فنجان قهوة في فرع المخابرات

فنجان قهوة في فرع المخابرات

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي عايشتها مع أحد أصدقائي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في القصة السابقة، فبعد تخرجي في مطلع الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت لفترة وجيزة في مؤسسة انشائية عسكرية بصفة مهندس متدرب، ولكني عملت أيضاً كمعيد في الكلية المذكورة يومين في الاسبوع لمدة فصل واحد وذلك لمادة الرسم الصناعي. كنت على علاقة صداقة شخصية وعائلية متينة مع مدرسها منذ السنة الأولى حيث كنت أعشق تلك المادة فدعم طلبي لتدريسها. وكما ذكرت أيضاً في تلك القصة، فقد حدثت مشكلة في ذلك الفصل حين حاول أحد (الرفاق) البعثيين التقرب من طالبة في صفي عن طريق التوسط لتنجيحها في المذاكرات والامتحان النهائي دون أن تستحق ذلك، ولما رفضت قام (الرفيق) بتهديد صديقي الاستاذ الذي كنت محسوباً عليه، وكدنا أن نفقد صداقتنا بسبب ذلك.

بعد حوالي الشهر ومع بداية الفصل الثاني من نفس العام الدراسي، وبعد أن تم إبعادي عن التدريس لعدم تجاوبي مع رغبة (الرفيق) إياه، حصل ولاحظت خلال أحد لقائاتي مع صديقي الاستاذ أنه كان على غير طبيعته. كان مهموماً ووجهه دائم الوجوم، مما دفعني لأقول له: شو استاذ، بعدك زعلان مني مشان قصة البنت؟ فرسم بصعوبة ابتسامة على وجهه وقال: خليها على الله، ثم أضاف: الله يلعن هالزمان. كنا نجلس في أحد المطاعم الشعبية في باب توما ولم يكن معنا أحد. فقلت له: لماذا لاتقول لي ماهي المشكلة، فعسى أن يكون عندي حل، ثم مازحته قائلاً: هل تزوجت على زوجتك ولاتعرف كيف ستخبرها بالأمر؟ لاحظت هنا أنه يحاول تجنب النظر إلي مباشرة، ثم اكتشفت أنه يحاول إخفاء الدموع المتجمعة في عينيه، وهذا مالم أعهده فيه في السابق خلال صداقتنا التي مضى عليها سنوات، فعرفت أن الموضوع ليس بالعادي ولايتحمل أي ممازحة. جمع الاستاذ أنفاسه والتفت إلى قائلاً: من يصدق أني وبعد ربع قرن في التدريس الجامعي وتخريج أفواج وأفواج من المهندسين، وبعد أن شاب شعري في قاعات المحاضرات، تكون مكافئتي عزيمة على فنجان قهوة في فرع المخابرات.

حين وصل الاستاذ في حديثه إلى هذا الحد، كان صوته يتهدج ويكاد يختنق، وفيه مزيج من المرارة والغضب ومن الشعور بالمهانة والظلم. كان على وشك الانفجار بالبكاء لولا أنه تمالك نفسه ونظر مباشرة في عيني بانتظار أن أقول شيئاً. من جهتي، فلم تفاجئني القصة بقدر مافاجئني أن الاستاذ رواها وكأنه لايعيش في (سورية الأسد) ولايعرف أن هذا قدر كل سوري، أعني أن يزور فرعاً للمخابرات على الأقل مرة في حياته، ولايكون سورياً إذا لم يتعرض لتلك التجربة. لم أتجرأ أن أقول له مادار في ذهني حينها أو أن أعاتبه على استهجانه لتلك العزيمة، فمن لم يستدعى إلى المخابرات في الأمس، فسوف يستدعى في الغد. لاشك أنه كان يعلم ذلك، ولكنه وبسبب معارفه الكثيرة لأبناء مسؤولين من طلابه أو لمسؤولين كانوا في الماضي من طلابه، ربما شعر أن لديه مناعة ضد هكذا استدعاء. في النهاية، قلت له: طيب استاذ، احكيلنا القصة من أولها.

بدأ الاستاذ بالكلام قائلاً: كنت قبل يومين في طريقي إلى مقصف الكلية بعد انتهاء المحاضرة وبرفقتي بعض الطلاب، فاذا بشاب (مغسول القدر) يقترب مني ويطلب أن يتكلم معي على انفراد، وكان يبدو من ملابسه ومسدسه ولكنته أنه من المخابرات. شعرت على الفور أن هناك مصيبة قادمة، فالمخابرات لايطلبون التحدث معك لدعوتك على فنجان قهوة. ولم تمض لحظات حتى وجدت أني كنت مصيباً ومخطئاً في نفس الوقت، فما أن ابتعدنا قليلاً عن بقية الطلاب حتى قال لي: المعلم عازمك على فنجان قهوة يوم كذا ساعة كذا، ولما سألته من هو المعلم قال: المقدم (فلان) رئيس فرع مخابرات (الفلاني). شعرت للحظات أن الدماء قد توقفت في عروقي وأن صوت دقات قلبي قد وصل إلى الصين وأن نهايتي قد اقتربت وبالتالي علي أن أكتب وصيتي قبل فوات الأوان. تركني العنصر أغرق في هذه الهواجس ليسحب نفساً من زرزور سيكارته ثم تابع مازحاً بسماجة: إذا كنت لاتعرف مكان الفرع، يمكن أن نرسل لك سيارة لاحضارك موجوداً لأن المعلم لايحب أن يتأخر عليه أحد. فاستجمعت مابقي من أنفاسي وقلت له: ولَّو، ليش في حدا مابيعرف فرعكم، يخز العين أشهر من نار على علم، طبعاً أعرفه وسأحضر بنفسي، ولكن هل تعلم ماهو سبب هذه الدعوة؟ فنظر إلي نظرة استغراب وقال: والله يااستاذ آفيني احكي شي، بدك المعلم يشنقني ولاّ يقطع لساني ويطعميه للبسينة؟

تابع الاستاذ قصته قائلاً أن موعده مع فنجان القهوة بعد يومين، ولما سألته فيما إذا كان عنده أي فكرة عن سبب الاستدعاء نفى ذلك ورجح أن أحدهم ممن يضمرون له الشر لابد وقد كتب فيه تقريراً كاذباً كشتم الرئيس أو التطاول على النظام أو غير ذلك مما هو شائع في (سورية الأسد) لتصفية الحسابات الشخصية. ولما سألته ماذا ينوي أن يفعل قال أنه لاينوي بل فعل في نفس اليوم، فهكذا أمر لايتحمل التأجيل، حيث اتصل بمسؤول من (الطائفة الكريمة) ومن (الوزن الثقيل) كان طالباً عنده قبل سنوات، فقام بزيارته في مكتبه حيث عمل الأخير على طمأنته وقال له : ولا يهمك استاذنا، يللي بدو يلمس شعرة من راسك وأنا موجود بعد الله ماخلقو. انت روح واترك الباقي علي. وهنا ابتسمت وقلت له مواسياً: معك واسطة من هذا الوزن، ولاتزال خائف؟ فقال: ليس فقط الخوف من دخول هكذا مسلخ بشري، ولكن أيضاً الشعور بالاهانة والذل، فحتى الاستاذ الجامعي ليس له كرامة في بلده. ثم أخبرني أنه وزيادة في الحيطة، تكلم أيضاً مع عدة مسؤولين آخرين من طلابه ومعارفه، مدنيين وعسكريين، ووضعهم بالصورة وتلقى منهم تطمينات تشبه ماقاله له المسؤول الأول.

مضى اليومان واتصل بي الاستاذ بعد خروجه من الفرع وطمأنني أن كل شئ سار على مايرام، ودعاني إلى بيته مساء ليروي لي التفاصيل. قال لي ذلك المساء أنه وبمجرد دخوله من باب الفرع ثقبت أنفه رائحة كريهة هي مزيج من العفونة والدخان والعرق ودورات المياه القذرة، كما ثقب أذنيه مزيج من أصوات استغاثات وصرخات ألم يقابلها أصوات شتائم يغلب عليها سب الذات الالهية وكذلك الطعن بالشرف، ويتقاطع مع هذه وتلك أصوات الصفعات والضرب. ثم أضاف أنه سرعان ماتم إيصاله إلى مكتب (المعلم) رئيس الفرع الذي استقبله بحفاوة ظاهرة وسأله عن نوع القهوة التي يفضلها. أجابه الاستاذ أنه لاداعي لذلك لأنه على موعد لتناول الغذاء بعد ساعة مع (فلان)، وذكر له اسم المسؤول إياه، وأنه، أي هذا المسؤول، يعلم مكان وجوده، ليس هو فقط ولكن أيضاً فلان وفلان وفلان من بقية المسؤولين، وعدد له أسماء كافة من تكلم معهم. وهنا ابتسم رئيس الفرع وقال له: والله مالك قليل يااستاذ ويبدو انو كل المسؤولين صحابك. بس بتعرف، ماكان في داعي لكل هالشي، أنا قد ماسمعت عنك، بس حبيك اتعرف عليك واشرب فنجان قهوة معك، يعني مالنا جايبينك لنحقق معك. وتابع الاستاذ أنه هنا هدأت أعصابه وتبدلت حالته من الخوف إلى الغضب وقال للمقدم: وهل ترى سيادتك أن فرع المخابرات هو أنسب مكان لدعوة ضيف لشرب القهوة؟ ألم تفكر بالحالة التي عشتها وعاشتها عائلتي وكيف مرت علينا الساعات والليالي من يوم تبلغت الدعوة؟ على كل حال قهوتك مشروبة، هل بامكاني المغادرة الآن؟ فقال له رئيس الفرع: لايمكن أن تغادر قبل أن تشرب القهوة، بعدين في خدمة بدي ياها منك. وهنا فهم الاستاذ أنه على وشك أن يفهم الغرض الحقيقي من تلك الدعوة، فقال له المقدم: بنتي (فلانة) عندك في صف الرسم الصناعي وغير قادرة على استيعاب المادة وبدنا منك تنجحلنا ياها وأملنا انو ماتخجلنا. ولما انتهى من كلامه لم يصدق الاستاذ أذنيه، وتأمل قليلاً في عيني المقدم ليرى كيف يمكن للحقارة أن تتجسد في بني آدم ليستدعي استاذاً إلى مكان قلما يخرج الناس منه أحياء، لالشي وإنما ليتواسط لانجاح طالب أو طالبة. في النهاية أجابه قائلاً: وهل كان هذا الموضوع بحاجة لاحضاري إلى فرع المخابرات، أما كان يكفي ياسيادة المقدم أن ترفع سماعة الهاتف وتتصل بي أو حتى مع عميد الكلية، فتنجح ابنتك، ليس فقط بالمادة، ولكن ببقية المواد وتتخرج في نفس اليوم. ضحك رئيس الفرع من كلام الاستاذ واعتبره ممازحة وقال له معاتباً: أعوذ بالله، بدك الناس تقول عني أني قليل واجب ولاأفهم بالأصول؟ الواجب أن نشرب القهوة وبعدين نحكي، وعلى كل حال رح اعتمد على الله وعليك مشان البنت.

هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، فهنا في سورية تتحول الرغبات الشخصية والتصرفات المزاجية للمسؤولين إلى إرهاب دولة يضع رقاب كافة المواطنين تحت سكين الرعب.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الأحد 10 كانون الأول، ديسيمبر 2017

هيوستن / تكساس