هل يمكن للأديان ممارسة الحكم؟

هل يمكن للأديان ممارسة الحكم؟

ومن هو المؤهل للحكم بها؟

لابد أن الكثير منا، وعلى ضوء ثورات الربيع العربي، خاصة بعد دخول الجهاديين بقوة على خط الثورة السورية والانقلاب على إخوان المصرية ومواجهة الأحزاب الدينية الصاعدة في البقية للتحديات الأمنية وعلاقة القوى العظمى شرقها وغربها بذلك، على ضوء كل هذا بدأ سؤال يطرح نفسه وبالحاح: هل يمكن للاسلام السياسي، أو أي دين آخر، الوصول إلى قمة الحكم في أي بلد وممارسته؟

لاشك أن الشرائع السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والاسلامية، والمتشابهة في أساسياتها بنسبة كبيرة، وكونها أتت من نفس الخالق الأعلم بطبيعة خلقه، لاشك أنها الأنسب لتنظييم علاقة الناس مع بعضهم من جهة ومع خالقهم من جهة ثانية. ولكن السؤال هنا يكمن في (من لديه الفهم الصحيح لهذه الشرائع ولحدودها، ومن يمكنه تطبيقها على الأرض بين هذا الخليط الكبير من الأطياف البشرية المذهبية المختلفة؟). يذكر التاريخ أن ثلاثة أنبياء فقط وصلوا إلى رأس السلطة السياسية في عصرهم وحكموا الدولة بالشريعة السماوية، وهم داوود وابنه سليمان (ع) وثم محمد (ص). طبعاً مهمة الأنبياء في تطبيق الشريعة أسهل من مهمة غيرهم، كونهم يتلقون الوحي ومدعومين بمعجزات ربانية تأتيهم كلما لمسوا شكاً من الناس برسالتهم أو تعرضوا للخطر من أعدائهم.

كانت مهمة داوود وسليمان (ع) الأسهل لأن الديانة اليهودية حينها كانت الأولى والوحيدة وليس لها ديانة سماوية منافسة، ولكن بعد مضي هذا العهد، انتقل الحكم لأيدي ملوك آخرين من بني إسرائيل ادعوا بأنهم المعنيين بتطبيق الشريعة الموسوية. إلا أنهم، وكغيرهم من الحكام ممن سبقهم وممن سيلحقهم، وبمساعدة رجال الدين المستفيدين والمحسوبين عليهم، حرفوا التعاليم الأصلية للديانة لتتناسب مع مصالحهم ومقاساتهم الدنيوية. وهذا أدى إلى تقسيم مملكة إسرائيل إلى دويلتين تصارعتا مع بعضهما في البداية لتنهارا بعد ذلك بالتتابع على يد الغزاة من الشرق وليتم سبي شعبهم إلى بابل. بعد نزول المسيحية واعتناق الامبرطورية الرومانية (البيزنطية) لها فيما بعد ومحاولتها تطبيقها في مناطق نفوذها، اصطدمت الديانتان مع بعضهما في تنافس دموي لم يهدأ نسبياً حتى ظهور الاسلام في القرن السابع الميلادي. وما أن توفي الرسول (ص) حتى بدأت الخلافات تظهر حول الشخص الأمثل ليخلفه في الحكم. فحتى فترة الخلفاء الراشدين، وبالرغم من ثرائها بالانجازات والفتوحات، إلا أنها أيضاً كانت ثرية بالخلافات والاقتتال حول من سيحكم. وهنا بدأ كل طرف يدعي أحقيته ويستشهد على ذلك بتفسيراته الخاصة للقرآن الكريم أو بأقوال أو مؤشرات من الرسول (ص). فانتهت فترة الراشدين باغتيال ثلاثة من أصل أربعة، ولم يصل الحكم إلى الأمويين ويستتب لهم إلا بمعارك طاحنة بين الاخوة كان ضحاياها عشرات الآلاف. ثم انتقل الحكم إلى العباسيين بصورة حتى أكثر دموية ووحشية وصلت إلى حد نبش قبور الخلفاء والولاة الأمويين، كل ذلك بدعوى معاقبة الظالم والأحقية بالحكم وهدف تطبيق الشريعة ليس إلا. طبعاً لاأحد ينكر الانجازات التي تحققت أيضاً في أيام العباسيين، ولكن لما وصل المغول إلى بغداد، كان الخليفة الذي يدعي تطبيق الشريعة، والذي التهى عنها بكل شئ آخر، كان قد أصبح لقمة سائغة لهولاكو. وحين قرر ملوك وأمراء أوربا رفع شعار الصليب ونصرة الدين المسيحي في العصور الوسطى، أرسلوا حملاتهم التي عرفت بالحملات الصليبية (1096-1291) إلى أرض فلسطين، فراح ضحيتها مئات الآلاف من الطرفين المتصارعين ولم ينج اليهود أيضاً منها.

ماأريد قوله هنا أن تبني أي حكومة للخطاب الديني بتطبيق الشرائع السماوية، لأي دين كانت، هو أمر لم يكن سلساً في السابق ولا أيضاً في عصرنا، هذا إن لم نقل مستحيلاً، وذلك بسبب التنوع الكبير للناس والطوائف في كل بلد من جهة وعدم وجود حاكم أشبه بالأنبياء المذكورين لتنفيذها بحكمة وعدل من جهة ثانية. وقد اكتشفت أوربة ذلك منذ عدة قرون، ووجدت أن رأس الكنيسة ليس دائماً إنساناً شريفاً بالضرورة، بل قد يقبل الرشاوى ويمارس العلاقات المحرمة ويكذب ويتآمر وغير ذلك، لمصلحة شخصية أو عائلية أو طائفية. وبالتالي لايمكن السماح له بالمشاركة بالحكم بمبرر أنه يطبق شرع الله في الأرض، بل يجب إبقائه تحت طائلة القانون إن هو تجاوزه، وهذا يضمن من جهة ثانية أن لاتتطور الأمور بهكذا حاكم أن يدعي أنه يتلقى الوحي من السماء.

ولاننسى هنا أن المسيحيين أنفسهم ينقسمون إلى كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس وهناك الموارنة والانجيليين وشهود يهوذا وغيرهم وغيرهم، والكل يدعي أنه الأصح والأقوم وقد يصل إلى حد تكفير الآخرين. وقد يقول قائل هنا أن الاسلام مختلف، ولكني أعود لأوكد أن كافة الشرائع السماوية نقية ومؤهلة للتتطبيق كما نزلت في الأصل، ولكن المشكلة في الفهم الصحيح لها وفي من يطبقها وهل هو مؤهل لتطبيقها؟ نعم إن السنة يشكلون اليوم تسعين بالمئة من مجمل المسلمين في العالم، ولكن هذا لايمنع أن هناك في كافة بلاد العرب والمسلمين طوائف اخرى تنسب نفسها للاسلام كالشيعة والدروز والاسماعيلية والزيدية والعلوية وغيرها، وهناك عدة مذاهب وفرق في كل واحدة، وكل منها تدعي أنها الأصح والأقوم. طبعاً يمكن الخروج من هذه المتاهة في أي بلد بوضع دستور وقانون مدنيين يستمدان موادهما من روح الشرائع السماوية على أن يتم التصويت عليهما من قبل الشعب في ذلك البلد. فلا أعتقد أن أحداً عاد بقادر اليوم أن يفرض قانوناً على أحد، وعلى الأقليات أن ترضى برغبة الأكثرية بشرط أن يكون الدستور والقانون مؤهلان لحمايتها، ويسمح لأفرادها الاحتكام لشريعتهم، وهنا يأتي دور رجال الدين للنصح والاقناع لصالح تطبيق الشرائع دون الاكراه عليها.

شعوب العالم، ومنهم الشعوب العربية خصوصاً والاسلامية عموماً، عاشت على مدى قرون عديدة حياة مختلفة عن تلك التي يمكن وصفها بالملتزمة بالأصول الدينية، والانتشار الواسع للأفلام الاباحية والملاهي الرخيصة وصالات المقامرة وحلبات المراهنة في معظم الدول، ناهيك عن الفساد العلني من دعارة ورشاوى واحتيال، لأكبر دليل على ذلك. وبالتالي فتقع كما ذكرت على عاتق رجال الدين مهمة محاولة إعادة الناس إلى تعاليم وأخلاق دياناتهم وكأنهم يبدأون الدعوة من جديد، وذلك بالتدريج وبالكلمة الحسنة والنصيحة والمحبة. أما تبني العنف والتكفير وقطع الرؤوس والأيدي والجلد والرجم فسيكون لها أفعالاً عكسية لايستفيد منها إلا الحكام الفاسدين ويستعملوها لتبييض صفحتهم وتبرير ديكتاتوريتهم والاستمرار بإجرامهم واختطافهم للبلاد. لقد استطاع رجال الدين المسيحيين في أوربة استيعاب صدمة إبعادهم عن السياسة والحكم بعد الثورة الصناعية، وتمكنوا من الاستمرار بالعمل في ظل المجتمعات الحرة الحديثة والأنظمة المدنية الديمقراطية وتأقلموا معها، مرة بالفوز بمقاعد في البرلمان ومرة بانشاء أحزاب سياسية تشارك في المعارضة أو الحكومة. الأكثر أهمية هنا أن لايضع رجال أي دين أنفسهم في صف العداء للحرية والديمقراطية، بل الانخراط فيهما، وإلا فقدوا حب الناس وإصغائهم لهم. كما عليهم التعريف بالشريعة من جديد، كون غالبية الناس اليوم تجهل أحكامها، فرجال المسلمين ربما لايعرفون عن شريعتهم أكثر من سماحها بأربع زوجات فحسب.

لقد نشبت عبر التاريخ حروب لاتعد ولاتحصى باسم الدين، مسيحيون حاربوا مسيحيين، مسلمون حاربوا مسلمين، ومسلمون حاربوا مسيحيين أو يهود أو العكس، ولاتزال كل فئة وحتى اليوم تقول بأنها صاحبة الحق والمعتدى عليها وأنها (الفرقة الناجية أو المختارة أو التي على صواب). ولكن إذا أعطينا مالله لله، ومالقيصر لقيصر، على أن يكون قيصر نفسه ليس فوق القانون، فأعتقد أن العالم سيكون أفضل، وأعتقد أن الدين أيضاً سيكون كذلك.

***

(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الاثنين 13 صفر 1435، 16 كانون الأول، ديسيمبر 2013

هيوستن / تكساس

http://sites.google.com/site/tarifspoetry