هل يعرف الديكتاتور أين يقف؟

هل يعرف الديكتاتور أين يقف؟

وهل يرى السد الذي ورائه؟

تناولت في مقالتي السابقة كيف أن الديكتاتور يرسب في امتحانات جميع المواد بلا استثناء. ولكن ماهي قصة السد الذي لا يراه؟

عندما يقفز الديكتاتور إلى الحكم بانقلاب عسكري، وبسبب انشغاله المستمر منذ اليوم الأول بالسلب والنهب من جهة، وبالتنكيل المستمر بالشعب لحماية غنائمه وضمان سلامتها وتدفقها من جهة ثانية، فهو لايرى أين يقف ولا ينتبه ماذا يوجد خلفه! ذلك أن المكان الذي يقف فيه الحاكم ويحكم منه، هو أخطر مكان على سطح الأرض، بغض النظر فيما إذا كان مُنتخباً أو ديكتاتوراً. فالرجل الذي يملأ هذا المكان هو في الحقيقة من يقع تحت رحمة ملايين الناس الذين يشكلون الشعب، وليس العكس كما يظن الديكتاتور. فالشعب ينتظر من حاكمه العدل والحرية والكرامة من جهة، والانجازات التي تخدمهم وتخدم الوطن من جهة ثانية، فهو إذاً خادم لهم وليس العكس وهذا ما يتطابق مع المثل القائل (سيد القوم خادمهم).

أعود هنا لأوضح سبب خطورة وظيفة الحاكم عليه. فالحاكم هو في الحقيقة كالمسؤول عن صيانة سد شاهق يرتفع مئات الأمتار ويحجز خلفه بحيرة كبيرة تملؤها المياه حتى حوافها. أما تلك المياه العالية والتي لايتمنى أحد أن يكون في طريقها فيما إذا انهار السد فهي تمثل الشعب. وأما الجدار الذي يحافظ على المياه في مكانها ويؤمن سلامتها فهو يمثل الدستور الذي يعمل به الحاكم ونظامه. وأما المكان الذي يقع في أسفل الجدار، والذي سيكون أول ما سيسحقه الطوفان ثم يجرفه فيما إذا انهار السد، فهو المكان الذي يقف فيه الحاكم وحاشيته.

أما الحاكم المنتخب عبر صناديق الاقتراع، فيدرك تماماً هذه الحقيقة، ويرى بوضوح السد الذي يرتفع شامخاً من ورائه، وحتى يسمع هدير مياهه التي تزمجر من خلفه. وبالتالي فهو يعرف أن هذا الجدار هو الذي يحميه ويحمي حكومته من خطر الغرق فيما إذا خرج عن أحكام الدستور وعلق العمل بالقانون ولطخ يديه بدماء الشعب. وأما الديكتاتور، فهو لايرى السد ولا بحيرته التي تهدر بالمياه ولا أين يقف لأنه وكما سبق وقلنا، يكون منشغلاً بالسلب والنهب من جهة، وبالقمع والتنكيل من جهة ثانية. وهذا يكفي لكي يفقده البصر ليرى أي شئ والسمع ليسمع أي شئ، فتبدأ من هنا مشكلته مع السد!

فلاينتبه أنه في كل مرة، هو أو أحد أفراد أسرته أو حاشيته، يرتكب ظلماً بحق الشعب، فهو في الحقيقة يحفر بذلك ثقباً في جدار السد أو يسحب منه قطعة أو حجراً. وبالتالي فإن السد الذي يحميه ويحمي نظامه قبل أي طرف آخر، سيفقد قطعة منه كلما تم اعتقال مواطن من دون تهمة قانونية، وسيفقد قطعة ثانية كلما تم إلقاء مواطن في السجن من دون محاكمة علنية، وثالثة كلما تم تهديد أفراد أسرة باللحاق بابنهم الذي اختفى في المعتقلات إذا ما سألوا عنه. وسنرى شرخاً وإن كان صغيراً يتسع كل مرة يُعذب فيها مواطن في سجون الديكتاتور وتهان إنسانيته ويمارس الجلاد عليه ساديته ووحشيته. وسنلحظ ثقباً أو ثقوباً تحدث في الجدار، وأمام أعين الديكتاتور غير القادرة على رؤيتها، كلما تم إطلاق الرصاص العشوائي على الناس العزل أو قنصهم كما في رحلات الصيد أو مباريات التسديد على الهدف. وسنشاهد حجراً يسقط منه كلما قام عنصر أمن باهانة مواطن بالضرب والركل والشتم، أو بتقييده والدوس عليه، لا لشئ ولكن لأن عنصر الأمن يحمل سلاحاً في يده في حين أن المواطن أعزل! ولا ينتبه الديكتاتور ولا جهاز أمنه إلى أنهم وبتنكيلهم بهذا بالمواطن، لم ينتقموا منه أو يلقنوه درساً كما يظنون، ولكنه المواطن هو من ينتقم منهم دون أن يشعروا بذلك. فبعد سقوط أو غضب أو حقد كل مواطن، سيظهر شرخ أو ثقب في جسم السد الذي يحمي النظام أو ستسقط قطعة منه. وأخيراً، فإن تصدعاً سيصيب الجدار كلما ظن الديكتاتور أن نهب الوطن هو (شطارة) وعلى مبدأ (من يجرؤ على الاعتراض فليفتح فمه). طبعاً ليس بالضرورة أن يفتح الشعب فمه مباشرة، ولكنه يرى ويراقب كل شئ، وهو في كل مرة يرى فيها الحاكم أو حاشيته يسرقون وينهبون، فهو يحفظ ذلك في ذاكرته، وهو في نفس الوقت يبتسم لأنه قادر على رؤية التصدعات أو الثقوب الجديدة وهي تحدث في جسم السد نتيجة لذلك، ويرى من يقف مباشرة تحت هذا السد ومن هو أول من سيسقط عليه!

ويأتي أخيراً اليوم الذي لايتمنى أي ديكتاتور أو أي من حاشيته أن يراه، حتى أن أكثرهم يتمنون أن يكونوا في قبورهم قبل طلوع شمسه. وهو اليوم الذي لايعود فيه الجدار قادراً، وبسبب الثقوب التي أحدثت فيه والقطع التي فقدها والتصدعات التي عانى منها، لايعود قادراً على حجز مياه السد، فينهار وتنطلق المياه لتجرف الديكتاتور وحاشيته قبل أي شئ آخر. والجدير بالذكر هنا، وما دعاني إلى اختيار عنوان المقالة، هو أننا وإذا نظرنا إلى الذهول المرتسم على وجه الديكتاتور (والحكام العرب الذين يواجهون شعوبهم اليوم لخير مثال عليه) حين يرى الآلاف والملايين من الشعب تخرج للهتاف ضده، وكأنه فعلاً ماكان دارياً بالسد ولاعارفاً أين يقف.

أما الضرر الذي سيلحقه حدوث الطوفان فيعتمد على مدى وحشية وإجرام الديكتاتور ونظامه خلال سنين حكمهما، وأيضاً على الطريقة التي سيواجهان بها الطوفان. هل سيهربان؟ وهذا ماأثبت التاريخ أنه الأقل ضرراً والأكثر حقناً للدماء. أم سيبقيان ويواجهان أمواج الطوفان الهادرة ويحاولان تحقيق المستحيل بإيقافه؟ وهذا ما أثبت التاريخ أنه الأكثر حماقة ودموية وهدراً للأرواح. ففي اللحظة التي ينهار فيها السد وتنطلق الأمواج لتملأ الشوارع والساحات، يكون الحكم قد انتقل من يد الديكتاتور ونظامه إلى يد الشعب، والثورات التي يعرفها التاريخ جيداً والتي ذكرتها عدة مرات في مقالاتي السابقة، هي خير مثال على ذلك. وإن كانت في ذهن الديكتاتور مجازر ارتكبها غيره من بعض من سبقوه وعاشوا بعدها، فعليه أن يتذكر أن الشعب أيضاً ما زال يتذكر هذه المجازر، ولهذا فلن يعود من حيث أتى قبل أن يجرفه ونظامه إلى المكان الذي يستحقونه.

أمام هذه الحقيقة، فأفضل ما يمكن لهم أن يقوموا به الآن، هو ارتداء (المايو) ووضع واقي العينين والتأكد من ملء دولاب النجاة بالهواء ثم الجري. أما البدء بأخذ دروس في السباحة، فليس فقط قد فات أوانه، ولكنه ماعاد مفيداً في هذه المرحلة!

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

جمادي الثاني 1432 / أيار، مايس 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry