ج7 - ف227
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
227- (يسوع ينتظر يهوذا الإسخريوطيّ الفاسق)
14 / 11 / 1946
نوبة بأسرها لا تزال نائمة. إنّها طلائع نور النهار. إنّ للفجر، في نور الشتاء الخافت، رقّة ظِلال خياليّة. فهو ليس النور الأخضر الفضّيّ للفجر الصيفيّ، الّذي يتبدّى سريعاً، ويستحيل ذهبياً باهتاً، ومِن ثمّ أحمراً متزايداً باضطراد. بل هو أخضر اليشب، مغشّى برماديّ أزرق خفيف جدّاً، تدلّ عليه عند الشرق نصف دائرة صغيرة، واطئة عند حدود الأفق: نقطة محجوبة الضياء، تقريباً خامدة، مثل لهب كبريت شاحب مشتعل خلف ستار دخان مُبْيَضّ. ويتعثّر في التمدّد في السماء، الّتي لا تزال رماديّة، على الرغم مِن أنّها صافية ونجومها ما زالت تنظر إلى العالم. إنّه يتعثّر في طرد اللون الرماديّ لإفساح المجال للونه الثمين مِن يشب شاحب وكوبالت سماء فلسطين الأزرق النقيّ. إنّه يبدو، وقد توقّف عند حدود الشرق، خَجِلاً ومتخوّفاً مِن البرد. إنّه ما زال يتباطأ هناك، مُوسّعاً قليلاً نصف دائرة ضيائه الكبريتيّ، والمخفَّف قليلاً مِن الأخضر إلى الأبيض المغشّى بمسحة لون أصفر، حين يلغيه لون ورديّ مفاجئ، والّذي يحرّر السماء مِن حجاب الليل الأخير ويجعلها نقيّةً وثمينةً كما لو أنّها قُبّة مِن أطلس [ساتان] بلون الياقوت، ونار تتأجّج في الأفق البعيد، كما لو أنّ جداراً قد سقط كاشفاً أتوناً مضطرماً. إنّما أهي نار أم ياقوتة مشتعلة بنار خفيّة؟ لا. إنّها الشمس الّتي تشرق. ها هي. إنّها لم تكد تبزغ مِن وراء قوس الأفق، حتّى وجدت سبيلاً كي تصبغ ندفة سُحُب بلون ورديّ مرجانيّ، وتُحيل إلى ماسات قطرات الندى على قمم الأشجار دائمة الخضرة. إنّ لشجرة بلوط شاهقة، عند طرف البلدة، حجاب ماسات على أوراقها البرونزيّة الموجّهة نحو الشرق. إنّها تبدو مثل نجوم كثيرة تخفق بين أغصان تلك العملاقة الّتي تغوص قمّتها في السماء. ربّما، خلال الليل، نجوم قد انخفضت كثيراً فوق البلدة، لتهمس أسراراً سماويّة لسكّان نوبة، أو ربّما كي تعزّي بنورها النقيّ الإنسان، المستيقظ، الّذي يسير بصمت هناك فوق، على شرفة يوحنّا.
نعم، لأنّ يسوع هو الوحيد المستيقظ في نوبة النائمة بأسرها، ويروح ويجيء ببطء على شرفة المنزل الصغير، ذراعاه مشبوكتان تحت ردائه الّذي يلفّه بإحكام كي يحميه مِن البرد ويجعل له غطاء رأس أيضاً. وفي كلّ مرّة يصل يسوع إلى أحد أطراف الشرفة، ينظر إلى الخارج، منحنياً ليرى الشارع الّذي يمرّ بوسط البلدة. الشارع لا يزال شبه معتم، مقفر، صامت. ومِن ثمّ يستأنف مسيره مجيئاً وذهاباً، مجيئاً وذهاباً، على مهل، بصمت، محنيّ الرأس أغلب الوقت، متأمّلاً، مراقباً في بعض الأحيان السماء الّتي تنير باضطراد، وألوان الشروق والفجر المبهمة، أو متابعاً بنظره الطيران الخافق لأوّل عصفور دُوري، قد أيقظه النور، والّذي يغادر قرميدة السقف المجاور الّتي تستضيفه، وينزل لينقد عند أسفل شجرة تفاح يوحناً الهَرِمة، ومِن ثمّ يطير مجدّداً، وقد رأى يسوع، بزقزقة خائفة توقظ العصافير الأخرى المعشّشة هنا وهناك.
مِن إحدى الحظائر يصل ثغاء نعجة ويتلاشى راجفاً في الهواء. ومِن الشارع يأتي صوت وقع خطوات متعجّلة.
يسوع ينحني لينظر. ومِن ثمّ يهرع نزولاً عبر الدرج الصغير، يدخل إلى المطبخ المعتم، ويعاود غلق الباب وراءه.
وقع الخطى يقترب، يتردّد الآن سمعه في البستان المحاذي للمنزل، يتوقّف أمام مدخل المطبخ، يد تَعمَل على القفل، تُدرِك أنّ المفتاح غير موجود، حينئذ تدير المزلاج الّذي يمكن تحريكه مِن الخارج كما مِن الداخل، وصوت يقول في ذات الوقت: «أيمكن أن يكون قد استيقظ أحدهم؟». أيضاً يد تفتح بحذر الباب دون جعله يُصدِر صريراً. رأس يهوذا الاسخريوطيّ يطلّ مِن الفتحة… ينظر… ظلام دامس. برد. صمت.
«لقد نسوا الباب مفتوحاً… ومع ذلك… كان يبدو لي مقفلاً… إنّما هو أمر بلا أهمّية!... الفقراء لا يُسرَقون. وليس مَن هو أكثر بؤساً منّا… إيه! إنّما لنأمل بألّا… يدوم الأمر هكذا. أين هي تلك القدّاحة اللعينة؟… إنّني لا أجدها… لو أنجح في إشعال النار… فقد تأخّرتُ في العودة، نعم، حقّاً لقد تأخّرت جدّاً… إنّما أين يمكن أن تكون؟ أيدٍ كثيرة تلمسها! على الموقد؟ لا… على الطاولة؟ لا… على المقاعد؟ لا… على الرفّ؟ كذلك لا… هذا الباب الـمُسوّس يُصدِر صريراً حين فتحه… خشب مسوّس… مفصّلات صَدِئة… كلّ شيء قديم، عَفِن، المكان رهيب هنا. آه! يا ليهوذا المسكين! ولا يوجد… سيتوجّب عليَّ بحقّ الدخول إلى عند العجوز...» لقد مضى، وهو يتكلّم، متلمّساً هنا وهناك، غير مرئي في العتمة، حَذِراً مثل سارق أو طائر ليليّ، لتجنّب العوائق الّتي يمكن أن تُصدِر ضجيجاً… يصطدم بجسد، ويُطلِق صرخة ذُعر مخنوقة.
«لا تخف. هذا أنا. والقدّاحة في يدي. ها هي. أَضِئ.» يقول يسوع بهدوء.
«أنتَ يا معلّم؟ ما الّذي كنتَ تفعله هنا وحدكَ، في العتمة، في البرد… حتماً سيكون هناك الكثير مِن المرضى اليوم، بعد يوم سبت ويومين ماطرين، إنّما لن يكونوا هنا باكراً جدّاً. إنّهم يهمّون الآن بالانطلاق مِن المدن المجاورة، فالآن فقط يمكن إدراك أنّها لن تمطر اليوم. وريح الليل قد جفّفت الطرق.»
«أعلم ذلك. إنّما أَضِئ مصباحاً. فلا يناسب الشرفاء التحدّث هكذا في الظلمات، بل اللصوص، الكَذَبَة، الفاسقين والقَتَلَة. إنّ شركاء الأفعال الشريرة يحبّون الظلمات. وأنا لستُ شريك أحد.»
«ولا أنا يا معلّم. كنتُ أريد أن أوقد ناراً جيّدة. ولأجل هذا قد نهضتُ باكراً… ماذا تقول يا معلّم؟ لقد تمتمتَ بشيء ما ولم أفهم.»
«فإذن أَضِئ.»
«آه! لقد رأيتُ أنّ الطقس جميل. لكنّه بارد. الجميع سوف يُسرّون بإيجاد نار جيّدة… هل نهضتَ لأنّكَ سمعتَني أتحرّك هنا، أم بسبب العجوز الّذي… لا يزال يعاني آلاماً؟ هو ذا! أخيراً! الصوفان والقدّاحة كانا يبدوان رطبين، لدرجة أنّهما لم يكونا يريدان إحداث شرارة… إنّهما مبلّلان...»
شعلة صغيرة ترتفع مِن فتيل مصباح، صغيرة، مرتجفة… لكنّها كافيةً لرؤية الوجهين: الوجه الشاحب للمسيح، الوجه الأسمر والوقح ليهوذا.
«الآن أُشعِل النار… إنّكَ شاحب كالميت. لم تنم! وبسبب ذلك العجوز! إنّكَ بغاية الطيبة.»
«هذا صحيح. أنا بغاية الطيبة. مع الجميع. حتّى مع أولئك الّذين لا يستحقّونها. لكنّ العجوز يستحقّها. إنّه شريف، واحد مِن القلوب الوفيّة. ومع ذلك، لم أسهر بسببه، إنّما لأجل واحد آخر. هذا صحيح. إنّ الصوفان والقدّاحة كانا رطبين، إنّما ليس بسبب كوب انقلب أو سائل آخر انسكب عن غير قصد، إنّما بسبب دموعي الّتي تساقطت فوقهما. هذا صحيح. إنّ الطقس جيّد، لكنّه بارد، والريح قد جفّفت الطرق، ومع ذلك فقد هطل الندى عند الفجر. المس ردائي. إنّه رطب منه. ومِن ثمّ حلّ الفجر كي يُظهِر الطقس الصافي، وحلّ النور ليُظهِر مكاناً فارغاً، وأتت شمس الفجر كي تجعل الندى يلمع على الأوراق والدموع على الرموش. هذا صحيح. اليوم سيكون هناك مرضى كُثُر، لكنّني لم أكن أنتظرهم هم، لقد كنتُ أنتظركَ أنتَ. فلأجلكَ سهرتُ طوال الليل. لأجلكَ صعدتُ إلى الشرفة، لعدم قدرتي على البقاء محبوساً هنا لانتظاركَ، كي ألقي للريح ندائي، كي أُظهِر للنجوم ألمي، للفجر دموعي. فليس العجوز المريض، بل الشاب الفاسق، التلميذ الّذي يهرب مِن المعلّم، رسول الله الّذي يفضّل الحمأة على السماء، والكذب على الحقيقة، هو ما أوقفني الليل بطوله لانتظاركَ. وعندما سمعتُ وقع خطواتكَ نزلتُ إلى هنا… كي أنتظركَ أيضاً. لا شخصكَ الّذي كان قريباً منّي ويتجوّل بحركات لصّ في المطبخ المظلم، بل شعوركَ… لقد انتظرتُ كلمة… ولم تُحسِن قولها حين شعرتَ بي واقفاً قبالتكَ. ألم يحذّركَ مَن تبيع روحكَ له مِن أنّني كنتُ أعلم؟ إنّما لا! هو لم يكن يستطيع أن يحذّركَ ولا أن يقترح عليكَ الكلمة الوحيدة الّتي كان يمكنكَ، الّتي كان عليكَ أن تقولَها، لو كنتَ بارّاً. واقترح عليكَ أكاذيب لم أكن لأطلبها، عبثيّة، مسيئة أكثر بعد مِن هروبك الليليّ. لقد اقترحها عليكَ وهو يبتسم هازئاً، سعيداً لأنّه أنزلكَ درجة أخرى، ولأنّه سبّب لي ألماً آخر. هذا صحيح. مرضى كُثُر سوف يأتون. لكنّ المريض الأعظم لن يأتي إلى طبيبه. والطبيب بذاته مريض ألماً بسبب هذا المريض الّذي لا يريد أن يشفى. هذا صحيح. كلّ شيء صحيح. كذلك أنّني تمتمتُ بكلمة أنتَ لم تفهمها. فهل تحزرها، بعد كلّ ما قلتُه لكَ؟»
يسوع تكلّم بصوت منخفض، إنّما حاسم ومؤلم وقاسٍ في الوقت ذاته، بحيث أنّ يهوذا، الّذي كان، مبتسماً، منتصباً، وقحاً، قريباً مِن يسوع، عند الكلمات الأولى، قد تراجع وانكمش شيئاً فشيئاً، كما لو أنّ كلّ كلمة كانت ضربة، فيما انتصب يسوع أكثر فأكثر، دَيّانّاً بحقّ، ومأساويّاً بحقّ في مظهره المؤلم.
يهوذا، الّذي هو الآن محاصر بين صندوق وزاوية حائط، يتمتم: «إنّما… لا أدري...»
«لا؟ إذن أنا أقولُها لكَ، لأنّني لا أخشى مِن قول الحقيقة. كاذب! هو ذا ما قُلتُه لكَ. وإذا ما كان الطفل الكاذب يُحتمل بعد، لأنّه لا يعلم مدلول الكذب، ويتمّ تعليمه الكفّ عن قوله، فإنّ ذلك لا يُحتمل لدى رجل، لدى رسول، تلميذ للحقّ ذاته، إنّه مقرف. مقرف تماماً. هو ذا سبب انتظاري لكَ الليل بطوله، وبكائي الّذي بلّل الطاولة، هناك، حيث كانت القدّاحة، وبعد ذلك بكيتُ ساهراً ومنادياً إيّاكَ مِن كلّ نفسي في ضوء النجوم، هو ذا لماذا أنا مبلّل بالندى مثل عريس نشيد الأناشيد [نشيد الأناشيد 5-2]. إنّما عبثاً تبلّل رأسي بالندى وخصلات شعري بقطرات الليل، عبثاً أطرق على باب نفسكَ وأقول لها: "افتحي لي، لأنّني أحبّكِ رغم أنّكِ لستِ دون عيب". لا بل بالضبط لأنّها ملطّخة، فإنّني أريد أن أدخلها وأطهّرها. بالضبط لأنّها مريضة، أريد أن أدخل لأشفيها. حذار يا يهوذا! حاذر مِن أن يبتعد العريس، إلى الأبد، ولا تعود تستطيع إيجاده… ألا تتكلّم يا يهوذا؟...»
«لقد فات الأوان للكلام مِن الآن فصاعداً! أنتَ قلتَ: إنّني أُقرِفكَ. أُطردني...»
«لا. البرص أنفسهم يقرفونني. لكنّني أشفق عليهم. وإذا ما نادوني أهرع وأطهّرهم. ألا تريد أن تكون مُطَهّراً؟»
«لقد فات أوان الكلام… وما مِن جدوى. إنّني لا أُحسِن أن أكون قدّيساً. أُطردني، أقول لكَ.»
«أنا لستُ أحد أصدقائكَ الفرّيسيّين، الّذين يَدْعون "نَجِسة" أموراً لا تحصى، ويهربون منها، أو يطردونها بقسوة، بينما بوسعهم تطهيرها بالمحبّة. أنا المخلّص ولا أطرد أحداً...»
صَمْت طويل. يهوذا لابث في زاويته، يسوع يسند ظهره إلى الطاولة، ويبدو واقفاً على قدميه بفضلها، متعباً، متألّماً… يهوذا يرفع وجهه. ينظر إليه بتردّد ويتمتم: «وإذا فارقتُكَ، فماذا ستفعل؟»
«لا شيء. أحترم إرادتكَ. مصلّياً لأجلكَ. إنّما بدوري أقول لكَ أنّكَ حتّى إن فارقتني، فقد فات الأوان مِن الآن فصاعداً.»
«على ماذا يا معلّم؟»
«على ماذا؟ أنتَ تعلم ذلك مثلي… أَشعِل النار الآن. إنّهم يسيرون فوق. لنخمد الفضيحة هنا، فيما بيننا. بالنسبة للجميع قد حظينا بفترة نوم قصيرة… وجمعتنا هنا رغبة دفء… أبتاه!...»
وفيما يُقرّب يهوذا الشعلة مِن الأغصان الموضوعة في الموقد وينفخ كيما تُوقِد الشعلة النشارة، فإنّ يسوع يرفع يديه فوق رأسه ومِن ثمّ يضغط بهما على عينيه.