عامة الناس والشعر المعاصر

عامة الناس والشعر المعاصر

قد يسألني البعض ماهو الهدف من هذه الأمسيات الشعرية التي أقيمها دوريا ؟

كشاعر فاني أرى وبكثير من الألم أن هناك خصاما قد بات مستحكما بين

الشعر المعاصر وبين عامة الناس، وهدفي من هذه الأمسيات هو تحقيق المصالحة

بين الطرفين. فالشعر المعاصر، وبين تعقيدات وصعوبة وهموم

الحياة، غرق هو نفسه في التعقيد وفي صعوبة المعاني والصور كما غرق في

الرمزية والغموض. وكما أن الكآبة واليأس والتشائم باتت من أكثر صفات

وأمراض العصر، فيبدو أنها أيضا انتقلت بالعدوى إلى الناتج الأدبي عموما

والشعري خصوصا. فصار الشعراء اليوم يتبارون في قصائدهم أي منها

أكثر غموضا وصعوبة ورمزية دون أن ينتبهوا إلى أنهم بذلك ينأون بأنفسهم إلى

برج عاجي يبعدهم عن عامة الناس ويجعلهم أدباءً بلا جماهير. وإن

واجهت أحدهم بهذه الحقيقة كان تبريره أن عامة الناس هي التي غرقت في هموم

الحياة المعاصرة من جهة وفي الجهل الثقافي من جهة ثانية، فلم تعد

قادرة على تذوق أعمالهم، وبالتالي فإن هذه الأعمال ماعادت لهؤلاء الناس ولكنها

موجهة حصريا للطبقة المثقفة، بل العالية الثقافة من القراء والأدباء

والنقاد. من جهتي ليست لدي مشكلة مع التجديد، ولا أعتقد أن لدى الناس مشكلة

معه، ولكن إذا كان التجديد سيعني تكريس الغموض والصعوبة

والتضحية بالجمال والرونق، إذا كان الأدب سيخاطب العقل فقط ويتجاهل الروح

والقلب، فلا شك أن عامة الناس ستنفض من حوله غير آسفة والعكس

بالعكس. وإذا لم يكن بإمكان الشاعر أن يأتي بموضوع جديد ولكن في نفس الوقت

أن يحافظ على سهولة المعاني وجمال الصور وروعة الموسيقا، فأين

الغلط في أن يطرق موضوعا سبق وتناوله غيره ولكن يضفي عليه من طابعه

واسلوبه ومن روحه وبصماته، وهي أشياء لايتشابه فيها إثنان. فهذا عنترة

العبسي كتب في الفروسية والفخر، ولم يمنع ذلك شعراء أتوا بعده مثل المتنبي

وأبو تمام وأبو فراس وغيرهم من تناول نفس الموضوع والإبداع فيه كل

باسلوبه وطابعه، وحتى ربما أتى بما هو أجمل مما أتى به سابقه في نفس

الموضوع

إذا ً فكما أن تناول المواضيع المطروقة سابقا ً ليس بالضرورة فشلا ً أو عجزا ً،

كذلك فتناول مواضيع جديدة ليس دائما نجاحا ً أو بالضرورة إبداعا ً.

ولايسعني في هذا السياق إلا أن أستحضر من ذاكرتي واحدة من أروع لوحات

مسرح الشوك السوري الذي ظهر في بداية السبعينات وقدمته مجموعة من

نجوم الكوميديا وعلى رأسهم دريد لحام ونهاد قلعي ورفيق سبيعي ويصيحون فيها

الرياح أكلت أختي ... وظلام الليل مضئ

فمن الواضح أن هذه اللوحة تنتقد النوع من الفن أو الأدب الذي يحاول أن يأتي

بالجديد بأي ثمن ولاتعرف عامة الناس كيف تتعامل معه: هل تبكي أم

تضحك ؟ هل تبقى أم تذهب ؟ هل تصغي أم تنام ؟ هل تغضب لإضاعة وقتها أم

تبتلع خيبة أملها وتلتزم الصمت وتتظاهر بالاستمتاع ؟

وكلما تذكرت هذا النوع من الأدب، أستعيد النوع الآخر، وهو الذي يطرق القديم

ولكن بإبداع، فتجد فيه ما لاتجده في غيره من قبل ولا من بعد. وإذا

عدنا تحديدا إلى عالم الشعر، فهل هناك أعمق مما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي

في الرثاء

سلامٌ من صَبا بَرَدى أرق ُّ ودمع ٌ لا يكفكفُ يا دِمَشق ُ

هل هناك أقوى مما قاله أبو القاسم الشابي في استثارة الهمم والدعوة إلى التحرر:

إذا الشعب ُ يوما ً أراد َ الحياة فلا بد َ أنيستجيب َ القدر ْ

ولا بد َ لليل ِ أن ْ ينجلي ولا بد َ للقيد ِ أن ْ ينكسر ْ

وهل هناك أروع مما قاله نزار قباني في شعر المقاومة:

أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين َ خذوني معكم ْ

إلى ربى حزينة ٍ كوجه ِ المجدلية إلى القباب ِ الخضر ِ والحجارة ِ النبية

يكفي أدباء النوع الأول أن الناس وبعد أن ابتعدت عنهم أصبحت أعمالهم مادة

للسخرية والإضحاك، ويكفي أدباء النوع الثاني أن أعمالهم وصلت إلى

القلوب فوجدت طريقها إلى الكتب المدرسية والجامعية وإلى الصحف والمجلات

ودور النشر وإلى الأغاني والأناشيد الوطنية. وهي أعمال طالما وقفت

أمامها مسحورا، أستلهم منها وأحاول السير على خطاها بإعادة مواضيعها

ومعانيها وجمالها إلى الحياة. هذا هو إذن وباختصار هدفي من الأمسيات التي

أقيمها: إعادة حب الشعر وسحره إلى قلوب الناس، وإعادة دعوته وبفخر لحضور

كافة المناسبات وعلى إختلاف أنواعها.

طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

تشرين الأول / أوكتوبر 2010