المختصر المفيد لفهم مسيرات التأييد

المختصر المفيد لفهم مسيرات التأييد

وماذا يرى فيها الديكتاتور مما لانراه؟

شاهدنا خلال الثورات التي عصفت بالمنطقة العربية مؤخرا بشكل خاص، وخلال العقود الماضية في ظل الأنظمة الديكتاتورية بشكل عام، شاهدنا ظاهرة مايسمى بمسيرات التأييد وخاصة تلك المليونية منها. وقد رأيت أن أقف لألقي بعض الضوء عليها ضمن سلسلة مقالاتي الأخيرة حول الديكتاتور والأزمات التي يعاني منها هذه الأيام.

والمسيرات هي أحد نوعين من أشكال تجمهر الناس بالآلاف والملايين، في حين أن النوع الثاني هو المظاهرات. وهذا الأخير هو ذلك النوع من التجمهر الذي يخرج للاحتجاج على أداء الحاكم أو الحكومة أو كليهما معا، وهي لاتحدث إلا في الدول الديمقراطية التي يضمن فيها القانون حق الناس في التظاهر وإعلان عدم رضاهم عن المسؤولين. أما المسيرات فهي النوع من التجمهر الذي يفترض أن يخرج تلقائيا وعفويا لتأييد الحاكم حصرا، ومن كلمة حصرا هذه نفهم أن المسيرات هي ظاهرة لاتحدث إلا في الدول الديكتاتورية والتي يمنع القانون فيها الشعب من حق التظاهر السلمي للإعلان عن عدم رضاه على أداء الحاكم (لأن القانون في هذه البلاد مفصل على قياس الحاكم ونظامه). ولهذا أرى أنه من الأفضل إعادة تشكيل حركات كلمة (المَسِيْرات) من فتح الميم وكسر السين وتسكين الياء، إلى(مُسَيَّرات) بضم الميم وفتح السين وتشديد وفتح الياء! فالناس عادة، وإذا كانوا يتمتعون بحريتهم، فهم لا يتجمهرون ولايخرجون إلى الشوارع والساحات إلا للاحتجاج. وبما أنهم أوصلوا الحاكم إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، فيجدون أنه من حقهم أن يؤنبوه ويحتجون ضده إذا لاحظوا تنكره للوعود التي انتخبوه من أجلها أو حتى تلكأ في تنفيذها أو نفذ أجزاء منها وتخلى عن بقيتها. أما في حال رضاهم عن سياسة الحاكم ووزارته، فهم يعبرون عن رضاهم هذا بأن يتركوه وشأنه ليستمر بتنفيذ عمله. فالحاكم في الدول الديمقراطية والحرة لاينتظر من أحد أن يصفق له إذا قام بعمله على أكمل وجه، ولكنه يتوقع التقريع والمحاسبة إذا قصر به، وكم من حاكم قدم استقالته لفشله في إرضاء الناس وتحقيق مطالبهم.

ولكن وكما رأينا، فالآية معكوسة تماما في الأنظمة الديكتاتورية (التي يمكن أيضا أن ندعوها بأنظمة المسيرات لأنها من الظواهر التي تميزها عن غيرها من الأنظمة). وهنا نصل إلى الشق الثاني والأخير من هذه المقالة، وهو معرفة السر بين الديكتاتور ومسيرات التأييد، وماذا يرى فيها مما لايراه عامة الناس؟ فهذه المسيرات كما ذكرت في مقالة سابقة (وكما سميتها قبل قليل بمُسَيَّرات التأييد) تتالف بمعظمها من أناس عاديين، مقهورين وعزل، تم إخراجهم وتَسييرِهم من قبل الأجهزة الأمنية المسلحة التي وضعت حفنة من الوزراء والمدراء في المقدمة لتحيط هي بالجميع من كافة الجهات. كما تم تزويدهم بصور الديكتاتور وبلافتات تحمل شعارات مؤيدة له أو ببعض من أقواله. وتم إعطائهم الأوامر بأن يرقصوا ويغنوا ويرددوا عبارات المديح والفداء لتتمكن كاميرات النظام من تصويرهم ونقل المسيرة وكأنها عرسا وطنيا أو فرحا عفويا أو ما غير ذلك من التسميات.

إذا فهذه المسيرات هي نوع من الخدعة، ولكن من يخدع من هنا؟ هل تحاول الحاشية خداع الديكتاتور بإيهامه بأنه ذلك الشخص الاستثنائي الذي لايتكرر كثيرا عبر التاريخ؟

لا أعتقد أن هذا مازال واردا في القرن الواحد والعشرين الذي يسمى أيضا بعصر المعلوماتية والنت، ومهما كان الحاكم متخلفا فلا أرى إمكانية أن ينخدع بشئ كهذا.

إذاً من يحاول الديكتاتور أن يخدع؟

إذا كان يحاول أن يخدع العالم الخارجي، أو المعارضة الداخلية، ويحاول أن يقول لهم "انظروا فأنا مازلت قويا وعليكم التفاوض معي، وليس مع غيري، لتأمين مصالحكم"

إذا كان هذا هو هدفه من إطلاق هذه المسيرات، فعليه أن يراجع حساباته. فكما أنه يدرك بأنها مجرد خدعة، فالجميع يدرك ذلك أيضا، ولا يكاد يشاهدها أحد على شاشات التلفزيون إلا ويسخر من الديكتاتور الذي يُسَيِّرها، ويأسف للناس المقهورة التي تُسَيَّر فيها. وهذا يقودنا إلى نتيجة وهي أنه غير قادر على رؤية المشكلة الحقيقية ليجد الحل لها. والسؤال هنا هو كيف لهذه المسيرات، الخالية من أية فائدة أو مضمون، حتى في الأحوال العادية، كيف لها أن تفيد الديكتاتور وهو يواجه ثورة شعبية عارمة من وزن الثورات التي نراها اليوم؟ وبالتالي فإن انتظاره حلولا لمأزقه الصعب من خلال هذه المسيرات المسرحية هو أحزن مافي الأمر على الإطلاق! وهو بذلك يكون قد شابه النعامة التي تدفن رأسها في التراب حين تواجه الخطر، أو الجهلة من العامة اللذين يلجأون للمدجلين وحجاباتهم وبخورهم ووصفاتهم السحرية لحل مشاكلهم. وفعلا فلا يلجأ لمثل هذه المسيرات في مثل هذه الأزمات إلا من كان بعيدا عن الناس ولايفهمهم ولا يحس بآلامهم ومعاناتهم. وقد شاهدنا مؤخرا في دول شقيقة كيف أن مسيرات التأييد هذه لم تتمكن من إيقاف الثورة التي استمرت ولم تتوقف إلا بتحقيق هدفها الأوحد، وهو رحيل الديكتاتور ونظامه.

أريد في خاتمة هذه المقالة التذكير بمسيرة مليونية تأييدية تم إخراجها من قبل نظام أوربي ديكتاتوري بائد للإستماع لكلمة من كلمات الديكتاتور (التاريخية)، فإذا بها تتحول بسرعة من مسيرة تأييد إلى مظاهرة غاضبة أجبرته على الهروب مع زوجته من المنصة قبل انتهاء الكلمة، ليلقيا حتفيهما رميا بالرصاص بعد ساعات. فكانت بحق كلمة تاريخية بكل مافيها من معنى، وربما الوحيدة التي دخلت التاريخ من بين كل الكلمات التي ألقاها في حياته.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

ربيع الثاني 1432 / نيسان، إبريل 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry