ج6 - ف146

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

146- (نحو جَمَلا)

 

03 / 07 / 1946

 

الليل يهبط جالباً النسمات الباردة التي تُنعِش بعد الكثير مِن الحرّ، وأيضاً المغيب الذي يريح بعد الكثير مِن الشمس المتوهّجة.

 

يسوع يستأذن سكّان إيبّو باعتباره مُصمّماً تماماً على قراره بألّا يؤخّر المغادرة، كي يكون السبت في كفرناحوم.

 

إنّ الناس يتركونه على مضض، وبعض الأشخاص العنيدين يتبعونه حتّى خارج البلدة. بينهم المرأة التي مِن أَفِيقَ، الأرملة التي في القرية التي على البحيرة قد توسّلت إلى الربّ كي يختارها لرعاية الصغير حلفى، الذي لم تعد أُمّه تريده. لقد انضمّت إلى مجموعة النسوة التلميذات، كما لو أنّها كانت واحدة منهنّ، وهي قد أَصبَحَت الآن متآلفة معهنّ، إلى حدّ أنّهنّ أصبحن يعتبرنها واحدة مِن العائلة. إنّها الآن برفقة سالومة، والتي تتحدّث إليها بحماس إنّما بصوت خافت.

 

أمّا مريم فهي أبعد أكثر إلى الوراء مع كنّتها، وهما تضبطان خطواتهما على وقع خطوات الطفل الصغير الذي يسير بينهما وهما ممسكتان بكلتا يديه، والذي يُسلّي نفسه بالقفز فوق كلّ حجر مِن حجارة الطريق، التي ولكونها مرصوفة بانتظام، فلا بد أنّها طريق رومانيّة. وعند كلّ قفزة يضحك ويقول: «انظرا كم أنا ماهر؟ انظرا، انظرا ثانية!». إنّها لعبة أعتقد أنّ كلّ أطفال العالم قد لعبوها عندما كان يمسك بأيديهم أشخاص كانوا يدركون أنّهم مُولَعين بهم. والمرأتان القدّيستان اللتان تمسكان بيديه تُبدِيان اهتماماً كبيراً بلعبته وتمتدحانه لمهارته في القفز. الرفيق الصغير المسكين قد استردّ عافيته خلال بضعة أيّام مِن حياة مَحبّة مُسالمة، إنّ عينيه مبتهجتان كما تلك التي للأطفال السعداء، وضحكته فضّيّة الرنّة تجعله أكثر جمالاً، وفوق ذلك أكثر طفولة، فلم تعد له تلك الملامح للرجل الصغير الحزين، كما كان يبدو في المساء الذي غادر فيه كفرناحوم.

 

مريم التي لحلفى، تلاحظ الأمر، ولدى سماعها بعضاً مِن كلام سارة، الأرملة، فإنّها تقول لكنّتها: «ذلك سيكون رائعاً! أنا لو كنتُ مكان يسوع، لكنتُ عهدتُ لها بالصبيّ.»

 

«إنّ له أُمّاً يا مريم...»

 

«أُمّ؟ لا تقولي عنها كذلك! إنّ ذئبة لهي أكثر حناناً مِن تلك الشقيّة.»

 

«هذا صحيح. لكن حتّى ولو كانت لا تشعر بأيّة التزامات تجاه ابنها، فسيكون لها دوماً حقوق عليه.»

 

«همم (همهمة)! كي تعذّبه! انظري كم قد تحسّن!»

 

«أَعلَم ذلك. لكن... ليس ليسوع الحقّ بأن يأخذ الأطفال مِن أُمّهاتهم، ولا حتّى كي يعهد بهم إلى مَن يحبّونهم.»

 

«وأيضاً لا يحقّ للبشر أن... مِن الأفضل ألّا أقول المزيد. أنا أعرف ما الذي...»

 

«آه! لقد فهمتكِ... تعنين: البشر أيضاً لا يملكون الحقّ بأن ينتزعوا ابنكِ منكِ، إلّا أنّهم سيفعلون ذلك... إنّما بفعلهم لذلك -ولو أنّه عمل وحشيّ مِن وجهة نظر بشريّة- فسوف يجلبون خيراً مُطلقاً. أمّا في حالة الطفل، فعلى النقيض، فأنا لا أعلم إذا ما كان ذلك سيكون أمراً جيّداً للمرأة...»

 

«لكنّه سيكون أمراً جيّداً جدّاً للطفل. إنّما لماذا... قام بإخبارنا عن ذاك الأمر الرهيب؟ إنّني لم أعد أحظى بالسلام منذ أن سمعتُ به...»

 

«أوَلم تكوني تعلمين قبل ذلك أنّ على الفادي أن يتألّم ويموت؟»

 

«بالطبع أعلم! لكنّني لم أكن أَعلَم أنّه كان يسوع. لقد كنتُ مولعة به، أتعلمين؟ لقد أحببتُه أكثر مِن أولادي. وسيم جدّاً، طيّب جدّاً... آه! لقد حسدتُكِ عليه يا عزيزتي مريم عندما كان صبيّاً، وبعد ذلك دوماً... دوماً... حتّى نسمة الهواء كانت تقلقني، لئلّا تؤذيه، و... لا أستطيع التصديق بأنّه سوف يُعذَّب...» مريم التي لحلفى تبكي تحت وشاحها.

 

ومريم، الأُمّ، تعزّيها. «مريم، يا عزيزتي، لا تنظري للأمر مِن وجهة نظر بشريّة. فكّري بثماره... يمكنكِ تصوّر كيف أنظر إلى ضوء النهار وهو يتلاشى كلّ مساء... فعندما يختفي أقول: نَقَص يوم أخر أكون فيه مع يسوع... آه! يا مريم! رغم ذلك فإنّني أشكر العليّ على أمر واحد: أنّه مَنَحَني بلوغ المحبّة الكاملة، الكاملة إلى أقصى درجة يمكن لمخلوق أن يحبّ، لأنّ محبّة كهذه تَسمَح لي أن أشفي وأن أقوّي قلبي قائلة: "إنّ ألمه وألمي مفيدان لإخوتي، ولذلك فليكن الألم مباركاً." فإذا لم أكن أحبّ القريب إلى تلك الدرجة... لما كنتُ استطعت تحمّل فكرة أنّهم سوف يَقتلون يسوع...»

 

«إذن، أيّة محبّة هي محبّتكِ؟ إلى أيّة درجة يجب أن تصل محبّة أُمّ كي تقول تلك الكلمات؟ كي... كي لا تهرب بابنها، كي لا تدافع عنه وتقول لقريبها: "إنّ قريبي الأوّل هو ابني، وأحبّه فوق كلّ شيء."؟»

 

«مَن يجب أن يُحَبّ فوق كلّ شيء هو الله.»

 

«وهو الله.»

 

«إنّه يُتمّ مشيئة الآب، وأنا أُتمّها معه. أيّة محبّة هي محبّتي؟ أيّة محبّة يجب أن تكون كي يمكن قول تلك الكلمات؟ محبّة الانصهار مع الله، إتّحاد كامل، استسلام كلّي، أن نتلاشى فيه، ألّا نعود سوى جزء منه، كما أنّ يدكِ هي جزء منكِ وتفعل ما يأمر به عقلكِ. تلك هي محبّتي، وهكذا يجب أن تكون محبّتنا كي نُتِمّ دوماً مشيئة الله عن طيب خاطر.»

 

«إنّما أنتِ هي أنتِ. إنّكِ المباركة بين كلّ المخلوقات. وحتماً قد كنتِ كذلك حتّى قبل أن تحصلي على يسوع، لأنّ الله قد اختاركِ كي تحصلي عليه، وإنّه لَمِن السهل عليكِ...»

 

«لا يا مريم. أنا امرأة وأُمّ مثل كلّ امرأة وأُمّ. إنّ هبة الله لا تلغي المخلوقة. إنّها بشريّة مثلها مثل الأُخريات، ولو أنّ الهبة قد مَنَحَتها روحانيّة شديدة القوّة. لقد صرتِ تعلمين الآن أنّه كان عليَّ قبول الهبة بإرادتي الحرّة، مع كلّ العواقب التي تنطوي على قبول كهذا. لأنّ كلّ هبة إلهيّة هي غبطة عظيمة، إنّما هي أيضاً التزام عظيم. والله لا يُجبِر أيّ إنسان على قبول هباته، بل يسأل الإنسان، وإذا ما أجاب الأخير بـ: "لا" للصوت الروحانيّ الذي يكلّمه، فإنّ الله لا يُرغِمه. إنّ الله يسأل كلّ نَفْس على الأقلّ مرّة واحدة خلال حياتها فيما إذا...»

 

«آه! أنا لم أُسأل! إنّه لم يسألني أيّ شيء أبداً!» تهتف مريم التي لحلفى بثقة.

 

العذراء المباركة تبتسم بلطف وتجيب: «إنّكِ لم تلاحظي ذلك، ونَفْسكِ كانت قد أجابت دون أن تُدركي ذلك، ومبرّر ذلك هو أنّكِ بالفعل تحبّين الربّ كثيراً.»

 

«أؤكّد لكِ أنّه لم يكلّمني أبداً!...»

 

«إذن لماذا أنتِ هنا، تلميذة تتبع يسوع؟ ولماذا أنتِ توّاقة جدّاً إلى أن يكون أبناؤكِ، كلّهم، أتباعاً ليسوع؟ أنتِ تعرفين ما الذي ينطوي عليه اتّباعه، ومع ذلك فأنتِ تريدين لأبنائكِ أن يتبعوه.»

 

«بالتأكيد! أودُّ أن أمنحهم له كلّهم. فعندها سيكون بإمكاني القول بحقّ إنّني وَلَدتُ أبنائي للنور. وأصلّي كيما أستطيع أن أقدّمهم له (للنور)، ليسوع، بأمومة أبديّة وحقّة.»

 

«تَرَين! وما سبب ذلك؟ لأنّ الله قد سألكِ يوماً وقال: "مريم، أتمنحيني أبناءكِ كي يكونوا خاصّتي في أورشليم الجديدة؟" وأنتِ أجبتِ: "نعم يا ربّ." وحتّى الآن وبعد أن أدركتِ بأنّ التلميذ لن يكون أفضل حالاً مِن المعلّم، فقد أجبتِ الله، الذي سألكِ ثانية ليختبر محبّتكِ: "نعم يا ربّي. والآن أيضاً أريدهم أن يكونوا لكَ!" أليس كذلك؟»

 

«نعم يا مريم، إنّ الأمر كذلك. هذا صحيح. إنّني جاهلة جدّاً بحيث ليس باستطاعتي أن أفهم ماهيّة أمور النّفْس. ولكن عندما يسوع أو أنتِ تجعلانني أُفكّر، فإنّني أقول بأنّ ذلك صحيح. إنّه حقّاً صحيح. وأقول إنّني... أُفضّل أن أراهم مقتولين على يد البشر على أن يكونوا أعداء لله... حتماً... إذا ما رأيتُهم يموتون... إذا... آه! لكنّ الربّ... إيه! هل سيعينني الربّ في تلك الساعة... أم إنّه سيعينكِ أنتِ وحدكِ؟»

 

«سوف يساعد كلّ بناته الـمُخلِصات، اللواتي سيكنّ الشهيدات بالروح، أو بالروح والجسد مِن أجل مجده.»

 

«لكن مَن الذي سوف يُقتَل؟» يَسأَل الصبيّ الصغير، الذي توقّف عن القفز بعد سماعه لحديثهما، وأَصبَحَ كلّه آذاناً صاغية. ويَسأَل ثانيةً، بدافع الفضول مِن جهة، وبسبب الخوف مِن جهة أخرى، متلفّتاً حوله في الريف المنعزل الذي يغدو مظلماً: «أيوجد هنا لصوص؟ أين هم؟»

 

«لا يوجد لصوص يا بنيّ. ولا أحد، سوف يُقتَل، في الوقت الحاضر. اقفز، تابع القفز...» تجيب العذراء فائقة القداسة.

 

يسوع، الذي كان متقدّماً كثيراً، قد توقّف منتظراً النسوة. أمّا مِن الأشخاص الذين تَبِعوه مِن إيبّو، فما يزال هناك فقط ثلاثة رجال والأرملة. أمّا الآخرون فقد قرّروا، الواحد تلو الآخر، أن يغادروه ويعودوا إلى بلدتهم.

 

المجموعتان (المجموعة التي مع يسوع ومجموعة النسوة) تصبحان معاً مجدّداً. يقول يسوع: «لننتظر هنا حتّى يبزغ القمر. وعندها سوف ننطلق كي نصل إلى بلدة جَمَلا عند الفجر.»

 

«لكن يا ربّ! ألا تَذكُر كيف طردوكَ منها؟ لقد توسّلوا إليكَ كي ترحل...»

 

«فإذن؟ وقتها قد رحلتُ، والآن سوف أعود. فإنّ الله صبور وحكيم. ومِن ثمّ، وفي هياجهم، فهم لم يكونوا في حالة ملائمة لتقبّل الكلمة، والتي، كي تكون مثمرة، يجب أن تُقبل بِنَفْس مسالمة. تذكّروا إيليا ولقاءه مع الربّ على جبل حوريب، وَضَعوا في اعتباركم أنّ إيليا كان نَفْساً محبوبةً مِن الربّ ومعتادةً سماعه. وفقط في سلام همس لطيف، وبعد الفَزَِع، وعندما كانت نَفْسه ترتاح في سلام الخلق وسلام أناه النزيهة، فقط عندها تكلّم الربّ. فالربّ كان قد انتظر تلاشي الفَزَع الذي خَلَّفَه رهط الشياطين في ذكرى مرورهم عبر تلك المنطقة –لأنّه إن كان عبور الله سلاماً، فإنّ عبور الشيطان هو اضطراب- والربّ كان قد انتظر تلاشي الاضطراب، وانتَظَرَ القلوب والعقول كي تستعيد صفاءها وتركيزها قبل أن يعود إلى أهل جَمَلا، حيث إنّهم لا يزالون أبناءه. لا تخافوا! هُم لن يُلحِقوا بنا أيّ أذى!»

 

الأرملة التي مِن أَفِيقَ تتقدّم وتَسجُد: «ألن تأتي إلى منزلي يا ربّ؟ أَفِيقَ أيضاً مليئة بأبناء لله...»

 

«الطريق صعبة ووقتنا ضيّق. النسوة بصحبتنا وعلينا أن نعود إلى كفرناحوم مِن أجل السبت. لا تلحّي يا امرأة» يقول الإسخريوطيّ بحزم، كما كي يصدّها.

 

«الحقيقة هي... أنّني أريده أن يكون واثقاً بأنّني أستطيع الاعتناء بالطفل كما ينبغي.»

 

«إنّما ألم تستوعبي بأنّ له أُمّاً؟» يقول الإسخريوطيّ مجدّداً، ويقول ذلك بفظاظة شديدة.

 

«أتعرفين أيّة طرق مختصَرة بين جَمَلا وأَفِيقَ؟» يَسأَل يسوع المرأة الـمُنكَسِرة.

 

«آه! نعم! هناك طريق عبر الجبال، إنّها جيّدة ومنعشة، لأنّها تمرّ وسط الأحراج. ويمكن استئجار بعض الحمير مِن أجل النسوة، وسأدفع مقابل ذلك...»

 

«سوف آتي إلى منزلكِ كي أعزّيكِ، حتّى وإن كنتُ لا أستطيع أن أعهد لكِ بالطفل، لأنّ له أُمّاً. ولكنّني أعدكِ أنّه إذا ما شاء الله أنّ هذا البريء الذي بلا محبّة ينبغي أن يعود ليجد المحبّة مجدّداً، فسوف أفكّر بكِ.»

 

«شكراً لكَ يا معلّم. أنتَ طيّب» تقول الأرملة، وترمي يهوذا بنظرة تعني: «وأنتَ شرّير.»

 

الصبيّ الصغير، الذي كان قد سَمِعَ وفَهِمَ، على الأقلّ جزئيّاً، والذي كان قد تعلّق بالأرملة التي كانت تستميله بالمداعبات والأطعمة اللذيذة، وبِفِعل غريزة فطريّة وروح التقليد الخاصّ بالأطفال، فهو يكرّر بالضبط ما فَعَلَته الأرملة، الفرق الوحيد هو أنّه لا يَسجُد عند قدميّ يسوع، وإنّما يلتصق بركبتيه، رافعاً وجهه الصغير الذي يبدو ساطعاً في ضوء القمر، ويقول: «شكراً يا معلّم. أنتَ طيّب.» ولا يتوقّف عند هذا الحدّ، فهو يريد أن يقول بوضوح ما يفكّر به، ويختم قائلاً: «وأنتَ شرّير» وكي يضمن عدم وجود خطأ بالشخص، فهو يركل قدم الإسخريوطيّ برفق.

 

ينفجر توما بالضحك، الأمر الذي يجعل الآخرين يضحكون أيضاً، وهو يقول: «المسكين يهوذا! حقّاً إنّ الأطفال لا يحبّونكَ! فَمِن وقت لآخر يُقيّمكَ أحدهم، وهم دائماً يقولون بأنّكَ شرّير!...»

