بديع الزمان سعيد النورسي 5

القسم الثالث

نماذج مستلّة من كليات رسائل النور المترجمة

من الكلمات

الحق يعلو

أيها الصديق! سألني أحدهم ذات يوم:

لما كان )الحق يعلو( أمر حق لا مراء فيه، فلِمَ ينتصر الكافرُ على المسلم، وتغلُب القوة على الحق؟.

قلت: تأمل في النقاط الأربع الآتية، تنحل المعضلة.

النقطة الأولى:

لا يلزم أن تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كل حقٍّ حقاً، كما لا يلزم أيضاً أن تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كلِّ باطلٍ باطلاً.

فالنتيجة إذن: أن وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبةٌ على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق).

وعليه يكون: حقٌ مغلوب لباطل، مغلوبٌ بوسيلته الباطلة، أي مغلوبٌ موقتاً، وإلاّ فليس مغلوباً بذاته، وليس دائماً، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوماً.

أما القوة، فلها من الحق نصيبٌ، وفيها سرٌّ للتفوق كامنٌ في خلقتها.

النقطة الثانية:

بينما يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، إلاّ أن هذا ليس أمراً واقعاً، ولا دائماً!

ومثله، لا يلزم أيضاً أن تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره.

وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط أن تكون جميعُها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.

إذن، صفةٌ مسلمةٌ يتصف بها كافرٌ تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم. وبهذه الوساطة (والوسيلة الحقة) يكون ذلك الكافر غالباً على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة).

ثم إن حقّ الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع. والكفر ليس مانعاً لحق الحياة الذي هو تجلٍ للرحمة العامة والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.

النقطة الثالثة:

للّه سبحانه وتعالى تجليان يتجلى بهما على المخلوقات، وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.

أولهما:

الشرع التكويني ـ أو السنة الكونية ـ الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة )الإرادة الإلهية(.

والثاني:

الشريعة المعروفة الصادرة من صفة )الكلام الرباني(.

فكما أن هناك طاعةً وعصياناً تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الأوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الأول ـ مطيع الشريعة والعاصي لها ـ جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني ـ مطيع السنن الكونية والعاصي لها ـ غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما أن ثواب الصبر النصرُ.

وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.

كذلك ثواب السعي الغنى،

وثواب الثبات التغلب.

مثلما أن نتيجة السمِّ المرضُ.

وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية.

وتجتمع أحياناً أوامر الشريعتين معاً في شئ.. فلكلٍ جهة.

فطاعةُ الأمر التكويني الذي هو حق، هذه الطاعة غالبة ـ لأنها طاعة لأمر إلهي ـ على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان ـ لأي أمر تكويني ـ يندرج في الباطل ويصبح جزءاً منه.

فإذا ما اصبح حقٌ وسيلةً لباطلٍ فسينتصر على باطلٍ اصبح وسيلةً لحق، وتظهر النتيجة:

حقٌ مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوباً بذاته، وإنما بوسيلته. إذن فـ )الحق يعلو( يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة ـ فليس العلو قاصراً في الدنيا ـ إلاّ أن التقيّد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه.

النقطة الرابعة:

إن ظلَّ حقٌ كامناً في طور القوة ـ أي لم يخرج إلى طور الفعل المشاهَد ـ أو كان مشوباً بشيء آخر، أو مغشوشاً، وتطلّب الأمر كشف الحق وتزويده بقوة جديدة، وجعله خالصاً زكياً، يُسلّط عليه مؤقتاً باطلٌ حتى يخلُص الحق ـ نتيجة التدافع ـ من كل درن فيكون طيباً.

ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.

فإذا ما انتصر الباطل في الدنيا ـ في مكان وزمان معينين ـ فقد كسب معركة ولم يكسب الحرب كلها، لأن )العاقبة للمتقين( هي المآل الذي يؤول إليه الحق.

وهكذا الباطل مغلوب ـ حتى في غلبه الظاهر ـ وفي )الحق يعلو( سرٌّ كامن عميق يدفع الباطل قهراً إلى العقاب في عقبى الدنيا أو الآخرة، فهو يتطلع إلى العقبى. وهكذا الحق غالب مهما ظهر انه مغلوب!.

من المناظرات

ما الذي ألقانا في غياهب الضياع؟

سؤال: ما الذي ألقانا في غياهب الضياع وأقعدنا عن معالي الأمور؟

الجواب:

إن الحياة حركة وفعالية، أما الشوق فجوادُها، وهو مطية الهمة. فحالما تمتطي همتُكم صهوة جواد الشوق ناشدة معالي الأمور في ميادين معركة الحياة، إذا بـ)اليأس( أول ما يصادفها، هذا العدو الألد هو الذي يفتّ من قوة الهمة.. فعليكم أن تضربوه بسيف الآية الكريمة: (لا تقنطوا) (الزمر: 53).

ثم يشن )حب الظهور وميل التفوق( هجومه، هذا الميل المغروز في الإنسان يحاول التحـكم على خدمة الحق الخالصة من الحســد والمنازعة، فيهوي بضرباته على رأس الهــمـة ويطـرحها الأرضَ مــن على جوداها.. فعليــكم أن تبـعـثـوا إليه حـقيقة الآية الكريمة: (كونوا قوامين) (النساء:135).

ثم يبرز إلى الميدان )الاستعجال( فيُزلّ قدم الهمة ويُقلبها على عقبيها بطفراته خطوات ترتب الأسباب والمسببات. فتشوش مراحل العلل التي وضعها الله سبحانه في سننه الكونية.. فعليكم أن تحتموا منه بالخندق الأمين للآية الكريمة: (اصبروا وصابروا ورابطوا)(آل عمران : 200).

ثم يتصدى لها )الرأي الشخصي( المستبد والتفكير الانفرادي الذي يبدد أعمال الإنسان، رغم انه مكلّف بفطرته رعاية حقوقه ضمن رعايته لحقوق الآخرين.. فعليكم أن تصدوه بالحقيقة الشامخة في الحديث الشريف: (خير الناس انفعهم للناس).[1]

ثم يخرج إلى ساحة المعركة عدوٌ آخر وهو: )التقليد( فيجد الفرصة سانحة لتقليد الكسالى والمتخلفين، وبه يقصم ظهر الهمة.. فعليكم تحدّيه بالحقيقة الشاهقة، تلك هي حكمة الآية الكريمة: (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105). كيلا تبلغ يدُ العدو أذيال الهمة.

ثم يلوح العدوّ الغدّار وهو: )التسويف( الناجم من العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ منه تأجيل الأعمال الأخروية من اليوم إلى الغد، وهكذا حتى يمسك يدّ الهمة ويقعدها عن النهوض.. فعليكم الاقتداء بسر الآية الكريمة: (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (آل عمران : 122). على الله لا على غيره. فاجعلوا التوكل عليه سبحانه حصناً للهمة.

ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو: )التدخل في ما هو موكول أمره إلى الله( فينـزل هذا التدخل بضرباته القاسية ولطماته الموجعة على وجه الهمة حتى يُعمي بصرَها فعليكم أن ترسلوا عليه الحقيقة الدائبة والرابحة دوماً وهي الآية الكريمة: (فاستقم كما أمرت) (هود: 122). كي تقفه عند حدّه، فلا يتجاوزه، إذ ليس للعبد إن يتأمر على سيده.

وأخيراً يُقبل )حب الراحة والدعة( الذي هو أم المصائب ووكر الرذائل فيصفّد الهمة الكريمة بسلاسله وأغلاله ويقعدها عن طلب معالي الأمور ويقذفها في هاوية السفالة والذلة.. فعليكم أن تُخرجوا على ذلك السفاح الساحر، البطل المجاهد في الآية الكريمة: (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى) (النجم: 39).

[حقاً إن لكم في الجهاد وتحمّل المشاق راحة كبرى، وان الذي يملك فطرة حساسة راحتُه في السعي والعمل].

* * *

من رسالة الاخوة:

دساتير في الأخوة

إن عداءك للمؤمـن ظلـم مبين، من حيـث الحيـاة الشخصية. فإن شئت فاستمع إلى بضعة دساتير هي أساس هذا الوجه الرابع.

الدستور الأول:

عندما تعلم انك على حق في سلوكك وأفكارك يجوز لك أن تقول: )إن مسلكي حق أو هو افضل( ولكن لا يجوز لك أن تقول: )إن الحق هو مسلكي أنا فحسب(. لان نظرك الساخط وفكرك الكليل لن يكونا محكاً ولا حكماً يقضي على بطلان المسالك الأخرى، وقديماً قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا [2]

الدستور الثاني:

)عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن ليس لك أن تذيع كل الحقائق. وعليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صواباً أن تقول كل صدق(.

لأن من كان على نية غير خالصة ـ مثلك ـ يحتمل أن يثير المقابل بنصائحه فيحصل عكس المراد.

الدستور الثالث:

إن كنت تريد أن تعادي أحداً فعاد ما في قلبك من العداوة، واجتهد في إطفاء نارها واستئصال شأفتها. وحاول أن تعادي من هو أعدى عدوك واشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك. فقاوم هواها، واسعَ إلى إصلاحها، ولا تعاد المؤمنين لأجلها. وان كنت تريد العداء أيضاً فعاد الكفار والزنادقة، فهم كثيرون. واعلم أن صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما أن خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شئ آخر.

وإن أردت أن تغلب خصمك فادفع سيئته بالحسنة، فبه تخمد نار الخصومة. أما إذا قابلت إساءته بمثلها فالخصومة تزداد. حتى لو اصبح مغلوباً ـ ظاهراً ـ فقلبه يمتلئ غيظاً عليك، فالعداء يدوم والشحناء تستمر. بينما مقابلته بالإحسان تسوقه إلى الندم، وقد يكون صديقاً حميماً لك، إذ إن من شأن المؤمن أن يكون كريماً، فإن أكرمته فقد ملكته وجعلته أخاً لك، حتى لو كان لئيماً ـ ظاهراً ـ إلا انه كريم من حيث أليمان، وقد قال الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرداً [3]

نعم، إن الواقع يشهد: أن مخاطبة الفاسد بقولك له: )انك صالح، انك فاضل..(. ربما يدفعه إلى الصلاح وكذا مخاطبة الصالح: )انك طالح، انك فاسد...(. ربما يسوقه إلى الفساد، لذا استمع بإذن القلب إلى قوله تعالى:

( وَاِذَا مَرّوُا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: 72)

(وَاِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتغْفِروُا فَاِنَّ اَ غَفُورٌ رَحيمٌ) (التغابن:14)

وأمثالها من الدساتير القرآنية المقدسة، ففيها التوفيق والنجاح والسعادة والأمان.

الدستور الرابع:

إن الذين يملأ قلوبهم الحقد والعداوة تجاه إخوانهم المؤمنين إنما يظلمون أنفسهم أولاً، علاوة على ظلمهم لإخوانهم، وفضلاً عن تجاوزهم حدود الرحمة الإلهية، حيث إنه بالحقد والعداوة يوقع نفسه في عذاب أليم، فيقاسي عذاباً كلما رأى نعمة حلّت بخصمه، ويعاني ألماً من خوفه. وإن نشأت العداوة من الحسد فدونه العذاب الأليم، لأن الحسد أشد إيلاماً للحاسد من المحسود حيث يحرق صاحبه بلهيبه، أما المحسود فلا يمسه من الحسد شيء، أو يتضرر طفيفاً.

وعلاج الحسد هو: أن يلاحظ الحاسد عاقبة ما يحسده، ويتأمل فيها، ليدرك أن ما ناله محسوده من أعراض دنيوية ـ من مال وقوة ومنصب ـ إنما هو أعراض زائلة فانية. فائدتها قليلة، مشقتها عظيمة.

أما إذا كان الحسد ناشئاً من دوافع أخروية، فلا حسد أصلاً. ولو تحرك عرق الحسد حتى في هذه الأمور، فالحاسد إما أنه مراء، يحبط حسناته الأخروية في الدنيا. أو أنه يسيء الظن بمحسوده فيظلمه.

