تهمة الخيانة وحكاية الدبانة

تهمة الخيانة وحكاية الدبانة

أين يتقاطعان وأين يلتقيان؟

تنتشر في بلادنا العربية هذه الأيام موضة جديدة وهي توجيه تهمة الخيانة للجميع عطال على بطال كما يُقال، بغض النظر عن السن أو المهنة أو إذا كان المتهم ذكراً أو انثى. في حين أن المواطن العربي كان وحتى الماضي القريب مواطناً مداناً حتى تثبت برائته، إلا أنه اليوم وبعد نشوب الثورات التحررية، فقد ترقى وأصبح مواطناً خائناً حتى يثبت ولائه للنظام الحاكم.

فإن تظاهر المواطن ضد النظام فهو خائن بالجرم المشهود، وإن لم يتظاهر فهو خائن أيضاً لأنه ربما يتآمر في السر. وإن تكلم مع وكالات الأنباء غير المحلية فهو خائن ببرهان الصوت والصورة، وإن لم يتكلم مع أحد فهو خائن أيضاً لأنه ربما يتواصل عن طريق الفيسبوك أو تويتر. وإن سار خلف جنازة رجل عصابات قتلته الأجهزة الأمنية فهو خائن لأنه بالتأكيد واحد منهم، وإن بقي واقفاً في مكانه دون أن يسير خلفها، فهو أيضاً خائن لأنه ربما ينتظر جنازة عصابة ثانية ليندس معها. وهكذا أصبحت الخيانة هي التهمة الأكثر إستعمالاً من قبل الأنظمة الحاكمة والأكثر شعبية بينها. فهي لاتحتاج لبراهين قوية، ويكفي توجيهها لأي شخص لتبرير سجنه على ذمة التحقيق لفترة غير محددة قد تمتد إلى ما لانهاية، كما أنها قابلة للإستعمال تحت قانون الطوارئ أو قانون مكافحة الإرهاب أو أي قانون ديكتاتوري آخر. وأشير في هذا السياق، ولكون الديكتاتور مصيبة على البشرية، إلى أن أي اتهام يصدر منه أو من نظامه لأي جهة هي في الحقيقة شهادة حسن سلوك لتلك الجهة وبالتالي ليست بحاجة لأن تدافع عن نفسها اتجاهها. وقد عبر الشاعر العربي المعروف أبو الطيب المتنبي (915-965)م عن ذلك قبل أكثر من ألف سنة حين قال:

إذا أتتكَ مَذمتي من ناقصٍ فهي الشهادَةُ لي بأني كامِلُ

ولكن ماهو الهدف من هذه التهمة التي باتت أشبه بالنكتة بسبب كثرة إستعمالها لحد الإستهلاك؟ في الواقع فالهدف الحقيقي منها هو شغل المواطن وإدخاله في متاهة لا آخر لها، وبالتالي جعله ينسى لماذا تم حجزه أصلاً، فيصبح هدفه الوحيد هو الخروج منها والإفراج عنه فحسب، واستعداده مقابل ذلك للتوقيع على أي اعتراف أو تعهد أو تأييد يُطلب منه. وفي الحقيقة فإن تهمة الخيانة هذه تذكرني بحكاية الدبانة التي كانت جدتي تقنعنا بالجلوس والإستماع لها حين كنا نقوم بأعمال (العفرتة) ونحن صغار، فتنجح بواسطتها بإبقائنا هادئين. والدبانة في اللهجة الدمشقية هي حشرة الذبابة الطائرة، وحكايتها ليست حكاية بالمعنى المتعارف عليه، بل أشبه ما تكون بسجال كلامي بين الراوي والمستمع يهدف الأول منها إلى إبقاء الثاني هادئاً بشغله وإضحاكه. أما سبب استعمالها في بعض الأحيان فهو ربما إفلاس الراوي في ذلك اليوم من أي قصة لها مغزى، وبالتالي لايجد أفضل من قصة سهلة وبلا نهاية، تشبه المتاهة وليست بحاجة لحبكة أو ذاكرة أو إتقان. وهي كما قلت مجرد أخذ ورد بين الطرفين تبدأ بسؤال من الراوي للمستمع: هل أحكي لك حكاية الدبانة؟ ومهما كان جواب المستمع، سيجيبه الراوي: إن قلت (كذا) أو ماقلت (كذا)، هل أحكي لك حكاية الدبانة؟ وقد تستمر القصة على هذه الحال لعدة ساعات أو عبر بقية اليوم أو حتى عبر مرحلة الطفولة.

وبالرغم من الفرق الشاسع بين النظام الديكتاتوري وجدتي، ومن أن الشعب ليس طفلاً يُضحك عليه، إلا أن هناك ما يجمع بين تهمة الخيانة وحكاية الدبانة. فهما تتقاطعان في كونهما (تركيبة)، أي عدم احتوائهما على أي معنى، كما وتلتقيان على هدف واحد، وهو إضاعة الوقت وتبديد الجهد وصرف الانتباه عن الهدف الأصلي لصاحب العلاقة، وبالتالي إدخاله في متاهة ليس لها آخر تجعله ينسى ما كان يريد أن يفعله، وجعله يفعل مايريده الطرف الآخر. الفرق الجوهري بين الاثنتين أن واحدة منهما تهدف إلى التهدئة عن طريق الإضحاك أما الثانية فتهدف إلى التهدئة عن طريق القتل.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

الثلاثاء 5 رجب 1432 / 7 حزيران 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry