الإنسانية بين السياسة ودموع التماسيح

الإنسانية بين السياسة ودموع التماسيح

إن غداً لناظره لقريب

يمكننا تعريف السياسة بأنها فن غايته تأمين المصالح والامتيازات وتأمين استمرارها. وكما أن هناك السياسة (النظيفة) التي تسعى لتحقيق غايتها بالوسائل المشروعة والمستقيمة، مسترشدة بالقيم والأخلاق وتعاليم الأديان السماوية كافة، فان هناك أيضاً السياسة (القذرة) التي تستلهم طرقها من مبدأ ماكيافيللي الشهير (الغاية تبرر الوسيلة) وتتبعه بصورة حرفية.

وقد عانت الانسانية ومنذ وجودها من هذا النوع من السياسة، والتي أنتجت، بالاضافة لما أنتجته أيضاً، حروباً عسكرية وصلت مرتين إلى مستوى الحروب العالمية خلال القرن الماضي. وحين تصل الأمور إلى حد الحروب، نجد أن دولاً تؤيد هذا الطرف ودولاً اخرى تؤيد الطرف الثاني، في حين تفضل باقي الدول الوقوف على الحياد لتراقب المعارك عن بعد. كل ذلك يحدده تقدير كل واحدة لمصالحها في أي جانب تكمن. أما مانسمعه عن المبادئ والمواقف والشعارات، فليس سوى وللأسف حبراً على ورق وكلاماً للاستهلاك الاعلامي.

إذاً كل هذا مفهوم، فعصر الأخلاق قد ولى، ونحن نعيش في عصر المصالح المادية على مستوى الأفراد والدول. ولكن ومما يلفت النظر أنه حتى وفي هذا الزمن المادي الردئ، فحين تحدث كارثة طبيعية مثل زلزال أو طوفان في مكان لاعلى التعيين، نجد أن المجتمع الدولي يضع السياسة جانباً ويسارع لإغاثة البلد المنكوب حتى وإن كان في حالة عداء معه. فالمساعدة هنا ليست لحكومة ذلك البلد، ولكن للشعب الذي في كثير من الأحيان، لاناقة له ولاجمل بسياسة بلده الخارجية. وهذا يعني أن السياسة تحت ظروف النكبات تأخذ استراحة مفتوحة وتفسح المجال للإنسانية لتأخذ مجراها وتقوم بعملها.

وهنا نصل إلى الهدف من هذا المقال، فالشعوب العربية التي تواجه اليوم، وبصدورها العارية، آلة الدمار والقتل التابعة لأنظمتها الفاسدة هي تماماً كتلك التي تتعرض لكوارث طبيعية وتستحق بالتالي من المجتمع الدولي أن يضع سياساته ومصالحه على الرف ولو مؤقتاً ويسارع لنجدة تلك الشعوب ومساعدتها على التخلص من جلاديها. وليس من الضروري أن تكون هذه النجدة بالتدخل العسكري، بل يمكن أن تأخذ شكل المساعدات الانسانية واستقبال اللاجئين وكذلك فرض العقوبات الشديدة والجدية على السفاحين من رجال النظام ومصادرة ممتلكاتهم في الخارج وملاحقتهم قضائياً وإصدار مذكرات قبض عليهم في حال وسافروا خارج بلدانهم، حتى ورصد مكافآت لمن يحضرهم إلى المحاكم الدولية.

ولكن وللأسف، فان مايجري هو عكس ذلك تماماً. فدول العالم، وخاصة العظمى منها، مع استثناءات قليلة، تحدد استعدادها لمنع تلك المجازر التي تجري في بلادنا وعلى مرئى ومسمع منها، قياساً على مصالحها ومصالح حليفتها في المنطقة إسرائيل. فان رأت أن لها مصالح اقتصادية وليس لاسرائيل في نفس الوقت أي تحفظ، تدخلت بسرعة وبقوة. أما إذا رأت أن إسرائيل ترغب باستمرار هذا النظام أو ذاك، اكتفت باجراءات لاتستحق أكثر من وصفها برفع العتب. وهي من شاكلة تجميد بعض الحسابات المصرفية واصدار عبارات التنديد والاستنكار التي تعلمتها أصلاً من أنظمتنا العربية. وأخيراً وليس آخراً، ذرف دموع التماسيح على الضحايا من المدنيين الذي عذبوا وقتلوا على يد رجال أمن وعساكر أنظمتهم الحاكمة. وكلنا يذكر هذه الدموع التي ذرفت في النصف الثاني من القرن الماضي ابتداءً من السبعينيات على مليوني كمبودي قتلوا على يد نظامهم من الخمير الحمر، وانتهاءً بالتسعينيات على مئات الآلاف التي قتلوا في راوندا الافريقية والبوسنة الأوربية في مجازر التطهير العرقي، ومروراً بمجزرة حماة السورية الشهيرة عام 1982 والفريدة من نوعها عربياً وعالمياً والتي ماتزال أعداد ضحاياها بانتظار التوثيق مع إجماع الشهود العيان على أنهم بعشرات الآلاف. وهي الضحايا التي لم يذرف المجتمع الدولي عليها ولاحتى دموعه التمساحية، بل تجاهلها واتبع اسلوب النعامة بغرز رأسه في الأرض لغاية في نفس يعقوب لايجهلها كل من لديه ذرة من عقل.

وغالبية ضحايا كل هذه المجازر كانوا من المدنيين الذين كان يمكن انقاذهم لو رغب المجتمع الدولي بالتدخل ولو قام بذلك في الوقت المناسب. ولكن ماحال دون تدخله حينها هي المصالح والتوازنات التي لم تتوفر لديه للتدخل لوقفها. وهي تشبه إلى حد كبير المصالح والتوازنات التي يبدو أنها تمنع المجتمع الدولي اليوم من التدخل لوقف نزيف الدم العربي والاكتفاء بالتنديد والاستنكار ودموع التماسيح. إن تخاذل المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن، وكذلك صمت مايدعى بالجامعة العربية اتجاه المجازر التي تنفذها الأنظمة الدموية بحق شعوبها المطالبة بالحرية والكرامة، يذكرني بالمواقف التي اعتدناها من تلك الهيئات اتجاه إسرائيل وهي تعمل آلة القتل بالشعب الفلسطيني البطل، مجبرة إياه على النزوح والانتقال إلى مخيمات للاجئين في البلدان المجاورة. وهذا التشابه بالممارسات والعقلية يدفعني إلى الإعتقاد بأن هذه الأنظمة وإسرائيل هما رداءان مصنوعان من نفس القماش، وأنهما وجهان لعملة واحدة اسمها البطش. ولكن مايبدو أنه غاب عن تلك الأنظمة الثورية، وغاب عن إسرائيل أيضاً، هو أن الشعوب التي نكلت بها حكوماتها ولاتزال قد حفظت عن خالقها مبدأ (يمهل ولايهمل). فمهما بلغ بطش الحكومات والأنظمة، فهي التي ستزول والشعوب هي التي ستبقى.

فليبطشوا اليوم ماشاؤوا، ولتصمت الجامعة العربية ماشائت، وليتخاذل مجلس الأمن الدولي ماشاء، وليضعوا السياسات والتوازنات والمصالح في السياق الذي يناسبهم، وليذرفوا دموع التماسيح بقدر استطاعتهم، فأنا أكاد أسمع الشعوب تقول لهم (إن غداً لناظره لقريب).

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

الأربعاء 12 شعبان 1432 / 13 تموز 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry