هندسة وفرفشة ومنسف ومدير عام

هندسة وفرفشة ومنسف ومدير عام

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في بداية الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية من مبان وطرق ومجمعات وغيرها، وكان قد تم تعييني في رحبة أحد أفرع دمشق حين جرت أحداث قصتنا هذه.

كان الوقت حوالي الظهر من يوم الخميس من أحد أيام الشتاء الباردة، وكان قد مضى على بدء عملي في ذلك الفرع أقل من اسبوع، حين تم إبلاغنا من قبل ضابط أمن الفرع بأن المدير العام سيحضر بعد انتهاء الدوام في الساعة الخامسة لحضور الاحتفال بتسليم أحد المشاريع الكبيرة. كما تم إبلاغنا بأنه سيكون هناك عشاء (مناسف) في مقصف الفرع على شرف المدير العام وأن جميع مهندسي المؤسسة سيحضرون المأدبة (إجبارياً).

كنا ثلاثة مهندسين في الرحبة حيث توجهنا معاً إلى المقصف بعد انتهاء الدوام لحضور العزيمة (الاجبارية) وجلسنا إلى جانب بعض وكانت محض صدفة أن ثلاثتنا من دمشق. تم ترتيب الطاولات يومها لتكون بشكل مستطيل مفتوح من أحد طرفيه بحيث يجلس المدير العام على رأس المستطيل كونه (المعلم) ويجلس مدير المشروع المحتفل بتسليمه على أحد جانبيه ورئيس الفرع على الجانب الآخر ثم بقية المدراء ورؤساء الأفرع بعد ذلك. كان ضابط أمن الفرع، وهو طبعاً من الطائفة الكريمة، هو المسؤول عن توزيع المقاعد حول الطاولات ومن سيجلس هنا ومن سيجلس هناك. بعد عدة دقائق من جلوسنا، سمعنا أصوات سيارات تتوقف أمام المقصف ثم فتح أبوابها وإغلاقها فعرفنا أن (المعلم) وصل. ولم يخيب الرجل ماكنا نتوقع رؤيته، فبالرغم من أنه كان يحمل دكتوراة بالهندسة، فقد دخل إلى المقصف بكامل زيه العسكري بكامل الرتب من نسور ونجوم والمسدس على جانبه. هذا إلى جانب المرافقة المؤلفة من عدة أشخاص يسيرون أمامه وخلفه بالبذلات الخضراء ويحملون الرشاشات الروسية، فبدا وكأنه أحد قادة الجيوش وهو يدخل مدينة محررة. طبعاً وكما ذكرت، فلم نستغرب ذلك المشهد المضحك المبكي، إذ أنه حال كافة المسؤولين، وخاصة العسكريين منهم، في مزرعة الأسد.

حتى تلك اللحظة، كان كل شئ يسير حسب المتوقع ودون مفاجآت، إلى أن جلس (المعلم) على الكرسي المخصص له، وكذلك فعل المهندسان مدير المشروع ورئيس الفرع حيث أخذ كل منهما مكانه على جانبيه، ولكن فوجئ جميع الحضور بضابط الأمن إياه يتقدم موظفتان من نفس الفرع تعملان في الديوان ويجلس كل واحدة على جانبي المهندسين السابق ذكرهما بدلاً من جلوس مهندسين أو مدراء حسب المراتب. كان (المعلم) أكثر من ابتهج برؤية الموظفتين لدرجة أن ضحكته بجلوسهما بالقرب منه كادت تصل إلى أذنيه، وحتى أنه وقف وصافحهما بحرارة العاشق الذائب الولهان. كان الموقف محرجاً جداً بالنسبة للمهندسين مدير المشروع ورئيس الفرع أمام الحضور، ولكنهما شاهدا كيف أن ذلك حصل بتوجيه من ضابط الأمن شخصياً، وبالتالي ابتلعا تلك الاهانة دون تعليق. وبالاضافة لكل ماكان في الموقف من (صفاقة) فما (زاد الطين بلة) هو أن كل واحدة من هاتين الموظفتين أتت بكامل عطرها ومكياجها، وخاصة الحمرة الفاقعة، وأيضاً بملابس أقل مايقال فيها أنها ليست مناسبة لموظفة. ثم وحالما اكتمل الجمع، وقف (المعلم)، ومن الواضح أنه كان نصف سكران، وألقى خطاباً لم يفهم أحد (راسو من أساسو)، ولكن هكذا جرت العادة عندنا حيث يجب أن يبدأ كل شئ بما نحن مشهورون به أكتر من أي شئ آخر، ألا وهو الخطابات. بعد أن ضحك الجميع على الرجل وعلى خطابه، وإن صفقوا له، عاد وجلس وبدأ الحضور بتناول الطعام.

حتى تستمر النكتة، كان (المعلم) خلال العشاء يوجه حديثه للموظفتين أكثر من أي من الحضور، مما كان يجبر كلاً من المهندسين الجالسين على جانبيه أن ينحنيا للأمام أو للخلف كلما حصل ذلك، وبالتالي أمضى الرجلان السهرة على (أمام خلف، خلف أمام) والذي شاهدهما من بعد كان يظن أن واحدهما يعاني من مرض عصبي أو أن هناك شيئاً غير طبيعي في مؤخرته تمنعه من الجلوس كبقية الناس. ماكان ملفتاً للنظر أيضاً أن إحدى الموظفتين كانت منسجمة في الجلسة من حيث تبادل الحديث والضحك بصوت مسموع لآخر القاعة في حين أن الثانية كان يبدو أنها غير مرتاحة. عرفنا فيما بعد أن ضابط الأمن هو الذي أمر الموظفتين بذلك بهدف إضافة جو من (الفرفشة) التي يحبها (المعلم) على العزيمة، فرحبت إحداهما بالأمر طمعاً بمكافأة أو ترقية في حين قامت الثانية به مكرهة خوفاً من العقوبة أو النقل أو الفصل.

هذه هي سورية الأمس للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي هذه (السورية) كان الناس يعاملون وكأنهم عبيد مهمتهم خدمة النخبة الفاسدة من المسؤولين والحاشية الحاكمة.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر سوري أمريكي

الأحد 29 تشرين الثاني، نوفمبر 2020

هيوستن / تكساس