ج7 - ف156

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع

{تابع السنة الثالثة في الحياة العلنية}

الكتاب الثالث / القسم الأوّل

 

156- (في منزل خُوزي الريفيّ فيما وراء الأردن)

 

30 / 07 / 1946

 

على الضفة الأخرى، عند نهاية الجسر، عربة مغطّاة تنتظر.

 

«اصعد يا معلّم. لن تتعب ولو أنّ الرحلة طويلة، لأنّني أعطيتُ تعليمات كي يكون هنا زوج مِن الثيران بشكل دائم كي لا ينزعج الأكثر تشبّثاً بالشريعة... ينبغي الإشفاق عليهم...»

 

«إنّما أين هم؟»

 

«لقد تقدّمونا على عربات أخرى. يا طوبيا!»

 

«معلّم؟» يقول السائس الذي يربط الثورين إلى النير.

 

«أين هم الضيوف الآخرون؟»

 

«آه! لقد سبقونا كثيراً. إنّهم على وشك الوصول إلى المنزل.»

 

«أتسمع ذلك يا معلّم؟»

 

«وفيما لو لم أكن قد أتيتُ؟»

 

«آه! لقد كنّا متأكّدين مِن مجيئكَ. وما السبب الذي يمنعكَ مِن المجيء؟»

 

«ما السبب!!! لأنّني يا خُوزي، قد أتيتُ لأبيّن لكَ بأنّني لستُ جباناً. ما مِن جبناء سوى الأشرار، الذين يرتكبون الخطأ الذي يجعلهم يخشون مِن العدالة... مِن عدالة البشر، مع الأسف، فيما عليهم أن يخافوا أوّلاً مِن العدل الأوحد، عدل الله. أمّا أنا فلستُ على خطأ، ولا أخاف مِن البشر.»

 

«إنّما يا سيّد! كلّ الذين معي يُجلّونكَ! مثلي. وما مِن سبب على الإطلاق يجعلنا نخيفكَ! نحن نريد تكريمكَ، لا أن نهينكَ!» خُوزي محزون ويكاد يكون ساخطاً.

 

يسوع، الجالس قبالته، فيما تتقدّم العربة على مهل مُصدِرة صريراً وسط الريف الأخضر، يجيب: «أكثر مِن الحرب الـمُعلنة للأعداء، عليَّ أن أخشى الحرب الـمُضمَرة للأصدقاء المزيّفين، أو الحماسة المتهوّرة للأصدقاء الحقيقيّين الذين لم يفهموني بعد. وأنتَ واحد منهم. ألا تذكر ما قُلتُه في بِتّير؟»

 

«أنا، فهمتُكَ يا معلّم» يتمتم خُوزي، إنّما غير واثق جدّاً مِن نفسه، ودون الإجابة بشكل مباشر على السؤال.

 

«نعم. لقد فهمتَني. خلال موجات الحزن والفرح غدا قلبكَ صافياً كما الأفق بعد عاصفة وقوس قزح. وكنتَ ترى بشكل صائب. ومِن ثمّ... استدر يا خُوزي لتننظر إلى بحر جليلنا. لقد كان يبدو صافياً جدّاً عند الفجر! وقد نقّى الندى الجوّ خلال الليل، والرطوبة الليليّة قد أبطأت تبخّر الماء. إنّ السماء والبحيرة كانتا مرآتيّ ياقوت زفيريّ صافٍ تتبادلان انعكاس جمالهما، والتلال المحيطة، كانت نديّة ونقيّة، كما لو أنّ الله قد خَلَقَها خلال الليل. انظر الآن. إنّ غبار الطرق الساحليّة الذي يثيره البشر والحيوانات، وحرارة الشمس، التي تجعل الأحراج والحدائق تدخّن، كما قِدر على موقد، والتي تُلهِب البحيرة جاعلة مياهها تتبخّر، انظر كم شوّه ذلك منظر الأفق. الضفاف كانت تبدو قبلاً أقرب، صافية كما حينما كان الجوّ في غاية النقاء؛ انظر الآن... إنّها تبدو باهتة، مغشّاة ومرتجفة، كالأشياء التي يُنظَر إليها عبر حجاب مِن ماء غير نقيّ. هذا ما حدث لكَ. فالغبار: الإنسانيّة؛ الشمس: الكبرياء. خُوزي، لا تُفسِد الأنا فيكَ...»

 

خُوزي يخفض رأسه، يعبث لا شعوريّاً بزينة ردائه، والمشبك الفاخر لحزام سيفه.

 

يسوع يصمت، عيناه شبه مغمضتين كما لو كان نَعِساً. خُوزي يحترم نومه أو ما يعتبره كذلك.

 

العربة تتقدّم على مهل باتّجاه الجنوب الشرقيّ، صوب تموّجات خفيفة تُشكّل -على الأقّل أعتقد ذلك- أولى ارتفاعات النجد الذي يحدّ وادي الأردن مِن هذا الجانب الشرقيّ. الريف خصب للغاية وجميل بالتأكيد بفضل غزارة المياه الجوفيّة، أو بفضل بعض مجاري الماء، عناقيد عنب وثمار تَظهَر وسط الأوراق.

 

العربة تغادر الطريق الرئيسيّة، وتَسلك درباً خاصّاً، تَدخل ممرّاً كثيف الأشجار، حيث الظلّ والانتعاش، على الأقلّ انتعاش نسبيّ، مقارنة بالطريق الرئيسيّة المشمسة التي هي أشبه بالفرن.

 

منزل واطئ أبيض ذو مظهر مميّز عند نهاية الممرّ، ومنازل أكثر تواضعاً تنتشر هنا وهناك في الحقول والكروم.

 

تجتاز العربة جسراً صغيراً وحاجزاً، يصبح البستان بعد ذلك حديقة ممرّها مكسوّ بالحصى. يسوع يفتح عينيه بفعل الصوت المختلف الذي تُحدِثه العجلات على الحصى.

 

«لقد وصلنا يا معلّم. ها هم الضيوف، الذين سَمِعونا ويَهرَعون» يقول خُوزي.

 

وبالفعل فإنّ العديد مِن الرجال، كلّهم ميسورو الحال، يتجمّعون عند بداية الممرّ، ويُحيّون بانحناءات مبالغ فيها المعلّم الذي يَصِل. أرى وأتعرّف على مَنَاين، تيمون، إليعازر، وآخرين أعتقد بأنّهم ليسوا مجهولين بالنسبة لي، إنّما لا يمكنني ذكر أسمائهم. وهناك كثيرون آخرون لم يسبق لي أن رأيتُهم، أو على الأقلّ لم ألاحظهم على وجه الخصوص. كثيرون يحملون سيوفاً، وآخرون، لا يحملون السيوف، يعرضون تزيينات فرّيسيّة، وكَهَنَة ورابيّون.

 

العربة تتوقّف ويسوع أوّل مَن ينزل منحنياً في تحيّة جماعيّة. التلميذان مَنَاين وتيمون يتقدّمان لتبادل تحيّة خاصّة مع المعلّم. ثمّ إليعازر (الفرّيسيّ الصالح في وليمة منزل إسماعيل) ومعه كاتِبَان يعملان على التعريف بنفسيهما. أحدهما هو الذي شُفي ابنه في تراقية في يوم التكثير الأول للخبز، والآخر هو مَن قَدَّمَ الطعام للجمع عند أسفل جبل التطويبات. ورجل آخر يدفع ليشقّ لنفسه طريقاً: الفرّيسيّ، الذي كشف له يسوع في منزل يوسف، وقت الحصاد، عن السبب الحقيقيّ لغيرته الظالمة.

 

خُوزي يباشر بالتعريفات، والتي سوف أُهمِلها، إذ يمكن للمرء أن يفقد صوابه مع هذا الكمّ مِن السمعان، اليوحنّا، اللّاويّين، الإليعازر، النثنائيل، اليوسف، الفيلبّس وهلمّ جرّاً؛ مِن صدّوقيّين، كَتَبَة، كَهَنَة، هيروديّين بأعداد كبيرة، لا بل أودُّ القول بأنّ الهيروديّين هم الأكثر عدداً، حفنة مِن المهتدين والفرّيسيّين، عضوان مِن السنهدرين، وأربعة رؤساء معابد، وإسّينّي واحد، لا أدري كيف ضاع وسط الجمع.

 

يسوع ينحني عند تقديم كلّ اسم، مُلقِياً نظرة ثاقبة على كلّ وجه، وفي بعض الأحيان يبتسم بلطف عندما أحدهم، كي يكون معروفاً أكثر، يَذكُر الظَّرف الذي جمعه مسبقاً بيسوع.

 

وهكذا يقول له المدعوّ يواكيم الذي مِن بصرى: «إنّ زوجتي مريم قد شُفِيَت مِن البرص على يدكَ. لتكن مباركاً.»

 

والإسّينيّ يقول: «لقد استمعتُ إليكَ عندما تكلّمتَ قرب أريحا، وأحد إخوتنا غادَرَ ضفاف البحر المالح كي يتبعكَ. وأيضاً سمعتُ عنكَ بخصوص معجزة أليشع عين جدي. نقيم في تلك الأراضي بنقاء، بانتظار...»

 

لا أعلم ما الذي ينتظرونه. إنّما أعلم أنّ هذا الرجل، وفيما يقول ذلك، ينظر بشيء مِن التعالي المتفاخِر إلى الآخرين الذين هم بالتأكيد لا يظهرون بمظهر المتصوّفين، حيث يبدو معظمهم بأنّهم ينعمون بسعادة بالرخاء الذي يسمح به مركزهم.

 

خُوزي يُبعد ضيفه عن التحيّات الاحتفاليّة ويقوده إلى حمّام مريح حيث يتركه للاغتسال المعتاد، الذي هو بالتأكيد مستحبّ في هكذا حَرّ شديد، ويعود إلى ضيوفه، الذين يتحدّث إليهم بحماس، في الواقع إنّهم يكادون يَصِلون إلى الشّجار، بسبب اختلاف الآراء. البعض يريدون بدء المحادثة في الحال. أيّة محادثة؟ في حين أنّ آخرين يقترحون بأنّه لا ينبغي مجابهة المعلّم فوراً، بل ينبغي إقناعه مسبقاً باحترامهم العميق. الاقتراح الأخير هو الذي يَغلب، حيث كان قد أيّده الأغلبيّة، وخُوزي، كونه صاحب المنزل، ينادي خُدّامه كي يأمر بوليمة يقيمها مساءً، مانحاً وقتاً ليسوع، «الذي هو متعب، كما هو واضح، كي يرتاح.» ما يحظى بقبول الجميع، وحين يعود يسوع، يستأذنه كلّ الضيوف بالانصراف مُنحَنين انحناءات عميقة، تاركينه مع خُوزي، الذي يقوده إلى غرفة مظلّلة حيث هناك أريكة واطئة مغطّاة بسجّاد فاخر.

 

يسوع، الذي بقي وحيداً، بعدما أعطى لأحد الخدّام نعليه وثوبه كي يتمّ تنظيفها وترتيبها لإزالة آثار رحلات اليوم المنصرم. لا ينام؛ إنّه يجلس على حافّة الأريكة، بقدميه العاريتين فوق حصيرة الأرض، وجلبابه القصير الذي يغطّي جسده إلى المرفقين والركبتين، إنّه مستغرق بالتفكير. وإذا ما كان لباسه القصير هذا يجعله يبدو أكثر شباباً في التناغم البهيّ والكامل لجسده الرجوليّ، فإنّ شدّة استغراقه بالأفكار، التي هي بالتأكيد لا تبعث على السرور، فهي تُجعّد وتُشنّج وجهه، في تعبير تَعَب مؤلم، الأمر الذي يجعله يبدو أكبر سنّاً.

 

ما مِن ضجيج في المنزل، وما مِن أحد في الريف، حيث تنضج عناقيد العنب في الحرّ الشديد. الستائر الغامقة الـمُسدَلة على الأبواب والنوافذ ساكنة تماماً.

 

الساعات تمرّ هكذا…

 

الظلّ يتنامى مع غروب الشمس. لكنّ الحرّ يستمرّ. وكذلك تأمُّل يسوع.

 

أخيراً يبدو أنّ المنزل يستيقظ. تُسمَع أصوات، وَقع أقدام، أوامر.

 

خُوزي يزيح الستار على مهل كي يرى دونما التسبّب بالإزعاج ليسوع.

 

«ادخل! لستُ نائماً» يقول يسوع.

 

خُوزي يدخل: إنّه يرتدي رداء فاخراً مِن أجل الوليمة. إنّه يَنظُر ويُدرك بأنّ الأريكة لم تُمسّ. «ألم تنم؟ لماذا؟ إنّكَ متعب...»

 

«لقد ارتحتُ في الصمت والظلّ. وهذا يكفيني.»

 

«سوف آمر بجلب ثوب لكَ...»

 

«لا. إنّ ثوبي قد جفّ بالتأكيد. أُفضّل ارتداءه. إنّني أنوي المغادرة حالما تنتهي الوليمة. لذلك أرجوكَ أن تُبقي العربة والقارب جاهزَين.»

 

«كما تشاء يا ربّ... كنتُ أرغب بأن أستبقيكَ هنا حتّى فجر الغد...»

 

«لا أستطيع. يجب أن أذهب...»

 

خُوزي يخرج منحنياً... أسمع أُناساً كثيرين يتهامسون…

 

يمرّ بعض الوقت. الخادم يعود بالثوب الكتّاني، المنعش بغسله، المعطّر بالشمس، وبالنعلين، المنظفَين والملمَّعَين والمليَّنَين بالدُهن. وخادم آخر يتبعه بوعاء، وبقارورة والمناشف، ويضع الكلّ على طاولة واطئة. يَخرُجان…

 

…ينضمّ يسوع للضيوف في الردهة التي تقسم المنزل مِن الشمال إلى الجنوب، مُشكّلاً متّسعاً ذا تهوية ولطيفاً، مزوّداً بمقاعد، ومزيّناً بستائر خفيفة، متعدّدة الألوان، تخفّف الضوء مِن دون أن تتسبّب بعرقلة التهوية. وحيث أنّها الآن قد أزيحت جانباً، فيمكن رؤية إطار الخضرة الذي يحيط بالمنزل.

 

يسوع مهيب. وعلى الرغم مِن أنّه لم ينم، فهو يبدو وكأنّه حَصَلَ على حيويّة، ومشيته كالّتي لِـمَلِك. الثوب الكتّاني، الذي كان قد ارتداه للتوّ شديد البياض، وشعره، الذي يبرق بعد اغتسال الصباح، يلمع بلطف محيطاً وجهه بمسحته الذهبيّة.

 

«تعال يا معلّم. لم نكن ننتظر سواكَ» يقول خُوزي ويصطحبه قبل الآخرين إلى الغرفة حيث الموائد.

 

يَجلسون بعد صلاة الشكر وبعد غَسل إضافيّ لليدين، ويبدأ العشاء، احتفاليّاً كالمعتاد، بصمت في البداية. ثمّ ينكسر الجليد.

 

يسوع إلى جانب خُوزي، ومَنَاين على الجانب الآخر بصحبة تيمون. الآخرون أَجلَسَهم خُوزي، بحكم خبرته كأحد رجال الحاشية الملكيّة، على جانبي المائدة التي هي بشكل حرف U. وحده الأسّينيّ رَفَضَ بشكل قاطع المشاركة بالوليمة والجلوس إلى المائدة مع الآخرين، وفقط عندما يُقدِّم له خادم، بناءً على تعليمات مِن خُوزي، سلّة فاخرة ممتلئة بالفواكه، يَقبَل الجلوس إلى طاولة واطئة، بعد لا أدري كم مِن الاغتسالات، وبعد طيّ كُمّيّ ثوبه الأبيض العريضين خشية أن يلطّخهما، أو بحسب طقس ما، لا أدري.

 

إنّها وليمة غريبة، حيث يتواصلون مع بعضهم بالنظرات أكثر منه بالكلام. إنّهم فقط يتبادلون بضع كلمات مجاملة ويتفحّصون بعضهم البعض، أي أنّ يسوع يتفحّص المدعوّين وهم يتفحّصونه.

 

أخيراً يومئ خُوزي إلى الخدّام بالانسحاب بعد جلبهم صواني فواكه كبيرة، وهي طازجة وباردة، حيث ربمّا كانت قد حُفِظَت في بئر، وهي بهيّة، بوسعي القول إنّها تقريباً مجمّدة، مع ذاك الرذاذ الثلجيّ الذي يميّز الفواكه المحفوظة في الثلج.

 

الخُدّام يخرجون بعد أن يُشعِلوا أيضاً المصابيح، التي لا لزوم لها الآن حيث لا يزال هناك ضوء أثناء غروب صيفيّ طويل.

 

«يا معلّم» يبتدئ خُوزي «لا بدّ أنّكَ قد تساءلتَ عن سبب عقدنا هذا الاجتماع، ولماذا التزمنا الصمت. إنّما ما سنقوله لكَ خطير جدّاً ويجب ألّا تسمعه آذان متهوّرة. إنّنا الآن وحدنا ويمكننا الكلام. وكما ترى، فإنّ كلّ الحاضرين يكنّون لكَ أعظم احترام. إنّكَ وسط أشخاص يجلّونكَ إنساناً ومسيّا. إنّ برّكَ، حكمتكَ، والمواهب التي منحكَ الله سلطتها، هي معروفة وموضع احترام مِن قِبَلنا. إنّكَ بالنسبة لنا مسيح إسرائيل. المسيح وفقاً للفكر الروحانيّ وكذلك السياسيّ. إنّكَ المنتَظَر الذي سيضع حدّاً لمعاناة وذلّ الشعب بأكمله، لا فقط لهذا الشعب الذي هو ضمن حدود إسرائيل، أو بالأحرى، ضمن حدود فلسطين، وإنّما لكلّ شعب إسرائيل، لجاليات الشتات التي لا تُعَدّ ولا تحصى، المنتشرة في جميع أرجاء الأرض، والتي تجعل اسم يهوه يتردّد تحت كلّ سماء، والتي تُعرِّف بالوعود والآمال، والتي تتحقّق الآن، مِن قِبَل مسيح مُصلِح، منتقم، محرِّر ومبدع للاستقلال الحقيقيّ، والوطن إسرائيل، أي، الوطن الأعظم في العالم، الوطن: المالك والمسيطر، الذي يمسح كلّ ذكريات الماضي، وكلّ آثار العبوديّة الراهنة، حيث تنتصر العبرانيّة على الجميع وعلى كلّ شيء، وللأبد، لأنّ هذا ما قيل وهذا ما يتحقّق. يا سيّد، هنا، في حضرتكَ، كلّ إسرائيل ممثّلاً بكافّة طبقات هذا الشعب الخالد، المعاقَب إنّما المحبوب مِن قِبَل العليّ الذي أَعلَنَه "شعبه". لديكَ قلب إسرائيل النابض والفاعل مع أعضاء السنهدرين والكَهَنَة، معكَ السُّلطة والقداسة مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، لديكَ الحكمة بحضور الكَتَبَة والرابيّين، لديكَ السياسة والقَدْر مع الهيروديّين، لديكَ الغِنى بحضور الأغنياء، لديكَ الشعب مع التّجار وأصحاب الأملاك، لديكَ الشّتات بحضور المهتدين، ولديكَ حتّى أولئك المعزولين، الذين هم جاهزون الآن للإتّحاد لأنّهم يرون فيكَ المنتَظَر: الإسّنيّون، الإسّنيّون الذين يستحيل التوافق معهم. انظر، يا ربّ، إلى هذه المعجزة الأولى، إلى هذه العلامة العظيمة لرسالتكَ، لحقيقتكَ. فَمِن دون عنف، مِن دون إمكانيّات، مِن دون خدّام، مِن دون جنود، مِن دون سيوف، تَجمَع كلّ شعبكَ معاً، كما يَجمَع حوضٌ مياه ينابيع كثيرة. تقريباً مِن دون كلام، لقد جمعتَنا دونما أيّ إكراه، نحن الشعب الذي فرّقتنا المصائب، الكراهية، الأفكار السياسيّة والدينيّة، وأنتَ قد صالحتَنا. أيا أمير السلام، اغتبط لأنّكَ افتديتَ وأصلحتَ حتّى قبل أن تحظى بالصولجان والتاج. ها إنّ مملكتكَ، مملكة إسرائيل المنتظرة ، قد وُلِدَت. ثرواتنا، وقدراتنا، وسيوفنا تحت قدميكَ. تكلّم، مُرْ! فقد حانت الساعة.»

 

الكلّ يؤيّدون خطاب خُوزي. يسوع، الذي يشبك ذراعيه على صدره، يصمت.

 

«ألا تقول شيئاً؟ ألا تجيب يا ربّ؟ أربّما أدهَشَكَ الأمر... أربّما تشعر بأنّكَ غير مستعدّ، وتشكّ فيما إذا كان إسرائيل مستعدّاً... لكنّ الأمر ليس كذلك. اسمع أصواتنا. إنّني أتكلّم، ومَنَاين معي، باسم البلاط الملكي. إنّه لم يعد يستحقّ الوجود. إنّه النتانة والخزي لإسرائيل. إنّه الطغيان المخزي الذي يضطهد الشعب، والمنحني بتذلّل كي يتملّق الـمُغتَصِب. لقد حانت ساعته. انهض، يا نجم يعقوب، وبدّد ظلام جوقة الإجرام والعار تلك. وحاضر هنا المدعوّوين هيروديّين: وهم أعداء لـمُدنِّسي اسم الهيروديّة، الذي هو مقدّس بالنسبة لهم. الكلام لكَ.»

 

«يا معلّم. إنّني مسنّ وأذكر روعة الأيّام الماضية. كما أنّ اسم بطل الممنوح لجيفة نتنة، كذا هو اسم هيرودس الذي حَمَلَه خُلفاء هيرودس المنحطّين مِن بعده، الذين يُغالون في إذلال شعبنا. لقد آن الأوان لتكرار ما بادر إسرائيل إلى فِعله عدّة مرّات حينما كان ملوك غير جديرين يسودون على آلام الشعب. وأنتَ وحدكَ الجدير بالقيام بهكذا بادرة.»

 

يسوع يصمت.

 

«يا معلّم، أتعتقد بإمكانيّة الارتياب؟ لقد تفحّصنا الكتابات المقدّسة. أنتَ هو ذاك. يجب أن تملك» يقول أحد الكَتَبَة.

 

«ينبغي أن تكون مَلِكاً وكاهناً. نحميا جديد، أعظم مِن الأوّل، ينبغي أن تأتي وتُطهّر. المذبح مدنَّس. ولتستحثّكَ غيرة العليّ» يقول أحد الكَهَنَة.

 

«كُثُر منّا قد حاربوكَ. أولئك الذين يخافون أسلوبكَ الحكيم في الـمُلْك. لكنّ الشعب معكَ، وأفضلنا هم مع الشعب. إنّنا بحاجة إلى حكيم.»

 

«إنّنا بحاجة إلى نقيّ.»

 

«إلى مَلِك حقّ.»

 

«إلى قدّيس.»

 

«إلى مُخلّص. إنّنا نصبح أكثر فأكثر مستعبَدين لكلّ شيء وللجميع. دافِع عنّا يا ربّ!.»

 

«نحن مُداسون في العالم على الرغم مِن كثرة عددنا وغنانا، فنحن مثل خراف بلا راعٍ. ادعُ إلى جمع شعبكَ بالصرخة العتيقة: "عُد إلى خيامكَ يا إسرائيل!"، وكما الجنود سيندفع رعاياك مِن كلّ أرجاء الشتات، لهدم العروش المتداعية للمتجبِّرين غير المحبوبين مِن الله.»

 

يسوع ما يزال صامتاً. هو الوحيد الذي يجلس هادئاً، كما لو أنّ الأمر لا يعنيه، وسط حوالي أربعين شخصاً مهتاجاً. أكاد أتذكّر عُشرَ حججهم، حيث أنّهم يتكلّمون كلّهم بذات الوقت كما في بَلبلة السوق. هو يحافظ على وضعه ويبقى صامتاً.

 

كلّهم يصرخون: «قل شيئاً! أجب!»

 

يسوع ينهض على مهل، مُسنِداً يديه إلى حافّة الطاولة. يسود صمت مطبق. وقد ألهبته ثمانون عيناً، يفتح شفتيه، والآخرون يفعلون مثله، كما لاستنشاق ردّه. والردّ مُختَصَر، ولكنّه واضح: «لا.»

 

«ولكن كيف؟ لماذا؟ أتخوننا؟ إنّكَ تخون شعبكَ! إنّه يتنكّر لرسالته! يرفض أمر الله!...» يا لها مِن ضوضاء! صَخَب! وجوه كثيرة تغدو قرمزيّة، فيما العيون متأجّجة، والأيدي تبدو مُهدِّدةً... وبدلاً مِن أنصار مُخلصِين، يبدون كأعداء. إنّما الأمر هكذا: عندما تهيمن الأفكار السياسيّة على القلوب، فحتّى الودعاء يصبحون وحوشاً ضارية ضدّ الذين يعارضون أفكارهم.

 

صمت غريب يلي الهياج. يبدو الأمر كما لو أنّهم بعد استنفاذ قواهم، فإنّهم جميعاً يشعرون بأنّهم منهكون ومهزومون. إنّهم يتبادلون نظرات متسائلة، مقهورة... البعض مستاؤون…

 

يسوع يجول بنظره ويقول: «لقد كنتُ أعلم بأنّ هذا هو السبب الذي أردتموني مِن أجله. وقد كنتُ أعلم أنّ مسعاكم بلا جدوى هو. يمكن لخُوزي أن يؤكّد لكم بأنّني قلتُ له ذلك في تراقية. لقد أتيتُ لأبرهن لكم بأنّني لا أخشى أيّة مكيدة، لأنّ ساعتي لم تحن بعد. ولن أكون خائفاً عندما يحين أوان المكيدة، لأنّني قد أتيتُ تحديداً مِن أجل ذلك. وقد جئتُ لإقناعكم. ليس جميعكم، إنّما كُثُر منكم هم ذوو إيمان حسن. إنّما ينبغي عليَّ أن أصحّح الخطأ الذي وقعتم فيه. أترون؟ إنّني لا ألومكم. إنّني لا ألوم أحداً، ولا حتّى أولئك، الذين كونهم تلاميذي الأوفياء، فقد كان عليهم أن يتصرّفوا ببرّ وأن يضبطوا رغباتهم ببرّ. إنّني لا ألومكَ، أيّها البارّ تيمون، ولكنّني أقول لكَ بأنّه في عمق محبّتكَ التي تريد إكرامي، ما يزال هناك الأنا الذي لكَ الـمُندَفِع والحالِم بزمن أفضل، حيث يمكنكَ رؤية الذين ضربوكَ مضروبين. أنا لا ألومكَ يا مَنَاين، ولو أنّه يبدو أنّكَ نسيتَ تماماً الحكمة والـمَثَل الروحانيّ اللذين تلقّيتَهما منّي ومِن المعمدان قبلي، ولكنّني أقول إنّ فيكَ كذلك هناك جذر إنسانيّة سوف ينبت مجدّداً بعد حريق محبّتي. أنا لا ألومكَ يا إليعازر، البارّ جدّاً بسبب المرأة العجوز التي تُرِكَت لكَ، البارّ على الدوام، إنّما ليس الآن.

 

كما لا ألومكَ أنتَ أيضاً يا خُوزي، ولو أنّه كان عليَّ أن أفعل ذلك، لأنّ الأنا فيكَ حيّة، أكثر ممّا في أولئك الذين يريدونني أن أكون مَلِكاً بحسن نيّة. نعم، تريدني أن أكون مَلِكاً. ليس هناك فخّ فيما تقول. أنتَ لم تأتِ كي توقِع بي، لتشكوني للسنهدرين، للمَلِك، لروما. ولكن بدلاً مِن دافع المحبّة -تظنّ بأنّ كل تصرّف منكَ هو محبّة، إنّما الأمر ليس كذلك- وبدلاً مِن أن يكون الدافع هو المحبّة، فأنتَ تفعل هذا كي تنتقم لنفسكَ مِن الإساءات التي ألحَقَها بكَ البلاط الملكيّ. إنّني ضيفكَ. وعليَّ ألّا آتي على ذكر حقيقة مشاعركَ، لكنّني الحقّ في كلّ شيء، وأنا أتكلّم مِن أجل صالحكَ. والشيء ذاته ينطبق عليكَ يا يواكيم بصرى، وعليكَ أيّها الكاتب يوحنّا، وعليكَ، وعليكَ، وعليكَ.» ويشير إلى هذا وذاك، دونما استياء، إنّما بحزن... ويتابع: «لا ألومكم، ذلك أنّني أعلم أنّكم لستم أنتم مَن تريدون ذلك تلقائيّاً. إنّها المكيدة، هو العدوّ الذي يعمل، وأنتم... وأنتم، مِن غير أن تعلموا ذلك، أدوات بين يديه. حتّى الحبّ، حتّى محبّتكم، أيا تيمون، أيا مَنَاين، أيا يواكيم، وأنتم كلّكم يا مَن تحبّوني بحقّ، وكذلك إجلالكم، أنتم يا مَن تشعرون بأنّني الرابّي الكامل، وحتّى بهذا، فهو، الملعون، يستغلّها للإيذاء وإيذائي. ولكنّني أقول لكم، ولأولئك الذين لا يشاطرونكم مشاعركم، والذين بأهداف تنحطّ أكثر فأكثر، إلى درجة الخيانة والجريمة، يريدونني أن أقبل بأن أكون مَلِكاً، أقول: لا. ملكوتي ليس مِن هذا العالم. تعالوا إليَّ، كي أؤسّس ملكوتي فيكم، وما مِن شيء آخر. والآن دعوني أذهب.»

 

«لا يا ربّ. نحن مصمّمون تماماً. إنّنا بالفعل قد جهّزنا ثرواتنا، لقد أعددنا الخطط وقرّرنا التخلّي عن التردّد، الذي يسبّب استياء إسرائيل، والذي يستغلّه الآخرون لأذيّته. إنّ المكائد قد نُصِبَت لكَ، هذا صحيح. لكَ أعداء في الهيكل ذاته. أنا، أحد القدماء، لا أنكر ذلك. إنّما هناك وسائل لوضع حدّ لذلك: مسحكَ. ونحن مؤهّلون تماماً للقيام بذلك. إنّها ليست المرّة الأولى في إسرائيل التي يُعلَن فيها شخص مَلِكاً هكذا، لوضع حدّ لمصائب الدولة والنزاعات. هنا مَن يمكنه فِعل ذلك باسم الله. دعنا نقوم بذلك» يقول أحد الكَهَنة.

 

«لا. هذا غير مسموح به لكم. فأنتم لا تمتلكون السُّلطة لذلك.»

 

«الكاهن الأعظم هو أوّل مَن يريد ذلك، حتّى ولو لم يكن يبدو ذلك. فهو لم يعد قادراً على تحمّل الوضع الحالي للسيطرة الرومانيّة والعار الملكيّ.»

 

«لا تكذب أيّها الكاهن. إنّ التجديف على شفتيكَ هو دَنَس مُضاعَف. لربّما أنتَ لا تعرف وبالتالي تنخدع، إنّما في الهيكل هم لا يريدون ذلك.»

 

«أتعتبر تأكيدنا كاذباً؟»

 

«نعم، إنّ لم يكن مِن جميعكم، فَمِن الكثيرين منكم. لا تكذبوا. أنا النور وأنير القلوب...»

 

«بإمكانكَ تصديقنا» يصيح الهيروديّون. «نحن لا نحبّ هيرودس أنتيباس ولا أيّ أحد آخر.»

 

«لا. أنتم لا تحبّون سوى أنفسكم. هذه هي الحقيقة. ولا يمكنكم أنّ تحبّوني. بل تستخدموني كرافعة لإسقاط العرش، فيُفتَح لكم الطريق لسلطة أعظم، ويتحمّل الشعب اضطهاداً أسوأ. إنّها مكيدة لي، للشعب ولأنفسكم. وبعد سحق الـمَلِك روما تسحقكم جميعاً.»

 

«يا ربّ، في جاليات الشتات هناك الكثيرون مستعدّون للتمرّد... أموالنا سوف تدعمهم.» يقول المهتدون.

 

«وأموالي، ودعم حورانيطس [حوران] وتراخونيطس [اللَّجاة] بالكامل.» يصيح رجل بصرى. «أنا أعلم ما أقول. يمكن لجبالنا أن تُطعِم جيشاً وتُبقِيه بمأمن مِن المكائد، وأن تُطلِقه كسرب مِن النسور في سبيل خدمتكَ.»

 

«وكذلك بيريه.»

 

«وجولانيطس [الجولان].»

 

«ووادي غاهاس معكَ!»

 

«ومعكَ ضفاف البحر المالح مع البدو الرّحل الذين يعتقدون بأنّنا آلهة، إذا ما وافقتَ على الانضمام إلينا» يصيح الإسّينيّ ويتابع بكلام طويل هائج يضيع وسط الصخب.

 

«جبليوّ اليهوديّة ينحَدِرون مِن سلالة ملوك أشدّاء.»

 

«وأولئك الذين مِن الجليل الأعلى هم أبطال على شاكلة أولئك الذين مِن ديبورا. حتّى النسوة، وحتّى الأطفال هم أبطال!»

 

«أتظنّ بأنّنا قليلون جدّاً؟ إنّنا نشكّل قوّات كثيرة العدد. إنّ كلّ الشعب معكَ. إنّك الـمَلِك مِن نسل داود، مَسيّا! هي الصرخة على شفاه الحكماء والجاهلين، لأنّها صرخة القلوب. معجزاتكَ... كلامكَ... العلامات...» إنّها بَلبلة لم أنجح في متابعتها.

 

يسوع، وكصخرة راسخة وسط إعصار، لا يتحرّك، إنّه حتّى لا يتفاعل. إنّه لا مبال، ودورة الطلبات، التوسّلات، الحجج، تستمرّ.

 

«أنتَ تخيّب آمالنا! لماذا تريد هلاكنا؟ أتريد أن تفعل ذلك وحدكَ؟ لا تقدر. إنّ متاتياس المكابيّ لم يرفض عون الحسيديّين، ويهوذا حَرَّرَ إسرائيل بمساعدتهم... اقبل!!!» إنّهم يصرخون معاً بهذه الكلمات مِن حين لآخر.

 

يسوع لا يذعن.

 

أحد الشيوخ، وهو مسنّ جدّاً، يتحدّث بصوت منخفض مع كاهن وكاتب أكبر منه سنّاً. يتقدّمون ويَفرضون الصمت. والكاتب المسنّ، بعد أن دَعَى إلى جانبه إليعازر والكاتبين اللذين يدعوان يوحنّا، يبدأ بالكلام: «يا ربّ، لماذا لا تريد تولّي عرش إسرائيل؟»

 

«لأنّه ليس لي. فأنا لستُ ابن أمير يهوديّ.»

 

«يا ربّ، قد لا تعلم ذلك. لقد تمّ استدعائي مرّة مع هؤلاء الاثنين لأنّ ثلاثة حكماء جاؤوا يسألون عن مكان المولود مَلِك اليهود. أتُدرِك؟  "المولود مَلِكاً". ونحن، أمراء الكَهَنَة وكَتَبَة الشعب، قد استُدعينا مِن قِبَل هيرودس الكبير كي نعطي الإجابة. وهِلّيل البارّ كان معنا. وجوابنا كان: "في بيت لحم يهوذا". ونحن نَعلَم أنّكَ وُلِدتَ هناك، وبأنّ علامات عظيمة رافَقَت ولادتكَ. ومِن بين تلاميذكَ هناك شهود عليها. أتنكر بأنّكَ قد بُجّلتَ كمَلِك مِن قِبَل الحكماء الثلاثة؟»

 

«لا أنكر ذلك.»

 

«أتنكر بأنّ المعجزة تسبقكَ، ترافقكَ، وتتبعكَ كعلامة مِن السماء؟»

 

«لا أنكر ذلك.»

 

«أتنكر بأنّكَ مَسيّا الموعود به؟»

 

«لا أنكر ذلك.»

 

«فإذاً، وباسم الله الحيّ، لماذا تريد أن تخيّب آمال الشعب؟»

 

«لقد آتيتُ كي أتمّ آمال الله.»

 

«أيّها؟»

 

«فداء العالم، تأسيس ملكوت الله. إنّ ملكوتي ليس مِن هذا العالم. ضعوا جانباً أموالكم وأسلحتكم. افتحوا عيونكم وأرواحكم لقراءة الكتابات المقدّسة والأنبياء وتقبّل حقيقتي، فتحظوا بملكوت الله فيكم.»

 

«لا. الكتابات المقدّسة تشير إلى مَلِك مُحرِّر.»

 

«مِن عبوديّة الشيطان، مِن الخطيئة، مِن الضَّلال، مِن الجسد، مِن الجاهليّة، ومِن الوثنيّة. آه! ماذا فعل الشيطان بكم، أيّها العبرانيّون، الشعب الحكيم، لجعلكم تقعون في الخطأ بشأن الحقائق النبويّة؟ ما الذي يفعله بكم، أيّها العبرانيّون، إخوتي، كي يجعلكم عمياناً إلى هذه الدرجة؟ ما الذي يفعله بكم، يا تلاميذي، بحيث، حتّى أنتم، ما عدتم تُدرِكون؟ إنّ المصيبة العظمى لشعب ولمؤمن هي الوقوع في خطأ تفسير العلامات. وهنا تقع هكذا مصيبة. إنّ مصالح شخصيّة، أحكاماً مسبقة، فقدان الصواب، محبّة زائفة للوطن، كلّ شيء يسهم في خلق الهوّة... هوّة الضَّلال التي سيَهلك فيها شعب بفشله في معرفة مَلِكه.»

 

«أنتَ مَن يَفشَل بمعرفة نفسه.»

 

«أنتم تفشلون بمعرفة أنفسكم وبمعرفتي. أنا لستُ مَلِكاً بشريّاً. وأنتم... ثلاثة أرباعكم أيّها المجتمعون هنا، تعلمون وتريدون إيذائي، لا الخير لي. أنتم تتصرّفون بدافع الكراهية، لا بدافع المحبّة. وأنا أغفر لكم. ولذوي القلوب النزيهة أقول: "عودوا إلى رشدكم، لا تكونوا عبيد الشرّ المغيَّبين." دعوني أمضي. ما مِن شيء آخر يُقال.»

 

صمت مُفعَم بالذهول…

 

إليعازر يقول: «أنا لستُ عدوّاً لكَ. لقد كنتُ أظنّ بأنّني أفعل الصواب. ولستُ الوحيد... فبعض الأصدقاء الصالحين يفكّرون مثلي.»

 

«أعلم ذلك. إنّما قل لي، وكن صادقاً: ما الذي يقوله غَمَالائيل؟»

 

«الرابّي؟... إنّه يقول... نعم، يقول: "العليّ سوف يعطي علامة إذا ما كان هو مسيحه.»

 

«إنّه على حقّ. وما الذي يقوله يوسف الشيخ؟»

 

«بأنّكَ ابن الله وسوف تَحكم كالله.»

 

«إنّ يوسف لَبارّ. ولعازر بيت عنيا؟»

 

«إنّه يعاني... هو قليل الكلام... ولكنّه يقول... بأنّكَ سوف تَحكم فقط حين تستقبلكَ أرواحنا.»

 

«لعازر حكيم. حين تستقبلني أرواحكم. في الوقت الحاضر أنتم، وكذلك أولئك الذين اعتبرتُهم قلوباً مُستَقبِلة، لا تستقبلون الـمَلِك ولا الملكوت، وهذا ما يحزنني.»

 

«الخلاصة، أترفض؟» يصيح كُثُر.

 

«أنتم قلتموها.»

 

«لقد جعلتَنا نتورّط، إنّكَ تؤذينا، إنّكَ...» يصيح آخرون: هيروديّون، كَتَبَة، فرّيسيّون، صدوقيّون، كَهَنَة…

 

يسوع يغادر المائدة ويمضي مُوَجّهاً نحو هذا الجمع نظرات حادّة. يا لها مِن نظرة! هم يَصمتون بشكل لا إراديّ ويلتصقون بالحائط... يسوع يمضي بحقّ وجهاً لوجه، وعلى مهل، إنّما بحسم قاطع مثل حدّ السيف، يقول: «مكتوب: "ملعون مَن يضرب قريبه بالخفية، ويقبل رشوة لإزهاق حياة بريئة." وأنا أقول لكم: أَغفر لكم. ولكنّ خطيئتكم معلومة لابن الإنسان. وإن أنا لم أغفر لكم... فإنّ إسرائيليّين كثيرين قد أحالهم يهوه رماداً لأقلّ مِن ذلك بكثير.» لكنّه رهيب جدّاً وهو يقول ذلك، لدرجة أنّ لا أحد يجرؤ على التحرّك، ويزيح يسوع الستارة الثقيلة المزدوجة ويَخرج إلى الردهة مِن دون أن يجرؤ أحد على الإتيان بحركة.

 

فقط عندما تتوقّف الستارة عن التأرجح، أي، بعد عدّة دقائق، ينتفضون.

 

«يجب اللحاق به... يجب إيقافه...» يقول أكثرهم عنفاً.

 

«يجب الحصول على المغفرة» يقول أفضلهم فيما يتنهّدون، أي، مَنَاين، تيمون، بعض المهتدين، رجل بصرى، بالنتيجة، ذوو القلوب المستقيمة.

 

يَهرَعون خارج الغرفة. يبحثون عنه، يَسأَلون الخدّام: «المعلّم، أين هو؟»

 

المعلّم؟ لم يره أحد، ولا حتّى أولئك الذين كانوا عند بابيّ الردهة. لقد اختفى... يبحثون عنه بفوانيس ومشاعل في عتمة الحديقة، في الغرفة حيث كان قد استراح. هو ليس هناك! وأيضاً لا يعثرون على الرداء الذي كان قد تركه على السرير، ولا على الكيس الذي كان قد تركه في الردهة…

 

«لقد هرب منّا! إنّه شيطان! لا. إنّه الله. إنّه يفعل ما يشاء. سوف يخوننا! لا. سوف يعرفنا على حقيقتنا.» صخب وجهات نظر مختلفة وشتائم متبادلة. الصالحون يصيحون: «لقد ضلّلتمونا. خونة! كان علينا توقّع ذلك!» والأشرار، أي، الأغلبيّة، يتوعّدون، وبعد أن فقدوا كبش الفداء، الذي لا يستطيعون إلقاء اللائمة عليه، فإنّ المجموعتين تهاجمان بعضهما…

 

وأين هو يسوع؟ أنا أراه، لأنّه يشاء ذلك، بعيداً جدّاً، عند مصبّ نهر الأردن. إنّه يسير بسرعة، كما لو أنّ الريح كانت تحمله. شعره يتطاير حول وجهه الشاحب. ورداؤه يخفق كالشراع لسرعة خطواته. ومِن ثمّ، وعندما يتأكّد مِن أنّه بعيد كفاية، فإنّه يغوص بين الأعشاب المائيّة ويسلك الضفّة الشرقيّة، وما أن يجد الرصيف الصخريّ في الجرف المرتفع، حتّى يبدأ بالتسلّق، مِن دون أن يعير اهتماماً لخطر الانزلاق على الضفّة الصخرية شديدة الانحدار في الضوء الخافت. إنّه يتسلّق، يتسلّق وصولاً إلى صخرة تبرز فوق البحيرة، حيث تشمخ سنديانة عتيقة. يجلس هناك، يسند مرفقه إلى إحدى ركبتيه، ويسند ذقنه إلى راحة يده، ويحدّق بنظره في المدى الذي يُظلم، إنّه بالكاد مرئيّ بفعل ثوبه الأبيض وشحوب وجهه، ولا يتحرّك…

 

إنّما أحدهم قد تَبِعه: إنّه يوحنّا. إنّ يوحنّا نصف عارٍ، أي، بجلبابه القصير فقط، ثوب صيّاد، شعره متراصّ وأملس كهيئة مَن كان في الماء، إنّه لاهث ومع ذلك شاحب. إنّه يقترب مِن يسوعه برويّة: إنّه يبدو كظلّ ينزلق على الجرف الوَعِر. يقف على مسافة. يراقب يسوع... لا يتحرّك. إنّه يبدو كجزء مِن الصخرة. جلبابه الداكن يخفيه أكثر بعد: فقط وجهه ساقاه وذراعاه العاريان بالكاد تُرى في ظلمة الليل.

 

ولكن عندما يَسمَع، أكثر منه يرى بأنّ يسوع يبكي، فلا يعود يقوى على المقاومة، ويقترب منه ثمّ يناديه: «يا معلّم!»

 

يسوع يَسمَع همسه ويرفع رأسه؛ إنّه يجمع ثيابه كي يفرّ.

 

لكنّ يوحنّا يصيح: «ما الذي فعلوه لكَ يا معلّم، حتّى ما عدتَ تتعرّف إلى يوحنّا؟»

 

يسوع يتعرّف إلى الـمُفضّل لديه. يمدّ له ذراعيه ويوحنّا يرتمي فيهما، ويبكيان كلاهما لألمين مختلفين ومحبّة واحدة.

 

إنّما بعد ذلك تهدأ دموعهما، ويسوع أوّلاً يعود لرؤية الواقع بوضوح. إنّه يُدرِك ويرى أنّ يوحنّا نصف عارٍ، بجلباب مبلّل، متجمّد وحافي القدمين. «كيف لكَ أن تكون هنا وعلى هذه الحال؟ لماذا لستَ مع الآخرين؟»

 

«آه! لا تؤنّبني يا معلّم. لم أستطع البقاء... لم أستطع ترككَ... خَلَعتُ ثيابي، كلّها ما عدا هذا، وسبحتُ عائداً إلى تراقية، ومِن هناك على طول الضفة وتجاوزت الجسر، ومِن ثمّ تبعتكَ. ولبثتُ في الحفرة قرب المنزل، متأهّباً كي أهرع لمساعدتكَ، أو على الأقلّ كي أعرف فيما إذا كانوا قد اختطفوكَ أو آذوكَ. وسمعتُ أصوات مشاجرات، ثم رأيتُكَ تَعبر سريعاً مِن أمامي. لقد بدوتَ وكأنّكَ ملاك. وكي أتبعكَ دون أن أفقد أثركَ، فقد سقطتُ في حُفَر ومستنقعات، وأنا مغطّىً تماماً بالوحل. لا بدّ أنّني قد لطّختُ ثوبكَ... أنا أنظر إليكَ منذ أن وصلتَ إلى هنا... أكنتَ تبكي؟... ما الذي فعلوه بكَ يا ربّي؟ هل أهانوكَ؟ هل ضربوكَ؟»

 

«لا. لقد أرادوا تنصيبي مَلِكاً. مَلِكاً مسكيناً يا يوحنّاً! كُثُر بإيمان حسن، بدافع محبّة، بِنيّة صالحة... وأغلبهم... كي يشوا بي ويتخلّصوا منّي...»

 

«مَن هم؟»

 

«لا تَسأَل.»

 

«والآخرون؟»

 

«أيضاً لا تَسأَل عن أسمائهم. عليكَ ألّا تكره وألّا تنتقد... أنا أغفر...»

 

«يا معلّم... أكان هناك أيّ تلاميذ؟... قل لي فقط هذا.»

 

«نعم»

 

«ورُسُل؟»

 

«لا يا يوحنّا. ولا رسول.»

 

«أحقاً يا ربّ؟»

 

«حقّاً يا يوحنّا.»

 

«آه! الحمد لله على ذلك... إنّما لماذا لا زلتَ تبكي يا معلّم؟ أنا معكَ. إنّني أحبّكَ عن الجميع. وحتّى بطرس، أندراوس والآخرون... عندما رأوني أرمي بنفسي في البحيرة قالوا بأنّني مجنون، وبطرس كان غاضباً، وأخي قال بأنّني أريد أن أموت في الدوّامات. لكنّهم أدرَكوا بعد ذلك وصاحوا: "ليكن الربّ معكَ. اذهب. اذهب!..." نحن نحبّكَ. إنّما ما مِن أحد يحبّكَ مثلي، أنا الصبيّ المسكين.»

 

«نعم. ما مِن أحد مثلكَ. إنّكَ بارد يا يوحنّا! تعال هنا، تحت ردائي...»

 

«لا، عند قدميكَ، هكذا... يا معلّمي! لماذا لا يحبّكَ الجميع بقدر الصبيّ المسكين الذي هو أنا؟»

 

يسوع يجذبه إلى قلبه، وقد جلس بجانبه. «لأنّهم لا يملكون قلبكَ الطفوليّ...»

 

« أكانوا يريدون تنصيبكَ ملكاً؟ إنّما ألم يفهموا بعد بأنّ ملكوتكَ ليس مِن هذه الأرض؟»

 

«لم يفهموا!»

 

«مِن دون ذِكر أسماء، حدِّثني بما جرى يا ربّ...»

 

«إنّما أنتَ لن تتحدّث بما قلتُه لكَ؟»

 

«إن لم تكن تريد ذلك يا رب، فلن أتحدّث عن الأمر...»

 

«لن تأتي على ذِكر الأمر، إلاّ حينما يريد البشر إظهاري كزعيم شعبي عاديّ. وهذا سوف يحصل يوماً ما. إذّاك سوف تكون موجوداً وسوف يتعيّن عليكَ أن تقول: "هو لم يكن مَلِكاً أرضيّاً لأنّه لم يشأ أن يكون كذلك. لأنّ ملكوته لم يكن مِن هذا العالم. لقد كان ابن الله، الكلمة المتجسّد، ولم يكن ليقبَل بما هو أرضيّ. لقد أراد أن يأتي إلى العالم ويتّخذ له جسداً كي يفتدي الجسد والنُّفوس والعالم، لكنّه لم يرضَ بمغريات العالم ومكامن الخطيئة، ولم يكن فيه شيء حسّيّ أو دنيويّ. والنور لم تغلّفه الظلمات، وأنّ اللامحدود لم يتقبّل المحدود. ومِن مخلوقات يحدّها الجسد والخطيئة، عَمل مخلوقات تشبهه، برفعه لأولئك الذين آمنوا به إلى الـمَلَكيّة الحقّة، وأقام ملكوته في القلوب، قبلما يؤسّسها في السماوات، حيث سيكون ملكوتاً كاملاً وأزليّاً مع كلّ الذين سيكونون قد خلصوا." ستقول ذلك يا يوحنّا، للذين لن يروا فيَّ سوى كائن بشريّ، وللّذين لن يروا فيَّ سوى روح، لأولئك الذين سينكرون أنّني تعرّضت للتجربة... وللألم... ستُخبِر البشر بأنّ الفادي قد بكى... وبأنّهم، أي البشر، قد خُلِّصوا أيضاً بدموعي...»

 

«نعم يا ربّ. كم تتألّم يا يسوع!...»

 

«كم أفتدي! أمّا أنتَ فتعزّيني في ألمي. سوف ننطلق مِن هنا عند الفجر. سنجد قارباً. وإذا ما قلتُ لكَ بأنّنا سنكون قادرَين على المضيّ دون مجاذيف، فهل تصدّقني؟»

 

«أصدّقكَ حتّى ولو قلتَ بأنّنا سنمضي مِن دون قارب...»

 

يبقَيان متعانِقَين، متدثّرَين فقط برداء يسوع، ويوحنّا، الـمُنهَك، ينتهي به المطاف بأن يغفو في الدفء، مثل طفل بين ذراعيّ أُمّه.