قصتي مع المخابرات السورية

قصتي مع المخابرات السورية

من الحياة اليومية لمواطن سوري

يسألني بعض معارفي عن سبب عدائي الشديد لنظام (الأسد الابن) وتأييدي للثورة السورية منذ اليوم الأول، وذلك بالرغم من مضي مايقرب من الثلاثين سنة على مغادرتي البلد وعدم تجربتي للحياة في ظل ذلك النظام. جوابي على ذلك هو أن نظام (الابن) هو كنظام (الأب)، وقد عشت في سورية تحت حكم الأخير لفترة كافية لأختبره وأعرفه على حقيقته. كما وكانت لي تجربتي الخاصة مع جهاز مخابراته ومع أفراد طائفته الذين يشكلون العمود الفقري للنظام، وبناء على هاتين التجربتين، فقد كنت من أول المؤيدين لثورة الحرية والكرامة والتي أراها شخصياً بأنها أتت انتقاماً من وحشية (الأب) قبل (الابن)، وخاصة في مجزرة (حماة) الشهيرة، وكذلك على تسلط الطائفة وممارساتها وإقصائها للأكثرية. وسأعرض عليكم في هذا المقال وباختصار قصتي مع المخابرات السورية، وسأتجنب ذكر الأسماء حتى لايبدو الموضوع تشهيراً بأحد أو دعاية لأحد.

بعد تخرجي من كلية الهندسة الميكانيكية الواقعة على طريق مطار دمشق الدولي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، عملت لفترة قصيرة في مؤسسة تنفيذ الانشاءات العسكرية (متاع) وبالتحديد في (معسكر شبعا) عند الجسر الرابع للمطار. وحتى يأخذ القارئ غير السوري فكرة عن تسلط الطائفة العلوية على كافة مفاصل الدولة وأخذها ماليس من حقها، فقد كان المدير العام من تلك الطائفة، وكذلك مديري المباشر في مديرية الاصلاح والنقل، وكذلك معظم المدراء ورؤساء الأفرع أو معاوينيهم ناهيك عن معظم السكيرتيرات. ولاداعي للذكر هنا أن كافة ضباط الأمن في المؤسسة وفروعها هم أيضاً من نفس اللون. وقد شغلت لفترة قصيرة منصب رئيس دائرة فيها حوالي عشرين موظفاً وموظفة نصفهم أيضاً من شريبة المتة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه المؤسسة تعتبر هندسية خدمية، فيمكننا بالتالي تخيل حجم تواجد الطائفة في الجيش والمخابرات. وهذا يعيدنا إلى المقال الذي نشرته مؤخراً بعنوان (كيف قام الأسد الأب بعملية علونة سورية؟) آخذاً لنفسه ومعطياً لطائفته ماليس من حقهما على حساب بقية أطياف الشعب السوري وخاصة الأكثرية السنية.

من جهتي فقد نشأت في أسرة تكره السياسة وتكره التعاطي بها ومعها، بل وتعتبرها مهنة قذرة وخاصة بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في انقلاب عام 1963 العسكري الذي يسمى بثورة الثامن من آذار. وقد كان والدي أطال الله في عمره، وبناء على طلب شخصي من صديقه آنذاك، المرحوم عدنان المالكي، قد تطوع في الجيش العربي السوري بعد الجلاء مباشرة في الدورة رقم 1، ويعتبر بذلك من مؤسسي هذا الجيش. شارك في حرب فلسطين ثم في عدة معارك مع إسرائيل خلال الخمسينيات ومطلع السيتينيات. فما كان من البعثيين بعد انقلابهم المذكور إلا أن أحالوه على التقاعد، وكان برتبة عميد، لأنه لم يكن منتسباً لحزبهم ولا لأي حزب متعاطف معه. بعد تسريحه، بقي والدي يفتخر بتلك الأسباب ويعير أصدقائه الذين تم إبقائهم في الخدمة لأنهم كانوا (حزبيين) بالسر، وهذا ماكان عيباً كبيراً في ذلك الوقت، ناهيك عن كونه ممنوعاً بالقانون.

من هذه المداخلة القصيرة حول أسرتي ونشأتي، فلم أنتسب في يوم لأي حزب أو منظمة أو اتحاد، لاسياسي ولا اجتماعي ولاديني ولاحتى رياضي، لا في سورية ولا هنا في أمريكا. ولكن كان ومايزال مبدئي في الحياة هو تقديس العمل والقيام به على الوجه الأمثل. وبالتالي فقد وضعت هذا المبدأ موضع التنفيذ منذ اليوم الأول لاستلامي الوظيفة، والتي كانت بالأصل بالنسبة للمهندسين في ذلك الوقت وظيفة إجبارية وليست اختيارية وتدعى بخدمة الدولة. وقد فعلت ذلك من منطلق أنه وبالرغم من كون تلك الوظيفة إجبارية، فليس هناك مايمنع من القيام بها على أحسن وجه، فسمعتي، وخاصة المهنية، كانت دائماً ومازالت في مقدمة أولوياتي، ولكن وللأسف فقد كان هذا ماسبب المشكلة التي أتت بعد ذلك سريعاً. قمت بوضع خطة للعمل ووضعتها حيز التنفيذ موجهاً الموظفين الذي يعملون تحت إشرافي بحيث يتم الاستفادة من وقتهم وجهودهم في تحقيق تلك الخطة، وليس في جلسات المتة والأحاديث الجانبية والزيارات بين المكاتب التي كانت مستشرية في بقية دوائر وفروع المؤسسة وغيرها من مرافق الدولة.

لم يمض وقت قصير حتى بدأت ألمس تململاً من بعض (الشباب) الذين لم يعتادوا اسلوب العمل المفيد والمنتج، أو لم يعتادوا العمل أصلاً، فالوظيفة الحكومية للبعض كانت ومازالت تعني باختصار شديد (فَيّة ومَتّة وشكل حسن) بالاضافة (لنقش) التقارير الأمنية بالآخرين. وقد لاحظت أن أحد (الشباب) إياهم ينطبق عليه أكثر من غيره المثل القائل (وجوده مثل قلته) بحيث كان جل مايقوم به أثناء الدوام هو ماسبق وذكرته. وبالرغم من أنه لم يكن يحمل الشهادة الاعدادية، فقد كان مستلماً لسيارة من المؤسسة وله مسدس على جنبه ويأتي دائماً إلى الوظيفة ببذلة خضراء بالرغم من أنه ليس عسكرياً. وقد بذلت عدة محاولات لجعله يتجاوب مع خطة العمل التي وضعتها ويقوم بدور مفيد فيها، كما فعلت مع بقية موظفي الدائرة، إلا أن جهودي ضاعت بلا فائدة ووصلت في النهاية لنتيجة (فالج لاتعالج). وربما كنت قد تركت الرجل لشأنه وتجاهلته لو أن الموضوع كان يتعلق به فقط، ولكن مكتبه في ساعات الدوام كان أشبه بما يسمى (مضافة خريفيش) التي تجمع شريبة المتة والجنس اللطيف. ولم تمنعني خلفية الرجل (الأمنية) من التقدم بطلب رسمي للمدير لاستبداله بشخص آخر أكثر فعالية، مفضلاً أن يكون مهندساً.

بالرغم من الفترة القصيرة التي كنت قد قضيتها في المؤسسة حينها، إلا أني كنت قد حزت على ثقة مديري المباشر، خاصة وأني نجحت بتنفيذ المهام الموكلة للدائرة، بل وحولتها من دائرة خدمية إلى دائرة انتاجية، مما دعا المدير إلى صرف مكافآت دورية لموظفيها. وبناء على ذلك، فلم يتأخر بالموافقة على طلبي هذا وفرز لي مهندساً من المديرية العامة ونقل (صاحب المضافة) إلى خارج دائرتي. ولكن وبالرغم من أن الرجل لم يفصل، بل تم نقله إلى مكتب آخر واحتفظ بسيارته وامتيازاته، إلا أنه غضب لما حصل وقام بتهديدي أمام شهود، منهم مديرنا، وتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور.

