حين تصبح (مؤخرة) المدير العام (أفهم) من المهندس

حين تصبح (مؤخرة) المدير العام (أفهم) من المهندس

من أرشيف مؤسسة عسكرية سورية

من الحياة اليومية لمواطن سوري

كما ذكرت في مقال سابق، فقد عملت لفترة قصيرة في مطلع الثمانينيات، وقبل هجرتي إلى أمريكا، في مؤسسة عسكرية كمهندس ميكانيك. وهي مؤسسة تنفذ مشاريعاً يغلب عليها الطابع المدني مثل بناء الضواحي السكنية والجسور والطرق والمعامل وغيرها، وكان عملي فيها بصفة مدنية وليس عسكرية، وأيضاً بصفة (خدمة الدولة) التي كانت مفروضة على كافة المهندسين بعد تخرجهم آنذاك. وقد بدأت أحداث هذه القصة (المضحكة المبكية) حين كلفت برئاسة دائرة في أحد أفرع المؤسسة حيث تتواجد رحبة الاصلاح المركزية. وكما تعودت في المقالات المشابهة، فلن أذكر أسماء أبطال القصة لأن هدفي هنا هو الموضوع وليس التشهير بأحد، ناهيك عن أن بعض هؤلاء ربما أصبحوا في ذمة الله.

منذ اليوم الأول الذي استلمت فيه الوظيفة، لاحظت وجود دزينة من (التركسات) الصغيرة والتي تبدو وكأنها ماتزال جديدة، مصفوفة كما يقولون مثل (سيخ المعلاق) من الجهة الداخلية لبوابة المعسكر. (التركس) بالمناسبة هو آلية هندسية يمكن أن يتفاوت عملها بحسب حجمها ومواصفاتها من خدمات بسيطة في الحدائق إلى أعمال شاقة وثقيلة في مواقع البناء والكسارات. وقد قدرت في البداية أن هذه الآليات موجودة في المعسكر لأعمال الاصلاح أو الصيانة، إلا أني لاحظت وبمرور الأيام أنها لاتتحرك من مكانها وكأنها منسقة. وبالرغم من عدم مسؤوليتي عن أي أعمال إصلاح أو صيانة هناك، إلا أني ومن باب المعرفة بالشئ سألت عنها بعض المهندسين الذين مضى على وجودهم في المعسكر فترة لابأس بها. فكانت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها لسؤالي، حيث نظر الجميع إلى بعضهم البعض وانفجروا بالضحك وكأني رويت لهم (نكتة الموسم)، ولما سألتهم عن (النكتة) خلف تلك الآليات، توقفوا عن الضحك وقالوا لي (خلي حدا غيرنا يحكيلك).

بطبيعة الحال، فقد زاد ذلك من اهتمامي بالأمر، وزادني تشويقاً لمعرفة قصة هذه (التركسات) من جهة والنكتة خلفها من جهة ثانية. ولم تمض أيام حتى التقيت بأحد أصدقائي المقربين ممن يعملون في المديرية العامة، ولما سألته عن الموضوع، انفجر هو الآخر بالضحك حتى كاد يهوي على الأرض. انتظرته حتى انتهى من نوبة الضحك ومسح الدموع التي سالت بسببها من عينيه، ثم عدل جلسته وبدأ بالقصة. قال لي أن المؤسسة ومنذ فترة ليست بالطويلة، أعلنت نيتها شراء (تركسات ثقيلة) من القطاع الخاص لاستعمالها في الكسارات لنقل الأحجار وتحريك الصخور وغير ذلك من المهام الشاقة. ولكن، وكما هي العادة في بقية مؤسسات وإدارات الدولة حين يتم الشراء من السوق المحلية، فسوف يتدخل الوسطاء ودافعي وقابضي الرشاوى في الموضوع، لينتهي الأمر بالجهة المعنية إلى شراء آليات بشروط فنية أدنى بكثير من تلك المطلوبة بالرغم من قبولها لعروض أسعار حسب الأصول. ولكن وحتى يعطى للأمر الصفة القانونية، يتم تكليف مهندسي المكتب الفني بوضع (دراسة) لتلك الآليات بعد شرائها، وليس قبل الشراء كما هو مفروض، ويتم تغيير تاريخها لاحقاً، ومن ثم يتم تكليفهم باستلامها حسب تلك (الدراسة الشكلية) ليصار إلى تسديد ثمنها للتاجر.

وفعلاً فكان هذا ماحصل فيما اشتهر في المؤسسة بصفقة (التركسات)، حيت تم شراء (تركسات) صغيرة لاتصلح إلا للمهام الخفيفة، وتم إرسالها إلى الكسارات وتم تكليف المهندس المسؤول عن المكتب الفني بوضع دراسته حولها. ولكن، وبطبيعة الحال، فسرعان مافشلت تلك الآليات في انجاز المطلوب منها، حيث أخذت تتعطل بعد دقائق من تحميلها أكثر من طاقتها، وكان كلما يتم إصلاحها وإعادتها إلى العمل، تتعطل من جديد. سبب هذا الأمر لغطاً في المؤسسة، واشتكى العاملين في الكسارات من عدم قدرة تلك الآليات على تنفيذ المهام المطلوبة منها، فانتهت في الرحبة المركزية،كما كان الوكيل الذي باعها قد بدأ بالضغط على المسؤولين الماليين لتحصيل ثمنها. وهنا وجد المهندس المسؤول في المكتب الفني نفسه في وضع لايحسد عليه، فإن هو تصرف بضمير ورفض تقديم (الدراسة) التي تجيز الاحتفاظ بتلك الآليات، فهذا سيثير عليه غضب من قبضوا عمولة الصفقة، وهم بالتأكيد أعلى منه في الرتبة الوظيفية وقد يسببون له أذى هو بغنى عنه. أما إذا قدم لهم (الدراسة) التي تناسبهم، فان ثمن تلك الآليات سيذهب هدراً وهي ستنتهي في زاوية من زوايا أحد الأفرع للغبار والصدأ، كون المؤسسة لاتقوم بمشاريع بحاجة لهكذا آليات كما ذكرت، وهذا ماقد يعرضه للمسؤولية والمسائلة في المستقبل، خاصة وأنه ليس من الطائفة (الكريمة).

بناء على ذلك، فقد قرر الرجل، اختيار حل ثالث، وهو تأجيل تقديم تلك (الدراسة) على أمل أن يتم نسيانها أو تكليف مهندس غيره بها. ولكن للأسف، فالأمور لاتسير بهذه الطريقة في مؤسسات الدولة الديكتاتورية، بل تسير على قانون الولاء المطلق والأعمى. فحين يضعون شخصاً في مركز إداري ويضعون تحت تصرفه سيارة وسكرتيرة وحاجب وسائق، ويصرفون له راتباً أميز من غيره، ويتوصون به بتعويضات المهام والسفر والاضافي والمكافآت وغير ذلك، ولايكون من الطائفة (الكريمة)، فهم لايفعلون ذلك كرمال (سواد عيونه) كما يقال، بل يتوقعون منه الولاء المطلق والتوقيع على بياض مقابل ذلك. وعليه أن يتوقع أن يطلب منه القيام بأعمال غير قانونية يستفيد منها غيره بصورة رئيسية، مقابل احتفاظه هو بوظيفته وامتيازاته. ولكن يبدو أن الرجل لم يقدر ذلك، وظن أن بمقدوره التملص من وضع تلك (الدراسة) بمجرد تسويفها. فكان كلما سأله عنها المدير خلال اجتماعاته الدورية مع المهندسين، يقول له (بعدها الدراسة ماخلصت، سيادة المدير).

ولكن يبدو أن التاجر كان قد بدأ صبره بالنفوذ، ويبدو أنه اتصل بالمدير العام وخاطبه بلهجة غاضبة وقال له بما معناه (إذا كنتم لن تدفعوا لي، فلماذا أخذتم الآليات ومعها العمولة؟). لاشك أن مكالمة من هذا النوع قد جرت وأوصلت المدير إياه إلى مرحلة من الغضب تفجر خلال اجتماعه الدوري التالي مع المهندسين، فحصل مالم يكن متوقعاً وما اعتبر سابقة في تاريخ اجتماعات المؤسسة. فقد بدأ الاجتماع كالعادة بكلمة للمدير حول الانجازات والعقبات الخاصة بالمشاريع، ثم انتقل لتوجيه الكلام والأسئلة لكل مدير أو مهندس على حدة فيما يخصه. ولما وصل الدور إلى صاحبنا (أبو الدراسة إياها)، ابتسم الأخير ابتسامة باهتة وكرر نفس جوابه المعتاد (بعدها الدراسة ماخلصت، سيادة المدير)، وطبعاً توقع أن ينتقل السؤال لغيره حسب المعتاد أيضاً. ولكن يبدو أن المدير العام كان ينتظر منه هذا الجواب هو الآخر، لأنه كان يبدو أنه قد حضر الرد عليه منذ أن تلقى المكالمة الافتراضية من التاجر. فبدلاً من يتركه وشأنه، وينتقل لغيره، عاد وقال له (شو القصة مهندس ... هنن شوية تركسات، بدهن كل هالشي؟). تفاجأ الرجل بهذا الرد الذي لم يتوقعه، وشعر بأن هذه المرة لن تكون كسابقاتها، فتلعثم وأجاب بصوت مرتجف (بتعرف سيادة المدير، هي دراسة فنية وبتاخد وقت) وهنا انفجر المدير العام غاضباً وقال له أمام حشد لايقل عن المئة مدير ومهندس ومهندسة، قال له (بتعرف مهندس ...، شايفلك طي ... بتعرف تدرس أكتر منك). وأحب أن أشير هنا إلى أني استعملت كلمة (مؤخرة) في عنوان المقال مراعاة للحياء، في حين أن المدير استعمل يومها الكلمة العامية الأصلية وبدون أي خجل أو حرج أو مراعاة لأحد.

حين وصل صديقي بقصته إلى هذه المرحلة، لم أعد أعرف، هل أضحك كما فعل الآخرون، أم أبكي. إذ تخيلت الوضع الذي وجد المهندس صاحب العلاقة نفسه فيه والاهانة التي لحقت به أمام هذا الحشد، وهو المتزوج ورب الأسرة، وهو من أمضى السنوات الطوال على مقاعد الدراسة ليحصل على شهادته. ولم أفهم كيف أن المدير العام نفسه، وهو الدكتور المهندس، كيف سمح لنفسه أن يصل إلى هذا المستوى الهابط ويخاطب أحد مهندسيه بهذه الطريقة. ولكن يبدو أن مايغلب على صاحب السلطة المطلقة في النهاية، ليس علمه ولاأخلاقه، ولكن سلطويته ونذالته. قدم المهندس استقالته في اليوم التالي واعتكف في بيته، فتدخل زملائه وأقنعوه بالعودة على أساس أن المدير يعتبر نفسه بمثابة (الشقيق الأكبر) للجميع، وهو يعنفهم أحياناً لأنه يخاف على مصلحتهم والمصلحة العامة، وأنه لم يقصد تلك الكلمة بمعناها الحرفي، كما أنها صدرت عنه في لحظة غضب والمسامح كريم، وإلى آخر هذه المبررات المضحكة حقاً. وبالنتيجة سحب المهندس استقالته وعاد إلى مكتبه وتم استلام (التركسات) أصولاً، ولكنها بقيت مصفوفة في الرحبة المركزية إلى حين باشرت عملي هناك بعد الحادثة بحوالي العام.

لم أستطع تجاهل تلك الآليات الشبه جديدة وأنا أراها هناك كل يوم صباح مساء، بالرغم من أني لم أكن المسؤول عنها. فقمت وبجهود شخصية بالتواصل مع أفرع المؤسسة في المحافظات فيما إذا كانت لديها مشاريع يمكن أن تحتاجها، ولكن بلا فائدة. وهنا فكرت بأن جهات حكومية اخرى مثل المحافظة أو البلدية لاشك بحاجة لها ، فاتصلت بأحد أصدقائي الذين يعملون في المحافظة وسألته عن الأمر، فقال لي بأنهم فعلاً بأمس الحاجة لمثلها، بل أنهم كانوا بوارد شراء كمية منها من القطاع الخاص. فما كان مني أن رتبت الأمر مع مديري المباشر، وأقنعته بأن المؤسسة إذا أصلحت تلك (التركسات) ثم باعتها للمحافظة فهذا أفضل من أن تبقى مرمية عندنا للغبار والصدأ، وأيضاً أفضل من أن تصرف المحافظة عملة أجنبية لاستيرادها عن طريق القطاع الخاص، وهكذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد باعتبار أن مؤسستنا والمحافظة هما جهتان من القطاع العام وبالتالي فكل شئ بقى في جيب الدولة.

وبالفعل فقد انتهت القصة بتلك النهاية السعيدة، ووجدت (التركسات) من يحتاجها، أما (مؤخرة) المدير العام فلم تكن نهايتها بتلك السعادة. فقد عين صاحبها فيما بعد في منصب (سلطوي) آخر أعلى من السابق، ولكنه انتهى بعدها في سجن (عدرا) بتهم مختلفة منها الفساد وسوء استخدام السلطة. فثبت أن (مؤخرته) تلك لم تكن بالذكاء الذي تبجح به أمام مهندسيه خلال الاجتماع إياه.

ملاحظة: لاأعتقد أن أحداً بحاجة لقدر كبير من الذكاء ليستنتج أن المدير العام نفسه لم يكن أيضاً من الطائفة (الكريمة)، وإلا لما انتهى في السجن.

***

(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الاثنين 2 ذو الحجة 1434، 7 تشرين الأول، أوكتوبر 2013

هيوستن / تكساس

http://sites.google.com/site/tarifspoetry