اللباب علل البناء والإعراب 2

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 147 ]

فصل

وأمَّا قولهم أمَّا زيد فمنطلق ف ( زيد ) مبتدأ و ( منطلق ) خبره وإنَّما دخلت الفاء لما في ( أمَّا ) من معنى الشرط فكان موضعها المبتدأ لكونها تكون في أوَّل لجملة الْمجازى بها لكنَّهم أخرَّوها إلى الخبر لئلا تلي الفاء ما في تقدير حرف الشرط وجعلوا المبتدأ كالعوض من فعل الشرط ولا تدخل الفاء على الخبر في غير ذلك إلاَّ في خبر ( الذي ) إذا وصل بفعل أو ظرف فيه ما يُؤذِنُ بأنَّ ما في الخبر مستحقّ الصلة

وكذلك صفة النكرة كقولهم كلُّ رجل يأتيني فله درهم فإنْ أدخلت على ( الذي ) ( إنَّ ) جاز أن تدخل الفاء في الخبر وقال الأخفش لا يجوز ووجه جوازه أنَّ ( إنَّ ) لا تغيَّر معنى الكلام بل تؤكَّد الخبر بخلاف أخواتها فإنَّها تغيَّر معنى الكلام والأخفش يحكم بزيادة الفاء إذا وجدها في شيء من ذلك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 148 ]

باب الفاعل

الفاعل عند النحويَّين الاسم المسند إليه الفعل أو ما قام مقامه مقدَّما عليه سواء وجد منه حقيقة أو لم يوجد

وقال بعض النحويَّين الفاعل من وجد منه الفعل وغيره محمول عليه وهذا ضعيف لأربعة أوجه

أحدها أنَّ قولهم رخص السعر ومات زيد فاعل عندهم ولم يصدر منه فعل حقيقة

والثاني أنَّه إذا كان فاعلاً لصدور الفعل لم يجز بقاء هذا الاسم عليه مع نفيه لأنَّ المعلول لا يثبت بدون علَّة

والثالث أنَّ قولك ما قام زيد يصحُّ أن تقول فيه ما فعل القيام فتنفي الفعل عنه فكيف يشتق له منه اسم مثبت

والرابع أنَّ الاسم إذا تقدَّم على الفعل بطل أن يكون فاعلاً مع صدور الفعل منه

فصل

وإنَّما شرط فيه أن يتقدَّم الفعل عليه لأربعة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 149 ]

أحدُها أنَّ الفاعل كجزء من الفعل لما نذكره من بعدُ ومحالٌ تقدُّم جزء الشيء عليه والثاني أنَّ كونه فاعلاً لا يتصوَّر حقيقة إلاَّ بعد صدور الفعل منه ككونه كاتباً وبانياً فجعل في اللفظ كذلك

والثالث أن الاسم إذا تقدَّم على الفعل جاز أن يسند إلى غيره كقولك زيدٌ قام أبوه وليس كذلك إذا تقدَّم عليه

والرابع أنَّ الفاعل لو جاز أن يتقدَّم على الفعل لم يحتج إلى ضمير تثنية ولا جمع والضميرُ لازم له كقولك الزيدان قاما والزيدون قاموا وليس كذلك إذا تقدَّم

فصل

والدُليل على أن الفاعل كجزء من أجزاء الفعل اثنا عشر وجهاً أحدُها أنَّ آخر الفعل يسكَّن لضمير الفاعل لئلاَّ يتوالى أربعة متحرّكات ك ( ضربت ) و ( ضربنا ) ولم نسكَّنه مع ضمير المفعول نحو ( ضَرَبَنا ) لأنَّه في حكم المنفصل والثاني أنَّهم جعلوا النون في الأمثلة الخمسة علامة رفع الفعل مع حيلولة الفاعل بينهما ولولا أنَّه كجزء من الفعل لم يكن كذلك والثالث أنَّهم لم يعطفوا علىالضمير المتَّصل المرفوع من غير توكيد لجريانه مجرى الحرف من الفعل واختلاطه به

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 150 ]

والرابع أنَّهم وصلوا تاء التأنيث بالفعل دلالة على تأنيث الفاعل فكان كالجزء منه الخامس أنَّهم قالوا ( ألقيا ) و ( قفا ) مكان ( ألقِ ألقِ ) ولولا أنَّ ضمير الفاعل كجزء من الفعل لما أنيب منابه السادس أنَّهم نسبوا إلى ( كنت ) ( كنتي ) ولولا جعلهم التاء كجزء من الفعل لم يبق مع النسب السابع أنَّهم ألغوا ( ظننت ) إذا توسَّطت أو تأخَّرت ولا وجه لذلك إلا جعل الفاعل كجزء من الفعل الذي لا فاعل له ومثل ذلك لا يعمل الثامن أمتناعهم من تقديم الفاعل على الفعل كامتناعهم من تقديم بعض حروفه

والتاسع أنَّهم جعلوا ( حبَّذا ) بمنزلة جزء واحد لا يفيد مع أنَّه فعل وفاعل

والعاشر أنَّ من النحويَّين من حعل ( حبَّذا ) في موضع رفع بالابتداء وأخبر عنه والجملة لا يصحُّ فيها ذلك إلاَّ إذا سُمِّي بها

والحادي عشر أنَّهم جعلوا ( ذا ) في ( حبذَّا ) بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث كما يفعل ذلك في الحرف الواحد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 151 ]

والثاني عشر أنَّهم قالوا في تصغير ( حبَّذا ) ( ما أحيبذه ) ! فصغروا الفعل وحذفوا منه إحدى البائين ومن الاسم الألف والعربُ تقول لا تحبَّذه عليه فاشتقَّ منهما

فصل

والعامل فى الفاعل الفعلُ المسند إليه وهذا أسدُّ من قولهم العامل إسناد الفعل إليه لأنَّ الإسناد معنى والعامل هنا لفظيّ والذي ذكرته هو الذي أرادوه لأنَّ الفعل لا يعمل إلا إذا كان له نسبة إلى الاسم فلَمّا كان من شروط عمل الفعل الإسنادُ والنسبة تجوَّزوا بما قالوا والحقيقة ما قلت

وقال خلف الكوفيّ العامل في الفاعل الفاعليَّة والدليل على فساد قوله من أربعة أوجه أحدُها أنَّ ( إنَّ ) عاملة بنفسها وهي نائبة عن الفعل فعمل الفعل بنفسه أوْلى والثاني أنَّ الفعل لفظ مختضٌّ بالاسم والاختصاصُ مؤثَّر في المعنى فوجب أن يؤثِّر في اللفظ كعوامل الفعل والثالث أنَّ الموجب لمعنىالفاعلية هوالفعل فكان هو الموجب للعمل في اللفظ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 152 ]

والرابع أنَّ الاسم قد يكون في اللفظ فاعلاً وفي المعنى مفعولاً به كقولك مات زيدٌ ومفعولا في اللفظ وهو في المعنى فاعل كقولك تصبَّب زيدٌ عرقاً ولو كان العامل هو المعنى لانعكست هذه المسائل

فصل

وإنَّما أعرب الفاعل بالرفع لأربعة أوجه أحدها أنَّ الغرض الفرق بين الفاعل والمفعول فبأيِّ شيْ حصل جاز

والثاني أنَّ الفاعل أقلُّ من المفعول والضمُّ أثقل من الفتح فجعل الأثقل للأقلِّ والأخف للأكثر تعديلاً والثالث أنَّ الفاعل أقوى من المفعول إذا كان لازماً لا يسوغ حذفه والضَّمة أقوى الحركات فجعل له ما يناسبه

والرابع أنَّ الفاعل قبل المفعول لفظاً ومعنى لأنَّ الفعل يصدر منه قبل وصوله إلىالمفعول فجعل له أوَّل الحركات وهو الضَّمّة

فصل

وإنَّما لم يجز أن تكون الجملة فاعلاُ لثلاثة أوجه

أحدها أنَّ الفاعل كجزء من الفعل ولا يمكن جعل الجملة كالجزء لاستقلالها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 153 ]

والثاني أنَّ الفاعل قد يكون مضمراً ومعرفة بالألف واللام وإضمار الجملة لا يصحُّ والألف واللام لا تدخل عليها

والثالث أنَّ الجملة قد عمل بعضُها في بعض فلا يصحُّ أنْ يعمل فيها الفعل لا في جملتها ولا في أبعاضها إذ لا يمكن تقديرها بالمفرد هنا

فصل

والأصل تقديم الفاعل علىالمفعول لأنَّه لازم في الجملة جار مجرى جزء من الفعل والمفعول قد يستغنى عنه والفاعل يصدر منه الفعل ثَّم يفضي إلى المفعول به بعد ذلك إلاَّ أنّ تقديم المفعول جائز لقوَّة الفعل بتصرفَّه والحاجة إلى اتساع الألفاظ فإنْ خيفّ اللبس لم يجز التقديم مثل أن يكون الفاعل والمفعول لا يتبيَّن فيهما إعراب فإنْ وصف أحدُهما أو عطف عليه ما يفصل بينهما جاز التقديم

فصل

وأوْلى الفعلين بالعمل الأخير منهما وقال الكوفيَّون الأوَّل أوْلى واتَّفقوا على أنَّ كلا الأمرين جائز إذا صحَّ المعنى وأنَّه لا يُخيَّر في إعمال أيّهما شاء إذا لم يصحَّ المعنى وإذا تقدَّم الفعل الذي يحتاج إلى فاعل أضمر فيه كقولك ضربوني وضربت الزيدين وقال الكسائيُّ لا يُضمر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 154 ]

والدليل على أنَّ إعمال الثاني أوْلى السماعُ والقياسُ فمن السماع قولُه تعالى ( يستفتونك قلِ اللَّهُ بفتيكم في الكلالةِ ) ولو أعْمَلَ الأول لقال ( فيها ) وقوله تعالى ( آتوني أُفْرِعْ عليهِ قطِراً ) ولم يقل ( أفرغه ) وقوله تعالى ( هاؤمُ اقرؤوا كتابَيْه ) ولم يقل ( اقرؤوه ) ومما جاء في الشعر قولُ الفرزدق - الطويل - 9 -

( ولكنَّ نصفاً لو سببْتُ وسبَّني ... بنو عبد شمس مِنْ مُناف وهاشمِ ) ولم يقل سبُّوني وهو كثير في الشعر

وأمَّا القياسُ فهو أنَّ الثاني أقرب إلى الاسم وإعماُله فيه لا يغير معنى فكان

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 155 ]

أوْلى كقولهم خشَّنت بصدره وصدر زيد بحرِّ المعطوف وكذا قولهم مررت ومرَّ بي زيد أكثر من قولهم مر بي ومررت بزيد والعلَّة فيه من وجهين

أحدهما أنَّ العامل في الشيء كالعلَّة العقلية وتلك لا يفصل بينها وبين معمولها

والثاني أنَّ الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبيّ لا يجوز كقولهم كانت زيداً الحَّمى تأخذ والمعطوف هنا كالأجنبي فاحسن أحواله أن يضعف عمل الأوَّل ويدلُّ على ذلك أنَّ الفعل إذا تأخر عن المفعول جاز دخول اللام عليه كقولك لزيدٍ ضربُت ومنه قوله تعالى ( لرِّبهم يرهبون ) ولا يجوز ذلك مع تقديم الفعل / وكذلك أيضاً إذا جاوز الفعل الفاعل المؤسنث الحقيقي لزمت فيه التاء وإن فصل بينهما لم يلزم كلُّ ذلك اهتمامٌ بالأقرب وكان أبو عليّ يتمثَّل عند ذلك بقول الهذلي 10 -

( وإنَّما ... نوكّل بالأدنى وإن جلَّ ما يمضي )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 156 ]

واحتجَّ الآخرون بأبيات عمل فيها الأوَّل وليس فيها حجَّة على الأوْلى بل الجواز فأمَّا قول أمرئ القيس 11

( فلو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني - ولَمْ أطلبْ - قليلٌ من المال ) فإنَّما أعمل الأوَّل فيه لأنَّ المعنى عليه أي لو كنت أسعى لأمر حقير كفاني القليل ولو نصب على هذا لتناقض المعنى فإنْ قالوا الأوَّل أهُّم للبدء به قلنا لو اشتدَّ الاهتمام به لّجُعل معمولُه إلى جانبه علىالاهتمام بالأقرب أشدّ على ما بيَّنا

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 157 ]

باب ما لم يُسمَّ فاعله

إنَّما حذف الفاعل لخمسة أوجه

أحدها ألاَّ يكون للمتكلمِّ في ذكره غرض

والثاني أنْ يُترك ذكره تعظيماً له واحتقاراً

والثالث أن يكون المخاطب قد عرفه

والرابع أن يخاف عليه من ذكره والخامس ألاَّ يكون المتكلَّم يعرفه

فصل

وإنَّما غُيِّرَ لفظ الفعل ليدلَّ تغييره على حذف الفاعل وإنَّما ضُمَّ أوَّله وكُّسِر ما قبل آخره في الماضي وفتح المستقبل لوجهين

أحدُهما أنَّه خُصَّ بصيغة لا يكون مثلها في الأسماء ولا في الأفعال التي سمُيِّي فاعلها لئلاَّ يلتبس فإنْ قلت كان يجب أن يُكسر أوَّلُه ويضَّم ما قبل آخره إذ لا نظير له قيل الخروج من كسر إلى ضمّ مستثقل جدّاً بخلاف الخروج من ضمّ إلى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 158 ]

كسر فأمَّا ( دُئِل ) فلا يُعتدُّ به لقلَّته وشذوذه وإنَّما فتح قبل الأخير في المستقبل لئلاَّ يلتبس بما سُمَّي فاعله

والوجه الثاني أنَّهم ضمُّوه عوضاً من ضمَّ الفاعل المحذوف وهذا ضعيف لوجهين أحدهما أنَّهم غيَّروا منه موضعاً آخر بغير الضمِّ والثاني أنَّ المحذوف قد أقيم المفعول مُقامه

فصل

وإنَّما أقيم المفعول مُقام الفاعل ليكون الفعل حديثاً عنه إذ الفعل خبر ولا بدَّ له من مخبر عنه ولّمَّا أقيم مقامه في الأسناد إليه رفُع كما رفع الرافع له الفعل المسند إليه

فصل

وإنَّما لم يجز بناء الفعل اللازم لما يسمَّ فاعله لأنَّه يبقى خبراً بغير مخبر عنه كقولك جُلس وقد ذهب قوم إلى جوازه على أن يكون المصدر المحذوف مضمراً فيه وساغ حذفه بدلالة الفعل عليه وهذا ضعيف جدّاً لأنَّ المصدر المحذوف لا يفيد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 159 ]

إسناد الفعل إليه إذا كان الفعل يغني عنه ولا يصحّ تقدير مصدر موصوف ولا دالّ على عدد إذ ليس في الفعل دلالة على الصفة والعدد

فصل

وإذا كان في الكلام مفعول به صحيح جُعل القائَم مَقامَ الفاعل دون الظرف وحرف الجرّ لأربعة أوجه

أحدُها أنَّ الفعل يصل إليه بنفسه كما يصل إلى الفاعل بخلاف الظرف

والثاني أنَّ المفعول به شريك الفاعل لأنَّ الفاعل يوجِد الفعل والمفعول به يحفظه

والثالث أنَّ المفعول في المعنى قد جعل فاعلاً في اللفظ كقولك مات زيد وطلعت الشمس وهما في المعنى مفعول بهما بخلاف الظرف

والرابع أنَّ من الأفعال ما لم يُسمَّ فاعله بحال نحو عُنيت بحاجتك وبابه ولم يسند إلاَّ إلى مفعول به صحيح فدلَّ على أنّه أشبه بالفاعل

وقال الكوفيَّون يجوز إقامة الظرف مقام الفاعل وإن كان معه مفعول صحيح لأنَّه يصيرُ مفعولاُ به علىالسعة وهذا ضعيف لما ذكرنا

فصل

وأمَّا إقامة المصدر مقام الفاعل مع المفعول به فللبصريَّين فيه مذهبان

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 160 ]

أحدهما لا يجوز لأنَّ المصدر يصل إليه في المعنى فهو غير لازم بخلاف المفعول به

والآخر يجوز لأن الفعل يصل إليه بنفسه واحتجُّوا على ذلك بقرأءة أبي جعفر المدنيّ ( ليُجْزَى قوماً ) أي ليُجْزَى الجزاءُ قوماً وبقراءة عاصم ( وكذلك نُجي المؤمنين ) أي نجي النجاء وبقول جرير

( فلو وَلَدت فُقَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بذلك الكلْبِ الكِلابا )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 161 ]

وهذا ضعيف لما ذكرنا والقراءتان ضعيفتان على أنَّ قراءة عاصم فيها وجه آخر يخرجها من هذا الباب وهو يكون أن الأصل ( ننجي ) ثَّم أبدل النون الثانية جيماً وأدغمها وأمَّا قراءة أبي جعفر فعلى تقدير ( لنجزي الخير قوماً ) فالخير مفعول به وهذا الفعل يتعّدىَّ إلى مفعولين وأضمر الأوَّل لدلالة الثاني عليه وأمَّا البيت فقد حُمل على ما قالوا وحمل على وجه آخر وهو أن يكون التقدير فلو ولدت قفيرة الكلاب ياجرو كلب لسبّ أي جنس الكلاب

فصل

وإنَّما جاز إقامة حرف الجرَّ والظرف والمصدر - أيَّها شئت - مُقام الفاعل لتساويها في ضعفها عن المفعول به وإنَّما يقام الظرف مقام الفاعل إذا جعل مفعولاً على السعة لأنَّه إذْ كان ظرفاً كان حرف الجرِّ مقدَّراُ معه وهو ( في ) و ( في ) يقع فيها الفعل لا بها ولأنَّ الفعل يصل إلى الفاعل بغير واسطة فلم يشبهه الظرف ولأنَّ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 162 ]

المفعول به يصحّ أسناد الفعل إليه وإذا قدَّر مع الظرف ( في ) لم يصحّ إسناد الفعل إليه

قإنْ قلت فكيف يصحّ إقامة ( الباء ) مقام الفاعل قيل إن ( الباء ) لم يؤت بها إلاّ لتقوّي الفعل و ( في ) هي الدالَّة على الظرفيَّة وإقامتها مقام الفاعل تسلبها هذا المعنى ولا يقام المصدر مقام الفاعل إلاَّ إذا وصف أو دلَّ على المرة أو المرَّات لأنه حينئذٍ يفيد مالا يدلُّ الفعل عليه

فصل

ولا يجوز إقامة الحال مقام الفاعل لأربعة أوجه أحدها أنَّ الفاعل يكون مظهراً ومضمراً ومعرفة ونكرة والحال لا تكون إلاَّ نكرة

والثاني أنَّ الحال تقدّر ب ( في ) ولا يصحّ تقدير إسقاطها

والثالث أنَّ الحال كالخبر على ما نبيَّنه في بابه وخبر المبتدأ لا يصحّ قيامُه مقام الفاعل لأنه مسند إلى غيره والرابع أنَّ الحال كالصفة في المعنى لأنها هي صاحب الحال وإنَّما يقام مقام الفاعل غيره

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 163 ]

فصل

وإنَّما لم يقم الميزَّ مقام الفاعل لثلاثة أوجه أحدُها أنَّه لا يكون ألاَّ نكرة والثاني أنَّ حرف الجرّ معه مراد والثالث أنَّه لو اسقط المميّز لمك يبق عليه دليل ولهذا الوجه لن يجعل المستثنى مقام الفاعل

فصل

وأمَّا المفعول له فلا يقام مقام الفاعل لوجهين د أحدهما أنَّ اللام مرادة والثاني أنَّه غرض الفاعل فلو أقيم مقامه لبطل هذا المعنى

فصل

وأنَّما لم يقم خبر كان مقام أسمها لوجهين أحدُهما أنَّه هو الاسم في المعنى والثاني أنَّ الخبر مسندٌ إلى غيره فلا يسند إليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 164 ]

باب كان وأخواتها

ذهب الجمهور إلى أنَّها أفعال لتصُّرفها وأتِّصال الضمائر وتاء التأنيث بها ودلالتها على معنى في نفسها وهو الزمان

فصل

وإنَّما لم تدلّ على حدث ولا أكّدت بالمصدر لأنَّهم اشتقوها من المصادر ثّم خلعوا عنها دلالتها على الحدث لتدلَّ على زمن خبر المبتدأ حتَّى صارت مع الخبر بمنزلة الفعل الدالّ على الحدث والزمان

ومن عبَّر من البصريَّين عنها بالحروف فقد تجوَّز لأنَّه وجدها تشبه الحروف في أنَّها لا تدلّ على الحدث وإنَّما هي أفعال لفظيَّة أو يكون عنَىَ بالحروف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 165 ]

الطريقة إذ كان لهذه الأفعال في النحو طريقة تخالف فيها بقيَّة الأفعال ولهذه العلَّة خصّوها من بين الأفعال بالدخول على المبتدأ والخبر

وأمَّا ( ليس ) فمن البصريَّين من قال هي حرف وإنَّ الضمير اتَّصل بها لشبهها بالأفعال كما اتَّصل الضمير ب ( ها ) على لغة من قال في التثنية ( هاءا ) وفي الجمع ( هاؤوا ) وأبو عليّ يشير إليه في كتبه كثيراً ويقوِّي ذلك أنَّها لا تدلُّ على زمان وأنَّها تنفي كما تنفي ( ما ) وأنَّهم شبَّهوها ب ( ما ) في إبطال عملها بدخول ( إلاَّ ) على الخبر في قولهم ليس إلاَّ الطيب المسك بالرفع فيهما

ومن قال هي فعلٌ لفظيٌّ فقد احتجَّ بما ذكرنا وسلبت التصرُّف لشبهها بها ويدلُّ على أنَّها فعلٌ جواز تقديم خبرها على اسمها عند الجميع وتقديمه عليها عند كثير منهم بخلاف ( ما )

فصل

وإنَّما كانت ( كان ) أمّ هذه الأفعال لخمسة أوجه

أحدها سعة أقسامها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 166 ]

والثاني أنَّ ( كان ) التامَّة دالة على الكون وكلُّ شيء داخل تحت الكون

والثالث أنَّ ( كان ) دالَّة على مطلق الزمان الماضي و ( يكون ) دالَّة على مطلق الزمان المستقبل بخلاف غيرها فإنَّها تدل على زمان مخصوص كالصباح والمساء

والرابع أنَّها أكثر في كلامهم ولهذا حذفوا منها النون إذا كانت ناقصة في قولهم لم يك

والخامس أنَّ بقيَّة أخواتها تصلح أن تقع أخباراً لها كقولك كان زيد أصبح منطلقاً ولا يحسنُ أصبح زيدً كان منطلقاً

فصل

وإنَّما اقتضت الناقصة اسمين لأنّها دخلت على المبتدأ والخبر للدلالة على زمن الخبر وإنمَّا عملت لأنَّها أفعال متصرِّفة مؤثرة في معنى الجملة فأشبهت ( ظننت ) وإنَّما رفعت ونصبت لأنَّها تفتقر إلى اسم تسند إليه كسائر الأفعال فما تسند إليه مشبَّه بالفاعل الحقيقي

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 167 ]

وأمَّا الخبر فمنصوب ب ( كان ) عند البصريَّين وقال الكوفيُّون ينتصب على القطع يعنون الحال والدليل على انتصابه ب ( كان ) أنَّه اسم بعد الفعل والفاعل وليس بتابع له فأشبه المفعول به ولا يصحّ جعله حالاً لأنَّ الحال لا يكون معرفة ولا مضمراً وليصحُّ حذفه وليس كذلك خبر كان لأنَّه مقصود الجملة ألا ترى أنَّه لو قال كان زيٌد قائماً فقال قائل لا كان النفي عائداً إلى القيام لا إلى كان

فصل

وإنَّما لم يكن منصوبها مفعولاً به على التحقيق لأنَّ المفعول به يسوغ حذفه ولا يلزم أن تكون عدَّته على عدَّة الفاعل ولا أن يكون المفعول به هو الفاعل وخبر كان يلزم فيه ذلك

فصل

وإنَّما جاز تقديم أخبارها على أسمائها لتصرُّفها فأمَّا تقديم خبر ( ما زال وأخواتها ) عليها فمنعه البصريُّون والفرَّاء لأن ( ما ) أمّ حروف النفي وما في صلة النفي لا يتقدَّم عليه لأنَّ النفي له صدر الكلام إذ كان يحدث فيما بعده معنى لا يفهم بالتقديم فيشبه حروف الجزاء والاستفهام والنداء

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 168 ]

فأمَّا ( لا يزال ) و ( لن يزال ) و ( لم يزل ) فيجوز تقديم الخبر عليها لأنهَّا فروع على ( ما ) إذ كانت تردّ إليها وتستعمل في مواضع لا يصحّ فيها ( ما ) ولهذا عملت في الأفعال للزومها إياها فمفعول فعلها يتقدَّم عليها كما يتقدَّم على نفس الفعل العرّي عن حرف النفي بخلاف ( ما )

وقال ابن كيسان وبقيَّة الكوفيَّين يجوز تقديم الخبر عليها لأنَّ ( ما والفعل ) صارا في معنى الإثبات وهذا ضعيف لأنَّ لفظ النفي باق والاعتبار به لا بالمعنى ألا ترى أنَّ قولك ( لا تفعل ) يسمَّى ( نهياً ) ولو جعلت مكانه ( اترك الفعل ) كان المعنى واحداً ويسمى الثاني ( أمراً )

وأمَّا خبر ( ما دام ) فلا يتقدَّم عليها عند الجميع لأنّها مصدريَّة ومعمول المصدر لا يتقدَّم عليه وكذلك ( ما كان ) لأنَّ الكلام نفيٌ لفظاً ومعنى

فأمَّا ( ليس ) فاتَّفقوا على جواز تقديم خبرها علىاسمها وأمَّا تقديمه عليها فيجوز عند الكوفيَّين وبعض البصريَّين وحجَّة مَنْ منع أنَّ ( ليس ) فعل لفظي

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 169 ]

جامدٌ قويٌّ الشبه بالحرف فلم يقْوَ قوَّة أخواته وجاز تقديم الخبر فيه على الاسم إذ كان فعلاً في الجملة فحاله متوسَّطة بين ( كان ) وبين ( ما )

واحتجَّ من أجاز تقديم خبر ( ليس ) بقوله ( ألا يوم يأيتهم ليس مصروفاً عنهم ) فنصب ( يوم ) بالخبر ولا يقع المعمول إلاَّ حيث يقع العامل ولأنَّ ( ليس ) فعلٌ يتقدَّم خبره على اسمه فكذلك يتقدَّم عليه ك ( كان ) وقد أجيب عن الآية من وجهين أحدُهما أنّه منصوب بفعل آخر يفسّره الخبر

والثاني أنّ الظروف تعمل فيها روائح الفعل

فصل

وإنَّما لم يجز الفصلُ بين ( كان ) وغيرها من العوامل بما لم تعمل فيه لأنَّه أجنبيّ غير مسند للكلام والعامل يطلب معموله فالفصل بينهما يقطعه عنه فإن جعلت في ( كان ) ضمير الشأن جاز تقديم معمول الخبر لاتّصال ( كان ) بأحد معموليها وكون الفاصل كالجزء من جنسهما

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 170 ]

فصل

وإنَّما كان الأحسن في خبر ( كان ) إذا وقع ضميراً أن يكون منفصلاً لأنّه في الأصل خبر المبتدأ والخبر لا يكون متّصّلاً وإنّما ساغ في ( كان ) أنْ يكون متّصّلاً لأنّه مشبّه بالمفعول فعلى هذا ( كنت إيّاه ) أَحْسَنُ من ( كنته )

فصل

وإنَّما لم يجز دخول ( إلاّ ) في خبر ( ما زال ) وأخواتها لأن معناها الإثبات فيصير ك ( كان ) فأمَّا قول ذي الرّمة - الطويل - 13 -

( حراجيجُ ما تنفكُّ إلاّ مُناخةً ... على الْخَسْفِ أو نرمي بها بلداً قَفْرا ) فيروى بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف وموضع الجملة حال وبالنصب على الحال وتكون ( تنفكُّ ) تامَّة و ( علىالخسف ) حال أخرى ويجوز أن تكون الناقصة وتكون ( على الخسف ) الخبر أي ما تنفكُّ على الخسف إلاَّ إذا أنيخت وعليه المعنى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 171 ]

فصل

لا يجوز أن تبنى ( كان ) لما لم يُسمَّ فاعله لما ذكر في الباب الذي قبله وقال الفرَّاء يجوز وهو فاسدٌ لما تقدَّم

فصل

ولا تؤكّد ( كان ) بالمصدر لأنَّ المصدر دالٌّ على الحدث والناقصة لا تدلُّ عليه وأجازه قوم على أن يكون المصدر لفظيّاً كالفعل المؤكّد وقولهم يعجبني كونُ زيد قائماً فهو مصدر التامَّة و ( قائماً ) منصوب على الحال

فصل

وحرف الجرّ الداخل علىالخبر لا يعلَّق بهذه الأفعال لأنَّه زائد وإنمّا يتعلَّق الحرف بالفعل الذي يعدّيه

فصل

ولا تدخل ( لام كي ) على خبر كان لأنَّها تدلُّ على المفعول له وهذا يجوز والخبر لا يجوز حذفه ولأنَّ خبر كان يعَّلل بغيره لا بنفسه وأمَّا قوله تعالى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 172 ]

( ما كان الله ليذرَ المؤمنين ) فالخبر فيه محذوف تقديره ما كان الله مريداً ونحوه وقال الكوفيّون هو الخبر وسنشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في باب الأفعال

فصل

وإنَّما ساغ أن تزاد ( كان ) لأنَّها أشبهت الحروف في أنَّ معناها في غيرها ول ( كان ) الزائدة فاعل مُضَمرٌ فيها تقديره كان الكون على قول أبي سعيد السيرافي ولا فاعل لها عند أبي عليّ ومعنى زيادتها عند السيرافي في إلغاء عملها لا أنَّها تخلو من فاعل وإنَّما لم يظهر ضمير فاعلها لأن الضمير يرجع إلى مذكور فيلزم أن يكون لها اسم وإذا كان لها اسم كان لها خبر ولهذا تبيَّن فسادُ قولِ من قال في قول الفرزدق - الوافر - 14 -

( ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 173 ]

إنَّ ( كان ) زائدة والصحيح أنَّ خبرها ( لنا ) و ( كرام ) صفة لجيران وإنَّما لم تقع الزائدة في أوَّل الكلام لأنَّ الزائدة فرع ومؤكّد وتقدَّمه يخلٌّ بهذا المعنى

فصل

وإنَّما أكّد خبر ( ليس ) بالباء لثلاثة أوجه أحدها أنَّ الكلام إذا زيد فيه قوي ولهذا زيدت ( من ) في قولك ما جاءني من أحد والثاني أنَّها بإزاء ( اللام ) في خبر ( إنّ ) والثالث أنَّ دخول حرف الجّر يؤذن بتعُّلُّق الكلمة بما قبلها من فعل أو ما قام مقامه ولو حذفه لكان مرفوعاً أو منصوباً وكلاهما قد يحذف عامله ويبقى هو بخلاف حرف الجرّ

فصل

وإنَّما اختيرت ( الباء ) دون غيرها لثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 174 ]

أحدُها أنَّ أصلها الإلصاق والإلصاق يوجب شدَّة اتصال أحد الشيئين بالآخر والثاني أنَّها من حروف الشفتين فهي أقوى من اللام وغيرها من حروف الجرّ والثالث أنَّ حروف الجرّ كلَّها توجب مع تعديتها الفعل معنى كالتبعيض والملك والتشبيه وغير ذلك والباء لا توجب أكثر من تعدية الفعل ولذلك استعملت في القَسَم وهو باب التوكيد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 175 ]

باب ما

القياس ألاَّ تعمل ( ما ) لأنَّها غير مختَّصة فهي كحرف الاستفهام والعطف وغيرهما ولهذا لم يعملها بنو تميم وإنَّما أعملها أهل الحجاز لشبهها ب ( ليس ) وهي تشبهها في أربعة أشياء النفي ونفي ما في الحال ودخولها على المبتدأ والخبر ودخول الباء في خبرها وقد تقرَّر أنَّ الشيء إذا أشبه غيره من وجهين فصاعداً حُمل عليه ما لم يفسد المعنى ومنه باب ما لا ينصرف ولَمّا أشبهتها عملت في المبتدأ والخبر ك ( ليس ) وقال الكوفيٌّون خبرها منصوب بحذف حرف الجرّ وهذا فاسدٌ لثلاثة أوجه أحُدها أنَّ هذا يقتضي أنَّ حرف الجرَّ فيه أصل وليس كذلك والثاني أنَّ هذا هذا إيجاب العمل بالعدم والثالثُ أنَّ حرف الجرَّ تحذف في مواضع ولا يجب النصب كقولك بحسبك قولُ السوء وكفى بالله شهيداً وما جاءني من أحد

فصل

وإنَّما بطل عملها بدخول ( إلاَّ ) لزوال شبهها ب ( ليس ) إذا كان الكلام يعود إلى الإثبات ولم يبطل عمل ( ليس ) بإلاَّ لأنَّها أصل فأمَّا قول الشاعر [ من الطويل ]

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 176 ]

-

( وما الدهر إلاَّ منجنوناً بأهله ... وما صاحب الحاجات إلاَّ معذَّبا ) - الطويل - ففيه وجهان أحدهما أنَّ المنصوب مفعول به والخبر محذوف تقديره إلا يشبه منجنوناً وهو الدولاب في دورانه وإلاَّ يشبه معذّباً والثاني أنَّ ( منجنونا ) و ( معذّبا ) منصوبان نصب المصادر ونائبان عن فعل تقديره إلاَّ يدور دوراناً وإلاَّ يعذب تعذيباً

فصل

وإنَّما بطل عملها بتقديم الخبر لأن التقديم تصرُّف ولا تصرُّف لِ ( ما ) ولأنَّ التقديم فرع عمل و ( ما ) فرع فلا يجمع بين فرعين فأمَّا قول الفرزدق 16 -

( فأصبحوا قَدْ أعادَ اللهُ نِعْمَتَهُمْ ... إذْ قريشٌ وإذْ هم ما مثْلَهم بشَرُ ) - البسيط - ( بنصب مثلَ ففيه أربعة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 177 ]

أحدها أنَّه غلط من الفررزدق لأنَّ لغته تميميَّة وهم لا ينصوبه بحال لكّنه ظنَّ أنَّ أهل الحجاز ينصبون خبرها مؤخرَّاً ومقدَّماً والثاني أنَّها لغة ضعيفة والثالث أنَّه حال تقديره ( إذ ما في الدنيا بشرٌ مثلُهم ) فلَمَّا قدَّم صفة النكرة نصبها وهذا ضعيف لأنَّ العامل في الحال إذا كان معنى لا يحذف ويبقى عمله إلاَّ أنَّهُ سوّغه شبه ( مثل ) بالظرف والرابع أنَّه ظرف تقديره ( وإذ ما مكانهم بشر ) أي في مثل حالهم إلاّ أنّه سوَّغه شبه مثل بالظرف

فصل

ويبطل عملها بتقديم معمول الخبر كقولك ما طعامَكَ زيدٌ آكل لأنَّ معمول الخبر لا يقع إلاَّ حيث يقع العامل فتقديمه كتقديم العامل ولو تقدَّم العامل لكان مرفوعاً فكذلك إذا تقدَّم معمولُه وكلُّ موضع لا ينتصب فيه خبر ( ما ) لا تدخل عليه الباء كما لا يدخل على خبر المبتدأ فإنْ قلت طعامَكَ ما زيدٌ آكلاً لم يجز نصبت الخبر أو رفعته لأنَّ ( ما ) لها صدر الكلام وأجاز ذلك الكوفيُّون وقاسوه على ( لا ) و ( لم )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 178 ]

و ( لن ) وقد بيَّنا فيما تقدَّم أنَّ ( ما ) أصل حروف النفي فلا يسوَّى بينهما

فصل

فإنْ قلت ما إنْ زيد قائم بطل عملها لوجهين أحدُهما أنَّ ( ما ) كفَّت ( إنَّ ) عن العمل فتكفّها عن عملها اقتصاصاً والثاني أنَّ ( ما ) للنفي و ( إنْ ) تكون للنفي والنفي إذا دخل على النفي صار إثباتا فكذلك لفظ النفي وإن لم تُرٍدْ به النفي

فصل

ومن العرب من يعمل ( لا ) عمل ( ما ) لاشتراكهما في المعنى ومنه قول الشاعر 17 -

( مَنْ صدَّ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ ) - مجزوء الكامل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 179 ]

أي لا لي براح كقولك مالي وقال العجَّاج [ من الرجز ] 18 -

( تاللهِ لولا أنْ تحشَّ الطُّبَّخُ ... بي الجحيمَ حين لا مُسْتَضْرَخُ ) - الرجز - ومنهم مَنْ يُعملها مع الحين خاصّة كقوله تعالى ( ولاتَ حينَ مناص ) تقديره وليس الحين حين مستضرح وقال الأخفشُ هو منصوب بفعل محذوف أي ولات أرى حين مناص وقال قوم هو مبنيَّ مع ( لا ) ومن العرب من يرفع الحين هنا ويحذف الخبر فأمَّا ( التاء ) فقال قومٌ هي متصلة ب ( لا ) دخلت لتأنيث الكلمة كما دخلت في ( ربّ ) و ( ثمّ ) وعلى هذا يوقف عليها بالتاء لأنَّها أشبهت التاء اللاحقة بالفعل في دلالتها على التأنيث في غير لفظها وفتحت ليفرقّ بين الحرف والفعل ولو قيل حرِّكت لالتقاء الساكنين كان وجهاً وقال الكسائيّ يوقف عليها بالهاء لتحُّركها ومنهم من قال هي متصَّلة بحين كما قالوا ( تلان

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 180 ]

باب نعم وبئس

وهما فعلان عند البصرييَّن والكسائي واسمان عند الباقين والدليل على أنَّهما فعلان ثلاثة أشياء أحدُهما اتَّصال تاء التأنيث الساكنة الدّالة على تأنيث الفاعل بها وليس كذلك تاء ( ربَّت ) و ( ثَّمت ) لأنَّها متحَّركة غير داَّلة على تأنيث الفاعل وقد وقف عليها قوم بالهاء والثاني أنَّه يستتر فيها الضمير وليست اسم فاعل ولا مفعول ولا ما أشبههما وقد حكى الكسائيّ نعموا رجالاً الزيدون والثالث أنَّها ليست حرفاً بالاتفاق ولا سيما وهي تفيد مع اسم واحد ولا يجوز أن تكون اسماً إذ لو كانت اسماً لكانت إمَّا أن تكون مرفوعة ولا سبيل إلى ذلك إذ ليست فاعلاً ولا مبتدأ ولا ما شُبَّه بهما وإمَّا منصوبة ولا سبيل إليه أيضاً إذ ليست مفعولاً ولا ما شبَّه به وإمَّا مجرورةً ولا سبيل إليه فأمَّا دخول ( الباء ) عليها في بعض الحكايات فلا يدلُّ على أنَّها اسم كما قال الراجز

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 181 ]

-

( والله ما ليلي بنام صاحُبهْ ... ) - مشطور الرجز - والتقدير في ذلك كلّه بمقول فيه وحذْفُ القول كثير

وأمَّا ما حُكي أنَّهم قالوا ( نَعِيَم ) فشادّ والياء فيها ناشئة عن إشباع الكسرة وأمَّا دخول اللام عليْها في نحو قوله تعالى ( ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) فهو جواب قسم كما قال 20 -

( إذن لقام بنصري ... ) - البسيط - وكقول الآخر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 182 ]

-

( ... لناموا فما إنْ من حديثٍ ولا صال ) - الطويل - وأمَّا دخول ( يا ) عليها في نحو قولهم يانعم المولى فالمنادى محذوف أي يا الله أنت نعم المولى كما قالوا يالَعَنهُ الله وكقراءة من قرأ ( ألا يا اسجدوا ) وكقوله ( يا ليت قومي يعلمون ) وأمَّا عدم تصرَّفها فلم نذكره بعد

فصل

والأصل في ( نَعْمَ ) نَعِمَ الرجل إذا أصاب نِعْمَةً وبَئِس إذا أصاب بؤساً مكسور العين وفيها أربع لغات هذه أحداها وقد جاءت في شعر طرفة 22 -

( ... نَعِمَ الساعون في الأمر المْبُرّ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 183 ]

وثانيهما كسر النون وإسكان العين والوجه فيه أنَّهم نقلوا كسرة العين إلى الفاء وثالثها كسرها على الإتباع ورابعها فتح النون على الأصل وإسكان العين على التخفيف وهذا مستمرّ في كلَّ فعل أو اسم مكسور العين إذا كانت عينه حرفاً حلقياً

فصل

وإنَّما كان هذا الفعل ماضياً غير متصرِّف لوجهين أحدهما أنَّه لَمَّا أخرج إلى معنىً اشبه الحرف في دلالته على المعنى فجمد كما جمد الحرف والثاني أنَّه موضوع للمبالغة في المدح والذمّ وإنَّما يصدر ذلك ممّن علم أن ثمَّ صفات توجب ذلك فهو مَمْدَحة أو مذَّمة بما فيه لا بما ينتظره

فصل

وإنَّما كان فاعل ( نعم ) و ( بئس ) جنساً معرَّفاً باللام لثلالثة أوجه أحدُها أنَّ ( نعم ) لَمَّا كانت للمدح العامَّ جُعل فاعلًها مطابقاً لمعناها والثاني أنَّ الجنس يذكر تنبيهاً على أن المخصوص بالمدح أفضل جنسه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 184 ]

والثالث أنَّ الجنس ذكر للإعلام بأنَّ كلّ فضيلة وكلَّ رذيلة افترقت في جميع الجنس مجتمعة في المخصوص بالمدح والذمَّ فإنْ قيل لو كان جنساً لما ثنَّي ولا جمع قيل إنَّما ثنَّي وجمع على معنى إنَّ زيداً يفضل هذا الجنس إذا مَيَّزوا رجلين رجلين أو رجالاً رجالاً وقيل إنَّما ثُنَّي وجمع ليكون على وفاق المخصوص بالمدج والذمَّ في التثنية وإنَّما كان المضاف إلى الجنس كالجنس لأنَّ المضاف يكتسي تعريف المضاف إليه وإنَّما جاز إضماره لما فيه من الاختصار مع فهم المعنى ولم يظهر فيه ضمير التثنية والجمع استغناء بصيغة الاسم الممّيز للضمير إذ هو في المعنى وجاز الإضمار قبل الذكر لوجهين أحدهما أنَّه إضمار على شريطة التفسير والثاني أنَّ المظهر ليس يراد به واحدٌ بعينه ففيه نوع إبهام والمضمر قبل الذكر كذلك وهذا مثل قولهم ( ربّه رجلاً ) والاختيار أن يجمع بين الفاعل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 185 ]

والتمييزلأنَّ التمييز ههنا مفسّر للمضمر ولا مضمر وإن جاء منه شيء في الشعر فشاذّ يذكر على وجه التوكيد وجعله أبو العبَّاس قياساً

فصل

وأمَّا المخصوص بالمدح والذمَّ ففي رفعه وجهان أحدهما هو خبرٌ مبتدؤه محذوف والثاني هو مبتدأ والجملة قبله خبره ولم يحتج لى ضمير لأنَّ الجنس مشتمل عليه فيجرى مجرى الضمير كما قالو [ من الطويل ] 23 -

( أمّا القتال لاقتال لديكم ... ) - الطويل - 24 -

( وأمَّا الصدرور لاصدور لجعفر ... ) - الطويل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 186 ]

فصل

وقد حذف فاعلُ ( نعم ) من اللفظ تارة والمخصوصُ أخرى وقد حذفا جميعاً في نحو قوله تعالى ( بئس للظالمين بدلاً ) والتقدير بئس البدل إبليس وذريَّته وجاز ذلك لتقدَّم ذكره ومن حذفِ المخصوص قوله تعالى ( بئس مثل القوم الذين كذبوا ) ف ( الذين ) صفة للقوم والتقدير بئس مثل القوم هذا المثل ويجوز أن يكون الذين فى موضع رفع أي بئس مثل القوم أي مثل الذين فحذف المضافَ وأقام الْمُضاف إليه مُقامه وأمَّا قوله تعالى ( ساء مثلاً القوم ) ف ( ساء ) بمنزلة ( بئس ) والتقدير ساء المثل مثلاً مثل القوم فعمل فيه ما ذكرناه وساء بمنزلة بئس فى جميع الأحكام

فصل

إذا كان الفاعل مؤنَّثا هنا كان ثبوت التاء كغيره من الأفعال ويجوز حذفها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 187 ]

لأنَّ الفاعل جنس والجنس مذكَّر فغلَّب المعنى كما قالوا ما قام إلا هند أي ما قام أحدٌ إلاّ هند

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 188 ]

باب حبَّذا

( حبَّ ) فعل ماض وأصله ( حَبُبَ ) مثل ظرف لأنَّ اسم الفاعل منه حبيب وهو لازم فأمَّا ( حَببْتُ الرجل ) فهو فعلت مثل ضرب واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال أحُدها أنّه غير مركَّب وفاعله ( ذا ) والاسم المرتفع بعده كالمرتفع بعد فاعل ( نعم ) فى الوجهين إلاَّ أنَّه لا يجوز تقديمه هنا على حبَّذا لأن حبَّذا صارت كالحرف المثبت لمعنى فىغيره فيكون له صدر الكلام وهذا هو الأصل والقول الثاني أنَّ ( حبَّ ) رُكَّبتْ مع ( ذا ) وصارا فى تقدير اسم مرفوع بالابتداء و ( زيدٌ ) خبره وتقدير المقرَّب إلى القلب زيدٌ واحتجَّ علىذلك بِحُسْن ندائه كقولهم 25 -

( يا حبَّذا حبلُ الريَّانِ من جبلُ ... ) 26 -

( يا حبَّذا القمراء ... )

189 - وكقولهم ( ما أحيبذه ) فصغروه تصغير المفرد وبأنَّه لم يُثَنَّ ولم يجمع ولم يؤنَّث وبأنَّه لا يحذف ويضمر فى الفعل كما فُعل فى ( نعم ) وهذه الأوجه لا يعتمد عليها لأن المنادى محذوف تقديره ( يا قوم ) كما قالوا 27 -

( ألا يا اسلمي ... ) فأدخلوها على الفعل وأمَّا المنع من تنثيته وجمعه فلمِا يذكر من بعدُ وأمَّا قولهم ما أحبيذه ! فمن الشذوذِ الذي لا يُستدلُّ به على أصل الثالث أنَّ جعل التركيب كالفعل وارتفع زيد به

فصل

وإنَّما لم يُثنَّ ولم يجمع كما فُعل فى فاعل ( نعم ) لتركبيه عند من يرى التركيب ومن لم يره ففيه وجهان

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 190 ]

أحدهما أنَّ ( ذا ) لَمَّا كان عبارةً عن المذكور أو المقرَّب من القلب كان جنساً ولفظ الجنس مفرد لم يغيرَّه عن ذلك والثاني أنَّ المفرد هو الأصل ويبقى هنا على لفظه لأنَّه صار كالمثل والأمثالُ لا تغّير عن أوَّليتها ولم يضمر فاعل ( حبَّ ) لئلاَّ يبطل معنىالإشارة

فصل

والنكرة تنصب بعده علىالتمييز وجاز الجمع بينهما لأنَّها ليست من لفظ الفاعل بخلاف باب ( نعم ) والاسم المخصوص بالتقريب مرفوعٌ وفيه أربعة أوجه الأوَّل هو خبر ابتداء بمحذوف والثاني هو مبتدأ و ( حبذا ) خبره ولَمّا كانت ( ذا ) تشبه الضمير كانت كالعائد على المبتدأ ولا يجوز على هذا الوجه زيدٌ حبَّذا كما جاز في ( نعم ) لجريان ( حبَّذا ) مجرى المثل وحروف المعاني والثالث أنَّه تبيين للفاعل والرابع أنَّه بدلٌ لازم ومن جعل ( حبّذا ) مركَّباً كان ( زيد ) خبره أو فاعله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 191 ]

باب عسى

وهي فعل بدليل اتَّصال الضمائر بها وتاء التأنيث الساكنة نحو عَسَيْت وعسوا وعسين وعستْ ومعناها الإشفاق والطمع في قرب الشيء كقولك عسى زيد أن يقوم أي أطمع في قرب قيامه وهي فعل ماض لأنّك تخبر بها عن طمع واقع في أمر مستقبل ولا يكون منها مستقبل ولا اسم فاعل بل هي فعل جامد وإنَّما كانت كذلك لوجهين

أحدهما أنّها أشبهت الحروف إذ كان لها معنى فى غيرها وهو الدلالة على قرب الفعل الواقع بعدها وحكم الفعل أن يدلّ على معنى فىنفسه وشبهها بالحرف يوجب جمودها كما أنَّ الحرف جامد

والثاني أنَّها تشبه ( لعلّ ) فى الطمع والإشفاق فتلزم صيغة واحدة ك ( لعلَّ )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 192 ]

فصل

إذا وقع الفعل الذي دلَّت عليه ( عسى ) بعد الاسم كان موضعه نصباً كقولك عسى زيدٌ أن يقوم وقال الكوفُّيون موضعه رفع على أنَّه بدلٌ ممَّا قبله

والدليل على القول الأوَّل من وجهين

أحدهما أن ( زيداً ) هنا فاعل ( عسى ) ومعناها قارب زيدٌ فيقتضي مفعولا وهو قولك ( أن يقوم )

والثاني أنَّ ( عسى ) دلَّت علىمعنى في قولك ( أن يقوم ) كما دلَّت ( كان ) على معنى في الخبر فوجب أن يكون منصوبا كخبر ( كان ) يشهد له قول الشاعر 28 -

( أكثَرْتَ في اللومِ ملحّا دائمأ ... لا تَلْحَني إنَّي عَسَيتُ صائما ) - الرجز - ومنه الْمَثَل ( عسى الغوير أبْؤُسا ) ولا يصحُّ أن يقدّر ب ( أن يكون أبوساً ) لما فيه من حذف الموصول وإبقاء صلته ولا يصحَّ جعله بدلاً لثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 193 ]

أحدها أنَّ البدل لا يلزم ذكره وهذا يلزم ذكره والثاني أنَّه في معنى المفعول والخبر الذي دلَّت عليه ( عسى ) وليس هذا حكم البدل

والثالث أنَّه قد جاء الفعل الذي دلَّت عليه ( عسى ) وإبدال الفعل من الاسم لا يصحَّ

فصل

وإنَّما كان خبر عسى فعلاً مستقبلاً لأنَّها تدل على المقاربة والمقاربة في الماضي محالٌ لأنه قد وجد ولم يكن اسماً إذ لا دلالة للاسم على الاستقبال وإنَّما لزمت فيه ( أنْ ) لتمحّضه علىالاستقبال ولم يكن ( السين ) و ( سوف ) لأنَّهما يدلاَّن على نفس زمان الفعل والغرض هنا تقريبه فإنْ جاء شيء من ذلك فهو شاذّ

فصل

وإذا وقع ( أن والفعل ) قبل الاسم فموضعه رفع على أنَّه فاعل ( عسى ) ويكون معناها ( قرب ) ولا تقتضي مفعولاً أو يكون هذا الفاعل لم تضمنَّه من الحدث مغنياً عن الخبر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 194 ]

فصل

وأمَّا ( كاد ) ففعل متصرّف يدلُّ على شدَّة مقاربة الفعل ومن ههنا لم يدخل خَبَرها ( أن ) ليكون لفظه كلفظ فعل الحال فإنْ جاءت فيه ( أن ) فهو شاذّ محمول على ( عسى ) كما حملت عسى على ( كاد ) فإنْ تقدَّم الفعل كقوله تعالى ( من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم ) كان فيها أربعة أوجه

أحدها أن يكون فيها ضمير الشأن والجملة بعدها مفسّرة والثاني أن تكون ( تزيغ ) حالاً مغنية عن الخبر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 195 ]

والثالث أن تكون ( تزيغ ) فى نيَّة التأخير والرابع أن يكون فاعل ( كاد ) ضميراً القبيل أي كاد القبيل وأضمر ليقوم ما يدلّ عليه وهذا قول ابى الحسن

فصل

إذا كانت ( كاد ) مثبتة فى اللفظ فالفعل غير واقع فى الحقيقة كقولك كاد زيدٌ يقوم أي قارب ذاك ولم يقْم وإن كانت منفية فهو واقع فى الحقيقة كقولك لم يكد يقوم لأنَّ المعنى قارب ترك القيام

فأمَّا قوله تعالى ( لم يكد يراها ) فقد اضطربت فيه الأقوال فقال بعضهم التقدير لم يرها ولم يكد وهذا خطأ لأنَّ قوله ( لم يكد ) إن كانت على بابها نقض الثاني الأوَّل لأنَّه نفى الرؤية ثمَّ أثبتها وإن لم تكن على بابها فلا حاجة إلى تقدير الفعل الأوَّل وقال الآخرون إنَّه رآها بعد اليأس من ذلك وهذا أشبه بالمعنى واللفظ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 196 ]

باب التَّعجُّب

التَّعجُّب هو الدهش من الشيء الخارخ عن نظائره المجهول سببه وقد قيل إذا ظهر السبب بطل العجب واللفظ الموضوع له بحقًّ الأصل ( ما أفعله ! ) فأمَّا ( أفْعِلْ به ! ) فمعدولٌ به عن أصله على ما سنبيَّنه

فصل

و ( ما ) فى التَّعجُّب تكرة غير موصولة مبتدأ و ( أحْسَنَ ) خبرها وقال أبو الحسن هي بمعنى الذى و ( أحسن ) صلتها والخبر محذزف

والدليل على الأوَّل من وجهين

أحدهما أنَّ التعحُّب من مواضع الإبهام ف ( الذي ) فيها إيضاح بصلتها والثاني أنَّ تقدير الخبر هنا لا فائدة فيه إذ تقديره الذي أحسن زيداً شيء وهذا لا يستفيد منه السامع فائدة وإنَّما جاز الابتداء بهذه النكرة لأنَّ الغرض منه التعجُّب لا الإخبار المحض

وإنَّما عُدل عن ) شيء ) إلى ( ما ) لأنَّ ( ما ) أشدُّ إبهاماً إذ كانت لا تثنَّى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 197 ]

ولا تجمُع ولا تقع للتحقير ولأنَّها يؤكّد بها إبهام ( شيء ) فيقال ما أخذت منه شيئاً ما فأنَّها تثنَّى وتجمع وُتْذَكُر للتحقير كقولك عندي شُييءٌ أي حقير

ولم يستعملوا فى التعجب ( مَنْ ) بمن يعقل ولا ( أيَّا ) لأنَّها كشيْ فيما ذكرنا

فصل

فأمَّا صيغة ( أفعل ) في التعجُّب ففعل لثلاثة أوجه

أحدها إلحاق نون الوقاية بها في قولك ما أحسنني ! فهو كقولك أكرمنى وليس الأسماء كذلك ولا عبرة بما جاز في الشعر من ذلك قوله 29 -

( ... وليس حاملني إلاَّ ابن حمَّال ) لشذوذه والاضطرار إليه

والثاني أنَّ ( أفعل ) هذه تنصب المتعَّجب منه على أنَّه مفعول به ولا تجوز إضافته إليه على الفتح أبداً ولو كان اسماً لأعرب

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 198 ]

وقال بعض الكوفييًّن هو اسم لأنَّه يصغر ولا تلحقه الضمائر ولا تاء التأنيث وتصحُّ فيه الواو والياء كقولك ما أخوفني وما أسيرني ! وليس كذلك الفعل

والجواب أنَّ التصغير جاز في هذا الفعل لثلاثة أوجه أحدها أنَّه نائب عن تصغير المصدر كما أنَّ الإضافة إلى الفعل فى اللفظ وهي في التقدير إلى مصدره

والثاني أنَّ هذا الفعل أشبه الاسم في جموده والثالث أنَّ لفظة ( أفعل ) هنا مثل لفظة ( هو أفعل منك ) وللشبه اللفظي أثّر كما في باب مالا ينصرف

وأمّا خلوُّة عن الضمير فإنَّما كان كذلك لأنَّ فيه ضمير ( ما ) وهي مفردة بكلَّ حال وكذلك امتناع تاء التأنيث لأنَّ ( ما ) مذكّر وأمَّا الواو والياء فلا حجَّة فيها فإنَّ من الأفعال ما هو كذلك كقوله تعالى ( واستحوذ عليهم

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 199 ]

الشيطان ) ولأنَّ هذا الفعل أشبه الأسم وأشبه لفظُه ( أفعل منك ) فأجري عليه في الصحَّة حكمها

فصل

ولا يكون التعجُّب إلاَّ من وصف موجود في حال التعجُّب منه ولذلك كانت الصيغة الداَّلة عليه صيغة الماضي لأنَّ فعل الحال لا يتكامل حتَّى ينتهي والمستقبل معدوم فأمَّا قولهم ما أطول ما يخرج هذا الغلام ! ! فجاز لأنَّ أمارات طوله في المستقبل موجودةٌ في الحال

فصل

الأصل في فعل التعجُّب أن يكون من أفعال الغرائز لأنَّها هي التي تخفى فإذا زادت تُعُّجب منها لخفاء سببها وأمَّا قولُهم ما أضرب زيداً لعمرو فأنَّما تُعجِّب منه لتكّرُّره وخفاء سبب ذلك حتّى صار كالغريزيّ

فصل

ولا يبنى فعل التعجب إلاّ من الثلاثيّ لأن الغرض منه أن يصير ما كان فاعلاً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 200 ]

مفعولاً كقولك حسن زيدٌ وتبني منه أحسن زيداً كقولك فرح زيد وأفرحت زيداً ولهذا ينتقل عن اللزوم إلى التعدِّي ولا يُعدَّى بالهمزة إلاَّ الثلاثي فأمَّا الرباعيّ فلا يعدَّى بها فلا تقول في ( دحرج ) ( أَدَحْرَجْته ) والعلّة في ذلك أنَّ الهمزة لَمّا أحدثت معنى التعدِّي صارت كحرف من الفعل أصليّ وليس فى الأفعال ما هو على خمسة أحرف أصول لما في ذلك من الثقل وكثرة أمثلة الفعل ولهذا لم يكن في الرباعي حرف إلحاق وكان في الثلاثيّ مثل ( جَلْبَبَ ) فأمَّا قولهم ما أعطاه للمال وأولاه للخير وأفقره إلى كذا ! ! وما أشبه فإنَّه على أربعة أحرف غير همزة التعديّ إلا أنَّ حرفاً منها زائد كالهمزة في ( أعطى وأولى ) فحذفوها فبقي ( عطى ) و ( ولى ) ولهما معنى فلَمّا أرادوا التعجُّبُّ حذفوا الهمزة التى كانت قبل ذلك وجعلوا همزة التعجُّب عوضاً عنها , وأمَّا ( أفقر ) فلا يستعمل منه ( فقر ) ولكن ( افتقر ) إلاَّ أنَّ الأصل يستعمل لأنَّه قد جاء الفاعل منه ( فقير ) فهو مثل ( ظرف ) وظريف ) فلّمّا تعجبوا منه أخرجوه على الأصل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 201 ]

وإنَّما لم يُتَعَجَّب من الألوان لأنَّ الأصل فيها أن تكون على أكثر من ثلاثة أحرف نحو ( ابيضَّ ) و ( أحمرّ ) ومثل ذلك لا يُعدَّى بالهمزة

وقال الكوفيَّون يجوز فى البياض والسواد لأنهما أصلا الألوان وقد جاء فى الشعر ( أبيضُهم ) و ( أبيضُ من كذا ) و ( أسودُ من كذا ) وهذا مذهب ضعيف لما تقدَّم وجَعْلُ البياض والسواد أصلين دعوى لا دليل عليها ولو صحتّ لم يستقم قولهم فيها وما جاء في الشعر فهو إمَّا شاذّ أو يكون ( منه ) التي بعده صفةٌ له أو يكون ( أفعل ) لا يراد به المبالغة

فصل

ولا يُبنى فعل التعجبَّ من العيوب الظاهرة كالْحول والعَوَر لوجهين

أحدُهما أن فعل هذه العيوب في الأصل زائد على ثلاثة أحرف نحو ( احولَّ ) و ( اعورَّ ) فلا يصحُّ زيادة همزة التعجُّبَّ عليه وما جاء منه على ثلاثة أحرف فمعدول به عن أصله ولهذا يصحُّ فيه الواو نحو ( حول ) تنبيهاً على أنَّه في حكم ( احولَّ ) وما جاء منه ثلاثياً لا غير نحو ( عمي ) فمحمول على الباقي

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 202 ]

والوجه الثاني أنَّ العيوب الظاهرة كالَخلَق الثابتة كاليد والرجل وكما لا يبنى من هذه الاعضاء فعل التعجُّب كذلك العيوب الظاهرة

أمَّا العيوب الباطنة كعمى القلب والحماقة فيبنى منها فعل التعجُّب نحو ما أعمى قلبه ! وما أحمره ! تريد البلادة وكذلك ما أسوده ! تريد السيادة ,

فصل

ولا يجوز العطف على فاعل فعل التعجبَّ لاستحالة المعنى ولا البدل منه لأنَّ ذلك يوضحَّه ومبناه على الإبهام ولا يجوز أن يكون المفعول هنا نكرة غير موصوفة كقولك ما أحسن زيداً ! لأنَّه غير مفيد ولا يجوز الفصل بين فعل التعجُّب ومفعوله إلاَّ بالطرف لأنَّه بجموده أشبه ( إنَّ )

فصل

وأمَّا ( أفْعِلْ به ) فى التعجُّب فلفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر كقوله تعالى ( فَلْيَمْدُدْ لهُ الرَّحمنُ مدّاً ) معناه فَلَيَمُدَّنَّ له الرحمن

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 203 ]

وحكي عن الزَّجاج أنَّه أمر حقيقة والتقدير أحسنْ يا حُسْنُ بزيد : أي دُم أيذُمْ به وهذا ضعيف لثلاثة أوجه أحدها أنَّ الأمر طلب إيقاع الفعل والتعجُّب لا يكون إلاَّ من أمرٍ قد وُجد

والثاني أنَّه يصحَّ أن يقال في جواب هذا الكلام صدقت أو كذبت وليس كذلك حقيقة الأمر

والثالث أنَّ لفظه واحد يكون فى التثنية والجمع والمذكَّر والموَّنث كقولك يا زيدان أحسن بعمرو ! وكذلك بقية الأمثلة

وعلى هذا الخلاف تترتَّب مسألة وهي أنَّ موضع الجار والمجرور رفْعٌ بأنه فاعل والتقدير أحْسَنَ زيدٌ أي صار ذا حُسْنّ ومثله ( كفى بالله شهيداً ) إلاَّ أن الباء لا يجوز حذفها فى التعجُّب لئلاَّ يبطل معنى التعجُّب ويجوز حذفها في ( كفى بالله شهيداً ) وعلى قول الزَّجاج ( بزيد ) فى موضع نصب

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 204 ]

فصل

وتزاد ( كان ) في التعجُّب نحو ما كان أحسن زيداً ! ولا فاعل لها عند أبي عليّ وإنَّما دخلت تدلُّ على المضيّ وقال السيرافي فاعلها مصدرها وقال الزجَّاجي فاعلها ضمير ( ما ) وهذا ضعيف لوجهين

أحدهما أنها لو كانت كذلك لكانت هي خبر ( ما ) لا يكون هنا إلاَّ ( أفعل ) والثاني أنَّها إنَّها كانت التامَّة لم تستقم لفساد المعنى وإنْ كانت الناقصة لم تستقم أيضا لأنَّ خبرها إذا كان فعلاً ماضيا قُدِّرتْ معه ( قَدْ ) وتقدير ( قَدْ ) هنا فاسد لأنَّه يصير محض خبر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 205 ]

باب إنَّ وأخواتها

إنَّما دخلت ( إنَّ ) على الكلام للتوكيد عوضاً عن تكرير الجملة وفي ذلك اختصار تامٌّ مع حصول الغرض من التوكيد فإنْ دخلت ( اللام ) في خبرها آكد وصارت ( إنَّ واللام ) عوضاً من تكرير الجملة ثلاث مرَّات وهكذا ( أنَّ ) المفتوحة إذ لولا إرادة التوكيد لكنت تقول مكان قولك بلغني أنَّ زيداً منطلق بلغني انطلاق زيد

فصل

والأصل في ( كأنَّ زيداً الأسدُ ) أنَّ زيداً كالأسد ثمَّ قدموَّا ( الكاف ) فأدخلوها على ( أنَّ ) ليبتدئوا بالمشبه وهو أوْلى من أن يبتدئوا بما لفظه لفظ التحقيق ثم يعود التشبيه إليه بعد ذلك ولَمّا كانت كاف الجرَّ تفتح لها ( انَّ ) كما تفتح بعد غيرها من حروف الجرّ فُتحت ههنا وإن كانت قد ركِّبت معها وجعلتا كحرف واحد تنبيها على الأصل الذي ذكرتُ إلاَّ أنَّها تفارق الكاف الجارَّة في شيئين أحدهما أنَّها غير معلَّقة بفعل فلا موضع لها ولما بعدها إذن

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 206 ]

والثاني أنَّ ما بعد الكاف ليس بمجرور الموضع كما يكون بعد اللام في قولك لأنَّ زيداً منطلق ولأنَّها لَمَّا ركَّبت وصار المهّم معنى التشبيه في الخبر صارت قائمة بنفسها

فصل

و ( لكنَّ ) مفردة وقال الكوفيَّون هي مركَّبة من ( لا ) و ( إن ) و ( الكاف ) زائدة و ( الهمزة ) محذوفة وهذا ضعيف جدّاً لأن التركيب خلاف الأصل ثمَّ هو في الحروف أبعد ثمَّ إنَّ فيه أمرين آخرين يزيدانه بعداً وهما زيادة الكاف في وسط الكلمة [ وحذف الهمزة ] وحذف الهمزة في مثل هذا يحتاج إلى دليل قطعيّ

فإنْ قالوا معنى النفي والتأكيد باقٍ لأنَّك إذا قلت قام زيدٌ لكنَّ جعفراً منطلق حصل معنى التأكيد والنفي قيل هذا خطأ لأنَّ ( لا ) النافية لا يبطل نفيها بدخول ( إنَّ ) على ما بعدها كقولك قام زيد لا إن جعفراً قائم فهو كقولك لا جعفر قائم في المعنى و ( لكنَّ ) تثبت ما بعدها لا تنفيه فلم يصحّ ما قالوا

فصل

واللام الأولى في ( لعلَّ ) أصل في أقوى القولين لأن الزيادة تصرّف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 207 ]

والحروف بعيدة منه ولأنَّ الحرف وضع اختصاراً والزيادة عليه تنافي ذلك

وأمَّا مجيئها بغير لام فلغة فيها أو حذف حرف أصليّ والحذف من جنس الاختصار فهو أوْلى من الزيادة

وفي ( لعلّ ) لغات وهي لعلَّ وعلَّ وعنَّ ولعَنَّ ورعنَّ ولغنَّ والمشهور الأوليان وأكثر العرب تنصب بها ومنهم مَنْ جرَّ بهِا وهو قليل

فصل

وإنَّما عملت هذه الحروف لاختصاصها بضرب من الكلام واختصاص الشيء بالشيء دليلٌ على قوَّة تأثيره فيه فإذا أثرَّ في المعنى أثر في اللفظ ليكون اللفظ على حسب المعنى

فأما ( لام التعريف ) فلا تعمل مع اختصاصها لأنها صارت كجزء من الاسم لأنَّها تعيَّن الْمُسَّمى كما تعينُه الأوصاف ولهذا يجوز أن يتوالى بيتان آخِرُ أحِدِهما معرفةٌ وآخر الآخرَ اسم مثل الأوَّل نكرة ولا يُعدُّ إيطاءً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 208 ]

وأمَّا ( السين ) و ( سوف ) فلم يعملا لأنَّهما كجزء من الفعل إذ كان الفعل دالاًّ على الزمان وهما تخصَّصانه حتَّى يدلَّ على ما وضع له وهما مع الفعل بمنزلة فعل موضوع دالّ علىالزمان المستقبل من غير اشتراك

وأمَّا ( قد ) فتدخل علىالماضي والمستقبل ثَّم إنَّها تقرَّب الماضي من الحال وهذا تأثير في زمان الفعل فصارت كالسين والأفعال إنَّما عملت لاختصاصها وهذه الحروف مشَّبةٌ بها

فصل

وإنَّما عملت الرفع والنصب لأنَّها شابهت الأفعال في أختصاصها بالأسماء في دخولها علىالضمائر نحو ( إنَّك ) و ( إنَّه ) وفي أنَّ معاينها معاني الأفعال من التوكيد والتشبيه وغير ذلك وفي أنَّها على ثلاثة أحرف مفتوحة الآخر ومن حيث رفع الفعل ونصب فيما يقتضيه فكذلك هذه الحروف

فصل

وقدِّم منصوبها على مرفوعها لثلاثة أوجه

أحدها أنَّ هذه الأحرف فروعٌ في العمل على الفعل والفروع تضعف عن الأصول فيجب أن تشبه بالأصول في أضعف أحوالها وأضعف أحوال الفعل أن يتقدَّم منصوبه على مرفوعه تقدُّماً كقولك صرف زيداً غُلامُه والثاني أنَّ عمل الفعل في منصوبه أضعف من عمله في مرفوعه لأنَّه فى الرتبة متراخٍ عنه فلَمَّا كان المنصوب أضعف والمرفوعُ أقوى جُعل الأضعف يلي ( إنَّ ) ليقوى بتقدمَّه فيعمل فيه العامل الضعيف وأًخرِّ لأنَّه المرفوع لأنَّ بقوتَّه يستغني عن قوة ملاصقة العامل

والثالث أنَّ المرفوع لوتقدَّم لجاز إضماره والحرف لا يتصًّل به ضمير المرفوع كالتاء والواو ) في ( قمت ) و ( قاموا ) بخلاف ما إذا تأخرَّ

فصل

ولا يجوز تقديم المرفوع هنا لثلاثة أوجه

أحدُها ما تقدَّم من تعذُّر الإضمار

والثاني أنَّ تقديم المرفوع لو جاز لكان أوْلى كما في الفعل وقد بينَّا أنَّ تقديم المنصوب هو الوجه

والثالث أنَّ التقديم وألتأخير تصرُّف ولا تصرُّف لهذه الحروف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 210 ]

فصل

وإنَّما جاز تقديم الظرف وحرف الجرّ إذا كان خبراً لثلاثة أوجه أحدُها أنّ ( إنّ ) غير عاملة فيه إذ ليس هو خبراً لها فى الحقيقة وإنَّما الخبر ما تعلّق به الظرف من معنى الاستقرار وإنَّما يمنتع تقديم خبرها الذي يعمل فيه

والثاني أنّ الظرف لا يصحُّ إضماره وهو أحد ما يمنع التقديم وقد أُمِن

والثالث أنّ الظرف متعلّق بالخبر لاشتماله عليه فهو كاللازم للجملة فساغ تقديمه لذلك ولهذا ساغ الفصل بالظرف بين ( إنّ ) واسمها به أيضاً في قولك إنّ خلفه زيداً قائم وجاز الفصل به بين المضاف والمضاف إليه فى الشعر

فصل

وخبر ( إنّ ) وأخواتها مرفوع بها وقال الكوفّيون هو مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها والدليل على أنَّه مرفوع بها من وجهين

أحدهما أنّ هذه الحروف تعمل في الاسم الأوّل لاقتضائها إيّاه فتعمل فى الخبر كذلك أيضاً ألا ترى أنّ الفعل يعمل فى الفاعل والمفعول لاقتضائه إيّاهما و ( ظننت ) وأخواتها تعمل في المفعولين وقد كانا قبل ذلك مرفوعين لاقتضائه إياهما

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 211 ]

والثاني أنّ خبر ( إنّ ) مرفوع ولا بّد لهُ من رافع ولا يجوز أن يرتفع بغير ( إنّ ) إذ لا عامل سواها والذي كان قبل دخول ( إنّ ) هو المبتدأ وقد بطل ابتداؤه ولهذا لا يعمل الخبر هنا في الاسم لعمل ( إنّ ) فيه فلذلك لا يعمل المبتدأ هنا في الخبر

واحتجّ الآخرون بقول الشاعر [ الرجز ] 30 -

( لا تتركني فيهمُ شطيرا ... إنّي إذن أهلك أو أطيرا ) - الرجز - فنصب ( أهلكَ ) ب ( إذن ) ولم يجعله خَبَر ( إنّ )

واحتجّوا أيضاً بقول العرب إنّ بك تكفّل زيد فَجَعل الفعل في أسمها ولو كانت هي الفاعلة في الخبر لم تكن كذلك والعلّة فيه أنّ هذه الحروف فروع في العمل فلم تَقْوَ على العمل في الاسمين

والجواب أمَّا البيت فمن الشذوذ وتأويلُه أنَّه حذف الخبر لدلالة الباقي عليه تقديره إني أذلّ فأمَّا المسألة المذكورة فلا حجَّة فيها لأنَّ اسم ( إنَّ ) محذوف وهو ضمير الشأن فتقديره إنَّه بك تكفلَّ زيد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 212 ]

وأمَّا ضعفُ هذه الحروف فقد ظهر في عدم تصرُّفها وذلك كاف

فصل

وإنَّما بطل ذلك لأنَّها هيَّأتها لدخولها على الأفعال كقولك إنَّما قام زيد

فصل

وإذا عطفت على اسم ( إنَّ ) قبل الخبر لم يجز فيه إلاَّ النصب وبه قال الفرَّاء فيما يظهر فيه الإعراب وأجاز الرفع فيما لم يظهر فيه الإعراب ويجوز إنَّ زيداً وأنت قائمان واختار الكسائيّ الرفع فيهما والرفع فاسد لأنَّ الخبر إذا ثنِّي كان خبراً عن الاسمين وكان العمل فيه عملاً واحداً وقد وتقدَّم عاملان أحدُهما ( إنَّ ) والآخر المبتدأ المعطوف والعمل الواحد لا يوجبه عاملان

واحتجَّ الآخرون بقوله تعالى ( والصابئون والنصارى ) فرفع قبل الخبر ويقول العرب إنَّ زيداً وعمروٌ ذاهبان حكاه سيبويه وبأنَّ المعطوف على اسم ( لا ) يجوز فيه الرفع فكذلك اسم ( إنَّ )

والجواب عن الآية من وجهين أحدهما أنَّه معطوف على الضمير في ( آمنوا ) وقام الفصل بينهما مقام التوكيد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 213 ]

والثاني أنَّ خبر الصابئين محذوف والنيَّة به التأخير تقديره إن الذين آمنوا إلى قوله ( ولاهم يحزنون ) والصابئون كذلك لا ويجوز أن يكون ( فلا خوف عليهم ) خبر الصابئين وخبر إنَّ محذوف لدلالة هذا الخبر عليه كما قال الشاعر [ من المنسرح ] 31 -

( نحنُ بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مُخْتلِفُ ) - المنسرح - أي نحن بما عندنا راضون ولذلك تُجيُز في الكلام إنَّ زيداُ وعمروٌ قائم على الوجهين وأمَّا قول البرجمي - الطويل - 32 -

( فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ ... فإنَّي وقيَّارٌ بها لغريبُ ) ف ( غريب ) خبر ( إنَّ ) لا غير لأنَّ اللام تكون في خبر ( إنَّ ) لا في خبر المبتدأ وأمَّا ( قيَّار ) فيجوز أن يكون مبتدأ و ( بها ) خبره والجملة حال ويجوز أن يكون خبره محذوفاً دلَّ عليه المذكور

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 214 ]

وأمَّا الحكاية عن العرب فقد قال سبيويه ذلك من قائله على جهة الغلط كما فعلوا في خبر ( ليس ) فجّروا لأنهم توهَّموا الباء في قول الشاعر 33 -

( مشائيم ليسوا مصلحينَ عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلاَّ ببين غرابُها ) وإنَّما غلطوا في ذلك لأنَّه موضع تكثر فيه الباء كذلك في الحكاية

وأمَّا العطف على اسم ( لا ) فالرفع لا يجوز ومن أجازه قال ( لا ) وإسُمها ركِّبا وجعلا كاسم واحد موضعُه رفعٌ ومنهم من قال ( لا ) لا تعمل في الخبر لأنَّها فرع فلم يلزم فيها ما لزم في ( إنَّ )

فصل

واتَّفقوا على جواز نصب المعطوف على اسم إنَّ بعد الخبر على اللفظ ورفعه من ثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 215 ]

أحُدها أن يكون على معنى الابتداء ومعنى ذلك أنَّك لو لم تأت ب ( إنَّ ) لكان الاسم مرفوعاً بالابتداء فجاء المعطوف على ذلك التقدير ولم ينقص رفعه معنى ومن قال هو معطوف علىموضع ( إنَّ ) أو على موضع اسم ( إنَّ ) فهذا المعنى يريد لا ( إنَّ )

الثاني أن يكون مبتدأ والخبر على الوجهين محذوف دلَّ عليه المذكور

والثالث أنْ يكون معطوفاً على الضمير في الخبر فيكون على هذا فاعلاً والأجود على هذا توكيدُه هذا كلّه في ( إنّ )

وأمَّا ( لكنَّ ) فلا يجوز العطف فيها على معنى الابتداء عند أكثر المحقّقين وأمَّا ( أنَّ ) المفتوحة وما عملت فيه فلا تقع مبتدأ بل معمولة لعامل لفظيّ قبلها ويجوز الرفع على الوجهين الآخرين وكذلك ( كأنَّ وليت ولعلَّ ولكنَّ ) لأنَّ هذه الحروف غيَّرت معنى الابتداء

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 216 ]

فصل

وإنَّما أُكِّد خبرُ ( إنَّ ) باللام لأنَّها موضوعةٌ لتأكيد المبتدأ فلمَّا أُريد زيادةُ التوكيد جمع بينها وبين ( إنَّ )

فصل

وموضعها الأصليُّ قبل ( إنَّ ) لثلاثة أوجه أحدُها أنَّه وجب لها الصدر قبل ( إنّ ) فكذلك بعد دخول ( إنَّ ) ولهذا السبب سمَّيت ( لام الابتداء ) والثاني أن اللام تعلّق ( علمت ) عن العمل فلو كانت ( إنّ ) قبلها لمنعتها عن العمل

والثالث أنَّ ( إنَ ) عاملةٌ وهي عامل ضعيف فكان وقوع معمولها يليها أوْلى

فصل

وإنَّما أخَّرتْ ( اللام ) إلى الخبر لئلاَّ يتوالى حرفا معنى كما لا يتوالى حرفا نفي أو استفهام وكانت ( اللام ) أولى بالتأخير من ( إنَّ ) لثلاثة أوجه

أحدُها أنَّ ( اللام ) غير عاملة و ( إنَّ ) عاملة وتأخير غير العامل أوْلى

والثاني أنَّ ( اللام ) تؤثِّر في المعنى فقط و ( إنَّ ) تؤثِّر في اللفظ والمعنى فكان إقرارها ملاصقة اللفظ ملاصقةً للفظ الذي تعمل فيه أوْلى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 217 ]

والثالث أنَّ ( إنَّ ) لو أخَّرت إلى الخبر فنصبته وارتفع ما قبلها تغيَّر حكمها وإن بقي ما قبلها منصوباً وما بعدها مرفوعاً لزم منه تقديم معمولها عليها

فصل

وإنَّما لم تدخل اللام في خبر ( كأنَّ وليت ولعلَّ ) لزوال معنى الابتداء والتحقيق والتوكيد إنَّما يراد به تحقيق المحقَّق الثابت

فصل

وأجاز الكوفيَّون دخول ( اللام ) في خبر ( لكنّ ) لأنَّها مركَّبة من ( لا ) و ( إنَّ ) زيدت عليهما الكاف وقد جاء ذلك في الشعر 34 -

( ... ولكننَّي من حبَّها لعميدُ ) - الطويل - ولأنَّ ( لكنّ ) لا تغيَّر معنى الابتداء وهذا عندنا لا يجوز لوجهين أحدها أنَّه لم يأت منه شيء في القرآن وفي أختيار كلامهم وإن جاء في شعر فهو شاذّ سوَّغته الضرورة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 218 ]

والثاني أنَّ ( اللام ) لو جازت مع ( لكنَّ ) لتقدَّمت عليها لأنّ موضعها صدر الجملة وإنَّما أخَّرت في ( إنَّ ) لئلاَّ يتوالى حرفا تأكيد و ( لكنَّ ) ليست للتوكيد بل للاستدراك وبهذا تبيَّن أنَّ معنى الابتداء لا يبقى معها بالكلِّيَّة لأنَّ الابتداء لا استدراك فيه

فصل

والأصل في ( إنِّي ) ( إنِّني ) وفي ( كأنِّي ) ( كأنَّني ) فيؤتى بنون الوقاية لئلاّ ينكسر آخر الحرف وإنَّما جاز حذفها تخفيفا لكثرة الاستعمال وكثرة النونات والمحذوف النون الثانية لوجهين

أحدُهما أنَّها حذفت قبل دخولها على الضمير فقالوا ( إنْ ) وهي المخَّففة فكذلك بعد دخولها على الضمير

والثاني أنَّ النون الأولى لا يجوز حذفها لأنَّك تحتاج إلى تسكين الثانية ليصحَّ إدغامها فيصير معك حذفٌ وتسكيٌن وإدغام ولأنَّ الثقل لا يقع إلاَّ بالمكرَّر لا بالأوَّل

فصل

فإنْ فصلت بين الخبريَّة ومميّزها نصبت لئلاّ يقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه ومنهم مّنْ يجرُّه ولا يعتدُّ بالفصل

فصل

وقد ترفع النكرة بعد ( كم ) في الاستفهام ويكون المميز محذوفاً ويقدّر ما يحتمله الكلام كقولك كم رجلٌ جاءك أي كم مرَّةً أو يوماً ورجل مبتدأ وما بعده الخبر وإذا رفعت لم يتعدَّد الرجل بل تتعدَّد فعلاته

فصل

ويجوز أن يرجع الضمير إلى لفظ ( كم ) فيكون مفرداً وإلى معناها فيكون جمعاً ومنه قوله تعالى ( وكم من ملك في السَّموات لا تُغْني شفاعتُهم )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 219 ]

وحذف الثالثة ضعيف لأنَّها دخلت لمعنى يختلُّ بالحذف وقد ذهب قومٌ إلى أنَّ المحذوفة هي الأُولى وذهب آخرون إلى أنَّ المحذوفة في الثالثة والصحيح ما ذكرنا فأمَّا قولك ( إنَّا ) فالمحذوفة هي الثانية عند الجميع

فصل

وأكثر ما جاء ( لعلّي ) بغير لون لأنَّ اللام تشبه النون فلَمَّا ثقل اجتماع النونات ثقل دخول النون على اللام المشددَّة وقد جاء ( لعلّني ) في الشعر وأمَّا ( ليتي ) فضعيف في القياس قليل في الاستعمال لأنَّ النون إذا لم تثبت توالت أشياء مستثقلة وهي الياء وكسرة التاءِ والياء بعدها

فصل

ويكون ضمير الشأن والقصّة اسم ( إنَّ ) كما كان اسم ( كان ) إلاَّ أنَّ ( كان ) يستتر فيها الضمير إذ كانت فعلاًو ( إنَّ ) لا يستتر فيها لأنَّها حرف وإن جاءت الجملة بعدها كقولك إنَّ زيدٌ قائم كان ضمير القصّة محذوفاً للعلم به

وقال الكسائيّ تكون ملغاة عن العمل وهذا ضعيف لقوَّة شبه ( إنَّ ) بالفعل فإنَّ جعلت بمعنى ( نعم ) جاز ذلك فأمَّا قول الشاعر 35 -

( فليت كفافاً كان خيرُك كلّه ... وشرُّك عنَّي ما ارتوى الماءَ مرتوي )

فصل

وممَّا ألحق بِكَمْ ( كأيَّن ) في الكثير وفيها لغات وكلام لا يحتمله هذا المختصر إلاَّ أنَّها لا تضاف ولا بُدَّ من ( مِنْ ) بعدها

وممَّا أْلحق بكم ( كذا ) كقولك له عندي كذا درهماً وكذا كذا درهماً وكذا وكذا درهماً وقد فرَّع الفقهاء على هذا مسائل في الإقرار تحتاج إلى نظر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 220 ]

ففيه آوجه

أحدُها أنَّ ضمير الشأن محذوف وهو اسم ( ليت ) وخبرها الجملة التى بعدها و ( كفافاً ) خبر ( كان ) ( خيرك ) اسمها ولم يثن الخبر لأنَّه كالمصدر / والثاني أنَّ ( كفافاً ) اسم ( ليت ) وكان وما عملت فيه خبرها وخبر ( كان ) محذوف

والثالث أنَّ ( كان ) زائدة ويروى ( شرَّك ) بالنصب على أنَّه معطوف على اسم ( ليت ) وأمَّا قوله ( ماارتوى الماء ) فالصحيح في الماء النصب و ( مرتوي ) فاعل وتروى بالرفع على معنى ما أروى الماء مرتوياً وسكن الياء في موضع النصب ثمّ حذف التنوين وقيل جعل الماء مرتوياً على المبالغة وكلُّ ذلك ضعيف وقيل ( مرتوي ) رفع خبر ( شرّك )

فصل

ويجوز أن تعمل ( أنْ ) المخففة من الثقيلة عملها قبل التخفيف وقد جاء ذلك في الشعر كما قال الشاعر [ - الطويل - ] 36 -

( فلو أنْكِ في يومِ الرخاءِ سألتنِي ... فراقَكِ لم أبخلْ وأنتِ صديق )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 221 ]

وقرأ بعض القرَّاء ( وإنْ كلا لما ليوفيّنهم ربُّك أعمالهم ) بتخفيف النون ونصب ( كلّ ) ولا يجوز أن يكون بمعنى ( ما ) وأن ينصب ( كلا ) بفعل مقدَّر لأنَّك إنْ قدَّرته من جنس المذكور بعدها فسد المعنى لأنَّه يصير ( ما يوفيَّ كلاًّ أعمالهم ) وإنْ قدرته من غير جنسه لم يكن لتقدير القسم هنا موضع لأنَّ أحسن ما يقدَّر به ( ما نُهمل كلاًّ ) على أنَّ ( لَمّا ) لا تكون بمعنى ( إلاَّ ) في غير القسم

وإن كانت المخفَّفة من الثقيلة وأضمرت عاملاً غير ( ما ) لم يصحّ لوجهين

أحدهما أنَّ ( أنَّ ) قد توهنت بالحذف فلا توهّن بحذف الفعل أيضاً

والثاني أنَّ المخففَّة إذا وليها الفعل وحذف اسمها لا يخلو من عوض والعوض هو ( قد والسين وسوف ولم ولا وليس )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 222 ]

ويدلُّ على جوازه ايضاً أنَّ المثقّلة مشتبهّه بالفعل وقد عمل الفعل بعد تخفيفه بالحذف كقولك لم يك ولا أدر ولم أبَلْ وقال الكوفيَّون لا يجوز أن تعمل بعد التخفيف لضعفها وقد دللنا على الجواز ويكفي في ضعفها جواز إبطالِ عملها لا وجوبه فأمّا قول الشاعر [ - الطويل - ] 37 -

( فيوماً توافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةً تعطوا إلى وارفِ السَّلَمْ فيروى بالرفع مع الإلغاء والتقدير كأنهَّا ظبية وبالنصب على الإعمال والخبر محذوف أي كأن ظبيةً هذه المرأة وبالجِّر على زيادة ( أنْ ) والجرّ بكاف التشبيه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 223 ]

باب الفرق بين إن المفتوحة والمكسورة

وإنَّما فرَّقوا بينهما لافتراقهما في المعنى والتباس المعنى في بعض المواضع ففرَّقوا بالحركات ليزول اللبس ألا ترى أنَّك إذا أنَّك إذا قلت أوَّل ما أقول إنَّي أحمد الله يحتمل معنيين أحدهما أن تجعل الحمد هو أول كلامك

والثانى أن تجعل الحمد هو الذي تحكيه بقولك ( أقول ) وليس هو نفس الأوَّل فعند ذلك يحتاج إلى الفرق بينهما ليتَّضح المعنى

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في التلبيه ( ( لبيك إنَّ الحمد لك ) ) إذا فتحت كان المعنى لبّيك لأنَّ الحمد لك وإذا كسرت كان مستأنفاً وهو أجود في التلبية

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 224 ]

فصل

والمكسور هي الأصل لثلاثة أوجه

أحدها أنَّها تفيد في الجملة معنى واحداً هو التوكيد فهي ك ( لام الابتداء ) و ( الباء ) الداخلة في خبر ( ليس ) و ( نون تأكيد الفعل ) والمفتوحة تفيد التوكيد وتعلّق ما بعدها بما قبلها

والثاني أنَّ ( إنَّ ) المكسورة أشبه بالفعل لذا كانت عاملة غير معمول فيها كما هو أصل الفعل والمفتوحة عاملة ومعمول فيها فهي كالمركَّب والمكسورةُ كالمفرد والمفرد أصل للمركَّب

والثالث أنَّ المكسورة ليست كبعض الاسم هي مستقلَّة بنفسها والمفتوحة كبعض الاسم إذ كانت هي وما عملت فيه تقدير اسم واحد

وقد قال قوم المفتوحة أصلٌ للمكسورة وقال آخرون كلّ واحدة منهما أصلٌ بنفسها والصحيح ما بدأنا به

فصل

وإنَّما خصَّت المصدريَّة بالفتح لأنَّهم لَمَّا آثروا الفرق عدلوا إلى أخفَّ الحركات وهي الفتحة إنْ شئت قلت لَمَّا كانت المصدريَّة كبعض الاسم طال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 225 ]

الكلام بها فخصَّت بأخف الحركات وأنْ شئت قلت لَمَّا كانت مصدرّية حملوها على ( أن ) الناصبة للفعل في الفتح كما حملوا الناصبة للفعل في العمل على الناصبة للاسم

فصل

وكلّ موضع وقعت فيه ( إنَّ ) وحسن أن يقع في موقعها فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر كانت مكسورة وكلُّ موضع لم يحسن في موضعها إلاَّ الفعل وحده أو الاسم وحده فهي مفتوحة وعلى هذا تبنى مسائل الفرق بين ( إنَّ ) و ( أنَّ ) فمن ذلك كسرها بعد القول لأنَّ القول تحكى بعده الجملة من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر ومن ذلك كسرها إذا وقعت صلة ( للذي ) وإذا وقعت في جواب القسم وإذا وقعت اللام في خبرها

وقد تقع في موضع يحتمل الأمَريْن كقولك لقيت زيداً فإذا إنَّه عبد بالكسر على معنى فإذا هو عبد وبالفتح على معنى فإذا العبوديَّةُ أيْ فاجأتني ذلتَّه ونحو ذلك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 226 ]

باب ( لا )

ولها اقسام ستّة أحدها أن تدخل على الاستفهام لتنفي عنه الخبر وهذا البابُ مختصٌّ بها وبقيَّة أقسامها تُذْكَرُ في مواضهعا واعلم أنَّ ( لا ) هذه عاملة في الاسم على الجملة لأنَّها أشبهت ( أنَّ ) الثقيلة من أوجه

أحدها أنَّها تدخل على مبتدأ وخبر كما أنَّ ( إنَّ ) كذلك والثاني أنَّ لها صدر الجملة كما أن ( إنَّ ) كذلك

والثالث أنَّها لتوكيد النفي كما أنَّ ( إنَّ ) لتوكيد الإثبات والرابع أنَّها نقيضة ( أنَّ ) وهم يحملون الشيء على نقيضه كما يحملونه على نظيره وسنرى ذلك مستقصى في موضعه

وقال بعضهم هي محمولة على ( أنْ ) الخفيفة لوجهين

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 227 ]

أحدهما أنَّها على حرفين مثلها والثاني أنّ الخفيفة وتلغي كما أن ( لا ) كذلك

فصل

وتعمل النصب في الاسم عند الجميع كما عملت ( إنَّ ) وإنَّما تعمله بثلاث شرائط إحداها أن تلي الاسم من غير فصل

والثانية أن تكون داخلة على نكرة والثالثة أن تكون تلك النكرة جنساُ وإنَّما عملت بهذه الشرائط لأنَّها اختصت بهذه الأشياء وكلّ مختصّ يجب أن يعمل وعملت النصب لما ذكرنا من مشابهتها ( إنَّ )

فصل

واختلفوا في الاسم النكرة المتفيّة ب ( لا ) نفياً عامّاً إذا لم تكن مضافة ولا مشابهة للمضاف هل هي مبنيّة أو معربة فمذهب أكثر البصريَّين أنَّها مبينَّة وقال الزجاج والسيرافيّ وأهل الكوفة هي معربة

واحتجّ الأوَّلون على بنائها من أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 228 ]

أحدها أنَّ بين ( لا ) وبين النكرة حرفاً مقدَّرا وهو ( مِنْ ) والاسم إذا تضمَّن معنى الحرف بُني وإنما وجب تقديرُ ( مِنْ ) ههنا لأنها جوابُ مَنْ قالَ هل من رجلٍ في الدَّار وإنَّما دخلت ههنا لتدلّ على الجنس وذلك أنَّك إذا قلت هل رجلٌ في الدار أو لا رجلٌ في الدار بالرفع والتنوين تناول رجلاً واحداً حتّى لوكان هناك رجلان أو أكثر لم يكن الاستفهام متناولاً لهما فإذا أدخلت ( مِنْ ) تناول الجنس كلّه وكذلك إذا قلت ما جاءني من رجل لم يجز أن يكون جاءك واحد أو أكثر وإن حذفت ( من ) جاز أن يكن جاءك رجلان أو أكثر وإذا أثبت ذلك صار الاسم متضّمناً معنى ( من ) المفيدة معنى الجنس

والوجه الثاني أن لا لما لم تعمل إلا إذا لاصقت الاسم وكانت ( من ) بينهما مرادة صارتا كالاسم المركب في باب العدد كخمسة عشر والمركب يبنى لتضمنه معنى الحرف

والثالث أنَّ ( لا ) في هذا الباب خالفت بقيَّة حروف النفي من وجهين

أحدُهما أنَّها جوابٌ لما ليس بإيجاب بل لما هو استفهام وبقية حروف النفي يجاب بها عن الواجب

والثاني أنَّها مختصَّة بالنكرة العامَّة التي هي جنس وليس شيءٌ من حروف النفي مختصّاً بضرب من الأسماء

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 229 ]

واحتجَّ من قال الاسم هنا معرب بأربعة أوجه

أحدُها أنَّ الاسم المعطوف عليه معرب كقولك لا رجل وغلاماَ عندك والواو نائبه عن ( لا )

والثاني أنَّ خبرها معربّ وعملها في الاسمين واحد 0 والثالث أنَّ ( لا ) عامله فلو حصل البناء هنا لحصل بعامل والبناء لا يحصل بعامل لانَّ العامل غير المعمول والبناء شبه التركيب وجزءا المركَّب شيء واحد

والرابع أنَّ الاسم لو كان مبنيّاً لبني على حركه غير الفتح لأنَّ ( لا ) تعمل النصب فإذا عرض البناء وجب أن تكون حركته غير حركة الإعراب كما في ( قبلُ وبعدُ )

والجواب أنَّ المعطوف عليه بني لتضمُّنه معنى الحرف وإنَّما يكون ذلك مع ( لا ) نفسها والواو لا تنوب عن ( لا ) في هذا المعنى بل تنوب عنها في العطف فقط ولهذا يسوغ إظهار ( لا ) مع ( الواو )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 231 ]

قيل أثر ضعفها قد ظهر في شيء غير التنوين فمن ذلك أنَّه لا يفصل بينها وبين اسمها بالخبر ولا بغيره ولأنَّ التنوين لا يحدث بالعامل حتى يحذف إذا ضعف العامل وإنَّما هو تابعٌ لحركة الإعراب

فإن قيل إنما حذف التنوين لأن هذا الباب خالف بقية العوامل في اختصاصه ببعض الأسماء وعلى وجه مخصوص فخولف به أيضاً في التنوين قيل قد أجبنا عن هذا

فصل

واتَّفقوا على أنَّ النكرة المضافة كقولك لا غلام رجلٍ عندنا وفي المشابه للمضاف كقولك لا خيراً من زيد عندنا معرب وإنَّما خالف هذا الاسم النكرة المفردة لثلاثة أوجه

أحدُها أنَّ المضاف والمضاف إليه كاشيء الواحد وهما في اللفظ اسمان فلو بنيت الاسم الأوَّل مع ( لا ) لكان لعلّة التركيب فتصير ثلاثة أشياء كالشيء واحد

والثاني أنَّ المضاف إليه واقعٌ موقع التنوين وكما أنَّ التنوين لا يكون بعد حركة البناء كذلك المضاف إليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 232 ]

والثالث أنَّ المضاف عاملٌ في المضاف إليه وقد أُلفَ من كلّ مبنيّ إذا أضيف إلى مفرد أعرب فأمَّأ ( لدنْ ) فبنيت مع الإضافة لإيغاها في شبه الحرف بخلاف باب ( لا )

فصل

والمشابه للمضاف من أجل طوله ما كان عاملاً فيما بعده وكان ما بعده من تمام معناه كقولك لا ضارباً زيداً ولا حَسَناً وجهه قائم ولا خيراً من زيد لنا ووجه مشابهته للمضاف من وجهين

أحدهما أنَّه عامل فيما بعده كما يعمل المضاف فيه المضاف إليه والثاني أنَّ ما بعده مفتقر إليه كافتقار المضاف إليه إلى المضاف وعلى هذا إذا قلت لا مروراً بزيدٍ وعلقَّت الباء بالمصدر نصبت ونوَّنت لأنَّه عاملٌ فيما بعده والخبر محذوف وإنْ جعلت ( بزيد ) الخبر لم تْنوِّن المصدر لأنَّه غير عامل ههنا وكذلك لا آمر بالمعروف يوم الجمعة إن أعملت آمراً نوَّنته وإن لم تعمله لم تنوِّنه ولا يكون ( يوم الجمعة ) خبراً لأنَّ ظرف الزمان لا يُخبَر به عن الجثث والنفي على هذا التقدير خاصٌّ ببعض الآمرين وإن جعلت الباء الخبر كان النفي عامّاً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 233 ]

فصل

وموضع ( لا ) واسمها رفع بالابتداء لوجهين

أحدُهما أنَّهما في حكم المركَّب على ما تقدم والمركَّب يجري مجرى المفرد في موضع الإعراب

والثاني أنَّ الكلام قبل دخول ( لا ) جملة خبريَّة كقولك عندنا رجل فإذا أدخلت ( لا ) بقيتْ الخبريه على ما كانت إلاَّ أنَّ الخبر منفيّ وكان مثبتاً وهذا مثل ( ما ) في قولك ما عندنا رجلٌ إلاَّ أنَّك لَمَّا أدخلت ( لا ) أوْلَيْتَها الاسم ولهذا إذا قدَّمت الخبر أو فصلت بينهما رجع إلى الابتداء والخبر لفظاً مثل قوله تعالى ( لافيها غول ) وليس ك ( أنَّ وليت ولعلّ ) لأنَّها تغير معنى الابتداء

فصل

واختلفوا في خبر ( لا ) فقال سيبويه هو مرفوع بالابتداء كما يرتفع قبل دخول ( لا ) وحجَّتهُ شيئان

أحدُهما أنَّه لَمَّا كان موضع ( لا ) واسمها رفعاً كان الخبر مرفوعاً على ذلك التقدير

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 234 ]

والثاني أنَّ ( لا ) ضعيفة جداً فلم تعمل في الاسمين بخلاف ( كان ) و ( إنَّ )

وقال الأخفش هو مرفوع ب ( لا ) لأنَّها أقتضت اسمين وعملت في أحدهما فتعمل في الآخر ك ( إنَّ ) وعلى هذا تترتَّب مسألة هي قول الشاعر 38 -

( فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها ... )

على قول سيبويه ( فيها ) خبرٌ عن الاسمين وعلى قول أبي الحسن هو خبر عن أحدهما وخبر الآخر محذوف

فصل

إذا وصفت اسم ( لا ) قبل الخبر ففيه ثلاثة أوجه

أحدُها النصب بالتنوين حملاً على موضع اسم ( لا ) كما حملت صفة المنادى المبنيّ على موضعه فنصبت ولم تبن الصفة كما لم تبن صفة المنادى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 235 ]

والثاني الرفع والتنوين حملاً على موضع ( لا ) واسمها إذ موضعها رفع على ما تقدَّم والثالث الفتح بغير تنوين وفي ذلك وجهان أحدُهما أنَّها فتحة بناء وأنَّما فعلوا ذلك لأنَّ الصفة والموصوف كالشيء الواحد ولهذا قد لزمتْ في بعض المواضع كما تلزم الصلة نحو قولهم يا أيُّها الرجل وكقولهم مررت بخلف الأحمر ولولا ذكر ( الأحمر ) لم تعلم أنَّ المراد ( خلفٌ ) المعروفُ بالعلم أو غيره ولَمَّا جَرَتا مجرى الشيء الواحد بَنْوهما قبل دخول ( لا ) كما بني ( خمسة عشر ) وكما بنوا ( ابن أمّ ) و ( زيدَ بن عمرو ) فيمن فتح الدال ثَّم أدخلوا عليه حرف النداء دخلت ( لا ) على اسم مركَّب مبنيّ ولا يجوز أن

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 236 ]

تكون ( لا ) دخلت عليهما وهما معربان فُبنيتا معها لأنَّ ذلك يوجب جعل ثلاثة اشياء كشيء واحد ولا نظير له

والوجه الثاني أن تجعل فتحة الصفة فتحة إعراب وحذفت التنوين ليشاكل لفظ الصفة لفظ الموصوف كما أنَّهم جعلوا ( كلا ) و ( كلتا ) بلفظ التثنية إذا أضيفت إلى الممضمرلأنَّها في ذلك الموضع تتبع ما قبلها من المثنَّى وهذا على مذهب من جعل اسم ( لا ) مُعْرباً أظهر

فصل

فإنْ جاءت الصفة بعد الخبر جاز فيها الرفع والنصب بالتنوين على ما تقدَّم ولم يجز البناء للفصل بينهما بالخبر

فصل

إذا عطفت على اسم ( لا ) ولم تكرِّر كان لك في المعطوف الرفع على موضع ( لا ) واسمها كما ذكرنا في الصفة والنصب بالتنوين قياساً على الصفة أيضاً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 237 ]

ولا يجوز بناؤه لأن لفظ ( لا ) غير موجود معه ولا يجوز بناؤه بسبب ( لا ) المتقدِّمة لأنَّ ذلك يفضي إلى جعل أربعة أشياء كشيءٍ واحد

فصل

فإنْ عطفت عليه معرفة لم يحز فيها النصب لأنَّ ( لا ) لا تعمل في المعارف بل ترفعه على الموضع كقولك لاغلام لك والعبَّاسُ وكذلك إن ذكرت ( لا ) فقلت ( ولا العَّباسُ ) ورفعه على الموضع

فصل

فإذا كرَّرت ( لا ) مع المعطوف جاز فيها عدَّة أوجه

أحدُها أن تبني الاسمين على أن تجعل ( لا ) الثانية غير مزيدة كالأولى والواو عاطفة جملة على جملة 2 -

والثاني أن تبني الأوَّل على أصل الباب تنصب الثاني وتنِّونه وتجعل ( لا ) زايدة كما زيدت في قولك مالي دينار ولا درهم فإنَّها مزيدة لتوكيد النفي 3 - والثالث أنْ تبنى الأوّل على الأصل وترفع الثاني على ثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 238 ]

أ -

أحدها أن تجعل ( لا ) زائدة وتحمل المعطوف على الموضع ب - والثاني أن تجعل ( لا ) عاملة عمل ( ليس ) فيكون أسمها مرفوعاً وخبرها منصوبا وقد أجازوا ذلك إذا كان الاسم نكرة كما قال [ الكامل ] 39 -

( من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لابراحُ ) - الكامل - أي ليس لنا براح وقال العجَّاح 40 -

( تالله لولا أنْ تحشَّ الطُبَّخُ ... بي الجحيمَ حين لا مُسْتَصْرحُ ) - الرجز - وحملْ ( لا ) على ( ليس ) قويٌّ في القياس لأنَّها نافية مثلها وإذا جاز قياسها على ( إنَّ ) في العمل - مع أنَّها نقيضتها - فحْملُها على نظيرتها أوْلى ج -

والثالث أن تلغي ( لا ) ويكون ما بعدها مبتدأ وخبراً على ما يوجبه القياس فيها 4 -

والوجه الرابع أن ترفع الاسمين وتجعل ( لا ) الأولى على ما ذكرناه في رفع الثانية من حملها على ( ليس ) وإلغائها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 239 ]

-

والخامس أن تَرْفَعَ الأولى على ما ذكرنا وتبني على أصل الباب

فصل

فإنْ كان اسم ( لا ) مثنَّى أو مجموعاً كان بالياء والنون أمَّا ( الياء ) فإنَّها تدلُّ على النصب في المعرب فجعلت ههنا دلالة على موضع المنصوب وعلى لفظ الفتح الذي في اسم ( لا ) كما قالوا في المنادى يا زيدان أقبلا واختلفوا هل هذا اسم معرب أو مبنٌّي على ما كان عليه في الإفراد

فقال الخليل وسيبويه هو على ما كان عليه لأنَّ العلَّة الموجبة للبناء قائمة ولا مانع منه والمثَّنى يكون مبنياً كما في باب النداء و ( النون ) ليست بدلا من الحركة والتنوين في كلِّ موضع على ما يبيّن في باب التثنية

وقال أبو العبَّاس هما معربان لوجهين

أحدُهما أنَّه ليس شيء من المركَّبات ثنَّيَّ فيه الاسم الثاني وجمع

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 240 ]

والثاني أنَّ المثنّى في حكم المعطوف والعطف يمنع من البناء والذي ذكره غير لازم فإنَّ المركَّب إذا سُمِّي به صحَّت تثنية الاسم الثاني وجمعه كما لو سمَّيت رجلاً ب ( حضرموت ) فإنَّك تقول في التثنية والجمع جاءني حضرموتان وحضرموتون وأمَّا جعل التثنية كالمعطوف فذاك في المعنى لا في اللفظ

فصل

وإذا دخلت ( لا ) على المعرفة لم تعمل فيها ولزم تكريرها كقولك لا زيدٌ في الدار ولا عمروٌ وإنَّما لم تعمل هنا لبطلان شبهها ب ( إنّ ) وإنَّما لزم التكرير لأنّه جواب من قال أزيد في الدار أم عمرو فلو قلت لا مقتصراً عليها لم يطابق الجواب السؤال وكذا لو قلت لا زيدٌ لم يُسْتوف جواب السؤال

فأمَّا قولهم لا نَوْلُك أن تفعل فجاز من غير تكرير حملاً على المعنى

والمعنى لا ينبغي لك

فصل

فأمَّا قولهم لا أبالك فالعرب يستعملونها على ثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 241 ]

-

( لا أب لك ) بحذف الألف وهو الأصلُ لأنَّ ( لا ) لا تعمل في المعرفة و ( اللام ) تقطع الاسم عن الإضافة فيبقى نكرة و ( أب ) و ( أخ ) وبابهما تحذف لاماتها في الإفراد 2 -

والوجه الثاني ( لا أبا لك ) بإثبات الألف وفي ذلك ثلاثة أوجه أ - أحدها أنَّه جاء على لغة من قال ( لا أبا ) في كلّ حال كالمقصور ب - والثاني أنَّ الألف نشأت عن إشباع فتحة الباء ج - والثالث أنَّ ( اللام ) في حكم الزائدة من وجه فكأنَّ ( الأب ) مضاف إلى الكاف ولام هذا الاسم ترجع في الإضافة وهي أصلٌ من وجه وذلك أنَّ ( لا ) لا تعمل في المعارف وقد عملت ههنا فوجب أن تكون اللام مبطلة للإضافة وهذا كما قالوا 41 -

( ... يا بؤس للجهل ) - البسيط

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 242 ]

( يابؤس للحرب ... ) - مجزوء الكامل - ولايجوز ذلك في غير اللام لأنَّها القاطعة للإضافة في هذا المعنى 3 -

واللغة الثالثة ( لا ابالك ) بحذف اللام وهي اشدُّها وأبعدُها عن القياس والوجه فيها أنَّه حذف ( اللام ) وهو يريدها فهي في حكم الملفوظ به كما في قولهم 43 -

( ... ولا ناعبٍ إلاَّ ببينٍ غرائبها ) - الطويل - وكما قيل لرؤبةكيف أصبحت فقال خيرٍ إن شاء الله أراد بخير ومثل ذلك قولهم ( لا يدي لك بفلان ) و ( هذا قميصٌ لا كُمَّيْ له ) فحذف النون ههنا وإثبات الياء على الوجه المقدَّم

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 243 ]

فإن فصلت بين اللام وبين الاسم الأوَّل ثَبَتَتْ النون لأنَّ ذلك يمنع من الإضافة وأمَّا ( لك ) في قولك ( لا أبالك ) ففيها ثلاثة

أوجه أحدها أنْ تجعلها الخبر والثاني أن تجعلها صفة للاسم في موضع نصب أو رفع وتتعلق بمحذوف

والثالث أن تجعلها للتبيين والتقديرأعني لك والقول المحقَّق في ( لأابالك ) أنَّ اللام في حكم الزائدة من وجه والاسم مضاف إلى ( الكاف ) ولم يعرّف لأنّ المعنى لا مثل أبيك كما قالوا 44 -

( لا هيثم الليلة للمطيّ ... ) - الرجز -

فصل

فإنْ أدخلت همزة الاستفهام على ( لا ) لم تغيرِّ حكم ( لا ) في جميع ما ذكرنا إلاَّ أنّ سيبويه يختار في الخبر النَّصْبَ فيقول ألا رجل أفضلَ منك وإن قلت

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 244 ]

ألا رجلاً فعلى معنى التمنّي أي لا أجد وإن قلت ألا رجل يكرمنا فهو على ما كان عليه قبل الهمزة في اللفظ

واختلفوا في موضع الاسم فسيبويه يرى أنَّه منصوب بما في ( ألا ) من معنى التمنّي ولم يغيرّ اللفظ كما أن قولك رحمه الله لفظهُ على شيء ومعناه على شيء آخر فعلى هذا القول لا يجوز رفع الصفة كقولك ألا ماء بارداً أشربه وقال أبو العباس موضعه على ما كان عليه قبل الهمزة ورفع صفته جائز

فصل

وأما ( ألا ) التي للتخضيض فكلمه واحدة وما بعدها منصوب بفعل مضمر ويأتي ذكر ذلك في المنصوبات إن شاء الله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 245 ]

فصل

فإن استثيت بعد ( لا ) رفعت المستثنى كقولك لا إله إلا الله لأنَّه بدل من الموضع وقد بطل عمل ( لا ) بالإثبات والتقدير لا إله في الوجود إلاَّ الله أي الله وحده الإله

فصل

وأمَّا قولهم جئت بلا شيء وغضبت من لا شيء ف ( لا ) فيه حرف عند البصريَّين ولم تمنع تعدِّي العامل إلى ما بعدها لأنَّها زيادة في اللفظ دون المعنى وقال بعضهم هي اسم بمعنى ( غير ) وتجرّ بالإضافة وأمَّا قول الشاعر 45 -

( أبى جودُه لا البخلُ واستعجلتْ به ... نَعَمْ مِنْ فتًى لا يمنع الجود قاتلُهْ ) - الطويل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 246 ]

فيروى ( البخل ) بالجرِّ على أنَّه جعل ( لا ) اسماً وأضافها إلى كلمة البخل وبالنصب بدلاُ من ( لا ) وبالرفع على إضمار ( هو )

فصل

وأمَّا قولُهم ( لا خَيْرَ بخيرٍ بعده النار ولا شرَّ بشرٍّ بعده الجنَّةُ ) ففيه قولان

أحدهما أنَّ قوله ( بخير ) خبر ( لا ) و ( بعدُه ) صفة الخبر والباء بمعنى ( في ) والثاني أنَّ ( بعده ) صفة اسم ( لا ) و ( بخير ) خبره مقدّم والباء زائدة والتقدير لا خير بعدَه النارُ خيرٌ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 247 ]

باب ظننت وأخواتها

هذه الأفعال من عوامل المبتدأ والخبر ولذلك احتاجت إلى مفعولين فالأوَّل ما كان مبتدأ والثاني ما وما صلح أن يكون خبراً

وإنَّما نصبتهما لأنَّهما جاءا بعد الفعل والفاعل والذي تعلَّق به الظن منهما هو المفعول الثاني وذكر المفعول الأوَّل لأنَّه محلُّ الشيء المظنون لأ لأنَّه مظنون ألا ترى أنَّ قولك ظننت زيداً منطلقاً ( زيدٌ ) فيه غير مظنون وإنَّما المظنون انطلاقه ولكنْ لو قلت ظننت منطلقاً لم يعلم الانطلاق لمن كان كما لو ذكرت الخبر من غير مبتدأ

فإن قيل فلماذا دخلت هذه الأفعال على المبتدأ والخبر لتحدث في الجملة معنى الظنّ والعلم اللذين لم يتحقق معناها في المبتدأ والخبر ألا ترى أنَّ قولك زيد منطلقٌ يجوز أن تكون قلت ذلك عن ظن وأن تكون قلته عن علم فإذا قلت ظننت أو علمت صَّرحت بالحقيقة وزال الاحتمال

فصل

وإذا ذكرت هذه الأفعال مع فاعلها لم يلزم ذكر المفعولين لأنّ الجملةَ قد تَّمت ولكن تكون الفائدة قاصرة لأنَّ الغرض من ذكر الظن المظنون فإذا اردت تمام

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 248 ]

الفائدة ذكرت المفعولين لتبيِّن الشي المظنون والذي أسند إليه المظنون ولا يجوز الاقتصارُعلى أحدهما لأن المفعول الأول إن اقتصرت عليه لم يعرف المقصود بهذه الأفعال وإن اقتصرت على الثاني لم يعلم إلى من أسند

فصل

وحكم المفععول الثاني حكم الخبر في كونه مفرداً وجملة وظرفا وفي لزوم العائد على المفعول الأوَّل من المفعول الثاني على حسب ذلك في الخبر لأنَّه خبر في الأصل

فصل

وإذا تقدَّمت هذه الأفعال نصبت المفعولين لفظا أو تقديراً فاللفظ كقولك ظننت زيدا قائما والتقدير في ثلاثة مواضع

أحدُها أن يكون المبتدأ والخبر مفسّراً لضمير الشأن كقولك ظننته زيد منطلق ظننت أي الشأن والأمر فالجملة بعده في موضع نصب لوقوعها موقع المفعول الثاني كما كان ذلك خبر في خبر ( كان )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 249 ]

والثاني أن يكون المفعول الأوَّل استفهاما كقوله تعالى ( لْنَعلَمَ ايُّ الجِزْبَيْنِ أحْصَى ) فالجملة في موضع نصب ولم يعمل الظن في لفظ الاستقهام لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام

والثالث أن م تدخل لام الابتداء على المفعول الأوَّل كقوله علمت لزيد منطلق ولا يجوز هنا غير الرفع لأن الفعل وإن كان مقدَّما عاملا ولكنه ضعيف إذ كان من أفعال القلب والغرض منه ثبوت الشك أو العلم في الخبر ومن ههنا أشبهت هذه الأفعال الحروف لأنَّها أفادت معنى في غيرها واللامُ وإنْ لم تكن عاملة ولكنها قويت بشيئين

أحدهما لزوم تصدرها كما لزم تصدُّر الاستفهام والنفي والثاني أنَّها مختصّة بالمبتدأ ومحقِّقة له وإذا كانت اللام أقوى من هذا الفعل في باب الابتداء وكانت الجملة التي دخلت عليها هذه الأفعال مبتدأ وخبرا في الأصل لزم أن يمنع من عمل ما قبلها فيما بعدها لفظا ولهذا كسرت ( إنّ ) لوقوع اللام في الخبر وهذا مع أنَّها لم تتصدَّر

فصل

وإذا توَّسطت بين المفعولين جاز الإعمال والإلغاء وإنّما كان كذلك لأنَّها ضعيفه لما ذكرنا من قبل وقد ازدادت ضعفا بالتأخيرألاَّ ترى أنَّ الفعل الذي

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 250 ]

لا يلغى إذا تأخر حسن دخول اللام على مفعوله كقولك ( لَزٌيد ضربتُ ) ولا يحسن ( ضربت لَزيدٌ ) فقد ازراد ضعفها بالتاخير وبدئ باسم يصلح أن يكون مبتدأ إذ لا عامل لفظيٌّ قبله وبعده وما يصلح أن يكون خبرا عنه غير ( ظننت ) والغرض حاصل من الرفع كما يحصل من النصب فجاز إلغاء الظنّ كما انَّ القسم يُلْغَى إذا توسَّط أو تأخر وهذه الأفعال تشبه القسم في جواز تلقِّيها بالجملة وذلك مع ( اللام ) و ( ما ) نحو علمت لزيدٌ منطلق وكقوله تعالى ( وَظَنُّوا مالهم مِن محيصٍ ) وأمَّأ إعمالها فلأنَّها فعل متصرّف فعملت مؤخرة كما تعمل مقدمة

فصل

واختلفوا في الإعمال والإلغاء هنا هل هما سواء أم لا قفال قوم هما سواء لتعارض الدليلين اللذين ذكرناهما وقال آخرون الإعمال أرجحُ لأنَّ الفعل أقوى من الابتداء

وأمَّا إذا تأخرَّت عن المفعولين فالإلغاءُ أقوى عند الجميع لأنَّ المبتدأ قد وليه الخبر وازداد الفعل ضعفاً بالتاخير بخلاف ما إذا توسَّط لأنَّ نسبته إلى الرتبة الأولى كنسبة إلى الرتبة الثالثة وأذا تأخَّر صار بينه وبين الرتبة اللرتبة الأولى مرتبة وسطى

فصل

وتنفرد هذه الأفعال عن بقية الأفعال بخمسة أشياء

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 251 ]

أحدُها إضمار الشِأن فيها كما أضمر في ( كان ) والثاني تعليقُها عن العمل في المواضع الثلاثة التي ذكرت

والثالث جواز إلغائها إذا توسطت أو تأخرت وليس كذلك ( أعطيت ) وبابه فإنّك لو قلت زيدٌ أعطيت درهم لم يجز

والرابع أنَّه لا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليها وقد ذكرت علَّته والخامس جواز أتِّصال ضمير الفاعل والمفعول بها وهما لشيءٍ واحد كقولك ظننتني قائماً ويذكر في موضعه

فصل

وقد تكون ( ظننت ) بمعنى اليقين كقوله تعالى ( الَّذينَ يظنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبّهم ) وقد تكون بمعنى ( اتَّهمت ) فتتعدَّى إلى واحد لأنَّ التهمة لنفس زيد لا لصفته وقد تكون علمت بمعنى ( عرفت ) فتتعدّى إلى واحد كقوله تعالى ( وآخَرِينَ من دُونِهِم لا تَعلمونَهُم ) لأنَّ المعرفة والجهالة تتعلَّق بعين زيد لا بصفته وتكون ( رأيت ) من رؤية البصر فتتعدى إلى واحد فإنْ جاء منصوبٌ معها فهو حال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 252 ]

وأمّا ( حسبت ) ( خِلْتُ ) فبمعنى التوهُّم لا غير وأمَّا ( زعمت ) فهو عبارة عن القول المقرون بالاعتقاد وقد تكون حقّاً وقد تكون باطلا وأمَّا ( وجدت ) فتكون بمعنى ( علمت ) كقولك وجدت الله عالماً وتكون بمعنى ( صادفت ) فتتعدّى إلى واحد وتكون لازمة كقولك وَجَدْتُ عليه أي غضبت وحزنت

فصل

وقد شبّه ب ( ظننت ) ( قلتُ ) وللعرب فيه ثلاثة مذاهب

أحدُها أنْ يعمل القول عمل الظنّ مع الاستفهام والخطاب والاستقبال كقولك أتقول زيداً قائماً لانَّ الغالب أنَّ المستفهم شاكٌّ وأنَّه يستفهم من بحضرته ليخبره ومنهم من يعملها في الخطاب خبراً كان الكلام أو أستفهاماً ومنهم من يعملها عمل الظنّ بكلِّ حال

وإذا اتّصل ب ( ظننت ) ضميرٌ منصوبٌ فإنْ كانت مقدمة جاز أن تكون الهاء ضمير الشأن ويكون ما بعدها جملة وأن يكون ضمير المصدر أو ضمير زمان أو مكان مفعولاً به على السعة فينتصب المفعولان بعدها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 253 ]

وإن كانت متوسِّطة جاز ذلك أيضا إلاَّ ضمير الشأن لأنَّه لا يفسّر إلاَّ بجملة بعده فإنْ قلت زيد ظننته قائماً فإن رفعت الاسمين على أن الهاء ضمير زيد لم يجز لأنَّك قد أعملت الفعل في مفعول فلا بدَّ من آخر وإن جعلتها ضمير المصدر كان الوجه نصبهما لأنَّك قد أكَّدت الظنّ فإنْ أتيت بلفظ المصدر كان التأكيد أشدّ والإلغائها بعيد مع التوكيد فإن قلت ظننت ذلك جاز أن يكون كناية عن المصدر وأن يكون كناية عن الجملة

فصل

ولا يجوز الاقتصار على أحد المفعولين هنا لما تقدَّم ويترتب عليه مسألتان

إحداهما إذا وقعت ( أنَّ ) وما عملت فيه بعد هذه الأفعال فعند سيبويه قد سدّت الجملة مسدَّ المفعولين وليس في الكلام حذف لأنَّ الجملة مشتملة على الجزاين لفظاً ومعنى وقال الاخفش المفعول الثاني محذوف لأنَّ ( أنَّ ) مصدَرَّية فتكون هي وما عملت فيه في تقدير المصدر المفرد كقولك علمت أنَّ زيداً قائم أي علمت قيام زيد كائناً وهذا مستغنى عن تقديره لثلاثة أوجه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 254 ]

أحدُها أنَّه لا فائدة فيه والثاني أنَّ ما تعلَّق به العلم والظنّ مصّرح به وهو القيام والثالث أنَّ ( أنَّ ) للتوكيد مع بقاء الجملة على رمّتها فهي ك ( لام الابتداء ) وكما لا يحُتاج هناك إلى تقدير مفعول كذلك ههنا

المسألة الثانية قولك ظنّ زيدٌ قائماً أبوه ف ( زيدٌ ) فاعل و ( قائماً ) مفعول و ( أبوه ) فاعل القيام وهذا لا يجوز عندنا إذ ليس في الكلام سوى مفعول واحد وأجازه الكوفيُّون واحتجُّوا بقول الشاعر [ - الطويل - ]

( أظنَّ ابنُ طرثوث عتيبةُ ذاهباً ... بعاديّتي تكذابُه وجعائلُهْ ) وهذا شاذٌّ لا يعرّج عليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 255 ]

باب ما يتعدَّى إلى ثلاثة مفعولين

أقصى ما يتعدَّى إليه الفعل من الفاعل ثلاثة وذلك أنَّ الأصل نسبة الفعل إلى المفاعيل ثّم إنَّ فعل الفاعل قد يفتقر إلى محلٍّ مخصوص يباشره مقصوراً عليه مثل ضرب زيدٌ عمراً وقد يحدث الفاعل الفعل لغيره بحيث يصير المحدث له الفعل فاعلاً به كقولك أضربت زيداً عمراً أي مكَّنته من إيقاع الضرب به فأنت فاعل التمكين من الضرب و ( زيد ) مفعول هذا التمكين و ( الضرب ) الممكّن منه حاصل من زيد في عمرو ف ( زيد ) فاعله و ( عمرو ) مفعوله

وقد يكون فعل الفاعل متعلِّقاً بشيئين لا يتحقق بدونهما كقولك أعطيت زيداً درهماً فالأعطاء من الفاعل لا يتمُّ إلاَّ بالآخذ والمأخوذ إلاَّ أنَّ أحد الشيئين مفعول الإعطاء وفاعل الأخذ والآخر مفعول لا غير

وقد يكون الفعل متعلَّقا بمفعول واحد ولكن يذكر معه غيره لتوقُّف فهمه عليه كقولك ظننت زيداً قائماً فالمفعول على التحقيق هو المطنون وهو القيام ولكن لا يفيد ذكره ما لم يذكر من نسب إليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 256 ]

وقد توجب هذا الفعل لغيرك فتصير فاعلا في المعنى لما تحدثه له والمستعمل من ذلك بلا خلاف فعلان ( أعلمت ) و ( أريت ) المتعدِّيان إلى مفعولين بغير همزة التعدِّي كقولك أعلمت زيداً عمراً عاقلاً وهو قبل النقل علمت زيداً عاقلاً ثم عدَّيته بالهمزة فأوجبت لزيد العلم بعقل عمرو وليس بعد هذه العدَّة غاية يقصد بها التعدِّي إليها إذا لا يتصوَّر أنْ يوجد الإسناد لأكثر من واحد حتَّى يصير بذلك فاعلاً

فصل

فأمَّا ( نبّأت ) و ( أنبأت ) ففعلان متعدّيان إلى شيء واحد وإلى ثانٍ بحرف الجرِّ كقولك نبَّأت زيداً عن حال عمرو أو بحال عمرو وقد يحذف حرف الجرّ كقوله تعالى ( مَن أنبأك هذا ) أي عن هذا وقد ذهب قومٌ إلى أنَّه يتعدَّى بنفسه واستدلَّ بهذه الآية وليس فيه دليل لأنَّه قد استعمل في مواضع أُخَرَ بحرف الجرِّ أكثر من استعماله بغير حرف الجرَّ فالحكم بزيادة الحروف في تلك المواضع لا يجوز فأمَّا حرف الجرّ فأسوغ من الحكم بزيادته ولهذا كان أكثر كقولك 47 -

( أمرتك الخير ... )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 257 ]

فأما قوله تعالى ( قَد نبَّأنا اللهُ مِنْ أخْباركَمْ ) ف ( من ) عند سيبويه غير زائدة على ما أصلَّنا وقال الاخفش هي زائدة والمفعول الثالث محذوف تقديره قد نبّأنا الله أخباركم مشروحة وهذا ضعيف لثلاثة أوجه

أحدها الحكم بزيادة الحرف من غير ضرورة إلى ذلك

والثاني زيادة ( من ) في الواجب وهو بعيد والثالث حذف المفعول الثالث وهو كحذف المفعول الثاني في باب ( ظننت ) وهو غير جائز

فصل

والفرق بين ( نبَّات وأنبأت ) وبين ( أعلمت ) أنَّ ( أعلمت ) استعملت بغير همزة التعدِّي ثَّم عُدِّيت و ( نَّبأت وأنبأتُ ) وضعتا على التعدِّي ولم يستعمل منهما ( نبأ الرجل ) و ( خبرت وأخبرت وحدَّثت ) مثل ( نبَّأت ) وإنَّما ساغ التعدِّي إلى ثلاثة لشبهها ب ( أعلمت ) لأنَّك إذا أخبرت إنساناً بأمر فقد أعلمته به

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 258 ]

فصل

واختلفوا في جواز تعدية ( ظننت ) وأخواتها غير ( علمت ورأيت ) فمذهب سيبويه والجمهور أنَّه لا يجوز إلاَّ في ( علمت ورأيت ) لأنَّ تعدِّي الفعل بالهمزة من باب وضع اللغة ألا ترى أنَّ قولك كَّلمت زيداً لا تجوز تعديته بالهمزة فلا تقول أكلمت زيداً عمراً بمعنى مكَّنته من تكليمه ولم يرد السماع إلاَّ ب ( أعلمت وأريت ) وأجاز الأخفش ذلك في جميع باب ( ظننت ) قياسا على ( أعلمت ورأيت ) وهو بعيد لم قدَّمنا

فصل

لا خلاف في جواز الاقتصار على فاعل هذه الأفعال واختلفوا في جواز الاقتصار علىالمفعول الأول فذهب الأكثرون إلى جوازه كقولك أعلمت زيداً ومنع منه قوم والدليل على جوازه أمران

أحدهما أنَّه فاعل في المعنى والفاعل يجوز الاقتصار عليه في باب ( ظننت ) فكذلك ههنا

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 259 ]

والثاني أنَّ ( زيداً ) هنا مفعول الإعلام وليس بمبتدأ في الأصل بخلاف المفعول الأوَّل في ( ظننت ) فإنَّه مبتدأ في الأصل غير مفعول به

فصل

والمفعول الثالث في هذا الباب هو المفعول الثاني في باب ( ظننت ) فلا يجوز على هذا أن تقول أعلمت زيداً عمراً بِشْراً فكَلُّ منهم غير الآخر إلاَّ على تأويل وهو أن يكون المعنى أعلمتُ زيداً عمراً مثل بشرً أو خيّلت له أنَّ أحدهما هو الآخر أو يكون عمروٌ وبشرٌ اسمين لرجل واحد

فصل

ولا يجوز إلفاء هذه الأفعال بتعليقها عن العمل ولابتوسُّطها وتأخُّرها لأنَّ المفعول الأوَّل فيها فاعل في المعنى وليس بمبتدأ في الأصل فعلى هذا لا تقول أعملت لزيدٌ عمروٌ ذاهب لأنَّك إن جعلت ( ذاهباً ) ل ( عمرو ) لم يعد على زيد ضمير وكذلك إن جعلته لزيد ثَّم إنَّ المفعولين الآخرين غير المفعول الأول فلا يصحُّ أنَّ يجعل كباب ( ظننت ) لأنَّ الثاني هو الأوَّل