إضحك مع الديكتاتور

إضحك مع الديكتاتور

من إنتصار حرب حزيران إلى زنكة زنكة إلى الكاميرا الخفية

تناولت في مقالاتي الأخيرة عن الديكتاتور الكثير من صفاته السيئة من سفك للدماء إلى اللصوصية ومن الغدر إلى الفساد ومن الظلم إلى العمالة وغير ذلك. أما اليوم فأرى أن من حق الديكتاتور على معيبيه أن يذكروا محاسنه (إن وجدت)، وهذه ليست مهمة سهلة لأنه كان دائما عبر التاريخ رمزا لكلمة الشر ومرادفا لمعنى البلاء. ولكن وبعد تفكير عميق ومطول في هذا الموضوع، استطعت أن أجد مايمكنه التبجح به أمام شعبه، لا بل ومايعتبره فضلا منه على الناس.

فهو، وبإجرامه الدموي وجشعه اللامحدود وظلمه اللامحتمل وفساده الذي لايعرف الخجل، قد جرد نفسه من صفة الإنسانية بفهومها المعروف، كما استبعد إمكانية تشبيهه حتى بوحوش الغابة (التي هي في الواقع أنبل منه بمراحل لأنها إذا قتلت ففي سبيل البقاء وليس الإثراء) مما وضعه مع فصيلة من المخلوقات غير معروفة على كوكبنا. ولكن هذا هو أيضا ما جعله (مادة غنية للسخرية والنكتة والتهكم) من قبل الشعوب التي عانت من شره، وذلك على مبدأ المثل الشعبي القائل(شر البلية ما يضحك). فعندما يجد المواطن نفسه عاجزا عن محاربة هذا النوع من الحكام لعدم تكافؤ الأسلحة، فهو سيعوض ذلك باستعمال أسلحة السخرية والنكتة وأيضا التهكم الغير مباشر الذي يتحمل أكثر من معنى. وهي وإن كانت أسلحة سلمية، إلا أنها قد تكون أحد من السيف وأكثر تأثيرا بالطاغية وحاشيته من الأسلحة النارية. وما كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع وشخصيتي (كركوز وعواظ) في فن مسرح العرائس الشعبي إلا أمثلة عملية على ذلك. وكلما ازداد فساد الديكتاتور ونظامه وازداد تنكيلهما بالشعب، كلما زاد وزن السخرية وعدد النكات التي يطلقهما الناس عليهما. والأمثلة من تاريخنا المعاصر تكاد لاتعد ولاتحصى وبحاجة لمجلدات للإحاطة بها، ولذلك سأكتفي ببعض من أشهرها وأكثرها حضورا في أذهان الناس، والتي ستبقى معهم لأجيال وربما لقرون كمادة غنية للسخرية والتندر.

فهذا هو أحد أزلام نظام ديكتاتوري عربي بائد، وبعد هزيمة حزيران المؤلمة وضياع أراض من ثلاث دول مجتمعة، لايجد حرجا بالخروج إلى وسائل الإعلام ويعلن على الناس، بل ويطمئنهم، أن ماكانوا يظنوه هزيمة في تلك الحرب هو في الحقيقة إنتصار! ذلك أن إسرائيل، والكلام ما زال لذلك المسؤول، كانت تهدف من تلك الحرب إلى إسقاط النظام الثوري في ذلك البلد. إلا أن النظام أفشل أهدافها وصمد وبقي في سدة الحكم مسجلا على إسرائيل (إنتصارا تاريخيا). فالأرض، برأيه، تذهب وتعود، ولكن إذا رحل نظام ثوري كهذا فتلك كارثة لاتحتمل وخسارة لاتعوض. طبعا رحل النظام بعد عدة سنوات من تلك الحرب، ولكن مازالت الأرض محتلة إلى اليوم، وإلى اليوم ما زال الناس يسخرون من ذلك المسؤول وتصريحه بعد مضي حوالي النصف قرن. وهذا يؤكد أن النكتة أقوى وأبقى من الديكتاتور، حتى أن أحد نجوم الكوميديا العرب أشار إلى هذه القصة في واحدة من أشهر مسرحياته.

وهذا ديكتاتور عربي زائل حكم بلاده لحوالي ثلاثة عقود، خلق خلالها جوا من السخرية عليه والتندر به ما لم يحصل في التاريخ المعاصر لذلك البلد، حتى أنه تسبب بولادة (جيل جديد من النكات) بات يعرف باسمه. نكات لاتدور فقط حول عمالته وفساده وفساد أسرته، ولكن أيضا حول البلاهة المتميزة التي كان شعبه يراها فيه. حتى أنهم أطلقوا عليه لقب (البقرة الضاحكة) إشارة إلى ماركة الجبنة الفرنسية الشهيرة، وذلك بسبب الضحكة عديمة المعنى التي كانت لاتفارق وجهه في كافة الظروف والمناسبات. وقد تجلت بلاهته في ذروتها حين قامت الثورة ضده، فاعتقد بأنه سيخيف ملايين الناس الغاضبة ويعيدها إلى بيوتها بإطلاق حفنة من الجمال والبغال عليها. ولا أشك أن الشعب نفسه الذي أقصاه عن الحكم مؤخرا سيفتقد لجو الإضحاك و(الفرفشة) الذي كان يوفره له.

وهذا ديكتاتور عربي آخر، وبعد انطلاق الثورة ضده، يخرج على الناس بزي لايمت بصلة للقرن الواحد والعشرين، فيصفهم بالجرذان ويتوعدهم بإبادتهم وملاحقتهم في كل مكان. ثم يفاجئ المستمعين بتعبير (زنكة زنكة) الذي سبب نوبات هيستيرية من الضحك والتهكم، ليس فقط على مستوى الدول العربية، ولكن العالم أجمع. فسارع المنتجون لتأليف الأغاني والفيديو كليب التي تسخر منه والتي شاهدها الناس بالملايين فأصبحت بين ليلة وضحاها صرعة شهرته خلال أيام أكثر بكثير مما شهرته العقود الأربعة التي حكم بلاده خلالها. ولولا انشغاله بسفك دماء الشعب الذي يطالب برحيله، لرفع دعوى قانونية على شركة يوتوب وغيرها، مطالبا إياها ليس بالعطل والضرر، ولكن بحصته من الأرباح التي تجنيها من السخرية عليه.

وهذه وسائل إعلام نظام آخر، وصله طوفان الحرية والكرامة الذي غمر أقرانه، فخرج الإعلام على شعبه والعالم بنكتة لم يحصل وسبقه إليها نظام آخر من قبل، وبالتالي فعليه أن يسجل براءة اختراعها باسمه قبل أن يسرقها نظام آخر منه. وتقول (الرواية النكتة) أن (كاميرا خفية) كانت قوات الأمن قد ثبتتها مسبقا على شجرة أو عمود، التقطت وبثت بثا حيا وقائع قيام (عصابة مسلحة وملثمة) وقع اختيارها بالصدفة على هذا الموقع بالذات (أمام تلك الكاميرا الخفية) لتطلق الرصاص الحي من خلف الأشجار على جماهير الشعب التي كانت تمارس (حقها المشروع بالتظاهر السلمي). كما أطلقت نيرانها أيضا على جموع قوات الأمن التي كانت ترافق هذه الجماهير المتظاهرة (لحمايتها من الأشرار) من أمثال هذه العصابة. فكانت النتيجة وقوع قتلى من الطرفين، ولكن العدد الأكبر من الضحايا كان من رجال الأمن. ربما لأنهم، وهذا تحليلي الشخصي لبقية الرواية التي ربما خجلت وسائل الإعلام من الإسترسال بها، لأنهم جعلوا من صدورهم دروعا بشرية لحماية جماهير الشعب التي لاتملك سلاحا تدافع به عن نفسها ضد هذه العصابة التي (تعمل لحساب جهات خارجية). وحين تصل الرواية إلى هذه المرحلة الدرامية، تتوقع وسائل الإعلام أن تنهمر الدموع على وجوه المستمعين لها، وقد حدث هذا بالفعل، ولكن ليس من الحزن، ولكن من الضحك ومن الدرجة التي وصلت إليها الأنظمة الديكتاتورية من الإستخفاف بعقول شعوبها والعالم. وأرى أن قصة الكاميرا الخفية هذه، وحجم الصدفة التي وردت فيها، هي قصة إلى جانب أنها مضحكة للغاية، إلا أنها في نفس الوقت سخيفة لدرجة أنها لا تصلح حتى لفيلم هندي.

كما سبق وذكرت، فلا تتسع هذه المقالة لتغطية كافة (نكات الديكتاتور) وأنظمته، من مسيرات (التأييد) المليونية إلى (إقالة) المحافظين والوزارات، من لجان استقصاء (الحقائق) إلى الحرص على نقل السلطة لأيدي (نظيفة)، ومن المقابلات التلفزيونية مع المواطنين (الشرفاء) إلى الأناشيد المهداة من جماهير الشعب للقيادة (التاريخية) للديكتاتور كعربون وفاء له (على تقتيلها وسرقتها والتنكيل بها). وقد طرحت هذه النكات في الماضي وما تزال تطرح اليوم سؤالا ماانفك يختلف حوله الكثيرون وهو (هل هذه الأنظمة حقا غبية لهذه الدرجة، أم تتغابى وتستغبي الآخرين؟) وهل يكمن الجواب له في المثل الشعبي القائل (إذا لم تستح، فافعل ما شئت). ولكن ومهما كان التفسير أو الجواب، فلا أعرف كيف ستتأقلم الشعوب،بعد إزالة هذه الأنظمة التاريخية، على حياة جديدة بدون نفس الشعارات ونفس المفردات وحتى نفس الوجوه التي باتت جزء من حياتها اليومية (المملة) لحوالي النصف قرن. وعليه فلا أجد إلا أن أدعو الله لها بالصبر والسلوان.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

ربيع الثاني 1432 / نيسان، إبريل2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry