المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ 5

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

القـــدس: مكانتهــا فـي الوجــدان الدينـــي اليـــهودي

Jerusalem: Status in the Jewish Religious Imagination

للقدس أهميتها الخاصة عند المسلمين والمسيحيين واليهود نظراً لما تحتويه من آثار دينية، وهذا ما يجعلها من أهم المراكز الروحية ومن أهم مراكز التوحيد. ولكنها في الوقت نفسه ذات أهمية جغرافية حيث تقع على تَقاطُع الطرق التي تربط جميع أرجاء العالم القديم بقاراته الثلاث. وهذا ما جعلها (شأنها شأن فلسطين ككل)، هدفاً لجميع القوى السياسية الدولية على مرّ العصور. والاهتمام الصهيوني بالقدس والدعم الاستعماري للاستيطان الصهيوني فيها لا علاقة له بتطلعات اليهود الدينية، التي يمكن الوفاء بها دون حاجة لتهويد القدس وتوطين نصف مليون يهودي فيها وربطها بأنفاق وجسور، بالمستوطنات، التي تقع داخل نطاق ما يُسمَّى «القدس الكبرى». بل إن كثيراً من اليهود المتدينين يشكون من أن تهويد القدس يتم في إطار الإثنية اليهودية (اللادينية) وليس في إطار الانتماء الديني، ولذا يُلاحَظ أن المدينة التي كانت ذات صبغة دينية واضحة (مقابل تل أبيب الشيطانية) بدأت تفقد طابعها الديني وتتحوَّل إلى مركز سياحي توجد فيه محلات الأشياء الإباحية على مقربة من حائط المبكى!

وقبل أن نتناول مكانة القدس في الوجدان الديني اليهودي قد يكون من المفيد أن نتناول بشكل موجز مكانتها في وجدان المسيحيين والمسلمين.

ظلت للقدس، لبعض الوقت، مكانتها الخاصة في الوجدان المسيحي، إذ كانت فلسطين تُعَدُّ الوطن المقدَّس الذي ورَّثه المسيح لأبنائه المسيحيين. ولم تكن القدس تُوصَف بأنها «صهيون اليهودية» بل بأنها «مدينة العهد الجديد المقدَّسة». ولم تتضاءل أهمية هذه المدينة كمدينة مقدَّسة إلا بعد عام 590 حين أصبح عرش البابا جريجوري العظيم مركز السلطة المسيحية، وأصبحت لروما الحظوة على القدس. وأصبح أسقف القدس يحتل المرتبة الخامسة في السلسة الهرمية لهيئة الكهنوت الكاثوليكية. ومع ذلك، بقيت فلسطين (الأرض المقدَّسة) تتغلغل في حياة وخيال مسيحيّي العصور الوسطى. وكانت الرحلة إلى الأرض المقدَّسة مطمح كل مسيحي، مع ما قد يرافق ذلك من إغراء بالمغامرة والكسب الاقتصادي ومن مشاهد رائعة، وكان من يزورونها يثيرون لدى الآخرين الرغبة في زيارتها. ولا تزال للقدس مكانتها الخاصة في الوجدان المسيحي (رغم تَراجُع أهمية الحج على الأقل بالنسبة للمسيحيين الغربيين). وللكنيسة القبطية موقف خاص من القضية، فالحج لا يزال من الشعائر المهمة بالنسبة للأقباط، ومع هذا أصدر البابا قراراً بتحريم أداء هذه الشعيرة طالما أن القدس تحت هيمنة الدولة الصهيونية. وأهم الآثار المسيحية في القدس كنيسة القيامة التي تضم قبر السيد المسيحوالكنائس المقامة على جوانب طريق الآلام.

أما بالنسبة للمسلمين فيرجع اهتمامهم بالقدس إلى أنها غاية مسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأرض المعراج ولكونها مباركة (بنص سورة الإسراء) وبها أولى القبلتين وثالث الحرمين. وكان المسلمون يتوجهون بالصلاة إليها حينما كانوا بمكة قبل الهجرة، واستمروا في التوجه للصلاة إلى بيت المقدس حوالي سبعة عشر شهراً حتى أمرهم الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. وهناك أحاديث شريفة كثيرة تبيِّن أهمية القدس ومكانتها عند المسلمين. وقد اهتم بها الحكام والخلفاء المسلمون فأُنشئت فيها المساجد والمقابر والزوايا والتكايا فضلاً عن الأسبلة والأربطة والمدارس. كما أَوقف الكثيرون على القدس معظم الأراضي المجاورة لها. ومن أهم الآثار الإسلامية المقدَّسة في المدينة مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى والحرم المقدسي الذي يضم المسجدين.

وتشغل القدس («أورشليم» في المصطلح الديني) مكاناً مركزياً في الوجدان اليهودي. فبعد أن استولى عليها داود، نُقل إليها تابوت العهد ثم بنى سليمان فيها الهيكل. ويُطلَق على المدينة اسم «صهيون» في الموروث الديني، أما الشعب فهو «بنت صهيون». وهي تضم أيضاً جبل صهيون وقبر داود وحائط المبكى. وقد أصبحت المدينة مركزاً للدين اليهودي يتَّجه إليها اليهود ويذكرونها في صلواتهم، وخصوصاً في الاحتفال بعيد الفصح حيث يرددون: "نلتقي في العام القادم في أورشليم"، وهي المدينة التي كانوا يحجون إليها ثلاث مرات في العام.

وقد أحاط التشريع اليهودي والتراث الأجادي مدينة القدس بكثير من القوانين والأساطير. وفي الأجاداه، تُوجد أوصاف مُسرفة في مديح أورشليم وأهلها، فهي على سبيل المثال سُرَّة العالم ولا يضاهيها في حُسنها مدينة أخرى. وفي محاولة تفسير سبب سقوطها، تلوم الأجاداه أهلها وتُلقي عليهم المسئولية، فأهل أورشليم: "كانوا يحبون المال، يكرهون بعضهم بعضاً، ويكرهون العلماء، ولم يقيموا شعائر السبت". وجاء في الأجاداه أيضاً أن الإله خلق أورشليم عند خلقه العالم، وأنه أقام خيمة الاجتماع فيها، وصلَّى متمنياً ألا يعصيه أبناؤه وحبيبته، أي أورشليم. وهناك كذلك إشارات إلى أورشليم في العصر المشيحاني (أي بعد عودة الماشيَّح المخلِّص اليهودي وقيادته الشعب إلى فلسطين): "فستمتلئ حدودها بالأحجار الكريمة، وسيأتي اليهود ويأخذونها، وسيضاف إليها آلاف الحدائق". وقد طوَّرت القبَّالاه هذه الأفكار حيث صوَّرت أورشليم كأنهاالمكان الذي سيفيض فيه الخير من السماء ومنها يوزَّع على بقية العالم. وهي، بهذا، الشخيناه أو الملكوت الذي سيحكم العالم. وتحيط التلال بالقدس حتى لا تصل إليها قوىالظلام (الجانب الآخر في القبَّالاه) ويقوم على حراستها ملائكة الشخيناه. وأورشليم لا يفصلها أي فاصل عن الإله، وتصعد كل أدعية جماعة يسرائيل من خلالها. كما أنأورشليم، باعتبارها الملكوت، تلعب دوراً مهماً في عملية الإصلاح (تيقون)، إذ ستعلو جدرانها وتقترب من العرش الإلهي. وبهذا، يعود التوازن للعالم، ولعالم التجليات (سفيروت). والقدس إحدى مدن فلسطين الأربع المقدَّسة التي يجب ألا تنقطع فيها الصلاة (إضافة إلى الخليل وصفد وطبرية).

ومع هذا تُحرِّم اليهودية الحاخامية العودة إلى فلسطين (إرتس يسرائيل) ومن ثم القدس، إلا في آخر الأيام. وفي العصر الحديث أحجم أحد كبار الحاخامات عن زيارة القدس وقطع رحلته في طريقه إليها، خوفاً من أن يُفسِّر الصهاينة رحلته هذه بأنها قبول لمبدأ العودة.

وقد حاولت اليهودية الإصلاحية أن تخفَّف من الجانب القومي في اليهودية بأن تُحوِّل فكرة اللقاء في القدس إلى فكرة معنوية تشبه فكرة العصر الذهبي والحلم بالسعادة والفردوس. ولكن الصهيونية فسَّرت الشعار الديني تفسيراً حرفياً وحولته إلى شعار سياسي. وفى إطار هذا الفهم السياسي الضيق، قام الإسرائيليون بتغيير الصلوات، واستبدلوا بالصيغة التقليدية في الدعاء صيغة جديدة تقول: في العام القادم نعيد بناء أورشليم. ولا يعترف السامريون بالقدس مركزاً للدين اليهودي، فنابلس هي مدينتهم المقدَّسة.

القــــدس: تـــاريخ

Jerusalem: History

للقدس أهميتها الخاصة عند المسلمين والمسيحيين واليهود نظراً لما تحتويه من آثار دينية، وهذا ما يجعلها من أهم المراكز الروحية ومن أهم مراكز التوحيد. ولكنها في الوقت نفسه ذات أهمية جغرافية حيث تقع على تَقاطُع الطرق التي تربط جميع أرجاء العالم القديم بقاراته الثلاث. وهذا ما جعلها (شأنها شأن فلسطين ككل)، هدفاً لجميع القوى السياسية الدولية على مرّ العصور. والاهتمام الصهيوني بالقدس والدعم الاستعماري للاستيطان الصهيوني فيها لا علاقة له بتطلعات اليهود الدينية، التي يمكن الوفاء بها دون حاجة لتهويد القدس وتوطين نصف مليون يهودي فيها وربطها بأنفاق وجسور، بالمستوطنات، التي تقع داخل نطاق ما يُسمَّى «القدس الكبرى». بل إن كثيراً مناليهود المتدينين يشكون من أن تهويد القدس يتم في إطار الإثنية اليهودية (اللادينية) وليس في إطار الانتماء الديني، ولذا يُلاحَظ أن المدينة التي كانت ذات صبغة دينية واضحة (مقابل تل أبيب الشيطانية) بدأت تفقد طابعها الديني وتتحوَّل إلى مركز سياحي توجد فيه محلات الأشياء الإباحية على مقربة من حائط المبكى!

وقبل أن نتناول مكانة القدس في الوجدان الديني اليهودي قد يكون من المفيد أن نتناول بشكل موجز مكانتها في وجدان المسيحيين والمسلمين.

ظلت للقدس، لبعض الوقت، مكانتها الخاصة في الوجدان المسيحي، إذ كانت فلسطين تُعَدُّ الوطن المقدَّس الذي ورَّثه المسيح لأبنائه المسيحيين. ولم تكن القدس تُوصَف بأنها «صهيون اليهودية» بل بأنها «مدينة العهد الجديد المقدَّسة». ولم تتضاءل أهمية هذه المدينة كمدينة مقدَّسة إلا بعد عام 590 حين أصبح عرش البابا جريجوري العظيم مركز السلطة المسيحية، وأصبحت لروما الحظوة على القدس. وأصبح أسقف القدس يحتل المرتبة الخامسة في السلسة الهرمية لهيئة الكهنوت الكاثوليكية. ومع ذلك، بقيت فلسطين (الأرض المقدَّسة) تتغلغل في حياة وخيال مسيحيّي العصور الوسطى. وكانت الرحلة إلى الأرض المقدَّسة مطمح كل مسيحي، مع ما قد يرافق ذلك من إغراء بالمغامرة والكسب الاقتصادي ومن مشاهد رائعة، وكان من يزورونها يثيرون لدى الآخرين الرغبة في زيارتها.

ولا تزال للقدس مكانتها الخاصة في الوجدان المسيحي (رغم تَراجُع أهمية الحج على الأقل بالنسبة للمسيحيين الغربيين). وللكنيسة القبطية موقف خاص من القضية، فالحج لا يزال من الشعائر المهمة بالنسبة للأقباط، ومع هذا أصدر البابا قراراً بتحريم أداء هذه الشعيرة طالما أن القدس تحت هيمنة الدولة الصهيونية. وأهم الآثار المسيحية في القدس كنيسة القيامة التي تضم قبر السيد المسيح والكنائس المقامة على جوانب طريق الآلام.

أما بالنسبة للمسلمين فيرجع اهتمامهم بالقدس إلى أنها غاية مسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأرض المعراج ولكونها مباركة (بنص سورة الإسراء) وبها أولى القبلتين وثالث الحرمين. وكان المسلمون يتوجهون بالصلاة إليها حينما كانوا بمكة قبل الهجرة، واستمروا في التوجه للصلاة إلى بيت المقدس حوالي سبعة عشر شهراً حتى أمرهم الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. وهناك أحاديث شريفة كثيرة تبيِّن أهمية القدس ومكانتها عند المسلمين. وقد اهتم بها الحكام والخلفاء المسلمون فأُنشئت فيها المساجد والمقابر والزوايا والتكايا فضلاً عن الأسبلة والأربطة والمدارس. كما أَوقف الكثيرون على القدس معظم الأراضي المجاورة لها. ومن أهم الآثار الإسلامية المقدَّسة في المدينة مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى والحرم المقدسي الذي يضم المسجدين.

وتشغل القدس («أورشليم» في المصطلح الديني) مكاناً مركزياً في الوجدان اليهودي. فبعد أن استولى عليها داود، نُقل إليها تابوت العهد ثم بنى سليمان فيها الهيكل. ويُطلَق على المدينة اسم «صهيون» في الموروث الديني، أما الشعب فهو «بنت صهيون». وهي تضم أيضاً جبل صهيون وقبر داود وحائط المبكى. وقد أصبحت المدينة مركزاً للدين اليهودي يتَّجه إليها اليهود ويذكرونها في صلواتهم، وخصوصاً في الاحتفال بعيد الفصح حيث يرددون: "نلتقي في العام القادم في أورشليم"، وهي المدينة التي كانوا يحجون إليها ثلاث مرات في العام.

وقد أحاط التشريع اليهودي والتراث الأجادي مدينة القدس بكثير من القوانين والأساطير. وفي الأجاداه، تُوجد أوصاف مُسرفة في مديح أورشليم وأهلها، فهي على سبيل المثال سُرَّة العالم ولا يضاهيها في حُسنها مدينة أخرى. وفي محاولة تفسير سبب سقوطها، تلوم الأجاداه أهلها وتُلقي عليهم المسئولية، فأهل أورشليم: "كانوا يحبون المال، يكرهون بعضهم بعضاً، ويكرهون العلماء، ولم يقيموا شعائر السبت". وجاء في الأجاداه أيضاً أن الإله خلق أورشليم عند خلقه العالم، وأنه أقام خيمة الاجتماع فيها، وصلَّى متمنياً ألا يعصيه أبناؤه وحبيبته، أي أورشليم. وهناك كذلك إشارات إلى أورشليم في العصر المشيحاني (أي بعد عودة الماشيَّح المخلِّص اليهودي وقيادته الشعب إلى فلسطين): "فستمتلئ حدودها بالأحجار الكريمة، وسيأتي اليهود ويأخذونها، وسيضاف إليها آلاف الحدائق". وقد طوَّرت القبَّالاه هذه الأفكار حيث صوَّرت أورشليم كأنها المكان الذي سيفيض فيه الخير من السماء ومنها يوزَّع على بقية العالم. وهي، بهذا، الشخيناه أو الملكوت الذي سيحكم العالم. وتحيط التلال بالقدس حتى لا تصل إليها قوى الظلام (الجانب الآخر في القبَّالاه) ويقوم على حراستها ملائكة الشخيناه. وأورشليم لا يفصلها أي فاصل عن الإله، وتصعد كل أدعية جماعة يسرائيل من خلالها. كما أن أورشليم، باعتبارها الملكوت، تلعب دوراً مهماً في عملية الإصلاح (تيقون)، إذ ستعلو جدرانها وتقترب من العرش الإلهي. وبهذا، يعود التوازن للعالم، ولعالم التجليات (سفيروت). والقدس إحدى مدن فلسطين الأربع المقدَّسة التي يجب ألا تنقطع فيها الصلاة (إضافة إلى الخليل وصفد وطبرية).

ومع هذا تُحرِّم اليهودية الحاخامية العودة إلى فلسطين (إرتس يسرائيل) ومن ثم القدس، إلا في آخر الأيام. وفي العصر الحديث أحجم أحد كبار الحاخامات عن زيارة القدس وقطع رحلته في طريقه إليها، خوفاً من أن يُفسِّر الصهاينة رحلته هذه بأنها قبول لمبدأ العودة.

وقد حاولت اليهودية الإصلاحية أن تخفَّف من الجانب القومي في اليهودية بأن تُحوِّل فكرة اللقاء في القدس إلى فكرة معنوية تشبه فكرة العصر الذهبي والحلم بالسعادة والفردوس. ولكن الصهيونية فسَّرت الشعار الديني تفسيراً حرفياً وحولته إلى شعار سياسي. وفى إطار هذا الفهم السياسي الضيق، قام الإسرائيليون بتغيير الصلوات، واستبدلوا بالصيغة التقليدية في الدعاء صيغة جديدة تقول: في العام القادم نعيد بناء أورشليم. ولا يعترف السامريون بالقدس مركزاً للدين اليهودي، فنابلس هي مدينتهم المقدَّسة.

القـــــدس: تهـــويدها

Jerusalem: Judaization

«التهويد» هو عملية نزع الطابع الإسلامي والمسيحي عن القدس وفرض الطابع الذي يُسمَّى «يهودياً» عليها. وتهويد القدس جزء من عملية تهويد فلسطين ككل، ابتداءً منتغيير اسمها إلى «إرتس يسرائيل»، مروراً بتزييف تاريخها، وانتهاءً بهدم القرى العربية وإقامة المستوطنات ودعوة اليهود للاستيطان في فلسطين).

وقد بدأت عملية التهويد منذ عام 1948، وزادت حدتها واتسع نطاقها منذ يونيه 1967. وقد ارتكزت السياسة الإسرائيلية على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بنيوي فاستولت السلطات الإسرائيلية على معظم الأبنية الكبيرة في المدينة واتبعت أسلوب نسف المنشآت وإزالتها لتحل محلها أخرى يهودية، كما قامت بالاستيلاء على الأراضي التي يمتلكها عرب وطردهم وتوطين صهاينة بدلاً منهم.

وقد أعلن بن جوريون في مجلس الشعب المؤقت (الكنيست فيما بعد) يوم 24 يونية 1948 أن مسألة إلحاق القدس بإسرائيل ليست موضع نقاش، فما يُناقش هو كيفية تحقيق هذا الهدف. وقد أُعلنت القدس عاصمة لإسرائيل في 23 يناير 1950.

وقد قامت السلطات الإسرائيلية بنقل وزاراتها إلى القدس (الغربية) وأنفقت موازنات كبيرة على تطويرها. وبعد أن كان المستوطنون الصهاينة لا يملكون سوى 18% فقط من الأرض قبل عام 1948، أصبح الوجود العربي في هذا الجزء لا يُذكَر وبخاصة مع طرد 30 ألف فلسطيني من القدس (الغربية) نفسها و40 ألف آخرين من القرى المجاورة التي دخلت غالبيتها فيما بعد في نطاق بلدية القدس.

وحينما نشبت حرب 1967 اجتاحت القوات الإسرائيلية المدينة بأكملها. وحينما ظهرت إمكانية صدور قرار عن مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار قبل تنفيذ خطةالاستيلاء على المدينة تقرر اقتحام المدينة القديمة، وتم الاستيلاء عليها في السابع من يونيه ودخل ديان إلى القدس ليُعلن أمام حائط المبكى: "لقد أعدنا توحيد المدينةالمقدَّسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قداسة، عدنا ولن نبارحها أبداً".

وقد صدر في 26 يونيه 1967 قانون يسري بموجبه قانون الدولة وقضاؤها وإدارتها على القدس (ثم تكرَّست هذه السيطرة القانونية بقرار ضم مدينة القدس في 30 يوليه 1980، حين أقر الكنيست قانوناً أساسياً يعتبر القدس الكاملة والموحَّدة عاصمة لإسرائيل). ثم شرعت بعد ذلك في استكمال التهويد حيث هوَّدت القضاء النظامي والشرعي الإسلامي، ثم عملت على تهويد التعليم العربي من خلال إخضاعه لبرامج التعليم اليهودي. كما هوَّدت اللوائح والإجراءات والقوانين التي كانت تحكم الأوضاع المهنية والتجارية والاقتصادية. ثم استكمالاً لهذه العملية، قامت بتغيير أسماء الشوارع والطرق والساحات واستبدلتها بأسماء صهيونية.

ورغم أن القانون القاضي بضم القدس قد صدر بعد 18 يوم من احتلال المدينة، إلا أن عملية تغيير معالمها بدأت في اليوم التالي للحرب، حين قامت الجرافات الإسرائيلية بهدم 135 بيتاً يسكنها 650 شخصاً في حي المغاربة، وهدمت مسجدين في المنطقة نفسها و200 بيتاً ومخزناً كانت تقع في المنطقة الحرام. وفي الأيام المعدودة اللاحقة هدمت 38 بيتاً ضمنها 14 بيتاً من البيوت الأثرية التي تُعتبَر من معالم المدينة القديمة. وعلقت تميمة الباب (ميزوزاه) على أبواب القدس باعتبار أنها «بيت» اليهود.

وحتى يمكننا فهم عملية تهويد القدس يجب أن نراها لا باعتبارها عملية التهام عشوائية نهمة، وإنما باعتبارها مخططاً بارداً له أهدافه الواضحة ويُترجَم من خلال إجراءات محدَّدة. هذا المخطط يهدف إلى "تأسيس القدس الكبرى الموسعة، اليهودية الخالصة: كتلة استيطانية ضخمة تُمزِّق وإلى الأبد الوحدة الجغرافية للضفة الغربية" (كما ورد في إحدى وثائق حزب الليكود). ويستهدف هذا المخطط أن تكون القدس الكبرى عام 2000 بمنزلة متربو ليتان، تمتد غرباً باتجاه تل أبيب، وجنوباً باتجاه حلحول والخليل، وشمالاً إلى ما وراء رام الله، وحتى حدود أريحا شرقاً. وكل هذا يعني ضم حوالي 1250 كم (ثلاثة أرباعها من الضفة الغربية)، وأن تبلغ مساحة القدس الكبرى 21% من مساحة الضفة، بحيث يبلغ طول المدينة 45 كم وعرضها 25 كم.

ولتنفيذ هذا المخطط، قامت القوات الإسرائيلية ابتداءً بتشريد حوالي 60 ألف فلسطيني وأصبحت ممتلكاتهم وأراضيهم، وفقاً لقانون أملاك الغائبين، عُرضة لعمليات استيلاء متواصل عليها. وحرصت السلطات الإسرائيلية على استغلال القانون السابق وقانون الاستملاك للمصلحة العامة من أجل مصادرة الأراضي العربية التي لم يمكنها الاستيلاء عليها "بصورة قانونية" بدونهما.

واستولت السلطات الإسرائيلية على أراضي تُقدَّر في مجموعها بحوالي 40% من القدس المحتلة في 1967 وأقامت عليها مستعمرات ومستوطنات وأحياء ومصانع ليصل عدد اليهود في نهاية السبعينيات فيها إلى 19 ألف يهودي. كما صادرت أيضاً 6000 دونم لبناء وتوسيع أحياء عديدة مثل نافي يعقوف وراموت وإيست تيلبوت، وفي عام 1990 تمت مصادرة بضعة آلاف دونم لتوسيع أحياء قديمة وبناء مطار دولي. وفي عام 1995 استولت السلطات على 4400 دونم بهدف دعم الاستيطان، وهو ما كان نتنياهو يُعنى بتنفيذه. وإذا كان للفلسطينيين حسابياً في نهاية 1995 حوالي 21% من أراضي القدس فإن النسبة الفعلية بعد حذف المناطق الوعرة وخلافه تصل إلى 4% فقط من القدس. وقد بلغ مجموع سكان القدس عام 1993 حوالي 555 ألف نسمة منهم 155 ألف فلسطيني مقابل 400 ألفاً من الإسرائيليين. ورغم هذا لا يحصل الفلسطينيون إلا على 5% فقط من موازنة بلدية القدس.

وكانت السلطات الإسرائيلية تفرض قيوداً على بناء العرب لمساكنهم حيث لم تكن تسمح لهم إلا ببناء 56% فقط من الدونم في حين كان يُسمَح في المساحات المملوكة لغيرالعرب ببناء تزيد نسبته على 300%، حيث كانت تسمح ببناء أبنية شاهقة، أما المناطق العربية فكان معدل الارتفاع فيها لا يزيد عن طابقين أو ثلاثة. وفي السنوات الخمسة والعشرين التالية لحرب 1967 شكلت الوحدات السكنية الفلسطينية 12% من 72 ألف وحدة سكنية بُنيت في القدس الكبرى.

وقد شهدت عملية التهويد من ناحية الإسكان طفرة بعد مجىء رئيس الوزراء الليكودي بنيامين نتنياهو للحكم في إسرائيل. وكان أول ما شرعت فيه حكومته بعد توليها الحكم أن استكملت مشروع شارون القديم الذي يقوم على إقامة 26 بوابة حول القدس. وهو المشروع الذي كان قد وضعه إبان حكومة شامير الليكودية مستهدفاً به سد الفجوات الموجودة في الطوق الاستيطاني الإسرائيلي داخل الأحياء الفلسطينية، بإقامة تجمعات سكنية يتم من خلالها الدمج التام بين شرق المدينة وغربها وتحويل الأحياء العربية إلى جيتوات فقيرة معزولة، يتم تفتيتها إلى وحدات سكنية صغيرة جداً، كما كان يهدف المخطط إلى إنجاز تطويق القدس بالحزام الاستيطاني. وتقوم طريقة شارون في العمل الاستيطاني على ثنائية الأحزمة والبؤر لتطويق التجمعات الفلسطينية بالمستوطنات والأحياء اليهودية، ثم الاندفاع في تركيز هذه البؤر (التي لن تلبث حتى تتوسَّع) لتُفتت ما تبقَّى من تجمعات عربية.

ولم تَسلَم آثار المدينة من عملية التهويد التي سارت في مسارين متوازيين أولهما الاتجاه لتصفية الآثار الإسلامية بسبب طابعها الواضح، وهو ما تم أغلبه عن طريق الهدم والجرف أو تحت مسمَّى الكشف عن الجدار الغربي للحرم القدس وكذلك الحائط الجنوبي، حيث أُزيلت بعض الآثار لهذا الغرض وتصدَّعت أخرى بسبب الجهود نفسها.

ولقد استخدمت إسرائيل أساليب مختلفة لتحقيق هذا الهدف، آخرها حفريات بطول 400 متر، بزعم البحث عن قواعد الهيكل وإنشاء نفق طولي تحته يصل إلى بيت لحم بمحازاة السور الجنوبي للمسجد الأقصى. وتستخدم إسرائيل آليات ضخمة وأجهزة تحدث موجات اهتزازية عنيفة (بدلاً من الحفر اليدوي) بهدف تقويض دعائم المسجد. وعلى مستوى مواز تحرص إسرائيل على تهويد الآثار غير الإسلامية ونسبتها إلى ما تسميه «التاريخ اليهودى».

ومن أهم الآثار التي تعرضت لعملية تدمير، وكانت مُستهدَفة من قبَل الجرافات الإسرائيلية، المسجد الأقصى، حيث يبقى وجوده تعبيراً عن هوية وتاريخ وعقيدة. وبصرف النظر عن محاولات التسلل للمسجد أو المطالبة بفتحه لليهود لأداء صلواتهم دون قيد، فإن هناك محاولات جادة لتخريبه ومن ثم هدمه. فمحاولات الاقتحام وفتح النيران العديدة في المسجد أصابته بالعديد من التشققات والتصدعات، وقد تم إحباط العديد من محاولات المتطرفين تفجير المسجد بسبب ارتفاع التكلفة الساسية والأمنية لمثل هذه التصرفات، وكان أخطرها ما تم إحباطه في 27 يناير 1984 حيث حاولت جماعة مسلحة يهودية تسلق جدار الحرم القدسي من الناحية الشرقية لكن الحراس تنبَّهوا للأمر، وهو ما أدَّى إلى هروب المقتحمين مخلفين وراءهم كمية كبيرة من القنابل والمتفجرات. كما أن محاولات حرق المسجد الأقصى معروفة، وكان أبرزها الحريق الذي تم في 15 سبتمبر 1969 والذي أدانه قرار مجلس الأمن رقم 271. إلا أن أخطر خطط الهدم هي تلك الكشوف الأثرية المزعومة والتي لم تتوقف حتى مع صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 36/15 الصادر في 28 أكتوبر 1981 والذي يطالب إسرائيل بالكف عن هذا العبث. وتتطلع بعض العناصر الدينية الصهيونية إلى إعادة بناء الهيكل (ليحل محل المسجد الأقصى).

ويعيش بمدينة القدس حالياً 564 ألف نسمة منهم 413.7 يهودي (أي حوالي 10% من سكان إسرائيل اليهود) بنسبة 73.3% و150.6 ألف غير يهودي بنسبة 26.7% (يُلاحَظ أن تعداد القدس عام 1967 كان حوالي 266.300 نسمة، فزاد عدد اليهود بنسبة 99% ولم يزد عدد السكان غير اليهود عن 20%). وفي ظل التوسعات الصهيونية في المدينة فإن مساحتها أصبحت تعادل عُشر مساحة الضفة الغربية. وهذه الزيادة المشار إليها لم تأت نتيجة تكثيف تهجير اليهود أو ارتفاع معدلات الخصوبة بشكل كبير بين الجماعات اليهودية في إسرائيل، بل أتت من خلال محاولة التحكم العددي في السكان الفلسطينيين من خلال مجموعة من الآليات مثل التهجير والإخلاء والإرهاب، والتضييق عليهم في مستوى معيشتهم، ومن خلال التضييق في إصدار تراخيص البناء، كما أسلفنا.

وقد استطاعت إسرائيل في اتفاقها مع منظمة التحرير الفلسطينية (إعلان المبادئ الإسرائيلي الفلسطيني الصادر في 13 سبتمبر 1993) تأجيل بحث موضوع القدس إلى ما بعد عامين من الحكم الذاتي الفلسطيني أي حتى قبل يونيه 1996 (حيث كان المُفترض أن تبدأ المفاوضات النهائية في منتصف عام 1996) وذلك ضمن موضوعات مهمة أخرى (اللاجئين - السيادة - المستوطنات - المياه).

ومع هذا وافقت إسرائيل في تشرين الأول 1993 على الاعتراف بأن كل المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، وكذلك الأماكن المقدَّسة لدى المسيحيين والمسلمين، تقوم بدور حيوي بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين، واستناداً إلى ذلك تعهدت إسرائيل بعدم المساس بأنشطتها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل مصطلح «القدس الشرقية» في إطار معناه الجغرافي والاجتماعي وفي إطاره السياسي أيضاً. وتقوم 13 مؤسسة فلسطينية مرتبطة بالسلطة الفلسطينية بممارسة أنشطتها المختلفة في القدس. ويُعَدُّ بيت الشرق أهم هذه المؤسسات، وقد بدأ العمل فيه منذ انعقاد مؤتمر مدريد في عام 1991، كمركز لقيادة الوفد الفلسطيني لمحادثات السلام، وكمفوضية سياسية غير رسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية في مجال العلاقات الخارجية. وتُجرى، في الأساس، في هذه الدائرة مراسم يُقصَد منها إظهار الهوية العربية للقدس الشرقية. وقد استلم فيصل الحسيني مهمة معالجة شئون القدس بتكليف من سلطة الحكم الذاتي، بمرتبة وزير غير رسمية، لتجاوز القرار الإسرائيلي الذي يحظر على السلطة الفلسطينية العمل من داخل حدود مدينة القدس، كذلك بدأ جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني، في ممارسة نشاطاته في المدينة.

ورداً على النشاطات الفلسطينية داخل مدينة القدس أقر الكنيست الإسرائيلي في السادس والعشرين من ديسمبر 1994، قانوناً بمنع السلطة الفلسطينية من مزاولة نشاطاتها داخل أراضي إسرائيل، واستناداً إلى القانون نفسه في القدس أيضاً. وفي مايو 1995، أمرت إسرائيل بإخلاء جزء من المؤسسات الفلسطينية الموجودة في القدس. كذلكأسرعت في تنفيذ خطط إسكان مختلفة، مثل خطة الإسكان في جبل السور جنوبي المدينة.

ويُلاحَظ أن عمليات التهويد والتوسع أخذت في التسارع قبل حلول مناقشات الوضع النهائي التي كان من المفترض إجراؤها في منتصف عام 1996، بهدف تغيير وضعالقدس من الناحية البنيوية. وكما قال أحد المسئولين الإسرائيليين: "سيستحيل على السيد عرفات أن يَزعُم أن القدس الشرقية عاصمته. قد ينجح في القيام بعمل رمزي، غيرأن عمليات البناء التي قمنا بها ستجعل تقسيم المدينة من جديد أمراً مستحيلاً".

وقد جرت محاولة التباحث مع الطرف الفلسطيني بصورة غير رسمية لاختبار نياته، وهو ما كشفته الصحف الإسرائيلية أخيراً، وينص على إشراف فلسطيني على المسجد الأقصى والقبول بجعل ثلاث قرى من منطقة القدس هي أبو ديس والعيزرية والسلوان عاصمة للضفة الغربية وقطاع غزة التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية وطبقاً لمخطط العمل فإن هذه القرى الثلاث ستحمل اسم «القدس» أما بقية القدس الشرقية والغربية فستحمل اسم «أورشليم».

وفقد دخل نتنياهو في حلبة المزايدات، وتجلت هذه المزايدات في تزييف تاريخ القدس. وتحرك بمزيد من الإثارة في مسألة النفق ومنطقة رأس العامود التي هدف منها منع التواصل بين القرى الثلاث المذكورة والمسجد الأقصى.

بيت المقدس

Jerusalem

انظر: «القدس».

أورشـليم

Jerusalem

«أورشليم» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى القدس باعتبارها فكرة دينية. (انظر: «القدس»).

الباب الثامن: عصر الآباء

عصر الآباء (المرحلة البطريركية) (2100 - 1200 ق.م)

Patriarchs

يُشار للآباء أحياناً بأنهم «البطارقة» وهي من الكلمة الإنجليزية «باتريارك»، وهي من اليونانية «باترياركا» ) «باتر» بمعنى «أب»، و«باتريا» بمعنى «عائلة»، و«أركين» بمعنى «يحكم»).

وتشير كلمة «الآباء» في الكتب اليهودية إلى آباء اليهود: إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهم الذين تلقوا وعوداً إلهية بأن تكون أرض فلسطين من نصيبهم، كما تشمل الكلمة أحياناً موسى وهارون، بل آدم ونوحاً. وهؤلاء، رغم تلقِّيهم هذه الوعود، لا يُعَدُّون أنبياء بعكس الحال في التراث الإسلامي. ولقب «آباء» يعني أنهم كانوا بمنزلة رؤساء وشيوخ لقبائلهم وعشائرهم يرتبطون بها برباط الدم والنسب والعرْق. وفي العهد الجديد، تنطبق الكلمة على إبراهيم، وعلى أبناء يعقوب الاثنى عشر، وعلى داود. ويُعَدُّ يعقوب أهمهم في التراث اليهودي، ذلك أن إبراهيم وإسحق قد أنجبا ابنين شريرين هما إسماعيل وعيسو، أما يعقوب (يسرائيل) فلم ينجب سوى الأخيار.

وتبدأ فترة الآباء مع ظهور أول شخص يُوصَف بأنه عبراني، أي إبراهيم. ويذهب بعض الدارسين الغربيين إلى أن من الصعب إطلاق مصطلح «فترة» على هذه المسافةالزمنية، إذ لا تُوجَد وثائق تاريخية أو دلائل قاطعة تساند الرواية التوراتية. كما أن هذه المسافة حسب هذا الرأي، تبدأ في عالم شبه أسطوري وفي مكان غير محدَّد، ذلك أن أور الكلدانية لم تكن كلدانية في أيام إبراهيم، ولذا يُقال إنه جاء من حران، وهي منطقة بين الأناضول وسوريا. بل يذهب بعض المؤرخين الغربيين إلى أن الآباء ليسواأشخاصاً محددين، فهم رموز لفترات مختلفة في تَطوُّر القبائل العبرانية. ولكن هناك من الدارسين من يؤكد الوجود التاريخي للآباء ويشير إلى وثائق تاريخية تدعم وجهةنظره.

وعلى أية حال، يمكن تحـديد بعـض السـمات الأسـاسية لهذه الفترة، ويبدو أن العبرانيين كانوا أساساً شعباً رعوياً متجولاً من مكان إلى آخر، يضرب خيامه على حواف المدن الكنعانية (تكوين 12/6، 33/18، 35/21، 26/25، 14/18 - 20) ويتمتع برعاية الملوك الكنعانيين. وثمة نظرية أخرى تقول إنهم لم يكونوا رعاة وإنما كانوا يعيشون من الأرباح التي يحققونها من التجارة، وأنهم كانوا يوجدون على طرق القوافل، وأنهم باعتبارهم شعباً متجولاً لم يكونوا منعزلين إثنياً. وهؤلاء يرون أن أصول الآباء ترجع إلى الآراميين، بل إن قبيلتين من القبائل العبرانية كانتا تريان أن دماء مصرية تجري في عروقهما، فقبيلتا إفرايم ومنَسَّى، تنتسبان إلى ابنى يوسف من زوجته المصرية حيث لم يكن التزوج من الأجنبيات أمراً مُحرَّماً بعد، فإبراهيم يتزوَّج هاجر المصرية ويهودا يتزوج كنعانية. وكما تقدَّم، فقد تزوَّج يوسف مصرية، وتزوَّج موسى مَدْيَنية.

والخلفية الحضارية لفترة الآباء خلفية سامية سديمية، فمن أور الكلدانية أو حران انتقل إبراهيم إلى كنعان لشراء مقبرة، ثم استقر في مصر بعض الوقت، ثم خرج منها. وكذا خرج يعقوب إلى مصر واستقرّ فيها هو وأبناؤه، ثم خرجوا مرة أخرى إلى كنعان واستقرُّوا مع القبائل العبرانية التي لم تكن قد غادرتها. وثمة روابط كثيرة تربط الآباء بالآراميين والمصريين.

ولم تكن حضارة العبرانيين في تلك الفترة بدائية، ولكنها لم تكن قط أصيلة أو فريدة. ولأنهم شعب متجوِّل، لم تكن لهم هوية حضارية محدَّدة بعد، إذ لم يكونوا يخضعون لأطر سياسية أو كهنوتية ثابتة، ولا ينتمون لتراث حضاري مركب كما كان الحال مع شعوب المنطقة. لكن كان في مقدورهم استيعاب جوانب من حضارات المنطقة بسهولة ويسر، وخصوصاً أن بنية التجمُّع العبراني في ذلك الوقت كانت تشبه في كثير من الوجوه البناء القبلي للشعوب السامية الأخرى.

وبعد موسى، تصل فترة الآباء إلى نهايتها مع تَوقُّف الشخصيات الأسطورية التي تجسد فترة زمنية غير محدَّدة المعالم عن الظهور. ومع وصول التغلغل العبراني في أرض كنعان إلى نهايته، استقر العبرانيون على شكل جيوب غير متصلة جغرافياً تحيط بها الشعوب الأصلية. فظل الكنعانيون في الأودية مزارعين كما كانوا، وشغلت الشعوب الأخرى أماكن مختلفة. وقد ظلت القدس، على سبيل المثال، يبوسية حتى عهد داود، وتَزامَن استيطان العبرانيين في فلسطين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد مع حركات استيطانية أخرى، إذ استقر العموريون في شرق الأردن، والآراميون في سوريا، وشعوب البحر (الفلستيون) في ساحل فلسطين الجنوبي.

ولقد كانت عبادة الآباء مختلفة بشكل جوهوي عن العبادة اليسرائيلية واليهودية من بعدها. فالتوراة لا تُصوِّر الآباء كمبدعين من الناحية الدينية، فهم لا يشنُّون أية حرب على الوثنية ولا على عبادة الأصنام التي تصبح موضوعاً أساسياً في الفترة الموسوية. وتضم قصص الآباء أحداثاً تتنافى والقيم الأخلاقية التي وردت بعد ذلك في كتب العهد القديم الأخرى. فقد تزوَّج يعقوب من أختين في وقت واحد (لاويين 18/181)، و قام إبراهيم ومن بعده إسحق بادعاء أن زوجته الحسناء هي أخته حتى يتكسب من ورائها. ويستغل يعقوب حاجة أخيه عيسو إلى الطعام في الحصول على بكورته، أي أسبقيته في الولادة، ويغتصب التركة من أخيه غشاً وخداعاً. وزرع إبراهيم شجرة مقدَّسة (تكوين21/33، وتثنية 16/21)، وأقام يعقوب أعمدة حجرية مقدَّسة (تكوين 28/18 و22، و31/13 و45 ـ 52، و35/14، وخروج 23/24) الأمر الذي يدل على وجود عناصر وثنية في عبادتهم. ولا يوجد أي ذكر لأية أعياد. ويُقدِّم الآباء التضحية والقرابين دون وجود كهنة أو معبد. ويُلاحَظ أن عبادة الآباء لا تدور في الإطار القومي الإقليمي الذي اتَّسمت به اليهودية بعد ذلك، فالآباء ينتقلون بحرية من مكان إلى آخر يعبدون الإله في أي مكان. ولا يُشار إلى الخالق باعتباره يهوه وإنما يشار إليه بأسماء أعلام بعضها لا يرد ذكره إلا بالإشارة إلى فترة الآباء مثل: «إيل عليون» أو «الإله العلي» (تكوين 14/18، 22) و«إيل عولام» أي «الإله السرمدي» (تكوين 21/33)، وأكثر هذه الأسماء شيوعاً هو «شدَّاي» أي «الإله القدير» (تكوين 17/1، 28/3، 35/11).

ورغم انفتاح العبرانيين النسبي في فترة الآباء، واستفادتهم من الشعوب الأخرى، فإنه يُلاحَظ أن ثمة موضوعين أساسيين يؤكدهما محررو الأسفار بإلحاح، وهما أن هذا الشعب المنحدر من هؤلاء الآباء سيصبح شعباً عظيماً (الشعب المختار)، وأن أرض كنعان (فلسطين ـ إرتس يسرائيل) هي أرضه (الأرض المقدَّسة). ويمكن تصوُّر أن هذه المفاهيم الدينية قد تطوَّرت في فترة لاحقة ولكن محرري التوراة نسبوها إلى الآباء لفرض نوع من الوحدة الفكرية على العهد القديم، وحتى يصبح التاريخ وحدة متكاملة يرعاه إله يسرائيل.

ويُشار في التراث اليهودي إلى «الأمهات» أو «ماتريارك» (سارة وربيكا وراحيل) بأنهن «عاقرات» إلى أن يشاء الإله أن يحملن ويلدن. وتؤكد حركات التمركز حول الأنثى في الغرب دور الأمهات.

إبراهيــم

Abraham

«إبراهيم» هو «أبرام» بالعبرية وتعني «الأب الرفيع» أو «الأب المتكرم». أما كلمة «إبراهيم» ويقابلها «أبورهام» فتعني «أبو الجمهور» (من الأمم) (تكوين 17/5). وقد تغيَّر اسمه من أبرام إلى إبراهيم بعد أن رُزق ذرية. وإبراهيم أول الآباء: أبو إسماعيل وإسحق. وهو أيضاً، حسب الرواية التوراتية، أبو الشعب اليهودي. ويُستَدل من قصص التوراة، ومن بعض الوثائق التاريخية، على أن إبراهيم ظهر نحو عام 1850 ق.م ولكن بعض المؤرخين يرون أنه عاش فيما بعد ذلك التاريخ وأنه دخل مصر في عهد الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة (في القرنين السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد، أي في عصر الهكسوس). ومن ناحية أخرى، يُقال إن موطنه الأصلي مدينة حران في مملكة ميتاني الحورانية. وفي بعض الروايات الأخرى أنه نشأ في أور الكلدانية. ويُقال كذلك إنه وُلد في أور ثم انتقلت أسرته إلى حران. وحسب الرواية التوراتية، تلَّقى إبراهيم في حران أول وعد إلهي بأن يخرج من صلبه شعب قوي وأن يُورَّث هذا الشعب أرض كنعان، وهذا ما يُشار إليه بالعهد. ويعود الاختلاف في العهد القديم إلى تَعدُّد المصادر، فالمصدر الكهنوتي يجعل أور مكان ولادته في حين يجعلها المصدر اليهودي حران.

وتدل الروايات على أن إبراهيم كان يعيش مع أهله في الخيام حياة البدو الرعاة، وينتقل من مكان إلى آخر في أعقاب قبائل العموريين وغيرهم من الأقوام السامية التي هاجرت في تلك العصور من بلاد الرافدين وجزيرة العرب إلى سوريا وفلسطين. وتَذكُر النقوش الكتابية التي عُثر عليها في بابل أسماء تشبه اسم إبراهيم كانت شائعة في صيغ مثل: إبراموه وإبمرام وإبراما. كما ترد في نصوص مدينة ماري أسماء عمورية معروفة مثل يعقوب وإسحق وإسماعيل ويوسف وبنيامين وهم من ذرية إبراهيم. ويُعَدُّ ظهور إبراهيم بداية فترة الآباء في تاريخ اليهودية وكذا في تاريخ العبرانيين.

رحل إبراهيم مع زوجته سارة وأبيه تارح وابن أخيه لوط من أور إلى كنعان (فلسطين) عن طريق تَدمُر فدمشق حتى وصل إلى شكيم حيث تلقَّى الوعد الإلهي للمرة الثانية حسب الرواية التوراتية ثم إلى بيت إيل.

وقد انتقل إبراهيم بعد ذلك إلى مصر بسبب المجاعة، ولكنه عاد إلى كنعان حيث تركه لوط بسبب الخلاف الذي نشب بينهما على أرض المراعي. وقد أعقب هذه الواقعة تأكيد الوعد الإلهي للمرة الثالثة. ثم تحوَّل إبراهيم بعد ذلك إلى قائد عسكري فأنقذ لوطاً (ابن أخيه)، وهزم أربعة ملوك. وعند عودته، باركه الملك الكاهن ملكي صادق (ملك القدس).

ولما كانت سارة عاقراً، فقد استحثَّت زوجها على الزواج من هاجر المصرية التي أنجبت له إسماعيل. عندئذ، أكد الإله وعده مرة أخرى لإبراهيم بأن إبراهيم وسارة سيَخرُج من صلبهما عدة أمم وملوك (تكوين 17/1ـ 8) وقد تغيَّر اسماهما من أبرام وساراي إلى إبراهيم وسارة ثم فُرضت شعيرة الختان علامة دائمة على ميثاق الإله مع إبراهيم. ووعد الإله سارة بابن اسمه إسحق، وقام إبراهيم بتختين نفسه وبتختين إسماعيل وكل الذكور في أسرته. ثم جاءت البشرى لسارة بأنها ستلد إسـحق. وذهب إبراهيم وأسـرته إلى مدينة جرار. ثم أنجبت سارة إسحق. وقد دفعتها الغيرة إلى التخلص من هاجر وابنها، فانصرفت هاجر مع إسماعيل وهو لا يزال بعد صبياً. وقد أراد الربامتحان إبراهيم فأمره في الرؤيا بأن يضحي بولده، فلم يتردد في الامتثال للأمر. ولكن الإله افتدى الولد في اللحظة الأخيرة بكبش عظيم. وتلَّقى إبراهيم الوعد الإلهي للمرة الأخيرة. واختلفت الآراء حول الذبيح: هل هو إسحق أم هو إسماعيل. وقد اتبع الطبري رواية التوراة التي تقول «خذ ابنك وحيدك الذي تحبُّه إسحق » (تكوين22/2). إلا أن المفسرين المحدثين يذهبون إلى أن اسم إسحق قد أُقحم هنا فيما بعد، لأن أمر التضحية قد جاء في وقت لم يكن فيه لإبراهيم سوى ولد واحد هو إسماعيل. وبالتالي، لاتنطبق على إسحق صفة «الوحيد». وقد ماتت سارة في قريات أربع (حبرون أو الخليل)، فاشترى إبراهيم من أحد الحيثيين الحقل الذي تقع فيه مغارة المكفيلة حيث دفن زوجته سارة (وهو نفسه المكان الذي دُفن هو أيضاً فيه بعد أن بلغ عمره مائة وخمسين عاماً). ثم طلب إبراهيم إلى خادمه أن يذهب إلى حران ليجد زوجة لإسحق لأنه لم يكن يرضى أن يتزوج ابنه من امرأة كنعانية، فتزوج إسحق من رفقة وتزوج إبراهيم نفسه مرة أخرى من قطورة وأنجب منها عدة أبناء. ولكنه أوصى بكل أملاكه لإسحق، واكتفى بإعطاء أبنائه الآخرين هدايا، حسب الرواية التوراتية.

وتنسب التوراة إلى إبراهيم أخلاقيات نفعية. فقد ذكرت على لسان إبراهيم بمناسبة اعتزامه التوجه هو وزوجته سارة إلى مصر، هرباً من القحط، أنه قال: «... إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيـكون إذا رآك المصـريون أنهـم يقـولون هـذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختى ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك » (تكوين 12/11 ـ 13) وأضـافت التـوراة أن ذلك قد حدث فعلاً: « فأُخذت المرأة [أي سارة] إلى بيت فرعون، فصنع إلى أبرام خيراً بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمَال » (تكوين 12/15 ـ 16). ثم أعادت التوراة هذه القصة ذاتها مرة أخرى حين نزل إبراهيم وامرأته مغتربين في أرض جرار إذ أخذها الحاكم، ولكنه حينما اكتشف الحقيقة عنَّف إبراهيم على خداعه له، ولكنه في الوقت نفسه أعطاه غنماً وبقراً وعبيداً وإماء وألفاً من الفضة ورد إليه امرأته (تكوين 20). وقد حدثت نفس القصة مع ابنه إسحق. وثمة تفسير جديد لهذه الواقعة يذهب إلى أن الرجل في الحضارة الحورانية، كان إن اعتز بزوجته وأراد أن يعبِّر لها عن حبه، جعلها بمنزلة أخته وصار يشير إليها بذلك. ولكن العبرانيين القدامى نسوا، كما هو واضح، المغزى الأصلي للقصة وجعلوا من التسمية اتجاراً بالعرض للحصول على الثروة!

ورغم أن الدارسين يتحدثون عن إبراهيم باعتباره مُحطِّم الأوثان بعد أن توصل إلى عبادة الإله الواحد، فإن عبادة إبراهيم ـ كما جاء في العهد القديم ـ لم تكن هي نفسها عبادة يهوه، ذلك على الرغم من الميثاق الذي عقد بينه وبين الرب. فالإله يُعرَف في ديانة إبراهيم باسم «إيل شدَّاي» (أي «الرب القديم»)، أما يهوه فلم يظهر إلا في عهد موسى. ويُلاحَظ أن الميثاق أو العهد بين الرب وإبراهيم يختلف عن العهد بين الرب وبين موسى، فالأول يشبه منحة ملكية لا تُلقي أية التزامات أو أعباء على الشعب بينما نجد أن العهد مع موسى تتبعه أعباء معينة.

ويُصوَّر إبراهيم، في الفلكلور اليهودي، جالساً على أبواب جهنم ليحمي أي يهودي مُختَّن من دخولها. وترى الأجاداه أن إبراهيم اتبع الوصايا العشر وكل الوصايا والنواهي ومتطلبات الشريعة الشفوية رغم أنها لم تكن قد أُنزلت بعد. وهو الذي فرض صلاة الصباح والأهداب (تسيت تسيت) وتمائم الصلاة (تيفلين). وقد كان يتَّسم بالتقوى وطاعة الإله والشجاعة والوفاء، وكان يشفع للمذنبين. وهو من أعظم الأنبياء حسب الرؤية التوراتية، إذ كان يتحدث الإله معه لا من خلال الأحلام أو الرؤى وإنما مباشرة. ولذا، فهو تجسيد للمقدرة الخارقة للحوار مع الرب. وتروي الأجاداه قصة إبراهيم ابن صانع الأوثان الذي يهرب إلى كهف في الصحراء حيث يتأمل في فكرة الخالق، وحينما يرى الشمس تصعد إلى كبد السماء يرى أن الشمس هى ربه. ولكنها تَغرُب فيظن أن القمر هو إلهه، ولكن النهار يأتي بالشمس مرة أخرى. ولذا، يتوصل إبراهيم إلى أنه لا الشمس ولا القمر إلهه. وترد في كتب المدراش والتلمود قصته. وقد ذاعت شهرته في رأي الأجاداه بسبب نقود سُكَّت باسمه عليها صورته. وكان يُعلِّق على رقبته حجراً كريماً اجتذب إليه الجماهير لأن كل من كان ينظر إليه كان يشفى من الأمراض. وقد كان إبراهيم سخياً يخدم ضيوفه بنفسه ويعلِّمهم أن يحمدوا الإله بعد كل وجبة. ولذا، كان يُعَد من أوائل المبشِّرين. ويقرِّر التلمود أن إبراهيم قد عوقب في مصر، كما استُعبد أبناؤه لأنه سمح بتجنيد العلماء في الخدمة العسكرية وتردَّد في تختين نفسه. أما في الكتب الخفية، فهو مُؤسِّس مدن على طريقة اليونانيين.

ولبعض الفلاسفة اليهود رؤيتهم الخاصة لإبراهيم، ففي رأي موسى بن ميمون أن إبراهيم قد وصل إلى أعلى درجات النبوَّة (مع استثناء موسى)، وهو أول من توصَّل إلى فكرة الخلق من العدم من خلال التأمل، وأول من توصَّل إلى الإيمان بالإله من خلال التفكير العقلي. أما يهودا اللاوي، فيرى أن إبراهيم علامة على أن أعضاء جماعة يسرائيل لهم قوة إلهية خاصة تُمكِّنهم من الدخول في حوار مع الرب، وأنها مقدرة يتَّسم بها آدم وورثها عنه إبراهيم وانتقلت إلى موسى ثم إلى الأنبياء ومنهم إلى الشعب اليهودي كله. وفي التراث القبَّالي، يُعَدُّ إبراهيم التجلي النوراني الرابع أو الحسيد أو الرحمة.

إسماعيل

Ishmael

اسم «إسماعيل» من عبارة عبرية تعني «الإله يسمع». وإسماعيل، أكبر أبناء إبراهيم من هاجر المصرية جارية سارة، سُمِّي بهذا الاسم بأمر من الإله، وتم تختينه وعمره ثلاثة عشر عاماً. وعد الإله إبراهيم بأن يجعل من نسل إسماعيل أمة كبيرة من اثنى عشر أميراً (تكوين 17/20). ورغم أن إسماعيل كان الابن البكر لإبراهيم، فإن سارة اضطهدت هاجر، حسب الرواية التوراتية، فهربت الأم وابنها في برّية بئر سبع جنوبي فلسطين. وكانا على وشك الهلاك من الظمأ حين أرى الإله هاجر بئر ماء ووعدها بأن ابنها إسماعيل سيصير أباً لأمة كبيرة. ثم طرد إبراهيم هاجر بسبب غيرة سارة، فتزوج إسماعيل امرأة من أرض مصر، فأنجب اثنى عشر ابناً هم الذين أصبحوا آباء القبائل العربية. وتزوجت ابنته محلة أو بسمة من عيسو الذي اشترك مع إسحق في دفن أبيهما.

ويركز العهد القديم على عدم نقاء دم إسماعيل، فهو أولاً من أم مصرية، ثم إنه تزوج هو نفسه من مصرية، واندمج نسله مع المَدْيَنيين والمؤابيين، الأمر الذي جعلهم خصوماً للعبرانيين على الدوام. وقد تم استبعاده من الميثاق الذي عُقد بين إبراهيم والخالق والذي ورث بموجبه نسل إبراهيم أرض كنعان. ويشير سفر التكوين (16/12) إلى أن إسماعيل « يكون إنساناً وحشياً. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه»، أي أنه سيكون ضد كل الناس وكل الناس ضده. وتُصوِّر الأجاداه إسماعيل شخصيةً شريرة فشل إبراهيم في تربيته، فهو يفسد النساء ويعبد الأوثان ويحاول قتل إسحق، ولكنه ماهر في استخدام السهم والقوس. تزوج من امرأة مؤابية، وحينما زارهما إبراهيم كان إسماعيل غائبـاً. ولم تكرم الزوجـة المؤابية وفادته، فترك إبراهيم له رسالة بأن علىه، أي إسماعيل، أن يُغيِّر وتد خيمته. ففهم إسماعيل مضمون الرسالة، وطلق زوجته وتزوج كنعانية تُسمَّى فاطمة (!). وقد ندم إسماعيل في نهاية حياته على كل المعاصي والآثام، وتنحَّى جانباً في جنازة إبراهيم احتراماً لأخيه إسحق. ويُعتبَر إسماعيل أبا العرب وقد كان يُشار إلى العرب في الكتب الدينية اليهودية في العصور الوسطى باسم «الإسماعيليين». والآن، يُطلق سكان الكيبوتسات على العاملات العربيات اللائي يعملن فيها اسم «كومبينه فاطمة»

والواقع أن صورة إسماعيل كرجل وحشي مُستبعَد من الميثاق هي الصـورة الكامنـة وراء كثير من الادعاءات العنصرية الصهيونية تجاه العرب، والكامنة أيضاً وراء الموقف الصهيوني منهم.

إسحق

Isaac

«إسحق» هو ابن إبراهيم، وثاني الآباء. والتسمية من كلمة «صحَق» العبرية بمعنى «ضحك». وقد جاء في العهد القديم أن إبراهيم وسارة ضحكا حينما أخبرهما ملاك الرب بأنهما سيُرزَقان طفلاً في شيخوختهما. وحسب الموروث الديني اليهودي، ورث إسحق (وليس شقيقه البكر إسماعيل) العهد الإلهي. وكانت محنته الكبرى حينما أمر الإله إبراهيم بأن يضحي به (وليس إسماعيل). وقد ورد في سفر التكوين العبارة التالية: "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحـق" (22/2). ومن الواضـح أن كلمة «إسـحق» تم إقحامها، لأن إسحق لم يكن في وقت من الأوقات ابناً وحيداً لإبراهيم (على عكس إسماعيل فقد ظل الابن الوحيد إبراهيم لمدة ثلاثة عشرة عاماً إلى أن رُزق بإسحق).

وقد أرسل إبراهيم خادمه إلى حُرَّان ليأتي لإسحق بزوج من أهله وعشيرته حتى لا يتزوج من كنعانية، فتزوج إسحق من رفقة التي ظلت عاقراً لمدة عشرين عاماً ثم ولدت له توأمين هما عيسو ويعقوب. وانتقل إسحق إلى جرار بسبب المجاعة. وقد تَشبَّه بأبيه في إظهار زوجته (حسنة المنظر) باعتبارها أخته، وذلك لكي ينجي نفسه وينال من وراء ذلك رزقاً. وظهر الإله لإسحق في بئر سبع ووعد بأن يباركه. وبنى إسحق مذبحاً للرب هناك.

ويظهر إسحق شخصيةً سلبيةً ساذجةً بسيطةً لا يدرك نوايا الآخرين الشريرة. وقد أحب ابنه عيسو في حين أحبت رفقة يعقوب. وفقد إسحق بصره في شيخوخته. وحين أراد أن يبارك ابنهما عيسو وطلب إليه أن يُعدَّ له طعاماً من صيده، استغلت رفقة علَّة زوجها وتآمرت مع يعقوب على أن ينتحل شخصية أخيه ويتقدم إلى أبيه بطعام تُعدُّه هي باعتباره طعام الصيد الذي جاء به أخوه، معتمدة في ذلك على كلال بصر إسحق لشيخوخته. ونال يعقوب بذلك البركة التي كانت من حق أخيه (تكوين 27/1 - 29). وقد مات إسحق في حبرون (الخليل) ودفنه ابناه في مغارة المكفيلة بجوار زوجته.

وليس لإسحق أهمية كبيرة في التراث الديني اليهودي على عكس أبيه إبراهيم وابنه يعقوب، فيما عدا ارتباطه بفكرة التضحية. ويرى بعض دارسي العهد القديم أن أهميته كانت أكثر بروزاً في نسخ العهد القديم التي فُقدت.

وجاء في الأجاداه أن إسحق وُلد يوم عيد الفصح وأن كثيراً من النساء العاقرات قد حَملن في يوم مولده حيث سطعت الشمس بشكل غير عادي. وهو الأب الوحيد الذي لم يتغيَّر اسمه لأن الإله هو الذي اختار له هذا الاسم. وقد جرى تفسير فقدانه البصر بأن الملائكة التي أمسكت بيد إبراهيم قد بكت وسقطت دموعها على عينيه فكُفّ بصره. ويُقال أيضاً أنه فقد بصره لأنه نظر ذات مرة إلى الشخيناه. وقد فسَّر بعض الحاخامات فقدانه البصر بأنه أطال النظر في ابنه عيسو الشرير.

عيسو

Essau

اسم «عيسو» ليس له اشتقاق في العبرية وهو في الغالب اسم أدومي. وكان عيسو أيضاً يُدعى «أدوم» أي «الأحمر»، وسُمِّي بذلك لأنه وُلد أحمر كفروة الشَعر، وهو الابن الأكبر لإسحق من رفقة، وتوأم يعقوب. وكان عيسو صياداً ماهراً. وقد عاد ذات يوم من الصيد جائعاً ووجد أخاه يعقوب يطبخ عدساً، فباعه يعقوب صحن العدس ببكورته (أي حق الإرث باعتباره البكر). ولما شاخ إسحق، أراد أن يبارك عيسو ابنه المفضَّل. ولكن رفقة ساعدت يعقوب على خداع أبيه، حيث استغلا عاهة الرجل العجوز، ونال يعقوب البركة ثم فرَّ خوفاً من عيسو. وعند عودته غفر له عيسو وعرض عليه أن يعيش معه. تزوج عيسو من امرأتين حيثيتين ثم تزوج محلة ابنه إسماعيل. وقد ركز سفر التكوين على هذه الوقائع التي تدل على أن نسله فَقَد نقاءه العرْقي.

ويُعَدُّ يعقـوب وريثاً للعـهـد الذي مُنح لإبراهيم وإسحـق بدلاً من عيسو. واستوطن عيسو سعير التي سُمِّيت «بلاد أدوم» ويُسمَّى جبل سعير «جبل أدوم» أيضاً. ويُعَدُّ عيسو أبا الأدوميين، وهو شعب كان يخافه العبرانيون ويحتقرونه في آن واحد، وعلاقة العبرانيين بهم تشبه علاقة يعقوب بعيسو.

ويُشار إلى عيسو في الأجاداه بأنه شقيق يعقوب وعلى اعتبار أنه أدوم وروما التي كانت تُقرَن دائماً بأدوم. وترى الأجاداه أن عيسو، من حيث هو توأم يعقوب، كان شخصاً شريراً يَعبُد الأوثان ويرتكب الزنى والقتل. أما عيسو من حيث هو أدوم، فقد جاءت من صلبه بعض الشخصيات الشريرة مثل هامان. أما عيسو، من حيث هو روما، فإنه يرتكب العديد من الجرائم فيخدع إسحق بأن يعطيه لحم كلاب ليأكله، وهو لا يغفر ليعقوب، كما جاء في الرواية التوراتية، ولا يقبله وإنما يعضُّه. ولكن رقبة يعقوبأصبحت صلبة كالعاج، فتساقطت أسنان عيسو. وبحسب الأجاداه، قُتل عيسو أثناء جنازة يعقوب وهو يقاتل على الميراث.

يعقوب

Jacob

«يعقوب» اسم عبري معناه «يعقب» أو «يمسك العقب» أو «يحل محل». ويعقوب هو ثالث آباء اليهود، وهو ابن إسحق وجَدّ اليهود الأعلى وتوأم عيسو الأصغر. أمسك بكعب قدمه (بالعبرية: عقب)، ومن هنا كان اسمه (تكوين 25/26). وتوجد قصتان أساسيتان في حياة يعقوب أولاهما أنه حينما عاد عيسو من الصيد جائعاً متعباً وجد أخاه يعقوب قد أعد طعاماً فسأله شيئاً مما أُعدّ فانتهز يعقوب الفرصة وباعه طعاماً نظير بكورته (أي أسبقيته في الولادة)، وبحكم الشريعة كان الأكبر هو الذي يرث الزعامة بعد الأب.

أما القصة الثانية، فهي قصة البركة التي اغتصبها يعقوب، إذ لما كبر إسحق وضَعُف بصره، اتفق يعقوب مع أمه رفقة على مغافلة الأب لكي يدعو له بدلاً من أخيه عيسو، فتم له ذلك بأن انتحل شخصية أخيه، ونال بركة ليست من حقه، إذ أن إسحق دعا له بأن يكون الأنبياء من ذريته. ولما أحسّ إسحق بالأمر، طلب إلى يعقوب الخروج فخرج فاراً من غضب أخيه إلى بيت أسلافه الآراميين، وقيل إن أمه هي التي طلبت إليه أن يلحق بخاله مخافة أن يقتله أخوه عيسو. وقد حصلت أمه على موافقة إسحق على سفره بحجة أنه قد يتزوج بإحدى بنات الحيثيين (ويُلاحَظ أن يعقوب يظهر دائماً بوصفه راعياً، أما عيسو فهو صياد بدوي مغير).

ورغم أخطائه وخداعه، فقد أراه الإله رؤيا مجيدة إذ رأى ملائكة يصعدون ويهبطون على سلم، ووعده الرب بأن يعطيه الأرض التي كان متغرباً فيها، وحين استيقظ يعقوب سمَّى المكان «بيت إيل». خرج يعقوب إلى آرام من أرض العراق. وقد جاء على لسانه: « إن كان الإله معي وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه، وأعطاني خبزاً لآكل وثياباً لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً » (تكوين 28/20 ـ 21)، وهو قول يعني ضمناً أن الإله، إن لم يقبل الصفقة لن يقبله يعقوب رباً. ووجد يعقوب راحيل عند البئر فأحبها، وخدم أباها لابان سبع سنين مهراً لها حتى إذا ما حان وقت الزواج احتال عليه لابان وزوّجه ليئة، فاضطر إلى خدمته سبعسنين أخرى وتزوج من راحيل، وتزوج أيضاً من خادمتيهما، ثم خدم ست سنين أخرى نظير أجر ولكنه خدع لابان في هذه الفترة حتى فاق ثراؤه ثراء سيده ثم فرَّ إلى كنعان، وقد انتهزت راحيل الفرصة وسرقت الأصنام (الترافيم) من أبيها.

ارتحل يعقوب نحو كنعان (فلسطين). وفي الطريق، صارعه شخص حتى طلوع الفجر وانخلعت فخذه. وقبل أن يطلقــه باركه وقال لـه: « لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت ». ودعا يعقوب المكان فنيئيل أي «وجه الإله» لأنه قال: « إني نظرت الإله وجهاً لوجه ونجَّيت نفسي » (تكوين 32/22 ـ 32). والقصة تشبه من بعض الوجوه قصصاً مماثلة في الحضارات الوثنية مثل الحضارة اليونانية. ففي إلياذة هوميروس يجرح ديوميدس الرب آريـس بمسـاعدة أثينا، ولكن يعقـوب يهـزم ربه دون عون أو مساعدة.

ثم طلب يعقوب العفو من أخيه عيسو الذي انطلق إلى أراضيه في جبل سعير (أدوم). أما يعقوب، فإنه بعد أن اتجه إلى أرض كنعان، اشترى أرضاً عند شكيم. وعند هذه النقطة، يروي العهد القديم قصة دينة ابنة يعقوب من زوجته ليئة التي أحبها شكيم بن حمور الحوي وأقام معها الصلة الجنسية، وقد أبدى أبوه رغبة ابنه في الزواج منها أياً كان صداقها معلناً بهذا رغبته في أن يصاهر قومه قوم يعقوب، فوافق بنو يعقوب على ذلك بشرط اختتان الذكور من أبناء المنطقة قائلين: «... إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر، نعطكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم، ونسكن معكم ونصير شعباً واحداً، وإن لم تسمعوا لنا أن تختتنوا نأخذ ابنتنا ونمضي» (تكوين 34/15 ـ 17). وقبل الحويون (وهم من الأقوام الكنعانية) الشرط ونفذوه بأمانة. وتم الزواج وأفسحوا ليعقوب وأهله المقام بينهم. وفي اليوم الثالث، وكانوا متوجعين بعد الختان، يُذكَر أن ابني يعقوب (شمعون ولاوي) أخوي دينة أخذا سيفيهما وأتيا على المدينة لأن أهلها نجسوا أختهم، وقتلا كل ذكر، وقتلا حمور وابنه شكيم بحد السيف وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب ونهبوا المدينة: « غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه. سبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت» (تكوين 34/25 ـ 29). وغضب يعقوب مما حدث لا لأنه ينطوي على الغدر وإنما لأنه «نفر قليل فيخشى أن يجتمع عليه الكنعانيون والفرزيون ويضربوه فيبيد هو وبيته » (تكوين 34/30).

ثم ظهر الإله ثانية ليعقوب مؤكداً له تغيير اسمه إلى يسرائيل ومجدداً العهد الذي أقامه مع إبراهيم. ولقد وُلد ليعقوب اثنا عشر ولداً منهـم أحـد عشـر في آرام أصبحوا القبائل العبرانية الاثنتي عشرة، وبذلك يكون يعقوب هو أبا اليهود الحقيقي الذي يتسمَّون باسمه.

وعندما حلَّت المجاعة أرض كنعان، خرج يعقوب إلى مصر (هو وأولاده حسب إحدى الروايات) حيث كان يوسف قد هاجر من قبل، فعاشوا حياة تتسم بالمعاناة، ربما تكفيراً عن خداع يعقوب لأبيه وسرقته حق الوراثة من أخيه، ولكنه يظل مُعذباً قلقاً بشأن مصير أبنائه حتى وفاته. وتحضره الوفاة في مصر فيستأذن يوسف الفرعون في الخروج إلى كنعان ليدفنه في كنعان في مدينة حبرون (الخليل) ويعود مرة أخرى.

وقد عمَّقت الأجاداه الصراع بين عيسو ويعقوب، وحوَّلت عيسو إلى شر محض على عكس الرؤية التوراتية التي تنظر إليه بشيء من التعاطف. ويبدأ الصراع حسبما جاء في الأجاداه منذ كانا في الرحم. فكلما كانت رفقة تمر على معبد يهودي كان يعقوب يحاول أن يخرج، في حين كان عيسو يحاول أن يخرج إن مرت على معبد وثني. وبذا تَحوَّل التناقض بين اليهود والأغيار إلى صراع أزلي. وقد وُلد يعقوب نظيفاً ناعماً أنيقاً مختناً، أما عيسو فقد كان مغطى بالشعر، أحمر الذقن، نابت الأسنان، وهذه صور تبين الفرق بين جمال يسرائيل الروحي وقبح عالم الأغيار.

وقد مجَّد الحاخامات يعقوب ووضعوه في مكانة تفوق حتى مكانة إبراهيم وإسحق، فكلاهما أنجب أشراراً (إسماعيل وعيسو). بل إن الإله قد نجَّى إبراهيم من نار نمرود من أجل يعقوب. وأكثر من ذلك، فإن العالم كله قد خلق من أجل يعقوب. وقد فسرت الهاجاداه خدع يعقوب بطريقة تجعلها مقبولة، فقد وُلد عيسو قبل يعقوب لأنه هدَّد بأن يقتل أمه، ووافق يعقوب على ذلك لينقذ أمه. ثم حاول يعقوب أن يسترد بكورته حتى يمكنه تقديم القرابين وهو أمر مقصور على الابن البكر أي أنه سرق البكورة بسبب ديني. بل جاء في الأجاداه أن إسحق قد تردد في إعطاء عيسـو بركته. وحينـما أخبر إسـحق عيـسو أن أخـاه قـد جاء « بمكر وأخذ بركته » (تكوين 27/35)، فإنه كان يعني في واقع الأمر أن أخاه قد جاء « بحكمة وأخذ بركته »!

يوســف

Joseph

«يوسـف» اسـم عبري معـناه «يزيد» وربما كان اختصاراً لـ «يوسف إيل». ويوسف هو ابن يعقوب من راحيل وأحب أولاده إليه. وردت قصته في سـفر التكوين (37 - 50). ويُطلَق اسـمه على إحـدى القبائل العبرانية. حسـده إخوته بسبب رؤيا بشرته بسيادته عليهم، حـيث كان يرى إخوته سـاجدين له، فتآمروا عليه وألقوه في جُبّ، وحمله بعض أهل َمْدَين إلى مصر وباعوه بيع الرقيق. فاشتراه رئيس شرطة فرعون ووكله على بيته. وقد اتهمته زوجته ظلماً فأُلقي في السجن سنوات. وهناك اكتسب ثقة السجان، فولاه على جميع المسجونين. وذاعت شهرة يوسف مفسراً للأحلام

. استوزره فرعون مصر بعد أن أوَّل له حلماً رآه عن سبع سنين شبع وسبع سنين جوع واقترح عليه تخزين الحبوب في سنين الشبع لتحاشي المجاعة، فعينه رئيساً لمخازنه وهو منصب يماثل منصب وزير التموين في العهد الحاضر. تزوج يوسف أسنات ابنة كاهن أون (عين شمس) فوطيفارع (أي: عطية رع إله الشمس) فأنجب منها منَسَّى وإفرايم. ثم حضر أبوه وكل إخوته من فلسطين هرباً من المجاعة فأكرم وفادتهم ووطنهم أرض جاسان أثناء حكم الهكسوس. وبذلك تكونت الجماعة العبرانية التي قادهاموسى فيما بعد عبر سيناء إلى أرض كنعان. وتُفسِّر الأجاداه قصة يوسف باعتبارها قصة جماعة يسرائيل، حيث إن رحلته إلى مصر وحظه فيها يشبه خروج العبرانيين من فلسطين وتقلُّب حظوظهم بين الأمم. أما زوجة رئيس الشرطة فهي مثل أنثى الأغيار (شيكسا) التي تحاول أن تجتذب الذكر اليهودي إليها.

هجــرة العــــبرانيين مــن مصـــر (الخــــــروج)

(Emigration of the Hebrews from Egypt (Exodus

يُشار إلي هجرة العبرانيين في المصطلح الديني بكلمة «الخروج». ومن هنا، فإن هجرة العبرانيين من مصر تعني «خروج» العبرانيين من مصر « بعد أن ظهر ملك جديد لا يعرف يوسف » (خروج 1/8). ومن العسير تحديد تاريخ محدَّد لعدم وجود وثائق تشير إلى هذا الحدث باستثناء العهد القديم.

ويختلف العلماء حول تاريخ هجرة العبرانيين من مصر، فهناك رأي يذهب إلى أنه كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وأن العبرانيين طُردوا من مصر مع الهكسوس، وهذا رأي مانيتو المؤرخ المصري اليوناني الذي عاش حوالي عام 250 ق.م.

أما الرأي الثاني، فيذهب إلى أن هجرة العبرانيين حدثت في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد وأنها كانت في زمن تحتمس الثالث أو في زمن أمنوفيس الثاني، ويتفق هذا مع ماجاء في سفر القضاة، ومع ما ورد في لوحات تل العمارنة عن الخابيرو. ويعتقد العلماء أن هؤلاء هم العبرانيون الذين جاءوا إلى أرض كنعان في هذا التاريخ تقريبًا.

أما الرأي الثالث فيرى أن تاريخ الهجرة يقع في الفترة 1275 ـ 1250 ق.م، وأنها تمت أثناء حكم رمسيس الثاني إذ يذكر سفر الخروج أن العبرانيين بنوا «مدينتي مخازن» وهما: فيثوم ورعمسيس، وأن «رعمسيس» هو اسم الفرعون الذي حدث الخروج في عصره. وهذا دليل واهٍ، ذلك لأن اسم «رعمسيس» استُخدم في عصر سابق لعصر رمسيس الثاني بزمن طويل.

ويقول علماء آخرون إن الهجرة قد تمت في عصر مرنبتاح، أي نحو عام 1230 ق.م، فقد جاء على نصب تذكاري أنه انتصر على يسرائيل وغيره من الأقوام وأنه قضى على نسله. وقد استدلوا على أن هذه إشارة إلى هجرة العبرانيين من مصر، مع أن هذه الإشارة يُستَدل منها على أن العبرانيين كانوا قد خرجوا من مصر قبل ذلك التاريخ وأنهم قضوا سنى التيه في سيناء، وتسللوا إلى كنعان واستقروا فيها، الأمر الذي يتناقض والروايات الأخرى وبعض الحقائق التاريخية، ولذا يذهب بعض المؤرخين إلى أن اسم «يسرائيل» الذي ظهر على هذا النصب إنما هو اسم لمدينة أو قبيلة كنعانية. كما قام أحد العلماء المصريين (د. أحمد يوسف) بترجمة النص كما يلي: "كان إسرائيل بوراً (أو عقيماً) لا بذرة له". وهي جملة لا تدل بالضرورة على حرب أو قتال.

والخروج عملية هجرة من مصر إلى أرض كنعان (فلسطين). وبالتالي يمكن النظر إليه في إطار آليات الهجرة باعتبارها حركة طرد من مصر، وحركة جذب إلى كنعان، شأنه شأن أية حركة هجرة أخرى. ومع هذا، يجب التحفظ بشأن ما سنورده من أسباب وتفسيرات، فهذه مراحل تاريخية كثير من جوانبها ظلت سديمية، لا نعرف الكثير عنها.

وفي محاولة تفسير حركة الطرد من مصر يمكننا القول بأنه عند تحرير مصر من الهكسوس طُرد معهم حلفاؤهم العبرانيون. أما من بقوا منهم، فقد اعتُبروا أجانب وتحوَّلوا إلى أرقاء وعبيد سُخِّروا في أعمال البناء والمشاريع الإنشائية التي كان يقوم بها الفراعنة، ومن هنا أصبحت مصر، بالنسبة إليهم أرض العبودية.

ويضاف إلى هذا العامل الحضاري أنه تم في القرن الثالث عشر قبل الميلاد اكتشاف الحديد، وهو ما أدَّى إلى بدء تَدهوُّر الوضع الاقتصادي في مصر. فقد كانت مصر غنية بمناجم النحاس، وتسيطر سيطرة شبه كاملة على تجارته مع بلدان غربي آسيا، ولذا، فقد كانت تمارس تأثيراً لا يُستهان به في المنطقة. إلا أن اكتشاف الحديد قلب الأوضاع القائمة حيث حل التعامل بالمعدن الجديد محل التعامل بالنحاس في العالم القديم. ولم تقتصر آثار ذلك على الشعب المصري وحده وإنما شملت الحالة المعيشية لجميع الأجانب القاطنين مصر ومنهم العبرانيون، الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في الانتقال إلى موقع آخر أفضل.

وعلاوة على هذا، شهدت منطقة البحر الأبيض المتوسط في الحقبة التاريخية 1400 ـ 1100 ق.م حركة هجرة هائلة امتدت من أواسط آسيا متجهة نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط وأوربا، إلى جانب حركة سكان جزر المتوسط نحو السهول الساحلية (ومن بينها السواحل الشرقية) مثل شعوب البحر ومنهم الفلستيون.

أما حركة الجذب إلى كنعان، فقد كانت تعود إلى جملة أسباب، أولها أن كنعان كانت دوماً عرضة للغزو الخارجي، ولكنها كانت تقع خارج حدود إمبراطوريتين عظميين: بلاد الرافدين، ووادي النيل. وهذا يعني أن الأقوام التي كانت تعيش فيها كانت تتمتع إلى حدٍّ ما بنوع من الاستقلال النسبي. كما أنها كانت قد بلغت مرحلة متقدمة في الصناعة والتجارة والرفاهية الاقتصادية. وكان هذا يشكل عامل جذب قوي بالنسبة إلى العبرانيين، ويحمل في تضاعيفه أمل التغلغل في هذا المجال، وبالتالي السيطرة عليه. وإضافة إلى هذا، كان العبرانيون قد أقاموا في كنعان في زمن مضى، الأمر الذي كان يهيئهم نفسياً للتفكير في الهجرة إليها مرة أخرى، وخصوصاً أنها على مقربة من مصر. وأخيراً كان التشكيل السياسي السائد في كنعان يتكون من دويلات/مدن ضعيفة لم يكن من الصعب على العبرانيين أن يغزوها ويبسطوا سيطرتهم عليها.

ويختلف العلماء في تحديد الطريق الذي سلكه العبرانيون في خروجهم من مصر. فيحاول بعضهم تحديده بدراسة نصوص العهد القديم وتحليل تضاريس شبه جزيرة سيناء. بل يثير بعض العلماء قضية أن المكان الذي خرج منه العبرانيون «متسراييم» لم يكن «مصر»، فقد أشار هيوجو ونكلر إلى أن متسراييم التوراتية ليست مصر وإنما موزري وهي مقاطعة جنوبي البحر الميت تضم مرتفعات سعير ومدينة البتراء وتضم أرض مَدْيَن والأدوميين والنبطيين وأنه حدث خلط بين موزري ومصر. ويرى كمال الصليبي أن متسراييم هي أرض عسير في جنوب المملكة العربية السعودية. وقد رفضت أغلبية العلماء كلا الرأيين.

ونحن نستخدم كلمة «الخروج» للإشارة إلى هجرة العبرانيين (جماعـة يسـرائيل) من مصـر، وسيرهم في سيناء، من الناحية الدينية. ونستـخدم كلمة «هجــرة» للإشارة إلى الواقعة التاريخية ذاتها، أما عبارة «التسلل العبراني في أرض كنعان»، فنستخدمها للإشارة إلى دخول العبرانيين أرض كنعان.

الخـــروج (مفهـــوم دينـــي)

Exodus (Religious Concept)

كلمة «الخروج هي الترجمة العربية للعبارة العبرية «يتسيآت متسراييم»، ويُقال لها باليونانية «إكزوداس». وتُستخدَم الكلمة بمنطوقها اليوناني في معظم اللغات الأوربية.

والخروج هو خروج جماعة يسرائيل من مصر بعد أن ظهر ملك جديد لا يعرف يوسف (خروج 1/8). وهي واقعة تحتل مكانة مركزية في الوجدان الديني اليهودي ثم الصهيوني. وتذهب المصادر الدينية إلى تفسير الخروج بأنه يرجع إلى تَزامُن اضطهاد فرعون مصر لأعضاء جماعة يسرائيل وإلى أنهم سئموا حياة الترف والدعة في مصر التي يُشار إليها بعبارة « قدور لحم مصر».

ومهما يكن السبب، فقد أصبح أعضاء جماعة يسرائيل، حسب الرواية التوراتية، شعباً وأمة مقدَّسة بعد خروجهم من مصر «أرض العبودية». وتُعتبَر هذه الواقعة، تقليدياً، النقطة التي يبدأ فيها التاريخ المستـقل لليهود ويظهر الشعب اليهودي للوجــود. فقبل ذلك التاريخ كانت الإشارات دائماً إلى أفراد أو أسر (مثل يعقوب وأولاده) تتنقل من مكان إلى آخر وليست لهم هوية إثنية محدَّدة.

ويرمز الخروج في الوجدان اليهودي إلى التدخل الإلهي في التاريخ لصالح الشعب المختار. ويدل على تَحوُّل إله العالم أو الكون أو الطبيعة إلى إله التاريخ اليهودي الذي لا يمكن فَهْم أفعاله بالمنطق الإنساني العادي. وخروج جماعة يسرائيل من مصر علامة على اختيارهم حسب التراث الديني اليهودي، وهو أيضاً علامة على الاستعداد الدائم عند الإله للتدخل في التاريخ ليأخذ بيدهم ولينصرهم على أعدائهم.

وتركز هذه المناسبة على مصر باعتبارها نموذج أرض العبودية التي يُمتهَن فيها الشعب المقدَّس، تماماً كما أصبحت بابل نموذجاً لأرض السبي والنفي. والتراث اليهودي يُذكِّر اليهود بالخروج في أهم المناسبات، فالوصايا العشر تعرّف الإله بأنه « الذي أخرج اليهود من دار العبودية »، ويرد ذكر الخروج في صلاة الشماع، وعلى كل يهودي في عيد الفصح أن يستشعر الخروج وكأنه يمارسه بشكل شخصي مباشر. وسيُحتَفل بالخروج حتى في العصر المشيحاني، ذلك لأن العصر المشيحاني، مثل الخروج، يقع خارج نطاق التاريخ: في دائرة المطلق. فهما نقطتان متوازيتان، فالخروج بداية التاريخ وعودة الماشيَّح نهايته.

وهذا التاريخ المقدَّس ليس له علاقة كبيرة بالتاريخ الحقيقي، فحادثة الخـروج هـذه لم تمثـل حـدثاً يثــير الاهتـمام الفــكري لــدى المصـريين، ولذا لم يــأت لها ذكــر في الآثـار الفرعونية. كما أن تجربة العبــرانيين الفعـلية لـم تكـن سيئة دوماً مع الإمبراطورية المصرية القديمة، وإن لم تكن طيّبة طوال الوقت. ومع هذا، فإن التاريخ المقدَّس أو التوراتي هو الذي صاغ رؤية اليهود لمصر بل وربما رؤية العالم (الغربي) المسيحي لها. ونفس هذه الرؤية، في العلاقة بين عبودية شعب وتحرُّره من إمبراطورية كبرى مثل مصر، تتمثل في رؤية داود وجوليات، فهي عبودية الشاب الصغير الذي لا يحمل سوى المقلاع وتحرُّره من سطوة جوليات المدجَّج بالسلاح.

وتُستخدَم كلمة «خروج» للإشارة إلى هجرة اليهود من أي بلد، فيُشار مثلاً إلى خروج يهود البلاد العربية منها إلى الدولة الصهيونية وإلى خروج يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل. ولكن، وبعد هجرة ما يزيد على نصف مليون مُستوطن صهيوني من فلسطين المحتلة إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول،أشار أحدهم إلى «خروج صهيون» أو «الخروج من صهيون». وفي هذا مفارقة عميقة إذ أن الخروج يكون دائماً إلى صهيون وليس منها. ويتناول أحد أسفار موسى الخمسة أحداث واقعة الخروج، وهو « سفر الخروج ».

موسـى

Moses

«موسى» هو المقابل العربي لكلمة «موشيه» العبرية، وموسى هو مؤسس الديانة اليهودية. وبخروجه أو هجرته من مصر، يبدأ تاريخ العبرانيين.

وقد لاحظ فرويد أن شخصية موسى مزيج من مفاهيم البطولة عند الساميين والمصريين، فشخصية البطل عند الساميين تتميَّز بأنها من أب غير معروف، أو بأن يكون البطل يتيماً، أو تكون ولادته محفوفة بالمخاطر والمشاكل، أو يكون البطل ممن أحبوا العزلة في الصحاري والجبال. أما عند المصريين، فهو من بيئة أرستقراطية، قوي البنية شديد البأس، يعيش في الحضر بين قوم مُتمدينين. وتضم شخصية موسى مزيجاً فريداً من المفهومين.

شبَّ موسى، حسب الرواية التوراتية، في بيت فرعون بعد أن ألقته أمه رضيعاً في النهر، لأن فرعون كان قد شدَّد الأمر بقتل صبيان العبرانيين. ولكنه عرف هويته الحقيقية. وتدخَّل في شجار وقع بين مصري وعبراني فصرع الأول. لكن أحد العبرانيين وشى به، فاضطر إلى الخروج من مصر إلى أرض مديَن في شبه جزيرة سيناء والجزء الشمالي من الجزيرة العربية. وعمل خادماً لدى يثرون كاهن الإله المديَني «يهوه» الذي علمه الديانة الجديدة وزوجه ابنته صفورة. وأثناء رعيه أغنام يثرون، حدثت له معجزة الشجرة المشتعلة التي لا تهلكها النيران، فلما دنا لينظر نودي من وسطها، وظهر له رب إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي أصبح اسمه منذ ذلك الحين يهوه (وموسى ـ حسب الرواية التوراتية - هو النبي الوحيد الذي رأى الإله وجهاً لوجه). وطلب إليه يهوه أن يعود إلى مصر ليكون قائداً لشعبه ويخرجه من هناك، فأخذ معه أخاه هارون لأنه كان يتلعثم في الكلام. وكما هو معروف، رفض فرعون مصر، وقد يكــون رمسـيـس الثـاني (1290 ـ 1237 ق.م)، ما طلبه موسى، واستمر في استعباد جماعة يسرائيل، فحلَّت بمصر الأوبئة العشرة حتى اضطر فرعون إلى أن يُطلق سراحهم. لكنه غيَّر رأيه ولحق بهم أثناء عبورهم البحر الأحمر، فغرق هو وجيشه. وعند جبل سيناء ظهر يهوه مرة أخرى لموسى،وجدَّد الميثاق بينه وبين جماعة يسرائيل، وأعطى موسى الوصايا العشر والتوراة. وبدأ موسى في سَن التشريعات، وهو ـ حسب التراث الديني اليهودي ـ المصدر الأساسي للشريعة الشفوية. وبنى أيضاً خيمة الاجتماع.

وقد تسبَّب اليهود في الكثير من العناء لموسى أثناء عبور الصحراء، إذ عبدوا العجل الذهبي في غيابه، ثم ظلوا في الصحراء مدة أربعين عاماً حتى نجحوا في اجتياز سيناء. واتخذ موسى لنفسه زوجة ثانية رغم معارضة أخته مريم وأخيه هارون. وحينما حاول عبور نهر الأردن، رفضت مملكتا مؤاب وأدوم السماح له بعبور أراضيهما، الأمر الذي اضطره إلى التسلل شرقاً والاتجاه شمالاً.

وتذكر التوراة أن الرب غضب من موسى وأخيه هارون لخيانتهما له « إذ لم تقدساني وسط بني إسرائيل » (تثنية 32/51). وكان عقاب موسى النظر إلى أرض كنعان من على جبل نبو لكنه لم يدخلها. ثم مات موسى، وتولى مهمة إدخال جماعة يسرائيل إلى أرض كنعان خادمه يشوع بن نون.

ورغم أن له هذه الأهمية، فإننا لا نجد ذكراً له على لسان عاموس أو أشعيا، ولا يأتي له أيضاً ذكر في الأسفار المقدَّسة إلا فيما ندر. وربما يعود هذا إلى فقدان اليهود لأسفار موسى الخمسة لمئات من السنين. والواقع أن هذه الأسفار تنسب إلى موسى كثيراً من الأوامر الخاصة التي تحرِّض على النهب والسلب والحرق (عدد31/18). ونظراً لأهمية موسى في الوجدان اليهودي، فإن اليهود والصهاينة يخلعون لقب «موسى الثاني» على كل قائد يهودي. وقد اكتسب هذا اللقب كلٌّ من موسى بن ميمون في الأندلس، وموشيه ديان في فلسطين المحتلة.

وجاء في الأجاداه أن السماء والأرض خُلقتا من أجل موسى، وأن ابنة فرعون حينما فتحت السلة التي فيها موسى وجدت الشخيناه إلى جواره. وقد رفض موسى أن يرضع من ثدي المصريات لأن الفم الذي سيتحدث مع الشخيناه لا ينبغي أن يلوثه لبن النساء المدنَّسات. وقد ظهر الإله له داخل الشجرة المشتعلة حتى يبين له أن اليهود لا يمكن تحطيمهم ـ تماماً مثل الشجرة التي لم تقض عليها ألسنة اللهب. وقد فُسِّر تردده في قبول الرسالة الإلهية بعدة أسباب، من بينها أنه أراد أن يكون الإله ذاته هو مخلِّص جماعة يسرائيل، كما أنه كان غاضباً من الإله لأنه هجر جماعة يسرائيل لمدة مائتين وعشرة أعوام وسمح بأن يقوم المصريون بذبح كثير من أتقيائهم. وفي القبَّالاه، يُعَدُّ موسى وهارون التجلّيين النورانيين: نيتسح (التحمل والأزلية) وهود (الجلالة والمجد).

هارون

Aaron

«هارون» هو المقابل العربي للاسم العبري «أهرون»، وهو شقيق موسى، وهو أيضاً من أحفاد لاوي. اعتُبر منذ شبابه قائداً لجماعته وكاهن بيته وسُمِّي باسم «اللاوي». ويُعَدُّ هارون شخصية أساسية في أحداث الخروج من مصر، فهو الذي تحدَّث باسم موسى حينما ذهب إلى فرعون (وهذا ما يعطيه صفات النبوَّة). واشترك مع موسى في قيادة جماعة يسرائيل إلى خارج مصر. ومع هذا، فحينما تأخر موسى وهو على الجبل مع الرب، ضج أعضاء جماعة يسرائيل، وارتدوا عن طاعة إله موسى وطلبوا إلى هارون أن يصنع لهم تماثيل آلهة ليعبدوها، فصنع هارون العجل الذهبي وبنى له مذبحاً. غير أن الإله، مع هذا، غفر له خطأه وأصبح هارون أول رئيس للكهنة.

وتُفسِّر الأجاداه تَورُّطه في حادثة العجل الذهبي على أساس حبه لجماعة يسـرائيل. فبدلاً من أن يقـتل من اشـتركوا في هذه العبادة الوثنية، كما فعل موسى، اشترك هو معهم بل صنع العجل بنفسه. وفي رواية أخرى أنه صنع العجل الذهبي خوفاً على حياته من جماعة يسرائيل.

وثمة رأي يذهب إلى أن ثمة اختلاف بين الهارونيين (ذرية هارون) واللاويين، وأن ذرية هارون تشكِّل نخبة خاصة داخل قبيلة لاوي، ولذا فقد كان منهم كبير الكهنة في حين كان يتبع صغار الكهنة قبيلة لاوي. ويُلاحَظ أن ثمة صراعاً بين اللاويين والهارونيين يظهر في ثورة أبناء قورح على هارون، وفي رفض قبيلة اللاويين ممارسة عبادة العجل الذهبي. ويرى بعض العلماء أن قبيلة هارون كانت عشيرة كهنوتية موجـودة في مصر قبل عصر موسـى واعتنـقت عقـيدة موسى قبل اللاويين، وأنها هي التي نشرت الدين الجديد بسبب مكانتها، وأن العشيرة الهارونية اندمجت في قبيلة اللاويين.

الباب التاسع: التسلل أو الغزو العبراني لكنعان

التسلــــل أو الغــــــزو العــــــبراني لكنعــــان

Hebrew Infitration into, or Conquest of, Canaan

يُعَدُّ خروج العبرانيين من مصر حركة هجرة تمكن رؤيتها في إطار حركة طرد من مصر وجذب من كنعان. وتشير بعض المراجع، استناداً إلى الرواية التوراتية، إلى هذه الهجرة باعتبارها حركة «غزو» عسكرية، ونحن نفضل استخدام اصطلاح «تسلل» لوصف هذه العملية التاريخية الطويلة التي لم تتم عن طريق معركة أو عدة معارك عسكرية حاسمة، وإنما عن طريق التسلل والتجسس والتزاوج والاندماج وأحياناً الغزو. وقد كان العبرانيون قبائل بدوية بدائية حينما خرجوا من مصر وعبروا سيناء ووصلوا إلى مشارف أرض كنعان. ولذلك لم يكن في مقدورهم غزو هذه الأرض والاستيلاء عليها، ولم يكن أمامهم سوى التسلل التدريجي فيها، وقد كانت عملية طويلة استمرت ما بين 1250 و1200 ق.م. وما كان لهذا التسـلل أن ينجح لولا تضافر عدة عوامـل تاريخية واجتماعية وسياسية، لعل أهمها كان الغياب المؤقت للإمبراطوريات العظمى في تلك المرحلة. فالإمبراطورية الحيثية في الشمال كانت قد انهارت في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت عوامل الضعف تزحف على القوة المصرية في الجنوب التي تضاءلت هيمنتها على كنعان، ولم تكن آشور قد أصبحت بعد قوة عظمى ذات أهمية. أما في كنعان ذاتها، فقد كانت المدن الدول الكنعانية قد أحرزت تقدماً حضارياً ملحوظاً. ويُرجَّح أن السبب في أن جماعة يسرائيل أو العبرانيين قد أخذت بلغة وحضارة وحتى بديانة كنعان يعود إلى كونها جماعة بدائية تفتقر إلى أدنى المقومات الحضارية، وذلك كما نسـتنتج من الروايات التـوراتية إذ يخاطب الإله موسى قائلاً: « إني سأسوقك إلى مدن عظيمة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها... وأكلت وشبعت... » (تثنية 6/10ـ 12). ومع ذلك، كانت هذه المدن/الدول تتطاحن فيما بينها، وهو ما أدَّى إلى تَدهور الوضع الأمني في البلاد. ويبدو أن الوضع الإثني في كنعان كان يتَّسم بعدم التجانس، فالعهد القديم يذكر دائماً الأقوام السبعة التي تقطن المكان ويزداد العدد أحياناً ليصل إلى عشرة في سفر التكوين (15/19ـ21) « القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والعموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين ». وهذه نقطة أدركها جواسيس موسى، فقد ذهبوا ورأوا أرضاً «تفيض لبناً وعسلاً وأن مدنها حصينة عظيمة جداً » أي أنها تتمتع بقدر عال من التقدم الحضاري. ولكنهم لاحَظوا أيضاً تنوعها الإثني، إذ قالوا: «العمالقة ساكنون في أرض الجنوب والحثيون واليبوسيون والعموريون ساكنون في الجبل والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن » (عدد 13/28 ـ 29).

ومع هذا، لم يحرز العبرانيون نصراً عسكرياً، فلم يحتلوا سوى بعض المناطق الجبلية عن طريق استخدام التجسس والتخريب وعنصر المفاجأة. أما في السهول، حيث توجد العربات الحربية، فقد ظلت الهيمنة للكنعانيين. ويظهر هذا في رد قبيلة يوسف على يوشع بن نون حين يقولون: « لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات حديد » (يشوع 17/16 ـ 18). والوضع نفسه ينطبق على قبيلة يهودا، فقد ملكت الجبل لكنها لم تطرد سكان الوادي « لأن لهم مركبات حديد » (يشوع 17/12ـ 18).

ومن يقرأ سفر القضاة (1/21 ـ 35)، ويشوع (16/10) يعرف أن الغزو العبراني كان مجرد استيطان في عدة جيوب غير مترابطة، رغم كل التهويل الخاص بقتل عشرات الملوك. ويؤكد السفر أن الكنعانيين كانوا يقطنون وسط العبرانيين. بل يمكن القول بأن العبرانيين ظلوا مُشرَّدين لاجئين على قمم التلال، ومن تجرَّأ منهم ونزل إلى السهـول أصـبح خادماً أو عبـداً. وظل هذا الوضع فترة طويلة جداً، ففي سفر الملوك الأول إشارة إلى إله العبرانيين باعتباره « إله جبـال لذلك قووا عليـنا. ولكن إذا حـاربناهم في السهل فإننا نقوى عليهم » (ملوك أول 20/23).

ولا يمكن فَهْـم هذا التسـلل العبراني باعتباره غزواً بالمعنى العادي، فهو تسلل يعتمد على القوة العسكرية أحياناً وعلى المكر أحياناً أخرى وعلى التزاوج في بعض الأحيان.كما أن العبرانيين المتسللين تزاوجوا مع أقاربهم الذين لم يهاجروا معهم إلى مصر كما تزاوجوا مع الكنعانيين. وقد سيطر العبرانيون في نهاية الأمر على قسم كبير من أراضي فلسطين الشمالية، فاستوطنت قبائل يهودا وبنيامين الأراضي المرتفـعة المحيطـة بالقـدس، واستوطنت القبائل الأخرى السهـول الشمالية، وقام اتحاد القبائل المعروف بالمملكة العبرانية المتحدة التي انقسمت فيما بعد إلى الدويلتين العبرانيتين. ولكن سيطرة العبرانيين لم تَدُم طويلاً إذ قامت القوى الإمبراطورية العظمى فاكتسحتدويلات الشام وفلسطين كلها وتعاقبت السيطرة عليها.

ومن القضايا التي تثار، عمليات الإبادة الافتراضية التي صاحبت التسلل العبراني، فحسب ما جاء في العهد القديم، كان العبرانيون لا يكتفون بفتح المدن وإنما كانوا يقومون بإتلاف وتدمير كل ما تقع عليه أيديهم من إنجازات مادية أوحضارية وبإبادة الرجال والنساء والشباب والشيوخ والثيران والخراف والحمير بحد السيف. ويذكر العهد القديم بفخر واضح الألوف التي تمت إبادتها. ومما لا شك فيه أن الحديث عن الإبادة، مثل الحديث عن الانتصارات العسكرية، أمر مبالغ فيه. ومع ذلك، يظل هناك جزء من الحقيقة. ولعل اتجاه العبرانيين نحو الإبادة هو تعبير عن تَخلُّفهم الحضـاري، فالعــبرانيون كما أسـلفنا كانـوا جمـاعات متحـركة هــاربة مــن مصر، دخلت أرضاً فيها مدن مستقرة بلغت مرحلة حضارية وثقافية أعلــى وأكثــر رقيــاً. ولـم يكـن تحقـيق الانتـصار والاســتيلاء على هــذه المــدن ممكنــاً إلا عــن طــريق الإبــادة الجسـدية والإفنــاء المادي الشامل بسبب غياب أية مؤسسات إدارية عبرانية تتمتع بقدر من التركيب. كما أنهم، نظراً لتخلفهم الاقتصادي والحضاري، لم تنشأ عندهم الحاجة إلى الأيدي العاملة التي كان الأسرى من أهم مصادرها. ومن هنا، نجد أن العبرانيين كانوا يتخلصون من الأسرى بإبادتهم جسدياً. وقد استمر هذا الوضع حتى بعد إنشاء الدولة العبرانية المتحدة التي كانت تَسدُّ حاجتها من الأرقاء والعبيد المطلوبين لأداء خدمات يومية اعتيادية للأرستقراطيين والموسرين عن طريق استعباد المذنبين والأفراد الذين يعجزون عن تسـديد ديـونهم فيبيعون أنفسهم أو أبناءهم ليكونوا عبيداً لدى الدائن.

يَشُوَّع بن نون

Joshua

«يَشوَّع بن نون» هو المقابل العربي للاسم العبري «يهوشواع» ومعناه «يهوه هو الخلاص». ويشوع بن نون، كان اسمه في البداية «شواع» وأضاف موسى الجزء الأول فصار «يهوشواع»، ثم دعاه موسى «يشوع». وهو يُسمَّى أيضـاً «يوشـع». وهو خليفة موسى وخادمه وابن نون من سـبط إفرايم. وُلد في مصر، وأرسلـه موسـى مع كـالب ليتجسسا. ويُصوِّره العهد القديم باعتباره نبياً وقائداً عسكرياً قاد القبائل العبرانية إلى أرض كنعان واقتحمها حسب الرواية التوراتية بعد معارك ضارية مع العموريين والمؤابيين والفرزيين والكنعانيين والحيثيين والجرجاشيين والحوريين واليبوسيين، فأحرقوا بعض مدنهم وقتلوا رجالهم مستخدمين الوسائل كافة ـ ومن ذلك الخداع والتجسس عن طريق العاهرات (1250 ـ 1200 ق.م).

اسـتمر يشـوع بن نون في حكم العبرانيين مدة ثمانية وعشرين عاماً، فقسَّم الأرض التي احتلوها بالقرعة على القبائل العبرانية، واستثنى اللاويين الذين قاموا بالأعمال الكهنوتية. وترك ست مدن على الشاطئين الأيمن والأيسر لنهر الأردن لتكون ملجأ للمشرَّدين من العبرانيين المتهمين بالقتل الخطأ. وكان يُحذِّر جماعة يسرائيل من ترك الرب وعبادة آلهة غريبة. ويروي سفر يشوع أخباره، ومن بينها أنه أصدر أمره إلى الشمس بأن « تقف » حتى ينتقم من أعدائه «فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل » (يشوع 10/13). ويشوع هو الذي أمر العبرانيين بأن يطوفوا بأسوار أريحا سبع مرات وأمامهم سبعة كهنة ينفخون في الأبواق، فسقط السوروسقطت المدينة في أيديهم. ويُفسِّر بعض المحدَثين من اليهود هذه الظاهرة بأنه من تأثير شدة ذبذبات أصوات الأبواق. ومهما يكن الأمر، فقد قام يشوع بإحراق أريحا بالنار بأمر يهوه « وكل ما بها » ما عدا راحاب العاهرة (يشوع 6/22 ـ 24). ويُلاحَظ أن التصوُّر السائد للخالق في سفر يشوع لا يختلف كثيراً عما جاء على نقش ميشع حيثنجد أن الإله القومي يجد غبطة غير عادية في عمليات القتل والإبادة التي يقوم بها شعبه.

وتحاول الأجاداه أن تبرر قيامه باغتصاب أرض كنعان من أهلها على أساس أن العهد الإلهي قد وعد بهذه الأرض لنسل يعقوب وأن الكنعانيين كانوا مجرد أوصياء عليها. وقد تزوج يشوع من العاهرة راحاب التي ساعدت جواسيسه وذلك بعد أن تهودت. ومما تجـدر الإشـارة إليـه، أن العَالم هـ.تامارين قد أجرى استفتاء، في عدد من مدارس تل أبيب والمدن والمستعمرات الإسرائيلية، حول الأساليب الهمجية التي انتهجها يشوع، فتوصَّل إلى أن نحو 66 - 95% أيَّدوا ذلك الأسلوب وأن 30% من التلاميذ كانوا يؤيدون بصورة قطعية إبادة السكان العرب تماماً في المناطق المحتلة. ومن الأجوبة التي تلقاها: « لقد تصرَّف يشوع بن نون تصرفاً حسناً بقتله جميع الناس في أريحا، ذلك لأنه كان من الضروري احتلال البلاد كلها، ولم يكن لديه وقت لإضاعته مع الأسرى ». وثمة إشارات عديدة في أدبيات جوش إيمونيم وجماعة كاخ إلى يشوع وإلى أن أسلوبه الإبادي هو الأسلوب الأمثل في التعامل. وقد دعا كاهانا المؤسسة الدينية إلى تبيان أن أسلوبه هذا جزء عضوي من الدين اليهودي والرؤية اليهودية لسكانالأرض من غير اليهود.

الأســـــــباط

Hebrew Tribes

«الأسباط» صيغة جمع مفردها «سبط»، وهي كلمة عربية تعني «ولد الابن أو الابنة»، وتستخدم في النصوص الدينية للإشارة إلى القبائل العبرانية. ونحن لا نستخدم هذاالمصطلح في هذه الموسوعة إذ نؤثر استخدام المصطلح الأكثر حياداً وهو كلمة «قبيلة» وجمعها «قبائل»، ونُفرِّق بين السياق الديني والتاريخي فنقول «قبائل يسرائيل»و«القبائل العبرانية».

القبائل العبرانية الإثنتا عشرة

Twelve Hebrew Tribes

كلمة «سبط» بالعبرية معناها «عصا» أو «جماعة يقودها رئيس بعصا». ويُطلَق تعبير «أسباط» أو «قبائل» على أولاد يعقوب وكذلك على كل من إفرايم ومنَسَّى ابني يوسف. وقد انتظمت مجموعة القبائل العبرانية (في العصر التالي لموسى والمسمَّى «فترة القضاة» في اثنتي عشرة قبيلة أو اثنى عشر سبطاً على ما جرت عادة النظام الاجتماعي للتجمعات الكنعانية في فلسطين في العصور القديمة. وتسمَّت هذه القبائل بأسماء أبناء يعقوب: رؤوبين وشمعون ويهودا وبساكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير وإفرايم ومنَسَّى، وتضاف إليها قبيلة لاوي. وُسمِّيت هذه القبائل معاً «يسرائيل»، فهي من صلب يعقوب (يسرائيل). وكانت كل قبيلة مقسَّمة إلى بطون وأُسَر. وقد استوطنت قبيلتان ونصف (رؤوبين وجاد ونصف منَسَّى) الضفة الشرقية لنهر الأردن، واستقرَّت القبائل الأخرى في ضفته الغربية. وكانت أهم القبائل قبيلة يهودا التي استوطنت في الجنوب وسُمِّيت باسمها المملكة الجنوبية بعد تفكُّك اتحاد القبائل في المملكة العبرانية المتحدة. أما أكبر قبيلة في الشمال، فهي قبيلة «إفرايم»، ولذا سُمِّيت المملكة الشمالية «إفرايم». وحينما قَسَّم يشوع بن نون الأراضي المُستولَى عليها بين القبائل، أُوكلت أعمال الكهانة إلى قبيلة لاوي التي لم تنل نصيباً من الأرض. ولذا، فإنها لم تَعُد تُحسَب ضمن القبائل. ومع هذا، ظل العدد (12) كما هو، لأن قبيلة يوسف قُسِّمت إلى قبيلتين هما منَسَّى وإفرايم. وكانت شيلوه المركز المقدَّس لكل القبائل إذ وُضع فيها تابوت العهد. ولكن هناك نظرية تذهب إلى وجود مراكز مقدَّسة أخرى مثل شكيم وجلجال ودان بحيث كان لكل قبيلة مركزها المقدَّس، وكانت شيلوه المركز المقدَّس للقبائل جميعاً.

وجدير بالذكر أن العدد (12) رقم مفضل في العهد القديم، فهناك وعد من الرب لإبراهيم بأن يُخرج من نسل ابنه إسماعيل اثنتى عشرة قبيلة (تكوين 17/20) كما أن عدد أبناء يعقوب كان اثنى عشر أيضاً، وهو نفسه الرقم الذي يتكون منه اتحاد ملوك الحيثيين. وربما كان لذلك علاقة بعدد البروج والشهور في التقاويم الشهيرة. ومع هذا، تختلف الروايات في عدد القبائل على وجه الدقة، فأغنية دبوره (قضاة 5) تذكر عشر قبائل وحسب ولا تذكر يهودا أو شمعون. ويذكر موسى (تثنية 33) إحدى عشرة قبيلة إذ لا يذكر سيمون. وهناك قبائل ورد ذكرها ولم يُعرَف مصيرها، كما أن بعض المراجع التي حصرت كل الأسماء تذكر أن عدد القبائل يبلغ عشرين.

ظل التقسيم القبلي هو النظام الاجتماعي القائم في فترة القضاة (1250 ـ 1020 ق.م)، والذي استمر إبّان نظام الملكية بعد أن قام داود وسليمان بتوحيد القبائل تحت حكم ملكي شمولي. ولذا، فبعد أن أُقيمت المملكة العبرانية المتحدة، ما لبثت هذه المملكة أن انقسمت إلى مملكتين: الشمالية والجنوبية. وكانت المملكة الجنوبية (يهودا) تضم قبيلتي يهودا وبنيـامين، بينما ضمَّت المملكة الشـمالية (يسرائيل) القـبائل العـشر الباقية. ويبدو أن الوحدة بين هذه القبائل كانت ضعيفة للغاية، فالمعارك التي يرد ذكرها في سفر القضاة تدل على أن القبائل لم تشترك جميعاً في معركة واحدة. وهذا أمر طبيعي في أي اتحاد قبلي، وإن كانت المراجع الصهيونية التي تحرص على إبراز مفهوم الوحدة اليهودية تحرص على إخفائه. بل كانت المعارك تنشب أحياناً بين هذه القبائل كما حدث أثناء حكم القضاة حينما نشب صراع بين سكان منطقة جلعاد (قبيلة رؤوبين وجاد ونصف قبيلة منَسَّى) وقبيلة إفرايم. وقد هُزمت قبيلة إفرايم في هذه المعركة وذُبح كثير من أفرادها بعد أسرهم. وقد جاء في العهد القديم (قضاة 7/8، 12) أنه كلما كان يدَّعي أحد أفراد قبيلة إفرايم أنه من جلعاد كان يُطلَب منه أن ينطق بكلمة «شبُولت» أي «سنبلة»، فإن فشل في ذلك، بسبب اللهجة التي كانوا يتحدثون بها، كان يُذبَح. وهذا يدل على تلك الرغبة في الاستقلالية والتمييز بين القبائل المختلفة، كما يدل على قوة تأثير البيئة الكنعانية في مختلف القبائل بحيث كانت كل قبيلة تتبع اللهجـة السـائدة في المنطقة التي اسـتقرت فيها.

وقد هاجمت دبوره في أغنيتها (قضاة 5/24) سكان جلعاد وقبائل رؤوبين ودان، وأشارت إلى أنهم لم يهبّوا لنجدتها. ويذهب بعض العلماء إلى أن مرحلة القضاة لم تشهد ظهور قيادات قومية لكل القبائل إذ كانت لكل مجموعة من القبائل قيادتها المستقلة.

ويبدو أن المحرِّض الأساسي على الصراعات والحروب كان قبيلة إفرايم التي كانت تخشى على مكان الصدارة الذي كانت تحتله. وهذا ما حدث بالفعل بعد اتحاد القبائل في المملكة العبرانية المتحدة خلال عصر داود وسليمان. فبعد موت سليمان، استقلت عشر قبائل تحت قيادة إفرايم (928 ق.م) وكوَّنت المملكة الشمالية التي كان لها استقلالها السياسي وبالتالي الديني، وذلك باعتبار أن الدين والسياسة كانا متداخلين في العالم القديم، كما كان الاستقلال الديني مظهراً من مظاهر الاستقلال السياسي.

منسَّى (منسه)

Menasseh

«منَسَّى» اسم عبري معناه «من ينسى» وهو اسم الابن البكر ليوسف. كما يُطلَق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية التي كان نصيبها في الأرض موقعاً على ضفتي نهر الأردن. وكانت منَسَّى من القبائل الأولى التي هجَّرها الآشوريون.

رؤوبـين

Reuben

«رؤوبين» هو اسم عبري معناه «انظروا الابن» وهو الابن البكر ليعقوب وليئة. ويُطلَق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية التي كان نصيبها من الأرض في شرق الأردن على البحر الميت. وكانت رؤوبين من أوائل القبائل التي هُجِّرت.

شـمعون

Simeon

«شمعون» اسم عبري معناه «سماع»، وهو اسم ابن ليعقوب من ليئة، ويُطلَق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية التي لم يَحصُل أفرادها على نصيب من الأرض التي فُتحت، فسكنوا مدناً في أرض يهودا ثم استولوا على بعض المواقع من جبل سعير.

يسَّاكـــر

Issachar

«يسَّاكر» اسم عبري معناه «يعمل بأجرة»، أو «يرتزق» هو اسم لأحد أبناء يعقوب من ليئة. وأُطلق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية التي امتدت الأرض التي أُعطيت لها من جبل الكرمل إلى نهر الأردن.

زبولــون

Zebulun

«زبولون» اسم عبري معناه «سكن» أو «إقامة»، وهو اسم ابن ليعقوب من ليئة. ويُطلَق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية. كانت أرض هذه القبيلة تقع في أقصى الشمال، واشترك أفرادها مع كلٍّ من دبوره وباراق في حربهما ضد الكنعانيين. ولم يلعبوا دوراً مهماً في تاريخ العبرانيين.

بنيامـــين

Benjamin

«بنيامين» اسم عبري معناه «ابن يدي اليمنى». وهو اسم ابن ليعقوب من راحيل. وقد أُطلق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية التي استقرت في جنوب فلسطين، وكان أفرادها مشهورين بشدة بأسهم وقوة بنيتهم. كان منهم أول ملوك العبرانيين. وكانت مدينة القدس وبيت إيل داخل حدودهم. وجاء في سفر القضاة أن القبائل تحالفت ذات مرة ضدَّهم وكادت تفنيهم عن آخرهم، وقد انضمت قبيلة بنيامين إلى يهودا حين انفك اتحاد القبائل داخل المملكة العبرانية المتحدة.

دان

Dan

«دان» اسم عبري معناه «القاضي». وهو اسم أحد أبناء يعقوب من بلْهة. وهو اسم إحدى القبائل العبرانية التي استقر أفرادها في وسط فلسطين من جهة الغرب. طردهم الفلستيون من هذه الأرض فاستوطنوا بقعة في الشمال بعد أن أبادوا سكانها الأصليين. ومنهم شمشون.

نفتـــالي

Naphtali

«نفتالي» اسم عبري معناه «مصارعتي». وهو اسم أحد أبناء يعقوب من بلْهة. ويُطلَق هذا الاسم على قبيلة عبرانية، كان نصيب أفرادها في الأرض وادي الليطاني والأردن وبحيرة طبرية.

جـاد

Gad

«جاد» اسم عبري معناه «طالع حسن». وهو اسم أحد أبناء يعقوب من زلفه. ويُطلَق هذا الاسم على إحدى القبائل العبرانية. وقد كان نصيب قبيلة جاد في شرق الأردن، كما اشتمل على الجزء الجنوبي من جلعاد.

آشـير

Asher

«آشير» اسم عبري معناه «سعيد» أو «مغتبط». وهو اسم أحد أبناء يعقوب من زلفة. كما أنه اسم إحدى القبائل العبرانية. امتدت المنطقة التي خُصِّصت لهم على ساحل البحر الأبيض من جنوب الكرمل إلى حدود صيدون (صيدا). ولم تتمكن قبيلة آشير من طرد الكنعانيين من المدن الساحلية مثل عكا وصور وصيدون. وكانت معظم المنطقة المعيَّنة لهم في يد الفينيقيين حتى عصر داود وسليمان. ولم تشترك قبيلة آشير في حرب دبوره وباراق ضد الكنعانيين.

إفــــرايم

Ephraim

«إفرايم» كلمة عبرية معناها «الثمار المضاعفة». وهو اسم أحد أبناء يوسف وأسنات، وهو اسم إحدى القبائل العبرانية. أما المنطقة التي عُيِّنت نصيباً لهم فكانت تقع في القسم الأوسط غربي فلسطين، وكانت شيلوه من أهم مدن إفرايم. ساعد الإفراميون دبوره وباراق في حربهما ضد الكنعانيين، ومنهم صموئيل. ويبدو أن هذه القبيلة كانت تتنازع القيادة مع قبيلة يهودا. ولذا، فقد تزعَّمت حركة الانشقاق بعد موت سليمان. ويُشار إلى المملكة الشمالية باعتبارها مملكة إفرايم.

اللاويون

Levites

«لاوي» اسم عبري معناه «مقترن». وفي الإنجليزية، يَرد هذا الاسم في صورة «ليفي». ولاوي ثالث أبناء يعقوب من ليئة، ويُطلَق اسمه على إحدى القبائل العبرانيةالاثنتي عشرة، نصَّبهم موسى ليخدموا في خيمة الاجتماع مكافأة لهم على رفضهم الاشتراك في عبادة العجل الذهبي واشتراكهم في ذَبْح عبدته. وقد أُوكلت إلى كل عائلة من قبيلة لاوي مهام وواجبات محددة تتصل بنقل وجمع أجزاء خيمة الاجتماع إلى البرّية، وتعليم أفراد الشعب الشريعة. واختصت عائلة هارون ونسله بالخدمة داخل الخباء نفسه، وهو الهيكل فيما بعد. أما اللاويون، فقد كانوا متوسطين بين الشعب والكهنة ولم يجز لهم أن يقدموا ذبائح أو يحرقوا بخوراً أو يشاهدوا الأشياء المقدَّسة إلا مغطاة.ولذلك، حينما يحل وقت قراءة التوراة في الصلوات اليهودية بالمعبد اليهودي، ينادى على من يُتصور أنه من نسل الكهنة أولاً، ثم يُنادَى بعد ذلك على اللاويين.

وبعد تسلل القبائل العبرانية في أرض كنعان واستيطانهم إياها، قام يشوع بن نون بتوزيع القبائل للانتشار في الأرض. كما قام، حسب الرواية التوراتية، بتقسيمها بينهم دون اللاويين الذين لم ينالوا أي نصيب منها إذ أعطاهم ثماني وأربعين مدينة صغيرة في فلسطين بأسرها، وهي المدن الحرة أو مدن الملجأ التي يلجأ إليها القتلة إلى حين محاكمتهم، فإن كان القتل بالصدفة ظل القاتل في المدينة، أما إذا كان متعمداً فإنه يسلم للقبيلة للقصاص. ويذهب بعض العلماء إلى أن اللاويين لم يرتبطوا بأية أرض على الإطلاق لأن هـذا لا يتـفق مع مهامهم الكهنوتية. ويذهب فريق آخر إلى أن اللاويين لم يكونوا قبيلة، وإنما كانوا يضمون ممثلين لكل القبائل. وكان نظام الكهنة اللاويين قائماً على النظام الذي اتبعه الكهنة المصريون في تمثيل كاهن لكل معبد من معابد مختلف الآلهة المصرية في مصر القديمة، ومتفقاً أيضاً مع طبيعة النظام الديني قديماً في مصر وبلاد الرافدين على السواء حيث كانت هناك أسرة معيَّنة تختص بتَوارُث مهمة الكهانة وتطويع العلاقة بين الرب والمؤمنين ليتم التعبير عنها من خلال الكهنةوحدهم.

وكانت العلاقة بين اللاويين والكهنة غير مستقرة، فسفر التثنية يتحدث عن ضرورة أن ينضم اللاويون إلى صفوف الكهنة. ولكن يبدو أن السلطة الكهنوتية في القدس رفضت انخراطهم في سلكها ووضعتهم في منزلة متدنية في عبادة يسرائيل القربانية لأنهم اندمجوا مع الكنعانيين، وهكذا تم الفصل بين اللاويين والكهنة. ويُلاحَظ أناللاويين في عهد داود كانوا يُقسَّمون إلى أربعة أقسام:

1 ـ مساعدي الكهنة.

2 ـ القضاة ومندوبيهم والكتبة.

3 ـ البوَّابين.

4 ـ الموسيقيين.

وبهذا المعنى، يمكن الحديث عن اللاويين باعتبار أنهم قبيلة/طبقة وأنهم في مرحلة من المراحل أصبحوا الطبقة الحاكمة بمعنى الكلمة، وكذلك أداتها التنفيذية وجهازها الإداري، فمنهـم الشـرطة والقضـاة والكتبة. ولذا، فإننا نجد أن يُربعام الأول، لتأكيد استقلاليته وأمنه الداخلي، قام بطرد اللاويين من مملكته. وقد تحسَّن وضع اللاويين بعد العودة من بابل إذ أصبح الكهنة واللاويون يعودون بأصلهم إلى مصدر واحد وإن ظل الكهنة يشغلون أهم الوظائف الكهنوتية.

لاوي

Levi

«لاوي» اسم عبري معناه «مقترن». وهو اسم أحد أبناء يعقوب من ليئة. وقـد أُطلـق اسمه على إحدى القبائل العبرانية، ألا وهـي عشـيرة موسـى وهــارون التــي كانـت لها الزعامـة الدينيـة والاجتماعية على سـائر القـبائل. ويُقال لأفـراد هــذه القبيـلة «اللاويــون»، ومنهم الهارونيون الذين اضطلعوا بدور الكهنة.

يهـودا (قبيلة)

Judah (Tribe)

«يهودا» اسم عبري مأخوذ من اسم يهودا رابع أبناء يعقوب وليئة. والاسم يعني «الشكر لله». وقد كان يهودا هو الذي اقترح على إخوته ألا يذبحوا يوسف وأن يكتفواببيعه، كما كان قائد رحلة أسرة يعقوب إلى مصر. تزوج يهودا امرأة كنعانية، وتنتسب إليه أكبر قبائل العبرانيين وأهمها، وهي قبيلة داود التي سيأتي منها الماشيَّح وشعارها الأسد، ومن هنا يُقال «أسد يهودا». وقد سُمِّي كل العبرانيين «اليهود» نسبة إلى هذه القبيلة بعد شيوع اسمها جغرافياً في المنطقة الجنوبية. وقد ارتبط الاسم بمفهوم بيت يهودا بالمعنى الديني السياسي. وكانت قبيلة يهودا في صراع دائم مع قبيلة إفرايم من أجل الرئاسة والسيطرة على القبائل. والصيغتان «يهودا» و «يهوذا» متداولتان في اللغة العربية، ولكننا في هذه الموسوعة نقتصر على استخدام كلمة «يهودا» للإشارة إلى كلٍّ من الشخصية التوراتية التي تحمل هذا الاسم، والقبيلة أو المنطقة أو الدولة التي كانت تُدعَى كذلك.

الباب العاشر: عصر القضاة

القضاة (1250-1020ق.م)

Judges

تستخدم كلمة «قاضي» (بالعبرية: شوفيط) في المؤلفات الدينية اليهودية لتشير إلى معنيين، عام وخاص: المعنى العام هو القاضي الذي يحكم بين الناس، وبهذا المعنى يكون موسى أول القضاة، ثم خلفه في القضاء رؤساء العشائر وشيوخ المدينة. وكان الملك في التاريخ العبراني القديم يُعَدُّ من القضاة أيضاً، يحكم معه مجموعـة من القضاةيكوِّنون مجلساً وعليهم استشارة الأنبياء والكهنة. وقد استمر هذا الوضع حتى التهجير البابلي.

ولكن كلمة «قاض» لها معنى آخر في تاريخ العبرانيين القدامى، فهي تشير إلى ما يمكن تسميتهم «شيوخ القبائل». وهؤلاء أشخاص من الكهنة المحاربين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، وسيطروا على أمور القبائل العبرانية بعد وفاة يشوع بن نون وحتى قيام حكم شاؤول أول ملوك القبائل العبرانية، وهي فترة تمتد حسبسفر القضاة نحو أربعة قرون. ولكننا إن قبلنا بأن واقعة الخروج أو الهجرة من مصر حدثت عام 1275 ق.م، وأن شاؤول تُوِّج ملكاً عام 1020 ق.م، فإن هذا يعني أن عصر القضاة لم يزد على قرنين ونصف من الزمان.

والواقع أن القبائل العبرانية حينما تسللت إلى أرض كنعان حوالي 1250 ق.م، لم تكن هناك وحدة قومية متماسكة وإنما كانت هناك مجموعة من القبائل المتناحرة فيما بينها على نحو ما حدث حينما قام صراع بين سكان منطقة جلعاد وقبيلة إفرايم. ولم تكن هناك سلطة مركزية لهذه القبائل إذ كان الحكم فيها يقوم على أساس الحكم الأبوي والأسري كما هو الحال في مجموعات القبائل المشابهة.

كان شيوخ العشائر يجتمعون في مجلس من الكبراء كلما نشأت الحاجـة إلى ذلك. وكان هـذا المجلـس هـو الحكم الفصل في شئون القبيلة، وهو الذي كان يتعاون مع زعماء القبائل الأخرى. فإذا ما فشل القاضي أمام هؤلاء الزعماء، لجأ المتقاضون إلى القاضي الرئيس. ومع هذا، لم يكن طابع المجتمع قبلياً رعوياً محضاً، فقد ظهر حكم القضاة مع بداية استقرار العبرانيين بعد تسللهم إلى أرض كنعان واشتغالهم بالزراعة وتَحوُّلهم عن الرعي.

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذه المرحلة هي التي تبنَّى فيها العبرانيون الأشكال الحضارية الكنعانية المختلفة، فتحوَّلوا من بدو رحَّل يتنقلون بالحمير إلى ممارسين للزراعة، وتعلموا استخدام الأدوات الزراعية وتخزين الحبوب ووضعها في أوعية، وبناء مأوى للحيوانات، وأتقنوا بناء المنازل والقرى والمدن والحصون، وطرق امتلاك وتأجير الأراضي وشراء الممتلكات واقتناء العبيد والجواري، كما أتقنوا أشكال التقاضي. وقد بدأت تظهر بينهم فكرة الملك المقدَّس. ومع هذا، ظل مستواهم الحضاري بسيطاً غير مركب، وظل مستواهم الاقتصادي متدنياً. وهذا يظهر بكل وضوح في التباين الشديد بين الأساسات جيدة الإنشاء، التي بناها الكنعانيون في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وبين أكوام الحجارة الفجَّة التي حلَّت محلها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد (بعد التسلل العبراني)، وخصوصاً في بيت إيل.

ولم يستطع العبرانيون السيطرة على كل أرض كنعان في تلك الفترة، وهذا يعني أن الوجود العبراني ظل وجوداً متقطعاً جغرافياً ومحاطاً بأقوام معادية مثل الكنعانيين والفلستيين استمرت في مقاومة العبرانيين قروناً عديدة. وقد أوقع الفلستيون هزائم شديدة بالقبائل العبرانية واستولوا على تابوت العهد، وخضع العبرانيون لحكمهم لبعض الوقت.

وكانت دبوره من أولئك القضاة، وكذلك كان جدعون الذي رد هجوم المديَنيين، وشمشون الذي انتقم من الفلستيين، وصموئيل النبي، وشاؤول أول الملوك. ويشير العهد القديم إلى اثنى عشر قاضياً بعضهم يعاصر البعض الآخر.

وبعد ذلك التاريخ، لم يَعُد القضاة هم القادة إذ بدأ حكم الملوك مع بقاء أشخاص يقومون بإصدار الأحكام الدينية والدنيوية. ويُوجَد في العهد القديم سفر يُسمَّى «سفر القضاة» يتناول تاريخ العبرانيين من الفترة السابقة على موت يشوع بقليل إلى آخر أيام شمشون.

القاضي (ديان)

Dayyan

«ديان» كلمة عبرية معناها «قاضي»، و«ديان» هو القاضي في محكمة حاخامية شرعية ( انظر: «القضاء والمحاكم»).

راعوث

Ruth

«راعوث» كلمة مؤابية ربما كان معناها «جميلة». وراعوث أو «روث» هو اسم امرأة مؤابية تزوَّجت من عبراني من قبيلة يهودا. لجأ إلى مؤاب هو وأبواه وأخوه، ولكن الرجال الثلاثة تُوفُّوا ولم يبق سوى راعوث والأم نعمى التي أرادت أن تعود إلى بيت لحم حيث قومها، فأصرت راعوث أن تصحبها، ثم تزوجت من عبراني آخر هو بوعز وأنجبت منه عوبيد جد داود. ويُسمَّى سفر من أسفار العهد القديم باسمها وهو أحد الأسفار الخمسة (اللفائف الخمس) التي تُقرَأ في المعبد اليهودي في خمسة أعياد مختلفة، ويُقرَأ سفر روث في عيد الأسابيع. ويبدو أن كاتب هذا السفر كان غير مؤيد لحظر الزواج المُختلَط من الأجنبيات، فحاول أن يبيِّن أن بطل العبرانيين وملكهم تجري في عروقه دماء أجنبية.

دبــــوره (القرن الثاني عشر)

Deborah

«دبوره» اسم عبري معناه «نحلة». وهو اسم امرأة تُعتبَر من قضاة العبرانيين وأنبيائهم وقادتهم العسكريين. كانت تقيم تحت نخلة سميت باسمها لتقضي بين العبرانيين. دعت باراق ليحارب يابين (أحد ملوك الكنعانيين) في حاصور، ويثور ضده بعد أن كسر شوكتهم عشرين عاماً (قضاة 4 ، 5)، فالتقى جيش العبرانيين مع جيش الكنعانيين وانتصر عليه.

وتُوصَف دبوره بأنها أم يسرائيل، ويُشار إليها كنبية رغم عدم وجود أية نبوءات لها أو أقوال تتعلق بالنبوة. ويُعَدُّ نشيد دبوره الذي يُنسَب لها (القضاة 5) من أقدم نماذج الشعر العبري القديم، لاحتوائه على عناصر لغوية ومجازية قديمة. وهي تُوجِّه اللوم في أغنيتها هذه لقبائل رؤوبين وجلعاد (أوجاد) ودان وآشير ولقبيلة أخرى تُسمَّى ميروز (لم تُذكَر في مكـان آخر) لأنهـم آثروا مصلحـتهم على مصلحـة القبائل الأخرى. ولا تذكر أغنيتها سوى عشر قبائل أو تسع إن اعتبرنا إفرايم ومنَسَّى قبيلة واحدة، فلا يأتي ذكر لقبيلتي شمعون أو لاوي لأنهما ربما كانتا قد تشتتتا في ذلك الوقت، أو لعلهما كانتا تعيشان في عزلة مع قبيلة يهودا في الجنوب، أو لعلهما لم تكونا بعد قد استوطنتا أرض كنعان.

جدعون (1150ق.م)

Gideon

«جدعون» اسم عبري معناه «خاطب» أو «قطع بشدة»، وجدعون هو اسم أحد قضاة العبرانيين من قبيلة منَسَّى ويُقال إنه جاء بعد دبوره (1150 ق.م) عندما هزمتالكنعانيين، الأمر الذي فتح الطريق أمام المَدْيَنيين وغيرهم. دعاه الرب، حسبما جاء في العهد القديم، إلى أن يدافع عن العبرانيين، فقام بتحطيم تمثال بعل الذي كان يعبده أبوه، وجمع رجالات قبائل منَسَّى وآشر وزبولون ونفتالي، فجاءه ثلاثون ألف رجل، حسب الرواية التوراتية، اختار منهم نخبة مقاتلة قوامها ثلاثمائة فقط، وهزم المديَنيين عن طريق الهجمات الليلية ونَصْب الكمائن واستخدم حرب المعارك الخاطفة. حاول العبرانيون تنصيبه ملكاً عليهم ولكنه رفض، وهذا يدل على أن العملية الاجتـماعيــة التــي أدَّت في نهاية الأمر إلى تَحوُّل المجتمع العبراني من الرعي إلى نظام مستقر مبني على المدن الدويلات (كما هو شأن البيئة الكنعانية القائمة حينذاك) لم تكن قد اكتملت بعد.

وبعد انتصاره على المديَنيين، أخذ جدعون أقراط الذهب التي غنمها منهم وصنع منها إيفوداً (صنماً) جعله في مدينته عفرة وعبده أعضاء جماعة يسرائيل كافة (قضاة 8/27). وهذه حادثة تشبه حادثة العجل الذهـبي، وهـذا يدل على أن التـوحيد لم يكن قد استقر بعد بين العبرانيين. ويقول أورد وينجيت الضابط البريطاني الصهيوني الذي قام بإرهاب العرب في الثلاثينيات من هذا القرن إنه استخلص كثيراً من حيله العسكرية من جدعون.

شـمشون

Samson

«شمشون» اسم عبري وهو تصغير لكلمة «شمس»، وهو اسم لشخص يُشار إليه أحياناً بأنه آخر القضاة، فقد كان قاضياً من قبيلة دان مدة عشرين سنة، ولكن الكتب الدينية تشير إلى صموئيل أيضاً باعتباره آخر القضاة. وتحمل قصة شمشون منذ البداية، عناصر عجائبية كثيرة، فأمه كانت عاقراً مثل سارة ثم جاء ملاك الرب (كما في قصة إبراهيم أيضاً)، فعرف أبواه قبل ولادته أنه سيصبح من المنذورين أي شخصاً يُكرس حياته للعبادة وينذرها للرب، فيمتنع عن شرب الخمر أو حلق رأسه أو لمس جلد ميت. وقد اشتهر شمشون بقوته الجسدية الخارقة.

تدور حياته حول مجموعة من المغامرات مع ثلاث نساء فلستيات من غزة. فعند اكتمال شبابه تزوج من امرأة فلستية. وفي إحدى زياراته لها، قابل أسداً فصرعه ثم أكل نحلاً وجده في جثته فيما بعد، وقارع الفلستيين ببعض الأحاجي إذ سألهم: هل رأيتم نحلاً في فم أسد؟ فلم يستطيعوا الإجابة، ولكن زوجته أفشت لهم سرَّه فهجرها، وقتل ثلاثين فلستياً في عسقلون. وعندما عاد إليها، وجد أنها تزوجت من آخر، فأمسك ثلاثة من بنات آوى وأضرم النار في أذنابها وأطلقها على مزارع الفلستيين فاشتعلت فيها النيران. وقد أخذ الفلستيون في الانتقام من العبرانيين الذين طلبوا من شمشون أن يستسلم لهم ليسلموه إلى أعدائه ففعل (ولكن شمشون فك وثاقه وأمسك بفك حمار وقتل ألفاً منهم). أما محور ثاني المغامرات في حياة شمشون، فهو قصته مع بغيّ من غزة كان يزورها. وبينما كان هو في منزلها، عرف الفلستيون بوجوده وأرادوا أن يفتكوا به وهو منهك القوى. ولكنه استيقظ مبكراً، وخلع بوابات غزة على كتفيه ووضعها على تل في حبرون (الخليل). ثم وقع شمشون في غرام دليلة الفلستية التي يبدو أنها كانت بغياً هي الأخرى. وعرفت دليلة أن سرَّ قوة شمشون في شَعره لأنه كان نذير الرب وهو في بطن أمه. فأتى الفلستيون عليه وهو نائم وجزُّوا شعره وأوثقوه بسلاسل مننحاس وسملوا عينيه ثم أخذوه إلى غزة ووضعوه في السجن. وحينما أخرجوه ليسخروا منه في المعبد دفع شمشون العمودين فسقط المعبد عليه وعلى من فيه فماتوا جميعاً.

وتفسير قصة شمشون في الكتابات الصهيونية يختلف عما في الكتب الدينية اليهودية. فالكتابات التقليدية تُفسِّر فعلته الأخيرة لا باعتبارها انتحاراً وإنما باعتبارها عودة للرب والرسالة الأولى وباعتبارها تعبيراً عن الندم. أما الكتابات الصهيونية، فترى في قصة شمشون دلالات وإيماءات تقترب من دلالات وإيماءات أسطورة ماساده بما فيها من تشجيع للتمركز الانتحاري حول الذات وتحذير من الاندماج مع الأغيار الذين تمثلهم النساء الفلستيات في هذه القصة. وفي الوقت المعاصر، تحمل التصريحات الإسرائيلية، بشأن حرب ذرية في الشـرق الأوسط، طابعاً شمشونياً شديد الوضوح!

ومع أن شمشون يشار إليه باعتباره آخر القضاة، إلا أنه لم يكن قائداً للشعب كبقية القضاة إذ كان يتميز بفرديته واتباعه لهواه. ويقول بعض العلماء إن قصة شمشون ما هي إلا أسطورة خاصة بالشمس، فشمشون هو الإله شميش وشعره هو أشعة الشمس، أما دليلة فتعني «ليلة» أي «الليل» ذلك الوقت الذي تتوارى فيه الشمس. كما يشير البعض الآخر إلى التشابه بين قصة شمشون وأسطورة هرقل، فكلاهما يصرع أسداً ويحطم أعمدة، وكلاهما تقضي عليه امرأة!

ويمكن اعتبار قصة شمشون جزءاً من الموروث الشعبي الذي يهدف إلى إرضاء النفوس وتعويضها. والواقع أن بطل مثل هذه السير لابد أن يكون خـارقاً للطبيعة في أسـبابه وأفعاله مثل قتل ألـف شـخص بفك حمار. كما أن النهاية المزدوجة للقصة ذاتها (الانتحار والقتل) تعبير عن أحلام المسحوقين في أن الانفجار الأخير قد يقضي على الذات ولكنه يقضى على الآخر. ولا يُوجَد في القصة (كما وصلتنا) ما يمكن تسميته بعناصر عبرانية أو يهودية، فهذه العناصر هي في الواقع من التراث الشعبي العالمي.

الباب الحادى عشر: عبادة يسرائيل

عبـادة يســرائيل والعبــادة القربانيــة المركزيـة

Israelite Cult and the Central Sacrificial Cult

«عبادة يسرائيل» أو «العبادة القربانية المركزية» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى ديانة العبرانيين (جماعة يسرائيل) منذ ظهورهم على مسرح التاريخ حتى التهجير البابلي. وقد اكتسبت هذه الديانة صفات محدَّدة أثناء فترة التجوال في الصحراء، وتعدلت بعد فترة التسلل في كنعان، ونضجت تحت تأثير رؤى الأنبياء، وفي فترة بابل. وبعد العودة من بابل، بدأت تنقيتها من العناصر القديمة. وبدأت عملية التحول على يد عزرا ونحميا، وساهم الفريسيون فيها، ثم قضى عليها هدم الهيكل تماماً حتى تحولت عبادة يسرائيل إلى العقيدة اليهودية أو اليهودية الحاخامية.

وتعود عبادة يسرائيل إلى الديانات السامية القديمة، وهي ديانات حيوية حلولية تؤمن بأن العناصر الطبيعية، مثل الأحجار والمياه والأشجار والجبال، لها حياة مستقلة وتؤثر في حياة الأفراد. وتصل بعض هذه الكائنات إلى درجة خاصة من القداسة بحيث تحل فيها آلهة ينبغي على الإنسان أن يعبدها ويتقرب إليها. وتُعتبَر الطوطمية من المصادر الأخرى لعبادة يسرائيل، وهي الاعتقاد بأن حيواناً ما هو حامي القبيلة وربما سلفها أي جدها الأكبر. وتكتسب الآلهة في عبادة الساميين القدامى صفات إنسانية، فتتناحر فيما بينها وتنقسم إلى ذكور وإناث. ويبدو أن عبادة الأسلاف كانت، هي الأخرى، أحد المكونات الأساسية لعبادة يسرائيل. كما أن ثمة إشارات عديدة للتيرافيم (الأصنام)، وهي تماثيل لها علاقة بالخصوبة بين الإناث.

ورغم أن إبراهيم أول من رفض الشـرك حسـب التصور التوراتي، فإن العهد القديم يقرر أيضاً أن التوحيد الحق جاء بعد خروج العبرانيين (أو جماعة يسرائيل) من مصر. ففي هذه المرحلة يكشــف يهوه عن نفـســه لموسى أثنـاء إقامـة العـبرانيين في أرض مدين، وتدخل يسرائيل في ميثاق مع الرب (العهد). وقد خطى التوحيد خطى واسعة بين العبرانيين، ولكن العبادة لم تكن توحيدية خالصة، بل كانت مقصورة على إله واحد، ولكن ثمة إشارات إلى أنه أعظم من الآلهة الأخرى. كما أن أعضاء جماعة يسرائيل كانوا دائمي العودة إلى طرق الشرك القديمة، فقد عبدوا العجل الذهبي وهم بعد في سيناء.

وحينما تسلل العبرانيون إلى كنعان (فلسطين) (1250 ق.م)، تراجع التوحيد عدة درجات، وبدأت الرؤية الحلولية تترسخ. فالعبرانيون كانوا رعاة ثم تعلموا الزراعة من الكنعانيين وتأثروا أيضاً بأعيادهم الزراعية إذ كان يستحيل فصل التكنولوجيا عن الدين في ذلك الوقت. ومن هنا، ظهرت الأعياد الزراعية المختلفة مثل عيد المظال. كما تَعلَّم العبرانيون بعض رقصاتهم ذات الطابع الجنسي الواضح، وبعض قوانين الطعام مثل عدم طبخ الجدي في لبن أمه، كما عرفوا كثيراً من الشعائر المرتبطة بالزراعة، وعبدوا آلهة كنعان الوثنية وسقطوا في الشرك الواضح. ومن هنا، كانت الثورة الدائمة من قبَل الأنبيـاء عليـهم ودعوتهم إلى العـودة إلى طريق التوحيـد. وفي هذه العبادة، ظهرت خيمة الاجتماع، وكان تابوت العهد يُوضَع داخلها. وكانت هناك شعائر أخرى، مثل: الاحتفال بظهور الهلال ومجيء الربيع (عيد الفصح)، والتضحية بكبشين فيعيد الغفران، والختان.

ويمكن على مستوى من المستويات أن نقسم عبادة يسرائيل إلى مرحلتين، تنتهي المرحلة الأولى (في 1000 ق.م) مع التسلل إلى كنعان، وبعد أن نُقلت العناصر الشعائرية من المدن المقدَّسة وتم تأسيس المملكة العبرانية المتحدة وتحويل أورشليم (القدس) إلى عاصمة لهذه العبادة وبناء الهيكل الذي أصبح مركز العبادة القربانية. ثم تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة العبادة القربانية المركزية. وكان الكهنة هم العمود الفقري في عبادة يسرائيل، والقائمين على العبادة القربانية. وقد تزايد نفوذهم بعد العودة من بابل وبعد أن بُعثت العبادة القربانية المركزية، وخصوصاً بعد اختفاء النظام العبراني للملكية التي لم يسمح الفرس بعودتها. وتتضح قوة الكهنة في جماعة الصدوقيين المرتبطة بالعبادة القربانية.

ومن أهم سمات عبادة يسرائيل، تقديم القرابين (وقد كان ذلك يتم في الهيكل، ومن هنا جاءت التسمية). وقد كانت تُقام شعائر يومية في الصباح وعند الغروب حيث كان الكهنة يقومون بتقديم حَمَل وقرابين أخرى للإله (كما كان الحال في ديانات الشرق الأدنى القديم). وكانت القرابين أنواعاً مختلفة. وكلمة «قربان» كلمة سامية ويُقال لها أيضاً «منحة». وتقديم القربان (البقر والخراف وبواكير الثمر) كان ضمن شـعائر التقـرب من الإله حيث يلعب الدم دوراً مهماً. ولذا، فقد كان الدم يُنثر على المذبح حتى نهاية مرحلة العبادة القربانية أو عبادة يسرائيل، وتُحرَق القرابين أمام الهيكل. وفي بداية الأمر، كان العبرانيون يقدمون القرابين في أي مكان ثم أصبح ذلك مقتصراً علىالهيكل، وكانوا يضحون بالحيوانات (حيث كانت عملية التضحية تُسمَّى «زبَح» أي «الذبح»)، كما كانوا يتقدمون بالنباتات وبالطعام والبخور والخمور. وكانت هناك قواعدصارمة تتصل بعمر ولون الحيوان الذي سيُضحَّى به. وقد كان تقديم القربان هو الحدث اليومي عميق الصلة بالمعبد، فكان يُقدَّم واحد في الصباح وآخر في المساء، وكان يصحب القرابين احتفال طويل وشعائر يقوم بها الكهنة.

وتُقسَّم القرابين إلى عدة أنواع، منها: قرابين التكفير، وقرابين السلام، والقرابين التي تُقدَّم عند ولادة البكر، وأعشار الحيوانات، والمحاصيل، وقربان عيد الفصح. وكان تقديم القرابين إلى يهوه يدل على الارتباط بين الشعب والإله وعلى وجود يهوه بين الشعب. وقد هاجم الأنبياء (وخصوصاً عاموس وإرميا) العبادة القربانية، وذكَّروا اليهود بأن أسلافهم لم يُقدّموا قرابين في الصحراء، وطالبوهم بأن يعبدوا الإله بقلوبهم وبالصلاة إليه (قربان الفم).

وقد انتهت عبادة يسرائيل، ومنها العبادة القربانية كما أسلفنا، بهدم الهيكل (70م). ومع هذا، دوَّن الحاخامات القواعد الخاصة بتقديم القرابين بكل تفاصيلها، وذلك نظراً لإيمانهم بأن إعادة بناء الهيكل أمر سـيتم في المسـتقبل. وقد حلَّت، في نهاية الأمر، شـعائر الصلاة والصوم، التي كان بالإمكان إقامتها في المنزل والمعبد، محل العبادة القربانية التي كانت تدور حول الهيكل. ورغم أن النسق الديني اليهودي قد تَطوَّر بعيداً عن العبادة اليسرائيلية، فإن هذا التطور قد استغرق مرحلة زمنية طويلة. ولم يستقر كثير من العقائد الدينية الأساسية في اليهودية، مثل الإيمان بالثواب والعقاب والبعث، إلا في مراحل متأخرة، بل إن بعضها لما يستقر حتى الآن. وهذا يفسر عدم تَجانُس النسق الديني اليهودي (الخاصية الجيولوجية) وصعوبة تعريف الهوية اليهودية.

وقد تركت عبادة يسرائيل (العبادة القربانية) أثراً عميقاً في التطور اللاحق لليهودية يتجلى في تركيزها الشديد والحرفي على الشعائر وعلى شكلها دون الاهتمام بالروح والمعنى. ومن المعروف أن ثُلث الأوامر والنواهي، وهي ستمائة وثلاثة عشر، تتناول العبادة القربانية وجوانب أخرى من العبادة في الهيكل. كما أن جزءاً من التلمود والصلوات اليومية مرتبط بالعبادة القربانية. ويبدو أثر العبادة القربانية في الاهتمام الشديد بقواعد الطهارة والنجاسة في اليهودية. وقد تَركَّز هجوم السيد المسيح على اليهودية في هذه الناحية. ولعل هذا الجانب في اليهودية هو ما يُفسِّر سبب تَأخُّر صياغة العقائد اليهودية حتى ظهور سعيد بن يوسف الفيومي ثم موسى بن ميمون. وتدور اليهودية الحاخامية حول طريقة العبادة لا حول مضمونها. فعلى سبيل المثال، يجب على اليهودي أن يغسل يديه قبل الأكل وبعده، ويتلو المؤمنون بالقبَّالاه أدعية يُفهَم منها أنها مُوجَّهة إلى كل من الإله والشيطان كقوتين متساويتين. لكن مثل هذا الدعاء، لأنه ينصرف إلى المعنى وحسب، ليس مهماً، فما يهم هو الطريقة نفسها التي يتم على أساسها غسل اليد. ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحاً في الشماع، فاليهودية الأرثوذكسية أعطتها معنى مختلفاً تماماً عن معناها في التراث القبَّالي، ثم جاءت اليهودية المحافظة وأعطتها معنى ثالثاً. ولكن، من منظور شعائري، لا تهم الاختلافات في المعنى والتفسير، فما يهم هو طريقة تلاوة الشماع. ولذا، لا يعترض الأرثوذكس على التفسيرات القبَّالية التي تعطي مضموناً غير توحيدي لشهادة التوحيد اليهودية، ولكنهم يعترضون وبشدة حين يتلون الشماع بالإنجليزية، أي حين يغيرون طريقة التلاوة.

ويمكن القول، على مستوى من المستويات، بأن الصهيونية هي علمنة للعبادة القربانية الحلولية، فقد جعلت من الدولة شيئاً يشبه الهيكل القديم (يطلق الصهاينة على إسرائيل مصطلح «الهيكل الثالث»)، حل فيها الإله وهي محط اهتمامهم أينما وُجدوا، ولا يهم إن كانوا يعبدون الإله أو لا وإنما المهم هو تقديم القرابين إلى هذا الوثن الجديد. وتأخذ القرابين الآن شكل شيك يُدفَع للمنظمة الصهيونية العالمية فيما يُسمَّى «يهودية دفتر الشيكات». وقد تحولت المعابد اليهودية إلى ما يشبه الفروع للهيكل الجديد في محاولة لتجنيد اليهود للعبادة القربانية الجديدة.

ولعل نجاح هذه العبادة يعود إلى أنها تستطيع التعايش مع الرؤية العلمانية الشاملة، فهي لا تتحداها ولا تطلب إلى المؤمن أن يغيِّر سلوك حياته. وعلى كلٍّ، فإن كليهما يرى القداسة شيئاً كامناً في المادة غير متجاوز لها. وقد سجَّل كثير من الحاخامات احتجاجهم على هذا الاتجاه الذي سيودي بالديانة اليهودية كعقيدة، إذ أن يهود الولايات المتحدة يعبِّرون عن يهوديتهم لا عن طريق الإيمان بالقيم الدينية اليهودية أو الالتزام بها وإنما عن طريق تقديم القربان/الشيك. وقد أطلق أحد الحاخامات على الصهاينة لقب «يهود النفقة»، وهو ما يعني أن اليهود يدفعون نفقة لمطلقتهم، ربما لاتقاء شرّها!

وقد بدأت خطوات جادة نحو إعادة العبادة القربانية والهيكل في إسرائيل. وهناك مدرستان تلموديتان تضمان مائتي دارس يتعلمون التفاصيل المركبة الخاصة بالعبادة في الهيكل. كما أن هناك جماعات أخرى تَدرُس أنساب الكهنة اليهود حتى يمكن تحديد الشخص المُؤهَّل لتقديم القرابين. ولقد عُقد في عام 1990 مؤتمر يضم اليهود الذين يعتقدون أنهم من نسل الكهنة. وهناك معهد خاص يُسمَّى «معهد الهيكل» قام بأبحاث وأعد ثمانيا وثلاثين من الأدوات اللازمة لإقامة العبادة القربانية، وهو في طريقه إلى إعداد الأدوات الخمس والستين المتبقية. كما تم إعداد الملابس اللازمة للكهنة، وهي ملابس تُنسَج يدوياً من التيل.

القــرابين

Sacrifice

انظر: «عبادة يسرائيل والعبادة القربانية المركزية».

الكهنــــة والكهانـــة

Priests and Priesthood

الكاهن في العبرية هو «كوهين» وهو سبيل الكهانة: الأداة المقدَّسة المختارة للوساطة بين الإنسان والخالق. ويرتبط تاريخ الكهانة بين العبرانيين بظهورهم في التاريخ إذ يبدو أن كل رب أسرة عبرانية، وأول الذكور فيها، كانا يقومان بدور الكهان. وقد ظل هذا الوضع قائماً حتى زمن الخروج من مصر أو الهجرة منها حين انحصرت الكهانة في قبيلة اللاويين، لأن آباءهم رفضوا عبادة العجل الذهبي. ولكن يبدو أن أسرة هارون كانت تشغل، في بداية الأمر، مركزاً متميِّزاً داخل قبيلة لاوي، فقد كان أعضاؤها المسئولين الفعليين عن الأضاحي والإشراف على الطهارة. وفي معظم الأحيان، كان يتم اختيار كبير الكهنة من بينهم، وقد كان كبير الكهنة هو الذي يتلفظ باسم الإله في قدس الأقداس. ويبدو أن هذا النظام مقتبس من النظام المصري القديم للكهانة في تخصيص أسرة للقيام بأعمال الكهانة وخدمة الدين والمعابد وبالجوانب السرية الخاصة في العلاقة بين الإله وأتباعه.

وثمة نظرية تذهب إلى أن أسرة هارون كانت أصلاً أسرة كهنوتية مصرية. وقد ظهر تَوتُّر بينهم وبين بقية أعضاء القبيلة بسبب احتكارهم أهم الشعائر. ولكن الفريقين اندمجا بمرور الزمن وأصبح الكهنة العمود الفقري لليهودية، وخصوصاً بعد إنشاء الهيكل وتَمركُز العبادة القربانية حوله.

وكانت الكهانة، باعتبارها السلطة الدينية، متداخلة تماماً مع السلطة الدنيوية كما هو الحال في عصر القضاة (حوالي 1250 ـ 1020 ق.م). وبظهور حكم الملوك، أصبح رئيس الدولة هو الكاهن الأعظم. ولكنه، نظراً لانشـغاله كان يُعيّن مندوبين عنه لممارسـة هذه المهمة، فبدأ يظهر شيء من الانفصال بين السلطتين. ومع هذا، ظل الكهنة (ممثلو العبادة القربانية ومصدر أكبر دخل للدولة) قريبين من السلطة الدنيوية ومرتبطين بها أشد الارتباط. ولذا، كان الصراع ينشب دائماً بينهم وبين الأنبياء، وهم مفكرون دينيون أحرار جاءوا أساساً من صفوف الشعب.

وقد زاد تداخل السلطة الدنيوية والسلطة الدينية في مرحلة ما بعد العودة من بابل إذ اضطلع كبير الكهنة بوظائف دنيوية باعتباره ممثلاً محلياً للقوة الإمبراطورية الحاكمة. كما اضطلع الكهنة بمعظم الوظائف الإدارية والسياسية نظراً لعدم ثقة الفرس في أبناء الأسرة الحاكمة العبرانية. واستمر نفوذ الكهنة في الإمبراطورية اليونانية قوياً، سواء في الشام أو في مصر، إذ كانوا يلعبون دوراً أساسياً في الحضارة الهيلينية. وكان الكاهن الأكبر يُعيَّن مدى الحياة. ولكن أنطيوخوس الرابع (السلوقي) (175 ـ 164 ق.م) أنهى هذه العادة، وأصبح من الممكن خلع الكاهن الأكبر وتعيين كاهن آخر. وقد ظهرت طبقة من الكهنة المتأغرقين الذين قاموا على خدمة الدولة الهيلينية، فأضعف هذاالوضع هيبة الكهنة وسلطانهم. ذلك أن الكهنة في الحضارة الهيلينية رغم أهميتهم، كانوا يُعَدّون بمنزلة الخدم لا القادة. وقد انعكس هذا على مكانة الكهنة اليهود.

وحينما قامت الأسرة الحشمونية (164 ق.م)، أصبح رئيس الدولة قائد القوات والكاهن الأعظم في آن واحد. وتُعَدُّ هذه الفترة الزمنية قمة ازدهار المؤسسة الكهنوتية. وظهرت إبان حكم الأسرة الحشمونية فرق يهودية مختلفة من أهمها الصدوقيون الذين كانوا أساساً من كبار الكهنة وأعضاء السنهدرين ويمثلون مصالحهم. وظهر فيالمقابل فريق الفريسيين الذين أكدوا الجانب الروحي في اليهودية على حساب الجانب القرباني مع أنهم كانوا يضمون في صفوفهم بعض الكهنة من متوسطي الحال. وقد ازداد الفريسيون شعبيةً وازداد الكهنة عُزلةً، وخصوصاً أنهم تحولوا إلى أُلعوبة في يد الحكام، وظهرت بينهم صراعات عديدة كما حدث في حالة الكاهن الأعظم أونياس الرابع الذي فرَّ إلى مصر وأسس هيكلاً وعبادة قربانية مستقلة فيها (145 ق.م) وذلك بتشجيع من البطالمة أعداء حكام فلسطين السلوقيين. وعند تَولي هيرود الحكم (37 ق.م)، لم يكن بوسعه أن يضطلع بدور الكاهن الأعظم لأنه كان من أصل أدومي، فكان يعيِّن كبير الكهنة على هواه.

وقد شهدت هذه الفترة تَزايُد انتشار اليهود خارج فلسطين بحيث فاق عددهم خارجها عدد من يقيمون داخلها. ومعنى هذا أن العبادة القربانية (ونخبتها الكهنوتية) فقدت كثيراً من مقومات وجودها. فهي تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة بشرية متماسكة تعيش بجوار الهيكل أو حوله فتُموِّله، ويشكل هو رمز وحدتها القومية تحت حكم الإله القومي.

ويُلاحَظ أن الاستقطاب الطبقي الذي كان يسم المجتمع العبراني اليهودي في ذلك الوقت، انعكس في صفوف الكهنة، وقوَّض نفوذ المؤسسة الكهنوتية في الداخل، فكانت الأرستقراطية الكهنوتية المتأغرقة (التي كانت تقيم في القدس) تختلف كثيراً في موقفها وموقعها عن فقراء الكهنة الذين كانوا يعيشون في الريف (السامي الآرامي) على عملهم وعلى الصدقات. وأثناء التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70)، حينما سيطر الغيورون على القدس، قاموا بطرد الكهنة وذبحوا بعضاً منهم واختاروا كاهناً أكبر من بين فقراء الكهنة. ولذا، حينما هدم تيتوس الهيكل عام 70م، كانت الأوضاع التاريخية مواتية تماماً لاختفائهم ولظهور الحاخام باعتباره شخصية أساسية بين اليهود. ولعل أهم الأسباب الأخرى لاختفائهم هو تدوين الشريعة، إذ أصبح الكتاب المقدَّس مركز العبادة بدلاً من العبادة القربانية.

وقد لعب الكهنة دوراً مهماً في تطوير اليهود واليهودية إذ وضعوا أنفسهم وسطاء بين الناس والإله، فلم تكن تُقبَل توبة ولا قرابين إلا إذا باركها الكاهن لأن مفتاح السماء كان في يده، ولم يكن أحد غيرهم يستطيع تفسير الطقوس أو الشعائر الدينية تفسيراً آمناً من الخطأ. وكانوا يفصلون في الأمور القضائية عن طريق استخارة الرب ويضطلعون بدور الطبيب (الساحر) الذي يشفي الأمراض. وكان فريق منهم يحمل تابوت العهد أثناء تجوال العبرانيين وحروبهم، ثم أصبحوا بعد ذلك كهنة الهيكل. ويبدو أن الكهنة مرتبطون بالعناصر الوثنية داخل النسق الديني اليهودي، فقبيلة لاوي كانت تقدِّس الحية. وقد أُدخل هذا التقديس على اليهودية، فأقاموا تمثالاً نحاسياً لها زاعمين أنها من عمل موسى، إلى أن أزالها حزقيا بن آحاز (ملوك ثاني 18/4). كما نقل الكهنة كثيراً من العقائد الوثنية كتقديس بعض المرتفعات والأشجار، وهي عملية تركت أثرها في اليهودية.

والكهانة اليهودية تُورَّث. وقد أدَّى هذا إلى أن الكهنة كونوا طبقة مغلقة لا يستطيع أحد من خارجها أن ينتمي إليها، حتى أصبحت كلمة «لاوي» مرادفة لكلمة «كوهين». ولعل انغلاقهم هذا هو الذي أدَّى إلى تماسكهم وإلى دفاعهم عن العزلة الدينية اليهودية، وخصوصاً أنهم كانوا يكوِّنون بالمعنى الحرفي للكلمة طبقة لا يمكنها أن تحتفظ بوجودها إلا في ظروف الانغلاق.

ولم يكن من حق الكهنة أن يرثوا مالاً أو يمتلكوا أرضاً. ولكنهم كانوا يُعفَون من الضرائب والإتاوات على اختلاف أنواعها، ويأخذون العشـور على نتـاج الضـأن وأول ما يُحصَد من الأرض (بالعبرية: بكوريم)، وينتفعون بما يبقى في الهيكل من القرابين. ومما يذكر، أن الكاهن كان عليه أن يحتفظ بطهارته فلا يتزوج من امرأة مطلقة ولا من زانية أو أرملة ولا من امرأة أبواها غير يهوديين بالمولد، أي أن طهارة الكاهن تقتضي أن يتزوج من امرأة طاهرة مثله تماماً. كما أن طهارة الكاهن تمنعه من لمس الموتى (إلا أقرب أقاربه) أو حتى السير فوق أرض دُفن فيها أحد.

الصفحة التالية ß إضغط هنا