الحرامي الفقير والحرامي الأمير

الحرامي الفقير والحرامي الأمير

من الحياة اليومية لمواطن سوري

بقلم طريف يوسف آغا

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان، وتتضمن بعض العبارات باللهجة العامية كما سمعتها.

كما ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني في رحبة الميكانيك لأحد الأفرع في ريف دمشق. كانت ساحة الفرع تعج بالنشاط والحركة مرتين في اليوم، الساعة السابعة صباحاً حيث تصل الميكرويات وسيارات الشحن المكتظة بالعمال والموظفين، وكذلك سيارات الرانج روفر أو المرسيدس التي يقودها رئيس الفرع والمدراء، وأخيراً البيكابات والجيبات والمازدايات التي يقودها المهندسون ورؤساء والورشات، ثم يتكرر نفس المشهد الساعة الخامسة مساءً أثناء الانصراف. في صباح يوم سبت ربيعي، وكان قد مضى على عملي أقل من شهرين، وبعد نزولي من سيارة الموظفين، لاحظت أحد المهندسين المدراء واقفاً في ساحة الفرع يراقب حركة دخول وخروج السيارات وتوجه العمال والموظفين إلى مكاتبهم وورشاتهم. كان الرجل في نهاية عقده الثالث، متطوعاً وبرتبة نقيب، وقد اعتاد أن يكون أول من يأتي إلى الفرع وآخر من يغادر. وكان دائماً يقف في نفس المكان في الساحة صباحاً ومساءً معطياً الانطباع بأنه من الأشخاص الذين يحملون الوظيفة محمل الجد من جهة وأنه يراقب الجميع من جهة ثانية.

بالرغم من الجدية التي كانت تميز شخصيته، إلا أني لاحظته ذلك الصباح (عابساً) لدرجة أني توقعت أن أمراً غير إعتيادي على وشك الحدوث. كانت علاقتي به كعلاقتي ببقية مهندسي الفرع وأيضاً الموظفين والعمال، قائمة على الاحترام المتبادل مع عدم رفع الكلفة، إلا إذا اكتشفت أن الشخص لايستحق الاحترام، فأقطع له (كرت) وأتجاهله قدر الامكان. كان الرجل ذلك الصباح وعلى غير العادة يرتدي البذلة العسكرية، وحين مررت بجانبه ألقيت عليه التحية وتابعت باتجاه الرحبة، إلا أني فوجئت به يهمس متمتماً دون أن ينظر إلى: تمهل قليلاً فأنا أريدك أن تكون شاهداً على ماسيحصل. وما أن انتهى من جملته هذه حتى نادى على أحد الحرس وطلب منه أن يستدعي أحد سائقي الميكرويات والذي كان قد وصل للتو إلى الفرع مقلاً مجموعة من العمال. توجه الحارس، والذي يحمل دائماً بندقية (كلاشينكوف) بالرغم من أنه ليس عسكرياً، توجه إلى السائق المعني وقال له أن النقيب (فلان)، والذي كان يقف على بعد حوالي الثلاثين متراً في نفس الساحة، يريد أن يتحدث إليه. كان السائق في الخمسينيات من عمره، تلوح عليه دائماً علامات الفقر والشقاء، ويرتدي ملابس مهلهلة تعطيك فكرة واضحة عن نوعية الحياة التي يعيشها. بالرغم من الفترة القصيرة التي كنت قد أمضيتها في الفرع، فقد تعرفت على معظم السائقين بسبب إحضارهم الدائم لسيارات المؤسسة (الخردة) إلى الرحبة للاصلاح أو الصيانة. وكان هذا السائق كبقية زملائه رجلاً بسيطاً، وكمعظم أهل الريف أباً لحوالي الدزينة من الأبناء بعضهم مازالوا أطفالاً، وكان يعمل بعد الدوام بائعاً للخضار والفواكه على عربة في سوق البلدة الليلي ليتمكن من إطعام كل هذه الأفواه.

حين وصل السائق إلى حيث يقف النقيب، وكنت أقف على بعد خطوات منهما، كانت الساحة مازالت تعج بعشرات الموظفين والموظفات والعمال بطريقهم إلى مراكزهم. وهنا بادر النقيب السائق قائلاً بصوت مرتفع وبقصد أن يسمعه كل من كان في الساحة: أين كنت يوم أمس الجمعة؟ فوجئ السائق بالسؤال ولم يفهم ماذا كان القصد منه، إذ ماذا يهم مدير ومهندس أن يعرف أين أمضى سائق (طفران) يوم العطلة الاسبوعية؟ ولم يمهل النقيب السائق ليجيب على السؤال، بل تبرع بالاجابة سريعاً وقال له: في الزبداني أليس كذلك؟ فأجاب السائق ببساطة وحسن نية: والله يااستاذ أخذنا العيلة والأولاد مشان يتفرجوا على الربيع وينبسطوا شوي. وهنا (استأسد) النقيب فجأة ورفع يده ليصفع السائق بكل ماأوتي من قوة، ثم بدأ يركله بقدمه حتى رماه أرضاً وعفر وجهه وملابسه بالتراب. فوجئ السائق، كما فوجئ كل من كان يقف في الساحة، وأنا منهم، بهذا التصرف الغير مبرر، ثم تهالك السائق وعاد ووقف على قدميه ساتراً وجهه بيديه وبدأ يسترحم النقيب ويتوسل إليه قائلاً: (مشان الله يااستاذ، بس خبرني شو غلطت معك؟) فأجابه الأخير وبنفس الصوت المرتفع: (الله ياخدك لعندو ياحرامي ياحقير ياواطي، عامل حالك مو عرفان شو مساوي؟ آخد ميكرو الفرع عامل فيه سيران وعم تصرف مازوت على حساب الدولة؟ ماعاد بدي شوف وشك بالفرع ياكلب، روح سلم الميكرو وانقلع على بيتك).

ويبدو أن النقيب كان قد أخذه الحال ولم يشبع من لعب دور (البطل) أمام جمهور الساحة على السائق المسكين الذي لاحول له ولاقوة، فأراد أن يتابع (لبطه) بحوافره، إلا أن بعض المدراء والمهندسين الذين كانوا متواجدين أسرعوا لتهدئته وتطييب خاطره والتوسل إليه أن (يزرعها بذقنهم) هذه المرة، وكأنه هو المعتدى عليه والسائق هو المعتدي وليس العكس، ثم قادوه إلى مكتب أحدهم ليشرب الشاي ويروق مزاجه. أما السائق المسكين فقد رافقه بعض زملائه إلى مكتب ضابط الآليات ليسلم الميكرو كما طلب منه. لم تمض ساعة على هذه الدراما، حتى اتصل بي النقيب على مكتبي في الرحبة وقال لي: (شو رأيك استاذ بيللي ساويتو بهالكلب، مع أني كنت بدي إكسرلو إيديه لهل الحرامي الحقير وأجعله عبرة لغيره). كانت علاقتي بالرجل ووظيفتي تسمحان لي أن أكون صريحاً معه، فقلت له: ألا تعتقد أن مافعله السائق، وإن كان مخالفاً لنظام المؤسسة، لايستحق كل هذا من جهتك؟ أنا وأنت نعرف أن هناك سرقات بالملايين في مؤسسات وشركات القطاع العام وسفرات عمل (خلبية) إلى أوربا وأمريكا يقوم بها مدراء من الوزن الثقيل يعيشون حياة الأمراء من وراء وظائفهم ولاأحد يسألهم ويحاسبهم، فهل كانت المؤسسة ستفلس بسبب مشوار قام به سائق فقير مع أسرته إلى الزبداني؟ طبعاً لم يعجبه جوابي فغير الحديث وأنهى المكالمة سريعاً، علماً بأنه هو بالذات لم يكن (شريف مكة)، وللأمانة أيضاً، فلم يكن من (الطائفة الكريمة) بل من الأغلبية. كان الرجل يمتلك على عدة عقارات وبيته يحوي على أثمن المفروشات والتحف الأجنبية كما ويرتاد أغلى المطاعم، وكل هذا، على أساس، من راتبه الذي يفترض أن لايتجاوز الثلاثة آلاف ليرة في بداية الثمانينيات.

هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا). ففي (سورية الأسد) يعمل القانون لحماية (الحرامي الأمير)، في حين يطبق بحذافيره وبأشد العقوبات على (الحرامي الفقير)، وهذه القصة هي غيض من فيض، فيتم إهانة الناس أو طردهم من العمل بسبب الأمراض النفسية والأخلاقية ومركبات النقص وانعدام الضمير التي يعاني منها غالبية المسؤولين الذين هم وليس غيرهم الحرامية.

***

يسمح بنشرها دون إذن مسبق

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

الأحد 25 آذار، مارش 2018

هيوستن / تكساس