في رثاء نانا

يرجى الضغط هنا للتعليق على القصيدة

كتبت هذه القصيدة في رثاء مربيتنا تركية رباح (أم محمود) التي كنا نناديها نانا والتي توفيت

خلال وجودي هنا في أمريكا. من قرية الضمير القريبة من دمشق، أتت أم محمود إلى أسرتنا

في خمسينيات القرن الماضي لتساعد أمي في تربيتنا وشؤون البيت ولتكون بجانبها خلال

فترات غياب أبي الطويلة في الدورات العسكرية الخارجية وكذلك خلال تأديته لمهامه في

الجبهة السورية على خط النار. وكونها لم تتزوج في حياتها ولم تشكل أسرتها الخاصة بها،

سرعان ماأصبحت فردا أساسيا من أسرتنا. كانت دائما تنادي أمي ب (يابنتي) وأنا وإخوتي

نرى فيها الجدة التي لم نعرفها لكون جدتينا توفيتا في زمن مبكر. كانت نوعا نادرا من الناس

الذين يعطون دون مقابل ودون حدود وخاصة فيما يتعلق بالحب والعطف والحنان والتضحية.

أسرتنا من جهتها لم تبخل في حقها وأكرمتها وعاملتها كفرد من أفرادها، ولكن لم ترق َ عطائاتنا

لها إلى ماقدمته هي لنا: عمرها بالكامل. تأثرت كثيرا برحيلها، وخاصة لأنها كانت حينها في

زيارة لإبنة اختها في الضمير، وهي قريبتها الوحيدة على قيد الحياة، فتوفيت ليس فقط بعيدا

عني ولكن أيضا عن كل أفراد الأسرة التي عاشت معها لأكثر من خمسين عاما والتي شائت

الظروف أن لايكون أحد منا بجانبها خلال لحظاتها الأخيرة

في رثاء ِ نانا

(مربيتنا تركية رباح أم محمود 1900-1990)

في ظلام ِ ليل ٍ عميق ْ ...

غزت ْ مسامعي همسات ُ صوت ٍ حزين ْ ...

همسات ُ صوت ٍ آت ٍ من ْ بُعد ٍ سحيق ْ ...

يقول ُ يا مَن ْ كنت ُ في الأمس ِ أدعوه ُ حبيبي ...

يا مَن ْ كان َ لعليل ِ قلبي البلسم ُ ...

ولظلام ِ أيامي النور والبريق ْ ...

هل تدري ما فعلته ُ الأيام ُ بي َ مِن ْ بعدك ْ ...؟

هل تدري ما حل َ بالجسد ِ العتيق ْ ...؟

***

ما كـُنت َ تعرفه ُ مِن َ الشَـعر ِ الأبيض ِ ...

تساقط َ وبات َ لثرى الأديم ِ شقيق ْ ...

واللحم ِ الطري الذي كـُنت َ تمسح ُ عليه ِ بأنواع ِ الدواء ْ ...

خلع َ عنه ُ جلده ْ ...

وباتت ْ ديدان ُ الأرض ِ له ُ الكِساء ْ ...

الذراع ُ التي إرتكت ْ عليك َ مِئات المرات ِ في الليل ِ ...

هي َ اليوم َ عظام ٌ نخرة ْ ...

والعظام ُ إن ْ كـُنت َ لاتدري ... ليس َ لها عشيق ْ...

الجسد ُ الصغير ُ الذي كـُنت َ تصحو في ليالي البرد ِ لتغطيه ْ...

ما عادت ْ له ُ سوى طبقات ِ التراب ِ غِطاء ْ...

وهو في كل ِ ليلة ِ ماطرة ... في المياه ِ غريق ْ...

الجسد ُ الصغيرُ الذي كـُنت َ تعرفه ُ في الأمس ِ ...

غسلوه ُ وكفنوه ْ ...

وعلى الأكتاف ِ ساروا به ِ على الطريق ْ...

قلت ُ لهم ْ تمهلوا ... !

هل ْ وصل َ أحد ٌ من ْ أهل ِ بيتي ...؟

هل ْ مِن ْ بينكم ْ مَن ْ كنت ُ أدعوها إبنتي ...؟

وهل ْ ترون َ عدنان َ وخالد َ ... وطريف ْ...؟

بربكم ْ تمهلوا ... !

لاتقولوا أن َ أحدا ً منهم ْ ليس َ هنا ... !

بربكم ْ لاأريد ُ أن ْ أموت َ مرتين ْ ... !

لاتقولوا أن َ عمري بينهم ْ كان َ مجرد َ وهم ٍ ... !

وأن َ حُبي لهم ْ في الماضي ...

لم ْ يبق َ منه ُ إلا النعيق ْ ...

***

هل ْ أبكي على الأمس ِ وحدتي بين َ جدرانهم ْ... وكم ْ بكيت ْ

أم ْ على حياة ٍ ضاعت ْ بلا أمل ٍ ... ؟

سوى أمل ِ إسعادهم ْ ...

ولعي بهم ْ ماكان َ إلا كولع ِ القش ِ بالحريق .ْ..

أم ْ أبكي على عمر ٍ أفنيته ُ في إرضائهم ْ...

حتى اليوم َ لاأجد ُ واحدا ً منهم ْ عند َ الوداع ِ الأخير ْ...

اليوم َ لايحملني سوى غريب ٍ ... أو شبه ِ قريب ٍ ...

أو عابر ِ طريق ْ ...

***

حبيبي طريف ْ ...

في عالم ِ غربة ٍ كلنا نعيش ْ ...

تعب ٌ كلها الحياة ُ ... ووحدة ٌ وتعداد ُ أيام ٍ وشقاء ْ ...

قليلا ً ما تعرَّف َ علينا الفرح ُ ... ونادرا ً ماعرفناه ْ ...

في الحياة ِ عشنا غرباء ً... وفي الرحيل ِ نمضي غرباء ْ ...

في الأمس ِ كـُنت َ دائما ً لقلبي صاحبه ُ والنزيل ْ ...

وأنت َ اليوم َ لروحي ونيسها والصديق ْ ...

في عالم ِ النور ِ والملائكة ِ أنا في ذِكرك َ كل َ يوم ْ...

ومِن ْ طرفي أيضا ً مُحبَة ٌ تهديك َ قبلاتها ...

وتقول ُ بين َ أمزاحك َ وبينها ود ٌ عريق ْ ...

بينكما مشاعر ٌ ... ومشاويرُ ليلية ْ ... وحب ٌ وثيق ْ ...

خالتك َ المُحبة ُ هاجر ْ ... ترسِل ُ لك َ بسَلام ٍ رقيق ْ ...

***

يرجى الضغط هنا للتعليق على القصيدة

شعر: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

أيار – مايس 1991