ج3 - ف19
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
19- (يسوع في جرجسا. تلاميذ يوحنّا)
09 / 05 / 1945
يسوع يتحدّث في بلدة لم أرها مِن قبل. هذا ما يبدو لي على الأقلّ، ذلك أنّ لكلّ البلدات تقريباً النَّمط ذاته، ومِن الصعب تفريقها مِن النَّظرة الأولى. فهنا أيضاً طريق تُحاذي البحيرة، والـمَراكِب قريبة مِن الضفّة. دُور وبيوت صغيرة على الجانب الآخر مِن الطريق، ولكنّ الهضاب هنا هي أكثر عُزلة، وهكذا تَقبَع البلدة الصغيرة في سهل ضاحك، يمتدّ على ضفّة البحيرة الشرقيّة، في منأى مِن الرياح التي تصدّها التلال، فتتمتّع بطقس هو دافئ هنا أكثر مِن القرى الأخرى، ويُساعد على إزهار الأشجار.
يبدو أنّ الحديث قد بدأ، إذ إنّ يسوع يقول: «... صحيح. تقولون: "لن نتخلّى عنكَ أبداً، لأنّ التخلّي عنكَ يعني التخلّي عن الله". ولكن يا أيّها الجرجسيّون، تذكّروا أن لا شيء أكثر تَبَدُّلاً مِن الفِكر الإنسانيّ. لقد اقتَنَعتُ بأن لديكم الآن حقّاً هذه الفِكرة. فَكَلِمَتي والمعجزة غير الـمُتوقَّعة، قد أثارتكم للاندفاع في هذا الاتّجاه. وإنّكم في هذا الوقت صادقون في كلامكم. ولكنّني أودُّ تذكيركم بِحَدَث، يمكنني سَرد ألف مِثله، بعيد أو قريب، ولكنّني سأكتفي بهذا.
يشوع، خادم الربّ، جَمَعَ الأسباط حوله قبل موته، مع شيوخهم ورؤسائهم وقُضاتهم ووُلاتهم، وحَدَّثَهم بحضور الربّ. ذَكَّرَهم بكلّ الصنائع والخَوارِق التي صَنَعَها الربّ بوساطته. وبعد أن عَدَّدَ كلّ تلك الأشياء، دعاهم إلى نبذ كلّ إله ليس الربّ، أو على الأقلّ لأن يكونوا صريحين في إيمانهم وهُم يختارون إمّا الإله الحقيقيّ وإمّا آلهة الأموريّين، بشكل يكون فيه الفرق واضحاً بين أبناء إبراهيم وأولئك المتمسّكين بالوثنيّة.
الخطأ المقصود أفضل على الدوام مِن المجاهرة بالإيمان بنفاق، أو مِن مزيج مِن العقائد يكون خِزياً لله وموتاً للنّفوس. وما مِن شيء أكثر سهولة وأكثر شيوعاً مِن هذا المزيج. الظَّاهِر فيه صالح، أمّا ما وراء الحقيقة، فلا يساوي شيئاً. دائماً أيّها الأبناء، دائماً. فالمؤمنون الذين يَخلطون ما بين التقيّد بالشريعة وبما تُحرِّمه، هؤلاء المغضوب عليهم، الذين يتردّدون مِثل أناس سُكارى بين الوفاء للشريعة ومصالح السّوق والتورّط مع الذين ليسوا تحت الشريعة، الذين يأملون الاستفادة منها، هؤلاء الكَهَنَة أو الكَتَبَة أو الفرّيسيّين الذين لم تعد خدمة الله هدف حياتهم، بل هي سياسة ماكرة للتغلّب على الآخرين والحصول على كلّ سُلطة على آخرين هُم أكثر نزاهة منهم، فقط لأنّهم خُدَّام، إنّما ليس لله، بل لِسُلطة يَعلَمون أنّها قويّة وثمينة للأهداف التي يَلهَثون وراءها، وهُم ليسوا سوى مُرائين يَخلطون إلهنا بآلهة غريبة.
أمّا الشعب فقد أجاب يشوع: "حاشى لنا أن نتخلّى عن الله الحقيقيّ لخدمة آلهة غريبة". وحَدَّثَهم يشوع بما حَدَّثتُكم به أنا في الأمس القريب عن كبرياء الآب المقدّس، حول إرادته بأن يكون محبوباً دون سِواه، بكلّ كياننا، وعن عدله في معاقبة الكاذبين. معاقبة! يمكن لله أن يُعاقِب كما يمكنه أن يُكافِئ. ليس الموت ضرورة للحصول على المكافأة أو العقاب. انظر أيّها الشعب اليهوديّ، بعد أن مَنَحَكَ الله الكثير بتحريركَ مِن الفراعنة وقيادتكَ سليماً معافىً عَبْر الصحراء وحمايتكَ مِن فِخاخ الأعداء، وبالسّماح لكَ بأن تصبح دولة كبيرة ومُحترَمَة وغنيّة بالأمجاد، أفلم يعد ليعاقبكَ بعدها مرّة واثنتين، بل عشر مرّات على أخطائكَ؟ انظر إلى ما آلت إليه حالكَ الآن! وأنا الذي أراكَ تتدهور في عبادة الأصنام الأكثر تدنيساً للقدسيّات، أرى كذلك إلى أيّة هاوية ستنحدر بسبب تَعَنُّتكَ وعِنادكَ في الوقوع دائماً في نفس الأخطاء. ولأجل ذلك أُذكِّركَ، أيّها الشعب الذي أنتَ شعبي مرّتين، مرّة لأنّني الفادي، وأخرى لأنّني وُلِدتُ مَلِكاً. وإن يكن تذكيري صارماً، فهو ليس مِن قبيل الحقد ولا الضغينة ولا التشدّد، بل رغم كلّ هذا هو حبّ وَوِداد.
حينئذ قال يشوع: "أنتم شهود على أنفسكم أنّكم قد اخترتم الربّ"، وأجاب الجميع: "نعم". ويشوع الذي كان حكيماً إلى جانب كونه شُجاعاً، وعَارِفاً مدى ضُعف الإرادة البشريّة، كَتَبَ عبارات الشريعة والعهد في سِفر ووَضَعَه في الهيكل، وفي قُدس الربّ هذا، في شكيم [نابلس]، الذي كان يحوي، بالمناسبة، تابوت العهد، وَضَعَ كذلك حجراً كبيراً للشهادة قائلاً: "هذا الحجر الذي سَمِعَ الأقوال التي نَطَقَ لسانكم بها للربّ سيبقى هنا للشهادة، لكيلا تتمكّنوا مِن إنكار كلامكم والكذب على الربّ إلهكم".
الصخرة، مهما عَظُمَت ومهما قَسَت، فبإمكان الإنسان تحويلها إلى غبار، كما يمكن للصاعقة كذلك ولعوامل حَتّ الماء والزمن. أمّا أنا، فإنّني حجر الزاوية والأزليّ، ولا يمكن أن يعتريني التَّلَف. فلا تكذبوا على هذا الحجر الحيّ. لا تحبّوه فقط لأنّه يجتَرِح المعجزات. بل أحبّوه لأنّكم به تَطالون السماء. إنّني أريدكم أكثر روحانيّة وأكثر وفاء للربّ. لا أقول لي. فأنا لا وجود لي إلّا لأنّني صوت الآب. فعندما تدوسونني تَجرحون الذي أَرسَلَني. أنا الوسيط. وهو كلّ شيء. تَقَبَّلوا منّي واحفظوا فيكم ما هو مُقدَّس لتلتقوا الله. لا تحبّوا الإنسان فيَّ، بل أَحِبّوا مَسيّا الربّ. ليس مِن أجل المعجزات التي يَجتَرِح، بل لأنّه يريد أن يَجتَرِح فيكم معجزة تقدّيسكم الحميمة والسّامية.»
يُبارِك يسوع ويتوجّه صوب البيت. وما كاد يَصِل إلى العَتَبَة حتّى استَوقَفَه رِجال مُسنّون ليحيّوه بإجلال ويقولوا له: «هل يمكننا أن نسألكَ، يا سيّد؟ إنّنا تلاميذ ليوحنّا، وبما أنّه يتحدّث عنكَ على الدوام، وبما أنّ شُهرة معجزاتكَ قد وَصَلَت إلينا، فقد أردنا التعرّف إليكَ. والآن، ونحن نسمعكَ، خَطَرَ على بالنا سؤال.»
«اسألوا، فإذا كنتم تلاميذ يوحنّا فأنتم على طريق العدل والاستقامة.»
«لقد تَحدَّثتَ في مجرى كلامكَ عن عبادات الأصنام الاعتياديّة لدى المؤمنين، وأنّ هناك، فيما بيننا، أناس يُمارِسون تجارتهم بين الذين هُم تحت الشريعة والذين هُم خارج الشريعة. وأنتَ في هذه الأثناء صديقهم كذلك. إنّنا نَعلَم أنّكَ لا تستخفّ بالرومانيّين ولا تزدريهم. إذن؟»
«أنا لا أُنكِر ذلك. إنّما هل يمكنكم حينئذ القول إنّني أفعل ذلك لأستفيد منهم؟ هل يمكنكم القول إنّني أَتملَّقُهم لأحصل فقط على حمايتهم؟»
«لا، يا معلم، وإنّنا لأكثر مِن مُتأكِّدين. ولكنّ العالم ليس مُقتَصِراً فقط علينا، نحن الذين لا نريد أن نعتقد بِشَرّ غير الذي نراه، وليس بالشرّ الذي حُدِّثنا عنه للتوّ. والآن، حَدِّثنا أنتَ عن الأسباب والمبرّرات التي تجعل معاشرة الوثنيّين جائزة ومقبولة، لتقودنا، وندافع عنكَ إذا ما افتروا عليكَ بحضورنا.»
«يكون الاحتكاك بهم شرّاً، عندما لا يكون إلّا لغاية بشريّة. وهو ليس شرّاً حينما يكون القصد مِن معاشرتهم هو جَلبهم إلى الربّ إلهنا. وهذا هو ما أَفعَله أنا. ولو كنتم وَثنيّين لأَطَلتُ في الكلام لأشرح لكم كيف أنّ كلّ إنسان إنّما يأتي مِن الإله الأوحد. ولكنّكم يهود وتلاميذ يوحنّا. إنّكم إذن صَفوة اليهود، وليس مِن الضروريّ أن أشرح لكم ذلك. يمكنكم إذن الإدراك والإيمان أنّ مِن واجبي، باعتباري كلمة الله، أن أحمل كلمته إلى كلّ الناس أبناء الأب الشامل.»
«ولكن، بما أنّهم وَثنيّون، فَهُم ليسوا أبناء...»
«بالنّعمة لا، هُم ليسوا كذلك. بإيمانهم الـمَغلوط، هُم ليسوا كذلك. هذا صحيح. ولكن إلى أن أفتدي الإنسان، فحتّى اليهوديّ يبقى فاقد النّعمة. وهو سيظلّ محروماً منها لأنّ الوصمة الأصليّة هي بمثابة السَّاتِر الذي يَصدّ شعاع النّعمة فائق الوصف، مانعاً إيّاه مِن الحلول في القلوب. إنّما بالخَلق فَيَظَلّ الإنسان ابناً للآب الذي مَنَحَه شَبَهَه الروحيّ.»
«هذه حقيقة. سؤال آخر يا معلم. لماذا تلاميذ يوحنّا يصومون أصواماً كبيرة بينما لا يفعل تلاميذكَ ذلك؟ نحن لا نقول إنّه لا ينبغي لكَ أن تأكل، فحتّى النبيّ دانيال كان قِدّيساً في عينيّ الله مع كَونه ذا شأن عظيم في قصر بابل، وأنتَ أعظم منه. إنّما هُم...»
«في أغلب الأحيان، ما يمكن الحصول عليه بالشدّة، يمكن الحصول عليه بالمودّة. هناك مَن لا يأتون مطلقاً إلى المعلّم، فينبغي للمعلّم أن يذهب إليهم. وآخرون يأتون إلى المعلّم، ولكنّهم يَخجَلون مِن التواجد بين الجمع. وهؤلاء أيضاً ينبغي للمعلّم أن يمضي إليهم. ولأنّهم يقولون لي: "كُن ضَيفي لأتمكّن مِن التعرّف عليكَ". فَأَذهَب إليهم، آخذاً بعين الاعتبار، ليس مُتعة مائدة عَامِرة، ولا مناقشات هي بالنسبة إليَّ مُضنية للغاية، إنّما دائماً وأبداً مصلحة الله وفائدته. هذا بالنسبة إليَّ. وبما أنّ نَفْساً واحدة، على الأقل، ممّن أتقرّب إليها بهذا الشكل تهتدي، وكلّ اهتداء هو عُرس لنفسي، هو عيد عظيم يُشارِك فيه كلّ ملائكة السماء، ويباركه الله الأزليّ، فهكذا تلاميذي الذين هُم أصدقائي أنا العروس، يَحتَفِلون مع العروس صديقهم. أفتريدون رؤية الأصدقاء يعانون الألم بينما أنا أحتفل؟ وفي الوقت الذي أنا معهم فيه؟ ولكن سيأتي الوقت الذي لا أكون فيه معهم. حينذاك يَصومون الأصوام الكبيرة. في الأزمنة الحديثة وبِطُرُق حديثة. فحتّى الأمس: مع المعمدان كان رماد التوبة. أمّا اليوم، في يومي، فإنّه مَنّ الفِداء اللذيذ، مَنّ الرحمة والحبّ. لا يمكن للأساليب القديمة أن تُضاف إلى عملي، كما أنّ أساليبي لم تكن قد وُضِعَت مَوضع العمل آنذاك، حتّى الأمس، ذلك أنّ الرحمة لم تكن قد حَلَّت بعد على الأرض، بينما الآن فهي عليها. وليس للنبيّ، بل لمَسيّا أُعطي كلّ سلطان مِن الله وهو على الأرض. ولكلّ زمن ما يناسبه. ولا أحد يَخيط رُقعة جديدة في ثوب بالٍ، إذ فيما بعد، خاصة أثناء الغسيل، يَنكَمِش النسيج الجديد ويُمزِّق القديم، ويتوسّع الخَّرق. وكذلك لا تُوضَع الخَمر الجديدة في زِقاق عتيقة، لأنّ الخمر تجعل الزِّقاق القاصرة عن تحمّل جَيَشَان الخمر الجديدة تتشقّق، فَتُراق تلك خارجاً. أمّا الخمر العتيقة التي تكون قد عَملت عَمَلَها، فنضعها في زِقاق عتيقة، والخمر الجديدة في زِقاق جديدة. إذ ينبغي موازنة قوّة مع أخرى، من المفروض أن تكون مُساوِية لها. هكذا هو الوضع الآن. قوّة الـمَذهَب الجديد تَفرض أساليب جديدة مِن أجل انتشاره. وأنا الذي أَعلَم، أَستَخدمها.»
«شكراً لكَ يا سيّد. لقد سَعِدنا الآن. صَلِّ لأجلنا. فنحن أزِقّة عتيقة، هل يمكننا تحمّل قوّتكَ؟»
«نعم، لأنّ المعمدان قد صَبَغَكم، ولأنّ صلواته، بالاتّحاد مع صلواتي، تمنحكم هذه الإمكانيّة. امضوا وسلامي معكم، وقولوا ليوحنّا إنّني أُباركه.»
«ولكن... حسب رأيكَ، هل الأفضل لنا أن نبقى مع المعمدان أم أن نبقى معكَ؟»
«طالما تُوجَد الخمر الـمُعتَّقة، فَمِنَ الأشهى شربها، لأنّ في ذلك متعة أكبر للتذوّق. أمّا فيما بعد، لأنّ الماء العَكِر الملوَّث الموجود في كلّ مكان يجعلكم تشمئزّون، فسوف تحبّون الخمر الجديدة.»
«هل تعتقد بأنّه سوف يُلقى القبض على المعمدان مِن جديد؟»
«بكلّ تأكيد. ولقد أَرسَلتُ له تحذيراً بهذا الشأن. هيّا، هيّا استمتِعوا بيوحنّا الذي لكم قَدْرَ ما تستطيعون، وأَرضُوه. أمّا فيما بعد فسوف تحبّونني أنا. وهذا كذلك سيكون مُضنياً بالنسبة إليكم... إذ لا أحد، بعد أن يتذوّق الخمر الـمُعتَّقة، يرغب مباشرة بالخمر الجديدة. إنّه يقول: "الخمر العتيقة كانت أفضل". وبالفعل، سوف يكون لي طعم خاصّ يبدو لكم لاذعاً. ولكنّكم تتعوّدون مع الزمن على ذلك الطعم الحيّ.
الوداع يا أصدقاء. ليكن الله معكم.»