الديكتاتور الذي لايصدق حتى يرى

الديكتاتور الذي (لايصدق حتى يَرى)

ونهايته المحزنة

يحفل التاريخ المعاصر بالكثير من قصص الديكتاتور الثوري الذي استولى على الحكم في بلاده تحت شعارات مختلفة، ثم عمل تنكيلاً بشعبه وارتكب فظائعاً باسم هذه الشعارات يندى لها الجبين وتصل إلى مرتبة جرائم ضد الانسانية. فاتفق المجتمع الدولي على إدانته، بل وأبدى اشمئزازه من تلك الفظائع التي تتراوح بين الاعتقال والتعذيب من جهة، وبين الابادة الجماعية والتمثيل بالجثث من جهة ثانية. آخذين بعين الاعتبار هنا أن المجتمع الدولي نفسه قد يكون من أشد المؤيدين لهذه الأنظمة، سراً أو علناً، ومن المريدين لبقائها. ولكن وحشيتها وعدم انسانيتها تحرج حتى أصدقائها ومؤيديها وتجبرهم على التخلي عنها واستنكار همجيتها وساديتها.

وعادة ما يبدأ المجتمع الدولي بمخاطبة تلك الأنظمة عبر الأقنية الديبلوماسية والاعلامية ويقول لها أن ممارسات بهذه الوحشية إنما تنتمي إلى العصور الوسطى وليس إلى الحاضر، وغير مقبولة في زمننا بأي حال ومهما كانت الشعارات والحجج. وبالتالي فعلى الديكتاتور الذي يحكم ويتصرف باعتباره (إلهاً) أن يتوقف عن ذلك ويتعامل مع شعبه بطريقة إنسانية. ولكن وفي هذه المرحلة، فغالباً ما يستهزئ الديكتاتور بهذه الخطابات والرسائل الدولية ولا يصدق أنها تعني ما تقول. فيمعن بتنكيله بالشعب مستعملاً حججاً وتبريرات أشهرها نظرية المؤامرة و العصابات المسلحة.

تحت إمعان الديكتاتور الثوري في اجرامه وهمجيته وتجاهله للمجتمع الدولي، يطور الأخير رسائله إلى لهجة التهديد الغير مباشر ثم المباشر، أملاً أن يفهم صاحبنا بالكلام ويحسن من سلوكه اتجاه شعبه وتعود الأمور إلى طبيعتها. وكما سبق وذكرت، فالكثير من دول العالم لها مصالح بأن تستمر تلك الأنظمة الاستبدادية على حالها مع بعض الاصلاحات وعمليلت التجميل. ولكن غالباً مايسخر الديكتاتور الثوري من لهجة التهديد تلك ويعتبرها ضعفاً أو قلة حيلة أو مجرد (رفع عتب) من جهة المجتمع الدولي، وبالتالي يستمر بعدم تصديقها أو أخذها على محمل الجد. ويرد عليها بأنه رئيس دولة ذات سيادة وعليه أن يحفظ أمن الوطن والمواطن بالطريقة التي يراها مناسبة، كما أنه لايتلقى أوامره من الخارج. وبعد ذلك الرد، وحتى يثبت مقولته، نراه يمعن بل ويزيد من قمعه وإجرامه بحق الشعب الأعزل الذي ينادي بالحرية والكرامة.

يبدأ المجتمع الدولي هنا بالشعور بالاهانة وأن إرادته تضرب بعرض الحائط، فيطور موقفه باستصدار قرار من مجلس الأمن، أو على الأقل بالحصول على موافقة دولية (رسمية أو ضمنية) تبيح استعمال القوة ضد هذا النظام الذي ليس وحشياً فقط ولكنه وقح ايضاً. وهنا، وبدلاً من أن يقرأ الديكتاتور هذه الرسالة الدولية الواضحة التي لاتحتمل التأويل ولا الالتباس، فيتوقف عن ممارساته الاجرامية بحق الشعب، ويبدأ بالبحث عن جهة يرحل إليها، تبقى ثوريته وغبائه وغروره تقول له أن يستمر بل ويصعد مما يقوم به. فهو لايزال غير مصدق أن أصدقائه سيتخلون عنه وسيسمحون لأي جهة أن تقصفه، فيستمر بارتكاب المجازر وحفر المزيد من المقابر الجماعية، ونرى دباباته تستمر بالتنقل بين المدن والقرى، زارعة الموت بين المعارضين لحكمه.

وأخيراً، وبعد هذا المسلسل من عدم تصديق الديكتاتور الثوري لجدية المجتمع الدولي، وفي استمراره بارتكاب الفظاعات البشعة بحق المدنيين من أفراد شعبه، يصحو في صباح أحد الأيام ليرى الطائرات تحلق في سمائه وتقصفه من كل الجهات. حينها فقط، حين يرى الديكتاتور بعينه الصواريخ وهي تنهال عليه وتطارده من مكان إلى آخر، حينها فقط سيصدق أن ماكان يُوجه إليه من رسائل وإشارات كانت جدية وليست من باب المزاودة أو تسجيل المواقف أو (تبرئة الذمة).

فهذا هو نظام الخمير الحمر وزعيمه بول بوت الذي حكم كمبوديا في سبعينيات القرن الماضي وارتكب فظائعاً لا يتخيلها العقل واغتال مليونين من شعبه خلال فترة لا تتجاوز الأربع سنوات، لينتهي بعد ذلك على يد جاره الفيتنامي وبتأييد ومباركة من المعسكر الشرقي وشريحة كبيرة من المجتمع الدولي. وهاهو نظام ميلوسوفيتش الصربي الطائفي في يوغسلافيا السابقة خلال العقد الأخير من القرن الماضي والذي ارتكب مع مجموعة من معاونيه السياسيين والعسكريين مجازر تطهير عرقي بحق مدنيين من الأقلية المسلمة. وهو النظام التي وصل تعداد ضحاياه إلى عشرات الآلاف خلال سنوات قليلة معيداً إلى الأذهان مجازر النازية خلال الحرب العالمية الثانية، لينتهي أخيراً تحت ضربات حلف الناتو. وهذا هو نظام القذافي في ليبيا الذي أطلق جيشه ومرتزقته بكامل عدتهم وعتادهم لقمع المطالب السلمية والمشروعة لشعبه بالحرية والكرامة، قاتلين في طريقهم عشرات الآلاف من المواطنين. فدفع بجنونه الشعب للثورة المسلحة ضده ودفع المجتمع الدولي للمساعدة بتأمين الغطاء الجوي للثوار، وهاهو وقد سقط يوم أمس الأحد كما سقط أمثاله من قبله.

كل هذه الأمثلة وقعت دون أن يصدق الديكتاتور المعني وللحظة واحدة أن استعماله للقوة المفرطة ضد شعبه سيدفع المجتمع الدولي للرد عليه بقوة مفرطة تكون بمثابة الاختبار الحقيقي لقوة جيشه وبلطجيته وأجهزته الأمنية في مواجهة جيوش حقيقية، وليس مظاهرات مدنية سلمية. كل هذا يذكرني بمثل شائع الاستعمال في دمشق، سأمتنع عن ذكر الكلمة الأولى منه حفاظاً على الحياء العام، وأعتذر لذلك لمن لا يعرف هذا المثل، فهو بالتأكيد قادر على استنتاج معناه العام. وهو يقول: (؟ لايصدق ليَرى).

ويبدو لي أن آخر من سينضم إلى عضوية نادي هذا المثل الشعبي، وخلال أيام قليلة، هو آخر نظام يدعي الثورية والمقاومة والممانعة في منطقتنا العربية.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

الاثنين 22 رمضان 1432 / 22 آب، أوغست 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry