ثورات الربيع العربي، هل هي مُسَيّرة أم مُخَيّرة؟

ثورات الربيع العربي، هل هي مُسَيّرة أم مُخَيّرة؟

وإلى أين تذهب؟

تطرقت في مقالتي السابقة (ثورات الربيع العربي والثورة العربية الكبرى: هل حيكت من نفس القماشة؟) إلى مدى التشابه بين الاثنتين، وإن كانت تفصلهما حوالي المئة عام. وكان السؤال الذي طرحته هو: هل خُدعنا بالثورات الحالية كما خُدعنا في الماضية، وهل هي لتقسيم المنطقة من جديد كما كانت السابقة؟

لاأعتقد أن هناك اليوم من يستطيع الانكار أن ماسميت في حينه (الثورة العربية الكبرى) لم تكن سوى مؤامرة (بريطانية- فرنسية) لطرد العثمانيين على حساب أرواح العرب ليتسنى لهاتين الدولتين الاستعماريتين للحلول محلهم وتأسيس الدولة اليهودية (بوعد بريطاني) والدولة العلوية (بوعد فرنسي). السؤال الذي سأحاول الاجابة عنه هنا هو: هل كان من الممكن لثورات الربيع العربي أن تأخذ مسارات غير تلك التي أخذتها وأن تصل إلى نهايات غير تلك التي وصلت إليها اليوم؟ حتى نجيب على هذا السؤال لابد من الاتفاق على أن مصلحة الغرب تكمن في الابقاء على البلاد العربية مقسمة، والاستمرار في تقسيمها حتى إلى قطع أصغر، للامعان في إضعافها من جهة ونهب ثرواتها من جهة ثانية. فليس للغرب ولا للشرق المصلحة في أن يتوحد العرب تحت راية عربية، كما حصل عدة مرات قبل صعود العثمانيين، ولاتحت راية إسلامية، كما حصل تحت راية العثمانيين. وأنا برأي أن الدافع لهذا في جوهره ليس العامل الديني كما هو في الظاهر وكما يظن البعض، وإنما مد النفوذ ونهب الثروات كما ذكرت حسب المثل القائل: المال الداشر، يعلم الحرامي على السرقة.

إذاً تم في مطلع القرن العشرين تقسيم بلاد الشام حسب اتفاقية سايكس- بيكو إلى أربعة دول وقيام دولة إسرائيل في فلسطين والدولة العلوية في سورية، وتم فصل السودان عن مصر وإعطاء لواء اسكندرون السوري لتركيا وإقليم الأحواز العربي لايران. ثم تم قبل نهاية القرن افتعال الحرب الأهلية في لبنان لتقسيمه هو الآخر إلى كانتونات مذهبية نتج عنها في النهاية وضع البلد تحت نفوذ عدو تاريخي للعرب وهو إيران التي كانت قد حظيت أيضاً بموطئ قدم لها في سورية بمساعدة الدولة العلوية. وقبل نهاية القرن تم افتعال الحرب الأهلية في الصومال والتي أدت أيضاً إلى تقسيمه ولكن إلى شمال وجنوب بعد أن استعرت في كل واحد منها، وخاصة الجنوبي، معارك طاحنة على خلفيات قبلية وعقائدية ولايزال الأمن والاستقرار مفقوداً في كليهما. في مطلع القرن الواحد والعشرين أتت الموجة الجديدة من تقسيم الغرب للدول العربية، فتم تقسيم العراق بعد غزوه إلى ثلاثة كانتونات مذهبية وقومية ليتم ضمه بعد ذلك للنفوذ الايراني أيضاً إسوة بلبنان. تم بعدها إذكاء الصراع المذهبي في السودان لينتهي بتقسيمه إلى شمال وجنوب، ليتوج كل هذا بحلول ثورات الربيع العربي التي اشتعلت من تونس لتمتد إلى مصر واليمن وليبيا وسورية. تفائل العرب في البداية بتلك الثورات، خاصة بعد الانتصارات السريعة التي حققتها في أقل من شهر في كل من تونس ومصر وفي عدة أشهر في ليبيا، حيث تمنت كافة الشعوب العربية حينها أن ينتهي حكامها نهاية قذافي ليبيا. انتهت الثورة اليمنية بعد حوالي السنة بتنحي الديكتاتور مع السماح له بالبقاء في البلاد، أما الثورة السورية فلم يكن مسموحاً لها أن تنتهي كأي من تلك التي سبقتها لأن نظامها كان دائماً محمياً من إسرائيل وممنوع على الجميع الاقتراب منه، وهي التي كانت قد شعرت بمرارة خسارتها لحليفها مبارك في مصر ووصول تيار لاتثق به إلى الحكم.

لم تلبث الثورات المضادة أن بدأت بالتحرك، فعاد العسكر واستولوا على الحكم في مصر بانقلاب عسكري بمباركة خارجية علنية وخاصة من إسرائيل، وذلك بحجة محاربة الارهاب، لتنقسم البلاد بعدها مابين مؤيد ومعارض. جنرال ليبي من عهد القذافي يقود حركة انقلابية في ليبيا تحت نفس الحجة مهدداً البلاد بالتقسيم الجغرافي بين القبائل. الأقلية الحوثية الشيعية في اليمن تقود هجوماً عسكريا بمساعدة إيران وتستولي على العاصمة بحجة الدفاع عن مكتسبات الثورة وتحقيق العدالة، مضيفة البلاد إلى النفوذ الايراني ومهددة بالتقسيم بانفصال الشمال عن الجنوب. عودة رجال النظام البائد إلى الحكم في تونس عبر صناديق الاقتراع هذه المرة بعد أن فشلت حكومة مابعد الثورة في اقناع التونسيين باعادة انتخابهم. أما في سورية، فالصراعات كانت دائماً أكبر ومن الوزن الثقيل: فاسرائيل لاتريد التخلي عن عائلة الأسد التي أهدتها الجولان عام 1967 وحمت حدودها على مدى أربعين عاماً، وايران ترى في سورية محافظتها الخامسة والثلاثين وتستميت في إبقائها تحت نفوذها، وروسيا غير مستعدة لفقدان آخر حليف لها على البحر المتوسط، كل هذا يجعل نظام الأسد أكثر من غيره عصي عن السقوط وإن كان الثمن دمار البلد بأكمله وسيره باتجاه التقسيم. وحتى لايسقط هذا النظام، صعد نجم تنظيم (داعش) فجأة ووجه طعنة في الظهر للجيش الحر الذي كان يحقق الانتصارات على كافة الجبهات ضد جيش النظام والميليشيات الشيعية المتحالفة معه، ومع ذلك لايزال الكثيرون غير قادرين على فهم مهمة هذا التنظيم في محاربة الثورة وتشويه الاسلام وتكريس التقسيم، وأن صعود سريع وكاسح كهذا لايمكن أن يحصل بدون دعم أو تفاهم أو غض طرف من قوى عظمى دولية واقليمية.

بالعودة لما سبق، نرى أن ثورات الربيع العربي، ماعدا التونسية حالياً على الأقل، قد وفرت بشكل مباشر أو غير مباشر الظروف الملائمة لتقسيم دولها وتفتيتها بشكل لم يسبق له مثيل، مما يخدم أهداف الغرب كما ذكرت، وهذا بالتحديد يطرح السؤال الرئيسي هنا: لو رفض السيسي القيام بالانقلاب فهل كان محمد مرسي سيبقى في الحكم، أم أن جنرالاً آخراً كان سيكلف بالمهمة؟ ولو أن علي صالح لم يستقيل من رئاسة اليمن وبقي على رأس الحكم، فهل كان الحوثيون سيستولون على العاصمة؟ ولو أن بشار الأسد استجاب لمطالب الثورة في بدايتها، فهل كان ذلك سيجنب البلاد الكارثة التي حلت بها، أم كان سيتم التخلص منه بطريقة ما للوصول إلى ماوصلنا إليه؟ يبدو مما حدث ويحدث أن تلك الثورات، وبمجرد أن بدأت، فقد تم اختطافها وتسييرها في مسار آخر يهدف لتدميرها لبلادها وافنائها لشعوبها، وذلك بتوظيف الكراهية التي تجذرت في نفوس الشعوب ضد حكامها على مدى نصف القرن الماضي. الكراهية التي خلقها الحكام أنفسهم بسفك دماء شعوبهم وغدرهم بهم على مدى تلك الفترة الزمنية والتي وصلت إلى حد استحالة المسامحة وطي صفحة الماضي إلا بالانتقام على الطريقة الليبية. وكون هؤلاء الحكام يعلمون بشاعة مافعلوه بشعوبهم، فهم يعلمون أن نهايتهم هي إما بالهرب على الطريقة التونسية أو بالقتال حتى النهاية على الطريقة السورية، وإن كانت في تلك النهاية نهايتهم ونهاية البلد والشعب معاً. وهذا ماهدف له الغرب أصلاً بدعم هذه الأنظمة المافيوية، فهي طالما بقيت، بقيت ترعى مصالحه، وإن ذهبت، تم تقسيم البلد على مبدأ (الفوضى الخلاقة) وأضحى نهبه اسهل.

لاأعتقد أن هناك من يدعي بأنه يعلم مايخطط له الغرب لمستقبل الشرق الأوسط، فالسياسة هي فن الكذب والخداع وحياكة المؤامرات. ولكن إذا صحت تلك الاستنتاجات، وهي مبنية كما قلت على ماآلت إليه ثورات الربيع العربي حتى اليوم، وعلى اسقاطها على الثورة العربية الكبرى، فيبدو أن الحكام الأفراد الذين قامت ضدهم تلك الثورات ربما كانوا هم أنفسهم لايملكون حرية قراراتهم. أي أن البلاد ستقسم ستقسم، وستدمر ستدمر، وستدفع إلى حروب أهلية ومذهبية ستدفع، شاء الحكام أم أبوا، وشاء الشعب أم أبى. ويبدو أن الكل مُسَيّرون في طريق باتجاه واحد، وربما ماهم مُخَيّرون فيه هو فقط طريقة ووحشية انتقامهم وقتلهم لبعضهم.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب. هيوستن / تكساس

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الاثنين 27 ربيع الثاني 1436، 16 شباط، فيبروري 2014

http://sites.google.com/site/tarifspoetry