ج6 - ف144

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

144- (عِظَة قرب ملاذ الأبرص)

 

29 / 06 / 1946

 

«ربّي!» يصيح الأبرص السابق، مرتمياً على ركبتيه ما أن يرى يسوع يَظهَر عند الأرض الحرجيّة أمام الملجأ الصخريّ، حيث عاش لأعوام كثيرة جدّاً. ومِن ثمّ يصيح مجدّداً فيما ينهض: «لماذا عدتَ إليَّ؟»

 

«كي أعطيكَ زاد الكلمة بعد زاد الصحّة.»

 

«إنّ الزّاد يُعطى لِمَن هو على وشك المغادرة، وأنا مغادر هذا المساء كي أتطهّر. ولكنّني سوف أُغادر كيما أعود وأنضمّ لتلاميذكَ، إذا ما قَبِلتَني. يا ربّ، ما عاد لديَّ منزل ولا أقرباء. وأنا عجوز كي أستأنف نشاطاً في المجتمع. سوف يُعيدون لي ممتلكاتي. إنّما كيف سيكون عليه حال منزلي بعد خمسة عشر عاماً مِن الإهمال؟ ما الذي سوف أجده هناك؟ ربّما جدراناً متداعية... أنا طير بلا عشّ. اسمح لي أن أنضمّ إلى المجموعة التي تتبعكَ. وفوق كلّ ذلك... لأنّني ما عُدتُ أنتمي لنفسي، بل أنتمي إليكَ بسبب ما منحتَني إيّاه، أنا ما عُدتُ أنتمي للعالم، الذي نبذني لزمن طويل، وكان محقّاً لأنّني كنتُ نَجِساً. أمّا الآن، وبعدما عرفتكَ، فأنا مَن يرى العالم نجساً، وأريد أن أهجره كي آتي إليكَ.»

 

«وأنا لن أرفضكَ. إلّا أنّني أقول لكَ بأنّني أودُّ منكَ أن تبقى في هذه المنطقة. إنّ لعِرى وأربيلا ابن مِن أبنائهما الذي هو تلميذ ويُبشّر فيهما. وأنا أطلب منكَ أن تكون ذاك التلميذ لإيبّو، لجَمَلا، لأَفِيقَ والقرى المجاورة. عمّا قريب سوف أتّجه نزولاً إلى اليهوديّة ولن أعود إلى هذه المنطقة مجدّداً. ولكنّني أريد أن يكون هنا بعض المبشِّرين.»

 

«إنّ مشيئتكَ تجعل كلّ تخلٍ عزيزاً عليَّ. سوف أفعل ما تشاء. سوف أُباشر حالما ينتهي التطهير. لقد كنتُ عازماً على ألّا أعير منزلي أيّ اهتمام. أمّا الآن فعلى العكس، فسوف أُرمّمه، كي أستطيع أن أقيم وأن أستقبل فيه خلال الشتاء النُّفوس الراغبة بمعرفتكَ. وسوف أطلب مِن أحد التلاميذ الذين تبعوكَ لسنوات أن يأتي معي، فإذا ما كنتَ تريدني أن أكون معلّماً صغيراً، فسأكون بحاجة لأن أتعلّم مِن شخص يعرف أكثر منّي. وفي الربيع سوف أتجوّل مبشّراً باسمكَ كما الآخرين.»

 

«إنّها خطّة جيّدة. الله سوف يساعدكَ على تحقيقها.»

 

«لقد بدأتُ فعلاً بتنفيذها، بإحراق كلّ ما كان لديَّ: أي، سريري البسيط، والأواني التي استخدمتُها، الثياب التي كنتُ ألبسها حتّى البارحة، كلّ شيء كنتُ قد لمستُه بجسدي المريض. إنّ المغارة التي عشت فيها قد اسودّت بسبب دخان النار التي أشعلتُها فيها لأُتلف وأُطهِّر. وما مِن أحد سوف يُصاب بالعدوى إذا ما دخلها كي يحتمي في ليلة عاصفة. ومِن ثمّ... (صوت الرجل يضعف، إنّه تقريباً يتقطّع، كلامه يتباطأ...) ومِن ثمّ... لديَّ صندوق قديم، قد أصابه الاهتراء... التسوّس...  يبدو أنّ البرص قد نَخرَه هو أيضاً... إنّما بالنسبة لي... فقد كان أغلى مِن كلّ ثروات العالم... فقد احتوى الأشياء الأغلى على قلبي... تذكارات مِن أُمّي... وِشاح زفاف عزيزتي حنّة... آه! فبعد أن، وبسعادة غامرة، كنتُ قد رفعتُهُ عن وجهها في أمسية زفافنا، وتأمّلتُ وجهها، الذي كان بجمال ونقاء الزنبق، مَن كان ليظنّ أنّه بعدها بسنوات كان عليَّ أن أراه مغطّىً بالقروح! و... ثياب أولادي... ألعابهم... التي لعبوا بها بأيديهم الصغيرة طالما كانت قادرة على إمساكها... شيء... و... آه! إنّ حزني شديد... اغفر لي دموعي... إنّه أمر شديد الإيلام الآن وقد أحرقتُها كما تقتضي الاستقامة... دون أن أكون قادراً على تقبيلها بعد... لأنّها كانت عائدة لبرص... أنا لستُ مُنصِفاً يا ربّ... إنّني أُظهِر لكَ دموعاً... إنّما تحمّلني... فقد أتلفتُ آخر ذكرى عنهم... والآن أنا كشخص تائه في الصحراء...» الرجل ينهار باكياً قرب كومة الرماد، كلّ ما تبقّى مِن ماضيه…

 

«أنتَ لستَ تائهاً يا يوحنّا، وأنتَ لستَ وحيداً. أنا معكَ. وأعزّاؤكَ سوف يكونون قريباً بصحبتي، في السماء، بانتظاركَ. هذه البقايا التي كانت تذكّركَ بهم وقد شوّههم المرض، أو عندما كانوا مَرِحين وأصحّاء قبل الفاجعة. إنّها كلّها ذكريات ألم. اتركها في رماد النار. الغها بتأكيدي لكَ بأنّكَ سوف تجدهم بغاية السعادة والجمال في فرح السماء. الماضي قد مات يا يوحنّا. لا تبكِ عليه بعد. فالنور لا يُبطئ كي يتأمّل عتمة الليل، ولكنّه يكون فَرِحاً بأن ينفصل عنها ويسطع فيما يتّجه صعوداً إلى السماء في إثر الشمس كلّ صباح. والشمس لا تطيل البقاء في الشرق، ولكنّها ترتفع، تقفز وتندفع إلى أن تسطع عالياً في قبّة السماء. إنّ ليلكَ قد انتهى. انسَهُ. ارتفع بروحكَ إلى الأعالي هناك، حيث أنا، النور، سوف أقودكَ، عبر رجاء عذب وإيمان جميل، وسوف تجد الفرح بانتظاركَ هناكَ، لأنّ محبّتكَ سوف تكون قادرة على الاتّصال بالله وبأحبّائكَ الذين ينتظرونكَ. إنّه ليس سوى تسلّق سريع... وسرعان ما ستكون هناك، معهم. الحياة هي كما نفخة هواء... أمّا الأبديّة فهي الوجود الأزليّ.»

 

«إنّكَ على حقّ يا ربّ. إنّكَ تعزّيني وتعلّمني كيف أتغلّب على هذه الساعة ببرّ... إنّما أنتَ تقف تحت الشمس، كي تكون قريباً منّي لأقصى حدّ مسموح لكَ به. تراجع يا معلّم. لقد مَنحتَني ما يكفي. لأنّ الشمس، وقد باتت حادّة، يمكن أن تؤذيكَ.»

 

«لقد أتيتُ كي أبقى معكَ. لقد أتينا كلّنا مِن أجل ذلك. إنّما أنتَ أيضاً بإمكانكَ التوجّه نحو الأشجار وسوف نكون قريبين مِن بعضنا مِن دون أن يكون هناك أيّ خطر.»

 

الرجل يطيع مُغادِراً الصخرة التي توجد عند أسفلها كومة الرماد، ماضيه، ويتّجه صوب المكان الذي يتوجّه إليه يسوع، حيث الرُّسُل، المتأثّرون بشدّة، موجودون مع النسوة وأهل القرية وأولئك الذين قَدِموا مِن البلدات الأخرى كي يَسمَعوا المعلّم.

 

«أَشعِلوا النار لشيّ السمك. سوف نتشارك الطعام في وليمة حبّ» يأمر يسوع.

 

وفيما الرُّسُل يقومون بذلك، فإنّ يسوع يقوم بجولة تحت الأشجار التي نمت بطريقة فوضويّة في هذا المكان، الذي تجنَّبَه الجميع بسبب وجود الأبرص. تَشابُك بريّ كثيف لأشجار لم تمسّها سكاكين التقليم أو الفؤوس منذ أن بدأت بالنموّ. الناس الذين يتألّمون أو المحزونون هُم في ظلّ دغل ملائم، وهم يتحدّثون مع يسوع عن مشاكلهم، ويسوع يشفي، ينصح أو يعزّي، بصبر وسلطان. وإلى أبعد مِن ذلك قليلاً، في مرج صغير، طفل كفرناحوم يلعب مع أطفال القرية، وصيحاتهم الفَرِحَة تُنافِس تغريدات الطيور الكثيرة بين الأشجار الكثيفة، فيما ثياب الأطفال المتعدّدة الألوان، تتماوج فيما يتراكضون فوق العشب الأخضر، فيبدون كما لو أنّهم فراشات كبيرة تتنقّل بين زهرة وأخرى.

 

الطعام جاهز، ينادون يسوع. يسوع يطلب بلطف مِن أحد البستانيّين سلّة كان قد جَلَبَ فيها بعض التين والعنب، ويملأها بالخبز، وبأفضل الأسماك، بفواكه شهيّة، ويضيف مطرة الماء المحلّى بالعسل الخاصّة به، ويستدير عائداً نحو الأبرص السابق.

 

«ستبقى بلا مطرة ماء يا معلّم» يقول برتلماوس لافتاً انتباهه. «فهو لا يمكنه إعادتها لكَ.»

 

ويسوع يُجيب مبتسماً: «ما زال هناك ماء كثير لعطش ابن الإنسان! هناك الماء الذي وضعه الآب في الآبار العميقة. ويمكن لابن الإنسان أن يشرب مستعيناً براحتيّ يديه، فيما لا تزالان حرّتين... وسيأتي اليوم حيث لن تعود يداي حرّتين، ولن يكون لديَّ ماء... ولا حتّى ماء المحبّة لإطفاء ظمأ العطشان... أمّا الآن فهناك الكثير مِن المحبّة حولي...» ويمضي حاملاً بكلتا يديه السلّة الواطئة والمدوّرة والعريضة، ويضعها على العشب على بُعد بضعة أمتار مِن يوحنّا قائلاً له: «خُذ وكُل. إنّها وليمة الله.»

 

ثمّ يعود إلى مكانه. إنّه يُقدِّم الطعام ويباركه ويوزّعه على الموجودين الذين يُضيفون ما جلبوه بأنفسهم. كلّهم يأكلون بشهيّة، بفرح مُسالِم، ومريم تعتني بحلفى الصغير بمحبّة أُموميّة.

 

وعندما تنتهي الوجبة، يقف يسوع بين الجمع والأبرص السابق، ويبدأ الكلام، فيما تضع الأُمّهات في أحضانهنّ أطفالهنّ المتخمين مِن الطعام والـمُنهَكين مِن اللّعب، ويهدهدن لهم كي يناموا حتّى لا يُسبِّبوا الإزعاج.

 

«أَنصِتوا كلّكم:

 

في مزمور لداود، يتساءل صاحب المزمور: "يا ربّ، مَن يَنزِل في مسكنكَ؟ مَن يَسكن في جبل قدسكَ؟" (مزامير 15: 3) ويتابع مُعدّداً مَن سيكونون أولئك المحظوظين ولماذا سيكونون كذلك. إنّه يقول: "السّالك بالكمال، والعامل بالحقّ، والمتكلّم بالصدق في قلبه. الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شرّاً بصاحبه، ولا يحمل تعييراً على قريبه." وببضعة أسطر، وبعد وَصف أولئك الذين سيدخلون إلى مُلكيّة الله، فإنّه يتحدّث عن أيّ خير فَعَلَته تلك النُّفوس المباركة بعدما عاشت بلا شرّ. هاكم: "الرذيل مُحتَقَر في عينيه، ويكرِّم خائفي الربّ. يحلف للضرر ولا يغيّر. فضّته لا يعطيها بالربا، ولا يأخذ الرشوة على البريء." ويختتم: "الذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الدهر."

 

الحقّ أقول لكم بأنّ صاحب المزمور قد تكلّم بالحقّ، وأؤكّد بحكمتي بأنّ مَن يفعل تلك الأمور لن يتزعزع أبداً.

 

الشرط الأول لدخول ملكوت السماوات هو: "الحياة بلا خطيئة".

 

إنّما هل يستطيع الإنسان، ذلك الكائن الضعيف، أن يحيا بلا خطيئة؟ إنّ الجسد، العالم والشيطان، يُهيِّجون الشهوات، الانحرافات والكراهية باستمرار، ويبصقون رجاساتهم ليُدنِّسوا النُّفوس، وإذا ما كانت السماء مفتوحة فقط لأولئك الذين عاشوا بلا خطيئة أبداً منذ بلوغهم سنّ الرشد، لكانت قلّة قليلة جدّاً مِن البشر قد دخلت السماء، مثلما أنّ قلّة قليلة جدّاً مِن البشر يصلون إلى الموت دون أن يصابوا خلال فترة حياتهم بأمراض تتفاوت درجات خطورتها.

 

فإذن؟ هل تكون السماء هكذا مغلقة في وجوه أبناء الله؟ وهل يتوجّب عليهم أن يقولوا: "لقد خسرتُها (السماء)" عندما تتسبّب بسقوطهم هجمة شيطانيّة أو ثورة جسديّة عاصفة، ويَروا بأنّ نفوسهم قد تلطّخت بالخطيئة؟ ألن تعود هناك بعد مغفرة للخاطئ؟ ألن يمحو شيء اللطخة التي شوّهت الروح؟

 

لا تخافوا مِن إلهكم خوفاً جائراً. إنّه أب، والأب يمدّ يده دوماً لابنه الـمُحبَط، إنّه يعرض عليه المساعدة كي ينهض مِن جديد، إنّه يعزّيه بوسائل لطيفة بحيث لا يتحوّل إحباطه إلى يأس، بل أن يُثمِر تواضُعاً، ورغبةً في التكفير، ليعود مجدّداً إلى حبّ الآب الطاهر.

 

الآن. إنّ توبة الخاطئ، والإرادة الحقيقيّة للتكفير، المنبثقتين مِن محبّة صادقة للربّ، تغسلان لطخة الخطيئة، وتعيدان استحقاق المغفرة الإلهيّة. وحين يُتِمّ مَن يكلّمكم رسالته على الأرض، فإنّ الغفران الأكثر قوّة الذي سيناله لكم المسيح لقاء تضحيته، سوف يُضاف إلى غفران المحبّة، إلى التوبة والإرادة الصالحة. وبنفوس أنقى مِن نفوس أطفال كانوا قد وُلِدوا للتوّ، بل أكثر نقاءً -حيث مِن صدور أولئك الذين يؤمنون بي سوف تتدفّق أنهار ماء حيّ غاسلة أيضاً الخطيئة الأصليّة التي هي السبب الأوّل للضعف في الإنسان- سوف تكونون قادرين على التطلّع نحو السماء، نحو ملكوت الله، نحو مسكنه. لأنّ النعمة التي أنا على وشك أن أستعيدها مِن أجلكم سوف تُعينكم على ممارسة البرّ، الذي كلّما تمّت ممارسته أكثر، كلّما جَعَلَ الصلاح يزداد أكثر، وتلك الروح البلا عيب هي التي تمنحكم أن تَدخُلوا إلى فرح ملكوت السموات. سوف يَدخُله الأطفال وسوف يغتبطون به، بفعل الأفضليّة الممنوحة لهم بلا مقابل، حيث السماء هي فرح. إنّما سيدخله أيضاً الراشدون والمسنّون، أولئك الذين عاشوا، كافحوا، انتصروا، والذين سيضيفون إلى تاج النعمة (الفِداء) الناصع البياض، التاج المتعدّد الألوان لأعمالهم المقدّسة، لانتصاراتهم على الشيطان، على العالم وعلى الجسد، وعظيمة، عظيمة جدّاً ستكون غبطتهم كمُنتَصِرين، ستكون بغاية العظمة بحيث لا يتصوّرها إنسان.

 

كيف يُمارَس البرّ؟ كيف يُكتسب الانتصار؟ عبر الاستقامة بالأقوال والأفعال، مِن خلال المحبّة للقريب. الإقرار بأنّ الله هو الله، بعدم وضع أصنام المخلوقات والمال والسُّلطة مكان الله كليّ القداسة. بإعطاء كلّ واحد مكانه الصحيح، مِن دون السعي إلى إعطاء أكثر أو أقلّ ممّا هو مُنصِف. ومَن يُكرّم آخر لأنّه صديق أو قريب قادر، ويخدمه أيضاً في أعماله الشرّيرة، فهو ليس بارّاً. وأيضاً، الذي يؤذي قريبه لأنّه لا يأمل أن ينال منه منفعة مِن أيّ نوع، ويشهد ضدّه بالزور تحت القَسَم، أو أن يرتشي كي يشهد ضدّ البريء أو كي يَحكُم ضدّه، لا وفقاً للعدالة، وإنّما وفقاً لما سوف يجنيه بحكمه الظالم ممّن هو أكثر قوّة مِن بين المتخاصمَين. فهذا أيضاً ليس بارّاً، ولا قيمة لصلواته وتقدماته، لأنّها بعينيّ الله ملطّخة بالظلم.

 

بإمكانكم أن ترون بأنّ ما أقوله لكم هو الوصايا العشر. فكلام المعلّم هو دوماً الوصايا العشر. لأنّ الخير، البرّ، المجد، تتوقّف على فِعل ما تُعلِّمه الوصايا العشر وما تأمرنا به. لا توجد عقيدة أخرى. إنّها ذات العقيدة التي كانت قد أُعطِيَت في الأيّام الماضية وسط صواعق جبل سيناء، أمّا الآن فهي تُعطَى وسط تألّق الرحمة، ولكنّ العقيدة هي ذاتها. إنّها لا تتغيّر. إنّها لا يمكن أن تتغيّر. كثيرون في إسرائيل سوف يقولون، كَحِجّة، كي يُبرِّروا افتقارهم للقداسة، حتّى بعد أن يخطو المخلّص على الأرض: "لم تكن لديَّ الإمكانيّة كي أتبعه وأسمعه." لكنّ حججهم لا قيمة لها. لأنّ المخلّص لم يأتِ كي يفرض شريعة جديدة، بل كي يُثبّت الشريعة الأولى، الشريعة الوحيدة، لا بل كي يعيد التأكيد عليها، في اتّزانها المقدّس، في بساطتها الكاملة. كي يعيد التأكيد -بمحبّة، وبوعود محبّة الله الأكيدة- على ما قيل سابقاً بصرامة مِن جهة، وسُمِع بخوف مِن الجهة الأخرى.

 

وكي أجعلكم تفهمون بشكل صحيح ما هي الوصايا العشر ومدى أهمّية الالتزام بها فسوف أروى لكم الآن مَثَلاً:

 

كان لربّ عائلة ابنان. وكان يحبّهما على قدم المساواة، وكان يريد أن يكون مُنعِماً عليهما بالتساوي. هذا الأب، وعلاوة على المنزل الذي يَسكُن فيه ابناه، فقد كانت لديه أملاك مخبّأة فيها كنوز عظيمة. وكان الابنان يعلمان بوجود هذه الكنوز، إنّما لم يكونا يعلمان الطريق للذهاب إلى حيث هي موجودة، لأنّ الأب، ولأسباب خاصّة به، لم يَكشف لهما عن الطريق الذي يُوصِل إلى هناك، وقد بقي الوضع هكذا لسنوات كثيرة جدّاً. إنّما في أحد الأيّام نادى ابنيه وقال لهما:

 

"لقد آن الأوان الذي فيه يجب أن تَعرِفا أين هي الكنوز، والتي خبّأتُها مِن أجلكما، لتتمكّنا مِن الذهاب إلى هناك عندما أقول لكما. فَمِن الأفضل لكما معرفة الطريق والعلامات التي وضعتُها عليه كي لا تضلّا. فإذن أنصتا إليَّ. إنّ الكنوز ليست في سهل حيث تركد المياه، وأيّام القيظ حارقة، وحيث يُفسِد الغبار كلّ شيء، حيث الأشواك والعلّيق تَخنُق، وحيث اللصوص يستطيعون الوصول بسهولة ليسرقوكما. إنّ الكنوز هي على قمّة ذاك الجبل الوَعِر والعالي. لقد وضعتُها في الأعلى هناك، وهي بانتظاركما. يوجد أكثر مِن ممرّ على الجبل، في الواقع هناك الكثير مِن الممرّات. إنّما ممرّ واحد فقط هو الصحيح. أمّا الممرّات الأخرى فبعضها ينتهي بهوّة، وبعضها بمغارات لا مَخرَج لها، وبعضها في خنادق مليئة بماء مُوحِل، بعضها في جحور الأفاعي، بعضها على فوهات كبريت مشتعل، بعضها عند أسوار غير قابلة للاختراق. أمّا الممرّ الصحيح، وإن كان صعباً، لكنّه يصل إلى القمّة دون هوّات أو أيّة عراقيل أخرى تقطعه. وكي أجعلكُما تتمكّنان مِن معرفته، فقد وضعتُ على طوله، وعلى مسافات منتظمة، عشرة شاخصات حجريّة، وعلى كلّ منها قد حُفِرَت هذه الكلمات الثلاثة: 'محبّة، طاعة، انتصار'. اتبعا ذلك الممرّ وسوف تَصِلان إلى حيث الكنز. وأنا سوف آتي عبر طريق آخر، والذي أعرفه أنا وحدي، وسوف أفتح لكم الأبواب كي تكونا سعيدين."

 

وَوَدَّع الابنان أباهما، الذي طالما كانا يستطيعان سماع صوته فقد ظلّ يُردِّد باستمرار: "اتبعا الممرّ الذي أخبرتُكما عنه. إنّ ذلك مِن أجل مصلحتكما. لا تستسلما للوسوسات كي تتبعا الممرّات الأخرى، حتّى لو بدت أنّها أفضل لكما. فسوف تَفقُدانني أنا والكنوز..."

 

وها قد وَصَلا عند قاعدة الجبل. الشاخصة الحجريّة الأوّلى كانت هناك، عند بداية الممرّ، والذي كان وسط ممرّات عديدة تتشعّب صعوداً باتّجاهات مختلفة نحو قمّة الجبل. وبدأ الأَخَوان يَصعَدان الممرّ الصحيح. في البداية كان جيّداً، على الرغم مِن أنّه لم يكن هناك ولو القليل مِن الظلّ. والشمس كانت مُسَلَّطة عليه مِن السماء، غامرةً إيّاه بالنور والحرارة. إنّما فقط الصخر الأبيض حيث حُفِر الممرّ، والسماء الصافية فوقهما، والشمس الدافئة التي تطوّق جسديهما، هي كلّ ما كان الأخوان يريانه ويشعران به. إنّما وقد كانت الإرادة الصالحة وذكرى أبيهما ونصائحه تحفّزهما، فقد كانا يواصلان الصعود بفرح نحو القمّة. ثمّ ها هي الشاخصة الحجريّة الثانية... وبعدها الثالثة. ثمّ أخذ الممرّ يزداد صعوبة، وحشة، حرارة. إنّهما حتّى لم يعودا يريان الممرّات الأخرى حيث العشب والأشجار والمياه الصافية، وفوق ذلك، حيث كان الصعود أكثر سلاسة، لأنّ تلك الممرّات لم تكن شديدة الانحدار وكانت قد شُقّت على الأرض، وليس في الصخر.

 

"إنّ أبانا يريدنا أن نصل ميّتيَن" يقول أحدهما فيما يَصِلان إلى الشاخصة الحجريّة الرابعة. وقد بدأ يخفّ اندفاعه. الآخر يشجّعه على المتابعة قائلاً: "إنّه يحبّنا كنفسه، بل وأكثر، لأنّه حَفظ الكنز لنا بهذه الطريقة المذهلة. لقد حَفَرَ هذا الممرّ في الصخر، وهو يُوصِل مِن قاعدة الجبل إلى قمّته دون أيّ خطر مِن الضَّياع. وقد وَضَعَ هذه الشاخصات الحجريّة كي يرشدنا. فقط فَكِّر بذلك يا أخي! لقد فَعَلَ كلّ ذلك بنفسه، مِن أجلنا! كي يقدّمه لنا! كي يضمن أن نصل إلى هناك دونما احتمال ارتكاب الأخطاء أو التعرّض للخطر."

 

وتابَعا السير. لكنّ الممرّات الأخرى التي تجنَّبَاها في الأسفل قد عاودت الظهور مِن جديد بالقرب مِن ممرّهما الصخريّ، وكلّما أصبحا أكثر قرباً مِن القمّة، كلّما كان الجبل يضيق أكثر وكانت الممرّات الأخرى تصبح قريبة أكثر فأكثر. وكم كانت تلك الممرّات الأخرى جميلة وظليلة وجذّابة!...

 

"أعتقد بأنّني سأسلك واحدة مِن تلك" قال الشقيق المستاء حينما وصل عند الشاخصة السادسة. "فهي كذلك تمضي إلى القمّة."

 

"إنّ ذلك ليس مؤكّداً... فأنتَ لا تعرف فيما إذا كانت تتّجه صعوداً أم نزولاً..."

 

"ها هي، هناك فوق!"

 

"إنّكَ لا تعلم فيما إذا كانت هي ذاتها. وبكلّ الأحوال فقد قال لنا أبونا بألّا نغادر هذا الممرّ الصحيح..."

 

وتابع الأخ الـمُحبَط العزيمة الصعود على مضض. وعند الشاخصة السابعة قال: "آه! إنّني مُغادِر لا محالة."

 

"لا تفعل ذلك يا أخي!"

 

يُتابِعان صعود الممرّ، الذي أصبح الآن صعباً جدّاً، إنّما القمّة كانت قد أصبحت في متناول اليد...

 

ثمّ وَصَلا عند الشاخصة الثامنة وكان الممرّ الـمُزهِر قريباً جدّاً منها. "آه! ألا ترى بأنّ هذا الممرّ أيضاً يتّجه صعوداً، وإن لم يكن بخطّ مستقيم!"

 

"إنّكَ لا تعلم فيما إذا كان هو ذاته."

 

"بلى. أنا أعلم."

 

"إنّكَ تخطئ."

 

"لا. أنا ذاهب."

 

"لا تفعل. فَكِّر بأبينا، بالمخاطر، بالكنز."

 

"فليتلف الكلّ! ما الذي سأفعله بالكنز إذا ما وصلتُ إلى الأعلى ميّتاً؟ أيّ خطر يمكن أن يكون أكبر مِن خطورة هذا الممرّ؟ وأيّة كراهية ستكون أقوى مِن كراهية أبينا الذي خدعنا بهذا الممرّ كي يجعلنا نموت؟ وداعاً. سوف أصل قبلكَ، وَحَيّاً..." ويَقفِز إلى الممرّ المجاور، ويختفي خلف جذوع الأشجار الظليلة مُطلِقاً صيحة فرح.

 

أمّا أخوه فقد تابع طريقه بحزن... آه! إنّ آخر مقطع مِن المسار كان فظيعاً بحقّ! الرجل كان مُرهَقاً. لقد شَعَرَ بالإعياء مِن الإجهاد والحرّ! وعند الشاخصة التاسعة توقّف لاهثاً، مستنداً إلى الشاخصة الحجريّة، قارئاً الكلمات المحفورة بتلقائيّة. وبجواره كان هناك ممرّ ظليل، فيه ماء وزهور…

 

"أكاد أن... لا! إنّما مكتوب هناكَ، وأبي هو مَن كَتَبَ ذلك: 'محبّة، طاعة، انتصار'. يجب أن أؤمن بمحبّته، ومصداقيّته، وعليَّ أن أكون مطيعاً كي أُظهِر محبّتي... سوف أُتابع... إنّ محبّتي تساندني..." إنّه الآن عند الشاخصة العاشرة... مضنىً، محروقاً بالشمس، كان يمشي منحنياً كما لو كان تحت نير... لقد كان نير الوفاء للمحبّة المقدّسة، الذي هو محبّة، طاعة، صلابة، رجاء، برّ، حكمة، كلّ شيء... وبدلاً مِن أن يظلّ مُستَنِداً إلى الشاخصة، فقد جَلَسَ في الظلّ الضيّق الذي تُلقيه تلك الشاخصة على الأرض. لقد شَعَرَ بأنّه يموت... ومِن الممرّ المجاور كان يَصِل صوت جريان المياه وعَبَق النباتات... "أبي، ساعدني بروحكَ في هذه التجربة... ساعدني أن أكون وفيّاً حتّى النهاية!"

 

ومن البعيد كان الصوت الفَرِح لأخيه يصيح: "تعال، سوف أنتظركَ. إنّ عدن هي هنا... تعال..."

 

"وإذا ما ذهبتُ إلى هناك؟..." ويصيح بصوت عالٍ: "فهل هو حقّاً يصل إلى القمّة؟"

 

"نعم، تعال. يوجد نفق منعش يؤدّي إلى هناك. تعال! إنّني بالفعل أرى القمّة في نهاية النفق، في الصخر..."

 

"أأذهب؟ أم لا؟... مَن سيساعدني؟... سوف أذهب..." إنّه يضغط بيديه على الأرض كي يتمكّن مِن النهوض، وفيما يفعل ذلك فإنّه يُلاحِظ أنّ الكلمات المحفورة ليست واضحة كما كانت الكلمات المحفورة على الشاخصة الأولى. "عند كلّ نَصب كان يقلّ وضوح الكلمات... كما لو أنّ أبي، وقد أُنهِكَ، قد واجه صعوبة في حفرها. و... هاك!... ها هي هنا أيضاً العلامة الحمراء، التي كانت قد بدأت تظهر منذ الشاخصة الخامسة...الفرق الوحيد هو أنّها هنا تملأ كامل تجويف كلّ حرف، لا بل قد طَفَحَت، حافِرة الصخر كما لو أنّها دموع قاتمة، دموع... مِن دمّ..." ويحكّ بأصبعه بقعة واسعة بحجم يدين اثنتين. وتتفتّت البقعة كاشفة بوضوح عن هذه الكلمات: 'هكذا أحببتكما، إلى حدّ إراقة دمي كي أقودكما إلى الكنز.'

 

"آه! آه! أيا أبي! وأنا الذي قد بدأتُ أُفكّر بألّا أطيع وصيّتكَ؟! اغفر لي يا أبي. اغفر لي." وبكى الابن فوق الصخرة، واستعاد الدم الذي كان يملأ تجاويف الأحرف رونقه، وصار يبرق كالياقوت الأحمر، واستحالت الدموع زاداً وشراباً وقوّة للابن الصالح... لقد نَهَضَ... ومدفوعاً بالمحبّة فقد نادى أخاه بصوت عالٍ... كان يريد أن يَروي له عمّا اكتشفه... عن محبّة أبيهما، وقال له: "عُد". إنّما ما مِن مُجيب…

 

تابَعَ الشاب طريقه تقريباً على ركبتيه فوق الصخر الحارق، لأنّ جسده كان قد استُنفِذ مِن الإعياء، لكنّ روحه كانت في سلام. وها هي القمّة... وها هو أبوه.

 

"أبي!"

 

"ابني الحبيب!"

 

يرتمي الابن في حضن أبيه، وأبوه يضمّه ويقبّله بشغف.

 

"أأنتَ وحدكَ؟"

 

"نعم... لكنّ أخي سوف يكون هنا قريباً..."

 

"لا. هو لن يصل أبداً. فقد تَرَكَ طريق الوصايا العشر. وهو لم يَعُد إليه بعد تحذيرات الخيبات الأولى. أتريد أن تراه؟ ها هو هناك. في هاوية النار... لقد استمرّ بخطئه. لكنتُ سامحتُه وانتظرتُه فيما لو، وبعد أن أدرَكَ خطأه، قد عاد أدراجه، وإن متأخّراً، لقد كان قد مرّ حيث مرّت المحبّة أوّلاً، التي عانت إلى حدّ إراقة الأفضل مِن دمها، أعزّ جزء منها لأجلكما."

 

"لم يَكن يَعلَم..."

 

"لو كان قد نظر بمحبّة إلى الكلمات المحفورة على الشاخصات العشرة، لكان فَهِم معانيها الحقيقيّة. أنتَ فهمتَها منذ الشاخصة الخامسة، وقد نبّهتَه إليها عندما قلتَ: 'لا بدّ أنّ أبانا قد جَرَحَ نفسه هنا!' وقد تبيّنتَ ذلك عند الشاخصة السادسة، السابعة، الثامنة والتاسعة... بشكل أكثر فأكثر وضوحاً، حتّى اكتشفتَ بفطرتكَ ما كان تحت دمي. هل تعرف اسم تلك الفطرة؟ 'إنّها اتّحادكَ الحقيقيّ بي'. إنّ أنسجة قلبكَ، الممتزجة بأنسجتي، قد اختلجت وقالت لكَ: 'هنا ستحظى بمقياس مدى محبّة أبيكَ لكَ'. والآن، وقد كنتَ المحبّ، المطيع، المنتصر إلى الأبد، فانعَم بالكنز وبي."

 

ها هو الـمَثَل.

 

الشاخصات العشر هي الوصايا العشر. إلهكم حَفَرَها ووَضَعَها في الممرّ الذي يؤدّي إلى الكنز الأزليّ، وقد تألّم كي يقودكم إلى ذاك الممرّ. هل تتألّمون؟ الله يتألّم كذلك. هل عليكم أن تُجبِروا أنفسكم؟ الله كذلك. أتدرون إلى أيّ حدّ؟ إلى حدّ التألّم كي يفصل نفسه عن نفسه، والاضطرار إلى اختبار أن يكون كائناً بشرياً بكلّ المقاييس البشريّة: أن يُولَد، أن يُعاني مِن البرد، الجوع، الإعياء، التهكّم، المذلّة، الكراهية، المكائد، وأخيراً الموت، سَافِكاً كلّ دمه كي يمنحكم الكنز. إنّ الله الذي نَزَلَ ليخلّصكم يعاني كلّ ذلك. والله الذي في السموات يعاني ذلك، سامحاً لنفسه بأن يعانيها.

 

الحقّ أقول لكم بأنّه ما مِن إنسان، ومهما تكن الطريق التي يسلكها شاقّة كي يصل إلى السماء، سوف يسلك طريقاً أكثر مشقّة وإيلاماً مِن تلك الطريق التي على ابن الإنسان أن يسلكها كي يأتي مِن السموات إلى الأرض، ومِن الأرض إلى الفداء، كي يفتح أبواب الكنز لكم. إنّ دمي هو بالفعل على لوحيّ الشريعة. إنّ دمي هو ما أضعه على الدرب كعلامات مِن أجلكم. إنّ سيلان دمي هو الذي يفتح باب الكنز. إنّ نفوسكم تصبح طاهرة وقويّة عندما تتطهّر وتتغذّى بدمي. إنّما وكي لا يُراق عبثاً، فعليكم اتّباع طريق الوصايا العشر الراسخة.

 

لنرتح الآن. وعند مغيب الشمس سوف أمضي إلى إيبّو، ويوحنا سوف يذهب كي يتطهّر، وأنتم سوف تعودون إلى منازلكم. ليكن سلام الربّ معكم.»