السكرتيرة التي طلبوا أن أسلخ جلدها

السكرتيرة التي طلبوا أن أسلخ جلدها

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

وكما ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني رئيساً لدائرة في فرع المؤسسة في إحدى قرى الغوطة الشرقية.

للقراء الذين لايعلمون مدى هيمنة (العلويين) على مفاصل الدولة في سورية، فكل وزارة أو شركة أو مؤسسة تمثل بحد ذاتها نموذجاً حياً يجسد تلك الهيمنة. ففي المؤسسة التي كنت أعمل فيها مثلاً، كان المدير العام وغالبية رؤساء الأفرع والمدراء من أصحاب القرار وكذلك كافة ضباط الأمن من (الطائفة الكريمة). وإذا لم يكن أحد هؤلاء واحداً منهم، فيكون حتماً معاونه والذي يرافقه كظله ويكون الآمر الناهي الحقيقي. مديري المباشر لم يخالف هذه القاعدة، وهو لم يقبل في الأصل أن أكون في مديريته إلا بعد أن أحضرت (واسطة) أجبرته على ذلك، فقبل مرغماً ولكنه لم يعارض كثيراً باعتبار أن فترة عمل المهندسين المتدربين قصيرة وبالتالي فكان يعرف بأني غير متمسك بالوظيفة ولا (مشرش) فيها مثله. كان من المعروف أن فرع المؤسسة في تلك القرية، وكونه بعيداً نسبياً عن المديرية العامة، فكان ينظر إليه كالمنفى، ويفرزون إليه المهندسين والموظفين (المغضوب عليهم) أو (الغير مرغوب) بهم، وبالتالي فحين تم فرضي على مديريته، قام مديري بتحويلي إلى هناك بحجة (المصلحة العامة) وعدم وجود (شواغر) إلا فيها، وذلك بهدف تكريهي ودفعي لأن أعود من حيث أتيت، وفي بنفس الوقت لايغضب (واسطتي) باعتباره قبل بتعييني عنده. من جهتي، فلم أفكر بتلك الطريقة، بل على العكس، فقد أحببت ذلك المكان لبعده عن العاصمة وضجيجها وهوائها الملوث وأيضاً عن المديرية العامة وأجوائها العفنة والمشحونة باستمرار بقصص (القيل والقال). كان يعمل تحت إشرافي في الدائرة حوالي إثنا عشر موظفاً وموظفة، نصفهم أيضاً من (الطائفة الكريمة)، وللأمانة فقد وجدت تعاوناً صادقاً من بعضهم ومشاكسة وعدم تعاون من البعض الآخر.

تبدأ القصة بعد عدة أشهر من مباشرتي للعمل، حيث كنت قد اكتسبت سمعة بأني لاأجامل أحداً ولاأتهاون في الأمور الوظيفية وأطبق النظام إلى حد التشدد، لدرجة أن بعض الموظفين (التنابل) في الدائرة راحوا يشتكوني لرئيسي المباشر حتى (أخف) عنهم، كما وسمعت بأنهم كانوا يطلقون علي لقب (الحنبلي) وكان هناك من يتندر بأن بعض المدراء باتوا يهددون موظفيهم بنقلهم إلى دائرتي فيما إذا لم ينجزوا الأعمال المكلفين بها دون تأخير. اتصل بي رئيسي المباشر في أحد الأيام من المديرية العامة، وكان الغضب ظاهراً في صوته ولهجته، وقال لي بالحرف: مهندس محمد (حيث كنت أعرف في المؤسسة باسمي الأول)، سأرسل لك سكرتيرتي (فلانة) لتصبح موظفة في دائرتك اعتباراً من اليوم، وأريد منك أن لاتخصها بأي معاملة خاصة كونها سكرتيرتي، بل أريد منك أن (تسلخ جلدها). ثم نعتها بأبشع الألفاظ وأنهى الحديث. بصراحة لم أتفاجأ بهذه المكالمة، فمن الطبيعي في بلد ديكتاتوري مثل بلدنا أن تصدر تصرفات حمقاء ومضحكة و(صبيانية) كهذه من مدراء ووزراء، كون هذه الظاهرة موجودة حتى في القصر الجمهوري، وحسب مايقول المثل الشعبي (إذا كان رب البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت الرقص). ولكن مافاجأني كان سبب انقلاب المدير المفاجئ وبهذه الصورة على سكرتيرته والتي كنت أعلم أنها شغلت ذلك المنصب لسنوات طويلة.

ربما إذا أعطيت توضيحاً مختصراً عن خلفية المدير وسكرتيرته إياها فقد يفيد في فهم ماحصل. كان هو في العقد السادس، وكان رائداً متقاعداً من الجيش من سلاح المدرعات وشارك (على ذمته) في مسرحية (حرب) تشرين وأصيب فيها، فكان أن كوفئ بتعيينه في ذلك المنصب حيث يعمل تحت إدارته مايقرب من الخمسين شخصاً مابين مهندس ومحاسب وموظف وسكرتيرة، وهو منصب لاشك يتطلب خبرة ودراسة في علم الادارة لاتتوفران بالتأكيد برائد متقاعد والذي يفترض أنه لايجيد سوى التعامل مع الدبابات، هذا إن كان يجيد ذلك حقاً. والجدير بالذكر أن الرجل والذي كان راتبه لايتجاوز الثلاثة آلاف ليرة حينها، كان عنده بيت ملك وسيارة مرسيدس خاصة، غير سيارة المؤسسة البيجو 504، بالاضافة لمزرعة كان دائماً يتباهى بذكرها أمام الجميع (على الطالع والنازل)، تماماً كتباهيه على الدوم بالحديث على علاقاته الحميمة مع شخصيات كان يطلق عليها أسماء مثل (أبو ليلى وأبو عليا وغير ذلك) حيث كان دائماً يتبرع بتعريفهم بأن هذا رئيس الفرع رقم كذا والآخر رئيس الفرع رقم كذا، وذلك طبعاً لارهاب مستمعيه وإعلامهم بأنه، صحيح (متقاعد)، ولكنه (مدعوم).

أما هي فكانت في عقدها الثالث، غير متزوجة وغير جميلة بأي مقياس واعتادت ارتداء الملابس الجريئة والغريبة الألوان. وبالاضافة لكونها أيضاً من (الطائفة الكريمة)، فكانت غير حاصلة حتى على الشهادة الاعدادية، في حين أن وظيفة كهذه تتطلب خريجة معهد سكرتارية على الأقل. وهذا يعني على أرض الواقع وببساطة بأنها سرقت تلك الوظيفة من خريجة معهد وتركتها عاطلة عن العمل بعد أن أمضت الأخيرة عامين (مأمأت) عينيها خلالها في الدراسة وتقديم الامتحانات، وقد جرى هذا لالشئ إلا لأن صاحبتنا لديها (واسطة)، فيما الخريجة ليس لديها. وكأن هذا لم يكن كافياً فيما يتعلق بسكرتيرة (الغفلة)، فكان مما يميزها أيضاً، أنك كلما دخلت إلى مكتبها لمقابلة المدير، وجدت السيكارة في يدها، و(شفاطة) المتة في فمها، ووجدتها دائماً على التلفون في أحاديث شخصية مما يوحي لك بأنك لست في مكان عمل رسمي، بل في جلسة (تحشيش) رسمية. من جهتي، فكان شعوري كلما أتيت إلى مكتبها هو مزيج من ثلاثة إشفاقات: الاشفاق على نفسي وشهادتي (الطويلة العريضة) لكوني لاأستطيع مقابلة المدير إلا إذا سمحت لي فتاة (حشاشة) وشبه أمية بذلك، والاشفاق على البلد الذي يحرم أصحاب الكفاءة فيه من وظائف بحاجة خبراتهم، ليستبدلوا بمن كفائتهم هي المحسوبية. وأخيراً الاشفاق عليها نفسها كانسانة كيف يمكنها أن تتعايش مع ذاتها وتحترم نفسها وهي تعلم في داخلها بأنها إنما موجودة في هذه الوظيفة لانتمائها الطائفي فحسب وليس لكفائتها العلمية أو المهنية، وأنها تشابه بذلك النباتات الضارة التي تنمو وتلتف حول غيرها لتعيش عليها.

بالعودة إلى القصة، فقد وصلت السكرتيرة (المنفية) إلى الدائرة في نفس اليوم، فاستقبلتها في المكتب وحاولت أن أفهم منها ماهو سبب غضب المدير المفاجئ عليها وبهذه الحدة، وفيما إذا كان السبب يتعلق بعدم رضاه عن طريقة أدائها للعمل، مثل تدخينها المتواصل في المكتب أو مكالماتها الشخصية الكثيرة، أو حتى بسبب الملابس الجريئة التي ترتديها أحياناً إلى الشغل والتي ربما تجعله يشعر بالاحراج. فما كان منها إلا أن ضحكت وقالت: ربما لأنك بعيد عن المديرية، فأنت لاتعلم بأن هذه الأمور ليست من أولويات مديرنا، حيث أن أولوياته مختلفة عن ذلك تماماً، بالرغم من أنه متزوج وعنده أولاد في سن الجامعة وفهمك كاف، أما بالنسبة لملابسي، فهو من يلح علي دائماً لارتداء هكذا أزياء ويقول لي بأنه يحب أن يراني بها. طبعاً لم تفاجئني الفتاة بهذه المعلومات، ففي كافة وزارات ومؤسسات وإدارات الدولة، وخاصة العسكرية منها، فالتحرش بالموظفات و(التصبب) عليهن من قبل الرؤساء والمدراء وحتى الوزراء هي سياسة رسمية وإن كانت غير معلنة.

من جهتي، فلم أكن على استعداد للتجاوب مع الطلب السخيف الذي طلبه مني المدير، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن ضمن مقررات كلية الهندسة كتاباً بعنوان (الأسس والبنود في سلخ الجلود)، أو (المحيط في صنع الدربكات من جلد السكرتيرات)، كما وأني لم ألتحق بأي دورة تدريبية في أي مسلخ للبقر أو المعازي. وبالرغم من أني لم أفهم من قصتها فيما إذا كان المدير قد نفاها إلى دائرتي حتى (أسلخ جلدها) لأنها لاتتجاوب مع تحرشاته، أو أنها كانت تتجاوب ثم توقفت لسبب ما، أو لأنه طالبها بارتداء زي معين يحبه ولم تفعل، أو لأنه طلب منها تعريفه على موظفة في غير دائرة ورفضت، وهذا أيضاً وارد في أماكن العمل، ولكن مافهمت ومايهمني في الأمر أن نفيها هذا كان لسبب له علاقة بموضوع (الفحولة) ولاعلاقة له بالعمل المهني لامن قريب ولا من بعيد. وما زاد غضبي أكثر وأكثر أن المدير، بشكل أو بآخر، اعتقد أن لدي في دائرتي سجن أعذب فيه البشر و(أسلخ جلودهم)، وأن هذا الاعتقاد أتى لالشئ إلا لأني آخذ العمل على محمل الجد ولاأتهاون فيه. على كل حال، وبسبب أنه لم يكن هناك شواغر في دائرتي، فقد استعرت للسكرتيرة كرسياً من أحد المكاتب في الفرع وجعلتها تشارك إحدى الموظفات بطاولة المكتب، متوقعاً أن لاتطول عقوبتها ولاغضب المدير عليها طويلاً وبالتالي أن نرى قريباً وقد (لف السير على القبقاب) حسب مايقول المثل. كان الأخير وكلما اتصل بي خلال الأيام القليلة التي تلت ذلك يسألني فيما إذا كان (سلخ جلد) السكرتيرة جار على قدم وساق حسب طلبه، فكنت أجيبه مازحاً، بأنه إذا كان التقيد بالنظام وتنفيذ العمل حسب الأصول وفي وقته يعتبر سلخاً للجلد، فان جميع الموظفين عندي يخضعون لسلخ جلودهم كل يوم وبلا توصية.

وفعلاً كما توقعت، فلم تمض أيام حتى تحقق المثل المذكور وعاد المدير (الفحل) ورضي عن السكرتيرة (الحشاشة)، وعاد وأصدر قراراً باعادتها إلى المديرية العامة وإلى مكتبها السابق، وكأن شيئاً لم يحصل. هذه هي (سورية الأسد)، لارقيب ولاحسيب، ولاأخلاق ولاضمير، والقرارات تصدر عن أهواء وغرائز ومصالح شخصية، والبشر عند الدولة ليسوا أكثر من (خرفان) يمكن سلخ جلدهم في أي وقت ولأي سبب وبلا رقيب ولاحسيب، ومع ذلك مازال هناك من يقولون لك (كنا عايشين وماشي حالنا).

***

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الاثنين 11 رمضان المبارك 1436، 29 حزيران، جون 2015

هيوستن / تكساس

http://sites.google.com/site/tarifspoetry