الحج إلى أفرع المخابرات

الحج إلى أفرع المخابرات

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في بداية الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً من مبان وطرق ومجمعات وغيرها. وقد حدثت خلافات وظيفية بيني وبين بعض العاملين المتنفذين الذين أرادوا بسببها التخلص مني بكتابة تقرير أمني كاذب يدعي أني شتمت حافظ الأسد على العلن. وهكذا تقرير كان كافياً لاستدعائي للتحقيق في المخابرات بهدف مسبق وهو إرسالي إلى سجن تدمر السئ الصيت. ولكن ماحدث حينها أن قريباً لنا كان في مركز عال في الدولة تدخل وساعدني على إثبات أن التقرير الأمني كان ملفقاً، ليتم طي القضية وأسافر إلى أمريكا بعدها بعدة أشهر. بعد عدة سنوات، حيث كنت أعمل مع شركة أجهزة طبية لها وكالات في الشرق الأوسط وعرضت علي السفر إلى سورية ولبنان ومصر للقيام بأعمال تسويق ومبيعات. وبطبيعة الحال، تواصلت أسرتي مع قريبنا إياه والذي كان مايزال في الخدمة وأكد لها عدم وجود أي سبب أمني يمنع عودتي، وأنه إذا حصل أي شئ فهو جاهز للمساعدة.

وصلت إلى مطار دمشق في نهاية عام 1993، وطبعاً لم أتوقع أن يكون وصولي إلى بلد كسورية كوصول أي شخص إلى بلد يحترم مواطنيه، فقد تم تسليمي في المطار لمذكرتين: واحدة لمراجعة المحكمة العسكرية والثانية بمراجعة أحد أفرع المخابرات، وأن جواز سفري ممنوع من التجديد وأني بالتالي ممنوع من المغادرة قبل الحصول على إشعار من هاتين الجهتين بالموافقة. أما مذكرة المحكمة العسكرية فتعود إلى أن المؤسسة التي كنت أعمل فيها قبل السفر كانت قد منحتني إجازة بلا راتب لمدة سنة بنا على طلبي ثم رفعت ضدي دعوى قضائية بعد انتهاء السنة بتهمة (جرم ترك العمل) لضمان عدم عودتي إلى الأبد. من جهتي كنت قد أرسلت من أمريكا، وبعد وصولي إليها بعدة أشهر، إستقالة رسمية من الوظيفة قامت أسرتي بتسليمها باليد لادارة شؤون الموظفين والتي أنكرت إستلامها فيما بعد، وعلى الأغلب تم رميها في سلة المهملات، كي يتسنى رفع الدعوى القضائية. أما قصة مراجعة فرع المخابرات، فلم أعلم حينها أي شئ عنها، وحين وضعت قريبنا بالصورة وقام بالاستفسار، ضحك كعادته وقال أنه استدعاء روتيني لكل من يسافر ويعود، وطمأنني بأنه سيتصل برئيس الفرع قبل ذهابي كما وأنه سيرسل معي أحد عناصر المرافقة.

قمت بعد أيام من وصولي إلى دمشق بزيارة المديرية العامة للمؤسسة، وتوجهت إلى إدارة شؤون الموظفين حيث كان مديرها أيضاً مايزال هو نفسه الذي كان موجوداً قبل سفري. هكذا هي الأمور في سورية الأسد، لاشئ يتغير والمسؤول المدعوم يبقى إلى الأبد. استقبلني الرجل، وطبعاً كان من الطائفة الكريمة، راسماً على وجهه إبتسامة واضحة الابتذال وسألني: أهلين بالأستاز. شو ماحبيت أمريكا؟ وحتى لاأضيع الوقت، سألته عن إستقالتي التي سبق وأرسلتها بعد عدة أشهر من سفري، فأبدى إستغرابه وادعى بعدم إستلام أي إستقالة من طرفي وأن رفع الدعوى القضائية كان أمراً لايد له فيه، وإنما إجراء قانوني روتيني يطبق على كل من يترك العمل بلا إستقالة. قمت في النهاية بتوكيل محامي وبعد إطلاعه على مضمون القضية ومراجعته لقانون المؤسسات العسكرية، وجد أن القضية سقطت بالتقادم. وفعلاً رافقته إلى المحكمة وقدم القضية للقاضي الذي بإغلاقها نهائياً وحصلنا على إشعار رسمي بذلك.

توجهت إلى فرع المخابرات في اليوم المحدد، وكان يقع في بناء كبير خلف كلية الآداب، وكان قريبنا قد تكلم مع رئيس ذلك الفرع كما وأرسل معي عنصر من مرافقتة كما وعدني. تم توجيهي من قبل الديوان إلى أحد المكاتب في الطابق الثاني حيث تم إعطائي نشرة إستعلامات من حوالي العشرة صفحات لملئها في غرفة جانبية والانتظار لحين إستدعائي. كنت قد ملأت نفس النشرة مرتين قبل سفري، حين تم إستدعائي للتحقيق في تقرير تهمة سب الرئيس مرة وللتوسط لكاتب التقرير الذي طرد من الوظيفة لاعادته إلى العمل مرة ثانية. تم إستدعائي إلى مكتب التحقيق بعد انتظار حوالي الساعتين، وكان المحقق شاباً في العشرينيات، وطبعاً من الطائفة الكريمة، ويضع أمامه ملفاً سميكاً لم يكن سوى ملفي الأمني بعدته وعتاده. كان الرجل يصطنع اللطافة ويتصفح الملف ونشرة الاستعلامات التي سبق وملأتها ثم استهل كلامه بعبارة: هنت يللي تهموك بسب الرئيس. ثم ضحك وتابع: وطلعت بريء. ثم أغلق الملف ونظر إلى مبتسماً ومطمئناً لي بأن توصية قريبي قد وصلت وقال: أكيد قرايبك قال لك أن هذا الإستدعاء روتيني وليس لدينا أي شئ ضدك. بالمناسبة عندي لك سؤال شخصي، إذا حصل وأتيت إلى أمريكا، هل تستقبلني وتساعدني على بدء حياة جديدة هناك؟ في الحقيقة فاجئني السؤال، ولكن لم أتردد بإجابته بأني باق في دمشق لعدة أشهر على الأقل وبامكانه الاتصال بي هاتفياً فيما إذا قرر السفر لترتيب ذلك حيث أن رقم هاتفي موجود في نشرة الاستعلامات. ثم فاجأني الرجل مرة ثانية حين ابتسم وقال بأن تحيقيقه معي قد انتهى ولكنه غير قادر على إصدار إشعار بذلك لاستعماله لتجديد جواز السفر لأني مطلوب لمراجعة فرع مخابرات آخر في الجوار. ثم أعطاني ورقة برقم وعنوان ذلك الفرع وتاريخ مراجعته، وطلب مني أن أتبعه إلى بال المغادرة، فمشيت خلفه وأنا تحت تأثير ذلك الخبر المؤرق.

وكأن ذلك لم يكن كافياً، ففي طريقنا هذا جرت حادثة من النوع الذي ينحفر في ذاكرة الشخص ويستحيل نسيانها لأنها كانت ستغير مجرى حياته بالكامل. كنا ننزل على الدرج من الطابق الثاني إلى الأرضي، وكان هناك العديد من الأشخاص، بين موظفين وأشخاص مستدعون للتحقيق مثلي، يصعدون أو يهبطون على الدرج، حين تجمد جميع الموظفين في أماكنهم فجأة وأمروا من معهم بأن يتجمدوا وكأن صاعقة نزلت عليهم. وضع الموظف الذي حقق معي يديه خلف ظهره وهمس لي بقوله: إجمد في مكانك وضع يديك خلف ظهرك وانظر إلى الأرض فالمقدم مدير الفرع يقوم بجولة تفتيشية. وفعلاً فقد ظهر الرجل، وهو أيضاً من الطائفة الكريمة، بلباس مدني وعلى جنبه مسدس ظاهر للعيان وخلفه عدة أشخاص بكامل أسلحتهم. ولما وصل إلى جانبي سأل الرجل الذي حقق معي: مين هاد وشو قصتو؟ فقال له وهو محني الرأس وينظر إلى الأرض: سيدي هادا جاي من السفر ومستدعى للتحقيق الروتيني. فاقترب الرجل مني وبدأ يتفحصني من (فوق لتحت) ثم عاد وسأل المحقق بلهجة لايخفى فيها الترهيب: وطلع عليه شي؟ رح نضيفوا عنا كم يوم؟ فأجابه: سيدي مافي عليه شي. كنت أشعر بالتوتر يخيم على المكان، وعلى الموظفين قبل غيرهم حيث كانوا يرتجفون بصورة واضحة وكأنهم في حضرة الشيطان نفسه، وإن كان هذا يدل على شئ فعلى إجرام هذا الرجل وتوغله بدماء الناس، مثله مثل أقرانه في أفرع مخابرات النظام. تخيلت حينها مايمكن أن يحصل فيما إذا كان بمزاج سئ في تلك اللحظة وأمر باعادة التحقيق بهدف إيجاد أي تهمة قبل أن يعلم أني الشخص الذي تحدث معه قريبنا في الأمس. وقف الرجل حوالي الدقيقة ينظر إلى بقية الحضور الذين كانوا مايزالون متجمدين في أماكنهم وينظرون إلى الأرض وكأن على رؤوسهم الطير، وكان يبدو مزهواً لكونه مصدر إرهاب للجميع. ويمكن القول أن هذا الشعور أعطاه راحة نفسية، فنفخ صدره وتابع مسيره وخلفه المرافقة، وعادت الحركة للمكان من جديد، فتابع الجميع مسيرهم وتابعت طريقي مع المحقق إلى الباب الرئيسي حيث كان عنصر المرافقة بانتظاري.

اتصلت بقريبنا في نفس اليوم وأعلمته بما جرى، فقال لي أن أتوقع في الفرع الثاني نفس ماجرى في الفرع الأول، أي إجراء روتيني لاأكثر. من جهتي، كنت أرى في كل ذلك رسالة تقول للمواطن الغير مرغوب به: هذه عقوبة من يعود إلى بلده: الحج إلى أفرع المخابرات. وصلت إلى الفرع الثاني في اليوم المحدد وتكرر نفس المشهد من ملأ نشرة الاستعلامات ذات العشرة صفحات ثم الانتظار ساعتين ثم الدخول إلى مكتب المحقق الذي كان من نفس الطائفة وأمامه نفس الملف أو نسخة عنه وبدأ كلامه بنفس العبارة: هنت يللي تهموك بسب الرئيس. في النهاية كرر الرجل بأن التحقيق روتيني، كما أخبرني قريبي، وأخبرني بأنه سيرسل الإشعار بالموافقة الأمنية بالبريد العسكري إلى الفرع الأول والذي سيرسلها بدوره إلى قسم الهجرة والجوازات لتجديد جواز سفري.

هذه هي سورية الأمس للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، في هذه (السورية) كان الناس ومازالوا يعيشون كالعبيد. والاستدعائات إلى أفرع المخابرات بسبب أو بدون سبب قدر يصيب كل المواطنين، ومن ليس عنده واسطة، قد يذهب ولايعود ولايسمع به أحد بعد ذلك كما والأنكى من ذلك لايسمح لأحد أن يسأل عنه.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر سوري أمريكي

الجمعة 19 شباط، فيبروري 2021

هيوستن / تكساس