المجلد السادس: الصهيــونيــــة 14

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الثالث: الرفض اليهودي للصهيونية

الرفــض اليهـودي للصهيونيـة والتوحــد الكامل معــها

Jewish Rejection of Zionism and Total Identification with It

«الرفض اليهودي للصهيونية» هو المقابل العربي للمصطلح الإنجليزي «جـويش أنتي زايونيــزم Jewish Anti-Zionism»، وهـــو مصطلح أساسي، فعن طريقه يمكننا أن نُصنِّف هؤلاء اليهود الذين يرفضون الصهيونية قلباً وقالباً بشكل جوهري ومبدئي. ولكن ثمة نقطة قصور أساسية في المصطلح وهو أنه يفترض أن اليهود ينقسمون إما إلى صهاينة أو رافضين لها، أي أنه يقودنا إلى ضرب من الثنائيات المتعارضة البسيطة، والتي تفصلنا ببساطتها عن الواقع. ولذا قد يكون من الأفضل أن نتجاوز هذه الثنائيات فندرك الواقع من خلال مقولات ومصطلحات تحليلية وتصنيفية أكثر دقة وتركيبية.

ويمكننا إنجاز هذا لو نظرنا إلى الرفض اليهودي للصهيونية باعتباره يُشكِّل أحد أطراف مُتصَل مستمر طرفه الآخر هو القبول اليهودي غير المتحفظ للصهيونية والتعاطف بل التوحد الكامل بها وتوجد بين الطرفين المتعارضين ظلال كثيرة. وإذا كان رافضو الصهيونية أقلية والمدافعون عنها أقلية، فأغلبية يهـود العالم الساحـقة توجد بينهما. فهناك «عدم الاكتراث اليهودي بالصهيونية» وهناك «التملص» منها وهناك «الصهيونية النفعية» وهكذا.

و«الرفض اليهودي للصهيونية» هو عكس «التعاطف اليهودي مع الصهيونية». أما «التملص اليهودي» من الصهيونية أو «عدم الاكتراث اليهودي» بها، فهما أشكال إما مخففة أو كامنة من الرفض اليهودي. وهذا الرفض يستند إلى أساسين: أساس علماني (ليبرالي أو اشتراكي أو إثني) أو أساس ديني.

وتاريخ الرفض اليهودي للصهيونية يبدأ مع تاريخ الصهيونية نفسها. وقد جاء في موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن المنظمات اليهودية الرئيسية "كافة" قد اتخذت منالصهيونية موقفاً معارضاً أو موقفاً غير صهيوني (أي غير مكترث). وقد دفعت المعارضة اليهودية القيادة الصهيونية لنقل مقر انعقاد المؤتمر الأول (1897) من ميونخ إلى بازل. وأعلنت اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامات في ألمانيا، عشية انعقاد المؤتمر، اعتراضها على الصهيونية على أساس أن فكرة الدولة اليهودية تتعارض مع عقيدة الخلاص اليهودية. كما اتخذت المنظمتان اليهوديتان الرئيسيتان في إنجلترا (مجلس مندوبي اليهود البريطانيين، والهيئة اليهودية الإنجليزية) مواقف مماثلة. وأعرب مؤتمر الحاخامات الأمريكيين المركزي عن معارضته التفسير الصهيوني لليهودية باعتبار أن الصهيونية تؤكد الانتماء القومي. وعارض حاخام فيينا (مسقط رأس هرتزل) فكرة إنشاء دولة يهودية لأنها فكرة معادية لليهود وتُرجع كل شيء إلى العرْق والقومية. وقد تبنت اللجـنة اليهـودية الأمريكية موقـفاً مناهضاً للصهيونية عام 1906، ثم انتهجت نهجاً غير صهيوني استمر حتى أواخر عام 1940. وعندما صدر وعد بلفور أعلن 299 يهودياً أمريكياً رفضهم في الحـال، في عريضـة موجهة إلى الحكومة الأمريكية، وقعوا عليها، على أساس أن ذلك يروج لمفهوم الولاء المزدوج. وفي 4 مارس سنة 1919، بعث جوليوس كان، عضو الكونجرس الأمريكي عن كاليفورنيا، ومعه 30 يهودياً أمريكياً بارزاً، رسالة إلى الرئيـس وودرو ويلـسون يحتـجون فيها على فكرة الدولة اليهودية. وأعرب أكثر الموقعين على هذا الاحتجاج عن أنهم يعبِّرون عن رأي أغلبية اليهود الأمريكيين، وكتبوا يقولون: إن إعلان فلسطين وطناً قومياً لليهود سيكون جريمة في حـق الرؤى العالمية لأنبياء اليهود وقادتهم العظماء. واسـتطرد البيان يقول: إن دولة يهودية لابد أن تضع قيوداً أساسية (على غير اليهود) فيما يتعلق بالجنس، وأكد أن توحيد الكنيسة والدولة في أية صورة سيكون بمنزلة قفزة إلى الوراء تعود إلى ألفي عام. وأعرب جوليوس كان وغيره (ممن وقعوا على الاحتجاج) عن أملهم في أن ما كان يُعرَف في الماضي بالأرض الموعودة يجب أن يصبح أرض الوعد لكلالأجناس والعقائد.

وكما أن مصطلح «صهيونية» مصطلح مختلط الدلالة، فإن مصطلح «رفض الصهيونية» أو العداء لها يتسم بالصفة نفسها:

1 ـ ففي بعض الأحيان، يُطلَق على اليهودي الذي يقف ضد التوسعية الصهيونية أو ضد قمع الدولة الصهيونية للفلسطينيين مصطلح «معاد للصهيونية».

2 ـ ويُستخدَم المصطلح نفسه للإشارة لنعوم تشومسكي الذي قرر أن السياسات الإسرائيلية والصهيونية ليستا بالضرورة مترادفتين، ومن ثم يستطيع أي يهودي أن يشجبالسياسات الإسرائيلية والتصدي لها دون أن يتخذ موقفاً معادياً للصهيونية بالضرورة، ومع هذا صُنِّف تشومسكي معادياً للصهيونية رافضاً لها.

3 ـ أما ألان سولومونوف، وهو شخصية أمريكية يهودية شهيرة، فيطالب إسرائيل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وأن تنشئ دولتين، واحدة فلسطينية والأخرى إسرائيلية، ولكنه رفض أن يتم تطبيق اصطلاح «صهيوني» أو «معاد للصهيونية» عليه. بينما نجد أن إدموند هاناور (مؤسس جماعة سيرش) يطالب بالمطالب نفسها، ويُسمِّي نفسه مع هذا «معادياً للصهيونية».

4 ـ يرى الصهاينة أن العداء اليهودي للصهيونية إنما هو شكل من أشكال كُره اليهودي لنفسه.

ونحن نذهب إلى أن اليهودي الذي يرفض الصهيونية هو اليهودي الذي يرفض الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

والرفض اليهودي للصهيونية ينقسم إلى قسمين أساسيين: ديني وعلماني:

1 ـ الرفض الديني:

أ) الرفض الأرثوذكسي: يرى بعض اليهود الأرثوذكس ورثة اليهودية الحاخامية (انطلاقاً من رؤيتهم الدينية) أن العودة إلى أرض الميعاد لا يمكن أن تتم إلا بعد ظهور الماشيَّح المخلِّص في آخر الأيام على أن يقوم هو بقيادة شعبه اليهودي. وبناءً على ذلك، تكون الحركة الصهيونية، بمحاولتها اتخـاذ خطوات عمليـة (مادية علمانية) لإقـامة وطن قومي يهودي، إنما تدخل في أخص خصوصيات الإرادة الإلهية، أي أنها نوع من التجديف والهرطقة، وتأسيس أية دولة علمانية في فلسطين على يد اليهود هو خرق للتعاليم التوراتية. إن الشعب اليهودي ليس شعباً مثل كل الشعوب وإنما هو أمة من الكهنة، كما أن العهد المبرم بينهم وبين الرب عهد ديني من نوع خاص وليس عهداً قومياً كما يتخيل الصهاينة. ويرى هؤلاء الأرثوذكـس ضرورة الإبقـاء على اليديشـية لغةً للتعـامل اليومي، فالعبرية هي اللسان المقدَّس. وقد قامت جماعة أجودات إسرائيل بالوقوف في وجه الصهيونية. ومن أهم الشخصيات الأرثوذكسية المعارضـة، جيـكوب دي هـان وناثان بيرنبـاوم. لكن التيار الصهيوني، اكتسح جماعة أجودات إسرائيل، شأنها شأن كثير من الجماعات الدينية اليهودية، ولم يبق الآن من ممثلي هذا التيار سوى نواطير المدينة وجماعات أخرى متفرقة في أنحاء العالم.

ب) الرفض الإصلاحي:

تَصدُر اليهـودية الإصلاحية عن شكل جديد من أشكال الحلولية، وهو ما نسميه «حلولية شحوب الإله» إذ يرون أن الإله قد حل لا في الأمة اليهودية ولا في الأرض اليهودية ولا حتى في التاريخ اليهودي وإنما في روح التقدم والعصر، ولذا فهم يرون أن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقليات دينية، وأن الماشيَّح ليس شخصاً وإنما عصرمشيحاني تتحقق فيه كل قيم التقدم والعدالة وهو ليس مقصوراً على اليهود وحدهم. ولذا، فإن اليهودية الإصلاحية تقف ضد الصهيونية بشراسة لأن الصهيونية تصر على أن موضع الحلول هو الشعب اليهودي والأرض.

ومن أهم الشخصيات اليهودية المعادية للصهيونية على أساس إصلاحي، كلود مونتفيوري، والحاخام إلمر برجر. وقد حدث تغيُّر جوهري على اليهودية الإصلاحية، إذاكتسحها التيار الصهيوني، وتمت صهينتها من الداخل، وأصبحت مُمثَّلة في المنظمة الصهيونية العالمية. كما تم تعديل كتاب الصلوات الإصلاحي بحيث أصبح يضم إشارات وعبارات صهيونية.

وكان دعاة اليهودية المحافظة في بداية الأمر من رافضي الصهيونية. وبسبب تَماثُل بنيتها وبنية الصهيونية (الشعب مركز الحلول)، تمت صهينة اليهودية المحافظة تماماً وبسرعة، وتشبهها في ذلك اليهودية التجديدية.

2 ـ الرفض العلماني.

أ) الرفض الليبرالي: يؤمن الليبراليون بمُثُل عصر الاستنارة، ووجوب فصل الدين عن الدولة، وأن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقلية دينية، وأنهم ليسوا أمة من الكهنة وإنما مواطنون عاديون يتجه ولاؤهم إلى الدولة التي يعيشون فيها، وأن اليهود ليس لهم تاريخ مستقل وإنما يشاركون الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها تجاربهم التاريخية. فتاريخهم فرنسي في فرنسا، وإنجليزي في إنجلترا، واللغة التي يجب أن يتحدثوا بها هي لغة الوطن الذي يعيشون فيه. وعلى هذا، فإن حل المسألة اليهودية لن يتأتى إلا عن طريق مزيد من الاندماج. بل إنهم يعتبرون الحركة الصهيونية عقبة كأداء تقف في طريق الاندماج السوي. ومعظم الذين يشكِّلون هذا التيار هم من أعضاء الطبقات الوسطى في أوربا الغربية والولايات المتحدة والذين لم يجدوا صعوبة اقتصادية أو حضارية في الاندماج. ومن أهم الرافضين للصهيونية على أساس ليبرالي إدوين مونتاجو وهانز كون وموريس كوهين.

وقد تسبَّب إعلان دولة إسرائيل وصداقتها للعالم الغربي الرأسمالي في تَساقُط الجمعيات التي تعبِّر عن هذا الاتجاه، ولم يبق منها سوى جمعيات متفرقة مثل المجلس الأمريكي لليهودية، الذي يخضع الآن بعض الشيء للنفوذ الصهيوني، وهو ما اضطر الحاخام برجر للاستقالة منه وتكوين جمعية صغيرة مستقلة تحت اسم «بديل يهودي للصهيونية».

ب) الرفض الاشتراكي: يَصدُر الرفض الاشتراكي اليهودي للصهيونية عن تَصوُّر أن اليهود أقلية دينية وأن ما يسري على كل الأقليات يسري عليهم، وأن حل المسألةاليهودية يكون عن طريق حل المشاكل الاجتماعية والطبقية للمجتمع ككل. وقد كان هذا هو الحل الأكثر شيوعاً بين صفوف الشباب اليهودي في روسيا وبولندا وبين صفوف العمال اليهود، الأمر الذي جعل الوجود اليهودي في صفوف الحركات الثورية في شرق أوربا وروسيا أمراً ملحوظاً (وقد أفزع هذا أثرياء اليهود في الغرب أمثال روتشيلد، فساهموا في تمويل الحركة الصهـيونية ليحــولوا الشـباب والعـمال عن طريق الثورة). وقد هُزم هذا التيار في الأربعينيات والخمسينيات بعد ظهور دولة إسرائيل، لكنه بدأ في الظهور مرة أخرى في الغرب خصوصاً بعد أن ظهرت بوضوح الطبيعة الاستعمارية للدولة الصهيونية. ويُلاحَظ أن قطاعات كثيرة من اليسار الجديد في الغرب تعادي إسرائيل رغم (أو بسبب) وجود كثير من الشباب اليهودي الساخط على قيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الذي تمثله الدولة الصهيونية في العالم الثالث.

وقد ضم تيار الرفض الاشتراكي اليهودي للصهيونية عبر السنين عدداً كبيراً من المفكرين اليهود البارزين، مثل: روزا لوكسمبرج وليون تروتسكي وإليا إهرنبورج وكارل كاوتسكي. وفي السنوات الأخيرة، ضمت القائمة ماكسيم رودنسون وإسحق دويتشر وبرونو كرايسكي. ولا يزال عدد كبير من المنظمات اليسارية في أوربا والولاياتالمتحدة، التي تضم في صفوفها أعداداً كبيرة من اليهود، تنتهج موقفاً مناهضاً للصهيونية والاستعمار.

جـ) الرفض من منظور قومية الدياسبورا: يرفض دعاة قومية الدياسبورا الصهيونية لأنهم يرون أن اليهود يُكوِّنون أقليات قومية لها هويات مستقلة خارج فلسطين. وحين يتحدث دعاة قومية الدياسبورا عن اليهود، فهم يشيرون لا إلى أقلية قومية أو حتى إلى أمة قومية، ولكنهم في واقع الأمر يشيرون إلى أقلية إثنية. وحيث إن معظم دعاة هذا الاتجاه كانوا يتحدثون باسم غالبية يهود العالم، وهم يهود اليديشية، فإنهم يتحدثون في العادة عن القومـية اليديشـية التي تكـونت هـوية أعضـائها تحت ظروف خاصة.

ولكن، إلى جانب هذا التيار، بدأ يظهر تيار مماثل بين يهود أمريكا يرى أن هويتهم الحقيقية هي هوية أمريكية يهودية تستحق الحفاظ عليها، ومن ثم ينبغي عدم تصفيتها أو إخضاعها للدولة الصهيونية.

د) وهناك أخيراً حبيب شيفر الذي يرفض الصهيونية باعتبارها مؤامرة شيوعية وعلى أساس أن الدولة الصهيونية هي أداة في يد الاتحاد السوفيتي لتخريب العالم الحر. وغني عن القول أن مثل هذه الدعاوى قد تهاوت تماماً في الوقت الحاضر.

هذه هي التيارات الأساسية في الرفض اليهودي للصهيونية. ويمكن القول من ناحية التطور التاريخي بأن العداء اليهودي للصهيونية كان قوياً للغاية حتى إعلان وعد بلفور، حين تم توقيع عقد بين الحضارة الغربية والصهاينة الذين ادعوا تمثيل الشعب اليهودي، وقد أُزيل بالتالي احتمال ازدواج الولاء. ومع إعلان الدولة الصهيونية دولة وظيفية في خدمة الاستعمار الغربي، أصبح من العبث معارضتها بل أصبح من المنطقي تبنِّي العقيدة الصهيونية باعتبارها العقيدة التي تُدخل اليهود في نطاق الحضارة الغربية وتُوظِّفهم لصالحها، وهذا ما حدث لمعظم يهود العالم الغربي ومنظماتهم. لكن المقاومة اليهودية للصهيونية، مع هذا، لم تنته تماماً، فقد بدأت تظهر شخصيات وتنظيمات جديدة معارضة للصهيونية أو متملصة منها، من أهمها بريرا والأجندة اليهودية الجديدة.

الاتحــاد المـــركزي للمواطنين الألمان من أتباع العـقيدة اليـهودية

Central-Verein Deutscher Staats-Burger Judischen Glaubens

منظمة يهودية ألمانية أُسِّست في برلين عام 1893 بهدف كفالة المساواة المدنية والاجتماعية بين اليهود وغيرهم من الرعايا الألمان. وقد عملت المنظمة على توحيد اليهود الألمان كافة في إطار تنظيمي واحد بغض النظـر عن تباين انتمـاءاتهم السـياسية أو تصوراتهم الدينية، كما سعت إلى تعزيز الانتماء الألماني في أوساط اليهود.

وقد اعتبرت المنظمة أن يهود ألمانيا يشكلون جماعة دينية لا جماعة قومية وأنهم جزء لا يتجزأ من الأمة الألمانية، كما كانت ترى أن حل مشاكل اليهود الألمان يجب أن يتم في إطار الدولة الألمانية وليس بالانفصال عنها. ومن هذا المنطلق، عارضت المنظمة النزعات الانعزالية في أوساط اليهود، واتخذت موقفاً مضاداً من المشروع الصهيوني، وخطط تهجير اليهود إلى فلسطين وتوطينهم هناك. إلا أن هذا الموقف كان يفتقر إلى التماسك والصلابة حيث شاركت المنظمة في أعمال الوكالة اليهودية، كما ساهمت في تمويل مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين من خلال منظمة التأهيل والتدريب (أورت) واللجنة الأمريكية اليهودية المشتركة للتوزيع وجمعية الاستيطان اليهودي (إيكا). ولكن يُلاحَظ أن نشاط بعض هذه الجمعيات كان نشاطاً يهودياً توطينياً يهدف إلى تحويل هجرة يهود اليديشية من أوربا إلى أماكن متفرقة من العالم، وليس إلى فلسطين بالضرورة، لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يهددون مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. ولذا، فالنشاط التوطيني هنا ليس ذا مضمون صهيوني، وخصوصاً أن هذه الجمعيات كانت تحاول أيضاً المساهمة في عملية دمج المهاجرين اليهود في مجتمعاتهم.

وقد كرسـت المنظـمة جـل طاقـتها لمواجهة حملات العداء لليهود، ونشر الكتابات الرامية إلى التعريف باليهودية، كما كانت تقوم بتمويل ومؤازرة الدعاوى القانونية ضد التشهير باليهود أو باليهودية. وبعد وصول هتلر إلى السلطة عام 1933، اتجهت المنظمة إلى تقديم الاستشارات القانونية والاستثمارية لليهود الألمان.

وقد تغيَّر اسم المنظمة في عام 1935 ليصبح «الاتحاد المركزي لليهود في ألمانيا»، ثم تغيَّر ثانيةً عام 1936 ليصبح «الاتحاد المركزي اليهودي»، ثم تم حلها في عام 1938 وجرى دمجها في منظمة المجلس الموحَّد لليهود الألمان.

ويُلاحَظ أن النازيين كانوا لا يفضلون التعامل مع الاتحاد المركزي للمواطنين الألمان بسبب اتجاهاته الاندماجية إذ أن النازيين يؤمنون بالشعب العضوي الذي لا يمكن أن يندمج فيه أعضاء الشعوب. ولذا، ومن وجهة نظرهم، كان دعاة الاندماج بين الألمان اليهود هم الأعداء الحقيقيون الذين يزيفون الواقع ويودون التسلل في صفوف الألمان بهدف تخريبهم من الداخل، هذا على عكس الصهاينة الذين يؤمنون مثلهم بفكرة الشعب العضوي اليهودي، ومن ثم يقفون ضد الاندماج. ولكل هذا، كان النازيون يؤثرون التعامل معهم.

حاخامات الاحتجاج

Protest Rabbis

استخدم هرتزل مصطلح «حاخامات الاحتجاج» عام 1897 ليصف به مجموعة من الحاخامات الألمان الذين احتجوا على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول وحذروا قيادات الطائفة اليهودية والحاخامات من الاشتراك. وقد نجم عن الاحتجاج الأول تغيير مكان انعقاد المؤتمر الذي كان قد خُطِّط له أساساً أن ينعقد في ميونخ. وبعد أن فشل حاخامات الاحتجاج في منع انعقاد المؤتمر الأول، نشروا مقالاً مؤداه أن الصهيونية تناقض آمال اليهود.

ونظراً لانفصال هرتزل (وبقية أعضاء القيادة الصهيونية) عن الدين اليهودي، وعدم إدراكهم كثيراً من مفاهيمه، فإن هذا الهجوم كان يمثل مفاجأة كاملة بالنسبة إليهم. فكتب نوردو يتحدث عن خيانة الحاخامات وكيف أنهم "يجب أن يحافظوا على حب اليهود لشعبهم ولإرتس يسرائيل". وقد كان نوردو يجهل أن الحب التقليدي لصهيون هو حب ديني لا يترجم نفسه إلى عودة جسدية حرفية بل يحرِّم مثل هذه العودة، وأنه يختلف تماماً عن الحب القومي العلماني لأرض الأجداد الذي يُترجم نفسه إلى استيطان.

اليهودية الاستيطانية

Settler Judaism

«اليهودية الاستيطانية» مصطلح يعني أن اليهودية قد تم علمنتها تماماً واستيعابها في المنظومة الصهيونية حتى أصبح أعضاء الجماعات اليهودية يظنون أن اليهودية هيالصهيونية وأن أهم عمل ديني يهودي هو الاستيطان، وبخاصة في الضفة الغربية. وقد نحت المصطلح بعض أعضاء الجماعات اليهودية من المعارضين لعملية دمج اليهودية بالصهيونية والتوحيد بينهما.

المقاومـــة العربيــة اليهوديـــة للصهيونيــة

The Resistance of Jewish Arabs to Zionism

تباينت مواقف يهود الأقطار العربية تجاه الصهيونية، ووصل الأمر ببعضها حد مقاومة هذه الحركة. وإذا كان طبيعياً أن تجد الصهيونية من يؤيدها وسط هؤلاء؛ فإن منالطبيعي، أيضاً، أن يعارضها آخرون منهم، وأن يناصبوها العداء؛ بعضهم بسبب فكره الماركسي، المعادي للصهيونية، أصلاً؛ والبعض الآخر لوعيه بأن الصهيونيةستجلب على اليهود عداء العرب، وتضرب مصالح اليهود في الأقطار العربية، التي طالما ظلَّلهم التسامح الذي سادها.

لعل أهم المنظمات التي أسسها بهود من الأقطار العربية، وعملت على محاربة الصهيونية، "عصبة مكافحة الصهيونية" في العراق؛ و"الرابطة الإسرائيلية لمكافحةالصهيونية" في مصر.

وما أن وضـعت الحـرب العالمية الثانية أوزارها (1939 ـ 1945)، حتى صعَّدت الإدارة الأمريكية جهودها الرامية إلى التعجيل بإقامة الدولة اليهودية. وفي العراق سمحت حكومته بتشكيل أحزاب سياسية؛ وهو ما حدا باللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (السري)، أواسط سنة 1945، إلى طلب ترخيص لحزب سياسي علني، باسم "حزب التحرر الوطني"؛ فيما كلفت اللجنة المركزية أعضاء يهود في الحزب الشيوعي بالعمل من أجل تأسيس منظمة جماهيرية لمكافحة الصهيونية. وكان اليهود يشكلون في العراق أقلية نشيطة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً؛ الأمر الذي أهَّلهم لاحتلال موقع متميِّز في المجتمع العراقي.

أما الأعضاء الذين كلفوا من قبل اللجنة المركزية للحزب، فهم: يهودا صديق؛ ويوسف هارون زلخة؛ ومسعد قطَّان؛ وإبراهيم ناجي؛ ويعقوب فرايم؛ ونعيم شوع؛ ويوسفزلوف. حيث عقدوا عدة اجتماعات، صاغوا خلالها برنامجاً سياسياً، ونظاماً داخلياً لعصبة مكافحة الصهيونية، التي طلبوا ترخيصاً لها من الحكومة العراقية. وما إن حصلوا عليه، حتى تألفت هيئة إدارية للعصبة، ترأسها يوسف هارون زلخة؛ فيما ترأس هيئة الرقابة يهودا صديق.

وقد كان يهود العراق في أمسِّ الحاجة إلى توثيق صلاتهم بالشعب العراقي، وتحقيق اندماجهم فيه، وإقناعه بانعدام الصلة بين يهود العراق والحركة الصهيونية.

أصدرت العصبة عدة كراسات؛ كما عمدت إلى نشر برنامجها، جماهيرياً؛ وعقدت اجتماعات ومؤتمرات جماهيرية حاشدة في مقرها، بالكرخ، أحد أحياء العاصمة العراقية، بغداد؛ وأصدرت جريدتها العصبة، عن دار الحكمة للطباعة، المملوكة للعصبة نفسها. ونشرت هذه الجريدة سلسلة مقالات، شرحت أهداف العصبة، سرعان ما جمعتها قيادة العصبة، وأصدرتها في كتاب، حـمل عنـوان نحـن نكافـح في ســبيل من؟ وضد مـن نـكافح؟. وفيه فصلت اليهودية عن الصهيونية، "المرتبطة بالاستعمار العالمي، وعلى رأسه الاستعمار الأمريكي". مؤكدة أنه "ليس لليهود قضية منفصلة عن قضايا شعوبهم". واعتبر الكتاب الصهيونية" عميلاً للإمبريالية، وأداة لها"؛ ورأت في "الفاشية والصهيونية توءمين لبغيّ واحدة، هي العنصرية". وأكدت أن الصهيونية إنما تهدف إلى دق إسفين بين اليهود والعرب، بما يصرف هؤلاء وأولئك عن النضال الوطني. ويعلن الكتاب عداء العصبة للوطن القومي اليهودي، لأنه "يُفرِّق بين اليهود ومواطنيهم في الوطن الواحد، ولأنه يستهدف شطر فلسطين العربية عن جسم البلاد العربية، وإفناء شعبنا العربي". ورغم أن الصهيونية تتلون أمام اليهود، بما يرضي فريقاً منهم، إلا أن دينها "نفاق ورياء، وقوميتها عنصرية اعتدائية، واشتراكيتها انتهازية". ورأى الكراسة أن الصهيونية تطمع، فقط، في إغراق الأسواق بالبضائع، لتضرب الصناعة الوطنية، وتسيطر على التجارة. أما تبنِّي الاستعمار للصهيونية، فلأنها أداته في قلب الوطن العربي. واعتبرت العصبة غياب الديموقراطية عن الأقطار العربية عاملاً منشطاً للصهيونية في هذه الأقطار. وطالبت بضرورة إشراك المنظمات الشعبية في الكفاح من أجل طرد الاستعمار البريطاني، الذي أوجد الصهيونية في فلسطين.

حين حلَّت الذكرى الثامنة والعشرون لصدور وعد بلفور (2/11/1945)، أصدرت العصبة بياناً، ضمَّنته استنكارها هذا الوعد. وأضاف البيان أن "الاستعمار يستطيع أن يتكرم بفلسطين، مئات المرات، طالما أنها ليسـت بلاده، وطالما أنه يجـد في ذلك ربحـاً له ومغنماً". واعتبر البيان غاية الاستعمار وعميلته الصهيونية من "وعد بلفور"، تحويل "نضال العرب، الموجَّه ضد الاستعمار، نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون، حقاً، "على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوربا". وأكد بيان العصبة "أن حل المشكلة اليهودية يتم بحل مشكلة البلدان التي يعيش فيها اليهود. أما [حل] فلسطين، فهو فضلاً عن أنه لا يحل المشكلة اليهودية، فهو اعتداء صريح غاشم على حقوق الشعب العربي". ودعت قيادة العصبة في بيانها المواطنين "إلى النضال من أجل استقلال فلسطين، استقلالاً تاماً، وتأليف حكومة ديموقراطية عربية فيها، ومنع الهجمة الصهيونية إلى فلسطين؛ وإيقاف انتقال الأراضي إلى الصهاينة". وهي أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها آنذاك.

في فبراير 1946، تقرَّر إرسال لجنة تحقيق أنجلو ـ أمريكية إلى فلسطين، لبحث إمكانية استيعابها مئة ألف مهاجر يهودي جديد؛ فأصدرت العصبة بياناً، ذكَّرت فيه بما كانت رددته، قبلئذ، من "أن مشكلة فلسطين يجب أن تُفصَل عن المشكلة اليهودية، لأن المشكلة الأولى ما هي إلا مشكلة شعب يناضل في سبيل حريته واستقلاله". وتساءل بيان العصبة: "فإذا كانت المشكلة اليهودية لا تربط بمشاكل الشعوب المناضلة الأخرى، فلماذا ـ إذن ـ تربط بمشكلة الشعب الفلسطيني العربي المناضل؟!". يردف البيان، مؤكداً "... وأن قضية فلسطن لا تحتاج إلى تحقيق". وزود البيان بقرار سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين القاضي بالسماح، شهرياً، بهجرة ألف وخمسمائة يهوديإلى فلسطين. وشددت العصبة في بيانها على "أن العرب لا يمكن أن يحصلوا على حرياتهم واستقلالهم، إلا بالاعتماد على أنفسهم، وبالتعاون مع قوى الشعوب المعادية للظلم والاستعمار". وطالب البيان رؤساء الحكومات العربية بالعمل على رفع قضية فلسطين إلى مجلس الأمن الدولي، لإلغاء الانتداب، ومنحها استقلالاً تاماً.

في الوقت نفسه، بادرت العصبة إلى إرسال مذكرتين، أولاهما إلى رؤساء الحكومات العربية، وثانيتهما إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية؛ نددت فيهما باللجنة الأنجلوـأمريكية، بعد أن اعتبرتها ستاراً مهلهلاً "يختفي وراءه الاستعماران البريطاني والأمريكي، بقصد القيام بهجوم جديد، لدعم الصهيونية، وتثبيت أقدام الاستعمار في فلسطين، وباقي البلاد العربية".

في السياق نفسه، أصدرت العصبة بياناً "إلى الجماهير العربية"، ندَّدت فيه بقرار الكونجرس الأمريكي السماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين. ونبهت العصبة إلى مؤامرة بريطانية ترمي إلى تقسيم فلسطين. وأكدت عجز اللجنة الأنجلو ـ أمريكية "عن إصدار حـكم يمس جـوهر القضية... إلغاء الانتداب البريطاني، وتأليف حكومة وطنية ديموقراطية في فلسطين". وانتهى بيان العصبة إلى "أن حل قضية فلسطين لن يتم إلا عن طريق توحيد نضال الشعوب العربية، واعتمادها ـ بالدرجة الأولى ـ على كفاحها الوطني المشترك، وعلى رفع قضية فلسطين إلى مجلس الأمن...".

بمجـرد صدور بيان اللجنـة الأنجلو ـ أمريكـية، شــاركت العصبة، أواخر مايو 1946 الحزب الشيوعي العراقي وحزب التحرر الوطني [تحت التأسيس]، في تنظيممظاهرة حاشدة، ندَّدت بهذا البيان الاستعماري، واصطدمت بقوات الجيش العراقي، وهو ما دفع الحكومة العراقية إلى تعطيل صحيفة العصبة لمدة سنة. فوجهت العصبة مذكرة إلى رئيس جمعية الصحفيين في بغداد، رأت فيها أن "للاستعمار والصهيونية دخلاً، قد حمل السلطات على إصدار قرار التعطيل... لغرض إيقاف الحملة الوطنية المثارة، اليوم، في سبيل فلسطين العربية"؛ وأن هذا التعطيل "معناه تكميم أفواه الشعب. معناه تجريده من أداة فعالة، توجه نضاله. معناه ترك البسطاء من أبناء شعبنا فريسة الدعايات الأجنبية.

في يونيه 1946، اعتقلت الحكومة العراقية قادة العصبة؛ لكن بعد أن حرثت العصبة عميقاً في الحياة السياسية والفكرية للمجتمع العراقي، فكشفت أغراض اللجنة الأنجلو أمريكية، وطالبت بانتزاع قضية فلسـطين من أيدي الحكـومات البريطانية، ونقلها إلى مجلـس الأمن، ودعت إلى إغلاق الحدود في وجه الجيش البريطاني، المتنقل بين العراق وفلسطين، وعملت على أن يُنظَّم الدفاع عن فلسطين على أساس شعبي، "يعتمد على قوانا الداخلية، وعلى حقنا الدولي"؛ ونبذ "حُسن الظن بالمستعمرين"، أو انتظار حل مشاكلنا الوطنية على أيدي "لجانهم التحقيقية، وموائدهم المستديرة". كما دأبت العصبة على دعوة المنظمات الشعبية الديموقراطية في الأقطار العربية إلى مؤتمر يوحد جهودها "من أجل تحرير فلسطين والبلاد العربية". ولطالما لجأت العصبة إلى عقد مؤتمرات جماهيرية حاشدة، لتعبئة الشعب العراقي في هذا الصدد. كما ألغـمت الاسـتعمار البريطـاني في أهم قاعدة اجتماعية يستند إليها، وهي الأقليات الدينية والعرْقية. لذا كان طبيعياً أن تحتل صحيفة العصبة المكان الأول بين الصحف العرْقية، من حيث المادة وكمية المطبوع. فضلاً عن أن العصبة قدمت القضية الفلسطينية إلى الشعب العراقي "بشكل علمي واقعي"؛ وعرَّت الصهيونية، وفضحت أغراض الاستعمار،وروابطه بالصهيونية.

بيد أن محكمة عراقية أصدرت حكمها بالسجن المؤبد على يوسف هارون زلخة، مدعية أنه إنما يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية لا ضدها. فيما كانت الحكومة العراقية تعجل بتهجير زهاء مائة وثلاثين ألف يهودي من العراق إلى فلسطين المحتلة، مقابل عشرة دنانير عن كل مهاجر يصل إلى هناك، تدخل جيوب متنفذين في الحكومة العراقية.

في السياق نفسه تكوَّنت، في مصر، أواسط سنة 1946، "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية"، بمبادرة من منظمة "إيسكرا" الشيوعية المصرية السرية، حيث كلفت "قسم اليهود" في المنظمة بتأسيس هذه الرابطة، بعد تعاظُم الخطر الصهيوني، والتهاب القضية الفلسطينية، وهو ما تطلَّب تنظيماً جماهيرياً، يؤكد انفصال الدين اليهودي عن الصهيونية، الحركة السياسية الموالية للاستعمار، ومن هنا عداء الصهيونية لليهود، فضلاً عن عدائها للحركات الوطنية. كما يناضل هذا التنظيم ضد الصهيونية ولأن هذا التنظيم سيحصر نشاطه في الوسط اليهودي المصري، لذا كان طبيعياً أن يقوم على أكتاف اليهود.

هكذا تأسست "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية". ولخصت أهدافها "في محاربة العنصرية، ومكافحة الاستعمار، وربيبته الصهيونية". وشدَّدت على أن جماهير اليهود تعادي الصهيونية. ودعت الرابطة إلى "تكتيل جميـع العناصر الوطنيـة المخلصة، لتحطيم الاستعمار، وقهـر الصهــيونية، وإيجـاد شرق عربي حر مسـتقل، يظللهالتسـامح، وجو الأخـاء المطهر من العنـصرية العصبية المقيتة، التي لن يكسب من ورائها سوى الغاصب المحتل".

ضمت اللجنة التأسيسية للرابطة في عضويتها: عزرا هراري (أمين السر)؛ ومارسيل إسرائيل؛ وإدوار متالون؛ وهانزين كاسفلت؛ وإدوارد ليني.

رأت الرابطة أنها بمناهضتها للصهيونية "تخدم المصالح الحقيقية للطائفة اليهودية المصرية" وقد وقعت الرابطة بين مطرقة الحكومة المصرية المستبدة، وسندان الصهيونيةالنشيطة في مصر. مع ذلك، نجحت الرابطة في إصدار كراسة واحدة، في يونيه 1946. وفي مايو 1947 اعتقلت حكومة محمود فهمي النقراشي المصرية أعضاء اللجنة التأسيسية للرابطة، وأفرجت عنهم، بعد 48 ساعة.

في الكراسة عددت الرابطة أهدافها، في:

1) الكفاح ضد الدعاية الصهيونية التي تتعارض مع مصالح كل من اليهود والعرب.

2) الربط الوثيق بين يهود مصر والشعب المصري، في الكفاح من أجل الاستقلال والديموقراطية.

3) العمل على حل مشكلة اليهود المشردين".

رغم عمر الرابطة القصير، إلا أنها نجحت في إلقاء حزمة أضواء على طبيعة الصهيونية، وروابطها الحميمة بالاستعمار، وخطرهما على الحركات الوطنية العربية وعلى جموع اليهود؛ كما أوضحت الرابطة أن الدولة اليهودية ستساعد على تثبيت أقدام المستعمرين في المنطقة، وتربط اليهود بعجلة الاستعمار، وتصبح الدولة رأس الرمح الاستعماري ضد شعوب البلاد العربية". وأدانت الرابطة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي تعارضها أغلبية الشعب الفلسطيني، وتؤدي "بإخواننا اليهود إلى أن يعيشوا في جو حرب أهلية في فلسطين". وأعربت الرابطة عن ثقتها في أن "فلسطين الحرة المستقلة ستشترك ـ عن طيب خاطر ـ مع الدول الديموقراطية الأخرى، في إيواء اليهود المشردين". واقترحت الرابطة حلاً لمسألة المشردين اليهود، مؤداه "إعادتهم إلى البلاد التي طردتهـم منها الفاشية"، واسـتقبال من يُرفَض منهــم في سائر الأقطار.

كما ندَّدت الرابطة بالإرهاب الصهيوني في فلسطين، ووصفته بالفاشـية، وبأنه موجَّه ضــد الجماهير اليهودية، ولحساب المستعمرين؛ الذين وجدوا فيه ذريعة لاستمرار قمعهم للشعب الفلسطيني. ورأت الرابطة في "تكوين جبهة موحدة مع الحركة التحريرية العربية في سبيل فلسطين حرة مستقلة ديموقراطية... طريق الخلاص الوحيد للجماهير اليهودية في فلسطين".

وفيما يتصل بالتأييد الذي تلقاه الصهيونية في أوساط اليهود المصريين، قدمت الرابطة تفسيراً طبقياً. ذلك أن أغلب يهود مصر ينتمون إلى الطبقات المتوسطة؛ "فصاحب الخدمة اليهودي، والتاجر الصغير، والمستخدم، الذين يقاسون شظف العيش، كثيراً ما يقعون فريسة للدعاية الصهيونية، التي تجعلهم يحلمون بالهرب من حياتهم الصعبة، ليعيشوا في فلسطين... [إضافة إلى] ضغط أصحاب الأعمال الصهيونيين، أو المجندين للصهيونية". ولا ترى الرابطة من سبيل أمام يهود مصر إلا "الانضمام إلى الحركة الوطنية المصرية، والتضامن التام معها، في سبيل تحقيق جميع أهدافها، إذ لا تختلف مصالح الجماهير اليهودية، بتاتاً، عن مصالح الشعب المصري، عادةً".

أما العداء لليهودية، فترى الرابطة أنه سلاح في أيدي أعداء التقدم والحرية. وأن المشكلة اليهودية أصبحت، اليوم، ذات ثلاثة جوانب متمايزة: أولها مشكلة الأقليات اليهودية في أرجاء العالم؛ وثانيها يهود فلسطين؛ وثالثها اليهود الذين لا مأوى لهم. وأنكرت الرابطة على اليهود حق إقامة دولة خاصة بهم. وأكدت أن العداء لليهودية لا يتقدم إلا حيث تتراجع الديموقراطية. واتهمت الرابطة الصهيونيين "بصرف اليهود عن الكفاح ضد عدوهم الأول ـ ألا وهو الفاشية". ورأت "أن سلام الأقليات اليهودية لن يُكفَل، إلا بالتحالف مع القوى الديموقراطية، التي بتحقيقها للحرية والرفاهية لكل الشعب ستحقق بهذا الحرية والرفاهية لليهود".

وانتهت الرابطة في كراستها إلى أن "الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلكه يهود فلسطين هو التفاهم مع العرب، والاتحاد معهم، لتحرير فلسطين من نير الاستعمار". ذلك "أن فلسطين مستقلة ديموقراطية هي الوحيدة التي تستطيع أن تضمن للسكان اليهود حياة رغدة، حرة، ومثمرة".

ما كان لنشاط الرابطة أن يستمر دون رد فعل عنيف من الحركة الصهيونية في مصر، التي اسـتقرت بالبوليـس المصري وببـعض البلطجية، وعمدت إلى طرد الشيوعيين اليهود من نادي مكابي القاهرة. وفي السياق نفسه، اجتمعت الجمعيات الصهيونية في مصر، واعتمدت ميزانية مقدارها عشرة آلاف جنيه، لمحاربة الشيوعيين اليهود في مصر وأنشطتهم المتزايدة.

تصاعدت المواجهة بين الصهيونيين والشيوعيين اليهود، ولجأ الأخيرون إلى نشر مقالات في يومية صوت الأمة القاهرية الوفدية، ومنها كشف انتساب البورجوازيةاليهودية في مصر للصهيونية. كما ألقت هذه المقالات الضوء على "أوكار الصهيونية في مصر"؛ وفي مقدمتها "مكابي القاهرة"، مقر النشاط التخريبي والدعوة للصهيونية. حيث تعلو جدرانه شعارات تدعو للهجرة إلى فلسطين "الوطن القومي لليهود"؛ وتشيد بالصهيونية، باعتبارها حركة وطنية.

في مجال كشف "الأوكار الصهيونية"، نشرت صوت الأمة حلقة أخرى، خصصتها لكشف "شركة الإعلانات الشرقية"، باعتبارها وكراً صهيونياً. وكانت الشركة تصدرصحيفتين بالفرنسية (لابورص؛ و البروجريه)؛ وصحيفتين أخريين بالإنجليزية (الإجبشيان جازيت؛ و الإجبشيان ميل)". وعـادت ملكـية الشـركة لبعـض الصهاينة والإنجليز. وجعلت مهمتها الدفاع عن الاستعمار والصهيونية، ومهاجمة الوطن والوطنيين المصريين، حتى وصفتهم "بأنهم جماعة من الرعاع". ولطالما أثارت خوف الأجانب "من الحركة الوطنية في مصر". وأدانت صحف هذه الشركة "الحركة الوطنية العربية في فلسطين بأنها حركة رجعية". وألقى مقال صوت الأمة الضوء على احتكار هذه الشركة للإعلانات في مصر، وهو ما أوقع عدداً كبيراً من الصحف والمجلات المصرية تحت سيطرة هذه الشركة.

تطور الصراع بين اليهود الصهيونيين وخصومهم اليهود الشيوعيين إلى الاشتباك بالأيدي، غير مرة، وفيها سالت الدماء. ونفى الرأسمالي اليهودي المصري الكبير، رئيس مكابي القاهرة، كليمان شيكوريل، إلى صوت الأمة أن يكون المكابي وكراً للصهيونية. وإن لم يعلن شيكوريل معاداته للصهيونية، على نحو ما فعل خصومه الشيوعيون اليهود.

ونشرت صوت الأمة مقالاً آخر، تناول استخدام المدارس الأجنبية، والسفارة البريطانية في بث السموم الاستعمارية، بينما يستخدم الصهاينة المدارس اليهودية في نشر دعايتهم، وجَمْع التبرعات، ويديرون من نواديهم المؤتمرات ضد الشعب الفلسطيني. وقد تبع هذا مقال آخر، كشف النقاب عن لجنة تكوَّنت من كبار الماليين اليهود المناصرين للصهيونية في مصر، تحصل جنيهاً مصرياً واحداً من كل يهودي قادر، لحساب الأنشطة الصهيونية.

في أواسط يونيو 1947، أبلغت وزارة الشئون الاجتماعية المصرية سكرتير الرابطة، عزرا هراري "بعدم الموافقة على تكوين الرابطة، لأسباب تتعلق بالأمن العام" كأن مكافحة الصهيونية تخل بالأمن المصري، بينما النشاط الصهيوني يدعمه ويعززه.

في مايو 1948، ألقت سلطات الأمن المصرية القبض على كل اليهود المصريين المعادين للصهيونية، وأبعدت النسبة الأكبر منهم عن البلاد، فانحسر الأساس الجماهيري للرابطة، وكفت عن الحركة.

التملص اليهودي من الصهيونية

Jewish Evasion of Zionism

«التملص من الصهيونية» هو محاولة أعضاء الجماعات اليهودية التظاهر بالولاء للصهيونية وإعلان ذلك ودفع التبرعات وكتابة الخطابات للضغط من أجل إسرائيل، ولكن الموقف المعلن ليس له علاقة كبيرة بسلوكهم السياسي أو الثقافي المتعين. وقد وصف آحاد هعام هذا الموقف بقوله: إن موقف أعضاء الجماعات اليهودية من الشتات سلبي من الناحية الذاتية، إيجابي من الناحية الموضـوعية. وتعـود هذه الظـاهرة إلى أن الصهيونية، بعد وعد بلفور، أحكمت قبضتها على أعضاء الجماعات اليهودية حتى أصبحت كما لو كانت حركة شعبية كاسحة، بعد أن كانت حركة أقلية. ولذا، فإن هناك انطباعاً لدى الكثيرين بأن كل اليهود صهاينة وأن حركات رفض الصهيونية بين الجماعات اليهودية أصبحت ضعيفة كسيحة.

ولكن الصورة الحقيقية غير ذلك، فثمة مقاومة يهودية خفية للصهيونية تأخذ شكل تملُّص يأخذ بدوره عدة أشكال:

1 ـ توجيه النقد للدولة الصهيونية واتهامها بعدم الالتزام بمنظومة القيم التي يؤمن بها اليهودي الذي يوجه النقد (الأرثوذكسية، العلمانية، الاشتراكية... إلخ)

2 ـ رفض المفهوم الصهيوني الخاص بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا وطرح مفهوم مركزية الدياسبورا بدلاً من ذلك.

3 ـ رفض الهجرة إلى إسرائيل. وهذا هو أهم أشكال التملص.

وقد رأى بن جوريون ضرورة التفرقة بين الصهاينة الحقيقيين الاستيطانيين الذين يهاجرون ويستوطنون فلسطين لبناء الوطن القومي، والصهاينة الزائفين التوطينيين الذن يتظاهرون بالولاء، واقترح تسميتهم «أصدقاء صهيون» حتى يظل مصطلح «صهيوني» مصطلحاً ذا دلالة.

عدم الاكتراث اليهودي بالصهيونية

Jewish Indifference to Zionism

عبارة «عدم الاكتراث بالصهيونية» هي ترجمتنا لعبارة «نان زايونيزم Non-Zionism»، والتي تعني حرفياً «اللا صهيونية» (مقابل «التعاطف مع الصهيونية»، و«رفض الصهيونية»). وقد اخترنا هذه العبارة لأن اليهودي إن لم يكن منتمياً إلى الصهيونية ولا متعاطفاً معها، ولا رافضاً لها ولا متملصاً منها، فإن هذا يعني في واقع الأمر أنه يعتقد أن الصهيونية لا تعنيه أصـلاً، شـأنه شـأن أي مواطن غير يهودي في بلده. وحيث إن الأمر لا يعنيه، فهو غير مُطالَب بتحديد موقف منها. والواقع أن كثيراً من كبار المفكرين والأدباء اليهود غير مكترثين بالصهيونية (ولا باليهودية). ويمكن اعتبار عدم الاكتراث بالصهيونية أحد أشكال التملص منها.

الناطوري كارتا (نواطير المدينة(

Naturei Karta

«نواطير المدينة» أو «حُرَّاس المدينة» ترجمة للعبارة الآرامية «ناطوري كارتا»، وهي منظمة يهودية دولية معادية للصهيونية، وقد جاء في التلمود أن حاخامين من حاخامات اليهود ذهبا إلى فلسطين للتأكد من أن كل مدينة من مدنها تضم مدرسة وبيت عبادة حيث يتعلم الأطفال الشريعة، وسألا أهل إحدى المدن عن حراس المدينة (ناطوري كارتا) فأتى سكان المدينة بالشرطة، فقال الحاخامان: "هذان ليسا حرس المدينة، هذان مخربا المدينة (بالآرامية: ماخريفي كارتا)، فحراس ونواطير المدينة الحقيقيون هم الذين يُصلُّون في بيوت العبادة ويدرسون التوراة ويعلمونها للأطفال". ونواطير المدينة جماعة دينية يهودية أرثوذكسية من أكثر الجماعات عداءً للدولة الصهيونية، وقد ارتبطت كلمة «أرثوذكسية» في الخطاب الصحفي والإعلامي الشائع بتأييد التوسع والاستيطان والعنصرية الصهيونية، وهذا يدل على مدى سطوة الإعلامالصهيوني الذي يحدِّد معنى الكلمات ويفرض الدلالات. فاليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ظلت ترفض الصهيونية حتى عهد قريب، وهو رفض ينطلق من عدة أفكار (أو عقائد) جوهرية في العقيدة اليهودية. وما حدث هو أن العقيدة اليهودية تمت صهينتها من الداخل، بينما ظل أعضاء جماعة نواطير المدينة متمسكين بمبادئهم الدينية، والعقيدة الدينــية (على عكس العقيدة العلمانية) لا تتغيَّر ولا تخضع لموافقة أو رفض الأغلبية، ولذا إن انضمت الأغلبية الساحقة من الأرثوذكس للصهيونية ذات الديباجة الأرثوذكسية وذات المضمــون العلماني، فهذا لا يغيِّر من الأمور شيئاً.

ولكن الإعلام الغربي الصهيوني (العلماني) يصر على أن يستخدم كلمة «أرثوذكسي» بمعنى «متشدد» أو «متعصب» للإشارة إلى هؤلاء اليهود الأرثوذكس الذين تخلوا عن أرثوذكسيتهم وانسحبوا من المعارضة الدينية وانضموا للمعسكر الصهيوني العلماني.

ويرى أعضاء نواطير المدينة أن الصهيونية لا تمثل استمراراً للتراث الديني اليهودي أو تنفيذاً للتعاليم اليهودية وإنما رفضاً لها وانسلاخاً عن التراث الديني، بل إنالصهيونية من منظور الناطوري كارتا هي أخطر المؤامرات شيطانية ضد اليهودية. ولعل الفكرة الأساسية التي يرتكز إليها الرفض الأرثوذكسي للصهيونية هي فكرة الشعب اليهودي بالمفهوم الديني، فالشعب اليهودي بالنسبة لأعضاء هذه الجمعية ليس شعباً بالمعنى المُتعارَف عليه، وإنما هو أساساً جماعة دينية ظهرت إلى الوجود منذ ثلاثة آلاف عام. ويستمد هذا الشعب وجوده من ميثاقـه مع الخالق وهـو ميثاق دائم لا يمكن فهـمه. وحسـب هذا الميثاق، يلتزم كل اليهود بالتوراة وتعاليمها التي يقوم الحاخامات بتفسيرها كلٌّ في جيله. ورغم أن عقائد اليهود تشير إلى أنهم "شعب الله المختار"، إلا أن الهدف من هذا الاختيار ـ حسب أحد التفسيرات الدينية ـ ليس تمكين اليهود من السيطرة على العالم وإنما العكس، فقد اصطفى الإله اليهود ليقوموا على خدمته في الدنيا، وهم بهـذه الطـريقة يقومـون على خـدمة الجـنس البشري بأسره. وقد تم اختيار اليهود لا لأنهم شعب متعجرف أو جماعة منتصرة، وإنما لأنهم أكثر الناس تواضعاً وسلاماً. بل إن الاختيار يفرض على اليهود واجبات أكثر مما يمنحهم من حقوق. فترى الشريعة اليهودية أن هناك سبعة قوانين أساسية ملزمة لكل البشر كي يصبحوا بشراً (شريعة نوح)، وهناك عشرة قوانين (الوصايا العشر) ملزمة لأتباع الديانات التوحيدية (الإسلام والمسيحية)، ولكن اليهودي وحده عليه الالتزام بالأوامر والنواهي (متسفوت)، وهذه القوانين ملزمة لكل منْ وُلد لأم يهودية أو اعتنق اليهودية.

انطلاقاً من هذا الإيمان بإنسانية مشتركة وخصوصية دينية مستقلة يؤكد أعضاء جمعية نواطير المدينة أن اليهودية تبغض سفك الدماء بل تنادي بتحاشي ذلك بأي ثمن. بل يؤكدون أن العقيدة اليهودية تحض اليهودي على عدم المشاركة في السلطة الدنيوية وعلى رَفْض حمل السلاح. فعلى اليهود أن يتركوا مثل هذه الأمور للدولة التي يعيشون في كنفها. وهم يشيرون إلى واقعة يوحنان بن زكاي، الحاخام اليهودي مؤسس حلقة يفنه التلمودية الذي آثر أن يستسلم للرومان أثناء حصارهم للقـدس على أن يقـاومهم. وكان بذلك يهـدف إلى إنقاذ اليهودية، ولم يكترث من قريب أو بعيد بالدولة اليهودية. وحسب رأي أعضاء جماعة الناطوري كارتا، يعود الاستمرار اليهودي إلى الإصرار على أن اليهودية عقيدة دينية وليست حركة قومية. وتشير أدبيات الجماعة إلى الصراع الذي نشب بين الأنبياء والدولة العبرية، وخصوصاً أثناء حصار البابليين للقدس، إذ كان النبي إرميا يحرض على الاستسلام والتخلي عن السلطة السياسية حتى يمكن إنقاذ الهيكل من الخراب، فألقته السلطة السياسية في السجن. وبعد السبي إلى بابل طلـب إرميا من اليهود أن يعـبِّروا عن ولائهم للدولة التي يعيـشون في كنفها.

على العكس من هذا يرى الصهاينة أن اليهود إن هم إلا شعب مثل كل الشعوب يجب أن يحملوا السلاح ويلجأوا للعنف حتى يستعيدوا احترامهم لأنفسهم واعتزازهم بها، وأن يكون عندهم جيوش وبحرية وطيران وعلم خاص بهم، كما يؤمن الصهاينة بأن اليهود يجب ألا يخضعوا إلا للقانون العلماني، أما القانون الديني فيجب أن يطويه النسيان. بل إن الصهاينة ينكرون الطبيعة المقدَّسة للتوراة وينظرون إليها (وإلى الكتب الدينية اليهودية الأخرى) باعتبارها نوعاً من أنواع الفولكلور الذي يجب الحفاظ عليه باعتباره فلكلوراً وحسب.

وتتحول فكرة الاختيار الديني عند الصهانية إلى أفكار عنصرية سياسية، فيصير العنصر اليهودي عنصراً متفوقاً، ويمنح هذا التفوق اليهود حقوقاً معينة تَجبُّ حقوق الآخرين، ولذا يصبح من حقهم الاستيلاء على فلسطين وطرد العرب. وبدلاً من أن يخضع اليهودي لقوانين ديانته، فإن عليه أن يخضع للقوانين العلمانية السائدة بغض النظر عن اتفاقها مع القوانين الأخلاقية أو عدم اتفاقها.

وإذا كان نواطير المدينة يرون أن اليهودي يكتسب هويته من خلال أداء الشعائر الدينية، فإن الصهاينة يرون أن الإنسان من الممكن أن يبقى يهودياً بشكل عام حتى لو لم يمارس أياً من هذه الشعائر مثل الامتناع عن العمل يوم السبت أو الالتزام بقوانين الطعام (مثل عدم أكل لحم الخنزير) أو اتباع التشريعات الخاصة بالزواج، بل حتى إن أنكر وجود الإله. واليهودي الخيِّر لم يَعُد هو اليهودي التَقي الذي يتبع تعاليم دينه وينفذها وإنما هو اليهودي الذي يدفع بسخاء للدولة الصهيونية. وليس هناك ما يبعث على الدهشة من هذا الوضع فمؤسسو الحركة الصهيونية رفضوا الدين اليهودي ولم يلتزموا قط بتعاليمه أو قيمه الأخلاقية. وإذا كان المتدينون ينظرون إلى اللغة العبريةباعتبارها لغة دينية يَحرُم استخدامها في الشئون الدنيوية، فإن الصهاينة جعلوها لغة الحديث اليومية في المُستوطَن الصهيوني ثم جعلوها اللغة الرسمية للدولة.

وفيما يخص علاقة اليهودي بأرض الميعاد، يؤكد نواطير المدينة أن اليهـودي المتدين يتجـه بعواطفه وقلبه لهـذه الأرض (صهيون، أو إرتس يسرائيل، أو أرض الميعادالمقدَّسة) وخصوصاً مدينة القدس، فهم يذكرونها في صلواتهم عدة مرات كل يوم. ولقد تلا اليهود هذه الصلوات آلاف السنين، ولكن هذه الصلوات لا علاقة لها بالصهيونية أو بفكرة العودة الصهيونية. فنفي اليهودي من أرض الميعاد هو من الأوامر الربانية التي لا يمكن مخالفتها أو التمرد عليها، ولذا لا يملك اليهودي المتدين إلا أن يستمر في صلواته إلى أن يستجيب الإله لدعائه ويأمر بعودة اليهود.

فالماشيَّح المُنتظَر هو وحده القادر على إقامة الدولة، وحين يعود سيؤسس مملكة الكهنة والقديسين. أما الصهاينة فهم يحاولون التعجيل بالنهاية (دوحيكات هاكتس) ويدعون إلى العودة بقوة السلاح دون انتظار مشيئة الإله. ولذا، فدولة إسرائيل في نظر نواطير المدينة ثمرة الغطرسة الآثمة لأنها قامت على يد نفر من الكافرين الذين تمردوا على مشيئة الإله، وهي خيانة للشعب اليهودي الذي تأسَّس كجماعة دينية في سيناء (لا في أرض الميعاد). لكل هذه الأسباب يرفض نواطير المدينة دولة إسرائيل وكل مؤسساتها، بل يرفضون زيارة الحائط الغربي (حائط المبكى) لأن القدس تم فتحها بالقوة.

وتدَّعي الصهيونية أنها تحمي أمن اليهود بعد أن تعرَّضوا للإرهاب في الشتات آلاف السنين، وأنها بعثت الروح العسكرية في اليهود مرة أخرى لهذا السبب. وتبين أدبيات الناطوري كارتا أن عدد اليهود الذين قُتلوا في الأعوام القليلة الماضية ـ في حروب إسرائيل ـ يفوق كثيراً عدد اليهود الذين قُتلوا في أي مكان آخر. إن أمن اليهود يكمن في إمكانية تَصالُحهم مع الدول التي يعيشون بين ظهرانيها (كما قال النبي إرميا منذ أكثر من 2500 سنة)، ولهذا فإن تصوُّر أن الدولة الصهيونية ذات الجيوش الصهيونيةيمكنها أن تحمي اليهود هو تصوُّر خاطئ من أساسه. بل إن الجيتو الصهيوني الكبير يحتاج إلى دعم يهود المنفى لحماية أمنه أكثر من احتياج يهود المنفى إليه.

وتذهب أدبيات نواطير المدينة إلى أكثر من هذا، إذ يوجهون الاتهام للحركة الصهيونية بأنها حركة معادية لليهود، فالدولة الصهيونية تدَّعي أنها دولة كل اليهود، وأن اليهودي يتوجه بولائه للدولة اليهـودية وحـدها وليس للدولة التي يعيش فيها، وبالتالي فهي تخلق لليهود مشكلة ازدواج الولاء وتدعم الاتهامات المعادية لليهود. ولأنالصهيونية تزدهر بازدهار معاداة اليهود، فهي تُروِّج لها. بل إن الصهيونية تحاول أن تُقوِّض وضع اليهود أينما وُجدوا حتى تضطرهم للهجرة إلى إسرائيل. ومن الحقائق غير المعروفة التي يحاول نواطير المدينة تعريف الناس بها أن الصهاينة تعاونوا مع النازيين حتى يقضوا على يهود شرق أوربا باعتبار أن جماهير شرق أوربا اليهودية كانت القاعدة العريضة التي يستند إليها الرفض الديني للصهيونية، ووجود مثل هذا الرفض على مستوى جماهيري واسع كان سيسحب من الصهيونية أية شرعية.

وقد نجحت جماعة نواطير المدينة في الإفلات من براثن الصهيونية لأنها غلَّبت الطبقة التوحيدية داخل العقيدة اليهودية على الطبقة الحلولية التخصيصية الوثنية التي تجعل اليهود وحدهم مركز اهتمام الإله، وتمسكت بالحل الحاخامي لمشكلة الحلول.

1 ـ فعلى سبيل المثال، فصلت اليهودية الحاخامية العقيدة اليهودية عن الأرض المقدَّسـة، وهو ما يعني عـدم حـلول الإله في أرض بعينها، فهو مفارق للعالم.

2 ـ تمسكت اليهودية الحاخامية بمسألة أن اختيار اليهود أمر منوط بتنفيذهم الشريعة، وهو ما يعني أن الذات اليهودية لم تَعُد مقدَّسة من خلال الوراثة (وهو أمر مألوف فيالأنساق الحلولية). وإنما تُكتَسب القداسة من خلال ما يقوم به اليهودي من أفعال أخلاقية.

3 ـ جعلت اليهودية الحاخامية العودة (وتأسيس الدولة) مسألة منوطة بالأمر الإلهي ولا دخل للبشر فيها.

وقد أصر نواطير المدينة على هذه العناصر كلها، وهو ما يعني أنهم يؤمنون بفصل الخالق عن المخلوق، كما أكدوا عنصر الإنسانية المشتركة بين اليهود والأغيار، وهو عنصر موجود في التلمود وإن كانت بعض التفسيرات تتعمد إغفاله. وتمسُّك نواطير المدينة بالطبقة التوحيـدية هو الذي عصمهم من السـقوط في الوثنية الصهـيونية العلمانية، أي الترجمة الحديثة للطبقة الحلولية التقليدية.

وجماعة نواطير المدينة جماعة دولية تضم اليهود المتدينين في الولايات المتحدة وفي كل أنحاء العالم الذين يعارضون الصهيونية ودولتها. وكانت الجماعة جزءاً من حركة أجودات إسرائيل الأرثوذكسية التي قامت عام 1912 في شرق أوربا محاولةً تجميع اليهود الأرثوذكس من أجل معارضة الاتجاهات العلمانية خصوصاً الصهيونية. وبعد صدور وعد بلفور قدمت أجودات إسرائيل احتجاجاً إلى عصبة الأمم ضد الهيمنة الصهيونية على اليهود في فلسطين، كما أنهم رفضوا الانضمام إلى الفاعد ليومي أو اللجنة القومية (الكيان السياسي الصهيوني الذي كان من المفترض أن يمثل كل يهود فلسطين). وقد حاربت جماعة أجودات إسرائيل الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية بكل ضراوة. وفي عام 1927، طلبت بشكل رسمي من عصبة الأمم أن تبلغ سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين أن يكون لليهود المتدينين الحق في ألا ينضموا لهذه اللجنة وأن يكون لهم كيانهم السياسي المستقل. وقد قُبل طلبهم بشأن عدم الانضمام ورفض الشق الخاص بالاستقلال.

ولكن موقف الأجودات تحـوَّل بالتـدريج إلى المصـالحة مع الصهيونية، وانتهى بهم الأمر إلى مناصرتها والاندماج فيها. وقد تم هذا عن طريق تعديل متتالية الخلاص، فالمتتالية التقليدية هي: نفي ـ انتظار الماشيَّح ـ عودة الماشيَّح إلى فلسطين في آخر الأيام ـ عودة الشعب تحت قيادته. وقد عُدِّلت المتتالية لتصبح كما يلي: نفي ـ انتظارالماشيَّح ـ عودة مجموعة من اليهود للاستيطان في فلسطين للإعداد لعودة الماشيَّح ـ عودة الماشيَّح في آخر الأيام ـ عودة الشعب تحت قيادته.

وبدأت أجودات إسرائيل تتحدث عن وعد بلفور (بل عن الانتداب البريطاني) باعتبار أنه من وحي الوعد الإلهي لليهود ثم اعترفت بشرعية العمل الصهيوني وقامت بجمع التبرعات لصالح المنظمات العسكرية الاستيطانية الصهيونية مثل الهاجاناه (وفيما بعد شارك ممثلو أجودات إسرائيل في أولى حكومات المُستوطَن الصهيوني).

وبسبب هذه المواقف الموالية للصهيونية، انشق عن حركة أجودات إسرائيل بعض الأعضاء الذين قَدموا إلى فلسطين عام 1935 وافدين من ألمانيا وبولندا، وشكَّلوا تَكتُّل حيفرات حاييم الذي أصبح فيما بعد يُدعَى «ناطوري كارتا». ومن المعضلات الجوهرية التي يواجهها نواطير المدينة أنهم يعارضون فكرة التنظيم نفسها، فهم يرون أنفسهم جماعة دينية، وبالتالي فهم ينظرون إلى فكرة التنظيم السياسي باعتبارها فكرة غريبة بل معادية لهم (على عكس الصهاينة الذين قاموا من البداية بتنظيم أنفسهم تنظيماً دقيقاً واستغلوا الضغوط الدولية والمناورات السياسية خير استغلال). ومع هذا، بدأت الجماعة في نهاية الأمر نشاطها فاتهمت حركة أجودات إسرائيل بأنها، مثل حركة المزراحي (الصهيونية الدينية)، تمالئ الصهيونية. وأصدرت (منذ عام 1944) صحيفتها الخاصة وأخذت تشكل مجتمعها الخاص المستقل عن الكيان الصهيوني والقائم على التدين والزهد من جهة، والقطيعة مع المُستوطَن الصهيوني من جهة أخرى.

ولنواطير المدينة نمط حياتهم الاجتماعي والاقتصادي الخاص. ونسـاء نواطير المدينـة زاهـدات في الملبـس والمظهر الخارجي والمساحيق، وهن لا يتبرجن ويلبسن الملابس البسيطة (فهن يكتفين بالطهارة الروحية، على حد قول الحاخام هيرش ـ سكرتير عام الجمعية) كما يكرسن حياتهن لأسرهن. أما الرجل، فإنه يدرس التوراة والتلمود ويرعى أسرته ويمارس الحرف المتاحة له. ويرتدي رجال نواطير المدينة القمصان البيضاء بدون أربطة العنق والمعاطف السوداء والقبعات ذات الحواف العريضة (التي كانت شائعة في شرق أوربا) ولا يشذبون لحاهم أو سوالفهم الطويلة. وتتقيد الجماعة ككل بأسلوب الحياة بين يهود اليديشية في بولندا وروسيا. والحي الذي يقطنون فيه في القدس هو حي مائة شعاريم (المائة بوابة). أما في تل أبيب، فهم يوجدون في حي بناي براك، وفي نيويورك يتركزون في بروكلين في حي وليامز برج. وغداة إعـلان قـيام إســرائيل عام 1948، قامت الجمعية بإرسال رفضها قيام الدولة إلى الأمم المتحدة. وخلال معركة القدس، دعت الجمعية إلى هدنة وإلى تدويل القدس حتى يتم فصلها عن الكيان الصهيوني. وبلغ الأمر ببعض أعضائها أن أعلنوا صراحةً رغبتهم في العيش تحت الحكم الأردني. وقد أرسل الحاخام هيرش برقية إلى الأمينالعام لهيئة الأمم المتحدة يطلب بموجبها أن تعلن الأمم المتحدة أن حي المائة شعاريم إمارة مستقلة على غرار إمارة موناكو.

ولا تعترف جماعة نواطير المدينة بالدولة الصهيونية حتى الوقت الحاضر، ويقوم أعضاؤها بتنكيس الأعلام والصيام في يوم إعلان تأسيس الدولة الصهيونية. وهم ينظمون المظاهرات والاحتجاجات السياسية ضدها. وتتبنَّى جماعة ناطوري كارتا موقفاً إيجابياً من منظمة التحرير الفلسطينية ومن حقوق العرب في فلسطين وتعلن أن أعضاءهاعلى استعداد لأن يعيشوا كأقلية دينية تحت حكم حكومة فلسطينية تضمن حقوقهم السياسية. وتتعرض الجماعة ـ كما هو متوقع ـ لمضايقات كثيرة ومتواصلة من السلطاتالصهيونية حيث تقوم الشرطة الإسرائيلية بين الفينة والأخرى بمداهمة حي المائة شعاريم (بكلابها وهراواتها) لاعتقال بعض أعضاء الجماعة وخرق حرمات منازلهم، هذا بالإضافة إلى أن الحكومة الصهيونية تحاول تقليص حدود الحي بقصد خَنْقه وحَصْر خطره.

وقد بدأت جماعة الناطوري كارتا في الآونة الأخيرة في إعادة تنظيم نفسها وزيادة نشاطها وتكثيفه، كما بدأت تتعامل مع وسائل الإعلام والمنظمات الدولية المختلفة بشكل أكثر كفاءة، فأصبح لها مراقب في هيئة الأمم المتحدة. وقد قامت بدور فعال أثناء مناقشة قرار هيئة الأمم الخاص باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، كما أنهاتقوم الآن بدور تربوي واسع في صفوف اليهود وغير اليهود. وهي تدعو لإسقاط دولة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية في كل الأراضي الفلسطينية وتدويل القدس. ولجمعيةنواطير المدينة مجلس إداري يتكون من سبعة رجال لهم القرار في إدارة شئون الجماعة في الحياة الدنيوية والدينية. ويبلغ عدد أعضاء الجمعية حوالي 60 ألفاً، وأكبر تَجمُّع لهم في بروكلين في نيويورك، كما توجد جماعات صغيرة في لندن وأنتويرب ومونتريال وفي القدس.

بريــرا

Breira

«بريرا» كلمة عبرية تعني «الاختيار»، و«بريرا» جماعة يهودية أمريكية تحاول التملص من الصهيونية، أطلقت على نفسها هذا الاسم للرد على الشعار الإسرائيلي «إين بريرا ein briera» (أي «لا اختيار»). وقد ازدهرت هذه الجمعية في منتصف السبعينيات. وكانت تضم في صفوفها تحالفاً بين اليهود المتدينين (محافظين وإصلاحيين وأرثوذكس) واليهود غير المتدينين. ورغم أن أعضاء بريرا كانوا يسمون أنفسهم صهاينة، ويتبنون كثيراً من المواقف الصهيونية، ويؤكدون حق إسرائيل في البقاء، إلا أنالصهيونية التي كانوا يؤمنون بها كانت صهيونية توطينية مخففة (صهيونية الإحسان والإنقاذ والحفاظ على الهوية اليهودية أينما وُجدت) تؤمن بمركزية الدياسبورا (الجماعات اليهودية في العالم) في الولايات المتحدة وغيرها من الدول. وهم، لهذا السبب، كانوا يحاولون الحفاظ على مسافة بينهم وبين الدولة الصهيونية ليضمنوا استقلالهم الثقافي. كما أنها كانت صهيونية دخلت عليها قيم دينية وأخلاقية جعلت من المستحيل على أعضاء بريرا تَقبُّل سياسات إسرائيل دون تساؤل. وقد كان أعضاء هذه الجمعية يشجعون الاتجاهات المعتدلة داخل إسرائيل وينشئون علاقات مع من يُطلَق عليهم «الحمائم»، كما أنهم كانوا يؤيدون حق تقرير المصير للفلسطينين. ولكل هذا، لمتكن المؤسسة الصهيونية سعيدة بوجود هذه المنظمة، بل قضت عليها في نهاية الأمر.

الأجندة اليهودية الجديدة

New Jewish Agenda

منظمة أمريكية يهودية تأسَّست عام 1980، وهي من أهم المنظمات اليهـودية المتملـصة من الصـهيونية بعـد أن حُلَّت جماعة بريرا. وجماعة الأجندة اليهودية الجديدة من المنظمات التي يُقال لها «تقدمية»، ولذا نجد في برنامجها كل السياسات التقدمية الممكنة. وتزعم المنظمة أنها تَصدُر عن مفهوم «تيقون عولام» أي «إصلاح العالم»، وهو مفهوم قبَّالي حلولي يعني أن إصلاح العالم وتجميع شرارات الإله المتناثرة (أي ذاته) لا يمكن أن يتم إلا بمساعدة الشعب اليهودي. ومن يتصفح برنامج المنظمة يدرك على التو أنه لا علاقة له لا بالقبَّالاه ولا بالتراث اليهودي، وأنه إن كان يعبِّر عن أية حلولية فهي حلولية بدون إله أي حلولية المجتمعات العلمانية، إذ أن محرري برنامج أو أجندة الجماعة قد حولوا أنفسهم إلى مطلق يقرر كل القيم. والواقع أن القيم التي قرروا تبنيها هي القيم السائدة في الأوساط اليسارية التقدمية في الولايات المتحدة.

ومع هذا، يبدأ البرنامج بالديباجات القومية الإثنية المعتادة التي تضفي عليه الشرعية اليهودية اللازمة، فبعد الحديث عن التيقون عولام يتحدث أصحاب البرنامج عن إيمانهم بوحدة التاريخ اليهودي ووحدة المصير اليهودي، ثم يبدأ بعد ذلك الابتعاد التدريجي عن الحلولية التقليدية. فالأجندة اليهودية الجديدة تهتم ببقاء الشعب اليهودي وازدهاره. ولكن من الواضح أنها لم تُحوِّله إلى مطلق، فهو شرط الحياة وحسـب ولكنه ليـس هدفها، وهو الأساس المادي ولكنه ليس الهدف النهائي. وبعد هذا التعريف المبدئي، يذهب البرنامج إلى ضرورة أن تتقرَّر الأجندة من خلال "أخلاقياتنا" اليهودية، ومن خلال إمكانيات يهود الولايات المتحدة الإبداعية (لا من خلال أعدائنا). وانطلاقاً من هذه النقطة، تؤكد الأجندة البُعْد الروحي في حياة اليهود وضرورة بَعْث مؤسسة الصدقة (حالوقة) التراحمية. ثم يؤكد البرنامج أهمية ألا يتم تجنيد قيادات الجماعة اليهودية بناءًعلى وضعهم المالي. فمثل هذا الوضع أمر معاد لليهودية. والواقع أن طرح القضية على هذا النحو هو رسالة موجهة للقيادة الصهيونية في الولايات المتحدة التي تضم كثيراً من رجال الأعمال والصناعة. ثم يتوجَّه البرنامج بعد ذلك إلى أساس العلاقة مع إسرائيل، فيقرِّر أن كل اليهود مسئولون الواحد منهم عن الآخر (فالمسئولية مُتبادَلة)، ومصير الشعب اليهودي في أي مكان من العالم مرتبط بمصير اليهود في المكان الآخر لكن الارتباط هنا يعني الاستقلال وعدم التماثل. ومن هنا، يجب أن يهتم كل فريق بمصير وأمن الآخر بل بتوجُّهه الأخلاقي. ومعنى ذلك أن يهود العالم ويهود إسرائيل يجب أن يتعاملوا، الواحد منهما مع الآخر، على قدم المساواة. ورغم هذا الارتباط، فإن البرنامج يؤكد الاستقلال إذ أن القرارات الخاصة بإسرائيل وسياستها لابد أن يتخذها الإسرائيليون أنفسهم، تماماً كما ينبغي أن تُتخَّذ القرارات التي تؤثر في حياة الجـماعات اليهـودية من جـانب أعضاء هذه الجماعات. فهم، إذن، يرفضون مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، ويرفضون المفهوم الصهيوني الخاص بتصفية الدياسبورا واستقلالها. ولذا، فإن الأجندة تؤيد حق اليهود السوفييت في الحصول على حقوقهم الثقافية، وهو مطلب غير صهيوني ينبني على استمرار وجود اليهود السوفييت في بلدهم وعدم هجرتهم.

وترى الأجندة ضرورة الدخول في حوار ديموقراطي بل صراع بين يهود العالم وإسرائيل، وأن من واجب كل فريق أن ينبه الآخر إلى نقط قوته ونقاط ضعفه، ومعنى ذلك أن من حق يهود العالم توجيه النقد لإسرائيل. بل إن الأجندة ترى أن توجيه مثل هذا النقد ليس حقاً ولكنه واجب.

وفي مجال توجيه النقد لإسرائيل، أكدت الأجندة حق الإسرائيليين في تقرير المصير وضرورة الحوار والاعتراف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبعد هذا، تطالب الأجندة بكل شيء يُوصَف بأنه تَقدُّمي على وجه الأرض (أو في العالم الغربي على وجه التحديد): انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 ـ إنهاء الاحتلال وسياسة الضم والتوسع ـ وقف الاستيطان ـ المفاوضات المباشرة ـ إنهاء التمييز العنصري ضد السفارد والدروز والمزراحي والعرب ـ المساواة بين النساء والرجال ـ إنهاء احتكار المؤسسة الأرثوذكسية للحياة الدينية في إسرائيل ـ إنهاء التمييز ضد الشواذ جنسياً وضد المسنين ـ حرية الصحافة ـ الاهتمام بالبيئة ـ تأكيد أن دستور البلاد مبني على الاعتراف بحقوق كل المواطنين.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، وجهت الأجندة النقد لإسرائيل لأنها تدعم النظم الفاشية في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا ولأنها تورِّد السلاح لهم. كما تطالب الأجندة بضرورة نزع السلاح على مستوى العالم بأسره وبوقف عسكرة الاقتصاد العالمي، وتدين الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية... إلخ. وقد انضمت جماعة الأجندة اليهودية الجديدة إلى الفيدرالية اليهودية.

الباب الرابع: شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية

عائلــة مـونتاجــو

Montagu Family

عائلة يهودية إنجليزية من رجال المال والسياسة، من أصل سفاردي. وقد كانت عائلة مونتاجو تعارض الحركة الصهيونية من منظور اندماجي. وفي عام 1853، أسَّس صمويل مونتاجو (1832 - 1911) البنك التجاري: صمويل مونتاجو وشركاه الذي ساهم من خلال نشاطه في مجال المبادلات المالية في جعل لندن المركز الرئيسي للمقاصة في سوق المال العالمي. وقد ظلت الخزانة تستشيره في العديد من الشئون المالية. وقد حصل صمويل عام 1907 على لقب «بارون»، وكان عضواً في البرلمان.

واهتم صمويل مونتاجو بالشئون اليهودية، فسافر إلى فلسطين وروسيا والولايات المتحدة، إلا أنه ظل معارضاً للصهيونية بشدة. وقد كان ولداه الاثنان لويس صمويل مونتاجو (1869 - 1927) وإدوين صمويل مونتاجو (1879 - 1924) من معارضي الصهيونية أيضاً. وقد عارض إدوين، الذي احـتل عـدة مناصـب ســياسية مهمة، وعد بلفور.

وقبل صدور الوعد بأسابيع قليلة، كتب إدوين مذكرة نبه فيها إلى ما ينطوي عليه وعد بلفور من كراهية لليهود وعداء لهم، وبيَّن أنه لا يمكن الحديث عن أمة يهودية أو جيش يهودي. وقد كانت الحركة الصهيونية في ذلك الوقت قد بدأت محاولتها، التي كُللت بالنجاح في نهاية الأمر، من أجل إنشاء فيلق يهودي يضم المهاجرين اليهود من شرق أوربا، تحارب إلى جانب القوات البريطانية لتأكيد الوجود اليهودي المستقل. وقد قال مونتاجو إن تأسيس مثل هذه الفرقة يعني أن أخاه وابن أخيه سيضطرون إلى الخدمة العسكرية جنباً إلى جنب مع أناس لا يفهمون اللغة الوحيدة التي يتكلمانها (الإنجليزية). ثم أشار مونتاجو إلى أن العودة التي يتحدث عنها الدين اليهودي لا يمكن أن تتم إلا تحت إشراف العناية الإلهية. وأضاف بعد ذلك متهكماً أن بلفور وروتشيلد ليسا هما المسيح المخلِّص. ويعترف مونتاجو بأن فلسطين تحتل مكانة خاصة في قلوب اليهود، ولكن هذا ينطبق أيضاً على المسيحيين ، بل إن الأراضي المقدَّسة (حسب تصوُّره) تلعب دوراً أكثر مركزية في الرؤية المسيحية. كما بيَّن مونتاجو أن أعضاء الوزارة البريطانية والصهاينة ينظرون إلـى فلسطين من زواية ضيقـة تركز على حقبة واحدة من تاريخ فلسطين، بمعنى أنها تتجاهل الحقب غير اليهودية المختلفة والتي تشمل الجزء الأكبر من تاريخ فلسطين (ويشير مونتاجو في مذكرة، أخرى إلى عروبة فلسطين وإلى تاريخها العربي الطويل). وفي نهاية المذكرة، يضع مونتاجو النقط على الحروف فيقول: "حينما يكون لليهودي وطن قومي، فسوف يَنتُج عن ذلك على وجه اليقين أن يزداد الاتجاه نحو حرماننا من حقوق المواطنة الإنجليزية. ستتحول فلسطين إلى جيتو العالم". ومعنى ذلك أن من يعادون اليهود والصهاينة يحاولون حَصْر اليهود داخل جيتو قومي مُوسَّع، ولكنه جيتو محاط بأسوار عالية تفصل الحضارة والشخصية اليهودية عن عالم الأغيار. واقترح مونتاجو حرمان كل صهيوني من حق التصويت بدلاً من حرمان اليهود البريطانيين من جنسيتهم، وأضاف أنه يميل إلى التعامل مع المنظمة الصهيونية بوصفها منظمة غير شرعية تعمل ضد المصلحة الغربية الإنجليزية.

وقد أدَّت ضغوط إدوين مونتاجو (وغيره) على الوزارة البريطانية إلى تعديل النص الأصلي لوعد بلفور، بحيث لا تصبح الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها دولة كل يهود العالم وإنما دولة من يرغبون في الهجرة إليها. كما أعرب شقيقه عن أنه لا يعتبر اليهودية أكثر ديانة. ويُعتبر موقف عائلة مونتاجو من الحركة الصهيونية تعبيراً عن بعض الاتجاهات بين أعضاء الجماعات اليهودية المندمجين التي رفضت الصهيونية واعتبرتها تعبيراً عن عقلية الجيتو في خلطها بين الدين والقومية. كما رأت أن اليهود لا يشكلون سوى أقليات دينية يعتنق أعضاؤها الديانة اليهودية وينتمون، مثلهم مثل غيرهم من المواطنين، إلى دولتهم القومية التي هي مصدر ثقافتهم ومركز ولائهم. وقد رأى هؤلاء أن الصهيونية تشكل عقبة في طريق الاندماج السوي.

ومثل هذه العائلات كانت مُمثَّلة في مجلس مندوبي اليهود البريطانيين والهيئة اليهودية الإنجليزية التي عارضت الصهيونية ووعد بلفـور. وقد تهـاوت المعارضة على أسـاس اندماجي بعد صدور وعد بلفور، إذ لم يَعُد هناك مجال لازدواج الولاء لأن المشروع الصهيوني أصبح مشروعاً غربياً، بل مشروعاً استعمارياً إنجليزياً على وجه التحديد يخدم مصالح الوطن الأم.

مــوريتز جــودمان (1835-1918(Moritz Gudemann

حاخام وعالم ألماني منذ سنة 1894، وهو كبير حاخامات فيينا. له أعمال بارزة ضمن الإسهامات الثقافية لليهود، وبصفة خاصة في تاريخ التربية والثقافة عند أعضاء الجماعة اليهودية في الغرب في العصور الوسطى، مبنية على أثر البيئات غير اليهودية في الجماعات اليهودية.

وحينما كتب تيودور هرتزل كراسته المعنونة دولة اليهود، تصوَّر أن ثلاثة أشخاص قد يضعون فكرته موضع التنفيذ من بينهم جودمان (والآخران هما: دي هيرش وروتشيلد). فأرسل هرتزل أول خطاب إلى جودمان عام 1895 باعتباره واحداً من أهم المدافعين عن اليهودية، ولكن جودمان خيب ظنه إذ أنه كان من المدافعين عن اندماج اليهود في حضارات البلدان التي يعيشون في كنفها اندماجاً لا يؤدي بالضرورة إلى الانصهار. وحينما ظهرت كراسة هرتزل، أصدر جودمان كتيبه اليهودية القومية (عام1797) للرد عليه، وفيه حاول جودمان أن يثبت عدم وجود ما يُسمَّى بالشعب اليهودي. وقد طرح السؤال التالي على الصهاينة: من الأكثر اندماجاً: اليهودي الذييحتفظ بشعائر دينه ويندمج في المحيط الحضاري أم اليهودي (أي الصهيوني) الذي يخرقها كلها ليحتفظ بهوية إثنية لا أساس لها؟ وقد هاجمه هرتزل ونوردو بشراسة، فكلاهما لم يكونا يكترثان بالدين اليهودي بقدر ما كانا يهتمان بالهوية اليهودية وبتحقيقها باعتبارها وسيلة لإفراغ أوربا من اليهود.

هرمـان كوهين (1842-1918(Hermann Cohen

فيلسوف ألماني يهودي من أتباع الفيلسوف كانط، ومُؤسِّس مدرسة فلسفية تُسمَّى مدرسة ماربورج للكانطية الجديدة. تلقَّى تعليماً دينياً حديثاً ليصبح حاخاماً، ولكنه عدل عن رأيه وحصل على الدكتوراه وقام بالتدريس في جامعات ألمانيا.

كان كوهين متأثراً بتفكير موسى بن ميمون العقلاني، وكان اندماجياً قليل الاهتمام بالعقيدة اليهودية، فقد كان يرى أن ثمة ترادفاً بين المسيحية واليهودية (وقد قال لأحد أصدقائه مرة: "ما تسميه المسيحية أسميه أنا يهودية الأنبياء"). ولذا، كان يَنصبُّ قدر كبير من اهتمامه على تقديم قراءة جديدة لأعمال كانط. وكان كوهين يرى أن العـلاقة بين الخـالق والإنسـان تبادلية، فالخــالق مصدر القانون، والإنسان مصدر الإحساس بالواجب. وكان يذهب إلى أن الإله فَرْض منطقي يلزم عن القول بوجود مَثَل أعلى للعالم ينبغي تحقيقه.

وبعد أن عُيِّن كوهين أستاذاً في الجامعة، اضطر إلى أن يتخذ موقفاً من اليهود واليهودية بعد هجوم المؤرخ ترياتشكه على اليهودية إذ نشر كتاباً بعنوان كلمة عن يهوديتنا (1879) ذكر فيه أن اليهودية هي الديانة القومية لعنصر قَبَلي قومي غريب، وأن فلاسفة اليهود الذين يُبشرون بتعاليم تبدو حديثة، باصطلاحات معاصرة، يُبشرون في الواقع بتعاليم يهودية خاصة، ويبرزون المفاهيم الدينية اليهودية الخالصة من خلال التعلق بالفلسفات الكبرى، ويهاجمون المسيحية من خلالها. فنشر كوهين كتاباً في العام التالي بعنوان اليهودية: اعتراف يرد فيه عليه. وقد أعلن كوهين في هذا الكتاب أن يهود ألمانيا تم دمجهم تماماً في المجتمع الألماني، وليس ثمة ازدواج في الولاء. بل إنه كان يرى أن ثمة تبادلاً اختيارياً بين العقيدة اليهودية والحضارة الألمانية، وهو الاتجاه نحو العالمية وإسقاط الجوانب الشخصية. بل كان يرى أن الدولة هي أداة هذا الاتجاه نحو العالمية والإنسانية العامة (وهو بهذا يبيِّن مدى استيعابه فكر الاستنارة الأممي الطبيعي. وهو الاتجاه الذي وصل إلى قمته النظرية عند هيجل وإلى قمته التطبيقية عند هتلر في الدولة النازية). وفي عام 1888، قال أحد المدرسين الألمان إن التلمود يقرر أن الشرائع التوراتية لا تنطبق إلا على العلاقات بين اليهود، أي على العلاقات بين بعضهم والبعض الآخر وليس على العلاقات القائمة بين اليهود والأغيار، ومن هنا فإن التلمود يصرح لليهود بسرقة الآخرين وخداعهم. وهنا حاول كوهين أن يوفق بين فكرة الشعب المختار الانعزالية وفكرة العصر المشيحاني في صيغتها العالمية التي تؤكد وحدة البشر ونزوع الإنسان نحو الكمال فألَّف كتاباً بعنوان الحب الأخوي في التلمود. وقد وجد كوهين أن الحلقة التي تربط المفهوم الأول بالثاني هي ذلك المفهـوم الخـاص باعتبار الخـالق حامياً للغرباء، فرسالة يسرائيل، أو مهمتها الروحية، تبدأ من حقيقة اختيارها. ولأن الإله محب من البداية للغرباء، فإن اختيار يسرائيل لا يهدف إلى عزلهم وإنما هو شيء مُوجَّه نحو وحدة الجنـس البشـري وإنشـاء مملكة الرب في الأرض. والهدف الأساسي من وجود الشعب اليهودي هو إشاعة المُثُل الأخلاقية للفكر التوحيدي في العالم بأسره. وهي المُثُل التي طوَّرها الأنبياء اليهود الذين ساعدوا الدين على التحرر من الأسطورة والسحر. ومن الواضح أن كوهين يرفض الرؤية الحلولية، وبالفعل نجده يؤكد في كتاباته أن الخالق كيان فريد يختلف بشكل مطلق عن كل المخلوقات (ومع هذا يؤكد كوهـين أن اليهودية تعتبر الإنسان شـريكاً للإله في عملية الخلق).

ويمثل شتات اليهود جانباً إيجابياً في قَدَرهم، إذ أنهم بذلك يصبحون أداة ربانية لتحقيق غاية التاريخ النهائية، وهي توحيد كل البشر. والماشيَّح رمز انتصار الخير وتَحقُّق الرغبة الإنسانية في الكمال، ومن ثم فهو ليس ذا مضمون قومي، كما هو الحال في اليهودية الحلولية. لكل هذا، عارض كوهين في مقاله الدين والصهيونية (عام 1924) الفكر الصهيوني باعتبار أنه يمثل نكوصاً وردَّة عن النزعة المثالية العالمية. ويمثل فكر كوهين محاولة مُخلصة لتخليص اليهودية من الطبقة الحلولية مع أنها تركت رواسب مختلفة في كتاباته مثل حديثه عن الرسالة الخاصة لجماعة يسرائيل، كما أن ثمة خلطاً محدوداً بين المطلق والنسبي. ومن أهم أعماله كتاب دين العقل - من مصادر اليهودية. وقد أثرت كتاباته في فرانز روزنزفايج ومارتن بوبر وجوزيف دوف وسولوفايتشيك.

يوســف ســوننفلـد (1848-1932)Yosef Sonnenfeld

كبير حاخامات اليهود الأرثوذكس في فلسطين إبان فترة بداية الانتداب البريطاني وحتى وفاته عام 1932. وُلد في المجر، ومات أبوه وهـو صغير. وعارض رغبـة زوج أمـه في تعليمـه تعليماً علمانياً في صغره، وأصر على الانخراط في سلك الحاخامية اليهودية. وقد حصل سـوننفلد على شـهادة ترسـيمه حاخاماً وهو في السادسـة عشرة منعمره، ثم التحق بحلقة الحاخام الشهير أبراهام شاح وسافر عام 1873 مع معلمه إلى فلسطين ليحيا ويستقر.

كان عدواً لا يهدأ للصهاينة ودعاواهم العلمانية. وقد رفض منصب حاخام القدس بعد تنحية الحاخام شمويل سالانت. كما حارب النفوذ الصهيوني في المدارس اليهودية، وحارب ضد سيطرة الصهاينة على التجمع اليهودي في فلسطين. التقى الحاخام سوننفلد بالملك حسين (ملك الحجاز) لطمأنته، والإعراب عن رغبة السكان اليهود الصادقة في التعاون والسلام وحسن الجوار مع أصدقائهم وجيرانهم العرب.

وأصدر الحاخام سوننفلد عام 1929 بياناً يدعو فيه السكان العرب إلى العيش في سلام وحب مع اليهود مؤكداً لهم رغبة اليهود في التعبد بإخلاص وفي الحياة الدينية الخالصة في الأرض المقدَّسة ورفض المشاركة في أية إدانة صهيونية عامة للانتداب لأنه كان مقتنعاً بأن الاستفزازات الصهيونية المُتعمَّدة للعرب هي سبب القلاقل. أرسل عام 1931 تحياته كالعادة إلى المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس داعياً للعيش في سلام على الأرض المقدَّسة.

إسرائيل فرومكين (1850-1914(Israel Frumkin

صحفي روسي يهودي وُلد في روسيا البيضاء. سافر إلى فلسطين مع أبويه وعمره 9 سنوات، تزوج ابنة مؤسس صحيفة هافاتزيليت، ثاني الصحـف العــبرية. وبعد ما أصبح رئيساً لتحريرها، استمر في هذا المنصب مدة 04 عاماً. كان ناقداً لاذعاً للمستوطنين اليهود الأوائل، كما نقد فسادهم المالي والأخلاقي مطالباً بإصلاح حركة التوطين ولكنه غيَّر موقفه مع وصول دفعات جديدة من المستوطنين عام 1882 إذ أصبح عدواً لدوداً لحركة أحباء صهيون وكذلك هرتزل وآحاد هعام فيما بعد، وعارض بشدة الحركات التوطينية مع إيضاح طابعها العلماني غير الديني.

ومع تزايد نجاحات الحركة الصهيونية وجذبها العديد من المؤيدين الأوربيين والغربيين، بدأ توزيع جريدته في التراجع حتى توقفت عام 1910. وموقف فرومكين يلقي الضوء على اختلاف طبيعة الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل بعد الحركة الصهيونية. فمعارضته انحلال المستوطنين اليهود المادي والأخلاقي تحوَّلت إلى معارضة كاملة لفكرة الاستيطان اليهودية مع الصهيونية. ولذا، نجد أن دوائر المعارف والموسوعات اليهودية والصهيونية تُقلِّل الكلام عنه جداً، رغم أهميته التاريخية.

لوسيان وولف (1857-1930(Lucien Wolf

صحفي ومؤرخ بريطاني يهودي، كرس حياته للدفاع عن حقوق اليهود في البلاد التي يعيشون فيها (أي أن موقفه مع الحقوق اليهودية كان موقفاً معارضاً للموقف الصهيوني). كتب كثيراً من المقالات للمجلات البريطانية اليهودية وغير اليهودية. وكان وولف عضواً في اللجنة الأجنبية المشتركة التي أسستها الهيئة اليهودية الإنجليزية ومجلس مندوبي يهود بريطانيا. وقد حاول قصارى جهده أن يجد حلاًّ للمسألة اليهودية أينما ظهرت، وتركزت جهوده على روسيا ورومانيا. ولكن يُلاحَظ أن وولف كان دائماً يبحث عن حل للمسألة اليهودية خارج إطار الصهيـونية. ولذا، فقـد كرَّس حياته للدفـاع عن حقوق اليهود في أوطانهم. وقد أصدر مؤتمر السلام (1919) اتفاقية الأقليات الخاصة بالحقوق العرْقية والدينية للأقليات نتيجة جهوده، وهي معاهدة تهدف إلى ضمان حقوق اليهود المدنية والدينية في بلادهم. تَعاوَن وولف مع كثير من الوفود اليهودية في مؤتمر السلام ما دامت تتحرك خارج أي إطار صهيوني. وقد استمر وولف في نشاطه بعد الحرب العالمية الأولى باعتباره ممثل اللجنة الأجنبية المُشترَكة والأليانس وجماعة الاستعمار اليهودي.

عارض وولف النشاط الصهيوني وكتب مقالة بعنوان "الخطر الصهيوني" (1904 نشرها في مجلة تايمز. وقد تَعاوَن وولف مع زانجويل في المنظمة الصهيونية الإقليمية. كما أسَّس جمعية التاريخ اليهودي في إنجلترا، وكتب مؤلفاً يفند فيه الحجج التي أتت في البروتوكولات، وله كتاب عن يهود المارانو.

نيثــان بيرنبـــاوم (1864-1937(Nathan Birnbaum

كاتب سياسي نمساوي يهودي. وُلد في فيينا لعائلة حسيدية. تعرَّف إلى مُثُل حركة الاستنارة، فتخلَّى عن العقيدة اليهودية وتَبنَّى الحلول الصهيونية، واشترك في تأسيس منظمة شبابية هي منظمة قديما (1882). وفي عام 1884، صدر أول أعداد مجلته الانعتاق الذاتي (سميت باسم كراسة بنسكر)، وكان هو ناشر المجلة ومحررها وطابعها. وقد بلور بيرنباوم الفكرة الصهيونية قبل ظهور هرتزل ونشر كتاباً عن المسألة اليهودية عام 1893 بعنوان البعث القومي للشعب اليهودي في أرضه كوسيلة لحل المسألة اليهودية.

تَعاوَن بيرنباوم في بداية الأمر مع المنظمة الصهيونية العالمية، وحضر المؤتمر الصهيوني الأول (1897 ومن المعروف أنه أول من استخدم كلمة «صهيونية» بمعناها الحديث (في مجلة الانعتاق الذاتي عام 1890). وقد عرَّف الصهيونية بأنها حركة ترى أن القومية والعرْق والشعب شيء واحد، وهي الدعوة التي جعلت السمات العرْقية اليهودية قيمة نهائية مطلقة بدلاً من الدين اليهودي، وخلَّصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية. ولذا، فإن الصهيونية حركة للدفاع عن مصالح العرْق اليهودي. ولكن بعد عام 1897، ظهرت مشاكل بينه وبين التعريف الهرتزلي للأمة اليهودية، إذ أن هرتزل (وهو يهودي غير يهودي) كان يرى أن العداء لليهود هو مصدر تماسك اليهود ومصدر هويتهم. أما بيرنباوم، فكان يرى أن الهوية اليهودية لها قيمة في حد ذاتها وأن وجود اليهود في أنحاء العالم ليس أمراً سلبياً، وأن الثقافة اليهودية أمر يستحق التطوير (ومن هنا كانت محاضرته في المؤتمر الصهيوني الأول عن الصهيونية كحركة ثقافية). وهو، لهذا السبب، كان يرى أنه لا تَعارُض بين محاولته البحث عن وطن للفائض البشري اليهودي وولائه لوطنه كيهودي مندمج. ولهذا السبب، رشَّح بيرنباوم نفسه للبرلمان النمساوي كصهيوني عام 1907 (وخسر في الانتخابات). وقد تطوَّر موقفه هذا بالتدريج إلى أن أصبح من رافضي الصهيونية وأصبح من دعاة القومية اليديشية (قومية الدياسبورا) كحل للمسألة اليهودية. ولذا، نجده يؤكد أهمية الإسهامات الحضارية اليديشية وأهمية الحفاظ على هويتهم، فدافع عن اليديشية (مقابل العبرية) ودعا إلى مؤتمر تشيرنوفيتس 1908 الذي نادى بأن اليديشية هي اللغة اليهودية القومية، تماماً مثل العبرية.

ولكنه كما تجاوز الصهيونية، واكتشف قصورها واختزاليتها، اكتشف أيضاً أن الدعوة للقومية اليديشية أمر لا يكفي إذ اكتشف أن اليهود ليسوا جماعة عرقية أو إثنية وإنما هم جماعة دينية، وأن جوهر الوجود اليهودي هو العقـيدة اليهودية. وهذا ما يُفرِّق بين اليهـودي والوثني، ويُفرِّق بين الحياة السعيدة في العالم الرباني ووحشية الوثنية وأنانيتها. وقد كان اكتشاف بيرنباوم لحقيقة العالم الحديث ووحشيته وماديته اكتشافاً فجائياً غيَّر مجرى حياته تماماً، فاكتشف ما تصوَّر أنه المعنى الحقيقي لتاريخ العالم: نضال قوى الخير الرباني لهزيمة عالم الوثنيين. كما اكتشف أن الغرض من الوجود اليهودي هو الإبقاء على النور الإلهي مشتعلاً. ولذا، يجب أن يكرِّس اليهودي نفسه لخدمته كما فعل منذ بداية التاريخ. لكل هذا، اتجه بيرنباوم لليهودية الأرثوذكسية وانضم لجماعة أجودات إسرائيل وأصبح رافضاً تماماً للصهيونية.

وقد تَعمَّق هذا التيار عند بيرنباوم إلى درجة أنه كان يرى ضرورة عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن العالم الوثني. ولذا، نادى بإنشاء مسـتعمرات لليهود (سـماهم «عوليـم» أي «الصاعدون») خـارج المدن الكبيرة، يمارس فيها اليهود الزراعة والحرف، ويمارسوا شعائرهم ويحافظوا على لغة اليهود وزيهم وثقافتهم.

ولبيرنباوم عدة مؤلفات من أهمها الاعترافات (1917)، كما نشر ابنه سولومون بيرنباوم مختارات من كتاباته بالإنجليزية بعنوان الجسر (1956(

يوسف دوشينسكي (1867-1948(Yosef Dushinsky

حاخام أرثوذكسي معاد للصهيونية، وُلد في المجر. أسس مدرسة حاخامية في جالانتا عام 1895، وزار فلسطين للمرة الأولى عام 1932. وقد تُوفي الحاخام الأكبرسوننفلد أثناء زيارته، فعُرض عليه منصب حاخام القدس لكنه رفض وعاد لتشيكوسلوفاكيا، ثم عاد وقَبل المنصب تحت ضغط حاخام فلنا وغيره من كبار الحاخامات عام 1933. وبدأ نشاطه ضد الدعاية الصهيونية فوراً. شهد عام 1936 أمام لجنة بيل ضد الصهاينة، وطلب رفع وصايتهم عن حياة اليهود، وأدان نظرة الدول إليهم باعتبارهم ممثلين لليهود. طلب عام 1946 من اللجنة الأنجلو أمريكية الخاصة أن يسمحوا لليهود بالعيش في سلام ودعة للعبادة في الأرض المقدَّسة وليس لإقامة دولة. ورفض، أمام اللجنة الخاصة للأمم المتحدة، إقامة الدولة الصهيونية التي اعتبرها الخطر الأول على يهود العالم. وطلب أن تُترك القدس (على الأقل) حرة مقدَّسة. واحتج علناً على تصرفات الصهاينة غير الأخلاقية، وأدان تجنيدهم النساء، بل دعا كل النساء حتى للانتحار بدلاً من ارتكاب المعاصي الأخلاقية. وحرَّم على طلابه حتى الاعتراف بدولة إسرائيل. وقد قابل الكونت برنادوت في محاولة لإطلاع الأمم المتحدة على رفض اليهود للدولة الصهيونية.

موريس كوهين (1880-1948(Morris Cohen

فيلسوف أمريكي يهودي. وُلد في روسيا ولكنه هاجر مع أسرته إلى الولايات المتحـدة وهو بعـد في الثانية عـشرة. درس في سـيتي كوليج، وحينما التحق بهارفارد درس معوليام جيمس وجوشيا رويس (فلاسفة البرجماتية). عُيِّن أستاذاً للفلسفة في سيتي كوليج في نيويورك عام 1912 واستمر في التدريس فيها حتى عام 1938 ثم أصبح أستاذاً للفلسفة في جامعة شيكاغو بين عامي 1938 و1940، كما أصبح رئيساً للرابطة الفلسفية الأمريكية (1928).

تركَّز اهتمام كوهين على فقر الطبقات العاملة، وليعمق رؤيته لهذه القضية درس فلسفة القانون. واكتشف أن الموقف الرجعي المحافظ الذي يتخذه كثير من القضاة الأمريكيين نابع من فكرة القانون الطبيعي بينما ذهب هو إلى أن القانون هو نتاج تطوُّر تاريخي إنساني. ولكن أهم كتبه هو العقل والطبيعة: مقال في معنى المنهج العلمي (1931). كما كتب دراسة أخرى في الموضوع نفسه بعنوان مقــدمة للمنطق والمنهج العلمي (1934) بالاشتراك مع إرنست ناجل. أما أساس المنطق (1945)، فهو عن علاقة المنطق بالعلوم. وقد امتدت اهتمامات كوهين لتشمل الأخلاق، فكتب دراسة بعنوان معنى التاريخ البشري (1947) حيث يقدم رؤية للتاريخ باعتباره دورات من النمو والانحلال وليس خطاً مستقيماً. وذهب إلى أن التــاريخ دائري، إلا أن الحــق سـينجح في تأكيد نفسـه من وقت لآخر، أي أن الدائرية ليست كاملة. وقد عبَّر عن آراء مماثلة في مجموعة مقالاته عقيدة الليبرالي (1946(

وقد بيَّن كوهين كيف هيمنت أفكار القومية العضوية (التي تقف على الطرف النقيض من القومية الليبرالية)، وكيف عبَّرت عن نفسها من خلال الفكر الصهيوني. ويذهب كوهين إلى أن فلسفة الاندماج الليبرالية تعود إلى الفيلسوف إسبينوزا الذي بيَّن أن اليهود، مثل سائر الجماعات الإنسانية الأخرى، يرتبطون بوشائج المعاناة، وأن الأمم كلما ازدادت استنارة وأزالت القيود المفروضة على اليهود، سيتبنى هـؤلاء عادات الحـضارة الغــربية، وبذا ستُحل المسألة اليهودية. ولكن عملية تحرير اليهود وإعتاقهم لم تبدأ إلا في القرن التاسع عشر. ورغم أن اليهود تبنوا مُثُل الليبرالية العقلانية، إلا أن تحريرهم الكامل لم يتم ولم يُمنَحوا حقوقهم كافة إلا مع نهاية القرن التاسع عشر، ولذلك فقد اعتنق بعض اليهود مُثُل القومية الرومانتيكية التي بدأت في ألمانيا كرد فعل لمُثُل الثورة الفرنسية الليبرالية العقلانية المستنيرة. وقد أدَّى هذا بدوره إلى انتشار الفكر الصـهيوني الذي يسـتند إلى مقولات النظرية العرْقية. ولكن الصهاينة، بدلاً من أن يُنصِّبوا الجنس التيوتوني جنساً أسمى، يضعون اليهود في المكانة المتفوقة نفسها باعتبارهم الشعب الذي له «روحه» الفريدة التي لا يمكن أن تعبِّر عن نفسها إلا في فلسطين ومن خلال اللغة العبرية.

وقد صدرت بعد وفاته مجموعة مقالات بعنوان تأملات يهودي تائه (1950) وهي مجموعة مقالات قصيرة عن اليهودية.

يعقـوب دي هـان (1881-1924(

Yakov De Hann

أستاذ قانون دولي ورجل دين يهودي هولندي. وُلد لأسرة متوسطة متعلمة من اليهود الأرثوذكس حيث كان والده معلماً. تَخرَّج في مدرسة المعلمين حيث أظهر مقدرة فائقةفي الشعر ونُشرت أشعاره في العديد من الصحف الهولندية وقدرته الأوساط الأدبية. وقد أعجبته الطبيبة يوهانا فان مارسيفين، وهي غير يهودية ومن أسرة غنية، وتحوَّل هذا الإعجاب إلى حب فتزوجا. وقد قامت زوجته الغنية بتمويل دراساته الجامعية حتى تَخرَّج حيث عمل بعدئذ محاضراً في الجامعة. انضم دي هان للاشتراكيين الديموقراطيين، وسافر إلى روسيا ضمن وفد حزبي، وعند عودته ألف كتاباً عن أحوال المعتقلين السياسيين في سجون القيـصر. وقد كانت رحلتـه تلك سـبباً في تَحوُّل مجرى حياته تحوُّلاً عميقاً، فقد تأثر كثيراً بمذابح اليهود ورفع تقريره للقصر الملكي الهولندي. لكنه وجد استهزاء من جانب المستشارين اليهود.

تراجع دي هان عن الاشتراكية وانفصل عن زوجته وعاد إلى اليهودية وأصدر عام 1918 كتاب الأنشودة اليهودية الذي تلقفته الدعاية الصهيونية، فهاجر إلى فلسطين باعتباره أول هولندي صهيوني يهاجر إلى هناك عام 1919. وعمل دي هان في فلسطين مراسلاً لجريدة هولندية تَصدُر في أمستردام، كما عمل أيضاً لجريدة ديلي إكسبريس اللندنية. وكان يلقي محاضرات في كلية القانون التابعة للحكومة في القدس حين تَعرَّف إلى الحاخام الأرثوذكسي سوننفلد وعرف وجهة النظر الأرثوذكسية اليهودية المتدينة في الصهيونية العنصرية العلمانية المتعصبة. وشيئاً فشيئاً غيَّر دي هان انتماءه السياسي والعقائدي وأصبح من أعداء الصهيونية والمتحدث باسم اليهودية الأرثوذكسية وأجودات إسرائيل (التي كانت حينذاك معادية تماماً للصهيونية من منطلق ديني)، وانبرى للدفاع عن حقوق العرب في أرضهم. وقد أرسل عشرات العرائض والدعاوى لعصبة الأمم رافضاً حق الصهاينة العلمانيين في التحدث باسم الجماعات اليهودية كلها وحصل في النهاية على حق أن يعتبر كل يهودي متدين نفسه خارج نطاق الوكالة اليهودية، وضمن ذلك حق رفض دفع الضرائب.

وقد أثارت مواقفه المتوالية ضد الصهيونية ونشاطه الفعال ضد الاستيطان الصهيوني استياء المؤسسة الصهيونية، فبدأت الصحف الصهيونية مثل هآرتس في مهاجمتهبعنف، ودعته بالخائن، وأعلنت أنه عنصر خطر ينبغي التخلص منه. بيد أن هذا الهجوم المادي والمعنوي لم يثنه عن عزمه وعن كراهيته وعدائه للصهيونية التي كان يراها الخطر الأكبر على اليهودية بل على القيم الإنسانية كلها. ونظَّم الصهاينة مقاطعة شاملة لمحاضراته في الجامعة الأمر الذي دعا دي هان إلى الاستقالة. وكان رد دي هان على هذه الاعتداءات قوياً وحكيماً، فقد نظم اجتماعاً شديد الأهمية بين الشريف حسين ملك الحجاز والأمير عبد الله أمير إمارات شرق الأردن والملك فيصل ملك العراق وبين كبار الحاخامات اليهود الأرثوذكس. وقد صعَّد هذا الهجوم الصهيوني ضد اليهود الأرثوذكس عامة ودي هان على وجه الخصوص. وقد تلقى دي هان العديد من التهديدات بالقتل ما لم يترك فلسطين فوراً. بل إنه تنبأ بموته حين قال لمراسلين صحفيين فرنسيين "سوف ترون، سيقتلني الصهاينة، فهذا ديدنهم".

وفي 29 يونيه عام 1924، كتبت إحدى الجرائد الصهيونيـة محـذرة: "إن الخائن دي هان سيرحل إلى لندن ليخطب أمام مجلس العموم البريطاني ويحطم طموحات اليهود القومية". وفي 30 يونيه عام 1924، تم اغتياله بالفعل، وثبت تَقاعُس المستشفى الذي نُقل إليه عن إنقاذه، وكذلك فقد تغاضت قوات الشرطة المُكلَّفة بحمايته عن القيام بواجبها، وكان الصهاينة من الوقاحة بحيث إنهم اتهموا العرب بقتله وأرجعوا اغتياله إلى علاقة جنسية شاذة بينه وبين أحد العرب.

ومما يجدر ذكره أن موسوعة الثقافة اليهودية لا تذكر دي هان رغم أهميته الأدبية الكبرى في الأدب الهولندي المعاصر، فقد أثارت روايته الأولى جدلاً واسعاً لأنها دخلت منطقة محرمة حول العلاقات الشاذة بين الرجال في المدارس الداخلية. وعلى أساس هذه الرواية، كان الصهاينة يبنون اتهامهم له بالشذوذ والتورط في علاقات شاذة مع العرب. وبعد مرور خمسين عاماً من مقتل دي هان، اعترف الصهاينة بتدبير اغتياله، وبذا كان الحاخام دي هان أول الضحايا اليهود الذين اغتالهم الصهاينة.

يوئيـل تايتلــباوم (1887-1979(

Joel Teitelbaum

كبير حاخامات الفرقة الحسيدية المسماة «ساتمار» وجماعة نواطير المدينة الأرثوذكسية. وُلد في رومانيا داخل أسرة حاخامات عريقة. وقد تيتَّم صغيراً، ورُسِّم حاخاماً وعمره 17 عاماً. وقد أسَّس مدرسة حاخامية في ساتمار (رومانيا) عام 1906. كان الحاخام تايتلباوم، منذ البداية، عدواً لدوداً للصهيونية، وكان يرى أنها مصدر كل الموبقات والشرور. وقد سُجن في معسكرات الاعتقال النازية وهرب وأُعيد اعتقاله عدة مرات، ونجح في النهاية في الهرب إلى سويسرا ثم ذهب إلى فلسطين لفترة قصيرة. وفي فلسطين، طالب يهود العالم بإدانة الصهيونية وطرقها المخادعة والدنيئة ودعا إلى التنصل منها تماماً. ثم ارتحل إلى الولايات المتحدة حيث استقر هناك منذ عام 1946 وحتى وفاته. وأسَّس قرية حسيدية في وليامزبرج وهي ضاحية من ضواحي نيويورك، وأطلق عليها اسم قرية يوئيل. وقد لاقى الحاخام وفرقته الأمرَّين من قبَل سلطات نيويورك للحصول على التصريح بإقامة قريتهم تلك حتى نجحوا في ذلك. وكان الحاخام يُدين الصهيونية في كتاباته دائماً، كما كان يصفها بالخداع والكذب وبأنها ستؤدي بيهود العالم إلى الدمار والهلاك المادي والروحي. وحذَّر غير مرة من الحروب العدوانية التي تَشنُّها الدولة الصهيونية. وكان الحاخام لا يعترف بالدولة الصهيونيةويحرض على مقاطتعها. ولأنه حاخام القدس، فقد كان يزور فلسطين من وقت لآخر ولكنه كان يرفض أن يستقل القطارات التي تحمل رموز الدولة الصهيونية.

وقد أصدر الحاخام تايتلباوم كتاباً دينياً من ثلاثة أجزاء: يختص الجزء الأول ببعض المحظورات التي وردت في التلمود ومن أهمها ألا يثور اليهود ضد الأمم وألا يهاجرواهجرة جماعية إلى الأرض المقدَّسة. والجزء الثاني يختص بالحياة في الأرض المقدَّسة وبيَّن فيه أنه لا يوجد أي إصرار في التوراة على ذلك. والجزء الثالث كان عن استخدام العبرية كلغة تَخاطُب، وقد أدان ذلك بل حرَّمه معلناً أن هذا تدنيس للسان المقدَّس.

وقد أصدر تايتلباوم كذلك كتاباً دينياً حول حرب 1967 فأدانها وأنكر أن انتصارات القوات الصهيونية هو من قبيل المعجزات. وقاطع تايتلباوم حزب أجودات إسرائيل الديني لتخليه عن معارضة الصهيونية ودخوله الحكومة والكنيست.

هانـز كـون (1891-1971(Hans Kohn

مؤرخ أمريكي يهودي درس الدكتوراه في جامعة براغ، واستقر في فلسطين عام 1925 ولكنه تركها عام 1934، ثم استقر في الولايات المتحدة حيث عمل أستاذاً للتاريخ في كلية سميث كوليج من عام 1949 حتى عام 1962 وفي سيتي كوليج في نيويورك.

ويدور اهتمام كون حول فكرة القومية، وأهم أعماله هي: فكرة القومية (1944)، و عصر القومية (1962)، و مقدمة للدول القومية (1967). وله كتاب عن بوبر وهاينيوآحاد هعام، واختياره لهذه الشخصيات يدل على قلقه من الفكرة الصهيونية، وهو قلق عبَّر عنه في دراسته صهيون وفكرة اليهودية القومية. ويقول كوهن في دراسته هذه: "لا توجد حضارة عظيمة لم تتأثر بالحضارات الأخرى أو تقتبس منها، سواء في مجال الدين أو في مجال اللغة أو القوانين أو العادات. وهكذا كان اليهود، فقد بلغوا درجة عالية من الامتياز بعد أن تركوا فلسطين واختلطوا بالشعوب الأخرى، ومن هنا ظهرت بينهم أسماء المشاهير أمثال هايني وماركس وبرجسون. وعلى حد قوله، فإن العودة للأصل ليست بالضرورة شيئاً إيجابياً يزيد من درجة الإبداع. فالفرنسيون لم يضرهم كثيراً تخليهم عن لغتهم الأصلية الغالية وتبنيهم لغة الغزاة الرومان. بل إن مصدر التشريع الأوربي كله هو القانون الروماني، وهو قانـون فُــرض فرضاً من الخــارج على أوربا ولـم ينبع من داخلها.

ويبيِّن هانز كون أن ثمة تيارين متعارضين داخل اليهودية: تيار قومي وآخر معاد للقومية، وأن التوراة جاء فيها أن زعماء الشعب اليهودي ذهبوا إلى النبي صمويل وطلبوا منه أن يُنصِّب عليهم ملكاً، أي أنهم كانوا يطلبون أن يكونوا مثل كل الأمم وأن تكون لهم حكومة مثل كل الحكومات ودولة مثل كل الدول. وحينما رفض النبي أن يفعل ذلك، أخبره الإله أن يساير اليهود لأنهم بإصرارهم على أن يكونوا مثل كل الشعوب الأخرى لم يرفضوا صمويل وإنما رفضوا الإله نفسه، فهم يودون أن يكونوا خدماً للدولة بدلاً من أن يقوموا على خدمة الإله. وقد أسَّس اليهود دولتهم بالفعل، ولكن الأنبياء أخذوا منها موقف المعارضة، فقام إرميا بالهجوم عليها كما قام عاموس بإعادة تفسير فكرة الشعب المختار حسب أسس جديدة، فالاختيار حسب تفسيره لا يعني أن الإله منح اليهود حقوقاً خاصة، ولا يعني أن انتصارهم على الآخرين أمر أكيد، وإنمايعني أن الإله سيُنزل بهم أشد العقاب إذا ارتكبوا أية خطايا حتى ولو كانت عادية "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" (عاموس 3/2). بل إن عاموس كان راديكالياً في تفسير فكرة أرض الميعاد نفسها، فحسب رؤيته لا يوجد أي فرق بين جماعة يسرائيل والأجناس الأخرى. إن مساعدة الإله لليهود على الخروج من أرض مصر ليست مقصورة على اليهود، فالإله يساعد كل الشعوب ولا يميِّز بين شعب وآخر. وقد جاء في سفر أشعياء هذه الرؤية العالمية الشاملة لمستقبل يضم كل البشر "في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجيء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعبد المصريون مع الآشوريين... مبارك شعبي مصر وعمل يدي آشور وميراثي إسرائيل" (أشعياء 19/25).

ويذكر كون أيضاً في مجال تقديم رؤية اندماجية للتاريخ اليهودي حادثة يفنه، وذلك حين قام الحاخام يوحنان بن زكاي بالهرب من القدس أثناء حصار الرومان لها وأقام مدرسة تلمودية في يفنه وذلك حتى يضمن ألا يباد كل الفقهاء والحاخامات، ولا يبقى منهم أحد يحمل مشعل الشريعة وينقلها ويفسرها للشعب بعد سقوط القدس. وبهروبه هذا، تخلَّى يوحنان بن زكاي عن فكرة الدولة اليهودية، وأثبت أن الدولة في تاريخ اليهود ليست سوى ظاهرة عرضية وأن اليهودية كدين وكتراث حضاري ظاهرة فريدة مستمرة تضرب بجذورها في عالم الروح اليهودية. ومن الواضح أن الهدف من هذه القراءة للتاريخ اليهودي هو إثبات أن الرؤية الصهيونية لليهود واليهودية متناقضة مع تجربة اليهود التاريخية ومع القيم الأخلاقية والدينية التي تدافع عنها اليهودية كدين.

ويَظهَر التناقض بين الصهاينة والاندماجيين بشكل جلي في موقفهم من معاداة اليهود. فبينما يرى الصهاينة أنه مرض أزلي أو جرثومة حتمية خبيثة يصاب بها كل الأغيار في كل زمان ومكان، يؤكد هانز كون أن الاندماجيين ينظرون إليها بشكل عقلاني على أنها مرض اجتماعي يتغيَّر بتغير الظروف. وبالتالي، إذا ازدادت المجتمعات الإنسانية استنارة وعقلانية خفَّ خطر معاداة اليهود.

ويثير كون قضية تَعارُض الصهيونية مع حقوق اليهود، فالصهيونية لا تطالب بالحرية الفردية لليهود وإنما تطالب بالاستقلال الجماعي لهم وبحقهم في الهجرة، وهذا أمر يتنافى مع التقاليد الليبرالية التي لا تتعامل إلا مع الأفراد كأفراد ولا تتعامل إلا مع حقوق الأفراد داخل أوطانهم. وبالتالي، فإن الطرح الصهيوني لقضية الحقوق اليهودية يضر بهذه الحقوق وبحقوق كل يهودي يرغب في البـقاء في وطـنه وفي الحصول على حقوقه السياسية والمدنية.

ولم تُشر أيٌّ من الموسوعات اليهودية التي تناولت مؤلفات كون وفكره إلى موقفه من الصهيونية ككل واكتفت بالحديث عن كتاباته الأكاديمية العامة. وقد نشر كون سيرته الذاتية الحياة في ثورة عالمية (1964).

موشـيه منوهـين (1893-1982(Moshe Menuhin

مفكر يهودي مناهض للصهيونية ووالد عازف الكمان العالمي يهودا منوهين. وُلد عام 1893 في روسـيا من عائلة حــسيدية شهيرة، ثم هاجر إلى فلسطين ليعيش في كنف جده. تلقَّى تعليمه الأولى في المدارس التلمودية بالقدس ثم أكمل تعليمه الثانوي في مدرسة هرتزليا الصهيونية في تل أبيب. ثم ذهب إلى نيويورك حيث أتم دراساته الجامعية هناك عام 1917. وقد تأثر في هذه الفترة بآراء آحاد هعام ومارتن بوبر ويهودا ماجنيس، ومن ثم أعلن معارضته وعد بلفور والصهيونية الدبلوماسية (الاستعمارية) التي رآها مجرد تزييف لليهـودية، وخـطراً داهماً على البشرية ينذر دائماً بحــمامات دم. ومن ثم، فقد رفـض العـودة إلى فلســطين واستقر في كاليفورنيا.

وقد سافر منوهين مع أسرته لدول عديدة وتَقابَل مع عدة سياسيين مهمين في بلدان مختلفة، وعبَّر مراراً وتكراراً عن أسفه وقلقه بشأن الوضع المتدهور في الشرق الأوسط. وعن حزنه لآلام ومتاعب سكان فلسطين من العرب الذين يُطرَدون من ديارهم. انضم منوهين إلى المجلس الأمريكي لليهودية لعدة أعوام، وكان من محركي فكرة معارضةالقومية اليهودية التي قادها برجر وعبَّر عن هذه المعارضة في كتابه انحطاط اليهودية في عصرنا (1969)، ولكنه استقال من المجلس الأمريكي لليهودية بعد أن تخلَّى عن سياسة معارضة الصهيونية عام 1967. وشارك منوهين في تأسيس منظمة "بدائل أمريكية يهودية للصهيونية"، ولكنه استقال منها عام 1972 لضعف تأثيرها وقلة حيلتها على حد قوله. واستمر مناهضاً شديداً للصهيونية التي رآها خطراً محدقاً بالعالم أجمع وباليهود، حيثما كانوا، بصفة خاصة. وأكد منوهين أن الصهيونية تتعارض مع انتماء اليهود القومي في البلاد التي ينتمون إليها، ومن ثم فإنها تشكل عقبة في سبيل أن يحيوا حياة طبيعية منتجة سواء على المستوى العملي أو على المستوى النفسي، وعبَّر منوهين عن هذه الآراء في كتابه نقاد الصهيونية اليهود (1974).

وقد شرح منوهين الفرق بين الصهيونية واليهودية مستخدماً التقليد اليهودي الشهير في مقارنة الكاهن بالنبي حيث قال: "لقد كان لدى الشعب اليهودي كهنة وأنبياء، وكانالكهنة [دعاة الحلولية الوثنية] على الدوام أبواق القوميين والسياسيين. أما الأنبياء وأتباعهم [دعاة الفكر التوحيدي] فقد كانوا يؤمنون بالنزعة الإنسانية العالمية والعدالة والإنصاف والرقي الأخلاقي".

امــرام بــلاو (1900-1974(Amram Blau

مؤسس حركة ناطوري كارتا، وُلد في القدس لأسرة يهودية وحارب ضد الحاخام الصهيوني كوك منذ شبابه، وأدان المدارس التي أقامها الصهاينة لتعليم العبرية الحديثةوالتعاليم العلمانية. نجح بالمشاركة مع الحاخام سوننفلد في الحصول على موافقة حكومة الانتداب على الفصل بين اليهود الأرثوذكس والصهاينة. وعندما لاحَظ أن ثمة تقارباً بين حركة أجودات إسرائيل والصهاينة، انفصل عنها وأدان قادتها واتهمهم بالتواطؤ مع المارقين الصهاينة من أجل المال والجاه والسلطة، وأنشأ حركة الناطوري كارتا لحماية قداسة المدينة المقدَّسة (القدس). وتَظاهَر عام 1948 مع 6000 من اليهود احتجاجاً على قرار التقسيم وضد فكرة دولة إسرائيل التي رفضها حتى قبل أن تنشأ. وفي هذه المظاهرة، قامت القوات الصهيونية بإطلاق النار على المتظاهرين فجرحت العديد منهم. وعندما قامت دولة الصهاينة، رفض الحاخام بلاو الاعتراف بها ورفض الخضوع لقوانينها وتظاهر ضدها، وقامت الحكومة الإسرائيلية باعتقاله وسجنه عشرات المرات.

أرسل عام 1974 رسالة إلى الرئيس نيكسون من أجل فَصْل القدس عن دولة الصهاينة أو على الأقل إيجاد حل لمشكلة اليهود الأرثوذكس.

ميخائيـــل فيســمندل (1903-1957(icheal Weismandel

حاخام أرثوذكسي شهير من المجر. زار فلسطين لأول مرة عام 1935. بدأ رحلته لإنقاذ اليهود من الاضطهاد النازي منذ عام 1938، فعمل في هذا الاتجاه بشكل منقطع النظير طوال الفترة 1942-1944. وكان قد عقد اتفاقاً مع فيسلنكي نائب أيخمان لإنقاذ يهود سلوفاكيا مقابل رشوة تقدَّر بمبلغ 50 ألف دولار. كما أرسل رسائل عديدةتضمنت خطة لرشوة القيادة النازية كلها لإنقاذ اليهود من الإبادة. وكان الحاخام فايسمندل أول من فضح للعالم أهوال معسكرات الإبادة النازية بل أرسل للحلفاء خريطةالمعسكر والسكك الحديدية المؤدية له من أجل قصفها بالطيران. وقامت القيادات الصهيونية بإعاقة خطة الحاخام فايسمندل. كما قام الحاخام الأمريكي ستيفن وايز بمظاهرة دعائية في نيويورك أثارت قضية رشوة القيادات النازية، الأمر الذي حدا بهذه القيادات إلى إنكار تَعامُلها مع فايسـمندل والمُـضي قـدماً في خطة الإبادة.

وقد أصدر فايسمندل كتابه الشهير من الأعماق الذي أثبت فيه بالوثائق والبراهين تواطؤ القيادات الصهيونية مع النازي من أجل المساعدة على هجرة اليهود إلى فلسطين وكذلك من أجل الحصول على الأموال من الحلفاء. وعارض فايسمندل إقامة دولة إسرائيل بكل قوته وخطب ضدها في الأمم المتحدة وفي وزارة الخارجية الأمريكية حيث كان قد استقر في الولايات المتحدة منذ عام 1946.

إلمــر بيرجـــر (1908-1996(Elmer Berger

حاخام أمريكي ويهودي اندماجي إصلاحي من أهم الشخصيات المعادية للصهيونية والرافضة لها. وُلد في كليفلاند ونُصِّب حاخاماً عام 1932. وساهم مع غيره منالإصلاحيين عام 1943 في تكوين منظمة المجلس الأمريكي لليهودية، وهو تنظيم يهودي معاد للصهيونية رأسه في البداية ليسنج روزنولد كان يهدف إلى تشجيع يهود الولايات المتحدة على الاندماج واعتبار اليهودية عقيدة (فقط) لا علاقة لها بالانتماء القومي. وعارض المجلس الجهود الرامية إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين أو في أي مكان. وقد شغل بيرجر منصب المدير التنفيذي للمجلس منذ إنشائه حتى عام 1955 ثم انتُخب عام 1955 نائباً للرئيس.

وقد عارض بيرجر، بشجاعة، قيام الدولة اليهودية في فلسطين، وأعرب عن اعتقاده بأن الصهاينة قد استغلوا قلق اليهود الأمريكيين مما حدث في أوربا على يد هتلر للوصول إلى أغراضهم. كما أنه يرى أن الصهيونية تهدف إلى قلب الدين إلى مبدأ سياسي. وكان بيرجر من أوائل من نددوا بالعنصرية الصهيونية، وقد صاغ مصطلح «إزالة الصبغة الصهيونية عن إسرائيل» معرباً عن أمله في إقامة دولة تضم اليهود والمسلمين والمسيحيين في سلام. وقام الحاخام بيرجر بزيارات متعددة للأقطار العربية. وفي عام 1964، أحرز بيرجر أعظم انتصاراته في إطار صراعه ضد الصهيونية، وذلك عندما حصل بالاشتراك مع البروفسور ميليسون على رفض رسمي من وزارة الخارجية الأمريكية لمقولة "القومية اليهودية" وذلك في إطار خطاب من فيلبس تالبوت ينص على أن هذا المفهوم ليست له قيمة قانونية في نطاق نصوص القانون الدولي.

وبعد حرب 1967، كثَّف الحاخام بيرجر جهوده ضد الصهيونية واتهم إسرائيل بأنها المعتدية وبأنها دولة عنصرية. وكان الانتصار الذي حققته إسرائيل عام 1967 قد غيَّر موقف العديد من أعضاء المجلس الأمريكي لليهودية، فاتهمه بعضهم بالتطرف في مصادقة العرب الأمر الذي حدا بالحاخام بيرجر إلى تقديم استقالته من المجلس عام 1968. وقد أدَّت هذه الاستقالة إلى تضاؤل نفوذ المجلس وانتهائه فعلياً بعد فقدانه قوته المحركة. بيد أن الحاخام بيرجر استمر في مناهضته الصهيونية ودعاه بعض أعضاء المجلس الذين يتفقون معه في الرأي إلى تأسيس منظمة بديلة. وفي عام 1969، أسَّس مع هؤلاء الأعضاء منظمة «بدائل أمريكية يهودية للصهيونية» وانتُخب رئيساً لها، وهي منظمة تؤكد القيم الإنسانية العالمية الموجودة في الديانة اليهودية، وتطرحها مقابل الدعاوى العنصرية التي تقول بوجود الشعب اليهودي ووجود رابطة روحية بينه وبين إسرائيل. وتركز المنظمة في دعايتها على فضح فكرة "الولاء المزدوج" الكامنة خلف هذه المقولة الصهيونية. وتضم المنظمة حوالي 1500 عضو وتَصدُر نشرة تقرير بدائل أمريكية يهودية للصهيونية يحرر الحاخام بيرجر معظم مادتها بالاشتراك مع مزفنسكي.

كما يشارك الحاخام بيرجر بانتظام في جميع المؤتمرات الدولية المعارضة للصهيونية. وتنظم المنظمة المؤتمرات المناهضة للصهيونية، بيد أن قدرتها المادية المحدودة تمنعها من التأثير الفعلي في الساحة الأمريكية السياسية. وقد كتب بيرجر العديد من الكتب المناهضة للصهيونية.

ويمثل الحاخام بيرجر وغيره من اليهود مناهضي الصهيونية في الولايات المتحدة ما يمكن أن ندعوه «مؤسسة الرجل الواحد»، وهو المثال الذي نراه يتكرر مع غيره، مثل: شيبر وهاناور ولين، وهي تلك المؤسسة التي تُصدر نشرات وتنظم مؤتمرات وتعقد ندوات يحضرها عدد محدود، وخلف كل هذا النشاط يقف فرد واحد يؤدي خروجه عنها أو موته لإنهاء المنظمة أو المؤسسة.

من أهم مؤلفات برجر: الورطة اليهودية (1945)، و تاريخ متحيز لليهودية (1951)، من يعرف أفضل من هذا فعليه أن يعلن ذلك (1955)، مذكرات يهودي معادللصهيونية (1976)، اليهودية أم الصهيونية (1986)، السلام لفلسطين (1993)، والكتاب الأخير هو أهم كتبه العلمية ويضم تحليلاً لبعض الوثائق الرسمية الصهيونيةوالإسرائيلية.

حبيــب شـــيبر (1913- (

Haviv Schieber

مواطن إسرائيلي هاجر إلى الولايات المتحدة في منتصف الستينيات. وهو مناهض عنيد للصهيونية ويعتبر نفسه لاجئاً سياسياً في الولايات المتحدة. وقد أسَّس عام 1968منظمة «لجنة دولة الأراضي المقدَّسة المعادية للصهيونية» التي تهدف إلى إقامة دولة منزوعة السلاح في الأراضي المقدَّسة بفلسطين تسمح بتعايش كل الأديان في سلام. ولأجل تحقيق ذلك، تهدف اللجنة إلى اجتثاث الصهيونية من المنطقة. والواقع أن شيبر هو المنظمة أساساً ومقرها في فيرفاكس بولاية فرجينيا. وعن طريق منظمته هذه، يقوم بإرسال خطابات تحث الحكومة الأمريكية على رفض المطالب الإسرائيلية وتدعوها إلى تَبنِّي مواقف ضد إسرائيل. وتعقد اللجنة المؤتمرات من أجل تحقيق أهدافها، مثل مؤتمر عام 1982 الذي دعـت فيه إلى خَلْق حكـومـة الأراضـي المقدَّســة في المنفى. وشيبر يعتبر نفسه متطرفاً يمينياً، وقد أعرب غير مرة عن اعتقاده بأن إسرائيل ألعوبة في يد السوفييت لهدم الديموقراطية الأمريكية وتقويضها. وقال إن من الأفضل إرسال الأموال والدعم العسكري الذي ترسله الولايات المتحدة لإسرائيل إلى السلفادور مثلاً. وغني عن القول أنه مع سقوط الاتحاد السوفيتي سقط شيبر نفسه، أو لعله يبحث الآن عن قضية جديدة يتبناها.

مكسيم رودنسون (1915- (

Maxime Rodinson

مفكر ماركسي ومستشرق فرنسي من أصل يهودي. وُلد في باريس عام 1915، وكان أبوه أحد مؤسسي اتحاد نقابات العمال اليهود في باريس. تلقَّى تعليمه الابتدائي في باريس ثم عمل كصبي تشهيلات قبل التحاقه بقسم اللغات الشرقية الحية في السوربون حيث درس اللغات السامية والإثنوجرافيا وعلم الاجتماع. خدم في الجيش الفرنسي في سوريا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي لمدة 7 سنوات في لبنان حيث عمل كمدرس في مدارس إسلامية ثانوية وكموظف في الإدارة الفرنسية في سوريا ولبنان، وفي هذه الفترة قام بزيارات متعددة لمختلف دول الشرق الأوسط. انضم للحزب الشيوعي الفرنسي عام 1937، وتعرف إلى الشيوعيين والماركسيين واليسار العربي إبان إقامته في المنطقة. أصدر نشرة الشرق الأوسط الشهرية السياسية عامي 1950 و1951، وذلك بعد عودته لفرنسا عام 1947. وترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1958، ولكنه استمر في صفوف اليسار الماركسي يعمل مديراً لقسم الشرق الأوسط في المعهد التطبيقي للدراسات العليات بالسوربون. له مؤلفات عديدة حول الإسلام والعروبة والمسـألة اليهـودية، من بينها: الإسلام والرأسمالية (1966)، و إسرائيل والرفض العربي (1968)، و الإسلام والماركسية (1972)، و إسرائيل واقع استعماري (1973)، و العرب (1979)، و محمد (1979)، و شعب يهودي أم مسألة يهودية (1981).

ويذهب رودنسون إلى أن المنطق الصهيوني منطق إحلالي يقوم على الإحلال القسري للسكان (العرب) بغيرهم (اليهود)، ومن ثم فهو عدواني واستعماري وعنصري، وهذا يعني أن الدولة الصهيونية دولة لخدمة الاستعمار ارتبطت - كحركة - بالاستعمار البريطاني منذ نشأتها ثم بالإمبريالية الأمريكية فيما بعد.

والعنصرية التي تقوم عليها الفكرة الصهيونية ودولة إسرائيل تؤدي إلى سيادة القيم الإسبرطية أي قيم المحاربين الدائمين، وهو المنطق الذي يحكم قادة إسرائيل. وهو يرى أن هذا المنطق نفسه قد أوصل المشروع الصهيوني إلى طريق مسدود، فلا يمكن تخيل بشر في حالة استنفار دائم. وتلجأ إسرائيل إلى المغامرات العسكرية وذلك لتهدئةحالة التهيج والاستنفار المستمرين بين المستوطنين وتنفيس الطاقة العدوانية لديهم. وهذا، بدوره، يخلق توترات جديدة ويزيد الاستنفار والتهيج، وهكذا في حلقة مفرغةمدمرة. ومن ثم، فإن التناقضات الداخلية تأكل الدولة الصهيونية من الداخل والمنظمات الصهيونية تتخبط في صراعات داخلية مدمرة.

ويرى رودنسون أن الصهيونية هي نتيجة ظاهرة معاداة اليهود، ويشير إلى أن معظم اليهود في أوربا كانوا في طريقهم للاندماج، ثم جـاءت النازية لتقـدم فرصة نادرةللحركة الصهيونية وتبث الروح فيها.

وقد لعب رودنسون دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر وتسهيل الحوار بين منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الجماعات المعتدلة واليسارية في إسرائيل، وذلك من منطلق إيمانه بالقيم الإنسانية العامة. بيد أنه لا يرى نفعاً كبيراً من هذا الحوار في أحسن الأحوال. فالحوار يفيد فقط في إطار الإستراتيجية العامة للطرفين المتحاورين، لكن القادة الإسرائيليين أفهموا شعبهم أن الفلسطيني حيوان يسير منتصب القامة، وأن الفلسطينيين من جانبهم يرفضون الحوار مع الإسرائيليين. ويرى رودنسون أن الغربيين يتأثرون كثيراً بما يحدث في إسرائيل أكثر مما يحدث في الدول العربية حيث لا يأبهون بما يحـدث في هذه البـلاد كثيراً أو لا يأبـهون بها على الإطلاق، فلا تزال المشاعر العنصرية وآثارها السياسية تطغى على حياة الغربيين. ويضرب رودنسون مثالاً لذلك بتزايد نمو الأحزاب العنصرية والنازية في الغرب الأوربي، ولذا فهو لا يعتقد في أطروحات غياب الإعلام العربي وتغيير الحالة الذهنية الغربية... إلخ. لأنه يرى أن المسألة أعقد كثيراً من ذلك وترجع إلى الطبيعة العنصرية الأساسية في بنية الحضارة الغربية.

ألفــريد ليلينتــال (1916- (

Alfred Lilienthal

محـام يهـودي أمريكي معـاد لإسرائيل والصـهيونية. وُلد عام 1916، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة كورنل عام 1934 ودرجة الدكتوراه في القانون منكلية الحقوق بجامعة كولومبيا عام 1939. وقد عمل في وزارة الخارجية الأمريكية في الفترة من 1941 - 1943، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من 1943 - 1945 في منطقة الشرق الأوسط، ثم عاد لمنصبه في وزارة الخارجية في الفترة بين عامي 1945 و1947. وكان ليلينتال مستشاراً قانونياً لوفد الولايات المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو الخاص بميثاق الأمم المتحدة عام 1945. واستقال من وزارة الخارجية عام 1947 وعمل بالمحاماة في العاصمة واشنطن منذ عام 1947.

وقد جذب ليلينتال الانتباه بمقال له نشرته مجلة ريدرز دايجست عنوانه "راية إسرائيل ليست رايتي" (1949) عبَّر فيه عن رفضه لفكرة الدولة اليهودية وأثار قضية الولاء المزدوج الذي تفرضه إسرائيل على اليهود الأمريكيين. وكانت تلك الفكرة موضوع كتابه الأول ما ثمن إسرائيل؟ (1954).

وثمة موضوعات أساسية متكررة في أطروحات ليلينتال هي:

1 - الولاء المزدوج وآثاره على اليهود الأمريكيين سواء على المستوى النفسي أو على المستوى العملي.

2 - الخطر الكامن على مصالح الولايات المتحدة نتيجة التأييد الأعمى للسياسات الإسرائيلية وعدم الاهتمام بالمنظور العربي أو بوجهة النظر العربية، وهي الفكرة التي عبَّر عنها في كتابه وهكذا يضيع الشرق الأوسط .

3 - التأثير غير المحدود الذي تمارسه الصهيونية على صناع القرار في الولايات المتحدة وفي وسائل الإعلام، وما يترتب على ذلك من مخاطر على الأمن والسلام العالميين. وقد عبَّر ليلينتال عن هذه الفكرة بوضوح في كتابه حلقة الوصل الصهيونية (ويحمل عنواناً فرعياً هو: ما ثمن السلام؟) الذي صدر عام 1978. وقد أصدر ليلينتال كتابين آخرين بالإضافة لما سبق هما: الوجه الآخر للعملة (1965)، و هؤلاء هم أصدقائي (1961). ويدعو ليلينتال إلى اعتراف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية وإلى تدخل اليهود الأمريكيين بشكل فعال من أجل إنهاء الصهيونية في الشرق الأوسط وقيام دولة مسالمة في فلسطين تجمع المسلمين واليهود والمسيحيين والعبرانيين على حد تعبيره "ولكن بدون صهيونية".

جيكوب بيتشوفسكي (1925- )

Jacob Petuchowsky

حاخام يهودي إصلاحي اندماجي. وُلد في برلين وتعلَّم في كلٍّ من برلين وإنجلترا واسكتلندا والولايات المتحدة الأمريكية التي هاجر إليها عام 1948. حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت ورُسِّم حاخاماً. عمل حتى 1955 في ويست فرجينيا وبنسلفانيا ثم عاد للتدريس في المعهد اليهودي للدين، وأصبح عام 1961عضواً في هيئةتدريس كلية الفلسفة والدين في كلية أنطاكية بولاية أوهايو، ثم عمل في الفترة من 1963 - 1964 كحاخام أول ومدير للدراسات اليهودية للكلية اليهودية بها.

ويُعَدُّ بيتشوفسكي كاتباً لاهوتياً شهيراً غزير الإنتاج، وفي كتابه منذ سيناء وحـتى الآن: وجـهة نظر جـديدة في التـوراة (1961)، أوضح الرابطة العضوية القوية بين اليهودية الإصلاحية والتقليد اليهودي الأصيل. فاليهودية الإصلاحية - حسب وجهة نظره - إن هي إلا تشكيل متطور من أشكال هذا التقليد. وعلى هذا الأســاس، يعاديالحاخام بتشوفسكي الصهيونية معاداة لا هوادة فيها، وأصدر عام 1966 كتابه إعادة النظر في صهيون حيث نبذ الدعاوى الصهيونية حول القومية اليهودية، كما أنكر أن تكون الصهيونية ناطقة بلسان كل اليهود، وأكد أن التقاليد اليهودية الحقة لا تتفق مع الصهيونية ورفض بشدة محاولات تلك الدولة (إسرائيل) التأثير على البنية الإجمالية للحياة اليهودية في الولايات المتحدة.

مــارك لــين (1927- )

Mark Lane

محام يهودي، وعضو مجلس نواب ولاية نيويورك سابقاً. اشتهر على مستوى الولايات المتحدة نتيجة دعاواه بأن لي هارفي أوزوالد ليس القاتل الحقيقي للرئيس كنيدي. وعاد لدائرة الضوء مرة ثانية عام 1978 بعد الانتحار الجماعي الذي قامت به حركة جيم جونز الدينية في جويانا بأمريكا اللاتينية، حيث كان لين محامي جونز.

ومنذ عام 1980، ركز لين اهتمامه على الشرق الأوسط وأسس منظمة المجلس القومي للشرق الأوسط وذلك في ممفيس بولاية تنسي. وتهدف المنظمة إلى تعريف الجمهور الأمريكي بالمشكلة الفلسطينية، وذلك من أجل تغيير سياسة الولايات المتحدة إزاء منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أعرب لين عن إيمانه بأن كفاحه من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هو كفاح ضد معاداة اليهود، لأن الدولة اليهودية هي أقل الأماكن أمناً بالنسبة لليهود، ويرفض لين الدعاوى الصهيونية حول حقوق اليهود التاريخية والتوراتية في فلسطين ويرى أن إسرائيل دولة توسعية إمبريالية طردت العرب من ديارهم، ومن ثم فإن الإسرائيليين هم نازيون جدد ليس إلا.

وقد حاول لين أن يجتذب لمنظمته بعض الشخصيات السياسية المعتدلة مثل أندرو يونج سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحـدة. ورغـم فــشله في هذا، فقد نجح في أن يفتتح فرعين لمنظمته، الأول في كلية أنطاكية بولاية أوهايو والآخر في جامعة أنديانا في مدينة أنديانا بوليس.

ويدعو لين إلى إيقاف شحنات السلاح الأمريكية لإسرائيل ومشاركة منظمة التحرير في مؤتمر السلام الدولي، ومن ثم إقامة دولة ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني. وقد أدان بشدة عدوانية وقسوة أرييل شارون ومناحم بيجين والمذابح التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان، وقارنها بما حدث على يد النازيين مؤكداً رؤيته لإسرائيل كدولة نازية المحتوى.

ونستطيع أن نضع لين في إطار أولئك اليهود الرافضين للصهيونية من منطلـق أخلاقي عقـلاني منطـقي، مثله مثل ألفرد ليلينتال وميزفنسكي.

نورتـون ميزفنسـكي (1932- (

Norton Mezvinsky

أستاذ تاريخ بجامعة كونتيكت. وُلد عام 1932 بولاية أيوا، وتخرَّج في جامعة أيوا ثم أكمل دراساته العليا بولاية ويسكونسين، وعمل بالتدريس في هارفارد وجامعات أمريكية أخرى. وفي عام 1983، أصبح عضواً مشاركاً في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد.

يُعتبر ميزفنسكي واحداً من أنشط اليهود المناهضين للصهيونية. عمل بين عامي 1966 و1967 مديراً تنفيذياً للمجلس الأمريكي لليهـودية، وهو المنـصب الذي كان إلمر بيرجـر يشغله حتى عام 1955. ويقوم ميزفنسكي بإلقاء المحاضرات ضد إسرائيل والصهيونية، ويهاجم بشدة أنشطة دولة إسرائيل والأسس النظرية للصهيونية. وقد ساهم ميزفنسكي في تحرير المرجع المهم وثائق عن إسرائيل بين عامي 1967 و1973، و قراءات نقدية للصهيونية (1975). كما شارك بعدة مقالات في العديد من الكتب والدوريات والمجلات والأبحاث المهتمة بالقضية الفلسطينية. ويعتبر ميزفنسكي تلميذاً للحاخام بيرجر، فمعاداته للصهيونية تنبني على أساس القيم الدينية الاندماجية والدفاع عن القيم الإنسانية - وذلك على الرغم من أن عائلته لها انتماء صهيوني قوي ورغم تأثره في شبابه بالفكر الصهيوني. وقد اشتهر ميزفنسكي في أواسط السبعينيات كمنظِّر معاد للصهيونية.

لينـــي برينــر (1937- (

Lenni Brenner

صحفي أمريكي يهودي ماركسي تروتسكي الاتجاه. وُلد في بروكلين عام 1937 ونشرت مقالاته في العديد من الصحف والمجلات. وهو من العناصر النشيطة المعادية للحرب والمناهضة للصهيونية ومن دعاة الحقوق المدنية في أمريكا.

في عام 1983، نشر برينر كتابه المهم الصهيونية في عصر الديكتاتورية الذي تُرجم للعربية ونُشر عام 1985. وتنبع أهمية الكتاب من أنه يوضح التواطؤ الصهيوني معالنازية والفاشية وغيرها من الحركات الشمولية في أوربا بالوثائق والأدلة، وبالتالي فإنه يثبت كذب الادعاء الصهيوني القائل بأن الصهاينة يمثلون اليهود في أنحاء العالمكافة، كما يوضح الطابع العنصري والعرْقي للحركة الصهيونية وتصرفاتها العملية النفعية التي أدَّت إلى مصرع مئات الألوف بل الملايين من البشر من اليهود وغيرهم في سبيل الوصول إلى غايتها: أموال اليهود الألمان ومادتهم البشرية الاستيطانية. ويوضح الكتاب أن الإرهابيين الذين تعاملوا مع النازي من قبل هم حكام إسرائيل اليوم، ويبين للقارئ سهولة التوحد بين الصهيونية والنازية لأن الأساس البنيوي واحد.

ونشر برينر عام 1984 كتابه الثاني الستار الحديدي: تاريخ الصهيونية التصحيحية. وهو يفضح في هذا الكتاب علاقات عصابتي إرجون وشتيرن بالنازي وتطورهما الإرهابي الحقيقي.

ويرتكز رفض برينر للصهيونية على منظومة اجتماعية أيديولوجية ترى أن الصهيونية حركة تعمل في خدمة قوى الاستعمار العالمي، وهي إحدى أطروحات الماركسيين الأساسية. ونرى في كتب برينر أن الجانب المعلوماتي والوثائقي متوفر بينما الجانب التحليلي محدود بعض الشـيء بسـبب هذا الالتزام العقائدي الذي يؤدي إلى محدودية الرؤية. بيد أنه من المهم أن نذكر في هذا الصدد أن معاداة برينر للصهيونية، رغم ارتكازها على أطروحات ماركسية تروتسكية، لا تعني أن كل اليسار الأمريكي التروتسكي يؤيد هذه الأطروحات.

إدمــوند هــاناور (1938- (

Edmund Hanauer

أستاذ علوم سياسية سابق ومن أنشط اليهود الأمريكيين المعادين للصهيونية. كان أحد أعضاء المجلس الأمريكي لليهودية ثم انفصل عنه مع انفصال الحاخام إلمر بيرجر وكان قد تَعرَّف إلى الحاخام بيرجر أثناء عملهما المشترك في المجلس الأمريكي لليهودية. وبعد الانفصال، اشترك مع بيرجر في منظمة «بدائل أمريكية يهودية للصهيونية». ولكنه، مع عام 1972، أسَّس منظمته الخاصة، وهي منظمة «البحث عن العدل والمساواة في فلسطين» والمعروفة اختصاراً باسم «سيرش» (أي «البحث»)، وهذه المنظمة مقرها في بوسطن وتصدر نشرة شهرية تُدعَى «نشرة أخبار فلسطين». ويشرك هاناور في المؤتمرات والندوات واللقاءات المعادية للصهيونية على طول الولايات المتحدة وعرضها، ويكتب بكثرة في كل الدوريات المناهضة للصهيونية. كما أنه يشرف على تحرير نشرة جمعيته.

والمنظمة لها مكتب في واشنطن منذ 1975، ولها علاقات جيدة مع منظمة التحرير الفلسطينية. ويدعو هاناور ومنظمته إلى اشتراك يهود أمريكا في الضغط على الحكومة الأمريكية من أجل اتخاذ سياسة غير منحازة في الشرق الأوسط من أجل تسوية شكلية وعادلة للمشكلة. والله أعلم.

الصفحة التالية ß إضغط هنا