شكري القوتلي والديكتاتور الثوري العربي
أين يفترقان وأين لا يلتقيان؟
لا شك أن الغالبية العظمى من الجيل الجديد من الشباب العربي، وحتى السوري أيضا، ممن يتقدم الثورات هذه الأيام، لا يعرف من هو الرئيس شكري القوتلي (1891-1967)، أول رئيس جمهورية سوري بعد الاستقلال، ولا يعرف ماذا يمثل في التاريخ العربي المعاصر؟ ما أستطيع أن أقوله هنا عن هذا الرجل، ومن دون أي تردد، بأنه نموذج الحاكم الذي تبحث عنه هذه الملايين المتظاهرة والتي تملأ ساحات وشوارع المدن والقرى العربية من المحيط إلى الخليج. فقد كان وبحق حالة إستثنائية عربية لم تتكرر منذ خرجت جيوش الاحتلال والإنتداب من بلادنا وحتى اليوم، وهذا هو بالتحديد ما يجعل من الصعب على جيل الشباب الذي يبحث عن الحرية والديمقراطية والكرامة أن يصدق بأن حاكماً عربياً معاصراً اجتمعت فيه كل هذه الصفات. فهو من عمل من أجل استقلال بلده وشهد ذلك، واستلم وسلم السلطة بصورة سلمية، وحين توفي، توفي لأسباب مرضية وليس إغتيالاً أو في أحد السجون. فإذا سمعني أي مواطن عربي أقول ذلك، سيظن بأني إنما أمزح أو أخرف أو أتكلم من وحي الخيال، فأين الحقيقة وأين الخيال في ذلك؟
ولد شكري القوتلي في دمشق لأسرة عريقة، فدرس فيها وحصل على شهادته الثانوية من مدرسة مكتب عنبر الشهيرة، ذهب بعدها إلى اسطنبول والتحق بالمدرسة الملكية وحاز على شهادة في العلوم السياسية عام 1912. عاد بعدها إلى دمشق ليبدأ مشواره مع النضال الوطني من أجل التحرر والاستقلال، فانتسب إلى جمعية (العربية الفتاة) السرية المحظورة التي تشكلت لمقاومة سياسة التتريك العثمانية وللحفاظ على الهوية العربية، فقبض عليه وسجن. أرسل من سجنه رسالة إلى حاكم دمشق جمال باشا يحثه فيها على رفع المظالم والإصغاء لمطالب الشعب. حاول الإنتحار في السجن خوفاً من انهياره تحت التعذيب وبوحه بأسماء زملائه في الجمعية، ولكن نشبت بعد ذلك الثورة العربية الكبرى 1916 ووصلت جحافلها إلى دمشق فتم إنقاذه من السجن ومن حكم الإعدام.
ولكن ما أن خرج الأتراك من سورية حتى حل مكانهم الفرنسيون، فبدأ القوتلي بالنضال من جديد في سبيل الإستقلال، فسجن في قلعة أرواد عام 1922 وحكم عليه بالإعدام. صدر عفو عليه بعد ذلك، ولكن ما لبثت أن انطلقت الثورة السورية الكبرى عام 1925 من جبل العرب في حوران بقيادة سلطان باشا الأطرش، وكان القوتلي من المنظمين لها، فحكم بالإعدام من جديد ليغادر البلاد متنقلاً بين مصر وفلسطين. عاد إلى دمشق عام 1930 بعد صدور عفو عنه مرة ثانية، فتفرغ للعمل السياسي، وفاز بعضوية أول مجلس نواب سوري عام 1936. ثم تولى بعد ذلك وزارتي المالية والدفاع في أول حكومة وطنية برئاسة جميل مردم بك، إلا أنه سرعان ما استقال منها احتجاجاً على توقيع الحكومة إتفاقيات إقتصادية مجحفة مع فرنسا عام 1938، واكتفى بعضوية مجلس النواب الذي انتخبه في نفس العام نائباً لرئيسه وتابع من هناك جهوده من أجل الإستقلال. بحلول عام 1943، توفي رئيس الجمهورية المعين من قبل الفرنسيين الشيخ تاج الدين الحسيني، فرشح القوتلي نفسه وتم انتخابه من قبل مجلس النواب كأول رئيس جمهورية وطني للبلاد. لم يهادن الفرنسيين بعد انتخابه رئيساً، بل تابع نضاله السياسي الداخلي والدولي من أجل جلاء جيش الإنتداب حتى تحقق ذلك عام 1946، فحصلت سورية بذلك على شرف أول دولة عربية تحصل على الاستقلال من الإحتلال الأجنبي وحصل القوتلي بذلك وبجدارة على لقب (أبو الإستقلال)
صُدمت الجمهورية الفتية ورئيسها الوطني بعد عامين بإعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين، فشارك الجيش السوري الحديث العهد بالحرب وأبلى بلاءً حسناً إلى جانب جيش الإنقاذ وكذلك جيوش مصر والأردن ولبنان والعراق والسعودية. ولكن إسراع الغرب لنجدة إسرائيل أنقذها من هزيمة محققة، ويمكن أيضاً فهم النهاية المؤلمة التي انتهت إليها تلك الحرب وانسحاب تلك الجيوش من حيث أتت إذا عرفنا أن كافة الدول العربية (باستثناء سورية) كانت حينها لا تزال رسمياً تحت الاحتلال الأجنبي، أو تستضيف قواعد عسكرية له على أراضيها. استمر القوتلي بعد النكبة بتقوية الجيش السوري وتطويره وتحضيره للمعركة القادمة، كما اهتم أيضاً بالاقتصاد الوطني من زراعة وصناعة وتجارة، وعمل من أجل الوحدة العربية التي كانت دائماً حلمه الأكبر فكان من المؤسسين للجامعة العربية التي اتخذت من القاهرة مقراً لها عام 1945.
من الواضح أن سياسة القوتلي لم ترق للدول الغربية، والتي كانت خطتها أن تسحب جيوشها من بلادنا وتسلمها لجيوش إحتلال صناعة محلية، ترعى مصالحها وتنفذ سياساتها وتحمي ربيبتها إسرائيل، وتقوم هي مقابل ذلك بدعمها سراً أو علناً، وبغض البصر عن نهبها للوطن وتنكيلها بشعوبها. فأتى أول إنقلاب عسكري وكان على يد العقيد حسني الزعيم عام 1949 لينهي رئاسة القوتلي بطريقة كانت الأولى من نوعها في التاريخ العربي المعاصر. ولكن لم يتجرأ صاحب الإنقلاب على إنزال أي أذى بالرئيس المنتخب، فمعارضي القوتلي قبل مؤيديه كانوا يعترفون بوطنيته وفضله على الإستقلال. فخيره الزعيم بين تأييد الإنقلاب أو التوقف عن العمل السياسي أو الرحيل، فاختار الرحيل وذهب إلى مصر.
لم يستمتع الزعيم بانقلابه طويلاً، فسرعان ما انقلب عليه العقيد سامي الحناوي بعد أقل من شهرين، ليأتي إنقلاب العقيد أديب الشيشكلي بعد عدة أشهر من نفس العام. وقد فشل هذا الإنقلاب العسكري أيضاً كسابقيه واضطر صاحبه لمغادرة البلاد عام 1954.
عاد القوتلي بعد ذلك إلى دمشق فطلب منه مجلس النواب الترشح للرئاسة من جديد، فاعتذر عن القبول، فعقد المجلس جلسة خاصة رشحه فيها غيابياً للرئاسة وتم انتخابه عام 1955 وبأغلبية الثلثين، فوافق أخيراً نزولاً على رغبة الشعب الممثل بالمجلس. كان حلم الوحدة ما يزال حياً في ضميره، فعمل خلال السنوات التي تلت على إجراء الإتصالات والمفاوضات مع الرئيس جمال عبد الناصر حتى توصلا إلى إتفاقية الوحدة وتحقيقها عام 1958. وتنازل عن الحكم للرئيس المصري فكان بذلك أول وآخر رئيس عربي يتنازل طواعية عن الحكم دون أي ضغط أو تهديد، بل لمصلحة الوطن، فحاز على لقب المواطن العربي الأول.
ولكن وللأسف، لم تدم الفرحة الوطنية المتمثلة بالوحدة طويلاً، فقام العقيد عبد الكريم النحلاوي بانقلاب الإنفصال عام 1961، لتتبعه ثلاثة إنقلابات عسكرية كانت على الترتيب: إنقلاب العقيد زياد الحريري في الثامن من آذار 1963، ثم إنقلاب اللواء أمين الحافظ بعد عدة أشهر من نفس العام، وأخيراً إنقلاب اللواء صلاح جديد عام 1966. هؤلاء ومن سبق ذكرهم، ومن شابههم على المستوى العربي لاحقاً، كانوا كلهم في خيالي وأنا أكتب قصيدة (بيان رقم واحد) التي نشرتها مؤخراً. كان القوتلي قد انتقل إلى بيروت ليستقر فيها بعد إنقلاب آذار، وكان مريضاً بالقرحة التي اشتدت عليه، والتي زاد من احتقانها تلك الأحداث والإنقلابات الدموية التي عصفت ببلده سورية. وكان من سخرية القدر أن المرض تمكن منه أخيراً في شهر حزيران من عام 1967، بعد أيام من الهزيمة التي ذهبت بالقدس وسيناء والجولان، وكأن تلك الهزيمة كانت الضربة القاضية التي أودت بحياته.
أود في خاتمة هذه المقالة الرد على بعض أصابع إتهام الموجهة ضد القوتلي، من أنه كان ماسونياً إلى أنه من الذين باعوا فلسطين، إلى أنه عمل خلال سنوات حكمه متحيزاً للإقطاعية والرأسمالية والقطاع الخاص على حساب الشعب ومصالحه. ففي الواقع لا يمكن إرضاء كافة الناس وكافة الإتجاهات السياسية والمذهبية، وإذا كان البعض يشكك حتى بالأنبياء والرسل، فلا عجب أن يوجد من يشكك بمن هو ليس بنبي. وأما من جهتي، فإن الأفعال هي التي تتكلم عن صاحبها، ليس الاتهامات. فالرجل الذي سجن مرتين على يد المحتل، وحكم بالإعدام ثلاث مرات من قبله، وشارك في ثورة مسلحة ضده، ثم عمل على جلائه عن وطنه وشهد هذا الجلاء وهو في منصب رئيس الجمهورية، ثم اعتذر عن قبول الرئاسة مرة ثانية، وأخيراً وليس آخراً، تنازل عنها لصالح رئيس آخر في سبيل تحقيق دولة الوحدة العربية، هو رجل يستحق التقدير والثناء والاحترام. ويمكنني أن أفهم في هذا السياق، ولنفس الأسباب السابقة، لماذا يكره كافة الزعماء العرب هذا الرجل ويحاولون جاهدين (طمس) سيرته أو تشويهها. كنت مؤخراً قد كتبت مقالة عن جورج واشنطن ودوره في تحرير بلاده واستقلالها، ورفضه الإستئثار بالحكم إلى الأبد وإن كان يستحقه وعرض عليه بالفعل. فإن كان هناك من الرؤساء العرب في حقبة ما بعد الإستقلال ممن يمكن مقارنته معه، فإن ذلك الرجل سيكون، ومن دون أي منافس، الرئيس شكري القوتلي.
هذا هو باختصار لماذا القوتلي والديكتاتور العربي، ليس فقط يفترقان على طول الخط، ولكنهما أيضا لا يمكن أن يلتقيا أبداً.
بقلم: طريف يوسف آغا
هيوستن / تكساس
جماد الأول 1432 / نيسان، إبريل 2011
http://sites.google.com/site/tarifspoetry