هل يُختَصَرُ الوطنُ بحاكِم؟

هل يُختَصَرُ الوطنُ بحاكِم؟

أم هل يُختَصَرُ الحاكِمُ بوطن؟

في الحقيقة، فالجواب على كلا السؤالين هو بالنفي. فلا يمكن للوطن أن يُختصر في فرد، كائناً هذا الفرد من كان، وكانت أفضاله على الوطن ماكانت. ولايمكن بالمقابل أيضاً أن يصل أي فرد إلى مستوى يدّعي معه أنه هو وحده من يختصر الوطن بلامنافس.

إذاً فماأصل هذه المقولات؟

هذه المقولات هي من اختراع الديكتاتور الذي سبق وعرّفناه في الماضي بأنه الحاكم الذي لايريد أن يغادر الحكم (سلمياً) وبالتالي فهو بحاجة لمثل تلك المقولات والشعارات (الفارغة) ليبرر بقائه على كرسيه وإلى الأبد. وهو من أجل ذلك نراه دائماً يحاول المزج بين صورته والوطن، فيضع صورته مرة فوق خارطته ومرة بجانب علمه ومرة على هامش أحد مَعالمه الشهيرة كنهر أو جبل أو قلعة أثرية إلى آخر تلك الأساليب الرخيصة التي يظن أنه باستعمالها سيصبح هو الآخر مَعلماً من تلك المَعالم!

إلا أن الغاية الأخطر للديكتاتور من اختراعه لتلك المقولة هو أن يكون بمقدوره التنكيل بالمواطن الذي يتجرأ على معارضته بحجة أن أية معارضة لسياسته أو لشخصه (وبناء على مقولة أن القائد هو الوطن) هي معارضة للوطن أيضاً. وبالتالي فإن كل مطالبة بتحجيم صلاحياته هي كالمطالبة بتحجيم الوطن، وكل انتقاص من قدره هو انتقاص لقدر الوطن، وكل تغليط له هو تغليط للوطن. وهكذا يصبح بمقدور الديكتاتور ونظامه تطبيق عقوبات الخيانة العظمى على من يتجرأ على المس به بأي شكل من الأشكال ومن قريب أو بعيد.

وهذا الموضوع يعيد إلى ذاكرتي النقاش الذي دار هنا في أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين هوجمت نيويورك وواشنطن بالطائرات المدنية. فقد حاولت إدارة الرئيس السابق جورج بوش طرح بعض المقولات المشابهة والغريبة عن المجتمع الأمريكي مثل (من ليس معنا فهو ضدنا) وأن (النقد السلبي للرئيس وإدارته في تلك الظروف هي خيانة للوطن) وغير ذلك من تلك الشعارات. إلا أن المعارضة السياسية المتمثلة بالحزب الديمقراطي آنذاك، وكذلك الطليعة المثقفة والواعية هنا لم تصمت أمام تلك المحاولات من الجمهوريين (والذين يُعرفون أيضاً بالجمهوريين الجدد) ليكون لهم حرية التصرف كما يريدون وليخيفوا المعارضة وينجوا من المحاسبة على أخطائهم. ورأي الشخصي هنا أن أي حاكم في العالم، وهذه على مايبدو أنها طبيعة إنسانية، يتمنى أن يكون ديكتاتوراً بمعنى أن يمارس الحكم من دون أي معارضة ولا محاسبة ولا وجع راس. ولكن الدستور الذي ينظم الحياة في الدول المتقدمة والذي يحمي القانون ويضمن تطبيقه على الجميع هو مايمنع الحاكم هناك من التمادي والخروج عنه. ولا ينتظر القانون هناك الحاكم ليرتكب مجازراً بوزن ماحصل ومايزال يحصل في بلادنا ليقصيه عن الحكم أو يلاحقه قضائياً. بل يكفيه ليفعل ذلك كشف الحاكم أمام الشعب أنه كذب أو لم ينفذ وعداً قطعه أثناء حملته الإنتخابية أو كان طرفاً في فضيحة سياسية أو مالية أو أخلاقية، وماأكثر الأمثلة على ذلك.

بالعودة إلى الجمهوريين الجدد وشعاراتهم المستوردة من بلادنا، فأذكر من الأصوات الشجاعة التي عارضتها وعارضت الحرب على العراق السيناتور الديمقراطي آنذاك باراك أوباما وأيضاً المخرج السينمائي الوثائقي الجرئ مايكل مور والذي توجهت إليه برسالة شكر قبل أيام تقديراً على موقفه المعلن من الأحداث في سورية. فبالإضافة لفيلم فهرنهايت 9/11 الذي أخرجه حينها عن تلك الحرب وفضحه لمبرارتها الواهية، والتي اعترفت الإدارة نفسها بضعفها فيما بعد، فهو أيضاً تقدم في حينه وشرح هذا الإدعاء. قال مامعناه ليس هناك أي مشكلة من انتقاد الرئيس أو أي من إدارته، وأكد على ضرورة فضح الأكاذيب في حال اكتشافها بغض النظر عن مصدرها أوتوقيت حصولها. وبرر ذلك بأن من يخدع الشعب لايمكن أصلاً أن يمثل هذا الشعب، فما بالك بشرعية تمثيله للوطن؟ وشدد على ضرورة عدم جر اسم الوطن وصفته الاعتبارية إلى ألاعيب السياسة التي لايعلم ماخلفها (على سطح الأرض على الأقل) إلا صانعيها، وبالتالي يجب أن يبقى هذا الاسم بعيداً عن قذارات السياسة وصفقاتها.

طبعاً لم ترض إدارة الجمهوريين الحاكمة حينها عن تلك التصريحات والمواقف، وعبرت عن ذلك بلسان وكالات الإعلام الموالية لها والتي شنت حملة تشويه وتسفيه وحتى تخوين ضد المخرج المشهور وكل من سلك طريقه. ولكن ماحصل حينها أن الدستور الذي يحكم البلاد ويضمن حرية الرأي، حماه وحمى غيره من غضب الإدارة ومن حملتها الإعلامية السلبية. كما حصل أن انقلب السحر على الساحر، فوصل السيناتور أوباما إلى حيث هو اليوم، وازداد المخرج مايكل مور شهرة وأصبحت أعماله في مقدمة الأعمال المطلوبة من قبل الجمهور. والدستور هو أيضاً ماأخرج الملايين إلى شوارع وساحات المدن العربية من المحيط إلى الخليج منادية به للحكم ولحماية البلاد من الديكتاتور ونظامه. وندائهم هذا كفيل بفصل صورة الحاكم عن الوطن، وفصله أيضاً عن الهالة الإلهية التي أحاط نفسه بها، ووضعه في المرتبة التي يستحقها، لاأعلى من ذلك ولاأقل. وهي مرتبة الموظف الذي يؤدي مهمته الوظيفية والتي تتلخص بحماية القانون من جهة وتنفيذ الخطط التي وعد بها أثناء حملته من جهة ثانية، حتى نهاية المدة التي حددها له الدستور. يعود بعدها إلى بيته ليصبح مواطناً عادياً من جديد مع السماح له بالاحتفاظ بلقب (رئيس سابق) وبمخاطبته بعبارة (شكر الله سعيكم).

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

الأربعاء 13 رجب 1432 / 15 حزيران 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry