جورج واشنطن والديكتاتور الثوري العربي

جورج واشنطن والديكتاتور الثوري العربي

لمـاذا لا يلتقـيان؟

من ثورة العبيد ضد الامبرطورية الرومانية، ومرورا بالثورات الفرنسية والروسية والإيرانية والشرق أوربية، وانتهاء بالثورات التي تجتاح البلاد العربية هذه الأيام، سنجد عدة عوامل مشتركة تجمعها بالرغم من اختلاف هوياتها وهي (مطالبة الشعوب لحكامها بما تفتقده من حرية وكرامة وعدل ومساواة). ولكن ما يميز الديكتاتور العربي الذي يواجه غضب شعبه اليوم عن غيره من الحكام الطغاة أنه ينكر حقيقته كديكتاتور وينكر طبيعة نظامه القمعي والاستبدادي. وإذا اضطر للكلام، سيعتبر المذابح الجماعية بحق الشعب (أخطاء) واعتقال الناس بالآلاف والتنكيل بهم (تجاوزات) ونهب الوطن وإفقاره (هفوات). وقد سبق وتناولت هذه السلوكيات للديكتاتور في عديد من مقالاتي الماضية، وما أريد تناوله هنا هو عامل مشترك آخر يجمع بين حكامنا وهم يدافعون اليوم ليس فقط عن مستقبلهم ومستقبل أنظمتهم، بل أيضا عن حياتهم.

يمكن تلخيص هذا العامل المشترك (بتكرار الحكام تذكير الناس بأفضالهم). فلا يوجد واحد منهم لم يخرج باحدى تلك الخطابات المضحكة المبكية ليذكر الناس بأفضاله عليهم وعلى الوطن. فهذا يذكرهم بفضله باخراج قواعد المستعمر الأجنبي، وهذا يذكرهم بأنه من وحد شطري البلاد، هذا من يعيد إلى ذاكرتهم بأنه بطل الحرب والسلام وهذا من وقف ويقف وحيدا في خندق المقاومة والممانعة والنضال وذاك من حقق معجزة إقتصادية لبلده. من جهتي، فلن أدخل هنا معهم في تفاصيل هذه (الأفضال)، وإن كانت الحقيقة عادة تكمن في التفاصيل وليس العناوين والشعارات، وبالتالي (سأتظاهر) بأن كل هذه الادعاءات صحيحة ولا غبار عليها وتسجل لصالحهم في رصيدهم الوطني. ولكن ردي عليهم هنا سيكون بسؤال بسيط ومباشر: هل أن قيامكم بعمل أو أعمال لمصلحة الوطن يعطيكم الحق بالتصرف وكأنه صار من أملاككم الخاصة؟ فتنهبوه وتورثوه وتتوازعوه، وإذا احتج الشعب قتلتوه وسجنتوه ونكلتم به، مكررين على أسماعه صباح مساء قصص أفضالكم هذه! ولا يسعني في هذا السياق إلا أن أستحضر حادثة من التاريخ الأمريكي كان بطلها من يُسمى هنا وبحق (أبو الولايات المتحدة)، وهو الجنرال جورج واشنطن (1732-1799).

هب هذا الرجل مع بقية الشعب الأمريكي وتزعم ثورة الغضب على الوجود العسكري البريطاني في بلاده والذي تفاقم من جراء فرض ضرائب جديدة على الناس من قبل نواب برلمانيين لا يمثلوهم. واستمرت هذه الثورة، التي سميت أيضا بحرب الاستقلال، لمدة ست سنوات، ليأت أخيرا اليوم الحاسم فيها والذي رسم وجه أمريكا إلى يومنا هذا. وهو اليوم الذي وقف فيه جورج واشنطن أمام ممثلي الولايات ليعلن رسميا انتهاء الحرب بانتصار الثورة التي قادها وهزيمة بريطانيا وانسحاب جيوشها عائدة إلى أوربا. وقد توقع الجميع من نواب وعسكريين في ذلك اليوم من جورج واشنطن أن يُنصِّب نفسه ملكاً أو امبرطوراً مدى الحياة. وماكان في الواقع لأحد أن يعترض على ذلك لو حصل لأن الجميع كانوا متفقين على شجاعته وحكمته في إدارة تلك الحرب الثورية وبالتالي (فضله) بالنصر بها. ولكن الرجل، ووسط دهشة الجميع واستغرابهم، وبنظرته الوطنية الثاقبة ورؤيته البعيدة للمستقبل، رفض أن تتحول بلاده التي ولد فيها وأحبها، إلى واحة للظلم والفساد والإستعباد التي تفرزها عادة الأنظمة الديكتاتورية، ملكية كانت أو امبرطورية أو ثورية. ولاأشك بأنه عندما اتخذ ذلك القرار (التاريخي بحق) اتخذه وعينه على الممالك والدول الأوربية التي كانت تكاد لا ترتاح من الحروب الأهلية وفيما بينها. فحتى لو كانت لديه الثقة بوطنيته وعدله وغيرته على الوطن، فكيف كان سيضمن ذلك في أسرته والحاشية من حوله أو في الديكتاتور الذي سيأتي من بعده إذا هو وافق على تكريس هذا النظام من الحكم؟ نظام حكم الفرد الذي لا يزدهر إلا بتعطيل الحريات و تهميش القانون المدني. ومن أشهر الأمثلة الشعبية السياسية المتداولة في أمريكا بين عامة الناس هو مثل (السلطة المطلقة هي أقصر طريق إلى الفساد المطلق). ومن المقولات التي سبق وقرأتها في الماضي وتصب في نفس المعنى واحدة تقول (في انتصار الديكتاتور هزيمة للشعب والوطن)

وبالعودة إلى قصة جورج واشنطن حين عاد منتصرا، لا هو وقف على شرفة عالية ولبع (لوح) للناس بيديه، ولا طلب من حاشيته أن ينتعوه (يحملوه) على الأكتاف، ولا أمرهم أن يطلسموا (يغطوا) شوارع البلاد بصوره وتماثيله، ولا أن يهللوا (يهتفوا) له بشعارات الروح والدم صباح مساء. ولكن ما فعله بطل ثورة التحرير وبعد إبلاغه ممثلي الشعب رسمياً بانتهاء الحرب، قام بتسليم ثيابه العسكرية وسلاحه، لأنها من ممتلكات الدولة وليس من ممتلكاته، وأخبرهم (وهو المزارع ابن المزارع) بأنه سيعود إلى مزرعته في ماونت فيرنون في فيرجينيا ليستثمرها ويعيش هو وأسرته من محصولها، وهذا كان بالفعل ما قام به. وهو لم يوافق فيما بعد على الترشح للرئاسة إلا بعد أن تم إقرار القانوانين المنظمة للإنتخابات ولتداول الحكم وتحديد فترة الرئاسة بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط. وقد خدم فعلاً لفترتين متلاحقتين رفض بعدها رفضاً قاطعاً استثناءً مُنح له من الكونغرس ليحكم فترة ثالثة (اعترافاً بفضله) على البلاد، فعاد إلى مزرعته وتوفي فيها بعد سنتين.

وقد أتيت على ذكر تجربة جورج واشنطن مع الديمقراطية لأني عشت في هذا البلد ما يقرب 30 عاماً ولا أزال. ولولا ذلك الموقف الوطني والنبيل منه حينذاك، لتغير وجه أمريكا والعالم اليوم. ولربما كنا وجدنا هنا خمسين جمهورية مستقلة أو مملكة أو إمبرطورية أو إمارة منفصلة عن بعضها البعض، ليس فقط بحدود سياسية، ولكن أيضاً بأسوار وخنادق وأسلاك شائكة. لوجدنا خمسين دويلة متناحرة فيما بينها على الدوام من أجل السيطرة على الثروات، بدلا من الخمسين ولاية المتحدة في دولة عظمى ومرهوبة الجانب كما هي الحال الآن. فكم كان سيبدو مضحكا أن نسمع في الأخبار اليوم أن جيش مملكة لويزيانا قد قام بغزو جمهورية تكساس لنهب حقولها النفطية، أو جيش إمارة نيويورك زحف على سلطنة ميشغان لسرقة إنتاجها من السيارات، أو أن إنكلترا وفرنسا أرسلتا إسطولهما الحربي إلى سواحل جماهيرية فلوريدا لفرض حظر جوي عليها لأنها ترتكب مجازرَ بحق شعبها، إلى آخر هذه الأخبار المضحكة المبكية التي لا نسمع مثلها إلا في بلاد مثل بلادنا.

هذه النظرة الوطنية للمستقبل التي نظرها جورج واشنطن عندما رفض أن يكون حاكما إلى الأبد، فأنقذ بها بلاده وشعبه مما نعاني منه نحن اليوم، هي نفس النظرة التي منع الجشع حكامنا من الرؤية بها، فلم تتجاوز نظرتهم أبعد من أنفسهم وحاضرهم، أو في أحسن الأحوال السنوات القليلة القادمة، وذلك على مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان). وفعلا لم يخجلهم الطوفان، فغرقوا وأغرقوا البلاد في حمامات الدم بعد أن أغرقوها في الفقر والذل والخوف، وهنا تكمن الاجابة على السؤال الوارد في عنوان المقالة.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

جماد الأول 1432 / نيسان، إبريل 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry