محاولة لفهم سبب وحشية الانسان

محاولة لفهم سبب وحشية الانسان؟

هل هي حلقة داروين المفقودة؟

بقلم طريف يوسف آغا

سؤال طالما حيرني وأعياني إيجاد جواب شاف له: كيف ولماذا يتحول إنسان مسالم ومحب لأسرته وجيرانه وأصدقائه وصاحب نكتة إلى وحش بلا رحمة يعذب بشراً مثله ويقطعهم وهم أحياء أو يمثل بجثثهم بعد قتلهم.

ظاهرة توحش الانسان ليست بجديدة، فقد سجل التاريخ هذه الوحشية لدى أقوام وأمم غارقة في القدم حيث تركوا رسومات جدارية أو على ألواح حجرية أو ورق البردي توضح تلك الممارسات المغرقة بالسادية والدموية. هذه الدموية التي لايفترض أنها موجودة لدى الانسان العاقل كونه يتميز عن الحيوانات المفترسة بالعقل والضمير والأديان والأخلاق، ولكن يبدو أن التفسير الوحيد لها أنها موجودة في جيناته الوراثية. وحتى إذا وجدنا له بعض التبرير بممارسة ذلك التوحش قبل نزول الأديان كونه كان يعيش ضمن قبائل وبلا وصايا إلهية، فنزلت كافة الأديان لتوصيه بالرحمة بأخيه الانسان وحتى بعدوه. ولكن يبدو أن جيناته الوراثية الوحشية كانت أقوى من تلك الوصايا، فاستمر بممارسة وحشيته، ولكن هذه المرة باسم الدين. الوحشية التي مارسها الانسان على الانسان عبر التاريخ تكاد لاتصدق، والعودة إلى محاكم التفتيش في إسبانيا وممارسات البيض بسكان أمريكا الأصليين وممارسات المستعمرين الأوربيين بسكان المستعمرات في إفريقيا وآسيا وماحصل في الحروب الأهلية الأوربية في العصور الوسطى كلها أمثلة تكاد لاتنتهي.

مضت آلاف السنين على نزول الأديان ووصاياها، ثم قامت الثورات على الملكيات وسلطة الأديان وتم وضع القوانين المدنية التي ألغت العقوبات الدينية من جلد ورجم وقطع رقاب وأيادي. ثم تم وضع لائحة لحقوق الانسان والتي حرمت التعذيب وتم إلغاء عقوبة الإعدام في معظم دول الغرب التي تحكمها الديمقراطيات ووصلت العلوم إلى درجة غير مسبوقة من التقدم، وكذلك وصل التمدن إلى أرقى درجاته في تلك الدول. وحصلت ثورة الاتصالات التي جعلت من العالم بأجمعه قرية صغيرة تتناقل أخبارها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب بلمحة بصر بحيث صار الانسان في وسط إفريقيا أو الصين يرى ويسمع مايحصل في لندن وبرلين ونيويورك. مع كل هذا الانفتاح بين دول العالم وتناقل أخبار الحياة في الدول التي تحترم حقوق الانسان والاحتكاك بهم، نجد أن البشر مازالوا غير قادرين على التخلص من ممارسة نفس الوحشية التي كانوا يمارسوها في عصور ماقبل التاريخ. والسؤال هنا لايقتصر على موضوع القتل فقط، ولكن على لماذا يقوم الانسان بتعذيب خصمه ويتفنن بذلك قبل قتله، وماأصل هذا الشر الدفين الذي يدفعه ليقوم بذلك في حين أن بامكانه قتل الخصم بسرعة وبدون تعذيب؟

مالذي يجري في عقل رجل مسالم وديع في القرن الواحد والعشرين ليأمره أن يضع سماعات على أذنية ليصغي للموسيقى أثناء قيامه بتقطيع إنسان مثله بمنشار وهو حي؟ أو ليعلق إنسان من يديه وقدميه ويشويه على النار وهو أيضاً حي؟ أو ليذبحه أو يقطع رأسه أو يغرقه في حوض ماء أو يرميه من قمة جبل أمام الكاميرات؟ أو ليستخرج قلب عدوه أو كبده بعد قتله ليأكله وينشر الفيديو على النت؟ أو ليعتقل أولاداً فيقلع أظافرهم ويحرق أصابعهم أو يطفأ السجائر بأجسادهم أو يقتلهم ويمثل بجثثهم؟ أقرب شئ لتلك الممارسات هي تلك التي تصدر عن وحوش الغابة المفترسة، والتي أراها أفضل بكثير من ممارسات البشر التي سبق ذكرها، فالوحوش تقتل لتأكل أو لتدافع عن نفسها، أما البشر فيقتلون ويعذبون ويفظعون بغيرهم لسبب مازال يحيرني كما حير ومازال يحير علماء النفس. يبدو أن التفسير الوحيد لتلك الظاهرة يتمثل في العودة إلى نظرية (داروين) في التطور والتي أرجعت أصل الانسان إلى حيوان، وإن كان هذا العالم قد فشل في حينها باثبات نظريته لعدم عثوره على الحلقة التي تربط بين النوعين، ولكني لاأرى أقوى من هكذا برهان ليكون الحلقة المفقودة التي لم يعثر عليها. وكنت قد نشرت منذ حوالي الشهر مقالاً يجمع بين بعض البشر والحيوان في نقطة مشابهة هي الغزيزة الجنسية وعدم مقدرة الاثنين على التحكم بها أو تهذيبها، وهذا أمر إضافي يصلح أيضاً برأي أن يكون حلقة (داروين) المفقودة.

أرغب هنا بلفت انتباه القارئ أن مقالي هذا ليس بالمقال العلمي الذي يحاول إثبات نظرية (داروين) التي مازالت معلقة حتى اليوم بسبب حلقتها المفقودة، ولكني أحاول أن أفهم أصل وحشية الانسان بربطها بممارسات الوحوش كونها الأقرب إليها من حيث الطبيعة، وقبائل أكلة لحوم البشر هي أيضاً مثال حي على أن الانسان ينحدر من أصول حيوانية وحشية. المحير هنا أن تلك القبائل أو الوحوش نفسها لم تتفاعل مع أديان أو قوانين مدنية أو آداب لتهذبها وتمدنها، بعكس البشر الذين تفاعلوا مع كل ذلك ومازالوا غير قادرين على التحرر من طبيعتهم الوحشية. وقد وضع العديد من الأدباء عبر التاريخ أعمالاً تحاول سبر نفس اللغز وتروي قصصاً وأساطيراً على مخلوقات نصفها بشر ونصفها حيوان أو مخلوقات تتحول في الليل إلى وحوش وتعود في النهار إلى بشر، وهذا يؤكد محاولة الانسان القديم والمعاصر إيجاد تفسيرات لهذه الظاهرة الغريبة، وإن كان بعضها تفسيرات خيالية.

لاشك أن هذا الجانب المغرق في الظلمة من طبيعة الانسان مازال عصياً عن الفهم حتى اليوم، خاصة حين تجد أن جلاداً يقوم بممارسات بهذه الوحشية واللاانسانية، يعود إلى بيته وأسرته ويحضن أولاده ويلاعبهم ويجالس أصدقائه ويمازحهم، ويأكل ويشرب وينام، لاكأنه عذب أحد ولاكأنه قتل أحد.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم طريف يوسف آغا

هيوستن، تكساس

الثلاثاء 26 تشرين الثاني، نوفيمبر