ثم إن الحاسد في حسده يسخط على قدر ا، لأنه يحزن من مجيء فضل من الله ورحمته على محسوده، ويرتاح من نـزول المصائب عليه، أي كأنه ينتقد القدر الإلهي ويعترض على رحمته الواسعة. ومعلوم أن من ينتقد القدر كمن يناطح الجبل، ومن يعترض على الرحمة الإلهية يُحرم منها.

ترى هل هناك إنصاف يرضى أن يمتلئ صدر المؤمن لسنة كاملة غيظاً وحقداً على أخيه لشيء جزئي تافه لا يساوي العداء عليه ليوم واحد؟! علماً انه لا ينبغي أن تنسب السيئة التي أتتك من أخيك المؤمن إليه وحده وتدينه بها لأن:

أولاً: القدر الإلهي له حظه في الأمر، فعليك أن تستقبل حظ القدر هذا بالرضى والتسليم.

ثانياً: إن للشيطان والنفس الأمارة بالسوء حظهما كذلك. فإذا ما أخرجتَ هاتين الحصتين لا يبقى أمامك إلا الإشفاق على أخيك بدلاً من عدائه. لأنك تراه مغلوباً على أمره أمام نفسه وشيطانه. فتنتظر منه بعد ذلك الندم على فعلته وتأمل عودته إلى صوابه.

ثالثاً: عليك أن تلاحظ في هذا الأمر تقصيرات نفسك، تلك التي لا تراها أو لا ترغب أن تراها، فاعزل هذه الحصة أيضاً مع الحصتين السابقتين، تر الباقي حصة ضئيلة جزئية، فإذا استقبلتها بهمة عالية وشهامة رفيعة أي بالعفو والصفح، تنجو من ارتكاب ظلم وتتخلص من إيذاء أحد.

بينما إذا قابلت إساءته بحرص شديد على توافه الدنيا ـ كأنك تخلد فيها ـ وبحقد مستديم وعداء لا يفتر، فلا جرم أن تنطبق عليك صفة )ظلوماً جهولاً( وتكون أشبه بذلك اليهودي الأحمق الذي صرف أموالاً طائلة لقطع زجاجية لا تساوي شيئاً وبلورات ثلجية لا تلبث أن تزول، ظناً منه أنها الماس.

وهكذا فقد بسطنا أمامك ما يسببه العداء من أضرار لحياة الإنسان الشخصية. فان كنت حقاً تحب نفسك فلا تفسح له مجالاً ليدخل قلبك، وان كان قد دخل فعلاً واستقر فلا تصغ إليه، بل استمع إلى حافظ الشيرازي [4] ذي البصيرة النافذة إلى الحقيقة. انه يقول:

دنيا نه متاعيستى كه ارزد بنـزاعى

أي: )ان الدنيا كلها لا تساوي متاعاً يستحق النـزاع عليه(.

فلئن كانت الدنيا العظيمة وبما فيها تافهة هكذا، فما بالك بجزء صغير منها. واستمع إليه أيضاً حيث يقول:

آسايش دوكيتى تفسير اين دو حرفست

بادوستان مروت با دشمنان مدارا

أي: )نيل الراحة والسلامة في كلا العالمين توضحه كلمتان:

معاشرة الأصدقاء بالمروءة والإنصاف. ومعاملة الأعداء بالصفح والصفاء(.

إذا قلت: إن الأمر ليس في طوقي، فالعداء مغروز في كياني، مغمور في فطرتي، فليس لي خيار، فضلاً عن انهم قد جرحوا مشاعري وآذوني، فلا أستطيع التجاوز عنهم.

فالجواب: إن الخلق السيئ إن لم يجر أثره وحُكمه، وان لم يُعمل بمقتضاه كالغيبة مثلاً، وعَرف صاحبه تقصيره، فلا ضير، ولا ينجم منه ضرر. فما دمت لا تملك الخيار من أمرك، ولا تستطيع أن تتخلص من العداء، فان شعورك بأنك مقصر في هذه الخصلة، وإدراكك انك لست على حق فيها، ينجيانك ـ بإذن الله ـ من شرور العداء الكامن فيك، لان ذلك يعد ندماً معنوياً، وتوبة خفية، واستغفاراً ضمنياً. ونحن ما كتبنا هذا المبحث إلاّ ليضمن هذا الاستغفار المعنوي، فلا يلتبس على المؤمن الحق والباطل، ولا يوصم خصمه المحق بالظلم.

وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:

رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الأمر إلى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول أمور سياسية، بينما رأيته قد أثنى ـ في الوقت نفسه ـ على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فأصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت باللّه مما آلت إليه السياسة وقلت: )أعوذ بالله من الشيطان والسياسة(.

ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.

من رسالة )مرقاة السنة وترياق مرض البدعة(:

حب الله ورسوله r

النكتة العاشرة:

قال تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحبّون الله فاتّبعوني يُحْببكُم الله ).

في هذه الآية الكريمة إيجاز معجز، حيث إن معاني كثيرة قد اندرجت في هذه الجمل الثلاث:

تقول الآية الكريمة: )إن كنتم تؤمنون بالله، فإنكم تحبونه، فما دمتم تحبونه فستعملون وفق ما يحبه، وما ذاك إلاّ تشبهكم بمن يحبه.. وتشبهكم بمحبوبه ليس إلاّ في اتباعه، فمـتى ما اتبعتموه يحبكم الله، ومـن المعلوم أنكم تحـبون الله كـي يحبكم الله(.

وهكذا فهذه الجمل ما هي إلاّ بعض المعاني المختصرة المجملة للآية، لذا يصح القول: إن أسمى مقصد للإنسان وأعلاه هو أن يكون أهلا لمحبة الله.. فنص هذه الآية يبين لنا أن طريق ذلك المقصد الأسنى إنما هو في اتباع )حبيب الله( والاقتداء بسنته المطهرة. فإذا ما أتثبتنا في هذا المقام ثلاث نقاط فستتبين الحقيقة المذكورة بوضوح.

النقطة الأولى:

لقد جُبل هذا الإنسان على محبة غير متناهية لخالق الكون، وذلك لان الفطرة البشرية تكنّ حباً للجمال، ووداً للكمال، وافتتاناً بالإحسان، وتتزايد تلك المحبة بحسب درجات الجمال والكمال والإحسان حتى تصل إلى أقصى درجات العشق ومنتهاه.

نعم إن في القلب الصغير لهذا الإنسان الصغير يستقر عشق بكبر الكون. إذ إن نقل محتويات ما في مكتبة كبيرة من كتب، وخزنها في القوة الحافظة للقلب - وهي بحجم حبة عدس - يبين أن قلب الإنسان يمكنه أن يضم الكون ويستطيع أن يحمل حباً بقدر الكون.

فما دامت الفطرة البشرية تملك استعداداً غير محدود للمحبة تجاه الإحسان والجمال والكمال.. وان لخالق الكون جمالا مقدساً غير متناه، ثبوته متحقق بداهة بآثاره الظاهرة في الكائنات.. وان له كمالا قدسياً لا حدود له، ثبوته محقق ضرورة بنقوش صنعته الظاهرة في هذه الموجودات.. وان له إحسانا غير محدود ثابت الوجود يقينا، يمكن لمسه ومشاهدته ضمن إنعامه وآلائه الظاهرة في جميع أنواع الأحياء.. فلابد انه سبحانه يطلب محبة لا حد لها من الإنسان الذي هو اجمع ذوي الشعور صفة، وأكثرهم حاجة، وأعظمهم تفكراً، وأشدهم شوقاً إليه.

نعم، كما أن كل إنسان يملك استعدادا غير محدود من المحبة تجاه ذلك الخالق ذي الجلال، كذلك الخالق سبحانه هو أهل ليكون محبوبا، لأجل جماله وكماله وإحسانه اكثر من أي أحد كان، حتى إن ما في قلب الإنسان المؤمن من أنواع المحبة ودرجاتها للذين يرتبط بهم بعلاقات معينة، ولاسيما ما في قلبه من حب تجاه حياته وبقائه، وتجاه وجوده ودنياه، وتجاه نفسه والموجودات بأسرها، إنما هي ترشحات من تلك الاستعدادات للمحبة الإلهية. بل حتى أشكال الاحساسات العميقة - عند الإنسان- ما هي إلاّ تحولات لذلك الاستعداد، وما هي إلاّ رشحاته التي اتخذت أشكالا مختلفة.

ومن المعلوم أن الإنسان مثلما يتلذذ بسعادته الذاتية، فهو يتلذذ أيضاً بسعادة الذين يرتبط بهم بعلاقة ومحبة ومثلما يحب من ينقذه من البلاء، فهو يحب من ينجي محبيه من المصائب أيضاً.

وهكذا، فإذا ما فكر الإنسان وروحه مفعمة بالامتنان لله، في إحسان واحد فقط مما لا يعد ولا يحصى من الإحسانات العظيمة التي قد غمر بها الله سبحانه وتعالى الإنسان وشمله بها، فانه سيفكر على النحو الآتي:

إن خالقي الذي أنقذني من ظلمات العدم الأبدية، ومنحني منحة الخلق والوجود، ووهب لي دنيا جميلة استمتع بجمالها هنا على هذه الأرض، فان عنايته أيضاً ستمتد إليّ حين يحين اجلي، فينقذني كذلك من ظلمات العدم الأبدي والفناء السرمدي، وسيهب لي - من فضل إحسانه - عالماً أبدياً باهرا زاهرا في عالم البقاء في الآخرة.. وسينعم عليّ سبحانه بحواس ومشاعر ظاهرة وباطنة لتستمتع وتتلذذ في تنقلها بين أنواع ملذات ذلك العالم الجميل الطاهر.

كما انه سبحانه سيجعل جميع الأقارب، وجميع الأحبة من بني جنسي الذين اكن لهم حباً عميقاً وارتبط معهم بعلاقة وثيقة، سيجعلهم أهلاً لهذه الآلاء والإحسانات غير المحدودة.. وهذا الإحسان - من جهة - يعود عليّ كذلك، إذ إنني أتلذذ بسعادة أولئك، واسعد بها.. فما دام في كل فرد حب عميق وافتتان بالإحسان كما في المثل: )الإنسان عبد الإحسان( فلابد أن الإنسان أمام هذا الإحسان الأبدي غير المحدود سيقول:

لو كان لي قلب بسعة الكون لاقتضى أن يملأ حباً وعشقاً تجاه ذلك الإحسان الإلهي، وأنا مشتاق لملئه، ولكن رغم إنني لست على مستوى تلك المحبة فعلا، إلا أنني أهل لها بالاستعداد والإيمان، وبالنية والقبول، وبالتقدير والاشتياق، وبالالتزام والإرادة.

وهكذا ينبغي قياس ما يظهره الإنسان من المحبة تجاه )الجمال( وتجاه )الكمال( بمقياس ما أشرنا إليه مجملا من المحبة تجاه )الإحسان(.

أما الكافر الملحد، فإنه يحمل عداء لا حد له فهو يستخف بالموجودات من حوله، ويستهين بها، ويمتهنها، ويناصبها العداء والكراهية.

النقطة الثانية:

إن محبة الله تستلزم اتباع السنة الطاهرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، لان حب الله هو العمل بمرضياته، وان مرضاته تتجلى بأفضل صورها في ذات محمد صلى الله عليه وسلم. والتشبه بذاته المباركة في الحركات والأفعال يأتي من جهتين:

إحداهما: جهة حب الله سبحانه وإطاعة أوامره، والحركة ضمن دائرة مرضاته، هذه الجهة تقتضي ذلك الاتباع، حيث إن اكمل إمام وامثل قدوة في هذا الأمر هو محمدr .

وثانيتهما: جهة )ذاته المباركة(r التي هي أسمى وسيلة للإحسان الإلهي غير المحدود للبشرية، فهي إذن أهل لمحبة غير محدودة لأجل الله وفي سبيله.

والإنسان يرغب فطرة في التشبه بالمحبوب ما أمكن، لذا فالذين يسعون في سبيل حب )حبيب الله( عليهم أن يبذلوا جهدهم للتشبه به باتباع سنته الشريفة.

النقطة الثالثة:

كما أن لله سبحانه وتعالى رحمة غير متناهية، فله سبحانه كذلك محبة غير متناهية. وكما انه يحبب نفسه - بصورة غير محدودة - بمحاسن الكائنات جميعاً وبجمالها وزينتها إلى مخلوقاته، فإنه كذلك يحب مخلوقاته، ولاسيما أصحاب الشعور منهم الذين يقابلون تحببه لهم بالحب والتعظيم. لذا فإن أسمى مقصد الإنسان في مرضاة ربه، وأجلّ سعيه هو أن يكون موضع نظر محبة الله الذي خلق الجنة بلطائفها ومحاسنها ولذائذها ونعمها بتجل من تجليات رحمته.

وبما أن أحداً لا يمكنه أن يكون أهلا لمحبته سبحانه إلاّ باتباع السنة الأحمدية كما نص عليه كلامه العزيز، إذن فاتباع السنة المحمدية هو اعظم مقصد إنساني واهم وظيفة بشرية.

من الملاحق

مهمة رسائل النور

إن رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً، بل تعمّر أيضاً تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة عظيمة - صخورها كالجبال - تحتضن الإسلام وتحيط به. وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين بل تسعى أيضاً - وبيدها إعجاز القرآن - لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئت لها وركّمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجة تحطم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع ولا سيما عوام المؤمنين. نعم إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والإيمان.

فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة وأعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجود أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق ( مضاد للسموم) ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حدّ لها.

فرسائل النور النابعة من الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، تؤدي هذه المهمة وفي هذا الوقت أتم أداء، وتحظى في الوقت نفسه بكونها مدار انكشاف لمراتب غير محدودة للإيمان ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية.

وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة، فسمعتها كاملة، وشكرت الله كثيراً. أجملتها لكم.

ولمناسبة هذه الحادثة أبيّن لكم حادثة وردت على خاطري في هذه الأيام:

عندما كنت أذكر كلمة التوحيد في ختام أذكار الصلاة ثلاثاً وثلاثين مرة وردت هذه الخاطرة على قلبي: إن ساعة التفكر المذكورة في الحديث الشريف (تفكر ساعة خير من عبادة سنة)[5] موجودة في رسائل النور، فاسع للعثور عليها وامتلاكها...

* * *

الفهرس

الإهداء .................................................

المقدمة ...................................................

القسم الأول: سيرة حياة بديع الزمان سعيد النورسي

توطئة ..................................................

الفصل الأول: حياته الأولى ........................

مولده ...................................................

نشأته ...................................................

خطواته الأولى نحو العلم ..........................

إجازته العالمية............................................

الذكاء الخارق...........................................

سعيد المشهور...........................................

الملا سعيد في وان.......................................

الخبر المدهش ..........................................

إلى استانبول مرة أخرى .............................

أول تهمة في أول محكمه .........................

في سلانيك ...........................................

مفهوم الحرية ..........................................

لقاء مع شيخ من الأزهر .............................

حادثة 31 مارت ....................................

محاكمة ................................................

إلى الشام ...............................................

بديع الزمان قائداً ومفتياً ............................

في الحرب العالمية الأولى ............................

عزة المؤمن الأسير .....................................

ذكريات الأسر ........................................

في دار الحكمة الإسلامية ..........................

نذير الصحوة .........................................

فتوى ...................................................

مع مصطفى كمال ...................................

آثاره في هذه الفترة..........................................

رحلة إلى وان .........................................

ثورة الشيخ سعيد بيران .............................

اعتقال ونفي ...........................................

إلى بارلا على متن زورق ...........................

الفصل الثاني: ظهور رسائل النور

بارلا .....................................................

عزة ووحشة ...........................................

بداية التعارف ........................................

رسائل النور ............................................

السبيل إلى نشر الرسائل .............................

النساء في طريق النور ................................

موجة جديدة .........................................

من إسبارطة إلى الاعتقال ...........................

لمعات من ظلمات السجن .........................

الدفاع المشهور ........................................

طريفة ...................................................

نفي بديع الزمان إلى قسطموني ..................

سعاة بريد النور .......................................

توبة سكير .............................................

مقابلة مع الوالي ......................................

مع طلاب المدارس .................................

تهمة جديدة ومحاكمة أخرى ...................

التبليغ واجب .........................................

والي أنقرة ينتحر ......................................

سجن دنيزلي .........................................

دفاع رائع ..............................................

في أميراداغ ............................................

في محكمة )آفيون( ..............................

مراحل حياة بديع الزمان .........................

إلى )اميرداغ ( مرة أخرى .......................

الفصل الثالث : أواخر حياته

سنة 1950 .........................................

محكمة أخرى في )استانبول( ................

المحكمة ..............................................

محكمة صامسون 1953 ......................

بديع الزمان وبطريرك الروم ......................

عودة إلى مدينة الذكريات )بارلا( ...........

محكمة آفيون تبرئ ساحة رسائل النور .......

الأستاذ في الانتخابات العامة 1957 .....

أواخر أيامه .........................................

لقاء الوداع ..........................................

ملاحقة حتى الموت ...............................

اللحظات الأخيرة ..................................

قضية نقل رفات الأستاذ عام 1960 ..........

الختام .................................................

القسم الثاني: دراسة تحليلية موجزة لرسائل النور

ملحوظة .............................................

الأستاذ قبيل كتابة الرسائل ......................

كيف كانت تكتب الرسائل ...................

ما رسائل النور ....................................

من خصائص رسائل النور ......................

طريقة عرض الموضوع ............................

الأسلوب ...........................................

أسلوب مخاطبة المعارضين .....................

أسلوب الاستثناء .................................

أسلوب رد الشبهات ............................

أسلوب بديع لدراسة التاريخ وتفسيره .......

نظرة تحليلية إلى الخلافات الفكرية ............

ضرب الآمال ......................................

مفعول الرسائل .....................................

مصنفات رسائل النور ............................

أدب رسائل النور .................................

أي رسالة أفضل؟ ...............................

مع السنة النبوية الشريفة .........................

مع الفقه .............................................

مع علم الكلام ....................................

مع التصوف .......................................

مع العلوم الكونية .................................

مع الفلسفة .......................................

المنهج الاستدلالي .................................

نهج رسائل النور في مخاطبة الناس ...........

ترجمة رسائل النور ................................

القسم الثالث : نماذج مستلّة من كليات رسائل النور المترجمة

1- الحق يعلو ....................................

2- ما الذي ألقانا في غياهب الضياع ........

3- دساتير في الاخوة ............................

4- من رسالة )مرقاة السنة وترياق مرض البدعة(. ....................................

5- مهمة رسائل النور ............................

[1] حديث حسن أخرجه القضاعي في مسند الشهاب وابن عساكر في تاريخ دمشق، 2/420/2 وانظر الصحيحة 426 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 6538.

[2] لعبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب (أدب الدنيا والدين ص 37) والبيت منسوب للإمام الشافعي أيضاً. (ديوان الشافعي ص 91) طبعة دار النور – بيروت. وفيه كما أن عين السخط.

[3] البيت للمتنبي. انظر العرف الطيب في شرح ديوان ابي الطيب. ص 387 – دار القلم، بيروت.

[4] حافظ الشيرازي: (1320-1389م). هو شمس الدين محمد الشهير بحافظ الشيرازي شعراء فارس على الاطلاق، لا يعرف إلاّ القليل عن نشأته. له (ديوان) شعر مليء بالقصائد التي عرضت لمعظم الفنون الشائعة في عصره. انظر: كشف الظنون 1/783

[5] قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء 1/58: حديث: تفكر ساعة خير من عبادة سنة: ابن حبان كتاب العظمة من حديث ابي هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ورواه أبو المنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس بلفظ ثمانين سنة وإسناده ضعيف جداً، ورواه أبو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة. ا هـ. وانظر كشف الخفاء 1/310 والأحاديث المشكلة ص 113.