الديكتاتور ودخول الحمام

الديكتاتور ودخول الحمام

هل يعرف ماذا ينتظره عند الخروج؟

هذا مثل قديم يستعمله المجتمع الدمشقي (ويلفظ باللهجة المحلية: فوتة الحمام مو متل طلعتو، وهو باللغة الفصحى: دخول الحمام ليس كالخروج منه) والحمام هنا هو حمام السوق. ويقال هذا المثل عادة لتحذير من يفكر بالاقدام على عمل فيه مخاطرة وغير مضمون النتائج، مع ترجيح احتمالات الفشل والخطر على احتمالات السلامة.

وقد عاد إلى ذاكرتي وأنا أراقب الثورات العربية التي تجري في بلادنا هذه الأيام، وخاصة تلك التي قرر حكامها عدم التنحي، بل اللجوء لقوة السلاح للبقاء على كراسيهم. فربما رأى هؤلاء الحكام في النهايتين التونسية والمصرية ما لم يعجبهم، كضعف في الحاكم الذي هرب وذل في الحاكم الذي تنحى. مع أني أرى أن ما فعلاه كان حقاً أفضل ما فعلاه طوال حياتهما، وسيذكر لهما التاريخ على الأقل حقن دماء الشعب وإنقاذ الوطن من الدمار. أما بقية الحكام الذين مازالوا يواجهون ثورات شعوبهم، فقد اختاروا الطريق الآخر، وهو طريق بعنوان: إما أن نبقى في الحكم أو لايبقى أحد في الوطن، وهذا العنوان هو ما سأسلط عليه بعض الضوء هنا مستعيناً بالمثل السابق الذكر.

فيبدو أن الديكتاتور ونظامه لايفهمان معنى هذا العنوان تماماً ويجهلان إلى أين يؤدي في النهاية. ذلك أن الديكتاتور الأكثر دموية من غيره لايرى في حالة التي يواجهها سوى الظاهر منها: مدنيين عزل من أفراد شعبه يخرجون لتحديه وتهديد مكاسبه. وبسبب افتقاره لأي ضمير، فهو يرى في الحل الأمني المتمثل بالتنكيل بالمتظاهرين الحل الأمثل. وكون هؤلاء المتظاهرين عزلاً من السلاح وليس بإمكانهم الدفاع عن أنفسهم، فليس هناك أسهل من التخلص منهم بإطلاق النار عليهم وقتلهم، وكما يقول المثل: لا من شاف ولا من دري. وهنا يقع الديكتاتور المعاصر في الخطأ القاتل، ذلك أن عصر (لا من شاف ولا من دري) قد ولى إلى غير رجعة، وهو الآن حتى إن نبس بهمسة فكل العالم يراه ويسمعه.

إذاً هذا هو المشهد كما يراه الديكتاتور الدموي ونظامه العفن، أما المشهد الحقيقي فمختلف عن ذلك تماماً، وهو يتم على الشكل التالي:

في المرحلة الأولى من التظاهر، يقول الشعب للديكتاتور: أصلح حالك بإعادة الحرية والديمقراطية والكرامة وباقي الحقوق، أو تنحى!

يرى الديكتاتور أن المتظاهرين عزل من السلاح، فيرد على مطالبهم باطلاق الرصاص وقتلهم.

في المرحلة الثانية يزداد عدد المتظاهرين ويقولون له: انتهى عرض الإصلاح، تنحى عن الحكم وارحل خارج البلاد، ولا تفكر باستعمال القوة أكثر من ذلك لأننا لسنا (قصيري حربة) ويمكن أن نرفع السلاح ضدك. وهم بذلك يحذرونه من مغبة (دخول الحمام)

يرى الديكتاتور أن المتظاهرين ما زالوا بلا سلاح، فلا يعير كلامهم وتحذيرهم أية أهمية، ويجيب بزيادة إطلاق الرصاص وزيادة القتل والتشنيع.

في بداية المرحلة الثالثة يكون الديكتاتور قد صار فعلاً داخل الحمام وأقفل الباب ورائه. وهنا تتحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة ويظن الديكتاتور في بدايتها أنه منتصر لامحالة، وكيف لاينتصر وهو الذي يمتلك الجيش بالدبابات والطائرات. ولكن لايلبث أن يبدأ الحصار الإقتصادي الدولي من حوله ليضيق الخناق عليه ويحرمه من تمويل حربه على الشعب. ثم يبدأ شباب الثورة الذين حملوا السلاح ضده بتنفيذ ضربات موجعة عليه، فيبادر بعض رجاله إلى الانضمام للثورة أو إلى الهروب خارج البلاد. ثم وبعد أيام قليلة، يستقيظ صباحاً على هدير الطائرات الأجنبية وهي تحلق فوقه وتقصفه مع من تبقى من رجاله وتقول لهم: أرونا الآن مرجلتكم يا قاتلي الأطفال والنساء من شعبكم.

في المرحلة الأخيرة سيحاول الديكتاتور الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه، ولكنه لا يتمكن من ذلك لأنه في واقع الأمر غارق في حمام الدم الذي أغرق فيه شعبه ووطنه. والخروج من هذا الحمام غالباً مايكون إلى المستشفى لتوثيق شهادة الوفاة ثم إلى المقبرة، وقد يكون إلى المحكمة لفترة نقاهة قصيرة ومنها إلى منصة الإعدام. وهذا تماماً ما حذر منه المثل الذي نشرحه اليوم: فالدخول إلى الحمام مجاني، ولكن الدفع عند الخروج. وأنا أستطيع أن أجزم هنا بأن قذافي ليبيا، وفي حال تجاهلنا تصريحاته العلنية، يتمنى اليوم لو أنه لم يدخل الحمام. وأن يعود الزمن إلى الوراء إلى حين بدأت الثورة وكانت سلمية، ليسارع إلى التنحي بشرف وكرامة ويوفر على نفسه وأسرته ورجاله الموت والذل والدمار الذي يلاحقهم ليل نهار ويهربون أمامه كالجرذان وعلى وشك أن يكتب الفصل الأخير في حياتهم.

إذا لم يعتبر أحد من هذه المقالة، وقرر المضي في القتل والقمع، فليس هناك ما أقوله له إلا ما يقال للداخل إلى الحمام: نعيماً مقدماً.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

الأحد 10 رجب 1432 / 12 حزيران 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry