بدنا تنجحلنا هالبنت

بدنا تنجحلنا هالبنت

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت لفترة وجيزة في مؤسسة انشائية عسكرية بصفة مهندس متدرب، ولكني عملت أيضاً كمعيد في الكلية المذكورة يومين في الاسبوع لمدة فصل واحد وذلك لمادة الرسم الصناعي. كنت على علاقة صداقة متينة مع مدرسها منذ السنة الأولى حيث كنت أعشق تلك المادة وأحصل دائماً علامات عالية بامتحاناتها. دار في يوم حديث بيني وبين الاستاذ المذكور، وكنت حينها قد تخرجت، فقلت له بأني أتمنى أن أخوض تجربة التدريس وخاصة بهذه المادة، فقال لي بأنهم في الكلية يعانون في الوقت الحاضر من نقص بمدرسيها الدائمين والمعيدين وأني إذا تقدمت بطلب، فسوف يدعمه ويرفعه للعمادة. وفعلاً وبعد أقل من شهر، ومع بداية الفصل الدراسي الأول في الخريف، كنت أقف في قاعة الرسم، ليس كطالب، وإنما كمدرس معيد.

مادة الرسم الصناعي تتضمن الرسم بثلاثة أبعاد وكذلك رسم المساقط وأيضاً المقاطع: الأمامي والجانبي والرأسي وأحياناً بزاوية للقطع الميكانيكية. كثير من الطلاب يجدون صعوبة في تخيل المساقط والمقاطع وفي الأبعاد الثلاثية وبالتالي تجدهم يرسبون بالمادة عدة مرات، والعديد منهم يغيرون الكلية بسببها وسبب غيرها من المواد التي لايتمكنوا من هضمها. كان تعداد الطلاب في قاعة الرسم حوالي العشرين، وكالعادة فكان هناك منهم من يستوعب ومنهم من يصفن وكأنه أمام أحجية. في يوم بعد حوالي الاسبوعين من بداية الفصل، كنت قد أنهيت محاضرتي وفي طريقي لمغادرة الكلية حين استوقفني أحد (الرفاق المناضلين) مصافحاً وقال: كيفك يااستاذ، بتسمح بكلمي؟ كان وجه الشاب ليس غريباً عني، وبعد محادثة قصيرة تذكرت أنه من الطلاب (المعتتين المخضرمين) إياهم الذين يدرسون ويناضلون في نفس الوقت، وبالتالي وبدلاً من التخرج بخمس سنين، يمضون أكثر من عشرة على مبدأ المثل الشعبي (يللي ببيت أهلو، على مهلو). تذكرت أيضاً أنه حين دخلت إلى الكلية كان هو في السنة الثانية أو الثالثة، ثم تخرجت وعدت للتدريس وهو مازال في السنة الخامسة حسب ماقال لي.

دخل الرفيق بعد ذلك بالموضوع وقال لي بأن طالبة (تخصه) في صفي تجد صعوبة في الفهم ويريدني أن (أعتني) بها. حين ذكر اسم الطالبة عرفتها على الفور، كون عدد الفتيات كان لايتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي كانت فتاة جميلة وملفتة للنظر بملابسها وعطورها، ولكن أيضاً بأن استيعابها للمادة كان على قول المثل الشعبي (متل المي بطلوع). لم أسأل الرفيق على علاقته بالفتاة، فقد كان واضحاً من فارق السن والصف أنه إنما يحاول التوسط لها ليكسب صحبتها، ولم أعرف حينها فيما إذا كانت هي على علم بما يقوم به أم لا. المهم قلت له أن بامكانها السؤال عن الأمور التي لاتستوعبها مرة ومرتين وثلاثة وأن لاتخجل من ذلك، فهذا من حقها على المدرس ومن واجب المدرس بدوره أن يتجاوب مع الطلاب دون شكوى أو ملل. لاحظت أن جوابي لم يعجب الرفيق كثيراً، إلا أنه صافحني شاكراً وانصرف. من جهتي، وخلال المحاضرات التي تلت ذلك الحديث، كنت أذهب إلى طاولة تلك الطالبة وأسألها فيما إذا كان لديها أي سؤال. قلت لها مرة أن فلان قد أوصى بها، فما كان منها إلا أن حَوَلَت عينيها ووضعت على وجهها تعبيراً يدل على القرف، وهذا أكد حدسي يوم استوقفني الرفيق ليوصي بها. لم تكن الفتاة تبخل بالأسئلة ولكني فهمت من أسئلتها أنها (في واد ومادة الرسم الصناعي في واد)، وأن عقلها قد يكون سريع الاستيعاب لغير مواد ولكن ليس لهذه، وبمعنى آخر (فالج لاتعالج) وأعتقد أنها هي أيضاً وصلت لنفس النتيجة أيضاً. بعد هذا قررت أن لاأضيع وقتاً معها أكثر مما فعلت، وأن أركز على غيرها من الطلاب الذين كنت أرى فيهم ضوء أمل. كانت نتيجة أول مذاكرة بعد حوالي الشهر كارثية للفتاة حيث لم تحصل على أكثر من عشرة من مئة، وتكرر ذلك في المذاكرات التي تلت.

كان صاحبنا الرفيق بشكل أو بآخر متابعاً لتلك النتائج وبالتالي غير ممنون منها. قبل حوالي الشهر من نهاية الفصل، عاد صاحبنا وانتظرني أمام قاعة الرسم حيث صافحني بعد انتهاء المحاضرة وقال لي بأنه يدعوني لشرب الشاي معه في غرفة الحزب. من جهتي، وخلال سنوات دراستي في الكلية، لم أدخل غرفة الحزب ولالمرة واحدة، وذلك من منطلق (ابعد عن الشر وغنيلو)، إلا أني وجدت نفسي يومها محرجاً ولم تسعفني البديهة باختلاق أي عذر لأننا كنا قريبين من الغرفة المذكورة. عادة ماتكون غرفة الحزب تعج بالرفاق و(العواينية)، إلا أني فوجئت بها فارغة وكأن الرفيق قد أوصى أن تحجز له وحده ليأخذ راحته بالحديث. اصطنع بصعوبة ابتسامة على وجهه، وقال لي: يبدو أن الاستاذ نسي وعده بأن يتوصى بالفتاة إياها؟ فقلت له على العكس فقد أعطيتها وقتاً أكثر من بقية زملائها لتسأل وتفهم وتستوعب، ولكن يبدو أن المادة صعبة عليها. فعاد وسألني: الامتحان النهائي قد اقترب، هل تعتقد بأنها ستنجح؟ فقلت له بصراحة لاأعتقد ذلك ويبدو أنها ستعيد المادة في الفصل الثاني. وهنا تردد قليلاً وكأنه يحاول اختيار الكلمات المناسبة ثم التفت خلفه ليتأكد أنه لايوجد أحد في الغرفة ثم اقترب مني وقال بصوت منخفض كمن يبوح بسر: وماذا تقول إذا أعلمتك بأننا في الحزب (بدنا منك تنجحلنا البنت)، فان فعلت فنحن أيضاً سنخدمك حين تحتاجنا. لم يفاجئني طلب الرفيق بقدر مافاجئني اسلوبه المباشر، فأنا كنت قد فهمت طلبه من أول مرة ولكني تظاهرت بالغباء لأحفظ ماء وجهه، لأكتشف يومها أن الرجل ليس له وجه بالأصل ليحفظ ماءه. من جهتي فلم أكن على استعداد لأشوه سمعتي وأعرض نفسي للكلام السئ، فحين يقوم الاستاذ بتنجيح فتاة لاتستحق النجاح فهناك واحد من تفسيرين لاثالت لهما: إما قبض وإما (قبض)، ولهذا لم أجد حرجاً من مصارحة الرفيق بهذا وبنفس الطريقة المباشرة التي عرض فيه طلبه. وهنا نظر إلي كمن تأكد بأنه إنما يضيع وقته بالحديث معي وسألني بعد أن رسم على وجهه ابتسامة صفراء: هل ستقوم بالتدريس أيضاً في الفصل الثاني أم ستكتفي بفصل واحد؟ لاشك أن الرفيق تقصد أن يكون وقحاً في سؤاله هذا ليبعث برسالة واضحة ليس فيها لبس وهي أنك (إذا لن تنجح الفتاة فلا تتوقع أن تستمر بالتدريس). لما وصل الحديث إلى هذا النقطة، كان كأس الشاي قد انتهى، فالتقت عيني بعيني الرفيق للحظات وقرأت فيهما ماكان يدور بذهنه عني حينها وهو (العمى شو انك حامل السلم بالعرض وماشي)، ولكن لا أعرف فيما إذا كان قد قرأ في عيني ماكان يدور في ذهني وهو (روح بلط البحر وأحمض ماعندك اطبخو).

ظننت أن الموضوع قد انتهى عند ذلك، ولكني اكتشفت في اليوم التالي أني كنت على خطأ، فقد اتصل بي صديقي استاذ المادة وطلب مني الحضور إلى بيته على الفور. كان الجو مكهرباً ولاحظت علامات التأثر على وجهه وهو المشهور بروح الفكاهة والمزح. بادرني فور وصولي بلهجة لايخفى فيها العتب: هل تعلم حضرتك ماذا فعلت؟ كنت أعرف تماماً ماذا يقصد، ولكن لم أكن أعلم ماذا نتج عن رفضي إنجاح الفتاة. فتابع قائلاً: لقد اتصل بي الرفيق فلان من الفرقة الحزبية وقال لي بأنك إذا لم تنجح الفتاة فهو لايريد رؤيتك في الكلية لاالفصل الثاني ولابعده، وأنهم سيحملوني شخصياً مسؤولية رسوبها كوني أنا من أحضرك للتدريس. كان الوضع واضحاً للغاية، فليس للرجل باب زرق سوى التدريس، واذا غضبوا عليه ولفقوا له تهمة، ربما انتهى يتسول في الشوارع، وهذا وارد في (سورية الأسد)، بينما بالنسبة لي، فالتدريس كان مجرد تجربة أو مغامرة ولم أكن بوارد أن أتخذه كمهنة، فحلم السفر كان من حينها هو الذي يوجه بوصلة مستقبلي. ولهذا كان موقفي صعباً للغاية، فمن جهة لم أكن أرغب أن يلحق بصديقي سوء بسببي، ولكني في نفس الوقت لم أتمكن من هضم وبالتالي تنفيذ ماطلبوه مني. طال الحديث ذلك المساء بيني وبين الاستاذ، وتحسن الجو قليلاً مع بعض النكات والأمزاح، ثم اتفقنا بأنني لن أعود للتدريس في الفصل الثاني وأنه، كأستاذ المادة، سينقل الفتاة إلى صف آخر بحيث لايكون مدرس ذلك الصف مثلي (حامل السلم بالعرض وماشي)، وهذا فعلاً ماحصل بعدها حيث حقق الرفيق رغبته بأن نجحت الفتاة وخسرت أنا الوظيفة. ولكن الأهم من كل هذا وذاك بالنسبة لي أن الاستاذ بقي محتفظاً بوظيفته التي (يأكل منها خبز) كما يقولون وبقينا أصدقاء إلى يوم سافرت إلى أمريكا، وكنت كلما مزحت معه بعد ذلك وذكرته بالقصة يقول (مو الحق عليك، الحق على يللي جابك لتشتغل معو)

هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، فهنا في سورية تصبح الرغبات الشخصية والمزاجية أوامر وتهديدات قد تفقد المرء وظيفته إذا لم تنته به في السجن، حتى لو ماكان له علاقة بالسياسة لامن قريب ولامن بعيد.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

السبت 2 كانون الأول/ ديسيمبر 2017

هيوستن / تكساس