الأب والإبن: أيهما أفضل وأيهما أسوأ؟

الأب والإبن

أيهما أفضل وأيهما أسوأ؟

هذه أول مرة أكتب فيها عن بعض ملاحظاتي الشخصية وتجربتي مع النظام السوري قبل هجرتي من الوطن منذ أكثر من ربع قرن. كنت قد اتخذت قراراً بالهجرة إلى دولة غربية منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، حيث كنت لاأزال حينها طالباً في المرحلة الثانوية، مدفوعاً لذلك بروح المغامرة التي هي جزء من طبيعتي من جهة، ومعجباً بالمجتمعات الغربية وما وصلت إليه من تقدم علمي وعمراني من جهة ثانية. وكانت خطتي آنذاك أن أحصل على شهادة جامعية وأنهي خدمتي العسكرية الالزامية أولاً ثم أسافر، ولم أعرف حينها هل كانت هذه الأفكار هي خطة فعلاً أم مجرد أحلام شباب؟

ولكن وما أن وصلت إلى المرحلة الجامعية، حتى وجدت دافعاً أكثر أهمية من سابقيه جعلني أعتبر أمر الهجرة موضوعاً جدياً وعلي نقله وفوراً من خانة الأحلام إلى مجال التخطيط الفعلي. فقد بدأت عورات النظام الحاكم في سورية تتوضح أمامي أكثر وأكثر كل يوم، وبدأت أستوعب وبفزع شديد أن من يحكم البلد ليس نظاماً أو حزباً سياسياً كما هو الظاهر، وإنما عصابة من اللصوص المستعدين لأن يفعلوا أي شئ في سبيل احتفاظهم بالكرسي وبالتالي بالغنيمة التي اسمها سورية. وفي هذه الفترة بالذات، وهي فترة مابعد احتلال الجيش السوري للبنان بمباركة إسرائيلية وتحت تحت ذريعة (الحرب الأهلية) وباسم (قوات الردع العربية) ، بدأنا نرى زيادة ملحوظة لدوريات عناصر المخابرات المدججين بالسلاح بملابسهم المدنية التي لايخطئها أحد في الشوارع والساحات. وكذلك لعناصر سرايا الدفاع والوحدات الخاصة المدججين أيضاً بالسلاح ولكن بملابسهم المموهة وكأنهم في طريقهم لتحرير الجولان. ثم بدأنا نرى من أطلقوا عليهم شبيبة الأسد والمظليين، من الجنسين، وهم طلاب من المرحلة الثانوية أقنعوهم بالالتحاق بدورات عسكرية لتأهيلهم للدفاع عن النظام في حال الحاجة مقابل إعطائهم مسدسات شخصية وكذلك منحهم علامات إضافية على مجموع الشهادة الثانوية تؤهلهم للدخول إلى كليات لايؤهلهم مستواهم العلمي لدخولها.

بدأت أرى مدينتي دمشق في ذلك الحين أشبه بغابة تضم كافة أنواع الضباع والأفاعي والعقارب، حيث بدأ الوجود الكثيف لتلك العناصر يسبب أذى للناس الذين بدؤا بدورهم بالتململ والاستياء. وبدأت البلد تغلي بالحقد والكراهية والتي تطورت بعد ذلك بالتدريج إلى أفعال وردود أفعال وأعمال إنتقامية وأعمال إنتقامية مضادة، لتأتي حادثة نزع أحجبة النساء عام 1980 على يد المظليات الثوريات في دمشق لتكون بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير ولتضع النظام وبشكل علني في موضع العداء الصريح مع الشعب. وقد توج النظام جرائمه بمجزرة حماة عام 1982 والتي راح ضحيتها خمسون ألفاً معظمهم من المدنيين وخلال أيام معدودة، وهي التي شملت أيضاً آلاف حوادث الاغتصاب التعذيب. وقد اعترف مقربون من النظام أن المسؤولين كانوا يعيشون حينها حالة من الرعب الحقيقي خشية سقوط الحكم وذبحهم وسحلهم في الشوارع، ولهذا كانوا يحاربون بوحشية وشراسة ماكانوا مقتنعين بأنها معركة حياة أو موت. فكون النظام الديكتاتوري لايصل إلى الحكم إلا عن طريق الدم، فهو أيضاً لايبقى فيه ولايرحل عنه إلا عن طريق الدم، وتختلف كمية الدم المسفوحة باختلاف درجة وحشية كل نظام أثناء حكمه.

إذاً هاجرت بعد ذلك كما كنت أخطط، وكانت وجهتي الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن استبعدت أوربة لارتفاع نسبة البطالة فيها كما كنا نسمع في النشرات الاقتصادية. وشائت الظروف أن أتخذ من مدينة هيوستن في ولاية تكساس في أقصى جنوب البلاد مكاناً لاقامتي بدلاً من دمشق. وقد وجدت هذه البلاد كما توقعتها وكما سمعت وقرأت عنها بلاد الفرص المتاحة لكل من يريد أن يعمل بجد ويستغل طاقاته وخبراته وعلومه، والأهم من ذلك وجدتها بلاداً تحفظ كرامة وتضمن حرية كل من يمشي على أرضها، إن كان مواطناً أم زائراً أم مهاجراً. وفي هذه الأجواء من الحرية والكرامة والفرص المتاحة، لم تمض عدة سنوات حتى تمكنت من تأسيس عمل فردي ثم ألحقته بشركة خاصة لاتزال قائمة حتى اليوم.

مثل بقية السوريين في المهجر، فقد بقيت أتابع أخبار الوطن (المحتل) عبر محطات الاعلام والمجلات، ثم عن طريق الفضائيات ومن ثم الانترنت. وقد عدت لزيارة سورية مرة واحدة في نهاية عام 1993 لأسباب عائلية ووظيفية معاً، ولو كان بامكاني حينها عدم القيام بتلك الزيارة لفعلت، ولكني كنت مضطراً لها. كنت أخطط للبقاء هناك شهرين أو ثلاثة على الأكثر، ولكني أمضيت ثمانية أشهر كنت خلال معظمها ممنوعاً من المغادرة بحجة (إجراء التحقيقات اللازمة) حسب ماقالوا لي، وهذا ماقد أخصص له مقالاً خاصاً في المستقبل، فكانت أول وآخر مرة أزور فيها الوطن.

توالت الأحداث بعد ذلك، فرحل الأب وورث الابن الحكم بالطريقة التي بات الجميع يعرفها. وقد التقيت بعدها بالعديد من السوريين الذين كانوا يأتون لزيارة هيوستن خلال السنوات الأولى من حكم الابن، فكانوا يستغربون أني لاأزور سورية كما يفعل الآخرون. فكان جوابي لهم دائماً: ومن يأمن أن يزور بلداً تحكمه عصابة؟ وهنا كانوا يضحكون من هذا الجواب، ويقولون أن هذا ربما كان صحيحاً أيام الأب، أما الآن فسورية مختلفة تماماً في زمن الابن، وأني سألاحظ ذلك إذا زرتها الآن وسأتأكد من صحة كلامهم! وهنا كان يأتي دوري في الضحك من جوابهم، وهذا هو جوهر موضوع المقال، فكنت أسألهم بدوري للمقارنة الواقعية، وليس الشكلية فقط، بين الأب والابن فأقول: إلى جانب إختفاء حافظ ورفعت من الواجهة السياسية السورية واستبدالهما ببشار وماهر، فما الذي تغير على الأرض أبعد من ذلك؟

1- هل إصدار الأوامر بإزالة صور القائد من الشوارع والساحات لفترة قصيرة ثم إعادتها بعد ذلك وبأعداد أكبر وتحت عنوان (إرادة الشعب) و(الحب العفوي) ماتسمونه تغييراً؟

2- هل فتحوا، من دون أن ندري، تحقيقاً لمسائلة ومحاسبة المسؤولين عن أسوأ مصيبتين قصمتا ظهر سورية في العصر الحديث: ضياع الجولان بتلك الطريقة المريبة ومجزرة حماة بتلك الطريقة الوحشية؟

3- هل كان في التخلص من رئيس الوزارة الذي كان شخصاً وجوده كعدم وجوده، وإقصاء نائب الرئيس وأولاده لأسباب ليس الإصلاح من بينها هو ماتسمونه تغييراً؟

4- هل تختلف مجزرة سجن صيدنايا عام 2008 في عهد الابن عن مجزرة سجن تدمر عام 1982 في عهد الأب كثيراً، وهل هذا الاختلاف هو ماتسمونه تغييراً؟

5- هل منحت الحرية للصحافة فصار بامكانها مسائلة رجال النظام عن سياساتهم وممارساتهم واخفاقاتهم، بدءاً من الرئيس وحاشيته، وكيف تحولوا إلى (ملياردرية) في فترة قياسية؟

6- هل صار مسموحاً بالأحزاب السياسية وبالترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟

طبعاً وبعد كل سؤال كنت أطرحه كان يأتي الجواب بالنفي، فقلت لهم في النهاية أن شيئاً لم يتغير إذاً. وقد وجد واحد منهم ذات مرة الشجاعة ليقول أن الابن على الأقل لم يرتكب مجزرة ببشاعة مجزرة حماة التي ارتكبها الأب، وهذا يعني أن لديه رحمة لم تكن عند أبيه ويجب أن نعترف له بذلك! فأتى جوابي سريعاً بأن الديكتاتور لايلجأ عادة لحلول المجازر إلا إذا تعرض هو ونظامه للخطر، وعليك أن تنتظر ليواجه الابن ماواجهه الأب لتحكم: مجازر من أسوأ؟

من دارت هذه الأحاديث بيني وبينهم ليسوا في هيوستن اليوم، ولاأعلم فيما إذا كانوا في سورية أو في مكان آخر. ولكني أعلم علم اليقين بأنهم وأينما كانوا، سيتذكرون هذه الأحاديث وسيقولون: كان محقاً وكنا مخطئين، فالابن في نهاية المطاف لم يختلف كثيراً عن أبيه وقد انطبق عليه المثل الشعبي: من شابه أباه فما ظلم.

***

بقلم: طريف يوسف آغا

كاتب وشاعر عربي سوري مغترب

عضو رابطة كتاب الثورة السورية

جمعة (ثورة لكل السوريين) 21 جماد الأول 1433، 13 نيسان، ابريل 2012

هيوستن / تكساس

http://sites.google.com/site/tarifspoetry