 

يهوذا لا يتمتّع بروح الدعابة بحيث يُظهِر غضبه، غضباً جائراً، لا يتناسب مع الفِعل والموضوع اللذَين أحدَثاه، وهو يُطلق العنان لغضبه ذاك، ساحباً الطفل بعيداً عن ركبتيّ يسوع بخشونة شديدة، رامياً إيّاه للخلف، صارخاً: «هذا ما يحدث عندما نتعامل مع الأمور الجادّة بطريقة هزليّة. إنّه ليس بالأمر اللائق ولا النافع أن نصطحب معنا قافلة نساء وأبناء زنى...»

 

«لا، لا يمكنكَ قول ذلك. فأنتَ أيضاً قد التقيتَ أباه. وكان زوجاً شرعيّاً ومستقيماً» يُعلّق برتلماوس بحزم.

 

«فإذن؟ أليس هو متشرّد الآن، ولصّ في المستقبل؟ أليس هو سبب التعليقات البغيضة التي تُقال مِن خلف ظهورنا؟ البعض ظنّوا بأنّه كان ابن أُمّكَ... وأين هو زوج أُمّكَ كي يبرّر وجود ابن بهذه السنّ؟ أو هُم يَفتَرضون بأنّه ابن لأحدنا، و...»

 

«كُفّ عن ذلك، إنّكَ تتكلّم بلغة العالم، ولكنّ العالم يتكلّم في الوحل للضفادع، لأفاعي الماء، للسحالي، للحيوانات النَّجسة... تعال يا حلفى. لا تبكِ. تعال إليَّ. سوف أحملكَ بين ذراعيّ.»

 

الصبيّ الصغير حزين للغاية. إنّ كلّ حزنه كيتيم منبوذ مِن أُمّه، والذي كان قد سَكَنَ خلال أيّام السلام الماضية، قد ثار مجدّداً، إنّه يغلي ويفيض. إنّه يبكي لا بسبب الخدوش على جبينه ويديه، التي أصيب بها عندما سَقَطَ على الأرض الحصويّة، والتي تنظّفها وتُقبّلها النسوة كي يعزيّنه، بل يبكي بسبب حزنه كونه طفلاً غير محبوب. إنّه نحيب طويل يُدمي القلب، تتخلّله مناداة لأبيه المتوفّى، لأُمّه... آه! يا للطفل المسكين!

 

أنا أبكي معه، أنا مَن لم يعرف البشر أن يحبّوني أبداً، ومثله أتّخذ ملجأً لي بين ذراعيّ الله، اليوم، ذكرى دفن والدي؛ اليوم حيث حَرَمَني قرار غير مُنصِف مِن المناولة المقدّسة المتكرّرة…

 

يأخذه يسوع، يعانقه، يهدهد له ويعزّيه، إنّه يسير متقدّماً الجميع، والطفل البريء بين ذراعيه، في ضوء القمر...وحيث إنّ بكاءه يخفّ شيئاً فشيئاً، ونحيبه يغدو أقلّ تواتراً، وفي سكون الليل، فإنّه يمكن سماع صوت يسوع يقول: «أنا هنا يا حلفى. أنا هنا مِن أجل الجميع. سأكون لكَ الأب والأُمّ. لا تبكِ. إنّ أباكَ بجانبي وهو يُقبّلكَ معي. الملائكة تعتني بكَ كالأُمّهات. وإذا كنتَ طيّباً وبريئاً، فإنّ كلّ محبّتنا سوف تكون معكَ...»

 

ويُسمَع صوت أجشّ لواحد مِن الرجال الثلاثة الذين أتوا مِن إيبّو يقول: «المعلّم طيّب وهو يجذب الناس. لكنّ تلاميذه ليسوا كذلك. إنّني راحل...»

 

وبصوت قاسٍ يقول الغيور للإسخريوطيّ: «أترى ما الذي يفعله سلوككَ؟»

 

فقط الأرملة التي مِن أَفِيقَ تبقى مع النسوة التلميذات وتتنهّد معهنّ. حيث إنّ رجال إيبّو الثلاثة كانوا قد رحلوا، ولا يُسمع سوى صوت وقع للأقدام يخفت رويداً رويداً. الوضع يظلّ على ما هو عليه حتّى يتوقّفوا قرب مغارة كبيرة، حيث ربّما يلتجئ الرُّعاة، لأنّه هناك طبقة مِن الخلنج والخنشار المقطوفين حديثاً قد فُرِشَت على الأرض كي تجفّ.

 

«لنتوقّف هنا. لنجمع للنسوة سرير العناية الإلهيّة هذا. نحن يمكننا التمدّد خارجاً، على العشب» يقول يسوع. ويفعلون ذلك فيما القمر المكتمل (البدر) يُبحر في قبّة السماء.