فن التشليح في مطار دمشق الدولي

فن التشليح في مطار دمشق الدولي

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في بداية الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً من مبان وطرق ومجمعات وغيرها. خلال عملي في تلك المؤسسة تعرضت لمضايقات أمنية سبق وتحدثت عنها بالتفصيل في قصص سابقة من هذه السلسلة حيث قمت بتسويتها بمساعدة أحد أقاربنا الذي كان في منصب عال في الدولة وسافرت بعدها. ولكن ولما عدت إلى دمشق في نهاية عام 1993 بمهمة عمل لصالح شركة أمريكية مختصة بالمعدات الطبية، تم إستدعائي من جديد للتحقيق في فرعي مخابرات وأيضاً كان علي مواجهة دعوى قضائية مرفوعة ضدي في المحكمة العسكرية. ولكن وبمساعدة نفس القريب السابق ذكره، قمت بتسوية كل ذلك، حيث كانت الدعوى قد سقطت بالتقادم أما التحقيق الأمني فكان روتينياً لمن يسافر ويعود، والرسالة منه هي: لانريد أن نرى وجهك مرة ثانية.

جددت جواز سفري وقطعت أول بطاقة إلى مصر في حزيران 1994 ممثلاً للشركة المذكورة ومسوقاً لمنتجاتها من أدوات جراحية وأجهزة تشخيص في معرض يقام في القاهرة ويستمر ليومين. وصلت إلى مطار دمشق قبل يوم من بدء المعرض وقدمت جواز سفري والبطاقة وأنا سعيد أي سعادة، إلا أن الموظف نظر إلى شاشة الكومبيوتر ثم فاجأني بإعادة الجواز والبطاقة وأخبرني أني ممنوع من السفر لأسباب أمنية وعلي مراجعة المكتب المختص في المطار. قلت له مستغرباً أن هناك خطأً بالتأكيد لأني جددت جواز سفري منذ عدة أيام، ولو كان هناك أي مانع أمني لما كانوا جددوه. قال الرجل أن التحقق من ذلك ليس من إختصاصه وعاد وأحالني إلى المكتب الأمني وتبرع بارسال عنصر ليقودني إليه. أخذت الجواز والبطاقة وتبعت العنصر إلى المكتب المعني وعدت وكررت نفس الكلام مع العنصر

في المكتب الذي نظر بدوره إلى شاشة الكومبيوتر أمامه وأكد موضوع منع السفر، ثم قال: يا (إستاز) مافي شك في خطأ وإلا ماعطوك الجواز، بس يبدو أنو المطار ماتبلغ بالموافقة الأمنية بعد. ثم أضاف: أنا حابب أخدمك وما خليك تضيع الرحلة، عطيني مئة ليرة وسأذهب إلى مكتب (النقيب) وأحاول أن أقنعه (يمشيلك) ياها على مسؤوليتي. وهنا ارتحت قليلاً لأني فهمت أن الموضوع هو (مصاري) وليس (أمن) كما حاولوا أن يصوروه. المهم عاد الرجل بعد حوالي العشرين دقيقة، لم أتوقف خلالها عن النظر إلى الساعة ولاللحظة خوفاً من مغادرة الطائرة بدوني، وقال مبتسماً بأنه نجح في مساعيه وبات بامكاني المغادرة. صافحني الرجل بسعادة من عقد صفقة تجارية مربحة، وأكد لي قبل أن أتركه بأنه سيقوم شخصياً بازالة إسمي من لائحة المنع الأمني، ثم أعطاني إسمه وأوصاني أن أسأل عنه حين عودتي في حال وصادفتني أي مشكلة.

عدت بعد حوالي الاسبوع وأنا سعيد بنجاحي بمهمتي التي أوكلت إلي في معرض القاهرة، ولكن سعادتي هذه لم تطل لأني لم أكن أعرف ماينتظرني في مطار دمشق. فلم أغادر الطائرة، وأدخل إلى قسم الجمارك ثم الأمن، وكان الوقت ظهراً، حتى صعقني العنصر هناك حين قال لي بعد أن نظر إلى الكومبيوتر: كيف يا(إستاز) غادرت البلد وأنت ممنوع من السفر؟ تمالكت أعصابي وتذكرت ماقاله لي العنصر الذي أخذ المئة ليرة وأعطاني إسمه، فسألت عنه، فقال أن دوامه في المساء. احترت ماذا أقول، وخاصة أن أسرتي كانت بانتظاري في صالة القادمين، وإختفاء أي مسافر في مطار بلد كسورية ليس له إلا تفسير واحد وهو أنه اعتقل، فعدت وكررت على ذلك العنصر ماقلته لزميله قبل إسبوع من أن جواز السفر لايمكن أن يجدد لمن هو مطلوب أمنياً. وهنا وصلت دهشتي إلى ذروتها حين كرر الرجل نفس الاسطوانة التي سمعتها من زميله وكأنها (كليشة) متفق على ترديدها دون زيادة أو نقصان: أنا حابب أخدمك وما خليك تتأخر عن أهلك. أعطني مئة ليرة وسأذهب إلى دائرة الأمن في المطار وأحاول إقناع النقيب (يمشيلك) ياها على مسؤوليتي، وكان هذا فعلاً ماحصل.

قمت بعد ذلك بالذهاب إلى حلب وحضور معرض معدات طبية مشابه لذلك الذي حضرته في القاهرة، وحين حل شهر تموز من نفس العام، كنت قد أنهيت كافة الأعمال الموكلة إلي من قبل الشركة. كما كنت خلال السبعة أشهر التي أمضيتها في سورية قد تقدمت لخطبة فتاة كنت أعرفها من إيام الدراسة الجامعية وتزوجنا وبت جاهزاً للعودة معها إلى هيوستن. وصلنا إلى مطار دمشق ذلك اليوم وكان في وداعنا هذه المرة أهلي وأهل زوجتي، وجرت كل الأمور على مايرام إلى أن وصلنا إلى الكومبيوتر إياه، وصدق أو لاتصدق، كنت ماأزال ممنوعاً من السفر لأسباب أمنية، وكان ذلك بعد حوالي الشهر من رحلة القاهرة. لم أنتظر من العنصر، والذي كنت أراه للمرة الأولى، أن يكرر علي نفس (الكليشة) إياها، ولم أرو له ماجرى قبل وبعد عودتي من مصر، بل أخرجت المئة ليرة من جيبي ووضعتها في جواز السفر، وأكدت له أن الأمر لايتعدى الخطأ وطلبت منه أن يذهب إلى (النقيب) ويحاول إقناعه (يمشيها). لم ينطق الرجل بكلمة واحدة، بل بدا على وجهه التعجب، إذ أنه هو الذي كان عليه أن يقول هذا وليس أنا. وهنا جرت مفاجأة المفاجآت، حيث فتح الرجل الجواز ونظر إلى ورقة المئة ليرة وقال: عفواً (إستاز)، انت مسافر إلى أمريكا وليس مصر، يعني مئة ليرة لاتكفي لاقناع (النقيب)، ثم أعاد الجواز والمبلغ إلي بدون أي خجل. وبما أني لم أكن أتوقع هكذا مبلغ، فلم يكن معي عملة سورية غير المئة ليرة. أخذت الجواز وعدت إلى المكان حيث كان أهلي مازالوا ينتظرون، وأخذت ورقة من فئة الخمسمئة ليرة من أحد إخوتي وعدت بها إلى الرجل الذي أخذها وذهب إلى نقيبه. مضت العشرين دقيقة إياها والتي شعرت بأنها سنوات قبل أن يعود ويسلمني الجواز ويقول: كلو تمام (إستاز)، تسافر بالسلامة، وكانت هذه آخر مرة أعود فيها إلى (الوطن).

هذه هي سورية الأمس للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، في هذه (السورية) يعيش الناس تحت رحمة وجشع الأجهزة الأمنية التي تعيش بدورها على مص دماء الناس وإرهابهم ومشاركتهم بأرزاقهم في كل يوم وفي كل خطوة يخطونها.

***

يرجى المشاركة

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر سوري أمريكي

السبت 27 شباط، فيبروري 2021

هيوستن / تكساس