
«هدوء! هدوء! ابقوا هادئين، واجتهدوا على أن تمتلكوا الحبّ جميعكم.»
«ولكن مَن مِنّا يَعرف أن يحبّ أكثر مِن الجميع؟»
يُجيل يسوع نَظَرَه في الجميع بالتَّتابُع: مُلاطَفة باسمة... ثمّ يَخفض نَظَرَه على مارغزيام الذي ما زال محصوراً بينه وبين بطرس، ومُديراً وجه الطفل صوب الجمع الصغير، يقول: «ها هو الذي يعرف أن يحبّ أكثر مِن جميعكم. الطفل. ولكن لا ترتجفوا أنتم يا مَن أَضحَت لكم لحى على وجناتكم، وحتّى خيوط فضّية في شعركم. فَمَن يُولَد فيَّ مِن جديد يُصبِح "طفلاً". آه! امضوا بسلام! وسَبِّحوا الله الذي دعاكم، فإنّكم تَرَون حقيقة بأعينكم مُعجزات الربّ. مغبوطون هم أولئك الذين سَيَرون ما تَرَون. ذلك أنّني أؤكّد لكم أنّ أنبياء كثيرين وملوكاً قد رَغِبوا بحرارة أن يَروا ما تَرَون ولم يَروا، وأحباراً كثيرين أرادوا معرفة ما تَعرفون ولم يَعرفوا، وأبراراً كثيرين أرادوا سماع ما تَسمَعون ولم يسـتطيعوا سـماعه. إنّما مع ذلك فإنّ الذين سيحبّونني سيعرفون كلّ شيء.»
«وبعد ذلك؟ متى ستمضي كما تقول؟»
«بعد ذلك سوف تُدافِعون عنّي. ثمّ... آه! الجموع العظيمة، ليس بالعدد، بل بِنِعمة الذين سوف يَرَون، يَعرِفون ويَسمَعون، ما تَرَونه الآن وتعرفونه وتسمعونه! آه! الجموع العظيمة، الجموع المحبوبة، جموعي "الصغار-الكبار! عيون أزليّة، أرواح أزليّة، وآذان أزليّة! كيف أشرح لكم، يا مَن تُحيطون بي، ماذا يعني أن يَحيَى المرء بطريقة أزليّة، بل أكثر مِن أزليّة، بلا قياس، أولئك الذين سيحبّونني وسأحبّهم حتّى إبطال الزمن، وسـوف يكونون "سـكّان إسرائيل" حتّى ولو هُم يعيشون في زمن لا تعود فيه إسرائيل سِوى ذِكرى أُمّة، وسيكونون معاصري يسوع الذي يعيش في إسرائيل. وسوف يكونون معي وفيَّ حتّى معرفة ما محاه الزمن وما بَلبَلَه الكبرياء. أيّ اسم سـوف أُطلِق عليهم؟ أنتم رُسُـل وأنتم تلاميذ، أمّا المؤمنون فسيُسمّون "مسيحيّين". وهؤلاء؟ ماذا سـيكون اسمهم؟ سـيكون اسماً غير معروف إلّا في السماء. أيّة مكافأة سَيُجزون بها منذ هذه الأرض؟ قُبلَتي، كَلِمَتي، حرارة جسدي. كلّ شيء، كلّ شيء، كلّي أنا ذاتي. فأنا هُم، وهُم أنا. الاتّحاد الكامل…
اذهبوا. أما أنا فسـأبقى أُمتِّع نفسـي بتأمل الذين سـوف يَعرفونني في المسـتقبل ويحبونني بدون تَحفُّظ. السلام معكم.»