المجلد السادس: الصهيــونيــــة 3
المصــادر العلمانيـة للفكـر الصهيونـي
Secular Sources of Zionist Thought
تظهر علمانية الصهيونية في مصادرها الفكرية المتنوعة والمتعددة والتي تنتمي كلها للأنساق الفكرية العلمانية الغربية. وقد عبَّرت المنظومة العلمانية عن نفسها من خلال ما نطلق عليه «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» التي ترى العالم بأسـره مادة نسـبية يمكن توظيفها لصالح الإنسان الغربي، وهذه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، فهي صيغة تستند إلى رؤية إمبريالية (من الناحية المعرفية) تهدف إلى توظيف اليهود (والعرب) باعتبارهم مادة بشرية يمكن نَقْلها واستخدامها، كما تهدف إلى توظيف الطبيعة (الأرض أو فلسطين) باعتبارها مادة طبيعية، إذ لا قداسة ولا حرمة لأي شيء. أما من الناحية الأخلاقية، فإن الصهيونية ممارسة علمانية إمبريالية تقوم على العنف وإبادة السكان الأصليين أو طَرْدهم من أرضهم، وهي تستـعين بالإمـبريالية الغربية في تنفيذ مخططها، سواء في نَقْل اليهود من بـلادهــم أو في طَـرْد الفلسطينيين من وطنهم.
ولكن، إلى جانب هذا الإطار الأساسي العام، تُوجد بعض الأفكار الغربية العلمانية المحددة التي تركت أثراً عميقاً في الفكر الصيهوني، كما شكلت مصادره الأساسية والمباشرة. وفيما يلي المصادر الأساسية للفكر الصهيوني، وسنذكر بعد كل مصدر العناصر التي استقاها النسق الفكري الصهيوني منه، ثم نورد (بين قوسين) عنوانالمدخل أو المداخل التي يجد فيها القارئ معالجة مستفيضة للموضوع.
1 ـ الفكر الصهيوني الاسترجاعي ذو الديباجات المسيحية: عودة اليهود ـ فلسطين كمركز تجمُّع لهم ـ اليهود كشعب مختار منبوذ ـ توظيف الديباجات الدينية (انظر: «الأحلام والعقائد الألفية» ـ «العقيدة الاسترجاعية»).
2 ـ فكر حركة الاستنارة: رفض سلبية الدين اليهودي وغيبيته ـ رفض خنوع الشخصية اليهودية ـ الإيمان بالتقدم وبأن اليهود حَمَلة التقدم للشرق ـ العودة لن تتم إلا من خلال التخطيط البشري (انظر الباب المعنون «الاستنارة اليهودية»).
3 ـ فكر حركة معاداة الاستنارة: الرؤيـة العضويـة ـ أسبقية الأمـة على الـفرد (انظر: «الشعب العضـوي [فولك[ »).
4 ـ الدولة المطلقة: الدولة هي القيمة المطلقة والقيمة الحاكمة في النسق الصهيوني وهي الإطار الذي ستُوظَّف من خلاله المادة البشرية المنقولة (انظر: «الدولة اليهودية» ـ«بعض الاختلافات الصهيونية بشأن الدولة الصهيونية»( .
5 ـ القومية العضوية أو الشعب العضوي: اليهود يكوِّنون شعباً عضوياً مرتبطاً بأرضه برابطة حلولية عضوية، فلابد أن يعود إليها. ويُلاحَظ أن الدولة القومية هي الإطار الذي يعبِّر الشعب العضوي من خلاله عن نفسه (انظر: «الشعب العضوي المنبوذ«).
6 ـ الفكر العرْقي العلماني (وخصوصاً معاداة اليهود والفاشية والنازية): اعتماد العرْق والوراثة (لا الدين) مقياساً ـ تَفوُّق اليهود على العرب ـ الخضوع للعنصر اليهوديالمتفوق (انظر الباب المعنون «العنصرية الصهيونية». وانظر أيضاً الباب المعنون «بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا»، والباب المعنون «إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية»).
7 ـ النيتشوية: اليهود كأمة متفوقة (سوبر أمة) ـ العنف كآلية حتمية للبقاء ـ رفض أخلاق الضعفاء (الدينية) واعتماد إرادة القوة باعتبارها المطلق الأخلاقي الوحيد (انظر: «النيتشوية والصهيونية»).
8 ـ الداروينية أو التطورية: البقاء (المادي) هو القيمة الوحيدة المطلقة ـ سيحقق اليهود البقاء باعتبارهم العنصر الأصلح والأقوى ـ بقاء الشعب اليهودي هو الهدف من الوجود ـ اليهود أهم من اليهودية (انظر: «الداروينية الاجتماعية»).
9 ـ الرومانسية: العودة للأرض كمطلق ـ عبادة الفعل الجسدي المباشر ـ كرامة العمل اليدوي (انظر الباب المعنون «الصهيونية العمالية»).
10 ـ البرجماتية: اليهود أكثر حركية من العرب، ولذا فإن الأرض تصبح من حقهم، وعلى العرب الرضوخ للأمر الواقع (انظر: «هوراس كالن والبرجماتية»)
11 ـ النفعية أو نَفْع اليهود: اليهود كعنصر وظيفي استيطاني يمكن توظيفه ـ الدولة الصهيونية الوظيفية (انظر: «نَفْع اليهود» ـ انظر أيضاً الباب المعنون «الدولة الصهيونية الوظيفية»).
12 ـ الليبرالية والرأسمالية: المشروع الصهيوني مشروع رأسمالي استعماري ـ المشروع الصهيوني سيصرف الشباب اليهودي عن الحركات الاشتراكية (انظر: «الصهيونية العامة» ـ «الصهيونية التصحيحية»).
13 ـ الفكر الاشتراكي: المشروع الصهيوني مشروع اشتراكي تعاوني ـ إسرائيل دولة اشتراكية ستقوم بتثوير المنطقة ـ ستقوم الصهيونية بشفاء اليهود من أمراض الطفيلية (انظر: «الصهيونية العمالية»).
وبإمكان القارئ أن يعود إلى الباب المعنون «إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية».
الرؤيــة المعــرفيـة العلمانيــة الإمبرياليــة والصهــيونيــة
Secular Imperialist Epistemological Outlook and Zionism
ثمـة علاقة بنيوية بين الرؤيــة المعرفـية العلمانية الإمـبريالية والتشكيل الاستعـماري الغربـي من جهـة والصهيونية من جهة أخرى:
1 ـ فالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية منظومة تركز على هذه الدنيا فتراها في إطار الواحدية المادية وترى أن هدف الإنسان في الكون هزيمة الطبيعة والإنسان وحوسلتهما وتسخيرهما، وهي تقوم بترشيد الإنسان والمجتمع على هدي هذه المنظومة. وهذا ما فعلته الصهيونية بفلسطين، واليهود والعرب، فقد فرضت الواحدية المادية على فلسطين ورشَّدتها وحولتها من أرض مقدَّسة (صهيون) إلى مكان غير مقدَّس للاستيطان كما رشَّدت اليهود والعرب وحولتهم إلى مادة بشرية تُنقَل من مكان إلى آخر، فاليهود مادة استيطانية نافعة تُنقَل من أوربا إلى فلسطين، أما العرب فهم مادة بشرية لا نفع لها، ولذا فهي تُطرَد من فلسطين.
2 ـ تستبعد الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية أي إيمان بأية حدود ويأخذ هذا شكل النزعة المشيحانية في الصهيونية وما يُسمَّى «دحيكات هاكتس»، أي «التعجيل بالنهاية».
3 ـ الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية تجعل الإنسان الغربي مركز الكون وتُسبغ عليه محورية وقداسة ومطلقية فهو صاحب رسالة حضارية تُسمَّى عبء الرجل الأبيض. وهذا ما فعلته الصهيونية مع اليهود الذين تحولوا إلى شعب مختار بالمعنى المادي العلماني.
4 ـ مركزية الإنسان تمنحه حقوقاً مطلقة وتجعله المرجعية الوحيدة. وهذا ما فعلته الصهيونية مع اليهود إذ جعلتهم شعباً عضوياً يرتبط ارتباطاً عضوياً بأرضه وتراثه وهو ما يعطيه حقوقاً مطلقة في هذه الأرض يمكنه بمقتضاها أن ينقل سكانها بعيداً عنها أو يوظفهم في خدمته، ثم يستورد إلى هذه الأرض من يشاء من البشر (المهاجرين السوفييت) ويمنع عنها من يشاء (الفلسطينيين العرب).
5 ـ المنظومة العلمانية الإمبريالية تنكر الآخر وأىة منظومات قيمية أخلاقية إلا أخلاق القوة وهذا يتضح في النزعة النيتشوية القوية في الفكر الصهيوني (انظر: «النيتشوية والصهيونية» ـ «المصادر العلمانية للفكر الصهيوني»).
6 ـ الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية مبنية على تصدير المشاكل للخارج بحيث يدفع بقية العالم فواتير التقدم الأوربي. والحل الصهيوني بهذا المعنى هو حل إمبريالي مبني على تصدير المسألة اليهودية إلى فلسطين لحل مشاكل أوربا وتوظيف العنصر البشري لصالحها. أما على المستوى السياسي فقد قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية بحيث أصبحت قاعدة للاستعمار الغربي تدين له ببقائها وتقوم على خدمته فهي دولة وظيفية تابعة للإمبريالية الغربية.
الباب السادس: الخطاب الصهيوني المـراوغ
ســــــمات الخطــــاب الصهيونـــــي المـــراوغ
Charactaristics of the Evasive Zionist Discourse
كلمة «خطاب» العربية هي ترجمة لكلمة «ديسكورس discourse» الإنجليزية. وكلمة «خطاب» كلمة مركبة وخلافية ولها معان عديدة إذ تطوَّر حقلها الدلالي بشكلملحوظ منذ الخمسينيات مع ظهور البنيوية وما بعدها. وقد عُرِّف الخطاب (بالمعنى المعجمي المباشر) بأنه "كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً". ولكن للكلام دلالات غير ملفوظة يدركها المتحدث والسامع دون علامة معلنة واضحة. ولذا عُرِّف الخطاب بأنه نظام من القول له قواعده وخواصه التي تحدِّد شكل الجمل وتتابعها والصور المجازية والخواص اللفظية ونوع الأسئلة التي تُسأل والموضوعات الأساسية الكامنة، وما يُقال وما يُسكت عنه، أي تحدِّد الاستدلالات والتوقعات الدلالية. ويتم إنتاج المعرفة الإنسانية من خلال الخطاب، وكثيراً ما تستمد هذه المعرفة مصداقيتها من القواعد التي تحكمها وليس من مطابقة تلك المعرفة لما هو حاصل أو واقع. ولذا فإنتاج الخطاب وتوزيعه ليس حراً أو بريئاً، كما قد يبدو من ظاهره.
ولكل مجتمع خطابه إذ تتآلف الجمل لتشكل نصاً مفرداً، وتتآلف النصوص لتُشكل نصاً شاملاً، أي نسقاً فكرياً متكاملاً ورؤية للكون. ومن ثم فالخطاب (من منظور فوكوه) هو مجموعة من المنظومات التي تنتمي إلى تشكيل واحد، يتكرر على نحو دال في التاريخ، بل على نحو يغدو معه الخطاب جزءاً من التاريخ، جزء هو بمنزلة وحدةوانقطاع في التاريخ نفسه. والمحرك الأساسي وراء شكل الخطاب (عند فوكوه وغيره) هو الرغبة في الاستئثار بالقوة من قبَل فئات اجتماعية (وهو تفسير دارويني نيتشويللإنسان ولسلوكه ودوافعه).
وتحليل الخطـاب هو اسـتنباط القواعـد التي تحكم التوقعات الدلالية، ولذا يتشابك تحليل الخطاب بالسيموطيقا أو علْم العلامات من حيث هو أيضاً بحث في القواعد أو الأعراف التي تحكم إنتاج الدلالة (البازعي والرويلي) .
والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة النابعة من تَعدُّد الجهات التي يتوجَّه لها هذا الخطاب:
1 ـ الصهيونية حركة تابعة يدعمها ويمولها الاستعمار الغربي، ولذا فإن الخطاب الصهيوني يتوجَّه إلى الدول الاستعمارية الراعية.
2 ـ لا تتوجه الصهيونية لهذه الدول وحسب أو لنخبها وحسب وإنما للرأي العام غير اليهودي فيها الذي قد لا يدرك الأبعاد الإستراتيجية للتحالف بين إسرائيل والحضارة الغربية.
3 ـ لابد أن يتوجه الخطاب الصهيوني للمادة البشرية المُستهدَفة، أي تلك الجماعات اليهودية في العالم التي تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية واجتماعية مختلفة.
4 ـ تعـود الصهيونيـة إلى أصـول ثقافية ودينية واجتماعية وطبقية متباينة، وهو ما يجعل لكل فريق صهيوني رؤية وأولويات مختلفة. ومما يجدر ذكره أن التيارات الصهيونية تركت بعض القضايا الأساسية دون اتفاق. فلم يتم الاتفاق على هوية اليهودي، بل لم يتم الاتفاق على هوية الصهيوني. كما لم يتحدد التوجه الاجتماعي أو الاقتصادي للعقيدة الصهيونية.
والمشكلة التي واجهها الخطاب الصهيوني هي كيف يمكن التوجه لكل هذه القطاعات في وقت واحد، إذ كان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها باعتبارها: دولة ديموقراطية تنبع من أيديولوجية ليبرالية وتنتمي إلى الحضارة الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بطرد الفلسطينيين وهَدْم قراهم وديارهم وخوض حروب توسعية تُذكِّر الإنسان بدولة مثل إسبرطة أو بروسيا لا بأثينا. وكان على الدولة الصهيونية أن تُقدِّم نفسها باعتبارها: دولة علمانية متطرفة في علمانيتها، ولكنها في الوقت نفسه دينية متطرفة في تديُّنها، ورأسمالية مغالية في رأسماليتها، واشتراكية مغالية في اشتراكيتها. والحركة الصهيونية تقبل اندماج اليهود في غرب أوربا (حتى لا تثير حفيظة يهود هذه البلاد أو حكوماتها) ولكنها في الوقت نفسه تطالب بتهجير يهود شرقها.
ولإنجاز هذا، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطَرْد أهـلها وتجنيد يهــود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طوَّرت الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد يتسم بدرجة عالية من عدم الاتساق ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورته.
وقد كتب هرتزل قائلاً إنه "حقق شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [أي اليهود المندمجين في غرب أوربا واليهود غير اليهود]، والعناصر اليهودية المحافظة [أي يهود شرق أوربا واليهود المتدينين] ـ وقد حدث ذلك بموافقـة الطـرفين دون أي تنازل من الجــانبين ودون أية تضحية فكرية". كما تَباهَى هرتزل بمصالحة أخرى أجراها بين الحضارة الغربية ويهود العالم.
وهرتزل كان محقاً تماماً فيما يقول، فالخطاب الصهيوني المراوغ (الذي وضع هو أساسه) نجح في إخفاء كل التناقضات وفي التوجه إلى كل القطاعات المعنية، إلى كل قطاع بصوت يرضيه. كما أنه تجاهل العرب تماماً، فلم يذكرهم بخير أو شر. وقد احتفظ هذا الخطاب بتوجُّهه الأساسي من خلال التمسك بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (والمهوَّدة) وإخفائها إلى حدٍّ كبير في آن واحد، على أن تعبِّر عن نفسها من خلال تنويعات عليها تخبئها سحابة كثيفة من الإستراتيجيات والحيل البلاغية المتنوعة التي سندرسها حتى يمكننا أن نفك شفرة الخطاب الصهيوني.
1 ـ محاولة تجاهل الأصول التاريخية أو تزييفها:
من الحيل الأساسية في الخطاب الصهيوني محاولة عزل الظواهر والدوال عن أصولها التاريخية والاجتماعية والثقافية بحيث يبدو الواقع كما لو كان مجرد عملياتوإجراءات ليس لها تاريخ واضح ولا سياق تاريخي محدَّد، ومن ثم فليس لها سبب معروف أو اتجاه محدَّد. فالصراع العربي الإسرائيلي، على سبيل المثال، ليس ثمرة العقدالصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي قامت الدول الإمبريالية بمقتضاه بغرس كتلة بشرية غريبة في وسط العالم العربي والإسلامي،وتحوَّلت هذه الكتلة إلى دولة وظيفية تحتفظ بعزلتها وتقوم بضرب السكان الأصـليين وجيــرانها لصالح الراعي الإمبريالي. إذ يتم تناسي كل هذا، ويُقدَّم الصراع العربيالإسرائيلي باعتباره نتيجة رفض العرب قرار التقسيم وهجومهم "الغاشم" على "اليهود" المسالمين، دون سبب واضح ومفهوم. وتُقدَّم الصهيونية لا باعتيارها حركة استعمارية استيطانية إحلالية وإنما باعتبارها تعبيراً عن الحلم اليهودي المشيحاني الخاص بالعودة إلى صهيون أو أرض الميعاد، أو باعتبارها حركة إنقاذ يهود العالم من هجوم الأغيار.
داخل هذا الإطار، تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني وغير المفهوم، بينما تصبح هجمات إسرائيل على العرب مجرد دفاع مفهوم ومشروع عن النفس. ومن ثم، فإن الجيــش الإسـرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي". وقد سُمِّيت هذه الحيلة «الأكاذيب الصادقة» (بالإنجليزية: ترو لايز true lies)، فهي صادقة بمعنى أن هجوم العرب هو حقيقة مادية لا مراء فيها، فهي واقعة قد وقعت بالفعل. ولكنها أكاذيب بلا شك باعتبار أن هجوم العرب على إسرائيل ورَفْضهم قرار التقسيم ليس نتيجة عناد لاعقلاني وإنما هو دفاع مشروع عن الحقوق الثابتة التي أقرتها المواثيق الدولية والقيم الأخلاقية.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم بعض الحيل الصهيونية البلاغية الأخرى. فالإصرار على "المفاوضات وجهاً لوجه" باعتبارها الحل الوحيد والناجع للصراع العربي الإسرائيلي هو إصرار على إجراءات دون أية مرجعية أخلاقية أو تاريخية، وكأن الصراع أمر غير مفهوم ليس له أصل؛ وكأنه ليس هناك حالة من التفاوت والظلم ناتجة عن الغزو.
وقل الشيء نفسه عن دعوة الأمريكيين لكل من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبط النفس والاستعداد لتقديم التنازلات. ويُضرَب المثل بقرار التقسيم. فقد أظهر الصهاينة الاعتدال بقبول أكثر من نصف فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أظهروا تطرُّفهم برفضهم ما قُدِّم إليهم. فالاعتدال والتطرف في هذا السياق قد عُرِّفا في إطار تجاهل الأصول التاريخية وهو أن المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاءوا إلى أرض فلسطين يحملون السلاح واحتلوا أجزاء منها، وما فعله قرار التقسيم هو قبول حادثة الاغتصاب بل منحهم المزيد من الأرض ليؤسسوا دولتهم فيها.
ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، استمر استخدام هذه الحيلة إلى أن وصلنا إلى شعار "الأرض مقابل السلام" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى "بعض القرى والمدن التي كان قد تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح الغربي تُعاد مقابل السلام الذي يعني وقف المقاومة ويعني الاستسلام". وهذا يعني ببساطة "أرض بلا شعب حي قادر على المقاومة وبلا ذاكرةتاريخية"، أي أنها تعني "نسيان الظلم الذي وقع في الماضي وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية".
ويرتبط بهذا الاتجاه نحو إنكار التاريخ تغليب عنصر المكان على عنصر الزمان فتتحول "فلسطين" إلى "أرض" و"الوطن العربي" إلى "منطقة" وتبحث إسرائيل عن "الحدود الآمنة" الجغرافية التي لا تأبه بالتاريخ. وتُعبِّر نظرية الأمن الإسرائيلية عن هذا التحيز الشديد للجغرافيا والتجاهل الكامل للتاريخ. ولذا، فإن أية حركة من العرب تذكر الصهاينة بوجود عنصر الزمان (كماض وتراث ومخزون للذاكرة وكحاضر وصراع وكمستقبل وإمكانية ومجال للحـرية والحـركة) تولِّد الذعر الشـديد في قلـوب المســتوطنين الصهاينة، وتُسمَّى مثل هذه الحركة "إرهاب".
2 ـ استخدام مصطلحات محايدة هي في جوهرها عمليات تغييب للعرب وللواقع وللتاريخ العربي:
من الحيل الصهيونية البلاغية استخدام مصطلحات تبدو كما لو كانت بريئة محايدة تحل محل المصطلحات ذات المضمون التاريخي والإنساني العربي. ولعل أهم هذهالمحاولات بطبيعة الحال هو الإشارة إلى فلسطين باعتبارها "أرض بلا شعب". فهذه عبارة محايدة للغاية، ففلسطين ليست "فلسطين" أساساً وإنما هي مجرد "أرض" والسلام. وتتبدَّى نفس الظاهرة في الخلاف بشأن قرار مجلس الأمن رقم 242 فينص في مقدمته على مبدأ عدم "جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة" ويتعامل مع الأراضيالفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 ويدعو إلى الانسحاب منها، وهنا طرح الإسرائيليون إشكالية الأراضي المعنية وهي «أراض» كما في النص بالإنجليزية، أو «الأراضي» كما في النص بالفرنسية. وكانوا يفضلون بطبيعة الحال النص الإنجليزي لأنه يحيِّد الأرض ويفقدها حدودها فتصبح كلها قابلة للتفاوض بشأنها. وقد تدهور (تطور) الأمر حين قرر الإسرائيليون أن "الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة والقطاع «أراض متنازع عليها» (بالإنجليزية: دسبيوتيد disputed) وليست «محتلة» (بالإنجليزية: أوكيوبايد occupied) وقد وافقهم الأمريكيون على ذلك. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية أن تشير إلى "الانتفاضة" باعتبارها "أحداث الشغب" أو مجرد "عصيان مدني" ولكن الانتفاضة نجحت في اختراق المعجم الصهيوني واسـتقرت (كالنجم السـاطع) داخل الكلمات العبرية والإنجليزية.
وتظهر عملية التحييد في حديث الصهاينة عن "التقدم" في المنطقة وتحويل الصحراء إلى مزارع خضراء.. إلخ، دون أن يُحدَّد لحساب مَنْ وعلى حساب مَنْ سيتم هذا التقدم. وقد لجأ مارتن بوبر لحيلة مماثلة في خطاب أرسل به لغاندي إذ كتب له محاولاً تبرير الغزو الصهيوني قائلاً إن الأرض لمن يزرعها، وكأن المستوطنين الصهاينة مجرد فلاحين مسالمين وجدوا أرضاً فقاموا بحرثها وزرعها في صبر وأناة بينما يقوم العرب [اللئام] بالتنغيص عليهم! وفي هذا إلغاء كامل لأصول الصراع واستخدام لمصطلحات محايدة تُلغي التاريخ.
3 ـ استخدام مصطلحات دينية يهودية في سياقات تاريخية زمنية:
هذه الحيلة البلاغية مُتضمَّنة في كل الحيل السابقة، ولكنها من الأهمية بمكان بحيث قد يكون من المفيد معالجتها بشكل مستقل. والخطاب اليهودي الحلولي الكموني لا يُفرِّق بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدَّس ولا بين المطلق والنسبي. وهذا ما يفعله الخطاب الصهيوني حين يشير إلى فلسطين باعتبارها «الأرض المقدَّسة» أو «أرض الميعـاد» أو «إسـرائيل» (وهو اسـم يعقوب بعـد أن صارع الرب). واستخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية لا زمنية، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر وصعدوا إلى أرض كنعان لا يختلفون كثيراً عن اليهود السوفييت أو يهود الفلاشاه الذين خرجوا من بلادهم (المنفى) وصعدوا إلى أرض كنعان (دولة إسرائيل). ومن هنا تُسمَّى الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين «عالياه»، من العلو والصعود، بينما الهجرة منها هي «يريداه» بمعنى «الارتداد والكفر». ويؤدي استخدام المصطلحات الدينية إلى خلع القداسة اليهودية على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يعني تحويل اليهود إلى عنصر مرتبط بها عضوياً، أما العرب، فيتم تهميشهم، فهم يقعون خارج نطاق دائرة القداسة.
4 ـ إخفاء دال معيَّن تماماً أو محوه من المعجم السياسي والحضاري أو استخدام دوال تؤدي إلى تغييب العرب:
يلجأ الصهاينة لمحو بعض الدوال تماماً من المعجم السياسي والحضاري حتى يمكن محو المدلول وإخفاؤه من الخريطة الإدراكية. وهذه الإستراتيجية تضرب بجذورها في الخطاب الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يستخدم ديباجات توراتية. فالمستعمرون الاستيطانيون هم «عبرانيون» أو «الشعب المختار»، والبلاد التي يفتحونها (سواء في أمريكا الشمالية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين) هي «صهيون» أو «إسرائيل»، ويُشار إلى سكان هذه البلاد بـ «الكنعانيين»، ولذا فمصيرهم الإبادة. ثم تمت علمنة هذا الاتجاه وأصبح المسـتعمرون الاسـتيطانيون "حمـلة مشعل الحضارة الغربية والاستنارة" وسكان البلاد المغزوة هم «السكان الأصليون» أو «البدائيون» أو «الهمجيون» أو «المتخلفون» أو «الهنود الحمر». وفقدت بلادهم أسماءها فزيمبابوي أصبحت، على سبيل المثال، «روديسيا» ولم تَعُد بلاد الأباشي والتشيروكي تُسمَّى بأسمائها وإنما أصبحت «أمريكا» نسبة إلى "مكتشف" هذه البلاد (أميريجو فيسبوتشي). وقد حدث شيء مماثل في الخطاب الصهيوني، فالمستوطنون الصهاينة هم «العبرانيون» (و«الحالوتسيم» في المعجم العلماني، أي الرواد الذين وصلوا إلى الأرض فاكتشفوها) أما سكان البلاد الأصليون فقد أصبحوا إما «كنعانيين» أو «إشماعيليين» (وفي الصياغة البلفورية العلمانية «الجماعات غير اليهودية»). وتمت إعادة تسمية فلسطين فأصبحت «إسرائيل» وأصبحت عملية الاستيلاء على فلسطين هي مجرد «إعلان استقلال إسرائيل». واستمرت هذه العملية بعد عام 1948، فأصبحت أم الرشراش «إيلات» وأصبحت الضفة الغربية «يهودا والسامرة». وقد اتسع نطاق هذه العملية فيالوقت الحاضر بحيث بدأ الاتجاه نحو تغييب العالم العربي بأسره وليس الفلسطينيين وحدهم. ومن هنا الحديث عن «السوق الشرق أوسطية» بدلاً من الحديث عن «العالمالعربي». فالسـوق الشـرق أوسـطية تعـني أن هناك بلداناً مختلفة في هذه «المنطقة» وأن عروبتها مسألة وهمية أو هامشية ليست ذات قيمة تفسيرية أو تصنيفية عالية.
ويبدو أن هناك اتجاهاً في هذه الأيام لمحو كلمة «مقاومة» من المعجم السياسي بحيث يهيمن دال واحد هو كلمة «إرهاب»، وتصبح أعمال المقاومة التي لها جذور تاريخيةومعنى محدد مجرد «إرهاب» أو «هجمات انتحارية» ليس لها سبب واضح ولا اتجاه مفهوم. ولذا، نجد أن مؤتمر شرم الشيخ حاول تعريف «الإرهاب» ولم يأت أي ذكر لكلمة «مقاومة». ومن هنا يمكن إدراك حجم الإنجاز الذي حققته اتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان (حزب الله) وإسرائيل، فهي اتفاقية قد نصت على حق الدفاع عن النفس، أي حق المقاومة.
5 ـ الخلط المتعمد بين بعض الدوال وفرض نوع من الترادف بينها:
يعمـد الصهـاينة إلى الخلـط بين بعـض الدوال التي لها حـدود معروفة. ومن أهم هذه العمليات محاولة الخلط بين مصطلحات «يهودي» و«صهيوني» و«إسرائيلي» وأحياناً «عبراني»، وذلك على الرغم من أن كل مصطلح له مجاله الدلالي الواضح. وقد جرى الخلط بينها لتأكيد مفهوم الوحدة اليهودية الذي يشكل جوهر الرؤية الصهيونية. وقد شاع الاستخدام الصهيوني في العقول حتى أصبح الحديث عن «الدولة اليهودية» و«دولة اليهود» و«الدولة الصهيونية» ممكناً باعتبارها عبارات مترادفة.
6 ـ استخدام اسم يشير إلى مسميات مختلفة:
يُستخدم اسم مثل «الشعب اليهودي» دون تعريف هذا الشعب اليهودي، و«إرتس يسرائيل» دون التحدث عن حدودها. وحيث إن لكل صهيوني تعريفه الخاص، فإن الاسم هنا يشير إلى مسميات مختلفة تختلف باختلاف من يستخدم الدالّ: توطينياً كان أم استيطانياً، علمانياً كان أم متديناً؟ وهذا الإبهام يعني أن الصهيوني يمكن أن يكون معتدلاً إن شاء (فيُصرح بأن الشعب اليهودي هو من هاجر بالفعل إلى إسرائيل)، ويمكنه أن يكون متطرفاً إن ذكر عكس ذلك (الشعب اليهودي هو كل يهودي أينما كان)، وحدود إرتس يسرائيل هي حدود 1948 أو 1967 أو من النيل إلى الفرات، والأمر متروك دائماً للاعتبارات البرجماتية. والشيء نفسه ينطبق على مصطلح «صهيوني» نفسه، فهو مصطلح مطلق يشير إلى كل من يرى نفسه كذلك بغض النظر عما يفعله بعد ذلك. فاليهودي، الذي يجعل الولايات المتحدة وطنه ويقود سيارته مكيفة الهواء ويدفع بضعة دولارات للمنظمة الصهيونية، يمكن أن يعتبر نفسه صهيونياً (إن كان ذلك يروق له)، ومن ينتقل إلى الضفة الغربية ويحمل السلاح ضد أهلها هو صهيوني كذلك.
ويمكننا هنا الإشارة إلى الصورة المجازية العضوية الحلولية الكمونية المتواترة في الخطاب الصهيوني، فهي صورة مجازية تفترض أن الأرض والشعب متوحدان من خلال روح تحل فيهما هي مصدر التماسـك العضوي بينهما. وهـذه الروح تُسمَّى «الإلـه» في الخطاب الديني، وهي «روح الشعب» في الخطاب العلماني. وداخل هذا الإطار، يمكن أن يشير الدالّ الواحد (الروح) إلى مدلولين. وأثناء إعداد وثيقة إعلان الدولة الصهيونيـة التي يُقال لها «وثيقة إعـلان استقلال إسرائيل»، نشب خلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة العلمانيين حول عبارة «واضعين ثقتنا في الإله» حيث أصر الدينيون على تضمينها في ديباجة الوثيقة. وقد حُلَّ الخلاف عن طريق تبنِّي عبارة «تسور يسرائيل» والتي تعني حرفياً «صخرة إسرائيل» ولكنها تعني أيضاً «الإله». ومعنى هذا أن دالاًّ واحداً وهو «صخرة إسرائيل» يمكن أن يؤدي معنىً إلحادياً للعلمانيين ومعنى دينياً للمتدينين، فالصخرة قد تكون الإله وقد تكون روح الشعب وقد تكون أساساً مادياً متيناً لتأسيس الدولة الصهيونية.
7 ـ اسـتخدام أسماء مختلفة تشير إلى مسمَّى واحد أو إلى مسميات مختلفة توجد رقعة عريضة مشتركة بينها:
يستخدم الصهاينة اصطلاحات كثيرة مثل «الصهيونية السياسية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية الدينية»... إلخ، وهي تيارات صهيونية عديدة يمكن اختزالها في نوعين اثنين: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية. كما يُشار إلى فلسطين المحتلة باعتبارها «اليشوف» أو «إرتس يسرائيل» أو «إسرائيل».
والأسلوبان السابقان في التعامل مع الدوال مسألة تضرب بجذورها في طريقة استخدام المصطلحات في التراث الديني اليهودي حيث نجد أن كلمة مثل «التوراة» لها عدةمسميات.
8 ـ استخدام مصطلحات لكل منها معنيان؛ معنى معجمي مباشر ظاهر ومعنى آخر حضاري كامن:
يستخدم الصهاينة عبارات تبدو بريئة وساذجة إن عُرِّفت حسب مجالها الدلالي المعجمي المباشر وحسب، ولكن معناها الحقيقي يتضح إن عُرِّف مجالها الدلالي من خلال المعجم الحضاري، فتعبيرات مثل «القانون الدولي العام» أو «القانون العام» أو «قانون الأمم» تعني في المعجم اللفظي دلالاتها الحرفية، ولكنها في المعجم الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر تعني «قانون الدول الغربية الاستعمارية» أو «القانون الاستعماري الدولي». وينطبق الوضع نفسه على عبارة مثل «شركة ذات براءة»، فمعناها الحرفي أنها "شركة" حصلت على براءة لا أكثر ولا أقل ولكنها في المعجم الحضاري والسياسي الغربي تعني «شركة استيطانية تشبه الدولة تقوم بنقل كتلة بشرية غربية وتوطِّنها منطقة في آسيا أو أفريقيا لاستغلالها اقتصادياً». ولذا، فإن المعنى الحقيقي (الاستعماري) لكثير من الدوال الصهيونية تتم تخبئته بعناية وراء الكلمات البريئة. ويمكننا أن ندرج مصطلح «السلام» أو «عملية السلام» تحت هذا التصنيف، فكلمة «السلام» قد تُركت مبهمة عامة، وهي يمكن أن تعني: «السلام الدائم» ـ «السلام العادل» ـ «السلام المؤسس على العدل»، ولكنها يمكن أن تعني أيضاً «السلام حسب الشروط الصهيونية/ الأمريكية». وسلوك الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيينيدل على أن المعنى الأخير هو المعنى المقصود.
9 ـ استخدام دوال تعبِّر عن مدلولات هي دون الحد الأدنى الصهيوني المعلن ولكنها تشير إليه:
لعل أهم الأمثلة على هذا الدال الذي استُخدم في مؤتمر بازل للإشارة للدولة اليهودية، فالصيغة الصهيونية الأساسية تم تعديلها في مرحلة هرتزل وبلفور وأصبحت الصيغةالشاملة بحيث أصبحت الدولة (الوظيفية) جزءاً من هذه الصيغة وهي الإطار المفترض لعملية نَقْل اليهود وتوطينهم وتوظيفهم. وهذا ما عبَّر عنه شعار المؤتمر الصهيونيالأول (1897): "تأسيس الدولة هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية". وكان هرتزل قد دوَّن في مذكراته: "اليوم وضعت أساس دولة اليهود". ومع هذا، عند مناقشة القرارات،حاول المجتمعون أن يبتعدوا قدر الإمكان عن استخدام كلمة «دولة» في الإعلان النهائي كيلا يثيروا مخاوف السلطات العثمانية. كما أدرك واضعو البرنامج أن أكثرية اليهود لم تكن موافقة في ذلك الوقت على فكرة أمة يهودية ومن ثم كانت ترفض فكرة الدولة اليهودية. ولذا، فقد اقترح الزعيم الصهيوني ماكس نوردو كلمة «هايمشتات Heimstatte»، وهي كلمة ألمانية مبهمة قد توحي بمعنى «الاستقلال» ولكنها لا تعني بالضرورة «دولة». ويقول نوردو نفسه إنه استخدم طريقة المواربة أو الدوران حول المعنى واقترح الكلمة المذكورة (ومعناها: بيت ـ دار ـ ملاذ ـ مأوى ـ موطن ـ منزل) كمرادف لكلمة «دولة»، ثم أضاف نوردو قائلاً: "ولكننا جميعاً فهمنا المقصود بها. وقد دلت آنذاك بالنسبة لنا على دولة يهودية كما هي الآن".
وكتب هرتزل في دي فيلت في 9 يوليه يقول: "الاحتمال الوحيد أمامي هو إنشاء «بيت» (ملجأ) بحماية «قانون الأمم» أو «قانون الشعوب» (فولكرشتليخ Volkerrechtlich) لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الحياة في مكان آخر". وحين وردت عبارة «قانون الأمم» أثناء المؤتمر، أثارت العبارة كثيراً من النقاش، فالبعض أخذ على هذه العبـارة ما تتضمنه من الاعـتراف بفكرة تَدخُّل الـدول الغـربيـة العظمى. ولذا، اقترح نوردو كلمة «رختليخ Rechtlich»، أي «قانون» وحسب، فرُفض الاقتراح. وأخيراً، تم التوصل للصيغـة المراوغة «أوفينتليخ ريختليخ Offentlich Rechtlich» أي «القانون العام»، فهي أوسع من كلمة «قانون» التي قد يُفهَم منها قوانين بلدية أو مدنية ولكنها لا تحمل معنى السيادة القومية أو أي شكل منها.
ويرتبط هذا الجانب من الخطاب الصهيوني بمقدرة الصهاينة على قبول الدوال (أو الحلول) المعروضة عليهم حتى لو كانت دون الحد الأدنى الصهيوني مع تأكيد أن القبول أمر مرحلي مؤقت وأن المضمون الحقيقي للدال أو الحل يشير إلى الحد الأدنى الصهيوني الذي قد يكون من الخطر الإعلان عنه أو الإصرار عليه في مرحلة معيَّنة. وحينما أصدرت سلطات الانتداب عملة كانت هذه العملة تحمل كلمة «فلسطين» بالعربية وكلمة «بالستين Palestine» بالإنجليزية، ولكنها لم تحمل سوى حرفي إ. ي بالعبرية (وهما أول حرفين في عبارة «إرتس يسرائيل»)، فقد سُجل الحرفان تأكيداً لحقوق المستوطنين الصهاينة واكتُفي بهما دون العبارة كاملة حتى لا يتم استفزاز العرب. وقد قَبلت القيادة الصهيونية هذا الحل رغم اعتراض بعض "المتشددين"). وحينما عُرض على وايزمان قرار التقسيم (الذي أصدرته اللجنة الملكية عام 1937) فإنه لم يكن يشتمل على صحراء النقب، ولكنه قَبل القرار لأن النقب باقية في مكانها و"لن تجري" (وهو ما يعني إمكانية ضمها فيما بعد). وقد تكرَّر الموقف نفسه من قبل حين أصر بعض الصهاينة على رفض الكتاب الأبيض الأول وعلى عدم القبول إلا بميثاق يهودي، فقال وايزمان انطلاقاً من مبدأ العمل بما هو واقع بدلاً من الإلحاح على الحد الأدنى الصهيوني: "الكتاب الأبيض أمر واقع، ولكن الميثاق ليس كذلك".
وهـذه حيـل لفظية للمراوغة عمل بها الاسـتعماريون الإنجليز من قبل، فحين صدر وعد بلفور الذي ينص على أن فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، قَبله الصهاينة كتسوية مرحلية مع الإبقاء على الحد الأدنى. وهي حيلة قَبلها لويد جورج رئيـس الـوزارة البريطانية إذ قال: "حين يأتي الوقت لمنح فلسطين مؤسسات نيابية ويصبح اليهود الأكثرية المطلقة في السكان، فإن فلسطين ستصبح كومنولث يهودياً".
10 ـ تَرْك فراغات كثيرة ومساحات خالية بين العناصر المختلفة، وعدم رَبْط المقدمات بالنتائج:
يعمد الخطاب الصهيوني إلى ترك فجوات واسعة بين العناصر المختلفة وبين المقدمات والنتائج، فيذكر النتائج دون المقدمات والمقدمات دون النتائج. وقد تُركت هذه المساحات خالية وجرى التزام الصمت حيال بعض النقاط عن عمد لأن ملأها والإفصاح عنها قد يكشف أهداف الصهاينة في مرحلة مبكرة قد لا يَحسُن الكشف عنها مرحلياً (وهذا تكتيك معروف في عالم السياسة. فبعد أن ضمت بروسيا الألزاس واللورين، كان شعار أهل هاتين المنطقتين من الفرنسيين هو: "لا تتحدث عنهما قط، ولا تكف عن التفكير فيهما قط"). وكما قال بن هالبرن (مؤرخ فكرة الدولة اليهودية)، اتفق يهود اليديشية ويهود غرب أوربا على ضرورة الصمت بشأن فكرة السيادة اليهودية والطرق السياسية لتحقيقها. وكتب هرتزل في يومياته "يجب ألا يُكشَف كل شيء للجمهور، يجب كشف النتائج وحسب أو ما قد يحتاج المرء لكشفه في مناقشة ما"! وحذر آحاد هعام من الإفصاح العلني عن "آرائنا" بشأن مستقبل فلسطين، فلا يزال (حينذاك) يشكل خطراً ما دام مستقبل تركيا لم يتقرر بعد. وحينمـا نُوقـشت قضـية مصطلـح «الدولة» في المؤتمر الصـهيوني الأول، واستُخدم مصطلح «وطن قومي»، طمأن هرتزل الجميع قائلاً: "لا داعي للقلق فسوف يقرؤه الناس «دولة يهودية» على أية حال" و"لا داعي لتوخي الدقة لأن الكل يعرف المطلوب في الممارسة، ولا يوجد أي مبرر لجعل مهمة اللجنة التنفيذية أكثر صعوبة مما هي عليه بالإصرار على الدقة". ومعنى قوله هو: كلنا نعرف القصد الصهيوني الصامت، ونعرف الصيغة الصهيونية الأساسية الشـاملة المهوَّدة، وقد قررنا الالتزام بهمـا ولكن لا داعي للإفصاح عنهما.
ولا يلتزم بعض "المتطرفين" أحياناً بعملية الصمت وعدم الإفصاح كما حدث مع جابوتنسكي إبان فترة الانتداب حين أصر على أن يُكتَب اسم «إرتس يسرائيل» كاملاً على العملة، وكان لا يكف عن المطالبة بأن يُعلَن صراحةً أن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على ضفتي الأردن. ولكن القيادة العمالية الحصيفة اكتفت بالحرفين الأولين E.I. فهما يشيران إلى الحد الأدنى الصهيوني.
وهناك حادثة طريفة تبين التصادم نفسه بين من يلتزمون الصمت ومن يحاولون كشفه. ففي إحدى الحملات الانتخابية في إسرائيل، أشار إسحق نافون إلى العـرب باعتبـارهم "إخـوته" وهـو يعني في واقـع الأمـر أنهـم "أعداؤه"، وكل ما في الأمر أنه يحاول خداعهم حتى يحصل على أصواتهم الانتخابية. وحين اعترض بعض السامعين من الإسرائيليين على إشارته الأخوية للعرب صاح نافون: "أنتم عباقرة! أنتم دبلوماسيون! ألا تفهمون؟ إنها مسألة رياضية بسيطة، إن هدف البرنامج العمالي الصهيوني هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرض وأقل عدد ممكن من العرب". وهكذا، فلابد من التخلـص مـن العـربي، هـذا ما يقـوله البرنامـج العمـالي دونإفصـاح، أمـا حكـاية الأخـوة هذه فهي دعاية انتخابية.
11 ـ التأرجح المستمر والمتعمد بين أعلى مستويات التعميم والتجريد وأدنى مستويات التخصيص:
يحاول الصهاينة أن يتحركوا من أعلى مستويات التعميم والتجريد إلى أدنى مستويات التخصيص حسبما تمليه عليهم الاعتبارات البرجماتية. فحين يكون الحديث موجهاً إلى اليهود وإلى الرأي العام في الغرب، فإنه يكون عن أرض الميعاد المقدَّسة وحق اليهود الأزلي فيها والوعد الإلهي الذي ورد في العهد القديم. وهناك الحديث عن النفي إلى بابل والعودة منها كنمط أزلي متكرر وعما لحق باليهود من اضطهاد... إلخ. ولكن، إلى جانب ذلك، هناك الحديث الموجه إلى العرب عن ضرورة تناسي الماضي ومحو الذاكرة والتركيز على الحاضر وعلى التفاوض وجهاً لوجه ودراسة التفاصيل المباشرة والإجراءات والعائد الاقتصادي. وبدلاً من الحديث عن صهيون، يكون الحديث عن سنغافورة كمثل أعلى يُحتذى، وبدلاً من الحديث عن رؤى الأنبياء يكون عن مشاريع الاستثمار، وبدلاً من الحديث عن البلاد والأوطان يكون الحديث عن الفنادق والكازينوهات، وبدلاً من ارتداء ثياب المعارك يكون التركيز على آخر الموضات والمايوهات.
وبطبيعة الحال، يمكن استخدام الخطاب النفعي الإجرائي حين يتوجه الصهاينة إلى الحكومات الغربية طلباً للمعونات إذ يسقط الحديث عن صهيون والأراضي المقدَّسة بطبيعة الحال، ويكون الحديث عن العائد الإسـتراتيجي العسـكري والاقتصـادي للدولة الصهيونية الوظيفية المملوكيـة. ويظهر هذا التأرجح بين أعلى درجات التعميم وأقصى درجات التخصيص في الطريقة التي يُنفَّذ بها شعار "الأرض مقابل السلام"، فرغم أن الأرض أمر محدد إلا أنها تدريجـياً تحوَّلت إلى مفـهوم شديد العمومية، على عكس السلام، الذي تحوَّل من كونه مفهوماً عاماً إلى مجموعة محددة من الإجراءات الاقتصادية والأمنية المادية الصارمة.
12 ـ أيقنة بعض الدوال والعبارات:
من الحيل الصهيونية الأساسية ما نسميه «أيقنة» المصطلح أو العبارة، أي تحويل المصطلح إلى ما يشبه الأيقونة، بحيث يصبح المصطلح مرجعية ذاته وتُختزل الحقيقة المركبة إلى مثل هذه الأيقونة، التي لا تقبل المناقشة أو المراجعة أو الدراسة أو التساؤل. وهذا ما حدث بعض الوقت لعبارة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ولعبارة "المفاوضات وجهاً لوجه". وفي الوقت الحاضر، ظهرت مصطلحات مثل» عملية السلام» و«السلام مقابل الأرض.«
ولعل من أهم العبارات المتأيقنة عبارة "ستة ملايين يهودي" التي يُفترض أنها تشير إلى عدد ضحايا الإبادة النازية من اليهود، وأصبح مجرد التساؤل عن مدى دقة هذا العدد شكلاً من أشكال الكفر يُسمَّى» إنكار الإبادة.«
13 ـ إشاعة بعض الصور التي تختزل الواقع:
وترتبط بالأيقنة محاولة إشاعة بعض الصور المجازية التي تختزل الواقع وتترجمه إلى أطروحة صهيونية. فرغم أن إسرائيل من أكثر الدول تسلُّحاً وشراسة وقوة عسكرية، إلا أن الصورة التي تُشـاع يجب أن تكون صورة إسـرائيل صاحبة الحق المسـالمة التي تدافع عن نفسـها. وقد تمت ترجمة هذا كله إلى صورة داود وجالوت المجازية، بحيث أصبحت إسرائيل داود الصغير الذي لا يوجد معه سوى مقلاع ضد جالوت المدجج بالسلاح والذي يُهاجم داود الصغير بشراسة (ومن الطريف أن الانتفاضة قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ أن الفلسطينيين كانوا هم المسلحون بالمقاليع، أما الإسرائيليون فكانوا هم جالوت المدجج بالسلاح).
ومن الصور الأخرى التي تمت إشاعتها صورة إسرائيل باعتبارها واحة الديموقراطية الغربية (الأمر الذي يتطلب إخفاء كل ما تقوم به من عمليات قمع وإرهاب) ونموذجاً للإنتاجية والكفاءة (الأمر الذي يتطلب إخفاء المساعدات الغربية التي تصب في هذا المجتمع).
14ـ تغيير الاعتذاريات وتنويعها حسب تنوُّع الجمهور المُستهدَف: انظر المدخل التالي.
الاعتذاريات الصهيونية العنصرية ونظرية الحقوق اليهودية المطلقة
Racist Zionist Apologetics and the Theory of Absolute Jewish Rights
»الاعتذاريات» من «عَذَر» بمعنى «رفع عنه اللوم»، و«العُذر» هو «الحجة التي يُعتذَر بها» ويُقال «اعتذر المذنب» أو «اعتذر عن الشيء» بمعنى «أبدى عذره» و«احتج لنفسه». و«الاعتذاريات» هي الحجج التي يسوقها المرء ليرفع اللوم عن نفسه. والاعتذاريات تستند إلى رؤية للذات (الفاعلة) ورؤية الآخر (المفعول به). وفي حالة الاعتذاريات الاستعمارية، نجد أنها في جوهرها نظرية للحقوق يحاول الكيان الغازي أن يبرر عن طريقها عدوانيته وأن يضفي شيئاً من المعنى على فعلته.
وتنطلق الاعتذاريات الصهيونية من الافتراض المحوري في الفكر القومي العضوي والعنصري الغربي الذي يذهب إلى أن أعضاء الحضارة (الغربية) الغازية أكثر تفوقاً من الناحيتين الحضارية والعرْقية من أعضاء الحضارات (الشرقية) المغزوة، وأن تخلُّف هذه الحضارات الشرقية أمر وراثي حتمي، ومن ثم تكون الغزوة الإمبريالية مسألة منطقية وحتمية بل يحتمها منطق التقدم!
وقد تم الغزو الصهيوني لفلسطين مثلما تم أي استعمار استيطاني إحلالي آخر، أي عن طريق العنف واغتصاب الأرض من أصحابها. لكن المادة البشرية الغازية في حالة فلسطين كانت متنوعة غير متجانسـة وكان لها انتـماءات حضارية ودينية وثقافية وسياسية مختلفة، كما أن الصهيونية كان عليها أن تبيع صورتها للاستعمار الغربي وللدول الاشتراكية وليهود العالم، ومن ثم تنوعت الاعتذاريات والتبريرات التي يستند إليها الغزو الصهيوني بشكل يفوق الاعتذاريات الاستعمارية المألوفة، لكن هناك عناصر كثيرة مشتركة:
1 ـ عبء اليهودي الأبيض:
من أهم الاعتذاريات الصهيونية، تلك الاعتذاريات الاستعمارية العامـة، أي التي لا تَصدُر عن منطق أو تسـويغ صهيوني أو يهودي خاص، وإنما تَصدُر عن منطق استعماري عام. ومن المعروف أن الجيوب الاستيطانية البيضاء قامت بتقديم اعتذاريات مفصَّلة لتسويغ وجودها الشاذ في كل من آسيا وأفريقيا. وفي بعض الأحيان، نجد أن الاعتذاريات الصهيونية من النوع التقليدي المألوف الذي يدافع عن نقاء الرجل الأبيض وتفوُّقه. فالإنسان الأبيض في هذه المنظومة هو مثل اللوجوس المتجسد أو موضع الحلول ومركز الإطلاق والركيزة النهائية للكون والتاريخ والذي يدور حوله ويكتسب معنى من وجوده في مركزه. ولهذا، فإن حقوق هذا الإنسان مطلقة وتجبُّ حقوق الآخرين.
وقد وصف اللورد بلفور عملية الاستعمار الاستيطاني بأنها تعبير عن حقوق وامتيازات الأجناس الأوربية، واعتبر عدم المساواة بين الأجناس حقيقة تاريخية واضحة. أما ريتشارد كروسمان، فكان يرى أن الاستعمار الاستيطاني الأوربي يَصدُر عن الإيمان بأن الرجل الأبيض سيقوم بجلب الحضارة إلى السكان الأقل تحضراً في آسيا وأفريقيا، وذلك عن طريق احتلال القارتين فعلياً، حتى لو أدَّى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين (ولا شك في أنها طريقة غريبة ومدهشة أن تدخل الحضارة إلى شعب عنطريق إبادته). أما ماكس نوردو، فقد اقترح (حتى قبل تبنيه الرؤية الصهيونية وتمشياً مع نظرته العنصرية الاستعمارية) توطين العمال الأوربيين العاطلين ليحلوا محلالأجناس الدنيا التي لا تستطيع البقاء خلال معركة التطور.
وقد قدَّم الزعيم والمفكر النازي ألفريد روزنبرج حجة مماثلة لإثبات براءته خلال محاكمته في نورمبرج، مؤكداً للقضاة العلاقة العضوية بين العنصرية والاستعمار، إذ أشار إلى أنه عثر على لفظ «سوبرمان» لأول مرة في كتاب عن حياة اللورد كتشنر، الرجل الذي قهر العالم. وبيَّن روزنبرج أيضاً أنه صادف عبارة «العنصر السيد» أو «العنصر المتفوق» في مؤلفات عالم الأجناس الأمريكي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، ثم أشار أخيراً إلى أن هذا الضرب من التفكير الأنثروبولوجي ليس سوى اكتشاف بيولوجي جاء في ختام أبحاث دامت 400 عام وأن النظرية العنصرية، ونظريات التفوق العرْقي، جزء من فكر الحضارة الغربية العلمانية الحـديثة. والمشـروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي، والصيغة الصهيونية الأساسية صيغة غربية غير يهودية. وليس غريباً أن نجد الصهاينة يؤكدون انتماءهم إلى الجنس الأبيض، صاحب الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والمشروع الاستعماري المنتصر، حتى يتمكنوا من المشاركة في المزايا والحقوق التي منحها الرجل الأبيض لنفسه، وحتى يساهموا في حَمْل عبئه الحضاري الثقيل. فنجد أن عالم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين (1876 ـ 1943) يؤيد في دراسته يهود اليوم النظرية التي تؤكد الشبه الجسماني بين الجنس اليهودي وأجناس آسيا الصغرى ولا سيما الأرمن، إذ أنه يفضل (على حد قوله) أن يرى اليهود أعضاء في الجنس الأبيض، ويرحب بأية محاولات نظرية ترمي إلى توجيه الضربات للنظرية السامية التي تَنسب اليهود للعرْق السامي أو الحضارة السامية. ويرى أن الاختلاف العنصري بين اليهود والأوربيين ليس كبيراً إلى درجة تؤدي إلى التشاؤم من ثمار الزواج المُختلَط بين أعضاء الجنسين.
وثمة اتجاه في التفكير الصهيوني يَقصُر لفظ «يهودي» على اليهود البيض وحدهم، أي الإشكناز. وقد أفصح روبين عن هذه الفكرة بصراحة بالغة في كتابه آنف الذكر، حيث يناقش أثر الحركة الصهيونية في وعي كثير من اليهود الغربيين، وكيف أن محاولات الاستيطان الصهيونية كانت تستهدف أساساً تجنيد اليهود الأوربيين، لا اليهود الشرقيين، رغم أن تجنيد وتوطين اليهود الشرقيين (من اليمن والمغرب وحلب [سوريا] والقوقاز) في المستعمرات الزراعية كان أكثر سهولة ويسراً.
وقد ذكَّر روبين قارئه بأن الإشكناز، بسـبب طبيعة حياتهم في أوربا، وبسبب الاضطهاد الذي تعرَّضوا له، اجتازوا عملية طويلة من الاختيار وصراعاً مريراً من أجل البقاء، وهو صراع لا يستطيع البقاء فيه سوى الأكثر ذكاء والأكثر قوة. ولذلك تمت المحافظة على المواهب العنصرية الطبيعية العظيمة التي يتمتع بها اليهود، بل جرت تقويتها. وقد سـاهمت عوامـل أخرى أيضـاً في تصـفية غير الموهوبين، وفي الإبقاء على الأكثر موهبة، الأمر الذي شكَّل ضماناً أكيداً للتقدم الفكري للإشكناز وتفوُّقهم في النشاط والذكاء وفي المقدرة العلمية على السفارد وعلى اليهود العرب.
لكل ما تقدَّم، يرى روبين أن الحقوق التي يدَّعيها الرجل الأبيض لنفسه لا تنطبق على السفارد، وإنما تنطبق على الإشكناز وحدهم (فهم وحدهم القادرون على حمل عبء الرجل الأبيض، وعلى اغتصاب آسيا وأفريقيا).
وهذه الرؤية للمستعمر الصهيوني، بوصفه رجلاً أبيض، موضوع أساسي كامن في الاعتذاريات الصهيونية. فتيودور هرتزل كان يؤمن تمام الإيمان بتفوق الرجل الأبيض،وكان يدرك تمام الإدراك ضرورة التنسيق بين الخطة الصهيونية الاستعمارية والمشروعات الاستعمارية المماثلة حتى لا تتعارض الحقوق المختلفة للبيض. ولذلك، فقد قرر الزعيم الصهيوني، قبل أن يجتمع بتشامبرلين، أن من الضروري قبل مناقشة الخطة الصهيونية، أن يبين لوزير المستعمرات البريطاني أن هناك بقعة ما في الممتلكات الإنجليزية ليس فيها حتى الآن أناس بيض. وقد بيَّن الروائي الإنجليزي والمفكر الصهيوني إسرائيل زانجويل في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (1903) أن الاستيطان الصهيوني في شرق أفريقيا سيكون وسيلة لمضاعفة عدد السكان البيض التابعين لبريطانيا هناك. ولكن يبدو أن المستوطنين البيض هناك (وهم موضع الحلول) لم يقبلوا تعريف اليهودي بأنه رجل أبيض فعارضوا الاستيطان.
وقد حاول الصهاينة تسويغ الاستعمار الصهيوني بالرجوع إلى فكرة التفوق الحضاري الغربي. وانطلاقاً من هذا التصور، تَحدَّث هرتزل عن الإمبريالية بوصفها نشاطاً نبيلاً، يهدف إلى جَلْب الحضارة للأجناس الأخرى التي تعيش في ظلام البدائية والجهل. وقد كان هرتزل ينظر إلى مشروعه الصهيوني من خلال ذلك المنظور الغربي حين كتب رسالة إلى دوق بادن يؤكد له فيها أن اليهود، عندما يعودون إلى وطنهم التاريخي، سيفعلون ذلك بصفتهم ممثلين للحضارة الغربية، وأنهم سيجلبون معهم النظافة والنظام والعادات الغربية الراسخة إلى هذا الركن الموبوء البالي من الشرق، وأن الصهاينة سيقومون (بصفتهم من المؤيدين المتحمسين للتقدم الغربي) بمد السكك الحديدية في آسيا التي تُعَدُّ الطريق البري للشعوب المتحضرة.
والاعتذاريات التي تنطلق من مقولة عبء الرجل الأبيض موجَّهة بالدرجة الأولى للدول الإمبريالية ولشعوبها. وفي هذا الإطار طرحت إسرائيل نفسها باعتبارها دولةوظيفية غربية (بيضاء) نظيفة متقدمة، قاعدة للديموقراطية الغربية تحمي المصالح الإستراتيجية الغربية وتقف بحزم وصرامة ضد القومية العربية (في عصر النظام العالمي القديم) وضد الحركات الإسلامية (في عصر النظام العالمي الجديد).
ويؤكد الكثير من تصريحات الصهاينة أنهم لا يعتبرون أنفسهم كياناً عنصرياً منفصلاً فحسب، بل يعتبرون أنفسهم أعضاء في الجنس الأبيض. وفي عام 1917، كتب الزعيم الصهيوني بن جوريون مقالاً تحت عنوان "في يهودا والجليل" وصف فيه المستوطنين الصهاينة في فلسطين لا بوصفهم عاملين في هذه الأرض فحســب، بل على أنهم غـزاة لهـا، "لقـد كنا جمــاعة من الفاتحين". وفي مقـال آخر بعنـوان: "الحصول على وطن قومي" كتبه عام 1915، قارن بن جوريون بين الاستيطان الصهيوني والاستيطان الأمريكي في العالم الجديد، مستحضراً صورة المعارك العنيفة التي خاضها المستوطنون الأمريكيون ضد الطبيعة الوحشية، وضد الهنود الحمر الأكثر وحشية. ومما له مغزاه أنه ساوى بين الطبيعة وبين الهنود، بل وضعهم في مرتبة أدنى إذ هم أكثر وحشية منها. والواقع أن هذه الواحدية الكونية تؤدي إلى تجريد الإنسان وتحويله إلى مجرد جزء من دورات الطبيعة، الأمر الذي يجعل إبادته أو نَقْله أمراً مقبولاً بل مرغوباً فيه، أما وايزمان فقد فضَّل في كتابه المحاولة والخطأ أن يقارن بين المستوطنين الصهاينة من جهة والمستوطنين الفرنسيين في تونس والمستوطنين البريطانيين في كندا وأستراليا من جهة أخرى، كما أظهر أيضاً تعاطفاً ملحوظاً إزاء المستوطنين في جنوب أفريقيا.
ويتبدَّى الاتجاه العنصري، الذي يسوِّغ الاستعمار والعنف والإبادة باسم التقدم، في مذكرة بعث بها وايزمان إلى الرئيس ترومان (في 27 نوفمبر 1947) يشرح له فيها أن المجتمع الصهيوني في فلسطين يضم أساساً فلاحين متعلمين وطبقة صناعية ماهرة تعيش على مستوى عال، ثم يقارن بين هذه الصورة المشرقة والصورة الكئيبة للمجتمعات الأمية الفقيرة في فلسطين.
وإذا نظـرنا إلى الجـانب الآخـر لأســطورة عبء اليهودي الأبيض، وهو التفوق التكنولوجي للصهاينة (وليس العرْقي)، الذي سيجعلهم رسلاً للتقدم يقومون بتطوير المجتمع ودَفْعه من المرحلة الدنيا التقليدية إلى المرحلة العليا الحديثة، فإننا نجد أن كتابات الصهاينة تزخر بها. وقد اقتبسـنا بعضاً من كتابات بن جوريون (الصهيوني الاشتراكي) وغيره، في دفاعهم عن الاستعمار الصهيوني، باعتبارهم ممثلين للحضارة الغربية. ولا شك في أن المستوطنين الصهاينة كانوا عارفين بالتكنولوجيا وبوسائل التنظيم والقيمالسياسية المعاصرة، كما كانوا جماعة معاصرة فعلاً، وقد نقلوا قيمهم ومؤسساتهم المعاصرة إلى الوطن الجديد، فنظموا النقابات العمالية والأحزاب السياسية، وأجرواالانتخابات على أساس صوت واحد لكل ناخب. بل إنهم مارسوا أحياناً أشكالاً من الاشتراكية، من حيث عدالة توزيع الدخل أو الإيمان بأهمية العمل اليدوي ومساواتهبالعمل الفكري. ولكن كل هذه الأشكال المعاصرة من التنظيم، وهذه القيم الديموقراطية والاشتراكية، ظلت مقصورة على الصهاينة وحدهم، تُطبَّق على مجتمعهم الصغير (الميكرو) وليس على المجتمع كله. ولم يحاول الصهاينة تحديث المجتمع بأكمله بل على العكس حاولوا أن يوقفوا تطوُّره (وهذا الدور يقف على الطرف النقيض من الدور الذي تلعبه النخبة المعاصرة ذات الأصول القومية).
وقد بذل المستوطنون جهدهم في إبقاء السكان الأصليين في مستوى حضاري متخلف، ومنعهم من تنظيم أنفسهم داخل أُطر معاصرة (نقابات عمال، أحزاب سياسية)، وفضلوا التعامل معهم داخل أطر المجتمع التقليدي وتنظيماته. ولذا، فقد فضلوا التعامل مع كبار الملاك وزعماء العشائر. وقد رفض الهستدروت (اتحاد العمال المستوطنين الصهاينة) السماح للعمال العرب بالانتظام في صفوفه إلا في تاريخ قريب. كما أن الدولة الصهيونية (العصرية الديموقراطية) ترفض الاعتراف بحق تقرير المصير للسكان الأصليين أو حقهم في المشاركة في النظام السياسي الصهيوني الجديد عن طريق تكوين الأحزاب والاشتراك في الانتخابات، وترفض أيضاً تشكيل دولة تضم كلاًّ من العنصر السكاني الدخيل والعنصر الأصلي على قدم المساواة.
وإلى جانب هذا، هناك الحقيقة الأساسية، وهي أن جماعة المستوطنين الغزاة تسرق من السكان الأصليين أرضهم، أي تسرق منهم الأساس المادي لأي تَقدُّم، وتهدم نمطحياتهم (الإطار الاجتماعي الذي تتحقق من خلاله ذواتهم التاريخية). ولذا، تتغيَّر الأولويات، ويصبح واجب المواطن الأصـلي (الجزائري أو الفلسـطيني) هو البقاء وليـسالتقدم. ولعل هذا هو الذي يُفسِّر سرّ رفض موسى العلمي لكلمات بن جوريون الحلوة العذبة حين تقابلا عام 1936 في منزل موشي شاريت. فطبقاً لما جاء على لسان بن جوريون بدأ الحديث بترديد النغمة (القديمة) التي أعدها عن المستنقعات التي يجري تجفيفها، والصحارى التي تزدهر بالخضـرة، والرخـاء الذي سـيعم الجميـع. ولكن العربي قاطعـه قائـلاً: "اسمع! اسمع يا خواجه بن جوريون، إنني أفضل أن تظل الأرض هنا جرداء مقفرة مائة عام أخرى، أو ألف عام آخر، إلى أن نستطيع نحن استصلاحها ونأتي لها بالخلاص". ولم يسع بن جوريون إلا أن يعلق (فيما بعد) بأن العربي كان يقول الحقيقة، وأن كلماته هو بدت مضحكة وجوفاء.
2 ـ عبء اليهودي الخالص:
رغم شيوع أسطورة اليهودي الأبيض وحقه في استعمار فلسطين، فإن هذه الأسطورة لا تحتل مركز الصدارة وحدها في الخطاب الصهيوني، ذلك أن الاعتذاريات الصهيونية، وبخاصة حينما تتوجه إلى يهود العالم، تستند بصفة جوهرية إلى فكرة اليهودي الخالص. واليهودي الخالص غير مرتبط بأي جنس أو حضارة، شرقية كانت أو غربية (فهو يهودي مائة في المائة، على حد قول بن جوريون)، إذ أن اليهود بحسب هذا التصور يشكلون جنساً مستقلاً أو أمة مستقلة، وليسوا مجرد سلالة من سلالات الجنس الأبيض أو الحضارة الغربية. واليهودي، وليس الجنس الأبيض، هو نقطة الحلول والركيزة الأساسية للتاريخ والكون، أي أن مفهوم اليهودي الخالص عودة إلى الحلولية العضوية اليهودية المنفصلة تمام الانفصال عن الأغيار. وفي الواقع، فإن اليهودي الخالص ظهر في إطار محاولة تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، حين أسقطت الصهيونية الإثنية مصطلحات الصهيونية الحلولية اليهودية عليها.
كما أن فكرة اليهودي الخالص، مثلها مثل فكرة الرجل الأبيض المتفوق، تمنح اليهود حقوقاً معينة مقدَّسة وخالدة لا تتأثر بأية اعتبارات أو مطالب تاريخية، ولا يمكن حتى للفلسطينيين أنفسهم أن يكون لهم حقوق أقوى أو حتى مماثلة لحقوق اليهود في فلسطين. ويتضح هذا التصور في كلمات الحاخام جـ. ل. هاكوهين فيشمان ميمون، أول وزير للشئون الدينية في إسرائيل، حيث أكد أن الصلة بين الشعب اليهودي وأرضه مقدَّسة أو هي سر من الأسـرار الدينية، وهـذا ما يبيِّن أنه يدور في إطــار حلولي عضوي. وقد يكون للآخرين، على أحسن الفروض، صلة ما بهذه الأرض (سياسية علمانية خارجية عرضية مؤقتة) في حين أن لليهود، حتى وهم في حالة الشتات، صلة مباشرة بها (صلة سماوية وأبدية، فهي صلة حلولية عضوية).
وفي مجال الدفاع عن هذه الأسطورة، نصح مناحم بيجين بعض المستوطنين الصهاينة عام 1969 بأن يصروا على أن فلسطين هي أرض إسرائيل "فلو كانت هذه الأرض هي حقاً فلسطين وليست أرض إسرائيل، إذن فأنتم فاتحون ولستم مزارعين يفلحون الأرض، أنتم إذن غزاة. وإذا كانت هذه الأرض هي فلسطين فهي إذن تنتمي إلى الشعب الذي عاش هنا قبل أن تأتوا إليها.. لن يكون لكم حق العيش فيها إلا إذا كانت أرض إسرائيل".
وإذا أصبحت فلسطين الأرض المقدَّسة أو أرض يسرائيل تصبح حقوق اليهود الخالدة سارية المفعول فيها، فيصبح بالإمكان الادعاء بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض لأنها دخلت الدائرة الحلولية التي تستبعد الآخر. لقد كان الصهاينة يدركون أن الفلسطينيين يعيشون في فلسطين، وأن اليهود المشردين يعيشون في الأراضي التي وُلدوا فيها. ولكن الرابطة الأبدية بين الأرض والشعب اليهودي هي التي تجعل اليهود مجرد مشردين وشعباً رُحلاًّ بلا جذور، رغم وجودهم في أوطانهم في كل أنحاء العالم. وهذه الرابطة هي التي تنكر وجود الفلسطينيين وتجعل مطالبهم القومية مسألة هامشية. ولهذا، فإن شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" لابد أن تتم إعادة صياغته على النحو الحلولي التالي: "أرض مقدَّسة بلا شعب مقدَّس لشعب مقدَّس بلا أرض مقدَّسة". وفي هذه القداسة يذوب الفلسطينيون (شعب غير مقدَّس لا يتمتع بالحلول الإلهي)، وتصبح مطالبهم أمراً هامشياً وتافهاً، وقد تحقَّق كل ذلك دون اللجوء إلى أية نظريات عرْقية فاضحة.
إن أسطورة الحقوق الأبدية لليهودي الخالص في أرض فلسطين، التي تفترض هامشية السكان الأصليين، هي شكل من أشكال الاعتذاريات يتسم بدرجة عالية من الغموضواللاأخلاقية تفوق غموض ولا أخلاقية الاعتذاريات العنصرية التقليدية التي تنسب التفوق الحضاري والعرْقي للمستغل وتنسب التدني الحضاري العرْقي للمستغَل؛ فالأساطير التقليدية، في نهاية الأمر، تعترف بوجود الآخر، أما الأسطورة الصهيونية الخاصة بالحقوق اليهودية فهي ترفض الاعتراف بوجوده. وفي إطار الحلولية العضوية، تصبح فلسطين (الأرض المقدَّسة) بلداً بلا سكان، لأن امتلاك فلسطين ليس من حق السكان الأصليين. وليس بإمكان البشر، يهوداً كانوا أم عرباً أن يتساءلوا عن معنى هذا القرار، لأن محور مشكلة فلسطين، وفقاً لما قاله بن جوريون، يتلخص في حق اليهود المشتتين في العودة (فاليهود هم موضع الحلول الإلهي، وهم اللوجوس المتجسد في التاريخ)، وهو حق مطلق قائم منذ بداية التاريخ حتى نهايته. وكما قال وايزمان "إن أساس وجودنا كله هو حقنا في إقامة وطن قومي فوق أرض إسرائيل [فلسطين] وهو حق نملكه منذ آلاف السنين، ومصدره وعد الرب لإبراهيم، وقد حملناه معنا في أنحاء العالم كله طوال حياة حافلة بالتقلبات". وقد وصلت نظرية الحقوق هذه إلى ذروتها فيما نسميه «الصهيونية الحلولية العضوية»، صهيونية جـوش إيمونيم وكاهانا حيـث يصبح اليهـودي الخالـص هو اليهـودي المطلق.
والجدير بالذكر أن النطاق الإقليمي المحدود للأسطورة الصهيونية قد جعل كثيراً من الناس، ولا سيما في الغرب، يعتقدون أن الصهيونية ليست عنصرية. وهم على حق في هذا من بعض النواحي، فالنازية على سبيل المثال لم تكن عنصرية إزاء اليابانيين مثلاً. وكذلك الصهيونية في العالم الغربي، فهي ليست سوى أيديولوجيا سياسية وضعها اليهود من أجل اليهود، تخصهم وحدهم ولا تتضمن أي تمييز ضد أي شخص في الولايات المتحدة أو إنجلترا. بل لقد دافع بعض الغربيين عن الدور الإيجابي البنَّاء الذي تلعبه الصهيونية بين الأمريكيين اليهود، حيث تزوِّدهم بالشعور بالترابط والانتماء. وقد تكون هذه النظرة سليمة في حدود هذه الجزئية. ولكن الصهيونية حين نُقلت من أوربا وأمريكا إلى آسيا (مسرحها الحقيقي)، فإن الأمر أصبح جد مختلف، وأفصحت الصهيونية عن وجهها العنصري القبيح وأخذت تمارس أثرها الهدام على المجتمع الفلسطيني. والواقع أن التناقض هنا ليس تناقضاً بين النظرية والممارسة، ولكنه تناقض بين نظرية ونوعين من أنواع الممارسة، أحدهما عرضـي مؤقت (فـي الغرب) والآخر ضـروري وجوهري (في آسيا). وفي تصوُّري أن الحكم على الصهيونية لا يمكن أن يتم في لندن أو باريس، وإنما ينبغي أن يتم الحكم عليها في مجال فعاليتها الأساسية، في حيفا ويافا والضفة الغربية ومئات القرى التي هُدمت. ولو أننا حكمنا على النازية في طوكيو مثلاً لوجدناها أيضاً مجرد أيديولوجيا قومية تدافع عن حقوق وأمجاد الشعب الألماني.
ومما يدعو للسخرية أن بعض المتحدثين بلسان حكومة التمييز العنصري بجنوب أفريقيا، والذين لا يهتمون بالتجربة الصهيونية العرضية في الغرب، قد وضعوا تقييماً واقعياً للتجربة الصهيونية في آسيا. فقد عنَّف فيروورد، رئيس وزراء جنوب أفريقيـا السابق، بعض الصهاينة الذين أرادوا المقارنة بين سياسة النمو المنفصل التي تنتهجها إسرائيل على أساس من الدين (أو اليهودية الخالصة) والسياسة المماثلـة التي تنتهجها حكومة جنوب أفريقيـا على أسـاس عنصري، فقال: "إذا كان التمييز خاطئاً في الحالة الثانية، فهو لا شك خاطئ أيضاً في الحالة الأولى". والواقع أن الاعتذاريات، مهما بلغت من تركيب ودهاء، فإنها لا تغيِّر حقيقة التمييز العنصري في شيء. كما أن الحقوق المقدَّسة التي تَجُّب حقوق الآخرين، سواء استندت إلى أساس عنصري أو إلى أساس إلهي أو إثني، فإنها في نهاية الأمر تعد على حقوق الغير وإلغاء لوجوده.
وتعبِّر فكرة اليهودي الخالص عن نفسها في فكرة الدولة اليهودية الخالصة الخالية من أية عناصر غير يهودية وفي التركيز المستمر على قضية اضطهاد اليهود في كلزمان ومكان. وقد حاول وايزمان أن يبلور هذه الفكرة من خلال صورة مجازية إذ قارن بين "اليهودي الخالص" والحيوانات التي تحيا حياة سعيدة في حديقة الحيوان (في جنوب أفريقيا): "ها هي ذي في موطنها، الذي تقل مساحته قليلاً عن مساحة فلسطين، تنعم بالحرية، وتقدِّم لها الطبيعة هباتها بسخاء، ولا تواجهها مشكلة العرب". وحتى لايترك أي مجال للشك لدى قارئه، يعمم القضية على كل اليهود: "لا شك أنه أمر رائع أن يكون المرء حيواناً في حديقة الحيوانات بجنوب أفريقيا. فذلك أفضل له كثيراً من أن يكون يهودياً في وارسو أو حتى في لندن". والصورة المجازية التي يستخدمها وايزمان تدل على غبائه الشديد، ولكنها مع هذا ذات دلالة، فالحيوان في حديقة الحيوان يشبه اليهودي الخالص في دولته اليهودية، وهذا ما يفتقده اليهودي في فلسطين ووارسو ولندن!
كما أن التركيز على قضية البقاء اليهودي المهدد دائماً إما من خلال الإبادة المباشرة (الهولوكوست ـ أفران الغاز) أو من خلال الاندماج وفقدان الهوية هو تعبير عن مفهوم اليهودي الخالص. وينبع النقد الصهيوني للشخصية اليهودية في المنفى (باعتبارها شخصية جيتوية هامشية طفيلية) من مفهوم اليهودي الخالص هذا.
3 ـ عبء اليهودي الاشتراكي:
وإذا كانت الاعتذاريات التي تستند إلى فكرة اليهودي الخالص فريدة مقصورة على الصهاينة، فإن الاعتذاريات التي تستند إلى فكرة اليهودي الاشتراكي وحقوقه في فلسطين قد تكون أكثر تَفرُّداً وطرافة. وكما أشرنا من قبل، انضم كثير من الشباب اليهودي إلى صفوف الحركات الثورية، وقد سبَّب هذا حرجاً شديداً لليهود المندمجين. وقد باعت الصهيونية نفسها باعتبار أنها الحركة التي ستحوِّل الشباب اليهودي عن طريق الثورة. والواقع أن أسطورة الاستيطان العمالية برزت لتحقيق ذلك الهدف. تقوم هذه الأسطورة بتسويغ الاستيطان الصهيوني لا باسم التفوق العنصري أو التقدُّم الحضاري الأزلي أو الحقوق المقدَّسة الأزلية بل على أسس اشتراكية علمية (والاشتراكية في هذه المنظومة هي موضع الحلول، وهي أيضاً اللوجوس المتجسد في التاريخ). ومن ثم، فإن الحقوق اليهودية تستند ـ حسب هذه الأسطورة ـ إلى المثل الاشتراكية العليا (ومنها نُبل العـمل اليهـودي). ولم يكن هذا المنطق مقصوراً على الصهاينة وحده، فثمة اتجاه داخل الحركة الاشتراكية الغربية يُطلَق عليه اصطلاح «الاشتراكية الإمبريالية»، وتضم أولئك الاشتراكيين الذين وجدوا أن من المحتم عليهم (باسم التقدم والأممية) تأييد الإمبريالية الغربية لأنها تعبير عن الرأسمالية الغربية (أعلى مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي بلغه الإنسان). كما أنهم كانوا يرون أن الإمبريالية، بغزوها آسيا وأفريقيا، ستقضي على كل المجتمعات التقليدية فيها، كما ستقضي أيضاً على التخلف وتجلب الصناعة والتقدم لها. ومن هذا المنطلق، شجع بعض أتباع سان سيمون وكذلك فردريك إنجلز الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، كما دافع كثير من الاشتراكيين الهولنديين عن "الهجمة الحضارية" التي شنتها بلادهم على الأندونيسيين.
وقد خرجت أسطورة الصهيونية العمالية من هذه المجموعة من الأفكار، فلم يكن المستوطنون الصهاينة مجرد يهود فحسب بل كانوا أيضاً رواداً زراعيين اشتراكيين وحارثين لأرض أجدادهم. وقد كتب مارتن بوبر لغاندي يقول: "إن مستوطنينا لم يجيئوا إلى فلسطين كما يفعل المستعمرون الغربيون الذين يطلبون من أهالي البلاد أن يقوموا عنهم بكل الأعمال، بل إنهم يشدون بأكتافهم المحراث ويبذلون قوتهم ودمهم من أجل أن تصبح الأرض مثمرة". وقد عاد المستوطنون العبريون الجدد إلى الأرض مثقلين بماضي يهود الشتات بكل ما في ذلك من شذوذ وطفيلية. وتقول النظرية العمالية الصهيونية إن المستوطن الجديد يمكنه، من خلال العمل العبري، أن يُطهِّر نفسه مما علق بها من شوائب وأدران، فالمستوطنون إنما يحررون أنفسهم حين يحررون الأرض، بحرثها والعمل على ازدهارها "إن هذه الأرض تعترف بنا لأنها تثمر من خلالنا".
ولقد نقل الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون سطراً من أغنية جذابة كان الرواد الزراعيون يرددونها في المستوطنات الإسرائيلية، يصفون أنفسهم فيها بأنهم أول من وصل، "مثل العصافير في الربيع"، إلى الحقول الملتهبة والأرض المقفرة الجرداء. وهذه البراءة الكونية، وهذا الإيمان بقـدرة العمل على الشـفاء والتطهير، وهذا الالتزام بمبـدأ المساواة، تظهر جميعاً في كلمات بن جوريون حين تحدَّث عن مدى أحقية الإنسان في أرض ما، فهذا الحق لا ينبع من سلطة سياسية أو سلطة قضائية (فكل هذه الأمور ليست ذات شأن من وجهة النظر الصهيونية العمالية) وإنما ينبع من العمل. ثم أطلق بن جوريون شعاراً ثورياً أحمر لابد أنه لاقى هوى في القلوب الثورية البريئة: "الملكيةالحقيقية والدائمة للعمال". بيد أن نقل المفاهيم من مستواها وسياقها إلى مستوى وسياق آخرين يسفران عن نتائج مختلفة، فمثل هذا الشعار يتسم بالثورية الحقة إذا استخدمه العمال الفرنسيون في الأرض الفرنسية. ولكن حينما يقوم العمال الفرنسيون بتطبيق الشعار نفسه في الأراضي الجزائرية، فإنه يصبح في التو اغتصاباً للأرض، وخصوصاً إذا كانت المنافسة بين العمال الفرنسيين والجزائريين منافسة غير متكافئة، حيث كان الفريق الأول تسانده مؤسسة عسكرية متقدمة تكنولوجياً.
وقد علق الكاتب الإسرائيلي عاموس كنان على هذا النوع من الاعتذاريات الاشتراكية قائلاً: "إن الصهيونية لم تستطع تحقيق انتصاراتها وإنجازاتها دون الاستفادة من النفاق الذي تنطوي عليه هذه الاشتراكية. فكما أن المسيحية (بمُثُلها ومثالياتها) كانت بمنزلة عذر معنوي للصليبيين، فإن الاشتراكية (بمُثُلها ومثالياتها) أدَّت هذه المهمةللصهاينة".
والاعتذاريات الاشتراكية موجَّهة بالدرجة الأولى للقوى والدول الاشتراكية في العالم وللشباب الاشتراكي من أعضاء الجماعات اليهودية. وفي هذا الإطار تطرح إسرائيل نفسها باعتبارها دولة اشتراكية يمقت سكانها الرأسمالية. ويُلاحَظ أنه في الستينيات مع تصاعد قوى التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا، كان ضرورياً أن تتلون الاعتذاريات الصهيونية. فطرحت الصهيونية نفسها على أنها حركة تحرُّر الشعب اليهودي (ممن؟) وهو شعب صغير استُعبد عبر تاريخه ويبحث عن الحرية. وعملية تلوُّن الاعتذاريات الصهيونية دليل على مدى ذكاء الصهاينة وغياب البُعْد العقائدي الثابت، وهو أمر متوقع من أيديولوجية تحملها جماعات هامشية تطالب بإنشاء دولة وظيفية لخدمة الاستعمار الغربي أو أية قوى على استعداد لتزويد هذا الجيب الاستيطاني بالأمن والدعم.
وتعبِّر كل نظرية للحقوق عن رؤية للذات تكملها رؤية للآخر. ويمكن القول فيما يتعلق بالحقوق الصهيونية بأن نظرية الحقوق الصهيونية في فلسطين تعني في واقع الأمر أن اليهود لا حقوق لهم في أوطانهم التي يقيمون فيها، فمن له حقوق مطلقة في مكان ما لا يمكنه الادعاء أن له حقوقاً مطلقة أو نسبية في مكان آخر.
كيفيـة فـك شـفرة الخطـاب الصهيـوني المـراوغ
How to Decode the Evasive Zionist Discourse
يتسم الخطاب الصهيوني بعدم التجانس والإبهام والمراوغة نظراً لاستخدامه آليات أسلوبية عديدة مثل استخدام أسماء ذات مسميات مختلفة أو عدة أسماء لها في واقع الأمر مسمَّى واحد أو كلمات لها معنى مبهم، ومثل ترك فراغات عديدة داخل الخطاب دون ملئها.. إلخ. لكل هذا، تتطلب قراءة أي نص صهيوني، وكذلك فك شفرته، أن نفعل العكس: فنقرأ ما بين السطور ونملأ الفراغات ونحاول التوصل للمعنى الدقيق للمصطلحات ونحدد العلاقة بين الأسماء والمسميات.
وأهم الخطوات هو تَذكُّر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والمُهوَّدة، فهي تشكل الأساس الراسخ والمقولات الثابتة وراء كل الديباجات والحيل البلاغية الأخرى. وعلى الدارس كذلك أن يتذكر كل الحيل والإستراتيجيات البلاغية للخطاب الصهيوني. ويستطيع الدارس بعد ذلك أن يقوم بما نسميه «عملية استنطاق النص»، أي أن يجعله ينطق بما هو متخف وكامن فيه ولا يُفصح عنه (المسكوت عنه). فيتم تفكيك العبارات الصهيونية المختلفة وصولاً إلى المقولات الثابتة وراءها، ثم يُعاد تركيب العبارات والنصوص والتصريحات في ضوء هذه المقولات (وعلى كل لم تَعُد هذه المقولات الثابتة أمراً يحتاج للتخمين أو قدح زناد الفكر، فبعد مائة عام من الاستيطان الصهيوني، وبعد حوالي نصف قرن بعد تأسيس الدولة، أصبحت هذه المقولات مسألة واضحة تماماً).
وسنحاول قراءة بعض قرارات المؤتمرات الصهيونية بالطريقة التي نقترحها، ثم نستنتج ما نتصور أنه المعنى المقصود من خلال عبارات سنضعها بين أقواس معقوفة. وأول هذه القرارات هي قرارات المؤتمر الصهيوني الأول (1897) التي تُسمَّى برنامج بازل، وهو يتكون من جملة افتتاحية تحدد الغرض من الحركة الصهيونية، وأربعنقاط تقترح الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الغرض.
"تستهدف الصهيونية إنشاء وطن [أي دولة] للشعب اليهودي [أي الفائض اليهودي من شرق أوربا] في فلسطين [أرض الميعاد أو الأرض المقدَّسة أو الأرض ذات الموقع الإستراتيجي] تحت حماية القانون العام [أي بحماية الدول الغربية[".
ويوصي المؤتمر بالوسائل التالية لتحقيق هذا الغرض:
"1 ـ تطوير عملية توطين المزارعين والحرفيين والعمال اليهود في فلسطين [وطَرْد العرب منها] من خلال الأطر المناسبة [أي إقامة استعمار استيطاني يهودي في فلسطين عن طريق المكر أو العنف].
2 ـ تنظيم جميع اليهود وتوحيدهم عن طريق تنظيمات وهيئات محلية وعالمية ملائمة وفقاً لقوانين كل دولة [أي الهيمنة على الجماعات اليهودية مع عدم إحراج يهود غرب أوربا].
3 ـ تقوية الشعور القومي اليهودي والوعي القومي وتدعيمهما [أي المزيد من الهيمنة والتخلص من الجيوب غير الصهيونية بين اليهود، وإرضاء يهود شرق أوربا من دعاة الخطاب الإثني: الديني والعلماني].
4 ـ اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الحكومات [الغربية]، باعتبار أن ذلك ضروري لتحقيق الهدف الصهيوني [أي الحصول على الشرعية الاستعمارية من خلال الدول الغربية] ".
إن صـياغة برنامج بازل تعـبير بليغ عن الخطاب الصهيوني المراوغ، فلم يُذكَر فيه ما هو مفهوم من الجميع ويمكن أن يسبب الحرج وتُركت في بنوده فراغات كثيرة ليملأها كل صهيوني على طريقته، ولم يذكر الدولة ولا حدودها، وتم تغييب العرب تماماً من خلال التزام الصمت الكامل تجاههم، ويُضاف إلى ذلك عدم تحديد أعضاء الشعب اليهودي، ولم يتم الإفصاح عن أيٍّ من المفاهيم الأساسية الكامنة إلا بعد نصف قرن تقريباً في برنامج بلتيمور (الذي أصدره مؤتمر استثنائي عقده الصهاينة الأمريكيون والأوربيون في نيويورك مع ممثلي المستوطنين في فلسطين في مايو 1942) وجاء فيه ما يلي: "الاعتراف بأن الغرض من شروط تصريح بلفور والانتداب التي تبيِّن ارتباط الشعب اليهودي التاريخي بفلسطين هو إيجاد حكومة يهودية هناك وجعل فلسطين حكومة يهودية". وكما يقول ألان تايلور أحد مؤرخي الحركة الصهيونية: "وهكذا ظهر على السطح الآن وضوح الهدف الخفي [المقولة الثابتة] الذي رافق الصهيونية دوماً". ولم يجانب هذا المؤرخ الصواب ولا حاول أن يفرض تفسيراً متعسفاً على الأحداث أو الكلمات. فقد وصف المجتمعون في فندق بلتيمور في مدينة نيويورك برنامج بلفور بأنه "تطبيق كامل لبرنامج بازل". وكل ما حدث هو أن بعضالفراغات قد مُلئت، وبعض العبارات الصامتة قد استُنطقت، وبعض العبارات الهلامية قد تحدَّدت (ومع هذا استمر التزام الصمت تجاه مصير السكان الأصليين). وقد ظل برنامج بازل سـاري المفـعول (مع تفســير بلتيمور) إلى أن تم تعديله بعد إنشاء الدولة.
وقد عُقد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرون (1951) بهدف التوصُّل إلى تعريف للصهيونية يحل محل برنامج بازل. فتقدَّم بعض الصهاينة الاستيطانيين بمشـروع قـراريُعرِّف هدف الصهيونية بأنه "خلاص الشعب اليهودي من خلال تجميع المنفيين في أرض إسرائيل" وهي صيغة متشددة لا تتسم بأية هلامية ولا تحوي أية فراغات، ولذا فإنها كانت تهدد بتفجير التناقضات. ولذا، تم التغاضي عنها، واتخذ المؤتمر بـدلاً من ذلك قراراً يحـدد مهمة الصهيونية بالطريقة المراوغة التالية: "تدعيم دولة إسرائيل،وتجميع المنفيين في أرض إسرائيل، وتأمين وحدة الشعب اليهودي". وبينما تتضمن الصيغة المرفوضة أن الخلاص "لا يكون إلا من خلال الدولة وأن تجميع المنفيين هو الوسيلة الوحيدة للخلاص وأن الشعب اليهودي بأسره هو في المنفى ما دام باقياً خارج إسرائيل"، نرى أن الصيغة المراوغة الجديدة لما سُمِّي «برنامج القدس» تترك الفراغات وتكتفي بسَرْد ثلاث مهمات مستقلة عن بعضها البعض ومتناقضة، فمن سيقوم بدعم دولة إسرائيل يمكنه أن يفعل ذلك من الخارج، أي باعتباره صهيونياً توطينياً، الأمر الذي يعني أنه سيظل صهيونياً سواء هاجر أم لم يهاجر ما دام "يدعم" الدولة الصهيونية. بل إن عبارة «تجميع المنفيين» نفسها عبارة مراوغة، فالمنفى (على ما يبدو) حالة عقلية وليست فعلية. فيهود أمريكا يعتبرون أمريكا وطناً قومياً لا منفى، على عكس يهود روسيا، ومن ثم فإن العبارة تعني تجميع المنفيين من شرق أوربا "بمساعدة المندمجين في غربها". أما وحدة الشعب اليهودي، فهو أمر هلامي عائم غائم إذ يمكن أن يشعر الصهيوني التوطيني بهذه الوحدة ويدافع عنها وهو جالس في غرفته المكيفة في منزله الوثير في أمريكا أو أستراليا. ورغم كل التحولات والتغيرات لا تذكر القرارات الصهيونية العرب بخير أو بشر.
وقد تم تعديل مهام الصهيونية مرة أخرى في المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين بمقتضى " برنامج القدس 5728 (1968) " الذي لا يزال البرنامج المعتمد للحركة الصهيونية. وسوف نورد مرة أخرى ما نتصـور أنه المعنى المقصود من خـلال عبارات سـنضعها بين أقـواس معقوفة. ونصه كما يلي:
"أهداف الصهيونية هي:
ـ وحدة الشعب اليهودي [سواء استمر في الحياة في نيويورك أم حيـفا] ومركزية إسـرائيل في حياته [والمركزية مـسألة شديدة العمومية[.
ـ تجميع [من يريد من] الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من مختلف البلدان.
ـ تدعيم دولة إسرائيل التي قامت على أساس رؤية الأنبياء للعدل والسلام [وهي رؤية يمكن تفسيرها بطريقة حلولية كمونية عضوية تُرضي الدينيين والعلمانيين[.
ـ الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تشجيع التربية اليهودية والعبرية والقيم الروحية والثقافية اليهودية [سواء في إسرائيل أو في الولايات المتحدة] وحماية الحقوق اليهودية أينما كانت".
والواقع أن صيغة البرنامج هي التسليم بالأمر الواقع، أي بانقسام الحركة الصهيونية إلى اتجاهين، أحدهما توطيني والآخر استيطاني، لكلٍّ تعريفه الخاص "للشعب اليهودي". وهو يشكل محـاولة للحـفاظ على وحدة غير موجودة ولتغطية تناقض يزداد تفاقماً. ولذا، فقد ازدادت درجـة المراوغة والصمت. وثمـة افتراضان متناقضـان كامنـان في برنامج القـدس:
1 ـ أن الشعب اليهودي شعب واحد وأن "وطنه التاريخي" هو أرض إسرائيل، وبالتالي يكون هدف الصهيونية هو تجميع الشعب اليهودي عن طريق الهجرة، أي تصفيةالجماعات اليهودية، وهذه هي صهيونية المستوطنين.
2 ـ أن حالة التشتت حالة نهائية، ومن ثم المناداة بحماية "الحقوق اليهودية أينمـا كانت"، والحـديث عن "مركزية إسـرائيل في حياة الشعب". أما القرار الخاص بالهوية اليهودية وضرورة الحفاظ عليها فهو يشير ولا شـك إلى «خـطر الاندمـاج»، وخصـوصاً في الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني أيضاً استمرار حالة الشتات، في الوقت الحاضر على الأقل، ونسيان مسألة "تصفية الجماعات".
وتجدُر ملاحظة أن برنامج القدس الذي حدد أهداف الصهيونية قد لجأ إلى صيغة مراوغة تسمح لكل صهيوني بأن يفسر حدود إسرائيل بالطريقة التي تروق له، فلم ينص البرنامج صراحةً على أن "إقامة الدولـة على ضـفتي نهر الأردن هو هـدف الصهيونية" وإنما تحـدَّث عـن "الوطن التاريخي ـ أي أرض إسرائيل" وهي عبارة مطاطة لها دلالات كثيرة في العقل الصهيوني (وخصوصاً في إطار "رؤية الأنبياء") من بينها ولا شك ضفتا نهر الأردن وضفاف النيل والفرات (إذا انفتحت الشهية). ولا يزال هناكعنصر واحد ثابت لا يتغيَّر، وهو عدم التوجه للقضية الفلسطينية ولمصير العرب.
وقد قُدِّر للصيغة المراوغة الاستمرار للأسباب التالية:
1 ـ كان من الممكن ترك الفراغات والتسلح بالصمت أو التشاجر بصوتٍ عال بشأن الديباجات دون أن يلجأ فريق إلى تصفية الآخر، وذلك لوجود اتفاق تام على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والعقد الصهيوني الصامت الذي تمت ترجمته إلى واقع تاريخي: احتلال فلسطين وطرد أهلها والاستيطان فيها.
2 ـ كان جميع الصهاينة يدركون تماماً أن حركتهم ودوافعهم ليس لها استقلال حقيقي أو حركية مستقلة ذاتية. فالصهيونية، كما كان يعرف الجميع، تدين بوجودها واستمرارها لتبعيتها للغرب الذي كان يقوم بتمويل المشروع الصهيوني، وبالتالي فإن الاختلاف على الديباجات هو اختلاف على أمور فرعية لا تؤثر في الحركة الفعلية.
3 ـ بعد أن كانت الصهيونية الاستيطانية تطالب بتصفية الجماعات اليهودية في العالم (يهود الدياسبورا)، أصبح من صالحها بقاء هذه الدياسبورا لتُقدِّم الدعم السياسي والعون المالي للدولة الصهيونية. ولذا، فقد أصبحت الصيغة المراوغة الإطار الوحيد الممكن الذي يمكن من خلاله الاستمرار في العمل والتعايش مع التناقض.
4 ـ وأخيراً، كُتب للصياغة المراوغة الاستمرار بسبب فشل العرب في التمييز بين التيارات المختلفة داخل الحركة الصهيونية، بل وفشلهم في التمييز بين اليهود الصهاينة واليهـود الذين لا يكترثون بالحركة الصهيونية، وبين اليهود الذين يدَّعون الصهيونية على مستوى القول ويتملصون منها على مستوى الفعل، واليهود الذين يناصبونها العداء صراحةً وعلانيةً، قولاً وفعلاً. كما أن فشل العرب في إلحاق هزيمة ضخمة بالكيان الصهيوني (باستثناء الانتفاضة) قد خَلَق تربة خصبة يمكن أن تنمو فيها الأساطير وتترعرع بما في ذلك ادعاء عدم وجود العرب. وتستطيع الصياغات المراوغة أن تستمر دون تحدٍّ، فالإنسان يسائل نفسه بشأن أساطيره وأكاذيبه وخداعه لذاته وللآخرين إن كان هناك ثمن يُدفَع. أما إن ظلت الصياغة المراوغة صالحة للتعامل مع الواقع، فهي ستمنح المرء ما يحتاج إليه من اتزان داخلي وطمأنينة نفسية دون أن يزعجه هذا الواقع، ولذا فبوسـعه أن يسـتمر في اسـتخدامها والترويج لهـا.
القانون الدولي العام
International Law
»القانون الدولي العام» عبارة تتواتر في كلٍّ من الكتابات الصهيونية ومؤلفات هرتزل، وكلمة «دولي» في معناها المعجمي تعني «عالمي» أو «يختص بكل الدول»،ولكننا إن قرأناها في سياقها في كثير من النصوص الغربية المكتوبة في القرن التاسع عشر، فإننا سنكتشف أنها تعني «غربي»، ومن ثم فإن عبارة «القانون الدولي العام» تعني «القانون الغربي السائد آنذاك»، وهو القانون الاستعماري الذي تم بمقتضاه تقسيم العالم بين الدول الغربية. ومن المصطلحات المرادفة، مصطلح «قانون الأمم»، أو «قانون الأمم المتحضرة»، وهو بدوره يعني «قانون أمم الغرب»، أي «القانون الاستعماري».
وقد كان هرتزل والصهاينة يتحركون في إطار الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وواقع الإمبريالية الغربية (كحقيقة تاريخية سياسية)، وهذه الإمـبريالية هـي التي قامت بتقسيـم العالم فيما بينها. ومن هذا المنظور، يصبح الغرب مركز العالم، وتصبح الحضارة الغربية قمة التطور الإنساني، وكل الظواهر والقوانين هي محاولات متعثرة للوصول للحالة الغربية، والإنسان الغربي الأبيض في القرن التاسع عشر هو الإنسان الذي يجسد قمة التطور. ولذا، يصبح كل شيء غير غربي هامشياً، وما هو غربيوحده هو الحقيقي والتاريخي والمركزي، وإذا كان العـالم هـو الغرب فإن القانون الغربي يكون بالتالي هو القانون الدولي. ومن هنا كانت الصهيونية تُسمِّي نفسها «الصهيونية العالمية» (ومازلنا نتحدث عن «المغني العالمي» ـ خوليـو مثـلاً ـ ونحن نعـني «المغني الغربي»، أو نقول «له سمعة عالمية» ونحن نعني «سمعة في العالمالغربي» وهكذا).
ومن أهم المصطلحات التي ترتبط بهذا الاستخدام مصطلح «صهيونية سياسية» أو «صهيونية دبلوماسية» فهي تعني في واقع الأمر صهيونية تقوم ببذل جهود سياسية لدى "الدول المتحضرة"، أي الدول الغربية، والمناورة الدبلوماسية معها للحصول على موافقتها للاستيلاء على فلسطين. فهذه الدول هي التي قسَّمت العالم بينها، ومن ثم فإن أي جهد سياسي أو دبلوماسي يُبذَل يدور في إطارها، وأي جهد آخر هو أمر غير منطقي وغير سياسي أساساً فهو جهد رومانسي عبثي.
ويمكن أن تثار هنا قضية تَوجُّه هرتزل إلى السلطان العثماني طالباً منه براءة لشركة استيطانية، مع أن الدولة العثمانية لم تكن دولة "متحضرة "، أي لم تكن غربية استعمارية. إن تفسير ذلك ببساطة هو أنه لم يكن قد تقرَّر بعد تقسيم الدولة العثمانية، وكانت القوتان البروتستانتيتان (إنجلترا وألمانيا) تقفان وراءها حتى تقف حاجزاً أمام النفـوذ الأرثوذكسـي الروسي والنفوذ الكاثوليكي الفرنسي. ومع هذا، كانت ثمة مؤشرات قد بدأت تلوح في الأفق، فإنجلترا كانت قد استولت على قبرص، ولكن الأهم أنها كانت قد استولت على مصر (1882)، وكانت أول دولة إسلامية تضمها إنجلترا، الأمر الذي كان يعني تعدياً صريحاً على الدولة العثمانية وعلى شرعيتها الإسلامية، وكان يعني بالتالي أن الوقت قد حان للتقسيم. وفي هذا الإطار تحرَّك هرتزل، فكان يتقدم لتركيا لا باعتبارها دولة متحضرة وإنما باعتبارها منطقة نفوذ ألمانية ثم إنجليزية. وقد كان يعلم ذلك تماماً، ولذا فإنه كان يلجأ دائماً إلى الحكومة الألمانية عسى أن تتوسـط له عند السلـطان. ولعل ما شجَّع هرتزل أن القوميات الجديدة، خصوصاً في وسط أوربا والبلغاريين والصرب والمجر، اقتطعت أوطانها أساساً من الدولة العثمانية تحت رعاية الدول الأوربية. وكان كل من كاليشر والقلعي يكتبان ويفكران على هذا المنوال حينما بدءا في التعبير عن النزعات الصهيونية الأولى. ولم يكن هرتزل استثناءً من القاعدة، ولذا فقد كان عليه أن يتقدم للدولة العثمانية مضطراً بسبب طبيعة الوضع القائم، ولكنه مع هذا كان يتحرك داخل إطار غربي وكان يسعى للحصول على الاعتراف الغربي به، أي أن مناوراته في تركيا تمت هي الأخرى في إطار «القانون الدولي العام» الذي وضعته الدول المتحضرة.
شـــركة ذات بــراءة
Chartered Company
»شركة ذات براءة» عبارة تتواتر كثيراً في كتابات هرتزل وكتابات الصهاينة قبل ظهور وعد بلفور، ولا يمكن فهم النصوص الصهيونية قبل بلفور إلا بإدراك معناهاالدقيق داخل سياقها. ومن المعروف أن هرتزل حينما بدأ في تحديث حل المسألة اليهودية كتب إلى عدد من كبار الاستعماريين في العالم (سير سيسل رودس وستانلي). وقد رد عليه رودس عن طريق طرف ثالث قائلاً: "ضع نقوداً في حافظتك"، أي أن تنفيذ المشـروع الصهيوني يتطـلب أن يقوم هرتزل بتدبير مبـالغ للاستثمار. ورودس لم يكن ذكياً في إجابته، فهو لم يفهم المشكلة الخاصة بالمشروع الصهيوني وهي أن المادة البشرية الاستيطانية المُستهدَفة والتي سيتم توطينها لا تتمتع بعلاقة عضوية مع أية دولةغربية على وجه التحديد (فهم أعضاء شعب عضوي منبوذ). ولذا، فقد كان هرتزل حصيفاً حينما قرر أن قوة المحفظة مسألة أساسية، ولكنه أضاف: "جمعية اليهود [أي المنظمة الصهيونية]، والهدف النهائي هو الحصول على الضمانات الدولية".
كان هرتزل يعرف أن أحد أشكال العلاقة بين جماعات المستوطنين والتشكيل الاستعماري الغربي هو الشركات الاستعمارية الاستيطانية ذات البراءة، ولذا فحينما طلب قيصر ألمانيا من هرتزل أن يلخص له ما يريده قال الأخير: "شركة ذات ميثاق أو براءة تحت الحماية الألمانية". ومرة أخرى، أظهر هرتزل براعته الفائقة وحسه العملي الزائد. فبدلاً من أن يقدم إلى القيصر ديباجة طويلة مملة عن حقوق الشعب اليهودي وعن ارتباطه الأزلي بأرض الميعاد، أو حتى عن بؤس يهود شرق أوربا وما شابه ذلك من شعارات ما كانت لتنطلي على القيصر الذي كان يتحرك في نطاق الصيغة الصهيونية الشاملة ويعرف جيداً مدى فائدة اليهود ونفعهم وضرورة التخلص منهم. بدلاً من كل ذلك، قال له هرتزل عبارة واحدة تلخص كل شيء. ولكي ندرك مدلول العبارة كما فهمها ممثل الصهيونية وممثـل الدولة الراعيـة، لابد من وضـعها في سـياقها التاريخي والحضاري. والكلمة الأساسية هنا هي كلمة «تشارتر charter» الإنجليزية وهي مستقاة من الكلمة اللاتينية «كارتا charta» (ورقة أو خطاب) ومعناها «خطاب أو ترخيص ينص على حقوق معينة تمنحها حكومة أو حكام لشخص أو شركة». وهي الكلمة نفسها التي كانت تُستَخدم في العصور الوسطى في الغرب للإشارة إلى الاتفاق الموقَّع بين الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية والسلطة الحاكمة.
ويبيِّن جورج جبور، الدارس العربي لظاهرة الاستيطان، أن هذه الشركات كانت إحدى الوسائل التي ابتدعها الاستعمار الغربي في أواخر القرن الماضي. فقد كانت هذهالشركات تقوم بتجنيد الفائض البشري في أوربا وتؤمِّن لهم سفرهم أو تمنحهم بعض المزايا في البلدان المُكتشَفة حديثاً مقابل أن يخدموا الشركة وينفذوا سياستها ويوسعوا نفوذها. وكانت الدول الراعية، مانحة البراءة، تقوم بحماية الشركة من المنافسات الدولية وتنظم العلاقة بين المستوطنين والسكان المحليين. وقد كانت البراءة تمنح الشركة حق أن تكون «شبه دولة» فهي لم تكن مشروعاً مدنياً يهتم بالشئون التجارية وحسب، وإنما كانت إحدى أدوات الاستعمار في مراحله التمهيدية. وقد كان مجال نشاطات الشركة واسعاً متنوعاً، فمثلاً كانت تقوم بشراء وإنشاء المصانع وبناء القلاع والاستيلاء على الأراضي وسك النقود وإدارة القلاع والدخول في أحلاف سياسية وإعلانالحرب والسلم. ورغم هذه الاستقلالية، فإن المشروع ككل كان يقع ضمن الإطار العام لمخططات تلك الإمبراطورية التي قامت بمنح البراءة. والفائدة التي تجنيهاالإمبراطورية مانحة الصك من جراء مثل هذا الوضع مضمونة تماماً، ففي حالة نجاح الشركة تحقِّق الإمبراطورية أرباحاً كبيرة. أما إذا فشلت، فإن هيبة الإمبراطورية لاتتأثر (وهذا مناسب جداً لعلاقة الحضارة الغربية بالشعب العضوي المنبوذ والدولة الوظيفية). وتبين موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن هرتزل حينما كان يستخدم كلمة «تشارتر» فإنه كان يفكر أساساً في الميثاق أو البراءة التي منحتها الحكومة البريطانية في 20 أكتوبر 1889 إلى شركة سيسل رودس المسماة شركة جنوب أفريقياالبريطانية وأعطت بموجبها الحكومة البريطانية الشركة المذكورة حكماً ذاتياً كاملاً في منطقة الزامبيزي (التي يقع معظمها ضمن حدود روديسيا، أي زمبابوي الآن) وذلك فيما يختص بإدارة المنطقة والنشاط السياسي تجاه السكان المحليين تحت إشراف الحكومة البريطانية. وقد أشار هرتزل إلى فكرة الميثاق في المؤتمر الصهيوني الثالث (1889)، كما أن مفهوم الميثاق استُخدم للإشارة إلى المحاولات الصهيونية الرامية إلى الاستيطان في العريش وشرق أفريقيا.
والواقع أن هرتزل، بذلك، كان يتبع النمط الاستعماري الاستيطاني السائد. فالاستيطان، كما يقول جبور، كان يبدأ عادةً برحلات الاستكشاف الجغرافية أولاً، ثم يأتي عدد من الجنود والبحارة والمبشرين (بهذا الترتيب أو بغيره) ثم تبدأ هجرة المستوطنين. وقد قامت بهذه النشاطات كلٌّ من الصهيونية ذات الديباجة المسيحية والصهيونية التسللية والقنصليات الغربية، وأدرك هرتزل أن الوقت قد حان للحصول على البراءة لدعم مشاريع الاستيطان، وهي موافقة مختلفة عن الموافقة التي كانت تُمنَح عادةً للتجار والمستكشفين.
هذا ما كان يفكر فيه هرتزل. وقد كان تقسيمه للمشروع الصهيوني يماثل تقسيم شركة الهند الشرقية التي كانت تشرف عليها لجنة الأربعة وعشـرين (جمعية اليهـود) التي تقـوم بعملية التخطيط والإدارة، كما كان هناك جهاز تنفيذي خاص بالشركة نفسها يقوم بتنفيذ الأعمال التجارية.
ولكن الأمور تطورت بأسرع مما تصوَّر الصهاينة، إذ تم تقسيم الدولة العثمانية وصدر وعد بلفور الذي زود الصهاينة بدعم وحماية أكثر مما توفره الشركات ذات البراءة، فحل وعد بلفور محل البراءة. وقد كان الصهاينة يشيرون بالفعل إلى وعد بلفور وإعلان الانتداب على فلسطين باعتبارهما «الميثاق أو البراءة»، وكان أتباع الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية يُسمَون «الميثاقيون» (بالإنجليزية: تشارترايتس Charterites).
ورغم أننا صنفنا وعد بلفور على أنه براءة منحتها دولة استعمارية لمجموعة من المستوطنين، فإن ثمة اختلافات بين وعد بلفور والبراءات الأخرى، أوجزها الدكتور جورج جبور فيما يلي:
1 ـ مع أن البراءة الممنوحة للحركة الصهيونية كانت بريطانية أساساً، إلا أنها ووفق عليها من قبَل أهم الدول الأوربية، ومن قبَل الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل أكثر صراحة من براءات الاستيطان السابقة.
2 ـ لم يأتِ المستوطنون اليهود من قُطر أوربي واحد، ولا أتوا أساساً من القُطر الذي منح البراءة، بل من أقطار أخرى أهمها أوربا الشرقية.
3 ـ كانت البراءة الممنـوحة للحـركة الصـهيونية تخـص اليهود وحدهم، ولم تكن مفتوحة للجميع.
"وهكذا، فإن تجربة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كانت جغرافياً أوسع مدى من جهة (إذ تشمل كل الدول الأوربية وغير الأوربية في مرحلة لاحقة)، وأضيق في القاعدة الاجتماعية (السكانية) من جهة ثانية (إذ كانت تقتصر على اليهود ولا تشمل جميع السكان). كما أن هذه التجربة جاءت نتيجة إجماع إيجابي أوربي حكومي (إذ أن عدداً من الدول الأوربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، أيَّدت وعد بلفور) من جهة ثالثة".
الكومنولــــــث
Commonwealth
كلمة استخدمها الصهاينة ابتداءً من 1944 للإشارة إلى الكيان الذي ينوون تشييده في فلسطين (وقبل ذلك التاريخ كانت الكلمة المستخدمة بالإنجليزية هي «وطن»، أي «هوم لاند Homeland» وليس دولة). وتُستخدَم كلمة «كومنولث» في الوثائق الرسمية الأمريكية للإشارة إلى أربع ولايات أمريكية (كنتكي، وماساتشوستس، وبنسلفانيا، وفيرجينيا) وهي ولايات ليس لها استقلال ولا تختلف من الناحية الفعلية عن الولايات الأخرى. وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى بورتوريكو، وهي ولاية تحكم نفسها حكماً ذاتياً ولكنها لا تتمتع بالاستقلال الكامل. والمعنى الذي كان يقصده الصهاينة، كما تدل المراسلات بينهم، وكما يدل تطوُّر الأحداث فيما بعد، يعني «دولة مستقلة ذات سيادة» ولكن هذا المصطلح تم استخدامه من قبيل المراوغة.
ويُشار أيضاً في الأدبيات الصهيونية إلى الكومنولث الأول والكومنولث الثاني أو الثالث. أما الأول، فهو دولة سليمان وداود، أما الثاني فهو دولة الحشـمونيين، أما الثالث فهـو الدولـة الصهيـونية. ومن ثم، فإن كلمة «كومنولث» دالٌّ ذو حقل دلالي مضطرب تماماً.
وقد استخدم الصهاينة كلمات أخرى مراوغة مثل «وطن قومي»، وذلك لتحاشي استخدام كلمة «دولة» بكل ما تتضمنه من إيحاءات الاستقلال التي قد تُفجِّر الصراعات بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين (قبل بلفور) والتي كان يمكن أن تُنبِّه العرب للخطر الاستيطاني الإحلالي المحدق بهم.
خلق الحقائق الجديـدة
Creating New Facts
«خَلْـق حقـائق جـديدة» من العبارات المتواترة في الخطاب الصهيوني. وقد وردت العبارة في أقوال وايزمان وجابوتنسكي وموشيه ديان (بعد حرب عام 1967). والعبارة تجسد مفهوماً أساسياً كامناً في الفكر الصهيوني والفكر الإمبريالي عامة. فهو فكر لا يؤمن بأية قيم أخلاقية، ولا يحتكم إلى أية منظومات معرفية، وهو فكر عملي واقعي مرن، ولكن مرونته تكمن وراءها إرادة القوة والحد الأقصى من العنف (كما هو الحال مع الفكر البرجماتي).
وتتبدَّى خاصية المراوغة في الخطاب الصهيوني في عبارة «خَلْـق حقائق جديدة». فالصهيونية عقيدة تتضمن أطروحاتها الأساسية (الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة) مسألة طرد العرب والاستيلاء على أراضيهم. ولكن، لأسباب عملية عديدة، لم يتمكن الصهاينة من الإعلان عن أهدافهم، وأعلنوا أنهم ليست لديهم أية أطماع توسعية بل يرحبون بوجود العرب داخل الدولة الصهيونية (وكأن هذا أمر ممكن بالفعل). ولكنهم كانوا يعلمون أنه حين تتغيَّر موازين القوة، وحين تحين اللحظة، فبإمكانهم التحرك لتحقيق الأهداف الكامنة (طرد العرب ـ الاستيلاء على أراضيهم) فيغيِّرون الوضع القائم ويخلقون حقائق جديدة لدعم الوضع القائم الجديد المبني على العنف. ويتم تعديل الأهداف الصهيونية المعلنة بما يتفق مع الوضع الجديد.
وهذا ما فعله الصهاينة بالضفة الغربية، بعد عام 1967. فقبل ذلك التاريخ لم يكن أحد يتحدث عن ضم الضفة الغربية (إلا المتطرفون والمجانين)، إذ كان الهدف المعلن هو العيش في سلام مع العرب داخل حدود 1948. ولكن، بعد أن تم ضم الضفة الغربية، قام الصهاينة بتكثيف الاستيطان لخلق حقائق جديدة حتى يُواجَه العـالم الخـارجي بأمـر واقع جديد. ويتم حينذاك إعادة تعريف السلام، فيصبح الانسحاب من بعض أجزاء الضفة الغربية وحسب هو الحد الأقصى الممكن.
إن المدلول المحوري (الركيزة النهائية) في كل المنظومة الصهيونية هو إرادة القوة، فهذه هي الميتافيزيقا الحقيقية، وهي في هذا لا تختلف عن الرؤية المعرفية العلمانيةالإمبريالية الغربية عامةً.
الجزء الثاني: تاريخ الصهيونية
الباب الأول: تاريخ الصهيونية
تاريــــــخ الصهيونيــة: مقدمــــة
History of Zionism: Introduchion
يرى الصهاينة والمعادون لليهود أن الحركة الصهيونية بدأت مع التاريـخ اليهـودي نفسه وأنها لازمت اليهود عَبْر تاريخهم بعد تحطيم الهـيكل، وذلك لسـببين: واحـد سـلبي والآخــر إيجابي. أما السلبي، فهو ظاهرة العداء لليهود والمذابح والاضطهاد اللذين تعرَّض لهما اليهود في كل مكان وكل زمان، وهي ظاهرة حتمية أزلية من المنظور الصهيوني. أما السبب الإيجابي، فهو الرغبة العارمة لدى اليهودي في العودة إلى فلسطين (أرض الوطن ـ أرض الأجداد والأسلاف ـ الوطن القومي ـ أرض الميعاد) حيث إنه يشعر بالاغتراب العميق في أرض المنفى (الأمر الذي أدَّى إلى إفساد الشخصية اليهودية). وتعود هذه الرغبة إلى أن اليهود، من منظور صهيوني، يشكلون قومية رغم أنهم لا يوجدون في مكان واحد ولا يتحدثون لغة واحدة ولا يتسمون بسمات عرْقية أو نفسية واحدة ولا يخضعون لظروف اقتصادية واحدة. وقد بدأت المسألة اليهودية يوم أن ترك اليهود وطنهم قسراً. والصهيونية هي التي ستضع نهاية لهذا الوضع، وهي ستفعل ذلك عن طريقة آلية جديدة، فهي ترفض سلبية اليهودية الحاخامية وخنوع الشخصية اليهودية، وبالتالي سوف تحرِّض اليهود على العودة بأنفسهم إلى فلسطين ليحققوا تطلُّعهم القومي وستقوم بتنظيمهم لتحقيق هذا الهدف. ولكل هذا، تنظر الصهيونية إلى نفسها باعتبارها التعبير الحقيقي والوحيد عن مسار التاريخ اليهودي.
لكن هذه الرؤية الصهيونية لتاريخ الصهيونية ليس ذات مقدرة تفسيرية عالية إذ أنها تفشل في أن تفسر سبب ظهور الصهيونية بين اليهود في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر ولم تظهر قبل ذلك التاريخ في مكان آخر. ولو كان سبب ظهور الصهيونية هو عداء الأغيار لليهود ورغبتهم العارمة في العودة، لكان الأولى أن تظهر الصهيونية إبان حروب الفرنجة على سبيل المثال. وكيف نفسر ظهور الفكر الصهيوني في الأوساط الاستعمارية الغربية وهم لا يدينون باليهودية ولا يوجد عندهم أي تطلُّع للعودة ولم يتعرضوا لاضطهاد الأغيار؟
وفي تصوُّرنا أن الصهيونية تعود إلى مركب من الأسباب التاريخية والحضارية والفكرية (انظر: «السياق التاريخي والاقتصادي والحضاري للصهيونية» ـ «المصادر العلمانية للفكر الصهيوني») لعل أهمها طراً هو ظهور الإمبريالية كرؤية معرفية وحركة سياسية اكتسحت العالم بأسره وحولته نظرياً وفعلياً إلى مادة لا قداسة لها تُوظَّف في خدمة الشعوب الغربية. وقد واكب هذا ظهور معاداة اليهود الحديثة التي ارتبطت تماماً بتصاعُد معدلات العلمانية الشاملة والعنصرية. ومن هذه النقطة سنطرح تعريفاً للصهيونية، وسوف يتضمن هذا التعريف الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تنظر إلى اليهود من الخارج، وسنضع بين قوسين الديباجات الصهيونية اليهودية التي هوَّدت الصيغة ومن ثم يسَّرت على المادة البشرية المستهدفة استبطانها.
ويمكن تعريف الصهيونية بشكل مبدئي بأنها حركة داخل التشكيل السياسي والحضاري الغربي تنظر إلى اليهود من الخارج باعتبارهم فائضاً بشرياً، فهم بقايا الجماعات الوظيفية اليهودية التي فَقَدت وظيفتها ونفعها وتحوَّلت إلى شعب عضوي منبوذ وفائض بشري لا نفع له (ويتم تهويد هذا حيث ينظر اليهود إلى أنفسهم من الداخل باعتبارهم الشعب المختار أو الشعب العضوي أو الشعب الذي فقد وطنه ولذا فهو لا يمكنه تحقيق رسالته). هذا الفائض (الشعب) يجب أن يُهجَّر (يعود) من أوطانهم (أرض المنفى) إلى خارج أوربا في أية بقعة في العالم. ثم تحدَّدت البقعة بفلسطين (صهيون أو إرتس يسرائيل أو أرض إسرائيل في المصطلح الصهيوني). وسيتم نقلهم حتى يتم توظيفهم وتحويلهم إلى عنصر استيطاني قتالي يقوم على خدمة المصالح الغربية (واحة الديموقراطية الغربية ـ نور الأمم ـ مركز الثقافة اليهودية ـ وطن قومي يهودي ـ مكان تحقق فيه رسالة اليهود المقدَّسة) نظير أن يضمن الغرب بقاءه واستمراره داخل إطار الدولة الوظيفية.
وحركة النقل السكاني هذه تتضمن حركة أخرى لا تذكرها الأدبيات الصهيونية إلا نادراً. فالعنصر السكاني الجديد لن يقوم باستبعاد السكان الأصليين أو استغلالهم عن طريق سرقة أرضهم وتحويلهم إلى عمالة رخيصة وإنما سيحل محلهم. فالمستوطن الصهيوني يريد الأرض خالية من السكان، وبالتالي لابد من التخلص منهم إما عن طريق الإبادة (على الطريقة الأمريكية)، وهذا أمر أصبح مستحيلاً، أو عن طريق التهجير، ومن ثم فإن المشروع الصهيوني ليس مشروعاً استعمارياً غربياً وحسب، وليس مشروعاً استعمارياً استيطانياً وحسب، وإنما هو مشروع استعماري غربي، استيطاني إحلالي، له ديباجات يهودية فاقعة.
ورغم هذه الديباجات، ومع أن هناك بعض ملامح خصوصية بل متفردة في الصهيونية، فإنها في تصوُّرنا ليست حركة عالمية، فهي ليست ثمرة تفاعل حركيات عالمية على مستوى التاريخ العالمي وإنما ثمرة قوى حضارية وسياسية واجتماعية داخل التشكيل الحضاري الغربي. بل نذهب إلى أن الصهيونية إشكالية كامنة داخل الحضارة الغربية ولا يمكن فهمها بمعزل عن سياق هذه الحضارة وتياراتها الفكرية والقوى السياسية والاجتماعية التي تعتمل فيها والإشكاليات الكبرى التي تواجهها. ولعل معظم الناس يسمونها «صهيونية عالمية» لأنها أطلقت على نفسها هذا الاسم، ولأنه حدث ترادف كامل في عقول معظم الناس بين ما هو غربي وما هو عالمي.
ولكل هذا، فإن تاريخ الصهيونية هو بالدرجة الأولى جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية، ولا يمكن فهمه خارج حركيات هذا التاريخ. وسنستخدم الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كوحدة تحليلية تبسيطية أساسية نقدم من خلالها تاريخ الصهيونية. ولنا أن نلاحظ أن التاريخ الذي نقدمه من خلال الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة مرتبط تماماً بتاريخ تحوُّل الجماعات اليهودية في الغرب إلى جماعات وظيفية وبفقدانها هذا الدور في عصر النهضة. وهو الأمر الذي أدَّى إلى تصاعد حمى معاداة اليهود وتزايد وتيرة الدعوة الصهيونية بين غير اليهود ثم بين اليهود، فهو إطار تاريخي عام ينتظم تاريخ الغرب وتاريخ الصهيونية بين غير اليهود واليهود وتاريخ معاداة اليهود. ونحن نصر دائماً على ما نسميه «نظرية الصهيونيتين»، أي أن هناك صهيونيتين، واحدة توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ رؤيتها وتاريخها ومصالحها وجماهيرها، ولكنهما تحالفا بعد صدور وعد بلفور. ولكن، رغم هذا التحالف، فإن كل صهيونية لا تزال محتفظة بتوجُّهها ومقاصدها وجماهيرها.
وفي مداخل هذا الباب سنقوم أولاً بتقديم السياق التاريخ والاقتصادي والحضاري للصهيونية، ثم نقدم تاريخاً موجزاً للفكر والحركة الصهيونية. وفي بقية مداخل الباب سنقدم تواريخ الحركة الصهيونية في مختلف بلاد العالم.
الســـياق التاريخي والاقتصــادي والحضــاري للصهيونيـة
Historical, Economic, and Cultural Contexts of Zionism
ثمة مركب من الأسباب الحضارية والاقتصادية والتاريخية أدَّى إلى ظهور الصهيونية (بين غير اليهود واليهود) سنحاول أن نوجزها في هذا المدخل، وبإمكان القارئ العودة للمداخل الخاصة بكل عنصر. ويُلاحَظ أننا استبعدنا مفهوم "التسامح مع اليهود" (انظر: «التسامح مع اليهود») لأنه لا يصلح كمفهوم تفسيري، كما أن مضمونه السياسي والتاريخي يختلف من مرحلة لأخرى، كما أن ما يبدو تسامحاً قد يكون بغضاً، وما يبدو وكأنه بُغض قد يكون تسامحاً. ومن المعروف أن بلفور الذي أصدر الوعد الشهير كان يكن بُغضاً عميقاً لليهود، على حين أننا نجد أن سير إدوين مونتاجو الذي وقف ضده وضد المشروع الصهيوني برمته كان يهودياً يكن الاحترام لبني ملته. وإذا كانت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تتضمن الإيمان بضرورة نقل الشعب العضوي المنبوذ النافع ثم توظيفه لصالح الحضارة الغربية، فهل هذا يعبِّر عن البُغض أو يدل على التسامح والمحبة؟
كما يجب ملاحظة أن تاريخ الصهيونية تاريخ مركب لأقصى حد ويتضمن ساحات ثلاثاً هي:
أ ) أوربا: باعتبارها مصدر المادة البشرية والقوى الإمبريالية الراعية.
ب) فلسطين: باعتبارها المكان الذي تُنقَل إليه المادة البشرية.
جـ) العالم: باعتبار أن أعضاء الجماعات اليهودية يوجدون في العالم بأسره.
ورغم تعدُّد الساحات، إلا أن سياق الحركة والفكر الصهيونيين يظل سياقاً غربياً تماماً، إذ أن حركيات الصهيونية مرتبطة تماماً بالتاريخ العام للغرب،،وخصوصاً أن الغالبية الساحقة من يهود العالم موجودة في الغرب. فتاريخ الصهيونية جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية وما صاحبه من ظواهر مرضية أو صحية (مثل معاداة اليهود وتصاعُد معدلات العلمنة والثورة الصناعية)، وليس ذا علاقة كبيرة بالتوراة والتلمود أو «حب صهيون» أو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي».
ويمكننا أن نُورد الأسباب التالية لظهور الصهيونية:
1 ـ فشل المسيحية الغربية في التوصل إلى رؤية واضحة لوضع الأقليات على وجه العموم، ورؤيتها لليهود على وجه الخصوص؛ باعتبارهم قتلة المسيح ثم الشعب الشاهد (في الرؤية الكاثوليكيـة) وأداة الخلاص (في الرؤية البروتستانتية) ـ (انظر الباب المعنون «الإقطاع الغربي» ( .
2 ـ انتشار الرؤية الألفية الاسترجاعية والتفسيرات الحرفية للعهد القديم التي تعبِّر عن تزايد معدلات العلمنة (انظر: «الأحلام والعقائد الألفية» ـ «العقيدة الاسترجاعية» ( .
3 ـ وضع اليهود كجماعة وظيفية داخل المجتمع الغربي (كأقنان بلاط ـ يهود بلاط ـ يهود أرندا ـ صغار تجار ومرابين) وهو وضع كان مستقراً إلى حدٍّ ما إلى أن ظهرت البورجوازيات المحلية والدولة القومية العلمانية (المطلقة والمركزية) فاهتز وضعهم وكان عليهم البحث عن وظيفة جديدة (انظر الباب المعنون «الجماعات اليهودية الوظيفية» ( .
4 ـ مناقشة قضية إعتاق اليهود في إطار فكرة المنفعة، ومدى نفع اليهود للمجتمعات الغربية (انظر: «نفع اليهود» ( .
5 ـ ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي ترى العالم بأسره مادة نافعة تُوظَّف وتُحوسَل (انظر: «الرؤية المعرفية الإمبريالية والصهيونية» ( .
6 ـ تَزايُد عدد أعضاء الجماعات اليهودية زيادة ملحوظة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وخصوصاًً في شرق أوربا، ابتداءً من القرن التاسع عشر (انظر الباب المعنون «إشكالية التعداد» ( .
7 ـ وجود اليهود في مناطق حدودية مُتنازَع عليها بين الدول الغربية (انظر: «الحدودية» ( .
8 ـ تعثُّر التحديث في شرق أوربا الأمر الذي دفع بالألوف إلى أوربا الغربية، وهو ما ولَّد الفزع في قلوب حكومات غرب أوربا وأعضاء الجماعات اليهودية فيها. ونحن نذهب إلى أن عام 1882 (تاريخ صدور قوانين مايو التي كرَّست تعثُّر التحديث في الإمبراطورية القيصرية الروسية) هو تاريخ ظهور الصهيونية بين اليهود (انظر: «المسألة اليهودية» ( .
9 ـ عزلة يهود اليديشية ثقافياً وبخاصة في منطقة الاستيطان وفشل قطاعات كبيرة منهم في التكيف مع الأوضاع الجديدة.
10 ـ أزمة اليهودية الحاخامية وظهور حركات الإصلاح والدمج (انظر: «أزمة اليهودية» ( .
11 ـ سقوط القيادات التقليدية للجماعات اليهودية (الحاخامات وأثرياء اليهود) وظهور المثقف اليهودي الذي فقد هويته اليهودية ولم يكتسب هوية غربية جديدة، فهو يهودي غير يهودي يصر عالم الأغيار على تصنيفه يهودياً، ومثل هؤلاء المثقفين هم الذين أخذوا بالتدريج يحلون محل القيادات التقليدية (انظر: «قيادات الجماعات اليهودية» ( .
12 ـ ظهور الفكر العنصري وهيمنته على قطاعات كبيرة في المجتمعات الغربية (انظر الباب المعنون «العنصرية الصهيونية» ( .
13 ـ ولكن أهم العناصر على الإطلاق هو ظهور الإمبريالية الغربية كقوة عسكرية وسياسية عالمية (بمعنى أن ساحتها العالم بأسره) تُجيِّش الجيوش وتنقل السكان وتقسم العالم. وقد وجدت الإمبريالية الغربية في أعضاء الجماعات اليهودية ضالتها باعتبارهم مادة استيطانية تسبب مشاكل أمنية إن بقيت داخل العالم الغربي، ولكنها تستطيع أن تزيد نفوذه إن نُقلت خارجه وتحولت إلى مادة قتالية تحوسل لحساب الغرب داخل نطاق الدولة الوظيفية. ووجدت القيادات الصهيونية بدورها أن ثمة إمكانية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ من خلال تَقبُّل الوظيفة القتالية المطروحة.
ويجب ملاحظة أن الصهيونية التوطينية ظهرت في غرب أوربا حيث كان عدد اليهود صغيراً وحيث حقق أعضاء الجماعات اليهودية قدراً عالياً من الاندماج والعلمنة في مجتمعات كانت تحل مشاكلها الاجتماعية عن طريق الاستعمار وغير ذلك من الآليات. أما الصهيونية الاستيطانية فقد ظهرت أساساً في شرق أوربا حيث توجد كثافة سكانية يهودية ضخمة، وحيث تفاقمت القضايا الاجتماعية دون حل حتى عام 1917.
ثم ظهرت الصهيونية النفعية (صهيونية المرتزقة) بعد ذلك بين يهود الدول العربية منذ عام 1948، وبين يهود الاتحاد السوفيتي بعد عام 1917، وتصاعدت وتيرتها بعد عام 1970. والسياق التاريخي للصهيونية النفعية يتفاوت من بلد لآخر، ومن جماعة يهودية إلى أخرى.
الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية: تاريخ موجز
Zionist Thought and Movement: Brief History
تاريخ الصهيونية مركب لأقصى حد بسبب تداخل مستوياته وساحاته. وسنحاول تقديم هذا التاريخ الموجز من خلال ثلاث عناصر: الساحة ـ الخلفية ـ المادة البشرية المستهدفة، وسنقسم تاريخ الصهيونية إلى أربعة مراحل أساسية:
أولاً: المرحلة التكوينية.
ثانياً: مرحلة الولادة في مطلع القرن العشرين .
ثالثاً: الاستيطان فى فلسطين .
رابعاً: أزمة الصهيونية.
وسنقسِّم كل مرحلة إلى فترات مختلفة.
أولا: المرحلة التكوينية.
1 ـ الصهيونية ذات الديباجـة المسـيحية )حتى نهاية القرن السابع عشر(:
شهدت هذه المرحلة من ناحية الخلفية العامة البدايات الحقيقية للانقلاب التجاري في الغرب. إذ هيمن الجيب التجاري (الذي كان منعزلاً في المدن في أوربا الإقطاعية) على الاقتصاد الزراعي الإقطاعي عام 1500 تقريباً، وأعاد صياغة الإنتاج وتوجيهه بحيث خرج به عن نطاق الاكتفاء الذاتي وسد الحاجة. وبدأ التجار يلعبون دوراً مهماً في توجيه سياسات الحكومات، وهذا ما يُعبَّر عنه باصطلاح «الانقلاب التجاري». وقد شجع هذا الانقلاب حركة الاكتشافات الجغرافية، وهي حركة استعمارية ضخمة كانت تأخذ شكل استيطان في مراكز تجارية على الساحل. وفي أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، أصبحت إنجلترا، بعد أن تحوَّلت عن الكاثوليكية ونفضت النفوذ الإسباني عنها، أهم قوة استعمارية، فراكمت الثروات وسيطرت على رقعة كبيرة من الأرض. وواكب كل هذا حركة الإصلاح الديني التي أعادت تعريف علاقةالإنسان بالخالق وبالكتاب المقدَّس بحيث أصبح في إمكان الفرد أن يحقق الخلاص بنفسه لنفسه خارج الإطار الكنسي الجمعي، ودون حاجة إلى رجال الدين، وأصبح من واجبه أن يفسر الكتاب المقدَّس لنفسه.
وإذا ما تركنا الخلفية جانباً وانتقلنا إلى الساحة، فلسطين، وجدنا أن الإمبراطورية العثمانية في هذه المرحلة كانت لا تزال تقف شامخة تحمي كل رعاياها، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، وتُشكِّل كتلة بشرية ضخمة متماسكة، ولم يكن الاستعمار الغربي يجرؤ على مواجهتها، وكان يفضل الالتفاف من حولها. ومع هذا يجب أن نسجل أن هذه الفترة شهدت بداية جمود الدولة العثمانية وظهور علامات ضعفها (في الوقت الذي كانت فيه الدول القومية الأوربية تزداد قوة بتأثير الانقلاب التجاري).
ظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية في أواخر القرن السادس عشر على شكل الأحلام الاسترجاعية في الأوساط البروتستانتية الاستعمارية، وخصوصاً في إنجلترا، وقد وُلدت كفكرة وحسب، كإمكانية تبغي التحقق لا في أوربا وإنما خارجها، وليس من خلال الإنسـان الأوربي ككـل، وإنما من خـلال الجمـاعات الوظيفية اليهودية. وكانت الصيغة الصهيونية الأساسية متدثرة بديباجات مسيحية بروتستانتية. وقد كانت هذه الصهيونية ترى اليهود باعتبارهم مادة بشرية يمكن حوسلتها. ولذا، فلم يُتصوَّر أن يكون لهم دولة وظيفية مستقلة (فمركز الحلول هو المسيحيون البروتستانت) والمكان الذي سيُنقَلون إليه كان يختلف من مفكر لآخر. والهدف من نقلهم هو الإعداد للخلاصالمسيحي. ويُلاحَظ أن هذا الضرب من الصهيونية ا(شأنه شأن أية صهيونية توطينية) ينظر إلى اليهود من الخارج كعنصر يُستخدَم ومادة تُوظَّف. وإن كان يجدر ملاحظة أن الصهيونية هي بالدرجة الأولى حركة غير يهودية، لم يشترك فيها أعضاء الجماعة اليهودية من قريب أو بعيد. كما يُلاحَظ أن الخطاب الصهيوني كان هامشياً جداً،مقصوراً على الأصوليين البروتستانت.
2 ـ صهيونية غير اليهود (العلمانية) (حتى منتصف القرن التاسع عشر):
شهدت هذه المرحلة تراكم رؤوس الأموال وهيمنة الملكيات المطلقة (بتوجهها المركنتالي) على معظم أوربا، غربها ووسطها، وإلى حدٍّ ما شرقها. ورغم أن القوى السياسية التقليدية كانت لا تزال مسيطرة على دفة الحكم فإن الطبقات البورجوازية ازدادت قوة وثقة بنفسها وبدأت تطالب بنصيب من الحكم، بل بدأت تؤثر فيه. وقد عبَّر هذا عن نفسه من خلال الفلسفات الثورية المختلفة والنظريات الكثيرة عن الدولة والفكر العقلاني، وأخيراً من خلال الثورة الفرنسية التي تُعدُّ ثمرة كل الإرهاصات السابقة وتشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ أوربا بأسرها.
وقد أدَّى تراكم رؤوس الأموال والفتوحات العسكرية والاكتشافات الجغرافية وتقدُّم العلم والتكنولوجيا إلى حدوث النقلة النوعية التي يُطلَق عليها «الثورة الصناعية»، ويرىبعض المؤرخين أن بدايتها تعود إلى هذه الفترة. وكانت إنجلترا في المقدمة في هذا التحول، فقد كانت أول دولة في العالم تتحول من دولة تجارية إلى دولة رأسماليةصناعية، ثم تحوَّلت إلى قوة عظمى بعد انتصارها على فرنسا في حرب السنوات السبع، وبعد توقيع معاهدة أوترخت عام 1713. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت إنجلترا أكبر قوة استعمارية في العالم. ومع تصاعُد المشروع الاستعماري انزوى دعاة الديباجات الدينية وتدثرت الصياغة الصهيونية الأساسية بالديباجات العلمانية الرومانسية والعضوية والنفعية والعقلانية. وقد دعا نابليون (أول غاز في الشرق الإسلامي وعدو اليهود) إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين مستخدماً خليطاً من الديباجات الرومانسية والدينية والنفعية.
وكان الوهن الذي دب في أوصال الدولة العثمانية (رجل أوربا المريض) قد بدأ يظهر ويتضح، وكانت كل القوى الغربية تفكر في طريقة للاستفادة من هذا الضعف لتحقق لنفسها بعض المكاسب. وقد أخذ هذا شكل الهجوم المباشر من روسيا التي ضمت بعض الإمارات التركية على البحر الأسود، ثم هجوم نابليون على مصر، بينما قررت إنجلترا، ومن بعدها ألمانيا (في مراحل مختلفة) الحفاظ على هذه الإمبراطورية مع تحقيق المكاسب من خلال التدخل في شـئونها و"إصلاحـها" حتـى تقف حـاجزاً ضـد أي زحف روسي محتمل.
ولعل أهم حقيقة سياسية في هذه المرحلة هي ظهور محمد علي المفاجئ وقيامه بتكوين إمبراطوريته الصغيرة. فقد قلب موازين القوى وهدد المشروع الاستعماري الغربي الذي كان يفترض أن العالم كله إن هو إلا ساحة لنشاطه وسوق لسلعه، ووضع حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المواتية لاقتسام تركة الرجل المريض المحتضر. ولذا تحالفت الدول الغربية كلها، ومنها فرنسا، وعقدت مؤتمر لندن عام 1840 وقررت فيه الإجهاز عليه، فاضطرته إلى التوقيع على معاهدة لندن لتهدئةالمشرق. وعند هذه النقطة تبلورت الفكرة الصهيونية بين غير اليهود، وتحوَّلت من مجرد فكرة إلى مشروع استعماري محدد، إذ بدأت تُطرَح فكرة تقسيم الدولة العثمانية ومن ثم اكتسبت الصيغة الصهيونية الأساسية مضموناً تاريخياً وبُعْداً سياسياً، وأصبح بالإمكان دمج المسألة اليهودية (مسألة الشعب العضوي المنبوذ) مع المسألة الشرقية (تقسيم الدولة العثمانية) وطُرحت إمكانية توظيف الشعب المنبوذ وبدأ التفكير في حل المسألة اليهودية عن طريق نَقْل اليهود إلى فلسطين وإيجاد قاعدة للاستعمار الغربي (أي أن تتم حوسلة اليهود باسم الحضارة الغربية ومصالحها التي هي مركز الحلول). ويمكن القول بأن الفكرة الصهيونية قد بدأت تتحول إلى فكرة مركزية في الوجدانالسياسي الغربي. وهذه المرحلة هي مرحلة صهيونية غير اليهود (العلمانية)، وهي صهيونية توطينية. وظهر أهم مفكر صهيوني (إيرل أوف شافتسبري السابع)، كما ظهر لورانس أوليفانت. ولكن، حـتى هـذه المرحلة، لم تكـن فكرة الدولة اليهودية قد ظهرت، إذ كان التصور لا يزال أن يكون التجمُّع اليهودي محمية تابعة لدولة غربية. وحتى فلسطين نفسها كمكان للتجمُّع كان لا يزال أمراً غير مقرر. وكانت النظرة لليهود لا تزال خارجية، فقد كان يُنظَر إليهم كمادة استعمالية لا قيمة لها في حد ذاتها تكتسبقيمتها من نفعها. وكانت ديباجات الصهيونية في هذه المرحلة عقلانية مادية ورومانسية (لاعقلانية مادية(.
3 ـ صهيونية أثرياء اليهود المندمجين في مجتمعاتهم الغربية (النصف الثاني من القرن التاسع عشر(:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تَعُد الحروب ضد دول آسيا وأفريقيا، بعد التطورات الصناعية المذهلة في أوربا، أمراً يبهظ خزائن الدول الاستعمارية، بل إن العائد أصبح يفوق التكاليف (وكانت إحدى مقولات أعداء المشروع الاستعماري أن تكاليف الإمبراطورية تفوق عائدها). ومما تجدر ملاحظته كذلك أن الضغوط السكانية والأزمة الاقتصادية داخل المجتمعات الغربية جعلتها تبحث عن حل لمشاكلها خارج أوربا. ولكل هذا طرحت الإمبريالية نفسها باعتبارها المخرج من المأزق التاريخي.
ولكن المشروع الإمبريالي لم يكن يتم في ظل نظريات التجارة الحرة، إذ سيطر فكر احتكاري جديد يُسمَّى «نيو ـ مركنتالي neo-mercantile» (أي «المركنتالي الجديد») بحيث تم تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ واحتكارات، كل منطقة منها مقصورة على الدولة التي استعمرتها (ومن هنا المؤتمرات الدولية المختلفة في هذه الفترة لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ). ومع منتصف القرن التاسع عشر كانت إنجلترا ورشة العالم بلا منازع. فإنتاجها الصناعي كان قد وصل إلى مستوى لم تعرفه البشرية من قبل، وإمبراطوريتها كانت مترامية الأطراف تحميها قوة عسكرية ضخمة وأسطول يُسيطر على كل بحار العالم. وقد اتخذت السياسة البريطانية شكلاً إمبريالياً أكثر حدة، ولا سيما بعد تحطيم مطامع روسيا في حرب القرم، وبعد أن تحوَّل مشروعها الاستعماري إلى أواسط آسيا وغيرها من المناطق البعيدة عن أفريقيا والشرق الأوسط اللذين تزايد الاهتمام الإمبريالي البريطاني بهما. فاشترت بريطانيا أسـهم شركة قناة السـويس عام 1876، واستولت على قبرص عام 1878، واحتلت مصر (الطريق إلى الهند) عام 1882. ونتيجة كل هذا أصبح مصير فلسطين جزءاً من المخطط الاستعماري البريطاني، الأمر الذي حدا بكتشنر أن يطالب بتأمين ضم فلسطين للإمبراطورية. ومع هذا كانت بريطانيا لا تزال ملتزمة بضمان ممتلكات الدولة العثمانية "من النيل إلى الفرات" التي "وعد الرب بها إبراهيم" ومن ثم أصبحت منطقة نفوذ بريطانية. ولكن فيعام 1885 قرَّرت حكومة المحافظين أن من الخير الموافقة على اقتراح القيصر بتقسيم الإمبراطورية (العثمانية).
ومع هزيمة فرنسا على يد ألمانيا عام 1871 نشط المشروع الإمبريالي الألماني، وبالتالي العلاقة مع الدولة العثمانية، فزاد حجم القروض الألمانية لها، وزار القيصر وليام الثاني القسطنطينية عام 1898 وزار بعدها فلسطين، ولذا ظل المشروع الصهيوني متأرجحاً بين أعظم قوتين إمبرياليتين في ذلك الحين، البريطانية والألمانية.
كانت الصيغة الصهيونية حتى هذه المرحلة مجرد فكرة غربية تبحث عن المادة البشرية اليهودية المُستهدَفة التي ستُوظَّف. ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، تدفَّق المهاجرون اليهود من شرق أوربا إلى غربها، الأمر الذي هدَّد أمن هذه الدول كما هدَّد مكانة أعضاء الجماعات اليهودية فيها، وقد أدَّى هذا إلى تشابك مصير يهود غرب أوربا ومصير يهود اليديشية. وحلاًّ لهذه المشكلة، اكتشف يهود الغرب الحل الصهيوني دون أية ديباجات قومية أو سياسية (ومن هنا رفض فكرة الدولة اليهودية والابتعاد عن فلسطين كمكان للتوطين وعدم الاهتمام بالدولة الراعية إذ لا حاجة لها) وظهرت الصهيونية التوطينية بين أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا، وخصوصاً بين الأثرياء منهم المندمجين في مجتمعاتهم. وعلى هذا، فهو يعتبر أول اتجاه صهيوني يظهر بين اليهود، ومع هذا فهو يشبه صهيونية غير اليهود في أنه ينظر لليهود من الخارج.
ويمكننا أن نقول إن تاريخ صهيونية غير اليهود يبدأ مع ظهور حركة الاستعمار الاستيطاني وتتبلور ديباجاته وتكتسب بُعْداً أساسياً مع ظهور محمد عليّ وسقوطه (ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية لا علاقة لهم بتطور الفكرة الصهيونية). ولا يبدأ تاريخ الصهيونية عند اليهود إلا مع تعثُّر التحديث وتعاظم الإمبريالية، كرؤية وكممارسة.
ومن أهم الصهاينة التوطينيين في هذه المرحلة إدموند دي روتشيلد وهيرش ومونتفيوري.
4 ـ إرهاصات التيارات الصهيونية المختلفة بين اليهود (العقود الأخيرة في القرن التاسع عشر):
لا تختلف الخلفية التاريخية لهذه المرحلة كثيراً عن سابقتها، فالإمبريالية الغربية كانت قد قسَّمت العالم بينها. وكانت ألمانيا تحاول أن تُعيد التقسيم لتوسيع الرقعة التي تهيمن عليها. ومن هنا استمرار تذبذب الصهاينة بين بريطانيا وألمانيا. ورغم أن سياسة بريطانيا الرسمية كانت الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية وأملاكها إلا أن القرار بتقسيمها كان قد تم اتخاذه بالفعل. وكان التعبير عن كل هذه الصراعات هو الحرب العالمية الأولى التي انتهت بضم فلسطين (الساحة) إلى الإمبراطورية البريطانية واختفاء الدولة العثمانية كقوة سياسية.
أ) الصهيونية التسللية: اكتشف يهود شرق أوربا الصهيونية كحركة استيطانية، ولكنهم لم يدركوا حتمية الحل الإمبريالي. ونظراً لقصور رؤيتهم، حاولوا الاستيطان دون دعم إمبريالي، وحاولوا تجنيد أثرياء يهود الغرب المندمجين ليرعوا مشروعهم ويدعموه، وهذا ما سميناه «الصهيونية التسللية» (التي يقال لها «عملية») وهي أول صهيونية استيطانية وتتسم بأنها نابعة من المادة البشرية المُستهدَفة. ويظل مفهوم الدولة شاحباً بين دعاة الصهيونية التسللية، كما أن فلسطين ليست بالضرورة ساحة الاستيطان. ومن أهم دعاة الصهيونية التسللية ليلينبلوم وبنسكر، ثم ظهرت جماعات البيلو وأحباء صهيون. ويمكن النظر إليها باعتبارها إرهاصات لهرتزل وللصيغة الصهيونية الأساسية بعد تهويدها.
ب) إرهاصات الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية: وظهرت كتابات كاليشر والقلعي التي تُعتبر إرهاصات الصهيونية الإثنية الدينية، ونشر آحاد هعام كتاباته الصهيونية التي ترى أهمية تأسيس دولة يهودية في فلسطين، ولكن وظيفتها لم تكن الإسراع بعملية دمج اليهود بل الحفاظ على هويتهم.
جـ) إرهاصات الصهيونية العمالية: وقد ظهرت كذلك كتابات هس في منتصف القرن التاسع عشر التي ساعدت مفكري الصهيونية العمالية على صياغة أفكارهم.
5 ـ مرحلة هرتزل (العقود الأخيرة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(:
ظهر هرتزل بين صفوف يهود الغرب المندمجين التوطينيين فاكتشـف حاجـة الغرب ويهود الغرب للتخلص وبسرعة من يهود شرق أوربا. ولكنه اكتشف الحقيقة البدهية الغائبة عن الجميع: حتمية التحرك داخل إطار الإمبريالية الغربية التي يمكنها وحدها أن تنقل اليهود خارج أوربا وأن توظفهم لصالحها نظير أن تزودهم بالدعم والحماية. وقد اكتشف هرتزل أيضاً فكرة القومية العضوية والشعب العضوي (فولك) التي تستطيع أوربا العلمانية الإمبريالية أن تدرك اليهود من خلالها. وقد نجـح هرتزل في التوصُّـل إلى خطـاب مراوغ وهو ما جعل وضع نصوص العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم ممكناً. وهو عقد يُرضي يهود الشرق ولا يُفزع يهود الغرب، ويجعل بإمكان الإمبريالية أن تضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. كما أنه فتح الباب أمام عملية تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية من خلال الديباجات اليهودية المختلفة. ويتميز هرتزل عن كل من شافتسبري وأوليفانت في أنه هو نفسه يهودي ينظر إلى المادة البشرية المُستهدَفة من الداخل. ولكنه مع هذا يهودي غير يهودي، ولذا فهو ينظر إلى هذه المادة من الخارج ويراها باعتبارها مشكلة تبغي حلاًّ لا قيمة إنسانية تبغي التحقق. وبسبب ازدواجيته هذه، نجح هرتزل في أن يكون جسراً بين التوطينيين والاستيطانيين وبين اليهود والغرب، ولذا يمكن القول بأن الصهيونية تحوَّلت من فكرة إلى مشروع استيطاني استعماري على يد هرتزل في مؤتمر بال الذي وُلدت فيه الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وقد فزع أثرياء الغرب اليهود من دعوة هرتزل في بادئ الأمر، كما رفضها معظم الجماعات والمنظمات اليهودية في العالم.
6 ـ تبلور الفكرة الصهيونية بين اليهود:
أ) حتمية الحل الإمبريالي: أدرك قادة يهود شرق أوربا حتمية الحل الإمبريالي من خلال هرتزل.
ب) استقرار الصيغة الصهيونية الشاملة: تم قبول الدولة اليهودية الوظيفية باعتبارها الهدف الأساسي للحركة الصهيونية والإطار الذي يتم توظيف اليهود من خلاله. وأدَّى تقسيم الدولة العثمانية إلى حسم الأمور تماماً لصالح دعاة الاستيطان في فلسطين.
جـ) تهويد الصيغة الصهيونية: أحس قادة يهود شرق أوربا أن الصيغة الصهيونية الأساسية، وصيغة هرتزل الاستعمارية، لا يمكن أن تُجنِّد يهود اليديشية، ولذا فقد أثاروا قضية المعنى والوعي اليهودي وأضافوا ديباجات إثنية دينية وعلمانية أدَّت إلى تهويد الصيغة الصهيونية وجعلت الشعب اليهودي مرة أخرى مركزاً للحلول وجماعةً لها قيمة في حد ذاتها، الأمر الذي جعل بإمكان يهود شرق أوربا استبطان الصيغة الصهيونية الأساسية. ويُلاحَظ أن الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية لا هي بالتوطينية ولا هي بالاستيطانية لأنها تتوجه لمستوى الهوية والوعي الذي يتجاوز ثنائية الاستيطان والتوطين وإن كان لها ثنائيتها الخاصة (ديني/علماني)، وهي صهيونية تنظر إلى اليهود من الداخل.
د) الديباجات والتيارات السياسية: أدخل بعض الصهاينة العلمانيين ديباجات ليبرالية (الصهيونية العامة) أو اشتراكية (صهيونية عمالية) أو فاشية (الصهيونية التصحيحية) لتحديد شكل الدولة المزمع إقامتها، أي أنهم حددوا شكل الاستيطان، وبذا تكون الفكرة الصهيونية قد اكتملت وتحدَّدت ملامحها وصيغت كل الديباجات اللازمة لتسويقها أمام قطاعات وطبقات الجماعات اليهودية في شرق أوربا وغربها. وحتى ذلك التاريخ، كانت هناك صراعات كثيرة داخل الحركة الصهيونية:
أ ) صراع بين التسلليين والدبلوماسيين.
ب) بين الدينيين والعلمانيين.
جـ) بين دعاة الاعتماد على ألمانيا في مواجهة دعاة الاعتماد على إنجلترا.
د ) صـراعات أيديــولوجيــة بين دعـاة الليبـرالية ودعـاة الاشــتراكية.
هـ) صراع بين دعاة الصهيونية الإقليمية ودعاة الصهيونية التوطينية، أي بين دعاة الاستيطان في أي مكان ودعاة ما يُسمَّى «صهيونية صهيون» أي الاستيطان في فلسطين وحدها.
7 ـ تأسيس المنظمة الصهيونية: لم تكن بلورة الفكرة الصهيونية كافية، بل كان ضرورياً أن يوجد إطار تنظيمي. وقد وضع هرتزل التصور الأساسي في كتابه دولة اليهود ، ثم دعا للمؤتمر الصهيوني الأول (1897) وتم تأسيس المنظمة الصهيونية.
ثانياً: مرحلة الولادة فى مطلع القرن العشرين.
تختلف خريطة العالم السياسية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى عن التي سادت قبلها اختلافاً بيِّناً. فقد انتصر الاستعمار البريطاني على الاستعمار الألماني والتهم النصيب الأكبر من الإمبراطورية العثمانية، ثم ظهرت إرهاصات القومية العربية (ولكن حركة القومية العربية وحركة المقاومة العربية الفلسطينية، وبخاصة في العقود الأولى من هذه الفترة كانت ضعيفة غير قادرة على تعبئة الجماهير وتنظيمها ضد الاستعمارين الإنجليزي والصهيوني بتنظيمهما الحديث وعلاقاتهما العالمية وتعاونهماالوثيق داخل فلسطين وخارجها). وقد تصاعدت المقاومة في الثلاثينيات، ولكن المؤسستين الاستعماريتين نجحتا في قمعها وانتهى الأمر بطرد غالبية الفلسطينيين من ديارهم وأُعلنت الدولة عام 1948 بموافقة الدول الغربية العظمى كلها وموافقة الاتحاد السوفيتي (ولم تظهر المقاومة الفلسطينية مرة أخرى بشكل منظم إلا عام 1965 بقيادة فتح وبمشاركة الفصائل الفلسطينية الأخرى رغم أنها لم تتوقف إذ أخذت أشكالاً تلقائية غير منظمة طيلة الفترة السابقة).
وفي بداية هذه المرحلة ظهرت الولايات المتحدة كقوة كبرى لها ثقل يُعتدُّ به على الصعيد العالمي. أما الاتحاد السوفيتي فقد دخل مرحلة البناء والتحديث الاشتراكي التي فرضت عليه نوعاً من العزلة. ومع ثلاثينيات القرن بدأ مركز الإمبريالية في الانتقال من لندن إلى واشنطن، وهي عملية يمكن القول بأنها اكتملت بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة قائداً للمعسكر الإمبريالي بلا منازع.
كما يُلاحَظ تَركُّز معظم يهود العالم في الولايات المتحدة وقد كان لهذين العنصرين أعمق الأثر في تعميق توجُّه الحركة الصهيونية ثم الدولة الصهيونية نحو أمريكا.
مع وعد بلفور، حُسمت كل الأمور. فبعد ظهور الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وقبول القيادات الصهيونية لها، يظهر بلفور (ممثل الإمبراطورية البريطانية والحضارة الغربية ككل) ويوقع عقد بلفور باعتباره ممثلاً للحضارة الغربية (ويوقعه عن الطرف الآخر الصهاينة التوطينيون من يهود الغرب المندمجين والصهاينة الاستيطانيين اليهود ممثلي المادة البشرية اليهودية من شرق أوربا) فتصبح الحركة الصهيونية مشروعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً متكاملاً.
ويجب ألا نخلق انطباعاً خاطئاً بأن هناك تعاقباً زمنياً صارماً، فالصهيونية ذات الديباجة المسيحية لا تزال مزدهرة رغم أن الحضارة الغربية قد تطوَّرت بطريقة همشت المسيحية ككل، كما أن صهيونية غير اليهود )العلمانية) لا تزال قائمة والصهيونية التوطينية لا تزال هي الصهيونية المنتشرة بين معظم يهود العالم (ويُطلَق عليها صهيونية الدياسبورا(.
وبعد إعلان وعد بلفور، وبعد اكتساب المنظمات الصهيونية الشرعية الاستعمارية التي كانت تسعى اليها، تغيَّرت الصورة تماماً، فلـم تَعُد القضـية قضـية بعض قيـادات الفائض اليهودي من شرق أوربا، ولم تَعُد المسألة متصلة بإغاثة بضعة آلاف من اليهود، وإنما أصبـحت المنظـمة تابعـة لأكبر قوة اســتعمارية على وجه الأرض آنذاك، وأصبحت ذات وظيفة محددة هي نَقْل المادة البشرية اليهودية إلى فلسطين لتأسيس قاعدة لهذه القوة. ولذا فلم يَعُد هناك مجال للاختلافات الصغيرة بين دعاة الاستيطان العمليين مقابل دعاة بذل الجهود الدبلوماسية مع الدولة الراعية. كما لم يَعُد هناك أي مبرر لوجـود دعاة الصـهيونية الإقلــيمية (أي توطين اليهود خارج فلسطين)، وتساقطت بالتالي كثير من التقسيمات الفرعية أو أصبحت غير ذات موضوع، وتم تقسيم العمل على أساس جديد يقبله الجميع، وظهر ما يمكن تسميته «الصهيونية التوفيقية». كما أن الرفض اليهودي للصهيونية فقد دعامته الأساسية: الخوف من ازدواج الولاء إذ أصبح تأييد الصهيونية أمراً لا يتناقض مع ولاء الإنسان الغربي لوطنه وحضارته.