ولم تمض أيام على هذا الحادث، وخلال ليلة كنت مكلفاً فيها بمهام الضابط المناوب، حتى وجدت نفسي في مواجهة جديدة، ولكن هذه المرة مع ضابط أمن المعسكر، والذي صدف أنه كان صهر (صاحب المضافة). فقد أتى إلى المعسكر بسيارته بعد حلول الظلام وسمح لنفسه بالدخول دون إذني، بصفتي الضابط المناوب، حسب ماينص عليه القانون. وحين أراد المغادرة، كنت بانتظاره على البوابة الرئيسية ومعي القانون الداخلي للمؤسسة وفيه صلاحيات ومهام الضابط المناوب، وطلبت من الحرس عدم فتح البوابة إلا بأمري. ثم التفت إلى الرجل وسألته كيف دخل المعسكر ويريد المغادرة دون إعلامي حسب ماينص عليه القانون، إلا إذا كان يعتبر نفسه فوق القانون؟ تفاجأ صاحبنا بمواجهتي له بهذه الطريقة، ولم يعرف ماذا يجيب، فترجل من سيارته وبدأ (يقاقي) شارحاً لي مهامه وصلاحياته (الأمنية) معتمداً على جهلي بها، فقاطعته بتسليمه نسخة خطية رسمية عن القانون الذي يؤكد أن صلاحيات الضابط المناوب هي الأعلى ولاتعلو عليها سوى صلاحيات قائد المعسكر. فتلعثم من جديد وطلب مني السماح له بالمغادرة مع سيارته وبلهجة لاتخلو من التهديد. فكان جوابي بأني، ولاستهتاره بالقانون وهو من عليه مراعاته قبل غيره، قررت أن أصادر سيارته حتى انتهاء مناوبتي في الصباح حيث سأسلمها لقائد المعسكر ليقوم بتفتيشها على مسؤوليته، وبأني سأسمح له فقط بالمغادرة راجلاً بشرط تفتيشه أصولاً من قبل الحرس.

أصيب الرجل بصدمة لدى سماعه قراري، وكذلك الحرس الذين كان عليهم تفتيشه، فهم كانوا لايتجرؤون أصلاً على النظر إليه في الأحوال العادية، باعتبارهم ليسوا من (الطائفة الكريمة) مثله، كما أنه معروف بتقاريره الأمنية وأذيته للآخرين. من جهتي، وكما تعودت أن أحترم الغير ولاأتجاوزهم وأن أعط كل ذي حق حقه، فتعودت أيضاً أن لاأسمح لأحد بتجاوزي أو أن (يستوطي حيطي) كما يقال. ولذلك فلم أجد في خلفية الرجل الطائفية ولاوظيفته الأمنية ولاالمسدس الذي يحمله على جنبه مايمنعني من رد الصاع له صاعين على التجاوز الذي ارتكبه بحقي. وهنا بدأ الرجل بالتكلم بلهجة الرجاء واقترب مني وقال لي بأني أحرجته أمام مرؤوسيه وبأنه يوافق على تفتيشي لسيارته إذا سمحت له بالمغادرة بها، فأجبته بأن الطريقة الوحيدة التي ستجعلني أوافق على طلبه هو إحضاره لأمر خطي من قائد المعسكر بذلك، والذي بالمناسبة هو أيضاً من (الطائفة الكريمة). فسألني وكيف سيذهب إلى بيت قائد المعسكر في دمشق في هذه الساعة (بعد الواحدة صباحاً) وليس لديه وسيلة مواصلات، ووسائل النقل العامة تتوقف بعد منتصف الليل؟ وهنا استأذنني أحد الحرس لاعارته دراجته الهوائية (البسكليتة) إذا لم يكن لدي مانع، فوافقت وكان هذا ماحصل. عاد الرجل بعد حوالي الساعتين بالأمر الخطي الذي طلبته وكان يلهث من شدة التعب، ثم غادر المعسكر بسيارته بعد الساعة الثالة صباحاً بعد تفتيشها أصولاً باشرافي من قبل حرس المعسكر. لم تمض أيام على هذه الحادثة حتى استلمت رسالة مسجلة عن طريق ديوان المؤسسة تطالبني بمراجعة أحد أفرع المخابرات في ساحة الأمويين خلف مبنى الأركان العامة بتاريخ ووقت محددين ودون إبداء السبب.

صحيح أن الاستدعاء لمراجعة المخابرات بهذه الطريقة (الحضارية) أفضل من إرسال دورية أمنية لاحضار المطلوب موجوداً من البيت أو الوظيفة كما هي العادة في سورية، إلا أن هكذا استدعاء في كافة الأحوال ليس دعوة إلى فندق أو مطعم خمس نجوم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالمواطن الذي يستدعى للأمن في سورية مذنب حتى تثبت برائته، وليس العكس. ولكن، وكون (الله يبلي ويعين)، فقد شائت الظروف أن كان لنا صهر برتبة لواء في الجيش مايزال في الخدمة، والذي بالرغم من أنه لم يكن من الطائفة (الكريمة) إلا أنه كان بعثياً قديماً ولديه مجموعة معارف واسعة. وقد كان النظام يحافظ على أمثال هؤلاء الأشخاص ليتبجح بأنه ليس نظاماً علوياً، علماً بأن معاون قريبنا هذا والذي كان يلازمه كظله كان علوياً. كانت علاقتنا العائلية بالرجل وأسرته وثيقة، خاصة وأنه سبق وخدم حين كان برتبة نقيب في قطعة كانت بامرة والدي الذي كان برتبة عميد، وبالتالي كان يكنّ لوالدي احتراماً وتقديراً كبيرين. اتصلت به وزرته في مكتبه في الأركان حيث شرحت له الموضوع ووضعت رسالة الاستدعاء أمامه على المكتب. فما كان منه إلا أن طمأنني وأخبرني بأنه يعرف رئيس الفرع صاحب العلاقة شخصياً، ثم رفع سماعة الهاتف واتصل به وسأله على سبب الاستدعاء، مشيراً له بأني قريبه. فأتاه الجواب بأن هناك تقريراً مخابراتياً في حقي وأن تهمتي هي (سب الرئيس) علناً، وذلك في نفس الليلة إياها التي كنت خلالها ضابطاً مناوباً وطردت ضابط أمن المعسكر. من جهتي، فكنت في حينه قد أطلعت قريبنا اللواء بتفاصيل الحادثة ليكون في الصورة إذا مادعت الحاجة، وهاهي قد دعت.

وضع الرجل سماعة الهاتف وأكد لي بأنه واثق من أن هذه التهمة مفبركة وأنها على مايبدو انتقام لما حصل ليلة المناوبة، وأن كاتب التقرير هو على الأغلب ضابط الأمن نفسه. وقد علمت فيما بعد أن تهمة (سب الرئيس) كانت منتشرة كثيراً تلك الأيام، ويستعملها كتبة التقارير الأمنية كوسيلة للانتقام من خصوم تحكم بينهم خلافات شخصية أو وظيفية. وهم يلجأون لتهم من هذا النوع لتصفية حساباتهم معهم في حال عدم توفر تهم حقيقية لديهم ضدهم، ويعتمدون على علاقاتهم الأمنية لحرمان المتهم من أي فرصة للدفاع عن نفسه وتفنيد التهم الموجهة إليه. ولهذا فقد طمأنني اللواء وطلب مني مراجعة الفرع المذكور في التاريخ والوقت المحددين وأنه سيقوم بما يلزم لمساعدتي وإظهار الحقيقة.

لم تمض أيام قليلة حتى انتشر الخبر في المؤسسة انتشار النار في الهشيم، وأصبح حديث المجالس على كافة المتسويات. كان الشامتون يتباهون أن هذا ماينتظر من يتجرأ على الأسياد من (شريبة المتة)، أما المتعاطفين معي فكنت أرى عيونهم وكأنها تقول: (ياحرام، بعدو بعز شبابو). وقد قررت حينها أن أضفي على الموضوع صفة رسمية بأن أطلب الاجتماع بالمدير العام ومديري المباشر لوضعهما في الصورة وسماع ماعندهما ليقولان، دون أن أذكر لهما طبعاً اجتماعي مع قريبنا اللواء. وكما توقعت، فقد أبدى كل منهما أسفه وتعاطفه معي، ولكن أيضاً عجزه عن التدخل أو المساعدة، وذلك على مبدأ (مادخلنا)، وكما ذكرت سابقاً، فالاثنين كانا من الطائفة (الكريمة) أيضاً.

وأخيراً أتى يوم الاستدعاء وذهبت إلى الفرع المعني بالموضوع حيث استقبلني العميد رئيس الفرع والذي كان طوله أكثر من مترين ووزنه أكثر من مئتي كيلو غرام وكان في كامل لباسه العسكري ورتبه ونياشينه، وطبعاً لم يخيب ظني وكان من الجماعة. كانت أول عبارة بادرني بها (هنت المهندز يللي سبيت الرئيس؟) ولما لم أجبه، رسم على وجهه ابتسامة صفراء وطلب مني الجلوس على الكنبة أمام طاولة مكتبه مطمئناً لي بأنه توصل إلى الحقيقة. كان تدخل قريبنا اللواء قد دفع الرجل إلى أخذ الموضوع بصورة جدية، وقام بتحقيقاته ليجد أن التقرير كان كاذباً جملة وتفصيلاً. خاصة أنه لم يحظ بدعم أي من الشهود الذين سماهم ضابط الأمن وادعى أنهم سمعوني، وذلك بعد أن أعطى العميد هؤلاء الشهود الأمان وحذرهم من الكذب أو شهادة الزور ووعد بحمايتهم من كاتب التقرير.

طلب مني العميد يومها الانتظار في غرفة جانبية، ثم استدعى ضابط أمن المعسكر الذي كتب التقرير وواجهه بنتائج التحقيق وأقوال الشهود واتهمه بالكذب ونصحه بقول الحقيقة. فمالبث الرجل أن انهار وقال أن تقريره كان نتيجة لمعلومات زوده بها شخص آخر، وأنه بصراحة لم يسمعني أقوم بالسب. وما أن انتهى من عبارته هذه حتى بدأت أسمع أصوات صفعات وركلات العميد تنهال على الرجل بالجملة، وكذلك الشتائم من الوزن الثقيل، وعبارات التوسل وطلب الرحمة من صاحبنا، ليأمر العميد بعد ذلك حاجبه باخراجه والتحفظ عليه. دعاني بعد ذلك إلى غرفة مكتبه من جديد واعتذر لي عن كل ماحصل ووعدني بأن صاحب العلاقة سينال جزائه، ثم ودعني إلى الباب وصافحني وطلب مني أن أسلم على قريبي اللواء. وخلال لحظات مصافحتي له شعرت وكأن العالم قد توقف لبرهة، فنظرت في عينيه وسألته بيني وبين نفسي (هل كنت حقاً ستعاملني بهذه الطريقة الحضارية لولا قريبي؟ بل هل كنت حقاً ستستمع لقصتي وتستدعي الشهود وتسألهم، أم أني كنت سأختفي إلى الأبد في إحدى زنزاناتكم، مثلي مثل الآلاف المؤلفة من السوريين؟)

لابد من كلمة حق هنا، فقد كان هناك العديد من الشباب العلويين الموظفين في المعسكر الذين وقفوا إلى جانبي وأيدوني خلال هذه التجربة، واحتفلوا بي عندما انتهت بهذه النهاية. بل ومنهم من وصف ابن طائفته الذي كتب التقرير ومن دفعه لكتابته بأنهم حثالة العلويين ولايمثلون مجمل الطائفة. وهذا يؤكد بأن هناك دائماً (الصالح والطالح) في كل فئة وجماعة، ولكن ومع تقديري واحترامي الشديدين لهؤلاء، فقد وجدت بالتجربة أن (الطالح) في تلك الطائفة هو القاعدة وأن (الصالح) هو الاستثناء. ومما أدهشني أن أحد هؤلاء الذين وقفوا معي منهم أخبرني أن كاتب التقرير ومن كان ورائه لم يتوقعوا أن يأخذ التحقيق ذلك المنحى ولا أن يكون هناك استدعاء للشهود، بل توقعوا أن تتم إدانتي يوم المراجعة وأن يتم الاحتفاظ بي في سجن الفرع. كما أخبرني أنهم كانوا قد قاموا بترتيب ذلك مع مدير سجن تدمر العسكري، وهو ابن عم الرجل الذي نقلته من دائرتي، الذي كان بدوره صهر ضابط الأمن الذي طردته من المعسكر وحجزت سيارته. كانوا قد رتبوا أن يتم ترحيلي من سجن الفرع إلى سجن تدمر على وجه السرعة، وربما في نفس اليوم، حتى لايتمكن أحد من التدخل لصالحي أو تتبع أثري، وطبعاً لاداعي لذكر ماذا ينتظر نزلاء سجن تدمر، وهو الأسوأ صيتاً في سورية.

كنت قد ظننت أن القصة قد انتهت على ذلك، وكان كاتب التقرير قد تم إخلائه بعد فترة قصيرة، عن طريق (واسطة) بطبيعة الحال، ولكن تم فصله من المؤسسة بأمر من جهات (عليا) لم يعرف أحد مصدرها. إلا أنه لم يمض شهر على الحادثة إلا وتم تسليمي عبر الديوان وبنفس الطريقة السابقة رسالة استدعاء جديدة لفرع مخابرات آخر، وطبعاً دون إعلان للسبب. سارعت بالاتصال بقريبنا من جديد وقمت بزيارته في مكتبه وأريته الرسالة، فكرر مافعله في المرة السابقة حيث رفع السماعة واتصل برئيس الفرع صاحب العلاقة وسأله عن سبب الاستدعاء. ثم مالبث أن ابتسم وأنهى المكالمة وقال لي ضاحكاً: لاداعي للقلق إذ ليس هناك تهمة هذه المرة، بل يريدون التعرف عليك، ولاتنس المرور بمكتبي بعد المراجعة لوضعي بالصورة.

وفعلاً ما أن وصلت إلى الفرع في اليوم والساعة المحددين، وهو في نفس مبنى الفرع الأول في ساحة الأمويين، ولكن في غير طابق، حتى استقبلني رئيسه المقدم ورحب بي بحرارة قائلاً: أهلين بأخونا (المهندز). بتشرب شاي لما قهوي لما مَتّي؟ المشروب (هين) إجباري. بعد دعوتي للجلوس على إحدى الكنبات، وتصدره خلف طاولة مكتبه، دخل الرجل بالموضوع مباشرة وقال لي بأنه استدعاني إلى فرعه لأتوسط لاعادة كاتب التقرير إلى وظيفته التي فقدها بسبب الموضوع. وأكد لي بأنه لايؤيد كتابة التقارير الأمنية الكاذبة، وبالتالي لايؤيد ماقام به صاحب العلاقة، ولكنه في الوقت نفسه يرى أن فصله من الوظيفة يضر بأسرته، وخاصة أولاده الصغار، باعتباره معيلهم الوحيد. ولم ينس الرجل ذكر المثل القائل (قطع الأعناق ولاقطع الأزراق) وأضاف بأن (القتلة) التي نالها الرجل في الفرع يوم التحقيق كانت كافية لمعاقبته. نظرت إلى محدثي في عينيه وسألته في نفسي: (وماذا عن أسرتي التي كانت ستفقدني، ربما إلى الأبد، لو نجحت الخطة بإرسالي إلى سجن تدمر؟ أم أن العلويين هم نخب أول ونحن السنة نخب ثاني؟)

أما ردي (المسموع) على الرجل فكان بأني لست من أصدر قرار الفصل، بل المدير العام، وبالتالي فهو صاحب العلاقة وهو من كان يتوجب إحضاره إلى الفرع وتوجيه الطلب له. ضحك المقدم وقال لي مازحاً ومحاولاً التظاهر بالظرافة: نحن نعرف كما أنت تعرف أن قرار الفصل لم يأت من المدير العام، وإلا لكان الأمر سهلاً وماكنا استدعيناك إلى هنا، ولكن الأمر أتى من (فوق) في حين هو وقع عليه فقط. من جهتي، وحتى أنهي هذه المحادثة العقيمة، وأريح نفسي من الرائحة الكريهة للمكتب والتي كانت مزيجاً من رائحة السكر المحروق والمتة والتبغ والعرق والجرابات والأحذية، فقد وعدت الرجل بأني سأبذل جهدي، فرافقني إلى باب الفرع مودعاً. عدت إلى مكتب اللواء حسب اتفاقنا وأطلعته على تفاصيل المقابلة فضحك وقال لي: (مافشر يرجع على وظيفتو هالكذاب) ثم طلب مني أن لاأهتم للأمر وأتركه له.

حصل كل هذا قبل اسبوعين أو ثلاثة من سفري إلى أمريكا والذي كنت أفكر وأحلم به منذ أيام الدراسة الثانوية. وقد حصلت على إجازة بلا راتب من المؤسسة لمدة عام ثم أرسلت الاستقالة لاحقاً عندما قررت البقاء هناك. عدت إلى سورية بعد ذلك مرة واحدة في بداية عام 1994 كمهندس صيانة لصالح شركة أمريكية مختصة بتسويق تجهيزات وعدد طبية عينية متطورة في الشرق الأوسط، وكانت مهمتي تستدعي ذهابي أيضاً إلى لبنان ومصر. ولكن وماأن وصلت مطار دمشق حتى تم تسليمي وباليد بطاقة مراجعة لعدة أفرع أمنية هذه المرة، وليس فرعاً واحداً، وكذلك بطاقة لمراجعة المحكمة العسكرية! ولكن ولحسن الحظ، فقد كان قريبنا اللواء مايزال في الخدمة، وأعلمني بأن المخابرات تريد رؤيتي كاجراء (روتيني) لتوجيه بعض الأسئلة (الروتينية) عن إقامتي في أمريكا، أي ليس هناك تهمة وبالتالي فلاداعي للقلق. أما الاستدعاء إلى المحكمة العسكرية فقد كان لأن مؤسسة (متاع) ادعت بأنها لم تستلم استقالتي من الوظيفة في حينه، وبالتالي رفعت علي قضية جرم (ترك عمل).

هكذا هم السوريون من أبناء الأكثرية السنية، وخاصة من لايرضى أن يعيش في ظلهم عيشة العبيد، تجدهم ملاحقين ومضطهدين داخل وطنهم، ومحكومين ومطلوبين وهم خارجه. الرسالة التي يوجهها لهم هذا النظام الطائفي المافيوي هي: اتركوا لنا سورية ولاتعودوا لنصبح أكثرية فيها، وإن عدتم سنجعلكم تندمون على ذلك ونجعلكم لاتكرروها ثانية. لانريد أن نرى وجوهكم وإنما فقط دولاراتكم التي ترسلوها. كانت خطتي حينها أن أتنقل بين سورية ولبنان ومصر لحوالي الشهرين لأتمم المهمة، ولكن وبسب تلك المراجعات فقد بقيت أكثر من سبعة أشهر لعدم موافقة الجهات الأمنية على تجديد جواز سفري حتى استكمال هذه المراجعات.

في نهاية المقال، مازلت وأنا أستعيد ذكرى هذه التجربة، أحاول أن أتخيل الحقد بل والاجرام الذي يمكن أن يدفع فرداً أو جماعة لفبركة تهمة لارسال شخص إلى مكان قد يقتل فيه، لالشئ ولكن لخلاف شخصي أو وظيفي. وإذا كنت محظوظاً ووجدت من دعمني وأجبرهم على سماع قصتي واستدعاء الشهود، فكم عدد هؤلاء الذين كانوا أقل حظاً ولم يجدون من يستمع لقصتهم ويتحقق من تهمهم، فراحوا ضحية الحقد أو الاجرام أو حتى المزاجية. هذا هو النظام الأسدي من رأسه إلى أخمص قدميه، عصابة مافيا بكل مافي الكلمة من معنى، فهل هناك من مازال يستغرب سبب تأييدي للثورة؟

***

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الاثنين 22 شعبان 1434، 1 تموز 2013

هيوستن / تكساس

http://sites.google.com/site/tarifspoetry