في رثاء أبي

في رثاء أبي

رفعت يوسف آغا (1920-2014)

أبي ... أيا كَلِمَةً في القَلبِ حَفِظناها

أبي ... أيا كَلِمَةً تَغَنَّتْ بِها الدارُ

كُنتَ المِشعَلَ الذي بِهِ نَهتَدي

لايوفيكَ حَقَّكَ نَثرٌ ولاتوفيكَ أشعارُ

وكُنتَ الفارِسَ الذي عَلَّمَنا الشَهامَةَ

وأنَّ الحياةَ قيثارةٌ والأمانَةَ هيَ الأوتارُ

كُنتَ لَنا المثَلَ الذي نَصبوا إليهِ

وإنْ باعَدَتْ مابَينَنا بِحارٌ وأسفارُ

ومازِلتَ كَما هِيَ لِلوَطَنِ الرايَةُ

وكَما هِيَ لِلزَرعِ الأمطارُ

وكَما هوَ لِلبَحّارِ شِراعُ السَفينَةِ

وكَما هِيَ لِلنَحلَةِ الأزهارُ

إنْ كانَ الوَفاءُ يُقاسُ فأنتَ مِقياسُهُ

وإنْ كانَ للأُبُوَّةِ ميزانٌ فأنتَ المِعيارُ

لو كانَ لِلأخلاقِ كِنيَةٌ لَتَكَنَّتْ بِكَ

ولو كانَ لها وَزنٌ لَصارَتْ بِكَ قِنطارُ

ماسُئِلَ عَنْ صاحِبِ القَلبِ الكَبيرِ

إلا وتَوَجَّهَتْ إليكَ الأنظارُ

أينَما ذَهَبنا وَجَدناكَ ناراً على عَلَمٍ

وماذَكرناكَ إلا وتَدَفّقَتْ مَدائِحٌ وأخبارُ

***

سامِحنا ياأبي إنْ كُنّا قَصَّرنا، واللهُ

يَعلَمُ أنّا مافَعَلنا، وأنّا كُنّا بِكَ أبرارُ

ماتَرَكنا دَواءً ولاعِلاجاً ولَكِنّكَ تَعلَمُ

ماأفسَدَهُ الدَهرُ لايُصلِحُهُ عَطارُ

أحقاً ياأبي كُنتَ تَنتظِرُ وصولي؟

الجوابُ عندَ مَنْ لِلخَواطِرِ جَبّارُ

أمضَيتُ إلى جانِبِكَ آخِرَ ثَلاثَةِ أيامٍ

بِلُغَةِ العُيونِ والقُلوبِ دارَ مابَينَنا الحِوارُ

وفي بَطنِ القَبرِ كانَ مابَينَنا الوَداعُ الأخيرُ

هُناكَ انهَمَرَتْ على الكَفَنِ مِنْ دُموعِيَ أمطارُ

وسامِحنا إنْ تَرَكناكَ هُناكَ وعُدنا بِدونِكَ

سَنُترَكُ يَوماً فتحيطُ بِنا مِنَ القُبورِ أسوارُ

كُنتَ لنا، أبا عَدنانَ، خَيرَ أبٍ ولكِنْ

هوَ الموتُ لَيسَ فيهِ أشرارٌ وأخيارُ

هوَ الموتُ لايُفَرِّقُ بَينَ أميرٍ أو فَقيرٍ

سَيُدرِكُ الجَميعَ ولَيسَ لَهُ مَخالِبٌ وأظفارُ

الكُلُّ واقِفٌ في الصَفِّ مُنتَظِراً

الكُلُّ سَتَضُمُّهُ حُفرَةٌ تَعلوها أحجارُ

حُفرَةٌ التُرابُ فِراشُها والكَفَنُ غِطائُها

والجَثامينُ مِنْ حَولِها الوَنيسُ والجارُ

على أكفانِ الراحِلينَ تُقَرَأُ رِسالَةٌ

في مِعانيها لِلباقينَ تَذكيرٌ وإنذارُ

***

حَمَلتَنا على كَتِفَيكَ أطفالاً تُلاعِبُنا فحَمَلناكَ

على أكتافِنا إلى المقبَرَةِ لِيَأخُذكَ حَفّارُ

سامِحنا فإكرامُ الميتِ في دَفنِهِ

ولَيسَ هُناكَ في الأمرِ اختيارُ

أمَلُنا أنْ يَكونَ مَثواكَ مَدخَلاً

لِجَنَّةٍ تَجري مِنْ تَحتِها الأنهارُ

سامِحنا ولكِنْ ماعادَ باليَدِ حيلَةٌ

إلا أنْ نَبقى دَوماً لِذِكراكَ زوّارُ

ونَبقى نَدعوا لَكَ بالغُفرانِ ماحَيينا

ويَبقى الدَمعُ يَسيلُ عَليكَ مِدرارُ

الكُلُّ في يَومٍ سَيَدعوهُ فِراشُ الموتِ

الكُلُّ في يَومٍ سَيَدعوهُ الواحِدُ القَهّارُ

يَذهَبُ بَعضُنا اليَومَ، وغَداً نَحنُ وغَيرُنا

يَبقى عِلمُها عِندَ الخالِقِ الأعمارُ

فالموتُ حَقٌ وهَذِهِ سِنَّةُ الكَونِ ولَكِنْ

أينَ ومَتى وكَيفَ، تَبقى للهِ أسرارُ

وسَتَبقى تَستَقبِلُ أفواجاً مِنّا الحَياةُ

وسَتَبقى تَستَدعي غَيرَهُمُ الأقدارُ

الحُزنُ اليَومَ مُضاعَفٌ، أنتَ والوَطَنُ

عَلَيكُما تَنفَطِرُ القُلوبُ وتَغشى الأبصارُ

***

(نثرية يسمح بنشرها دون إذن مسبق)

طريف يوسـف آغا

كاتب وشـاعر عربي سوري مغترب

الجمعة 7 ربيع الثاني 1435 / 7 شباط، فيبروري 2014

هيوسـتن / تكسـاس

توفي أبي في جدة، المملكة العربية السعودية، بعد ظهر الأربعاء 29 كانون الثاني، جانيوري 2014 بعد ثلاثة أيام من وصولي من أمريكا لاعانته في مرضه.

http://sites.google.com/site/tarifspoetry