قصتي مع الدكتور نعيم اليافي

كتبت ُهذه المقالة إحياء ً لذكرى الدكتور نعيم اليافي (1936-2003) الذي توفي في حلب بعد

صراع مع المرض. كان من رواد النقد العربي، وله دراسات في الشعر والقصة

والحداثة والتاريخ والمرأة. حصل على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة ولندن وتنقل في

التدريس بين جامعات حلب ودمشق والجزائر والكويت. حكـَّم في العديد من

المسابقات الشعرية العربية حتى عام 2000، كما شغل منصب رئيس فرع اتحاد الكتاب

العرب في حلب (1991-1994) وعمل في هيئة تحرير مجلة الموقف الأدبي

وغيرها

كان يحب التواصل مع الناس عن طريق المنابر الثقافية ليشرح رأيه بالنقد والأدب والثقافة

والفكر والمجتمع.اهتم كثيرا بالمؤسسة الجامعية وهمومها وركز على علوم المفاهي

والمصطلحات والمناهج، كماعـُرف بالجدية والمهنية العاليتين وعدم التفريط بالمبادئ

عرفته في بداية السبعينيات خلال ظروف كانت صعبة عليه، حيث كان قد تم نقله حينها من

وظيفته كأستاذ في جامعة حلب إلى ثانوية ابن خلدون في دمشق مدرسا لمادة اللغة

العربية حيث درَّسنا في الصفين الحادي عشر والثاني عشر

رحمه الله.

قصتي مع الدكتور نعيم اليافي

حمصي المولد والنشأة ، حلبي الإقامة والمسكن ، دمشقي العمل والهوى

ما الحياة إلا سلسلة من القصص المتلاحقة، تطول أو تقصر، فمنها مايبقى في

الذاكرة ومنها مايرحل، وهذه واحدة من تلك التي تبقى لترحل معنا.

بدأت قصتنا خلال الإسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر 1973، وهو كما

نعرف، إسبوع إفتتاح المدارس في دمشق. كنت حينها في الصف الحادي

عشر في ثانوية ابن خلدون الحكومية الواقعة في منطقة التجهيز. وهي ثانوية كنت

دائما فخورا بها لعدة أسباب: الأول أنها كانت في ذلك الوقت، مع

ثانوية جودة الهاشمي، أفضل ثانويتين حكوميتين في دمشق. والثاني شخصي وهو

أن أبي، الذي كنت أيضا وما أزال شديد الفخر به، كان قد تخرج منها

قبل أكثر من ثلاثين عاما، فكنت أرى نفسي بشكل أو بآخر وكأني أسير على

خطاه. أما الثالث فهو أن أخي عدنان، الأكبر مني بعام واحد والذي كنت

دائما أنظر إليه كمثل أعلى في الدراسة والأخلاق، كان معي فيها، فكنا نترافق

إليها مشيا كل يوم من بيتنا في منطقة الجسر الأبيض ذهابا وإيابا.أما ابن

خلدون الذي دعيت الثانوية باسمه، فهو، لمن لايعرفه، عالم الإجتماع العربي

الشهير الذي ولد في تونس في القرن الرابع عشر الميلادي وتنقل بين شمال

إفريقية والشام. أشهر أعماله كتاب المقدمة الذي سمي باسمه ووضع فيه لأول مرة

أسس ونظريات علم الاجتماع

الإسبوع الأول من العام الدراسي الجديد لايشبه أي إسبوع آخر، وذلك لما يسببه

من مزيج من مشاعر الكآبة والفرح في آن واحد. فهو من جهة الناطق

الرسمي الذي يعلن انتهاء العطلة الصيفية بأوقاتها الجميلة التي تعودنا قضائها بين

الملاعب والمسابح والمتنزهات. ولكنه أيضا ومن جهة ثانية، يعلن

العودة إلى المدرسة بكل مايعنيه ذلك من الإلتقاء مع الأصحاب وعودة التنافس

الدراسي معهم الذي كنت أستمتع به أيضا أي استمتاع. والاسبوع الأول

من العام الدراسي، بالإضافة لما سبق وذكرته من معانيه، فهو يعني أيضا مقابلة

الأساتذة الجدد.

بدأت قصتنا مع أول درس لمادة اللغة العربية لذلك العام، ففي هذا اليوم وبين هرج

ومرج الطلاب بعد انتهاء الفرصة بين الحصص والدخول إلى قاعة

الصف، فوجئنا بدخول رجل، قدرت بأنه في الثلاثينات من عمره، لم نألف رؤية

أمثاله في المدرسة من قبل. كان يرتدي بذلة رسمية سوداء مدعومة

بربطة عنق سوداء أيضا. وكأن كل ذلك لم يكفه ليكون ملفتا للنظر في مدرستنا

فأضاف إليه أيضا نظارة سوداء على عينيه ذكرتني فورا بالصورة

الأشهر لعميد الأدب العربي طه حسين. ولما كنت أعرف أن طه حسين لايمكن أن

يكون هنا، فأول ماتبادر إلى ذهني أنه قد يكون أحد مفتشي وزارة

التربية، أو ربما وزير التربية نفسه. وما أن دخل الرجل قاعة الصف حتى تبعه

إليها مدير الثانوية حينذاك، الأستاذ تيسير الرفاعي، فبتنا على يقين بأن

الضيف ذي البذلة الرسمية هو شخص فوق العادة. كان لتيسير الرفاعي شخصية

متميزة وغنية في نفس الوقت، فهو يحاول دائما الظهور بالمظهر

التقليدي لمدير المدرسة العربي الشديد والقاسي والذي وكما يقول المثل "مافي معو

مزح" و "إيدو والكف". طبعا لا أحد يلومه على ذلك، إذ ليس من

السهل إدارة مدرسة ثانوية بهذا الحجم فيها أكثر من ألف طالب. كان صلب البنية

ويميل إلى القصر وفيه بقايا عضلات تدل على ممارسته للرياضة في

مرحلة سابقة وخاصة رفع الأثقال.خفيف شعر الرأس حتى لتظن أن جبينه قد

زحف واحتل أجزاءً من رأسه ليست له، ويفتخر بشاربين قصيرين مفتولين

إلى الأعلى وخال شعري على خده الأيمن دائم التناوب على تفتيلهم في كل

الأوقات. ولكن اكتشفت فيما بعد، وأثناء زيارة ودية قمت بها إلى المدرسة

خلال دراستي الجامعية، اكتشفت أن له شخصية ثانية تكاد تكون على النقيض من

تلك التي عرفناه بها، وأبرز مافيها روح الدعابة وطيبة السريرة. بقي

الطلاب وقوفا إلى أن أذن لهم بالجلوس، ثم وقف صامتا ينظر إلينا ويحاول أن

يجد مايبدأ به الكلام. كان واضحا أنه أمام موضوع محرج وبالتالي كان

مترددا كيف سيبدأ ومن أين؟ وأخيرا لجأ إلى الحركة التي سبق وذكرناها والتي

كان قد اعتاد عليها حتى باتت جزءا من شخصيته، ذلك أنه بدأ بتفتيل

شاربيه القصيرين والمفتولين أصلا، والخال الذي كان على بعد سنتيمترات منهما

فكان لذلك مفعول السحر عليه حيث استجمع بعدها أنفاسه وبدأ بالكلام

الذي كان الجميع بانتظاره فقال: أبنائي الطلاب، يشرفني ويشرف ثانوية ابن

خلدون أن ينضم إلى جهازنا التدريسي الدكتور نعيم اليافي

في الحقيقة لم يسمع معظم الطلاب اسم الرجل بقدر ماسمعوا لقب دكتور الذي

سبقه، وهذا مادفعهم للنظر إلى بعضهم البعض بأطراف عيونهم بنظرات

فيها مزيج من التساؤل وعدم التصديق.التسائل فيما إذا كنا حقا مازلنا طلابا في

المدرسة الثانوية، أم أننا وبمعجزة قد أصبحنا في الجامعة دون أن نشعر،

وأما عدم التصديق فمن أن وزارة التربية باتت تشترط بمدرسيها أن يحملوا شهادة

الدكتوراه لتعينهم في مدارسها

لم يمنحنا مدير الثانوية كثيرا من الوقت لنذهب بأفكارنا أبعد من ذلك، فوضع حدا

لها لما تابع كلامه قائلا بلهجة فيها من الجد أكثر مما فيها من المزح

وإن حاول إضفائه عليها، فقدم التفسير الذي كنا بانتظاره. قال لنا: أبنائي الطلاب

لقد أحرجتني الوزارة بتعيين دكتور في ثانويتنا، وأنا المدير بكامل

قدري لاأحمل سوى شهادة من كلية التربية. ثم تابع يقول مختتما كلمته: لن أطيل

عليكم أكثر من ذلك، وسأترككم مع حصة الدكتور نعيم.ولكن عندي لكم

أولا نصيحة واحدة: وجوده معكم في هذه القاعة يعتبر فرصة لم ولن تتاح لغيركم

من طلاب المدارس، فاستغلوها وتزودوا من علمه فلا أحد يعلم إلى

متى ستبقيه الوزارة عندنا. فأنا نفسي ولولا هذه الشوارب التي أحملها، ولولا

وظيفتي التي أقوم بتأديتها لجلست معكم على هذه المقاعد لأتزود من علمه.

ودعوني أوكد لكم بأن ثانوية ابن خلدون ستفخر في المستقبل بأن الدكتور نعيم

اليافي مر منها، وأنتم أنفسكم ستفخرون به أيضا.

وما أن غادر المدير القاعة، حتى جلس الدكتور نعيم على كرسيه وقال مخاطبا إيانا

بنبرة فيها مزيجا من الجدية والألم ومحاولا في نفس الوقت إجبار

ابتسامة إلى ملامح وجهه القاسية ولكن الحزينة، قال لنا باقتضاب: شهادة الدكتوراه

التي أحملها هي بالأدب العربي، وقبل أن أكون مدرسا في ثانويتكم،

كنت أستاذا في كلية الأدب العربي في جامعة حلب، ولكن حصلت معي ظروف

غير سارة ويمكن أيضا أن أدعوها غير عادلة، أدت إلى نقلي من وزارة

التعليم العالي إلى وزارة التربية. أما متى تتغير هذه الظروف وأعود إلى طلابي

الجامعيين، فهذا وكما تفضل السيد مدير الثانوية، لا أحد يعلمه. ولكن

مايهمنا في الوقت الحاضر أنكم أنتم الآن طلابي، وأنا أستاذكم، وإذا أبديتم الإحترام

لهذه المقاعد التي تجلسون عليها، ولهذه الكتب التي تحملوها، فأنا

أعدكم بأني سأبذل قصارى جهدي، ليس فقط كمدرس لمادة اللغة العربية، ولكن

أيضا كأخ كبير لكم في حال احتجتم للنصح أو التوجيه

لم يكن لدى كافة الطلاب، وأنا منهم، في تلك اللحظة سوى الشعور بالأهمية

المفاجئة التي أعطيت لهم بتعيين دكتور جامعي لتدريسهم، فكانوا ينتظرون

وبفارغ الصبر لحظة عودتهم إلى البيت لإعلام أهلهم بهذا الحدث الإستثنائي الذي

جرى معهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان الجميع يتوقون لمعرفة

مالذي حصل وأدى إلى (طيران) الدكتور من جامعة حلب وهبوطه على مدرج

ثانويتنا؟

هكذا بدأت قصتي مع الأستاذ نعيم اليافي الذي توثقت صحبتي معه فيما بعد لعدة

أسباب كان أهمها ميولي الطبيعي بل وشغفي منذ الصغر بالمواد الأدبية

عموما واللغوية خصوصا كالإنشاء والشعر والقصة. فكثيرا ماكنت أتقدم إليه بعد

انتهاء الحصة لمتابعة مناقشة موضوع الدرس أو مواضيع أدبية مختلفة

ولم أكن أشعر أنه يجاملني حين ننغمس أحيانا بالنقاشات الأدبية، بل على العكس

كنت أشعر أنه يستمتع بها ولايمل من استمرارها. فقبل وصولي إلى

المرحلة الثانوية،كنت قد قرأت سيرة الكثير من الأدباء العرب والعالميين من كتاب

القصة والرواية وأشهر أعمالهم، مما زودني بمواضيع أدبية غنية

يمكن الخوض فيها. والفضل في هذه المعرفة التي كنت أحملها ومنذ سن فتية نسبيا

تعود في الحقيقة إلى أبي الذي اهتم بها اهتماما كبيرا وأغنى مكتبة

بيتنا بمئات الكتب من دواويين شعرية وقصص وروايات عربية ومترجمة.

فالقراءة كانت واحدة من فروض العطلة الصيفية الطويلة عندنا في البيت،

وهي فرض كنت أستمتع به أي استمتاع حتى أصبح مع السنين عادة أدمنت عليها

ولم أعد قادرا على العيش من دونها. كان الأستاذ يدعوني أحيانا

لمتابعة نقاشاتنا في قاعة المدرسين حيث ألتقي هناك مع العديد المدرسين اللذين

أعرفهم أعرفهم أيضا معرفة متميزة وشخصية مثل أستاذ الرياضيات

علي الدكاك وأستاذ الفيزياء محمد المبيض وأستاذ الفلسفة باكير وغيرهم.كانوا

أحيانا يدعونني لشرب الشاي، فكنت أحب أن أتعامل معهم معاملة الند للند

فأصر أن يسمحوا لي بدفع ثمن الشاي وأجد في ذلك شرفا كبيرا

كانت علاقتي مع الكثير منهم متينة وذات خصوصية، وساعد على ذلك أني كنت

الطالب الأول، أو عريف الصف كما يسمى. وقداعتدت على شغل هذا

المركز ليس فقط خلال ذلك العام، ولكن على مدى معظم سنوات المراحل الابتدائية

والاعدادية والثانوية، وعادة ماتكون علاقة الطالب الأول مع

المدرسين مباشرة ومتميزة فهو من يقدم لهم الصف ويتفقد الحضور والغياب

ويحافظ على الانضباط في غيابهم، فهو بشكل أو بآخر ساعدهم الأيمن. هذا

من جهة، ومن جهة ثانية لم يكن عندي شعور بالرهبة من الأساتذة كما هي حال

بقية الطلاب.نعم كنت أحترم مركزهم وأقدر علمهم، ولكن من دون رهبة

أو فزع. كنت وبأحلام الشباب التي لاحدود لها أشعر، بل على ثقة، بأن كتاباتي

المتميزة والمختلفة عن مثيلاتها لبقية الطلاب سيكون لها شأن في

المستقبل. وقد غذى هذا الشعور ماكنت أسمعه بنفس المعنى من أساتذتي وأصحابي

وحتى أفراد أسرتي وأقاربي اللذين كانوا يجمعون بأن ملكة الكتابة

عندي هي في الحقيقة موهبة بحاجة للعناية، وذلك بالإستمرار بممارستها لإبقائها

على قيد الحياة من جهة وبالإكثار من القراءة لتطويرها وصقلها من

جهة ثانية

لمسنا خلال الأيام القليلة التي تلت أننا فعلا أمام أستاذ مختلف، ليس بعلمه فقط،

ولكن أيضا بنشاطه وشعوره بالمسؤولية اتجاه طلابه، وحماسته لتزويدهم

بكل ماعنده من دون تحفظ أو تقاعس. وهو منذ البداية أشاد بالمنهاج الدراسي

الموضوع من قبل وزارة التعليم، ولكنه أعلمنا بأنه سيختصر في بعض

النواحي ويتوسع بل ويضيف في البعض الآخر، وسيستعير في ذلك من المنهاج

الجامعي لكلية الآداب بما يتقاطع مع منهاجنا. وهذا الأمر بالذات جعلنا

نشعر بسعادة ضمنية كوننا سنحصل على معلومات جامعية ونحن مازلنا في

المدرسة، وهو ما سيجعلنا سابقين لوقتنا وما سيميزنا على طلاب الصفوف

الأخرى. وقد اعتاد أن يملي علينا ارتجاليا مواد تلك المواضيع التي يرغب بالتوسع

فيها والإضافة إليها والتي قد تبلغ أحيانا عشرات الصفحات. فكان

يحاول بذلك أن يقول لنا أنه ليس بحاجة لنوطة ليقرأ منها،فهذه المواضيع وبالرغم

من كثرتها، فهي في الحقيقة من بعض أعماله، وربما كانت قد

تكررت على لسانه مئات المرات حتى باتت قطعة منه، فبات يحفظها عن ظهر

قلب

ثم كثيرا ماكان يدعونا للدوام أيام الجمعة لإعطائنا دروسا إضافية لم تكف أيام

الإسبوع لإعطائها، على الأغلب بسبب توسعه في موضوع ما وحاجته

لمزيد من الوقت لتغطيته. ولما كان يلمس انزعاجنا من ذلك، كان يذكرنا أنها

دروس بلا مقابل وأنه لايريد منها إلا مصلحتنا وفائدتنا، فنرضى ونقتنع

كانت لدى نعيم اليافي مقدرة نادرة على الإقناع، تماما كمقدرته التعليمية والتربوية

أما من حيث ثقته بنفسه فقد كانت غير محدودة، لا بل وتتجاوز المألوف. فهو كان

قد فاجئنا في الأيام الأولى بعرض مختصره أنه مستعد للإجابة عن أي

سؤال نطرحه عليه، ليس فقط من حقل اللغة والأدب،ولكن من أي مجال آخر يمكن

أن يخطر على بال أحدنا، وهو مستعد للإجابة عنه في نفس اليوم،أو

في أسؤا الأحوال في اليوم التالي. كان وباختصار يحاول أن يقول لنا أنه موسوعة

معلومات بشرية وأنه مستعد للبرهان على ذلك، وقد برهن فعلا على

قوله هذا طوال فترة وجوده معنا في الصفين الحادي عشر والثاني عشر على

التوالي. ومع أن بعض الطلاب وأنا كنت واحدا منهم، صاروا في بداي

الأمر يصعبون عليه هذه الأسئلة لمجرد تحديه واختبار قوة معلوماته وثقافته

العامة، إلا أنه كان دائما على قدر التحدي وكان دائما يتغلب على هذه

الأسئلة، بل ويقدم الأجوبة الفورية لها في أكثر الأحيان. ومازلت أذكر أول سؤال

طرحته عليه، وكنت حينها قد قرأت مقالة في إحدى المجلات العلمية

عن النظرية النسبية لأينشتاين ومفهوم الزمن كبعد رابع. وقد شعرت لبرهة

بشعور الانتصار عندما وقف صامتا أمام سؤالي له عن ماهية البعد الرابع

وهو الذي كان قد أجاب وفورا عن عشرات الأسئلة العامة قبل ذلك. فابتسم وقال لي

مازحا: لقد نلت مني بهذا السؤال، كما وسجلت علي نقطة، ولكن

سيكون الجواب مع الشرح هنا في الصف غدا. إلا أنه لم يمنحني وقتا أطول

للإستمتاع بشعور الإنتصار هذا، بل استعاد اعتباره سريعا عندما أردف بأنه

يعرف أن البعد الرابع هو الزمن حسب نظرية أينشتاين، إلا أنه لايريد الإكتفاء

بجواب الكلمة الواحدة، فالإجابة السطحية دون تفاصيل، أو حتى بعضها

هي إجابة ضعيفة لايرضاها لنفسه. وفعلا أتى في اليوم التالي جاهزا لاستعادة لقبه

كموسوعة معلومات، فما أن انتهى من الدرس المقرر حتى مسح

اللوح بالكامل، وأمسك بالطبشورة وبدأ بكتابة النظرية ورسم الأشكال الإيضاحية ثم

قام بالشرح المختصر والمبسط لها ولمفهوم البعد الرابع، كل ذلك في

أقل من عشر دقائق. ثم التفت إلي وسألني فيما إذا كانت الإجابة كافية أم لايزال في

الأمر غموض؟ طبعا كانت إجابته أبعد وأعمق مما سبق وقرأت عن

الموضوع، وبالتالي أكثر مما كنت أنتظر، ولكن هذا هو في الحقيقة نعيم اليافي

لايرضى بالسطحية ولا باسلوب رفع العتب. فإما أن يكون عملك متقنا

ومدروسا ومتعوبا عليه، وإما أن لاتقدمه فتحمي نفسك من السمعة المهلهلة

كان قد عودنا بين الحين والآخر أن يختصر الدرس المقرر، ليحدثنا عن مواضيع

لها أهمية عنده. فحدثنا مرة بأن الطليعة المثقفة في أي بلد مسؤولة عن

توعية الناس من جهة وقيادتهم إلى التطور من جهة ثانية.وأضاف بأن الطليعة

المثقفة التي يقصدها هي تلك الملتزمة بالمبادئ والقيم الأخلاقية للمجتمع

وليست المرتزقة التي تغير ألوانها وطبلها وزمرها بتغير مصالحها ومصادر

رزقها، فهي تعتبر خارج المعادلة حتى وإن كان لدى البعض منها القدرة

على الإبداع.

لم يكن الدكتور نعيم يخفي أنه من دعاة التجديد، ولكن بشرط أن يكون هذا التجديد

مبدعا. والمبدع برأيه، إن كان رساما أو موسيقيا، شاعرا أو كاتبا، هو

من يستطيع أن يبقى بين عامة الناس ويؤثر بهم، فتكون أعماله منهم ولهم. كان

يعترف بأن الصعوبة والغموض هما من صفات التجديد، إن كان أدبا أو

فنا، وهذا ما أوقع غالبية المجددين في إشكالية ابتعاد عامة الناس عن أعمالهم. وهم

وقعوا في هذه الإشكالية لأنهم تجاهلوا تاريخ وتراث البلد في

مواضيعهم وتقنياتهم، لابل وضربوا بهما عرض الحائط. وذهب البعض منهم إلى

اعتبارهما سببا من أسباب التخلف، فاستعاضوا عنها بمواضيع

وتقنيات مستوردة ربما نجحت في تحقيق مهمتها في بلادها، ولكنها فشلت عندنا

وهي ستفشل في أي مكان آخر لأن لكل مجتمع خصوصياته. لا بل

وخلقت عندنا هوة واسعة بين الناس وبين المجددين اللذين وبدلا من محاولة إعادة

مد الجسور، اتهموا الناس بالجهل وبالقصور عن إستيعاب هذه

الأعمال. ولكن كل هذه التهم لاتلغي الحقيقة على الأرض وهي باختصار أنهم

عجزوا عن التواصل الإيجابي مع الناس، وفضلوا أن ينتظروا المجتمع

حتى يتغير ويتطور ويصل إلى مستواهم ويستوعب أعمالهم عن أن يعودوا هم

ويغيروا من مواضيع وتقنيات أعمالهم ليساعدوه على التطور. طبعا

لاشك أن الحياة في أمجاد التاريخ ورفض الخروج منه هو التخلف بكل مافي الكلمة

من معنى. ولكن الإستعارة والاستلهام منه كمصدر للدروس ووسيلة

للإصلاح، وخاصة إذا كان غنيا ومشرقا كتاريخنا، هو أمر صحي ومطلوب

طبعا لم يكن يقلل من أهمية رأي النقاد بأي عمل إبداعي، فالدكتور نعيم نفسه يُعتبر

من رواد النقاد العرب، ولكنه كان دائما يذكر بأن العمل الإبداعي

المتكامل هو الذي يصل إلى كل الناس عامتهم وخاصتهم، كما ويحظى باستحسان

غالبية النقاد في آن واحد.

وفي مرة ثانية حدثنا عن نظرته للصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة أن حرب

تشرين / أوكتوبر كانت قد نشبت بعد حوالي الشهر من حضوره إلى

مدرستنا، وهي الحرب التي جعلت الابتسامة لاتغادر وجهه ووجوهنا لفترة طويلة

بعدها. كانت نظرته لهذا الصراع أنه صراع وجود وليس صراع

حدود، فكل من يطلع على بروتوكولات الصهيونية يعرف أنهم هدفهم البعيد ليس

السلام ولكن التوسع، وشعارهم المعلق على باب الكنيست (البرلمان

الإسرائيلي) القائل "حدودك ياإسرائيل من الفرات إلى النيل" لخير دليل على ذلك

كان يستغرب دائما التردد العربي في متابعة وتصعيد المعركة مع

إسرائيل، فهي ستسقط إذا سقطت تل أبيب، أما في حال سقوط عاصمة عربية خلال

المعركة، فهناك ورائها عمقا جغرافيا متمثلا بأكثر من عشرين

عاصمة ستعمل على متابعة المعركة بعدها لتحقيق النصر

طبعا لم يكن نعيم اليافي يدَّعي براءة اختراع هذه النظريات أو أسبقية وصوله لهذه

القناعات، فهي برأيه بديهيات لايختلف عليها عاقلان، ولكنه كان

وببساطة يؤكدها ويذكـِّر بها. فمن له رأي آخر بطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي

هو إما مستفيد أو جاهل أو في أفضل الأحوال عاجز عن المواجهة.

ومن له رأي آخر بمفهوم الإبداع هو من اختار الطريق السهل واكتفى بإشادة بعض

النقاد بأعماله وتجاهل ماعدا ذلك.

عدت والتقيت بالدكتور اليافي في شتاء عام 1994 عندما كنت في رحلة عمل إلى

دمشق وبيروت والقاهرة. وكان ذلك خلال عملي مع شركة عربية

أمريكية مركزها هيوستن وتسوق لأجهزة كومبيوتر متخصصة بالبصريات. التقيت

به صدفة في كلية الآداب في جامعة دمشق، بعد حوالي عشرين سنة

من آخر مرة رأيته فيها في ثانوية ابن خلدون. كان مختلفا عن نعيم اليافي الذي

عرفته من قبل، فقد كان سعيدا بعودته إلى التدريس في الجامعة، حيث

يرى مكانه الطبيعي. تحدثنا عن تلك الفترة التي انقطعنا بها، فحدثته عن ذهابي إلى

كلية الهندسة الميكانيكية بعد حصولي على الشهادة الثانوية وعن

تجربتي الوظيفية بعد التخرج وخاصة تلك التي عملت فيها مدرسا معيدا في نفس

الكلية.ثم عن تقديمي الحر لامتحان الثانوية الأدبية والانتساب بعدها إلى

كلية الأدب الانكليزي، واخيرا عن تجربتي في المهجر. وحدثني من جهته كيف

استطاع أن يعود إلى الحرم الجامعي بمساعدة الأصدقاء وكيف تمكن

من إقناع المسؤولين بحقيقة الأقوال التي نسبت إليه والتي فسرها البعض تفسيرا

بعيدا عن مقاصده لغاية في نفس يعقوب

في الحقيقة فلم أجد فيما حصل معه شيئا جديدا، بل تكرار لظاهرة إنسانية عمرها

من عمر الإنسانية نفسها. ظاهرة تكررت ملايين المرات، وستستمر

طالما هناك حياة على وجه الأرض، ألا وهي الحسد. فستبقى هناك دائما نفوس

انسانية مريضة لاتؤمن بالتنافس الشريف، ولاتحتمل وجود مبدعين من

حولها، بل تفضل الطريق السهل بالتخلص منهم. هذا الطريق أسهل بكثير على

الحساد من خوضهم منافسة الإبداع، ففي غياب الذهب، تعود للتنك قيمتة.

كانت هذه هي آخر مرة التقيت فيها الدكتور نعيم اليافي، فعدت بعد زمن وجيز من

نفس العام إلى هيوستن، وكنت قد تزوجت خلال فترة وجودي في

دمشق، عدت مع زوجتي للانغماس من جديد بالحياة السريعة هنا والتي لاتترك

للواحد الفرصة حتى لالتقاط أنفاسه. وتعرفت مؤخرا في المدينة على

مهندس وكاتب قصة قصيرة سوري فوجئت بمعرفته الشخصية للدكتور نعيم،

وفوجئت أكثر عندما علمت بخبر الوفاة بعد معاناة مع المرض.وقد أثر بي

الخبر إلى حد كبير فوجدت نفسي أندفع إلى مواقع الانترنت لمعرفة المزيد من

التفاصيل عنه وعن أعماله ورحلته في الحياة وأيضا عن ظروف وفاته

شعرت بتلقي خبر رحيله وكأني فقدت شيئا ثمينا أنستني هموم الحياة قيمته ومكانته

فأتى خبر الموت ليذكرني بهما. كان يمثل شجرة شامخة تتوسط

حديقة ذكرياتي ووساما من الدرجة الأولى يزين صدر مرحلة كاملة من مراحل

حياتي، ألا وهي مرحلة الدراسة الثانوية. ذهب الرجل ولكنه ستبقى

ذكراه شجرة شامخة عميقة الجذور ووساما مشعا يفتخر به كل من عرفه

رحمه الله ومنح أهله الصبر.

الكاتب: طريف يوسـف آغا

هيوستن / تكساس

ذي الحجة 1431 / تشرين الثاني 2010