حصالة الديكتاتور

حصالة الديكتاتور

يوم تسوّدُ وجوه ... وتسوّدُ وجوه

أذكر حين كنا صغاراً في المرحلة الابتدائية، كان أهلنا مع بداية العام الدراسي يشترون لنا حصالات فخارية ملونة نسقط فيها القطع النقدية المعدنية من ذات الخمسة والعشرة قروش مما نوفره من خرجيتنا (مصروفنا). وفي آخر يوم من المدرسة، نكسر أنا وأخوَيَّ حصالاتنا ونحصي ما وفرناه فيها طوال العام، فيفاخر من احتل المرتبة الأولى ويصيب الوجوم الممزوج بالخجل والندم من احتل المرتبة الأخيرة. وقد اعتدنا أن نسمي هذا اليوم الذي هو أيضاً يوم استلام ورقة علامات نهاية العام الدراسي بالإضافة لكونه يوم فتح الحصالات، اعتدنا أن نسميه (بيوم تَبيَضُ وجوه وتَسوّدُ وجوه).

وعلى الرغم من بساطة هذه القصة وطرافتها، إلا أنه لكل إنسان في الحياة حصالة، بما في ذلك الديكتاتور. فهذا الرجل الشرير الذي يستولي على الحكم ويفرض نفسه حاكماً إلى الأبد، يكون ومنذ اليوم الأول لحكمه قد بدأ بملء حصالته دون أن يراها. فكل مجزرة يرتكبها تذهب مع تفاصيلها وأسماء ضحاياها إلى تلك الحصالة، وكل لصوصية ونهب ورشوى يقوم بها تذهب نسخة منها أيضاً إلى الحصالة. كل ممارسة تعذيب أو إهانة أو اعتداء على الشرف يتم داخل سجونه أو خارجها على أيدي رجاله سيذهب تقرير عنها إلى الحصالة. كل خيانة للوطن أو تفريط بترابه أو تهريب لآثاره سيتم إرسال بيان به إلى الحصالة. وحصالة الديكتاتور هذه والتي يملأها بيده بكل ما هو آسن وقبيح ومخجل، تحفظ له هذه الأعمال وإن كان هو يعتقد بأنها مضت بالتقادم ولن يحاسبه عليها أحد. ومما يدعوه للاعتقاد بذلك هو ارتكابه لمعظم هذه الأعمال بصورة سرية، في الظلام وخلف أبواب مغلقة أو في أقبية عميقة تحت سطح الأرض. كما أنه يشعر بالارتياح والاطمئنان بعد تخلصه من خصومه وتسكيته لهم للأبد، وتفرغه لأعمال النهب والإثراء.

وبما أن الحصالة وجدت لكي تفتح في يوم من الأيام، فحصالة الديكتاتور قد يتم فتحها ومواجهته بما فيها أثناء حياته، فإما أن ينتهي على منصة الإعدام أو في غياهب السجن، أو مشرداً خارج البلاد فيما إذا تمكن من الهرب. ومن الطبيعي أن الديكتاتور لايهتم كثيراً بأمر هذه الحصالة أثناء حكمه، وإلا لكان عمل صالحاً وأكثر مما يمكنه المفاخرة به يوم تَبيَضُ وجوه وتَسوّدُ وجوه. ولهذا فعندما تشتعل ثورة ضده، تراه يسارع إلى البطش بها ومحاولة إخمادها بأسرع ما يمكن ومهما كلف الأمر من القتلى من الناس. فهو يعرف أنه فيما إذا نجحت الثورة، فأول شئ سيحدث هو فتح الحصالة التي يعرف تماماً ما فيها، وهو الموقف الذي لايتمنى أي ديكتاتور أن يعيش ليواجهه. حتى أن واحدهم يتمنى أن يكون قد صار في قبره قبل أن يأتي يوم فتح الحصالة هذا. وهو يعرف أن وسائل إعلامه لن تفيده في ذلك اليوم لا بالتطبيل ولا بالتزمير الذي كانت تقوم به في الماضي، فهو يعرفها أنها أكذب منه وأنها وسائل مسرحيات وليس إعلام.

ففي هذا اليوم، ستسوّدُ وجوه كثيرة، في حين ستكون هناك وجوه أكثرُ سَواداً، ولكن أيضاً ستكون هناك وجوه لا تكفي صفة السَواد ومشتقاتها لوصفها، لأنها ستكون في الواقع أقرب إلى مادتي الزفت والقطران.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

29 جماد الثاني 1432 / 1 حزيران 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry