بهجة التوراة (سمحات توراه)
Simchat Torah
«بهجة التوراة» ترجمة لعبارة «سمحات توراه» العبرية، وهو عيد يلي اليوم الثامن الختامي (شميني عتسيريت) وهو اليوم الأخير من عيد المظال. وخارج فلسطين، يُدمَج العيدان، ويُحتفَل بهما في يوم واحد. وهو عيد ظهر متأخراً في العراق (في القرن التاسع أو العاشر). وهو أيضاً اليوم الذي تُختَتم فيه الدورة السنوية لقراءة أسفار موسى الخمسة في المعبد. ويُحتفَل به داخل المعبد بأن تُحمَل لفائف الشريعة، ثم يتم الطواف بها سبع مرات (أما الأولاد، فإنهم يحملون الأعلام الصغيرة ويسيرون أمام الكبار). ويُسمَّى كل طواف باسم أحد الآباء؛ فالطواف الأول باسم إبراهيم، والثاني باسم إسحق، والثالث باسم يعقوب، والرابع باسم موسى، والخامس باسم هارون، والسادس باسم يوسف، والسابع باسم داود. ويُقرَأ في هذا الاحتفال آخر سفر من أسفار موسى الخمسة. والمصلي الذي يقوم بالقراءة يُطلَق عليه اسم «عريس التوراة». ثم يُدعَى مصلٍّ آخر، ويُسمَّى «عريس سفر التكوين» ليبدأ الدورة السنوية لقراءة أسفار موسى الخمسة مرة أخرى. ويُسمَّى القارئ باسم «العريس» لأن التوراة عروس جماعة يسرائيل، وكل قراءة جديدة هي بمثابة حفل عرس متجدد.
وقد سُمِّي هذا العيد بعدة تسميات، إلى أن استقر اسمه على ما هو عليه. ففي فترة التلمود، كان يُسمَّى «آخر أيام العيد». وعلى أيام الفقهاء (جاءونيم)، كان يُسمَّى «يوم الكتاب» و «يوم النهاية». ولم يُسمَّ «سمحات توراه» إلا في آخر أيام هؤلاء الفقهاء.
عيد الثامن الختامي (شميني عتسيريت)
Shemini Atzeret
«الثامن الختامي» تُطابق العبارة العبرية «شميني عتسيريت». وعيد الثامن الختامي عيد يهودي مستقل عن عيد المظال، ولكنه ضُم إليه كيوم ثامن. ولا يُعرَف السبب في الاحتفال بهذا العيد، وإن كان من الواضح أنه عيد زراعي قديم، إذ يتم فيه ترديد دعاء خاص بطلب نزول المطر، وذلك أثناء دعاء الصلاة الإضافية (مُوساف). فقد جاء في سفر اللاويين (23/36): « في اليـوم الثامـن يكون لكم محفـل مقـدَّس ». ويُضـاف يوم تاســع للاحتفال خارج فلسطـين، وهو يـوم بهجة التوراة (سمحات توراه). أما في فلسطين، فإنهم يحتفلون ببهجة التوراة وعيد الثامن الختامي في يوم واحد.
عيد رأس السنة للأشجار
New Year for Trees
«رأس السنة للأشجار» هي ترجمة للعبارة العبرية «روش هشَّاناه لا إيلانوت». ويُحتفَل بهذا العيد في السادس عشر من شفاط حسب مدرسة هليل، والأول من شفاط حسب مدرسة شماي. وهو اليوم الذي يجب بعده أن يحسب اليهودي عشور النباتات التي كان عليه أن يقدمها للهيكل، فأي ثمار بعد ذلك التاريخ تجب عليها العشور. ولم ترد في التلمود أية إشارات إلى طريقة محددة للاحتفال بهذا العيد، وإن كان من المعروف أنه يُحرَّم فيه الصوم. وقد اكتسب العيد دلالة خاصة لدى القبَّاليين حيث تكتسب الشجرة في رؤيتهم للكون دلالة ومركزية. ويحتفل الإشكناز بتناول أنواع معيَّنة من الفواكه، وخصوصاً التي تنبت في فلسطين. أما السفارد، فإنهم يحتفلون به بطريقة مركبة، إذ يأكلون خمسة عشر نوعاً مختلفاً من الفواكه. ويُصاحب ذلك قراءة نصوص مناسبة من العهد القديم والتلمود والزوهار. وفي إسرائيل، فإن هذا العيد قد أصبح العيد القومي للشجرة حيث يقوم أطفال المدارس بغرس الأشجار.
عيد القمر الجديد
New Moon
«القمر الجديد» هي ترجمة للعبارة العبرية «روش حودش». ويُحتفَل به بعد رؤية القمر الجديد كل شهر. وكان العبرانيون يمتنعون عن العمل في هذا اليوم ويذهبون إلى الهيكل، ولعله كان استمراراً لأحد أعياد القمر الوثنية. ولكن الطقوس الاحتفالية قد اختفت بعد العودة من بابل (إلا النساء، فكن يُمنحَن إجازة في ذلك اليوم مكافأة لهن على إحجامهن عن إعطاء حليهن لصنع العجل الذهبي). ولكن اليوم، مع هذا، لم يفقد أهميته إذ أن تحديد التقويم (وأوَّل يوم في الشهر) كان من أهم الوظائف التي يضطلع بها السنهدرين. وفي هذا اليوم، يُحرَّم الصوم والحداد.
لاج بعـــومير
Lag Ba'omer
كلمة «لاج» معناها «الثالث والثلاثون»، أما «عومير» فمعناها «حزمة من محصول الشعير». وهو عيد يهودي غير مهم يُحتفَل به في يوم 18 إيار، أي في اليوم الثالث والثلاثين من فترة السبعة أسابيع الممتدة من ثاني أيام عيد الفصح حتى عيد الأسابيع. وفي هذا اليوم، يتم إنهاء فترة الحداد ويُسمح بالزواج وبقص الشعر.
ولا تُعرَف المناسبة التي من أجلها يُحتفل بهذا العيد. ويُقال إنه انتهى في هـذا اليوم الوباء الذي انتـشر بين تلاميـذ الحاخـام عقيبا. ولذا، فإنه يُسمَّى «عيد العلماء». ولكن جاء أيضاً في بعض الأقوال الحاخامية الأخرى أنه اليوم الذي حدث فيه طوفان نوح، وأنزل فيه الإله المن من السماء. وفي العصور الوسطى، اعتُبر أن هذا اليوم اليوم الذي مات فيـه الحاخام سـيمون بار يوحاي الذي يُنسَب إليه الزوهار. ولذا، يحتفى القبَّاليون بهذا اليوم. وقد أصبح قبره في الجليل مزاراً يحج إليه الحسيديون في ذلك اليوم، فيأتون بأطفالهم ليقصوا شعورهم لأول مرة ويُشعلوا النيران ويرقصوا طيلة الليل. ويُحتفَل بهذا العيد في إسرائيل حتى الوقت الحالي.
السنة السبتية (شنة شميطاه) وسنة اليوبيل
Shemittah and Jubilee Year
«السنة السبتية» (بالعبرية: «شنة شميطاه») هي السنة التي يجب أن تُراح فيها الأرض، وكلمة «شميطاه» كلمة عبرية معناها «تبوير الأرض لإراحتها». وقد جاء في العهد القديم، في سفر اللاويين وفي مواضع أخرى، أن الإله يأمر شعبه بأن يزرع الأرض ست سنوات على أن يريحها في السنة السابعة.وكل ما ينمو على الأرض في هذه السنة يُصبح ملكاً مشاعاً للجميع يُحرَّم الاتجار فيه، كما تصبح كل الديون بين اليهود وكأنها قد وُفيِّت ودُفعت، كما يُحرَّر العبيد اليهود في هذه السنة. ويذكر المؤرخ يوسيفوس ثلاث سنوات سبتية في الفترة التاريخية التي يتناولها.ويبدو أن مثل هذه الاحتفالات كان موجوداً بين شعوب الشرق الأدنى القديم. ويُلاحَظ أن شعائر السنة السبتية تنطبق على فلسطين وحدها،أما الشعائر الخاصة بالديون فتنطبق على أعضاء الجماعات اليهودية أينما كانوا.
ولا شك في أن الدافع وراء الاحتفال بالسنة السبتية ديني قومي، أي أنه تعبير عن النزعة الحلولية داخل اليهودية. فهو، من ناحية، تنفيذ لكلمة الإله وتعبير عن الإيمان بأن الأرض هي ملك له وحده يهبها من يشاء. ولكنه، من ناحية أخرى، تأكيد للرابطة العضوية (الحلولية) التي تربط اليهودي بالأرض المقدَّسة، كما أنه ينطوي على إسقاط حق أي إنسان في امتلاك هذه الأرض حتى ولو كان فلسطينياً عاش فيها مئات السنين. ولأن الإله في الوجدان اليهودي يصطبغ بصبغة قومية يهودية، فإن ملكيته للأرض تأكيد لملكية اليهود لهذه الأرض بصورة أبدية.
وتتسع دائرة سنة الراحة حتى إنه، بعد سبع دورات كل دورة فيها مكونة من سبعة أعوام، تحل السنة الخمسون التي يُطلَق عليها «سنة اليوبيل» نسبة إلى كلمة «يوبيل»، وهي كلمة عبرية تشير إلى «قرن الكبش» (أي بوق الشوفار). وفي سنة اليوبيل، تُطبَّق كل شعائر السنة السبتية وتُضاف إليها شعيرة أخرى، وهي إعادة الأرض المرهونة إلى أصحابها، كما تُعاد الأرض المبيعة إلى ملاكها الأصليين، وكأن من اشتراها قد استأجرها وحسب طيلة هذه المدة، ولا يبقى سوى الأرض الموروثة في حوزة صاحبها.
وتأخذ دائرة السنة السبتية في الاتساع إلى أن تشمل الزمان كله ثم تنغلق حين تصل إلى «سبت التاريخ»،أي نهايته،حين تستريح الأرض كلها ويأتي الماشيَّح ليقود شعبه بأسره إلى أرض الميعاد. وهكذا تظل الدائرة في الاتساع إلى أن تبتلع كل الزمان والمكان كما هو الحال دائماً في الأنظمة الحلولية. وقد أفتى بعض علماء اليهود بأن طقوس سنة اليوبيل لا تُنفَّذ إلا بعودة جميع اليهود واستيطانهم في فلسطين (ذلك لأن الاحتفال بها يؤدي إلى مجاعة،باعتبار أن السنة الخمسينية اليوبيلية تتبع عادةً سنة سبتية،أي السنة السابعة في الدورة السابعة).
وقد تسبَّبت السنة السبتية في التضييق على اليهود إذ كان أصحاب الأموال يرفضون إقراضها خشية إلغاء الديون في السنة السبتية. ولذا، فقد أصدر الحاخامات ما سُمِّي «بروزبول»، وهي كلمة يونانية معناها «قبل المجلس» تمنع إلغاء الديون في السنة السبتية. ولإقامة شعائر السنة السبتية يلجأ الإسرائيليون إلى كل أنواع الفتاوى والحيل (التحلة)، فقد أصدر بعض الحاخامات (ومن بينهم الحاخام الصهيوني كوك) فتوى في أوائل هذا القرن، مفادها أن على القاطنين في الأرض المقدَّسة أن يبيعوها بشكل صوري إلى بعض الأغيار، وبذلك تصبح الأرض غير يهودية، ويمكن بالتالي زراعتها (وهذا يشبه من بعض الوجوه الفتوى الخاصة بضرورة بيع تذاكر مباريات كرة القدم التي تجرى يوم السبت في اليوم الذي يسبقه). وبالفعل، يتم بيع أرض إسرائيل كل ست سنوات إلى جندي درزي، على أن يبيعها مرة أخرى إلى الحكومة الإسرائيلية بعد انتهاء العام (ويُعَدُّ هذا من أهم الأمثلة على التحلـة). هـذا وقـد اعترض بعـض الحاخامات بأن بيع الأرض نفسه مُحرم، فكان الرد أن بيعها بيعاً حقيقياً أمر محرم، لكن بيعها الوهمي ليس مُحرماً! ويحاول الإسرائيليون من اليهود الأرثوذكس إجراء تجارب دينية علمية لزراعة الخضراوات في الماء لتحاشي زراعتها في اليابس. ولكن بعض الأرثوذكس ينطلقون من الرؤية اليهودية الخاصة بالبقية الصالحـة، ويُنفِّذون تعاليم التوراة بحذافيرها ويمتنعون عن زراعـة الأرض، وإن كانوا يقومون بتخزين الحبوب، كما يحاولون التحايل على الدورة الزراعـية. وقد أثيرت القـضية مرة أخرى عام 1986 ـ 1987، وكانت سنة سبتية، إذ اقتُرح أن تستورد إسرائيل الحبوب. وقد فتح بعض اليهود الأرثوذكس محلات لبيع فواكه مستوردة غير مزروعة في فلسطين، كما صدَّروا المحاصيل الإسرائيلية. ويساهم يهود الولايات المتحدة في تمويل الاحتفال بالسنة السبتية عن طريق «صندوق شميطاه» لجمع التبرعات وإرسالها إلى الإسرائيليين الذين ينفذون التعاليم الدينية تنفيذاً حرفياً. وقد كان عام 1993 ـ 1994 (عام 5754 في التقويم اليهودي) سنة سبتية.
سـنة اليوبيل
Jubilee Year
انظر: «السنة السبتية وسنة اليوبيل».
الباب التاسع عشر: الفكر الأخروي
الفكر الأُخروي (إسكاتولوجي)
Eschatology
«الفكر الأخروي» يُشار إليه في الإنجليزية بكلمة «إسكاتولوجي» من الكلمة اليونانية «إسكاتوس» ومعناها «آخر» أو «بعد». ويشير المصطلح إلى المفاهيـم والموضـوعات والتعاليم الخاصـة بما سيحدث في آخر الزمان، وإلى العقائد الخاصة بعودة الماشيَّح، والمحن التي ستحل بالبشرية بسبب شرورها، والصراع النهائي بين قوى الشر وقوى الخير (حرب يأجوج ومأجوج)، والخلاص النهائي، وعودة اليهود المنفيين إلى أرض الميعاد، وإلى يوم الحساب وخلود الروح والبعث، وهي الموضوعات التي تظهر أساساً في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، والتي تعود جذورها إلى الحضارات البابلية والمصرية والكنعانية، وخصوصاً الفارسية الزرادشتية.
وقبل الخوض في هذا الموضوع بتعريفاته المختلفة وتناقضاته المتعددة، لابد أن نميِّز بين التفكير الأخروي داخل إطار حلولي والتفكير الأخروي داخل إطار توحيدي، فالفكر الديني التوحيدي يفترض وجود إله خارج الزمان والطبيعة ويتجاوزهما ومن ثم تتحدد الثنائيات الفضفاضة المختلفة (التي يشكل الإله نقطة الوصل بينها دون أن يملأ الثغرة التي تفصل بينها). وينجم عن ذلك أن التفكير الأخروي يتحدد باعتباره حدثاً كونياً يقع لا في آخر الزمان وإنما خارجه، ولا يقتصر على مجموعة من البشر دون أخرى بل يشمل كل البشر، ويرتبط تماماً بفكرة الثواب والعقاب للفرد لا للجماعة، أي أن التفكير الأخروي (ورؤية الخلاص) يدور في إطار أخلاقي عالمي إنساني. أما التفكير الأخروي في الإطار الحلولي، فيقف على النقيض من ذلك تماماً وبسبب حلول الإله في التاريخ والإنسان والطبيعة وكمونه فيها، فإن كل الثنائيات تَمَّحي (أو تتحدد بشكل صلب)، وتقع الآخرة في نهاية التاريخ (داخل الزمان لا خارجه)، وهي حدث تاريخي وكوني في آن واحد تدور أحداثه حول شعب واحد مختار لا أفراد مسئولين، كما أنها لا ترتبط بالقيم الأخلاقية أو الثواب والعقاب. فرؤية الخلاص لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية.
ويمكننا أن نقول إن التفكير الأخروي اليهودي كان يدور في البـداية داخـل إطار حلولي كامل ثم تحرَّر منه بالتدريج في كتب الأنبياء. ثم عاد وبدأت عملية السقوط التدريجي في الحلولية في أسـفار الرؤى (أبوكاليبـس)، وتزايدت معــدلات الحلولية في التلمود، إلى أن نصل إلى القبَّالاه حيث نصل إلى نقطة وحدة الوجود الروحية التي يتبعها حلول بدون إله في العصر الحديث، أي وحدة الوجود المادية.
وهناك، في العهد القديم، عبارة ليست مرادفة تماماً لكلمة «إسكاتولوجي» وهي عبارة «أحرِّيت هياميم» التي تحمل تضمينات أخروية وتعني حرفياً «نهاية الزمان» أو «آخر الأيام». وتعني عبارة «آخر الأيام» التي سنستخدمها في هذه الموسوعة ثلاثة أشياء مختلفة:
1 ـ ففي أسفار موسى الخمسة، قد تكون العبارة بمعنى «في المستقبل» أو «في الأيام المقبلة». وبالتالي، فإن الإشارة في مثل هذا السياق تنصرف إلى مراحل تاريخية زمنية تالية، وقد تأتي بعدها مراحل أخرى.
2 ـ ولكن العبارة قد ترد أيضاً بمعنى «الأيام الأخيرة»، وهي هنا تعني «آخر المراحل التاريخية» التي لا تأتي بعدها مراحل أخرى، ولكنها تظل مع هذا مرحلة زمنية.
3 ـ ثم اكتسبت العبارة، فيما بعد، دلالة جديدة تماماً، بحيث أصبحت تشير إلى ما بعد البعث. وفي القرون الأخيرة قبل الميلاد وبعده، ظهر مصطلح آخر هو «كيتس هيَّاميم»، ويعني حرفياً «نهاية الأيام» (دانيال 12/13)، وهو مفهوم يشير بوضوح إلى ما بعد البعث، قارن ذلك بمصطلح «وقت المنتهى» (دانيال 8/17).
وقد اجتازت المفاهيم الأخروية عدة تطورات، ولكن على الطريقة الجيولوجية التي يتسم بها النسق الديني اليهودي. فالمفاهيم الحلولية القديمة للآخرة لم تكن تُستبعَد، بل كان يُكتفَى بضم المفاهيم الجديدة إليها، فتتعايش معها جنباً إلى جنب أو تكون الواحدة فوق الأخرى. ولذا، لا يتسم الفكر الأخروي اليهودي عبر تاريخه بالوضوح أو التحدد، إذ ظلت هناك أسئلة خلافية تُركَت دون حسم من بينها ما يلي:
1 ـ هل ستقع آخر الأيام داخل الزمان والتاريخ أم ستقع خارجهما؟
2 ـ هل تختص آخر الأيام بمصير الشعب اليهودي وحده أو تختص بمصير الشعوب كافة؟ وهل للشعب اليهودي دور خاص أم أنه سيكون شعباً واحداً ضمن شعوب أخرى عديدة متساوية في المصير؟
3 ـ هل المقصود بالشعب اليهودي الشعب ككيان جماعي أو اليهود كأفراد؟
4 ـ ما هي علاقة البعث بالثواب والعقاب في آخر الأيام؟
وإذا نظرنا إلى أسفار موسى الخمسة وأسفار يوشع والقضاة، وإلى الفكر الديني اليسرائيلي في القرون الأولى من حكم الملوك، لما وجدنا أية إشارة إلى مفاهيم أخروية محددة حقيقية. ومع هذا، يمكن القول بأن ثمة عناصر أخروية تسم الفكر الديني اليهودي في مرحلة ما قبل السـبي. فأعضـاء جماعة يسرائيل كانوا يعـبدون الإله الذي اختارهم، وعقد عهداً أو ميثاقاً معهم، وحلَّ في تاريخهم، ولذا فإنه يتجلى فيه من آونة إلى أخرى مثلما فعل حينما خرج بهم من مصر، ثم هزم أعداءهم ووعدهم بأرض كنعان وساعدهم على غزوها. ولقد أصبح تَدخُّل الإله في التاريخ، ونصره للشعب، من ثوابت الفكر الأخروي اليهودي فيما بعد، وإن كانت الآخرة هنا مجرد نقطة تحوُّل جوهرية في التاريخ نفسه، مثل الخروج من مصر أو الاستيطان في كنعان، ولا تشكل نقطة نهاية إذ تتبعها مرحلة تاريخية أخرى مختلفة نوعياً عن المرحلة السابقة ولكنها تظل مع هذا نقطة في الزمان، وهي في هذا لا تختلف كثيراً عن التغيرات النوعية أو الطفرات التي تؤدي إلى «التقدم» إذا ما أردنا استخدام المصطلحات الحديثة. والواقع أن هذا المفهوم الأخروي يعني التدخل المستمر من قبل الإله في التاريخ وحلوله فيه، وإن كان ثمة نهاية، فهي تتجلى في الفكرة البدائية الخاصة بيوم الرب، ذلك اليوم الذي ستسود فيه جماعة يسرائيل على الجميع، أي أنها رؤية أخروية حلولية مادية تتحقق داخل التاريخ.
وقد تطوَّر الفكر الأخروي اليهودي على يد الأنبياء، وظهر كلٌّ من عاموس وهوشع مع بداية حكم الملوك، فطوَّر الأول فكرة يوم الرب، بحيث تحولت إلى فكرة يوم الحساب، وهو مفهوم أكثر عالمية وأخلاقية إذ أنه اليوم الذي سيحاسب فيه الإله اليهود وغير اليهود. وقد تَعمَّق المفهوم الأخروي، إذ يشير عاموس إلى تغيرات ستدخل على الطبيعة مثل كسوف الشمس، وقد استخدمها بشكل مجازي، ولكنها مع هذا فُسِّرت حرفياً ثم أصبحت عنصراً ثابتاً في الفكر الأخروي منذ ذلك التاريخ. ورغم أن عاموس يتحدث عن عقاب الآثمين من اليهود وغير اليهود، فإنه يعرف أن الإله وفيٌّ لشعبه. وهنا ظهرت في سفر عاموس، ثم في سفر هوشع، فكرة البقية الصالحة التي ستنجو من الهلاك، وظهرت أيضاً فكرة تجديد الميثاق أو العهد مع الإله واسترجاع جماعة يسرائيل وعودتها، كما ظهرت فكرة السلام الذي سيعم الأرض ويشمل كل الأمم.
ورغم أن كثيراً من ثوابت الفكر الأخروي اليهودي قد تحددت على يد الأنبياء، فلم تكن هناك حتى هذه الفترة إشارات إلى آخرة تقع خارج التاريخ، إذ تظل الآخرة مجرد مرحلة زمنية لها ملامحها الفريدة ومختلفة عما سبقها من مراحل. ويُلاحَظ أن الفكر الأخروي يتطور من خلال سياقين: أحدهما محلي، وهو ما يحدث داخل المجتمع العبراني، والآخر دولي، وهو ما يحدث حوله ويؤثر فيه. وقد تأثر فكر عاموس الأخروي بالاستقطاب الاجتماعي الذي شهده عصره، فظهرت فكرة العقاب الذي سيحيق بالآثمين من جماعة يسرائيل. كما أن ظهور القوة الآشورية يشكل القطب الثاني، فقد تحولت القوة العالمية التي تتهدد العبرانيين إلى أداة العقاب التي سيستخدمها الإله للقصاص من الشعب المذنب.
وتَعمَّقت كل هذه الاتجاهات في نبوءات أشعياء الذي تنبأ بخراب كامل لجماعة يسرائيل وللأمم الوثنية (ويُلاحَظ أن الاضطرابات التي تصاحب آخر الأيام بدأت تأخذ بُعداً كونياً). وقد قام أشعياء بوصف المُلك الثاني ليهودا والذي سيكون في المستقبل، وأدخل بذلك فكرة الماشيَّح، كما وصف السلام الذي سيعم العالم، ويأخذ شكل عودة إلى حديقة عدن، وبذا بدأت تظهر بذور فكرة الجنة في الفكر الأخروي. أما في سفر ميخا، فتظهر فكرة جبل صهيون كمركز للخلاص النهائي، كما تظهر موضوعات مثل قرب النهاية في سفر صفنيا، والحرب الكونية التي تسبق النهاية في سفر يوئيل. ويُلاحَظ أن الآخرة، رغم كل التحولات التاريخية والكونية المصاحبة لها، لا تزال زمنية، وما يحدث فيها هو واقعة تاريخية داخل الزمان.
وتشكل واقعة السبي نقطة تحوُّل في تاريخ الأفكار الأخروية، إذ تكتسب فكرة العودة وإعادة بناء الهيكل مركزية حقيقية تظهر في سفر حزقيال، وتصبح الحرب الكونية، حرب ياجوج وماجوج، من العلامات المهمة على آخر الأيام. ويصبح التاريخ مجرد تعبير عن خطة إلهية مقررة مسبقاً. كما أن الأبعاد الكونية أصبحت أكثر وضوحاً وبروزاً، وأصبحت الأفكار الأخروية لا تتحدث عن بداية مرحلة تاريخية جديدة، وإنما عن تحوُّل كوني كامل نتيجة تَدخُّل إلهي. ثم تظهر، في سفر ملاخي، شخصية إلياهو العجائبية التي ستأتي في يوم الرب.
ويدل ظهور كل هذه الموضوعات ضمن الفكر الأخروي، على أن الفكر الرؤياوي (الأبوكاليبسي) أخذ يتغلغل ويحل محل الفكر النبوي، كما يتضح في الإصحاحات الستة الأخيرة في سفر زكريا التي أشارت إلى أن الشعب المختار سيعاني قبل الخلاص. وتبدأ النزعة الرؤيوية في التعمق حتى أن إصحاحات 24/1 ـ 27/13من سفر أشعياء يُطلَق عليها «أبوكاليبـس أشـعياء». وقـد كان مجـال التفكير الأخروي، كما تقدَّم، هو «هذه الدنيا»، و«المستقبل». ولكن عدة انتكاسات حلت باليهود فقد سمح لهم قورش بالعودة، وبناء الهيكل دون أن يسمح لهم بتأسيس مُلك يهودي في ولاية يهودا، أي دون أن يسمح بعودة القوة السـياسـية اليهودية، وبالتالي لم يسـودوا العالمين كما كانت تقول النبوءات الأولى. ثم زال حكم الفرس وظهرت الإمبراطورية اليونانية كقوة عظمى، وبعدها الإمبراطورية الرومانية التي أحكمت قبضتها عليهم تماماً وهدمت الهيكل. بعد هذه الانتكاسات العديدة، اكتسب التفكير الأخروي أبعاداً جديدة، وأصبح مجاله «العالم الآخر»، «في المستقبل»، «خارج الزمان».
وقد اكتملت ملامح الفكر الأخروي اليهودي ومعظم ثوابته مع سفر دانيال، فهو يقدم رؤية لتاريخ العالم، وتاريخ الممالك الأربع التي ستزول وتحل محلها المملكة التي لا تزول (الملكوت الأبدي). كما يظهر مفهوم ابن الإنسان الذي يأتي مع سُحُب السماء (أي من الإله) مقابل وحوش البحر الأربعة (الإصحاح السابع). ويبدو أن ثمة إرهاصات لفكرة البعث في أشعياء (26/19) وفي المزامير (73 / 23ـ 26)، ولكنها تظهر في دانيال بشكل لا إبهام فيه (12/1ـ 3)، ويصبح البعث بعثاً لأفراد لا لأمم، وبالتالي يصبح الحساب حساباً أخلاقياً فردياً لا قومياً جماعياً. وتظهر في آخر سـفر دانيال واحـدة من أولى المحاولات لحساب آخر الأيام. وقد ازدادت الرؤية الأخروية اليهودية تبلوراً بعد ذلك، فظهرت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد كتب الرؤى التي تدور حول موضوعات أخروية نشورية. ويُلاحَظ أن فكرة شيول غير المحددة اكتسبت تَحدُّدها في آخر هذه الفترة وأصبحت كلمة «جهنم» تدل عليها، ووُضعت «جهنم» مقابل «حديقة عدن» التي تَحدَّد مفهومها هي الأخرى فأصبحت «الجنة». وأصبح الشيئان مرتبطين بفكرة البعث والثواب والعقاب في العالم الآخر.
ومع هذا، فإن عدم التجانس وسمة الجيولوجية ظلا واضحين في الفكر اليهودي الأخروي، فعـند هـَدْم الهيكل، أي في تاريخ مـتأخر نسبياً، كان هناك فريق كبير من اليهود (الصدوقيون) لا يزال ينكر البعث. أما الأسينيون، فمع أنهم اهتموا بالتفكير الأخروي وجعلوه محور رؤاهم، فإن الآخرة بالنسبة إليهم كانت في هذه الدنيا، ولا يوجد أي ذكر للبعث في المخطوطات التي خلفوها، فمخطوطات البحر الميت تتحدث عن النهاية ولا تتحدث قط عن جنة أو جهنم (فقد كان يدور الحديث عن الموت كعقاب أزلي للآثمين، وعن الحياة الأزلية للصالحين).
وفي يهودية العصور الوسطى في الغرب، أخذ الحاخامات بالمفاهيم الأخروية بعد تبلورها. ولكن عملية التبلور لم تكن كاملة، فالمضمون الأخلاقي للأفكار الأخروية بدأ يزداد شحوباً مرة أخرى، واكتسبت رؤية الخلاص مضموناً قومياً. كما ميَّز الحاخامات بين أيام الماشيَّح، أو العصر المشيحاني، وبين العالم الآتي أو الآخرة، إذ أن الأولى تسبق الثانية، وتشكل مرحلة انتقالية، وهذا يدل على أن عدم التجانس مازال قائماً بين الإيمان بالآخرة كمرحلة تاريخية داخل الزمان والإيمان بها كآخرة تقع في آخر الزمان وخارجه. ويُلاحَظ أن الحاخامات قد نصحوا اليهود بألا يحاولوا أن يحسبوا متى تأتي آخر الأيام ونهاية الزمان، كما أنهم حرَّموا أن يحاول اليهودي التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكيتس)، وأصبح الإيمان بالآخرة إحدى العقائد اليهودية الأساسية التي تبناها القبَّاليون، ولكنهم أدخلوها في أنساقهم الحلولية فظهرت الدورات الكونية والتناسخ وعودة الشخيناه. ولذا، نجد أن من هموم القبَّاليين الكبرى الحسابات القبَّالية الخاصة بالنهاية. وقد انسلخ الفكر الأخروي تماماً عن الفكر الأخلاقي وأصبح مرتبطاً إلى حدٍّ كبير بالسحر وبالخلاص القومي للشعب اليهودي وهلاك كل الأغيار. ويُلاحَظ أن الفكر الأخروي اليهودي في العصر الحديث يزداد اختلاطاً، إذ تتراجع أفكار أخلاقية أساسية مثل البعث والثواب والعقاب والآخرة لتحل محلها أفكار عامة مثل العصر المشيحاني (في اليهودية الإصلاحية) أو فكرة التقدم (في اليهودية التجديدية).
وقد تأثر الفكر الصهيوني بالفكر الأخروي اليهودي الحلولي (حلولية بدون إله) بمعنى أن الآخرة هي النهاية داخل الزمان أو آخر مرحلة تاريخية، أو هي نهاية التاريخ التي تصل بالجدل والصراع والانحرافات إلى نهايتها، فيكون « الخروج » الكامل من تاريخ الأغيار بكل شذوذه وعنفه، ويكون « الدخول » في كنعان حيث يمكن استئناف التاريخ اليهودي بكل مثالياته. ومثل هذا التفكير الأخروي البدائي عادة ما يأخذ شكلاً هندسياً متناسقاً تكون فيه النهايات شبيهة بالبدايات.
وإذا كانت بداية التاريخ اليهودي من وجهة النظر الصهيونية هي الخروج من أرض العبودية في مصر ودخول أرض الميعاد، فالنهاية الأخروية هي الخروج أيضاً من أرض العبودية في مصر أو روسيا أو أي منفى آخر، ودخول أرض الميعاد أيضاً، أي أن النهاية لابد أن تشبه البداية حتى يكتمل الاتساق الهندسي. وإذا كان دخول كنعان قد أدَّى إلى إنشاء الهيكل والعبادة القربانية المركزية (حيث يحل الإله وسط الشعب في قدس الأقداس)، فإن الدخول الحديث إلى فلسطين يؤدى إلى إنشاء الدولة الصهيونية، بحيث يحل الإله فيها بالنسبة للمتدينين اليهود، فتصبح دولة مقدَّسة. أما بالنسبة إلى الملحدين، فهي دولة مقدَّسة بذاتها إذ أن حلوليتهم حلولية بدون إله ووحدة وجود مادية.
أسفار الرؤى (أبوكاليبس)
Apocalypse
«الرؤيا» ترجمة لكلمة «أبوكاليبس» اليونانية الأصل والتي تعني الكشف عن الغيب، وخصوصاً عن آخر الأيام (إسكاتولوجي) ويوم الحساب. ويتم الكشف عن طريق الأحلام والرؤى والغيب، وفي الدراسات العربية يُطلَق على الكتب التي تتناول هذه الأشياء مصطلح «أسفار الرؤي»، وذلك لاعتمادها على الرؤى في سرد الأحداث وفي شرح الأفكار المُتضمَنة فيها. وتُستخدَم الكلمة للإشارة إلى الكتب الدينية اليهودية والمسيحية التي تحتوي على مثل هذه الرؤى، مثل سفري حنوخ وسفر صعود موسى وسفر باروخ وكتاب اليوبيل، وتُعَدُّ ضمن الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا). وتُعَدُّ الإصحاحات الأخيرة من سفر دانيال (8/17 ـ 12/13) ضمن أسفار الرؤى، ويُشار إلى بعض إصحاحات كتاب أشعياء بوصفها أبوكاليبس أشعياء (24/1 ـ 27/13). كما أن مخطوطات البحر الميت، هي الأخرى تدخل ضمن كتب الرؤى وتضم الكثير من الأسرار التي تقع خارج نطاق المعرفة الإنسانية كأسرار السماء والأرض والملائكة والشياطين.
وتأخذ كتب الرؤى شكل نبوءة على لسان بطل تاريخي قديم (ذائع الصيت مات منذ زمن بعيد) يدَّعي أنه يرى أحداث ذلك التاريخ كله منذ بدايته حتى نهايته، وأن هذه المعرفة قد أُخفيت (باليونانية «أبوكريفون») طيلة هذه السنين حتى الوقت الحاضر، وهو عادةً زمن الأزمة (ومن هنا نجد أن معظم كتب الرؤى من الكتب الخفية). ولا تُعنَى كتب الرؤى بالحاضر، كما أنها تورد إشارات سريعة إلى الماضي، أما المستقبل والنهاية فقد وُجه إليهما اهتمام بالغ فتم وصفهما بالتفصيل. وتنقل هذه الكتب رؤاها من خلال نسق مركب من الرؤى الرمزية والصور الخيالية الباهرة تلعب فيه الحيوانات والطيور والزواحف والوحوش ذات الرؤوس البشرية دوراً أساسياً. والواقع أن أدب الرؤى غامض للغاية، يحتمل العديد من التفسيرات بحيث يمكن توظيفه لأي غرض ولإثبات أي شيء، وهي سمة سيتصف بها الماشيَّح فيما بعد. ويرى مؤرخو اليهودية أن جذور الصوفية اليهودية والقبَّالاه ترجع إلى هذه الكتب. ولأن الرؤية الواردة في هذه الكتب لم تكن تساندها شرعية الرؤية الإلهية، فمؤلفوها كانوا ينسبونها إلى شخصيات توراتية. كما أن الخوف من الاضطهاد السياسي كان سبباً أساسياً لإخفاء شخصية المؤلف. وقد استخدم مؤلفو كتب الرؤى موضوعات كتب الأنبياء بعد تطويرها وتغيير معناها بما يتناسب مع ظروف وشخوص تاريخية معاصرة لهم.
وكتب الرؤى تعبير عن الطبقة الحلولية في اليهودية تنبع من الإيمان بأن أعضاء الشعب المختار الراهن أمة من الأنبياء والقديسين والكهنة يمتلكون إمكانيات نبوية خارقة خاصة، وأن تقاليد النبوة عندهم لا تزال ممكنة ومفتوحة ومتاحة.
ومما يزيد من حدة التأملات الرؤياوية (الأبوكاليبسية) عندهم أنهم، وهم الشعب المختار، كانوا دائماً يذوقون صنوف الويل والعذاب الأرضـيين، فتـجربتهم التاريخية هزيمـة تلـو هزيمة، وانكسار إثر انكسار، على أيدي الآشوريين والبابليين، ثم زادت الأمور سوءاً بعد العودة من بابل، وتوقُّـف سلسـلة أنبياء اليهـودية، وبعـد إعادة بناء الهيكل. وقد عاد اليهود من المنفى تحدوهم تطلعات مشيحانية، وأمل في أن تسود جماعة يسرائيل مرة أخرى. ولكن الماشيَّح لم يأت بل تدهور حالهـم وأصبح الحـاضر تحفه المشـاكل، وبدأت نذر الشـر تظهر في الأفق، فقد ظهرت الإمبراطورية الرومانية بقوتها الضخمة لتهيمن على الشـرق الأدنى القـديم، وفلسـطين، ثم دمرت الهيكل تماماً على يد تيتوس، ثم القدس على يد هادريان. وفي هذه المرحلة الأخيرة الخطرة (من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد) ظهرت أسفار الرؤى.
وقد ساعد كل ذلك على انصراف اليهود عن الحاضر إلى التأمل الأخروي في آخر الأيام، إذ كان من غير المنطقي، من وجهة نظرهم، أن يتركهم الإله في عذابهم الدنيوي دون نهاية سعيدة. وقد تَرسَّخ لديهم الإيمان، تحت تأثير الأفكار الفارسية، بالفكرة الثنوية التي ترى أن الوجود يتكون من عالمين: العالم الحاضر ويحكمه الشيطان ومصيره الزوال، والعالم القادم ويحكمه إله الخير والنور؛ وهو عالم حر تنتشر فيه السعادة الأبدية، يأتي بعد انتصار إله النور على إله الظلام. ولذا، فقد آمنوا بأن الإله سيرسل حتماً من يرفع عنهم العذاب. بل إنهم يؤمنون بأنه كلما تأخر يـوم الخلاص، زادت شـدة العـذاب الذي سـيحيق بأعدائهم، علماً بأن زيادة الآلام علامة اقتراب الخلاص والنصر (وهذا هو النمط الأساسي في كتب الرؤى). وستأخذ النهاية الرؤياوية للبؤس اليهودي صورة عودة الماشيَّح أو انتصار داود أو تنصيب سليمان معلماً للأمم، أو عودة اليهود إلى أرض الميعاد. وقد تبنَّى مؤلفو كتب الرؤى فلسفة للتاريخ ذات أصل فارسي، فقد كان الفرس يُقسِّمون تاريخ العالم إلى ممالك ثلاث: الآشورية والميدية والفارسية، ثم أضافوا إليها فيما بعد المملكة اليونانية. وقد تبنَّى مؤلفو كتب الرؤى هذا التقسيم، وأحلوا محل آشور بابل التي كانت لا تزال عالقة بذاكرتهم التاريخية، وأضافوا مملكة خامسة هي مملكة اليهود الأزلية. وهناك بعض رؤى الأبوكاليبس المسيحية التي ترى أن الخلاص النهائي مرتبط بعودة اليهود إلى فلسطين وتَنصُّرهم، وتُسمَّى «الرؤى الاسترجاعية» نسبة إلى استرجاع اليهود إلى فلسطين، أو «الرؤى الألفية» نسبة إلى الألف عام التي سيحكم فيها الماشيَّح الأرض.
وتجب التفرقة بين كتب الرؤى (أبوكاليبس) وكتب النبوة، فكلتاهما وسيلة لمعرفة الإرادة الإلهية. ولكن، بينما تدور كتب الأنبياء داخل نطاق رؤية توحيدية، تدور أسفار الرؤى داخل رؤية حلولية، وتمكن التفرقة بينهما على النحو التالي:
1 ـ من نقط الاختلاف الأساسية، موقف كتب الأنبياء والرؤى من التاريخ والمجتمع. فالأنبياء توجهوا برسالاتهم مباشرة إلى مجتمعاتهم وركزوا على الحاضر، وأشاروا إلى الخيارات الفلسفية والأخلاقية المطروحة مطالبين جماعة يسرائيل باتخاذ موقف محدَّد واستجابة مباشرة. وقد كان المستقبل بالنسبة إلى الأنبياء لا يزال عملية مستمرة تستطيع الإرادة الإنسانية أن تلعب فيها دوراً. أما مؤلفو كتب الرؤى، فكانـوا يركزون على البـدايات والنهايات، وعلى النهايات أكثر من البدايات. فكانوا يرون التاريخ عملية موصدة مغلقة، وما العصر الذي يعيش فيه الكاتب سوى حلقة من سلسلة متكاملة قررها الإله من قبل، وهي عادةً الحلقة الأخيرة. ويُقال إن هذه الرؤية متأثرة بالرؤية الإغريقية الهيلينية للتاريخ والتي تنظر إليه باعتباره دائرة هندسية مغلقة. ولكن يمكننا أن نقـول إن انغـلاق كتب الرؤى تعبير عن الحلولية الكامنة فيها.
2 ـ لا تنشغل كتب الرؤى بالتاريخ انشغال كتب الأنبياء به، فهى قد تتعامل معه ومع أحداثه ولكنها لا تحترم تفاصيله. فالعقلية الرؤياوية تتوقع وتؤيد التغيير في المجتمع، لكنه تغيير غير تاريخي لأنه غير مرتبط بمسار التاريخ، كما أنه يأخذ شكل انفجارأو تحوُّل فجائي جوهري في كل شيء إذ يتم التحول عن طريق التدخل (أو الحلول) المباشر والفجائي للإله في شئون البشر وفي التاريخ. هذا على عكس رؤية معظم الأنبياء التي كانت تبشر بأن إرادة الإله تتحقق داخل التاريخ من خلال أحداثه لا من خلال تَدخُّل مباشر، فتصبح آشور مثلاً أداة العقاب الإلهي.
3 ـ لكل هذا، نجد أن كتب الأنبياء منشغلة بالمضمون الأخلاقي لرسالاتهم وبإبلاغها، وبكيفية تحقيق الخلاص داخل التاريخ أو تعديل مساره عن طريق التوبة والعودة. ويُحجم الأنبياء عن ذكر ما رأوه في لحظة الوحي، أما كُتَّاب الرؤى فيعطون وصفاً تفصيلياً لكل شيء؛ السماء أو البلاط المقدَّس أو الملائكة. وعيون كُتَّاب الرؤى مركزة دائماً على النهاية (لحظة التدخل الفجائي) حين ينتهي التاريخ كليةً، فالنهاية دائماً وشيكة الوقوع، هذا على عكس النهاية الأخروية عند الأنبياء، فقد كانت هذه النهاية عند معظمهم في المستقبل البعيد. ويُلاحَظ أن رؤية النهاية عند كُتَّاب كتب الرؤى كانت شخصية وتاريخية في آن واحد، إذ يرد في الإصحاح 12 من سفر دانيال أول ذكر واضح لبعث الموتى ولعملية العقاب والثواب (دانيال 12/13). ومن الواضح أن كتب الرؤى تشكل عودة لرؤية الحلولية اليهودية، كما مهدت للقضاء على تأثير رؤى الأنبياء التي وجدت تطورها الحقيقي في المسيحية.
والتفكير الصهيوني تفكير رؤياوي علماني يؤمن بأنه لا حل للمسألة اليهودية عن طريق التدرج التاريخي (الاستنارة أو الاندماج أو الثورة الاجتماعية) أو عن طريق التعامل مع الواقع التاريخي المتعين، وإنما يجب أن يتم « الآن وهنا » على الفور (الدولة الصهيونية ـ العودة ـ تكوين جيش من اليهود يغزو فلسطين ويطرد العرب)، أي أن الصهيونية تتعجل وتعمل من أجل «نهاية التاريخ»، وذلك بطرح رؤى مثالية فاشية يتم فرضها على الواقع التاريخي لا عن طريق الحلول الإلهي لصالح الشعب اليهودي وإنما عن طريق العنف والتحالف مع الإمبريالية (مثلاً)، ومن هنا فإن الصهيونية تعبير عن الحلولية بدون إله.
الآخــرة أو العـالم الآخــر (الآتـي)
World to Come
«الآخرة» أو «العالم الآخر» هي المقابل العربي للمصطلح العبري «عولام هبّا»، وهو مصطلح يهودي أخروي يعني «العالم الآتي في آخر الأيام» (مقابل «عولام هازّيه»، أي «هذا العالم»). ومفهوم الآخرة أو العالم الآخر مفهوم أخروي، أخذ في الظهور التدريجي، واكتسب كثيراً من ملامحه بعد العودة من بابل، ثم صار إحدى الأفكار الدينية الأساسـية في التلمـود. وهـذا العالم الآتي يشـير إلى عدة أشياء متناقضة، فهو قد يشير إلى المستقبل وحسب، وقد يشير إلى العصر المشيحاني (الألفي) قبل أو بعد يوم الحساب وقبل أو بعـد البعــث، وقد يشـير إلى الآخـرة بمعنـى نقــطة خارج الزمان. وقد قرنه بعض الحاخامات بالجنة وحسب. وهو قد يشهد التَحرُّر القومي لليهود من ظلم الأمم الأخرى، ولكنه قد يشهد تَحرُّر الكون بأسره، أي أنه يعكس كل تناقضات التفكير الأخروي اليهودي، وتأرجحه ما بين الرؤية الحلولية والرؤية التوحيدية.
آخـــر الأيـــام (اليــوم الآخـــر)
End of Days; Aharit Ha Yamim
«آخر الأيام» أو «اليوم الآخر» مصطلح عربي يقابل المصطلح العبري «أحريت هياميم»، وهو مصطلح أخروي يهودي، ويكون بأحد معنيين:
1 ـ يكون بمعنى «في المستقبل» أو «في الأيام المقبلة»، أي في فترة زمنية مقبلة تتلوها أيام وفترات أخرى.
2 ـ ويكون بمعنى «في الأيام الأخيرة»، ويعني آخر المراحل الزمنية التي لن يأتي بعدها مراحل أخرى، ومع هذا، فإن هذه المرحلة الأخيرة تقع داخل الزمان.
وإذا كان المعنيان السابقان مختلفين، فإنهما متفقان في أنهما يقعان داخل الزمان. ومع هذا، فقد تغيَّر المجال الدلالي للمصطلح قليلاً في القرن الأول قبل الميلاد بحيث أصبح يشير إلى آخر الزمان كمرحلـة تقـع خـارج التـاريخ كليـة، يتم فيها بعث الموتى وحسابهم.
يــــوم الــــرب
Day of the Lord
«يوم الرب» مصطلح يهودي أُخروي حلولي، وهو اليوم الذي سيكشف فيه الإله عن نفسه للأمم بكل قوته وعظمته في آخر الأيام ليحطم أعداء جماعة يسرائيل، بسبب ما اقترفوه من آثام في حق شعبه المقدَّس المختار. وستعلو جماعة يسرائيل في ذلك اليوم، وتسمو على العالمين، بعد أن تتجدد قوتها وتنتقم من أعدائها، وتؤسس مملكة قوية. وهذا المفهوم البدائي القومي ينم عن رغبة عميقة في الانتقام، ويحمل تضمينات عسكرية (تماماً كما نقول في العربية «يوم داحس والغبراء» أو «يوم الخندق»)، ويجعل الآخرة أمراً مختصاً بالجماعة لا بالأفراد.
وقد حوَّل عاموس المفهوم تماما حين أسماه «يوم يهوه»، فلم يعد هذا اليوم يوم انتقام جماعة يسرائيل من أعدائهم، وإنما أصبح «يوم الحساب» أو «يوم الحكم» أو «يوم القضاء العالمي الشامل»، وهو اليوم الذي سيحاسب فيه الإله كل الناس، يهوداً كانوا أو أغياراً، دون تمييز أو تفرقة. ويُعَدُّ هذا أهم التطورات التي دخلت على المفاهيم اليهودية الأخروية.
يــــوم الحســـاب
Day of Judgement
«يوم الحساب» ترجمة لمصطلح «يوم هدِّين»، وهو مصطلح عبري بمعنى "اليوم الذي سيحاسب فيه الإله كل البشر في آخر الأيام". وهو تطوير لمصطلح «يوم الرب» ذي الطابع الحلولي القومي المتطرف الذي كان يعني حدوث الخلاص (الثواب والعقاب) داخل إطار قومي. وقد تَحوَّل هذا المفهوم القومي الأخير (على يد النبي عاموس وغيره من الأنبياء) إلى مصطلح «يوم الحساب» أو «يوم الحكم والقضاء» (العالمي والشامل)، وهو يوم سيُحاسَب فيه كل الناس يهوداً كانوا أو أغياراً دون تمييز أو تفرقة. وقد حذر عاموس شعبه من أن الإله سيحطـم جمـاعة يسـرائيل بسبب فسادها (عاموس 5/18)، وأكد كلٌّ من إرمــيا وحزقيال (إرميا 31/29 ـ 30، حزقيــال 18) المسئـولية الفرديــة، كمـا أكَّـد كثير من الأنبــياء أن النفي عقوبة تستحقها جماعة يسرائيل. لكن أول إشــارة للثـواب والعقـاب بعــد البعث ترد في أشــعياء (إصحاح 26)، ودانيال (12/2): "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يسـتيقظون، هــؤلاء إلى الحيـاة الأبدية وهـؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي". وتطوَّر المفهوم، فأصبح المصطلح يشمل الموتى الـذين سيُبـعثون يوم الحســاب "حتى يشمـلهم الحسـاب هـم أيضــاً ".
ويُلاحَظ أن مفهوم يوم الحساب، الذي لم يستقر بصورته الجديدة إلا بعد المرحلة البابلية، لم يفقد محتواه القومي تماماً، إذ نكتشف أن اليهود سيتطهرون في يوم الحساب من آثامهم ثم تعود البقية الصالحة منهم إلى أرض الميعاد ليحيوا حياة سعيدة هنيئة كما جاء في سفر هوشع (2، 14). كما يجب التنبيه أيضاً إلى أن يوم الحساب ليس مثل يوم القيامة أو الآخرة، لأنه (حسب كثير من التفسيرات) سيحل قبل البعث النهائي، أي أنه واقعة تاريخية (وفي هذه الدنيا)، وهو مثل المرحلة الألفية سيقع قبل الآخرة ولن يُحاسَب فيه إلا الأحياء الموجودون في الدنيا بالفعل. وكان البعض يرى أن الإله يحاسب العالمين أربع مرات كل عام. وكان البعض يؤمن بأن عيد رأس السنة اليهودية هو اليوم الذي يحاسب فيه الإله البشر، وأن أحكامه تصبح نهائية في يوم الغفران.
والواقع أن دولة إسرائيل هي، بمعنى من المعاني، محاولة علمانية لترجمة مفهوم الفردوس اليهودي الأرضي إلى واقع حقيقي.
البعـــــــث
Resurrection
«البعث» تقابلها في العبرية كلمة «تحيَت همِّيتيم». وفي الواقع، فإن ثمة إطارين لفهم فكرة البعث: الإطار التوحيدي، وفي نطاقه نجد أن الإيمان بالبعث يعني الإيمان بعودة الروح إلى الجسد في المستقبل (في اليوم الآخر) لتثاب أو تُعاقَب. وداخل الإطار الحلولي، وفي نطاقه أشكال مختلفة لفكرة البعث من بينها الإيمان بتناسخ الأرواح، أو الإيمان بخلود الروح وحسب دون بَعْث، أو الإيمان بأن بعض الأرواح وحدها هي التي تُبعَث ولا يُبعَث البعض الآخر، أو الإيمان بأن الموتى يحيون بعد الموت في عالم خاص بهم. ولا توجد في كتب العهد القديم الأولى أية إشارات إلى بعث الموتى أو الحياة الأبدية، إذ يبدو أن العبرانيين القدامى لم يكونوا من المؤمنين بالبعث، وإنما كانوا يؤمنون بأن الإنسان جسد يفنى بالموت. وحتى بعد أن ظهرت فكرة خلود الروح، فإن هذه الفكرة لم تكن بعد مرتبطة بفكرة البعث والخير والشر والثواب والعقاب، إذ أن الروح كانت تذهب بعد الموت إلى مكان مظلم يُسمَّى «شيول»، حيث تبقى إلى الأبد، بغض النظر عما ارتكبته من أفعال في هذا العالم الدنيوي. وتتضـح هـذه الرؤيـة العدميـة في سـفر أيـوب الذي جـاء فيه: « اذكر أن حياتي إنما هي ريح، وعيني لا تعود ترى خيراً... السحاب يضمحل ويزول، وهكذا الذي ينزل إلى الهاوية (شيول) لا يصعد » (أيوب 7/7 ـ 9). "أما الرجل فيَبلى ويموت الإنسان يسلم الروح فأين هو... الإنسان يضطجع ولا يقوم، لا يستيقظون حتى لا تبقى السماوات ولا ينتبهون من نومهم" (أيوب 14/10 ـ 12).
وقد كانت مكونات فكرة البعث موجودة، فإحدى صفات الإله أنه يُحيي الموتى، وقد رُفع إليه إلياهو بالفعل. ويبدو أن هناك إرهاصات لفكرة البعث في سفر أشعياء (26/19)، ولكنها لا تظهر بشكل واضح لا إبهام فيه إلا في سفر دانيال (وتحت تأثير فارسي): "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي" (سفر دانيال 12/1 ـ 3). وبعد ظهور المفهوم، حاول مفسرو العهد القديم أن يقوموا بعملية إسقاط لهذه الفكرة على نصوص سابقة لتفسَّر على أنها تتحدث عن البعث، كما فعل راشي مع مزمور 17/15. ومع هذا، لم تستقر الفكرة تماماً في اليهودية. وعند هدم الهيكل، كان الصدوقيون لا يزالون ينكرون البعث. ويبدو أن الأسينيين أيضاً لم يكونوا يؤمنون به، على عكس الفريسيين.
وترى اليهودية الحاخامية أن الإيمان ببعث الموتى إحدى العقائد الأساسية في اليهودية، وأحد أُسُس الإيمان، كما ترى أن البعث بعث للروح والجسد. ولكن، حتى بعد ظهور فكرة البعث بشكلها الكامل، ظهرت عدة إشكاليات من بينها زمن البعث، فالتفكير الأخروي اليهودي يتضمن عنصرين: أحدهما زمني وهو العصر المشيحاني، والآخر لا زمني هو صيغة من صيغ آخر الأيام. كما أن علاقة البعث بيوم الحساب وجهنم والجنة لم تتحدد (وهذه أسئلة أثارها حسداي قريشقش). كما أن فكرة البعث احتفظت بكثير من العناصر الحلولية، ولذلك نجد أنها تكتسب بُعداً قومياً وتظل مرتبطة بالعودة القومية إلى الأرض. وحتى بين هؤلاء الذين يؤمنون بفكرة البعث، هناك خلاف حول من يُبعَث من البشر إذ قال موسى بن ميمون إن الأبرار وحدهم هم الذين سيُبعَثون، وذهب آخرون إلى أن كل أفراد جماعة يسرائيل سيُبعَثون، وقال فريق ثالث إن الجنس البشري بأسره سيُبعَث في آخر الأيام. وثمة بعض المفكرين من اليهود ينكرون حتى الآن عقيدة البعث. وتنكر اليهودية الإصلاحية فكرة أن البعث هو عودة الروح إلى الجسد وحسابها، مكتفيةً بتأكيد عقيدة خلود الروح. وقد تم تعديل كتاب الصلوات ليتفق مع العقائد الجديدة.
والواقع أن في إنكار البعث إنكاراً للمسئولية الشخصية وإنكاراً لفكرة الضمير الفردي، فالأخلاقيات اليهودية الحلولية أخلاقيات جماعية قومية لا تميِّز بين الخير والشر بقدر تمييزها بين اليهود والأغيار. وإنكار البعث تعبير مباشر عن النزعة الحلولية. فإذا كان الإله يحل في الأمة والأرض ولا يتجاوز المادة والتاريخ ويجمع بينهما، فإن البعث الفردي (والمسئولية الخلقية) تصبح أموراً مستحيلة وغير مرغوب فيها، فالبعث هو التوحد مع الأمة المقدَّسة والبحث عن الاستمرار والخلود من خلالها، وربما الدفن في الأرض المقدَّسة. ومن هنا كان الاهتمام المتطرف في إسرائيل بالدفن والمدافن، وباستعادة جثث الموتى من الجنود الإسرائيليين، بل من الشائع لدى بعض الجماعات اليهودية شراء تراب من أرض فلسطين (ومن القدس بالذات) ليُنثر على رأس المتوفي أملاً في أن يحوز بذلك البركة الخاصة بالبعث. وفي إطار الحلولية الصهيونية بدون إله ووحدة الوجود المادية التي تقدِّس الأرض، بدأ بعض الشباب الإسرائيلي يشعر بأن هذه الأرض المقدَّسة أصبحت تطالب بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى. ولعل ما يدعم إحساسهم هذا، رفض يهود العالم الهجرة إليها وحرص الكثيرين منهم في الوقت نفسه على أن يدفن فيها.
تناســـــــــــــــخ الأرواح
Transmigration of the Souls
«تناسخ الأرواح» مصطلح يقابله في العبرية مصطلح «جلجول هنيفيش»، وهو يعني الإيمان بأن أرواح البشر تعود بعد الموت إن عاجلاً أو آجلاً وتستقر في جسد إنسان آخر، وهي عقيدة مرتبطة تماماً بالفكر الحلولي وتحل محل فكرة البعث التوحيدية (وتشبه فكرة العود الأزلي لنيتشه) وهي عقيدة تستند إلى الإيمان بخلود الروح ولكنها لا تحرِّر الروح تماماً من الزمن. وقد آمن القراءون بشكل من أشكال تناسخ الأرواح. وتظهر الفكرة أيضاً وبشكل أوضح في القبَّالاه؛ سواء في الزوهار أو في القبَّالاه اللوريانية. وبحسب ما جاء في التراث القبَّالي، كانت أرواح كل البشر جزءاً من الآدم قدمون؛ الإنسان الأول أو الكامل، ولكن خطيئة آدم الأولى أدَّت إلى اغتراب روح البشر عن الإله. وروح كل إنسان جزء من روح آدم، ومن هـنا فإن كل الأرواح تشـارك في حـالة السـقوط والنفي. فإذا اقترف الإنسان آثاماً في حياته، فإن روحه تتجسد في أشكال أدنى من الحياة. ولذا، يتعيَّن على الإنسان أن يفعل الخير حتى تحل روحه في أجساد الأبرار لكي تصل الروح إلى حالة الإصلاح (تيقون) وهي استقرارها في مكانها الطبيعي في روح آدم. وقد تستقر روح أحد المذنبين في جسد إنسان آخر، فتمتلكه وتستحوذ عليه، وتشكل أثراً سيئاً فيه، ويمكن طرد هذه الروح بطقوس دينية خاصة.
ومن المفاهيم المهمة الأخرى المرتبطة بتناسخ الأرواح، فكرة «تلقيح الروح» (بالعبرية: عبُّور)، وذلك حينما تلقى روح شخص ما ظلالها على روح شخص آخر (حيّ) دون أن تسكن جسده بالضرورة. وقد يكون الهدف من عملية التلقيح هذه سلبياً أو إيجابياً. وإذا كانت الروح الهائمة روحاً مذنبة، فهي تلقي بظلالها على الشخص لتكفِّر عن سيئاتها. وبالتالي، فهي ستتلبس الشخص الحي، وفي هذه الحالة، يُقال لها «ديَبُّوق» ولابد من طردها. وقد تلقي الروح الهائمة بظلالها على روح شخص آخر لهدايته، وإضفاء هيبة عليه. وتذكر القبَّالاه اللوريانية حالات عديدة لتناسخ الأرواح، منها أن روح هارون حلت في عزرا، كما حلت روح يعقوب في مردخاي، في حين أن روحى موسى وسيمون بن يوحاي كانتا تلقيان بظلالهما على روح إسحق لوريا. ويُقال إن روح حاييم فيتال (تلميذ لوريا) لم تتأثر قط بخطيئة آدم.
وفكرة تناسخ الأرواح تعبير عن التيار الحلولي في اليهودية، وقد سادت هذه الفكرة بين اليهود وهيمنت على كثير منهم منذ القرن السابع عشر، فقد كان شبتاي تسفي (ومن تبعه) يتحدث عن حلول روح الإله في تسفي أو حلول روح تسفي فيمن أتى بعده. وقد أصبحت هذه الفكرة مركزية بين الحسيديين. ومن مظاهر ذلك ما يفعله الأتباع على قبر أبي حصيرة إذ يلقون أجسادهم عليه أملاً في أن تحل روحه فيهم وتُسمَّى تلك العملية «شيطَّوح» أو «التسطح على القبر».
خلــــــود الـــــــروح
Immortality of the Soul
لا يوجد في يهودية ما قبل التهجير، ولا في معظم العهد القديم، إيمان واضح بخلود الروح. ولعل هذا يعود إلى النزعة الحلولية التي تمحو كل الثنائيات وترى أن الروح إن هي إلا جزء من الجسد تفنى بفنائه، وأن الموت إن هو إلا نقصان فيما يُسمَّى «المادة الحيوية». ولذا، فقد أخذت الحياة الآخرة عندهم شكل شيول، وهو مكان محايد لا يعرف الثواب أو العقاب. ولم يُقدَّر لمفهوم خلود الروح أن يتبلور، بسبب تخبط الفكر الديني اليهودي بين الفكر الديني التوحيدي المصري وفكر بلاد الرافدين الحلولي، فقد أخذ بخلود الروح عن المصريين من ناحية وعن بلاد الرافدين من ناحية أخرى. وفي عبادة يسرائيل، أي في يهودية ما قبل التهجير، نجد أن ما يضفي معنى على الأشياء ليس حياة الفرد، وإنما تاريخ الأمة. ولذا، فإن الكتاب المقدَّس هو تاريخ الأمة، ويصبح هذا التاريخ محط اهتمام الإله واهتمام الشعب، ويصبح الخلود هو خلود الشعب. وقد طرح بعض الأنبياء فكرة خلود روح الفرد، وإن كان بشكل متردِّد وغير قاطع. ولا نعرف على وجه الدقة متى بدأت الفكرة تضرب بجذور راسخة في العقيدة اليهودية، ولكن يمكن القول بأن الفكرة بدأت تأخذ شكلاً محدداً في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد وبدأ الفريسيون يبشرون بها. واليهودية الهيلينية تفترض هي الأخرى فكرة خلود الروح، وأصبحت فكرة البعث التي تفترض خلود الروح إحدى العقائد الأساسية لليهودية.
ومع تزايد هيمنة الحلولية على النسق الديني اليهودي، نجد أن خلـود الروح يأخــذ عند القبَّاليين شكلاً آخر هو إيمانهم بتناسخ الأرواح. وهو مفهوم يفترض خلود الروح ولكنه لا يحررها تماماً من الزمان. وقد يكون مما ساعد على عدم تبلور فكرة موحَّدة ومحدَّدة عن البعث، تَخبُّط الفكر الأخروي اليهودي بين الأفكار المتناقضة عن العصر المشيحاني والآخرة أو العالم الآخر (الآتي)، وكذلك العقائد الألفية قبل وبعد العصر المشيحاني. ويظهر هذا التخبط في فكر موسى بن ميمون نفسه الذي أنكر أن كل الناس ستُبعَث.
وفي العصر الحديث، أُعيد طرح القضية مرة أخرى، وبُعثَت من جديد بعض الأفكار الحلولية القديمة. فرفض المفكر الديني موريتس لازاروس فكرة خلود روح الفرد وفكرة الآخرة. أما هرمان كوهن، فيرى أن خلود الروح في اليهودية ينطبق على الشعب ككل، لا على أفراده، فالشعب هو وحده الذي لا يموت (فتاريخه أزلي)، والروح الفردية تكتسب استمرارها من خلال هذا التاريخ، وهذا هو ما ورد في العهد القديم، أما ما عدا ذلك فأساطير، ولذا يجب ألا يجرى التفكير في مصير الإنسان بعد الموت. أما المفكر الصهيوني آحاد هعام، فيرى أن الإيمان بخلود الروح علامة من علامات الضعف ومرض الروح، ولذا فهو يسخر من الآخرة ومن الإيمان بها، ويرى أن الالتصاق العضوي بالأمة يحقق مثل هذا الخلود، وبذا تحل فكرة الشعب العضوي (فولك) محل فكرة خلود الروح والبعث واليوم الآخر.
المـوت
Death
كلمة «موت» العربية يقابلها في العبرية كلمة «مافت»، التي كانت تُستخدَم كذلك للإشارة إلى إله الموت في العبادة الكنعانية القديمة الذي كان دائماً يصارع بعل إله المطر والخصب. ويعود بعل في شهر المطر ويموت في نهايته، أما موت، فيعود إلى الحياة حينما يتوقف المطر، ويموت حينما يهطل المطر مرة أخرى. وهذه رؤية ثنوية للإله وجدت طريقها إلى العهد القديم، إذ يُنظَر إلى الموت باعتباره قوة مستقلة عن الإله، وله رسله (هوشع 13/14، أمثال 16/14). وتوجد عبارات عديدة في العهد القديم يُفهَم منها أن أعضاء جماعة يسرائيل تصوروا أن الموت ضرب من ضروب العودة إلى الأسلاف والانضمام إليهم (تكوين 49/33، عدد 27/13) وهو تعبير عن الطبقة الحلولية داخل اليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تراكمياً، ومن هنا الاهتمام بمكان الدفن في اليهودية إذ أصبح من الضروري أن يدفن اليهودي بجوار أسلافه. وقد تأثر مفهوم الموت بعدم الإيمان بالبعث، فكان الموت يُنظَر إليه (في سفر أيوب مثلاً) باعتباره نهايةً مطلقةً وعدماً كاملاً وفناءً لا يُرجى منه شفاء.
وقد ورد في العهد القديم سببان يفسران الموت: الأول أن الإنسان خُلق من تراب، ولذا فإنه لابد أن يعود إلى التراب (تكوين 2/7، أيوب 10/9). أما سفر التكوين، فيعطي سبباً آخر وهو أن الموت عقاب على الذنوب التي يرتكبها الإنسان وعلى معصية آدم (الأولى) التي طُرد بسببها من الجنة، فلم يعد بمقدوره أن يأكل من شجرة الحياة الأزلية (تكوين 3/22 ـ 24). والموت، بهذا المعنى، عقوبة سيرفعها الإله عن الناس في الآخرة، أي في العالم الآخر (الآتي). وكان الموت يعني الذهاب إلى أرض الموتى (شيول) التي لا عودة منها دون أن يكون هناك ثواب أو عقاب. وظهر فيما بعد الإيمان بخلود الروح وبالبعث، وذلك بعد الاحتكاك بالفُرْس واليونان، وتطورت المفاهيم الأخروية، وتَقبُّل الفكر الحاخامي الموت كحقيقة طبيعية حتمية. وحينما ظهر التفكير القبَّالي، طُرحَت قضية الموت مرة أخرى، فالفكر القبَّالي يرى أن الموت نتيجة خلل حدث في الكون بعد حادثة تَهشُّم الأوعية. وقد حاول الفكر القبَّالي أن يهِّون من نهائية الموت، فطرح فكرة تناسخ الأرواح التي تجعل الزمان الإطار المرجعي الأساسي، إن لم يكن الوحيد، والذي تمكن هزيمته عن طريق دورات التناسخ.
وفي العصر الحديث، اتخذ الفكر اليهودي مواقف متفاوتة متضاربة من حقيقة الموت تعكس التناقضات القديمة. وقد عاد الفكر القبَّالي إلى الظهـور من خـلال الحاخام الصهيوني إسـحق كـوك الذي يرى، على طريقة القبَّالاه اللوريانية، أن الموت ليس حقيقة نهائية يقبلها المؤمن، وإنما هو عيب في الخَلْق، وعلى الشعب أن يصلح هذا العيب ويزيله وينقذ الطبيعة من الموت بالتوبة والصلاة. ويتفق هذا الموقف تماماً مع موقف كوك الحلولي المتطرف. فالحلولية لا يمكن أن تقبل الموت لأن هذا يعني وجود مسافة بين الخالق والمخلوق. وقد كان كوك يرى أن تزايد متوسط عمر الفرد في القرن العشرين إحدى علامات اقتراب زوال الموت، وربما الانتصار النهائي عليه، وهذا اتجاه غنوصي واضح.
الانتحار
Suicide
بالعبرية «إيبّود»، ويُعَدُّ الانتحار، حسب التصور الديني اليهودي، جريمة مثل القتل. ويشير الحاخامات إلى ما جاء في سفر التكوين (9/5) على أنه تحريم للانتحار. ولهذا، فإن المنتحر أو القاتل المحكوم عليه بالإعدام كان لا يُدفن في داخل المقابر اليهودية، كما أنه لم تكن تُقام من أجله الشعائر الدينية الخاصة بالدفن. ومع هذا، فقد ورد في العهد القديم أربع حالات انتحار، وهي انتحار كلٍّ من: شمشون، وشاؤول وحامل درعه، وأحيتوفل. وفي العصر الحديث، قرَّر الحاخامات أن من ينتحر لا يتمتع بكامل قواه العقلية، ولذلك يمكن دفنه مع بقية الموتى وبالطريقة نفسها التي يُدفَنون بها.
وتختلف معدلات الانتحار بين اليهود والإسرائيليين باختلاف الظروف الاجتماعية ومعدلات التقدم والتخلف. فقد لاحَظ دوركهايم، في أواخر القرن التاسع عشر، أن معدلات الانتحار بين أعضاء الجماعات اليهودية منخفضة قياساً إلى الكاثوليك والبروتستانت. كما لوحظ أن نسبة الانتحار في إسرائيل كانت آخذة في التناقص حتى عهد قريب. ولكن، مع زيادة نسبة الاضطرابات النفسية في الكيان الصهيوني، زادت نسبة الانتحار، فقد بلغ عدد المنتحرين عام 1984 نحو مائتين وسبعين منهم مائتان وأربعون يهودياً، وهي نسبة ليست عالية بالقياس إلى اليابان أو الدول الاسكندنافية المشهورة بارتفاع معدلات الانتحار فيهـا ولكنهـا على أية حال أعلى في إسرائيل منها في معظم الدول الغربية. وقد بلغ عدد الذين حاولوا الانتحار وأخفقوا ودخلوا المستشفى للعلاج نحو ألف وأربعمائة، وهذا يشكل نصف العدد الحقيقي لأنه لا يتم عادةً الإبلاغ عن محاولات الانتحار. ولا تضم هذه الأرقام حالات الانتحار في الحبس أو السجون. ويُقال أيضاً إن هذه الأرقام ليست دقيقة لأن الاعتبارات الدينية تجعل بعض الأسر تبلغ عن حادث الانتحار كما لو كان حادثة عادية، كما يُقال إن بعض المنتحرين ينفذون انتحارهم بحيث يبدو كما لو كان حادثة حتى لا يسببوا حرجاً لأسرهم. وقد لوحظ ارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين أثناء التورط الإسرائيلي في لبنان. كما انتحر عدد من يهود الفلاشاه بعد استيطانهم فلسطين بسبب عدم تكيفهم مع الأوضاع الجديدة. وبعد الانتفاضة، انتحر أكثر من ثلاثين جندياً خلال عام 1989، وكان معظمهم من الجنود النظاميين (ولذا، فقد أدخل الجيش الإسرائيلي لأول مرة ضباطاً متخصصين في الطب النفسي). وتمجِّد الصهيونية فكرة الانتحار الجماعي. ومعظم الأساطير القومية، مثل أسطورة ماسادا وشمشون بل وبركوخبا، هي أساطير انتحارية. ولذلك، فإن أحد المفكرين الإسرائيليين (يهوشفاط حركبي) سَمَّى النزعة الانتحارية عند الإسرائيليين «أعراض بركوخبا». ويتحدث الكتاب الغربيون عن «عقدة ماسادا».
الدفــــــن والمدافــــــن
Burial and Burial Places
تتسم العقائد الأخروية «قبيراه» عند اليهود بعدم تحدُّدها أو تبلورها، إذ تتعايش داخل إطارها عدة أفكار غير متجانسة بل ومتناقضة على طريقة اليهودية الجيولوجية، بعضها حلولي بدرجات متفاوتة من الحلول والبعض الآخر توحيدي. ويُلاحَظ أن شعائر الدفن والمدافن تكتسب أهمية خاصة داخل الإطار الحلولي. وقد دخل على اليهودية بعض المفاهيم البابلية عن أرض الموتى. وحسب هذه المفاهيم، يتوقف مصير الموتى لا على ما اقترفوه من آثام، وما أدوه من حسنات، وإنما على الطريقة المادية للدفن، وهل تمت طقوس الدفن حسب القواعد المرعية أم لا؟ وهل وُضع بجوارهم طعام أم لا؟ وتوجد مثل هذه الأفكار في العهد القديم، إذ يجب تقديم طعام للموتى على أن يكون قد دُفعَت عشوره.
ويؤكد العهد القديم أهمية الدفن، وخصوصاً في مقبرة الأسرة (تكوين 47/29 ـ 30، 49/29). وقد اهتم الآباء بمكان دفنهم وأعدوا العدة لذلك. والسير التي وردت في العهد القديم تنتهي دائماً بسرد تفاصيل دفن الشخص الذي وردت سيرته. ويُعَدُّ عدم دفن الجثمان عقوبة قاسية تلحق بصاحبه، ومع هذا لم تكن هناك طريقة عبرانية محدَّدة للدفن إذ استمر العبرانيون في استخدام طرق الدفن السائدة في فلسطين قبل التسلل العبراني. ولم ترد قواعد محددة للدفن في العهد القديم.
لكل ما تقدَّم، تشغل طقوس الدفن جزءاً مهماً في اليهودية، وتأخذ أشـكالاً متنوعـة. ويقوم اليهود بغسل موتاهم في أسرع وقت ممكن، ثم يقومون بدفنهم في احتفال يجب أن يتسم بالبساطة بعد أن يتلوا صلاة القاديش. ويستخدم الإشكناز توابيت يدفنون فيها الموتى، أما اليهود الشرقيون فيدفنون موتاهم في الأرض مباشرة كما هي عادة المسلمين. وعادةً ما يُدفَن اليهودي الذي يموت ميتة طبيعية في شال الصلاة (طاليت) الذي كان يستخدمه أثناء حياته. أما من يُقتَل فيؤخذ بملابسه الملطخة، ويُلَف بشاله حتى لا يفقد أي جزء من أعضاء جسمه. ويقوم اليهود بختان الطفل الذي يموت قبل أن يُختن، ثم يُطلق عليه اسم عبري ويُدفَن.
وهناك عدة طقـوس ذات طابـع حلولي شـعبي مرتبطة بمراسم الدفن، فإحدى صلوات الإشكناز في الجنازة اليهودية كانت تتضمن طلب الغفران من الجثة، وهي عادة ظلت قائمة حتى عام 1887 حينما أوقفها الحاخام الأكبر في إنجلترا. ويلقي السفارد عملات في الجهات الأربع كهدية أو رشوة للأرواح الشريرة. ويُدفَن اليهود في اليمن وأقدامهم موجهة نحو القدس. وفي ليبيا، إذا كانت أرملة الميت حبلى، فإنهم يرفعون النعش وتمر الأرملة تحته حتى تبين أن الميت هو أبو الجنين الذي تحمله. ولا شك في أن كل هذه العادات متأثر بالمحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية.
وتحظى المدافن اليهودية بالاهتمام نفسه الذي تحظى به طقوس الدفن، وهي تُسمَّى «بيت الأحياء»، كما يُطلَق عليها أيضاً اسم «بيت الأزلية». وتقع المدافن اليهودية عادةً خارج حدود المدينة لأن جثث الموتى أحد مصادر النجاسة. ويزور اليهود المقابر في الأعياد ليقدموا الصلوات أمام قبور الموتى حتى يتشفعوا لهم عند الإله. ولابد من دفن جميع اليهود في المكان نفسه بالطريقة نفسها، ويُحتَفَظ بأماكن خاصة في المدافن للعلماء والحاخامات والشخصيات البارزة.
وللدفن في الأرض المقدَّسة دلالة خاصة (وهذا أمر منطقي في الإطار الحلولي)، فمع حلول الإله في الأرض والشعب، وعدم تجاوزه لهما، فإن الخلود الفردي يتراجع ويحل محله الخلود عن طريق التوحد مع الأمة والأرض. فإبراهيم اشترى لنفسه قبراً في فلسطين، أما موسى فلم يُدفَن هناك، وقد قلل هذا من شأنه. ولا يزال كثير من أثرياء اليهود في العالم يشترون قطع أرض في إسرائيل ليُدفَنوا فيها. وجرت العادة خارج فلسطين على أن يُرش على رأس الميت تراب يُحضَر خصيصاً من فلسطين. كما أن الحكومة الإسرائيلية وجهت عنايتها البالغة لنقل رفات معظم الزعماء الصهاينة فور إعلان دولة إسرائيل، وبذلت جهداً كبيراً لاسترداد جثث الجنود الإسرائيلين الذي قُتلوا أثناء حرب أكتوبر. ولا يجوز إخراج جثة اليهودي المدفونة من الأرض إلا لإعادة دفنها في مدافن العائلة أو في أرض إسرائيل. ويُقال في الفلكلور الديني في التلمود إن جثة الميت خارج فلسطين تزحف تحت الأرض بعد دفنها حتى تصل إلى الأرض المقدَّسة وتتوحد معها.
وقد تحوَّلت المدافن إلى حلبة أساسية للصراع بين أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية. فالإشكنازي الذي يتزوج سفاردية كان لا يمكن أن يُدفَن في مدافن السفارد. كما أن السيطرة على المدافن أصبحت من أهم مظاهر الهيمنة الحاخامية في أمريكا اللاتينية، الأمر الذي حدا بأحد الباحثين إلى القول بأنه إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤكد أنه لا خلاص للمسيحي خارج الكنيسة، فإن المؤسسات اليهودية في أمريكا اللاتينية حولت الدفن في المقابر اليهودية إلى شيء يشبه الخلاص من خلال الكنيسة (لا خلاص خارج المدافن!). وتقوم مجالس الجماعات اليهودية المختلفة بجمع الرسوم الباهظة من أعضاء الجماعة اليهودية. ومع تزايد معدلات العلمنة، بدأت تخف حدَّة هذا التوتر نظراً لعدم اكتراث كثير من أعضاء الجماعات، في الوقت الحالي، بمكان الدفن أو مراسمه.
وتُشكِّل القداسة والنجاسة مشكلة أساسية في عملية الدفن كما هو متوقع في الإطار الحلولي، وتعبِّر القداسة (أو انعدامها) عن درجات الحلول الإلهي. فالكهنة، أي أولئـك اليهـود الذي يُفـترَض أنهم من نسل الكهنة، وهـم الذين يعبِّرون عن الحلـول الإلهي بدرجة أعلى من بقية اليهود، يُدفَنون إما في نهاية صف المقابر أو في الصف الأمامي وعلى بعد أربع خطوات من المقبرة، وذلك حتى يتسنى إقامة حاجز يقي أقارب الميت (وهم أيضاً من الكهنة) من الدنس الذي قد يلحق بهم لو لمسوا جثث الموتى من اليهود العاديين أو اقتربوا منها. وعادةً لا يجوز دفن اليهود في مقابر غير اليهود. ولكن، إن لم تتوافر مدافن خاصة بهم، فيمكن دفنهم في مقبرة عامة على أن يكون هناك فاصل من أربع خطوات بين مقبرة اليهودي ومقبرة أيٍّ من الأغيار (ونلاحظ أن الخطوات الأربع هي أيضاً المسافة التي يجب أن تفصل الكاهن عن اليهود العاديين).
ويتبدَّى الفصل الحاد بين اليهود والأغيار، الذي يشكل مقولة أساسية في اليهودية، في الموقف من مدى قداسة المدافن والموتى أو نجاستها. فمدافن غير اليهود، على عكس مدافن اليهود، لا تُدنِّس الكهـنة نظراً لانعـدام قداسـتها. ولا يمكن إزالة مدافن اليهود لأنها مقدَّسة، أما مدافن العرب والمسلمين وغير اليهود فيمكن هدمها بكل بساطة. وعلى سبيل المثال، أُزيلت مئات المقابر في إسرائيل لإقامة هيلتون تل أبيب. ولكن، عندما هدمت الحكومة الأردنية بعض مقابر اليهود على جبل الزيتون، حدث احتجاج على ذلك وبشدة. وقد أثيرت مؤخراً قضية مقابر اليهود في حي البساتين في القاهرة، إذ تقرر بناء طريق سريع حول القاهرة يمر بهذه المقابر، وهو ما سيؤدي إلى نقل بعضها بضعة أمتار. وهناك فتاوى حاخامية تذهب إلى أنه يجوز نقل هذه المقابر، وهناك سوابق لذلك. ومع هذا، قررت المؤسسة الصهيونية تحويل هذه الواقعة إلى مناسبة للصراع، وإلى وسيلة للضغط على الحكومة المصرية، وتأكيد فكرة الشعب اليهودي على حساب السيادة المصرية. فصرح الحاخام هرتس فرانكيل (من بروكلين) بأن المقبرة، حسب العقيدة اليهودية، أكثر قداسة من المعبد اليهودي، وهو أمر قد يكون صحيحاً من منظور حلولي يهودي يساوي بين الإله (المعبد) والإنسان (المقبرة) بل يُعلي من شأن الإنسان على الإله ومن ثم يُعلي من شأن المقبرة على المعبد. ولكن ذلك ليس صحيحاً من منظور حاخامي توحيدي معتدل. وقد أضاف الحاخام فرانكيل أيضاً أن المقابر اليهودية جزء من التراث اليهودي وتاريخ الشعب اليهودي، فأعطى مضموناً أيديولوجياً للمقابر. وقد جندت المؤسسة الصهيونية بعض رجال الكونجرس للضغط على الحكومة المصرية لبناء كوبري يمر فوق المقبرة بدلاً من نقل المقابر. وقد طُبع مؤخراً في إسرائيل ما يُسمَّى «محذوفات التلمود» جاء فيه أنه إذا مرَّ يهودي على مقبرة فعليه أن يلقي عليها دعاءً بالبركة إن كانت المقبرة مقبرة يهودي، وعليه أن يلعن أمهات الموتى إن كانت المقبرة لغير يهودي.
وقد غيَّر اليهود الإصلاحيون كثيراً من طقوس الدفن، فأصبح من الممكن دفن الميت بعد يوم أو يومين في ملابس عادية، كما أنهم يصرحون بإحراق الجثة. وفي الآونة الأخيرة، هناك اتجاه أخذ في التزايد نحو إحراق جثمان الميت وذَرِّ رماده أو الاحتفاظ به في وعاء خاص، وذلك بسبب تزايد العلمنة، وهي ممارسة يعترض عليها اليهود الأرثوذكس لأنها تتنافى مع الشريعة اليهودية.
وتُطبَّق قوانين الدفن والمدافن تطبيقاً كاملاً في إسرائيل. وقد أثار أفنيري، في الكنيست، مسألة التفرقة التي تمارسها الدولة في دفن الجنود الإسرائيليين الذين يسقطون أثناء القتال، إذ يُدفَنون دون تمييز في بادئ الأمر، ثم تقوم دار الحاخامية (سراً) بغرس شجرة أمام القتلى الذين لم تعترف الحاخامية بيهوديتهم، حتى يتم عزلهم عن بقية المدفونين.
وقد أثيرت مؤخراً حادثة جثة تيريزا أنجليلوفيتش، المستوطنة الصهيونية التي هاجرت من رومانيا إلى إسرائيل مع زوجها ودُفنَت في مقابر اليهود، وقد اختُطفَت جثتها لدفنها في مقبرة منفصلة، لأنها لم تتهوَّد بالطريقة المعتمدة لدى الحاخامية. وفي نهاية الأمر، أُعيد دفنها في مقابر اليهود. وتقدمت شولاميت ألوني باقتراح إنشاء مقابر لليهود العلمانيين مستقلةً عن مقابر المتدينين. ومن القضايا التي أُثيرت أخيراً، الطلب الذي تقدمت به إحدى أمهات الجنود الإسرائيليين الذين قُتلوا في لبنان بأن يُزال من فوق شاهد قبر ابنها عبارة « عملية السلام من أجل الجليل »، وهو الاسم الرسمي للغزو الإسرائيلي للبنان. وقد أشارت الأم إلى أنها لم تكن عملية وإنما كانت حرباً، ولم تكن من أجل السلام كما أنها لم تحققه. كما أشارت إلى أن ابنها لم يسقط في الجليل وإنما في لبنان. وطلبت الأم تغيير التاريخ المكتوب على قبر ابنها من التاريخ العبري إلى التاريخ الجريجوري، وقد وافقتها المحكمة على طلبها هذا. ويطلب كثير من أعضاء الجماعات اليهودية أن يُدفَنوا في إسرائيل، الأمر الذي أدَّى إلى ارتفاع ثمن المقابر. وقد لوحظ أن بعض المهاجرين السوفييت يصلون أحياناً ومعهم توابيت لبعض أفراد الأسرة ليُدفَنوا في فلسطين، ولكنهم يكتشفون أن أسعار المدافن باهظة، وأنهم غير قادرين على دفع الثمن. وتنوي بلدية القدس المحتلة بناء مقابر تابعة لها في الضفة الغربية بالقرب من معليه أدوميم.
التشـريح
Autopsy
لا يوجد تحريم واضح لعملية التشريح في العهد القديم. وبحسب ما جاء في القانون الإسرائيلي، يمكن تشريح جثث الموتى إذا لم يطالب بغير ذلك آخر، أو نصَّ الميت على ذلك في وصيته. كما يمكن تشريح الجثث لأسباب قانونية لمعرفة سبب الوفاة أو لأي أسباب أخرى. وقد وافق الحاخام الأكبر على القانون الإسرائيلي، إلا أن ثمة معارضة قوية من جانب بعض الحاخامات الأرثوذكس. وتُطرَح القضية من آونة إلى أخرى في إسرائيل.
الثــــــــــــواب والعقـــــــــــاب
Retribution, Reward and Punishment
الإيمان بالثواب والعقاب في الآخرة هو إحدى العقائد الأساسية في الطبقة التوحيدية في اليهودية، وهي طبقة واحدة توجد بجوار طبقات أخرى مختلفة عنها من أهمها الطبقة الحلولية. ولذا، لا توجد إشارات واضحة في أسفار موسى الخمسة إلى فكرة الثواب والعقاب، وإن كان ثمة ثواب وعقاب فإنهما يأخذان شكلاً قومياً ينصرف إلى الشعب اليهودي ككل، أو إلى الشعوب الأخرى، لا إلى الأفراد. كما أن الثواب والعقاب في العهد القديم عادةً ما يتمان داخل الزمان. ولذا، فقد جاء في الوصايا العشر أن طاعة الوالدين تطيل العمر. كما جاء في سفر التثنية: "فإذا سمعتم لوصاياي... أُعطي مطر أرضكم في حينه" (11/13 ـ 14). ويثير سفر أيوب قضية معاناة الأبرار وازدهار الأشرار، ومع هذا فإن السفر يحل هذه الإشكالية بالعودة إلى النمط المادي القديم، أي بمكافأة أيوب في هذا العالم. فبعد طول معاناة، وبعد تأملات عدمية تنكر البعث، يقول السفر: "بارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه، وكان له أربعة عشر ألفاً من الغنم وستة آلاف من الإبل وألف فدان من البقر وألف أتان، وكان له سبعة بنين وثلاث بنات… ولم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الأرض وأعطاهن أبوهن ميراثاً بين إخوتهن" (42/13 ـ 15).
ولكن بعد أن أكد الأنبياء فكرة المسئولية الخلقية، أصبح من الصعب تَقبُّل هـذا الرأي الخاص بالمكافـأة المادية المباشـرة في هذا العالم، وظهرت فكرة يوم الحساب، ثم فكرة البعث وفكرة جهنم حيث يُعاقَب الفرد المخطئ ويُثاب المصيب. وقد وضع فقهاء اليهود الثواب والعقاب في إطار أخروي، رغم وجود النصوص التوراتية التي تؤكد أن مسألة الثواب والعقاب الإلهى تتعلق بأمور الدنيا. وقد ساد هذا التفسير بين فقهاء اليهود في العصور الوسطى في الغرب وفي العالم الإسلامي، وإن كان التلمود يضم نصوصاً كثيرة هي استمرار للأفكار الحلولية القديمة. ويتعمق التيار الحلولي مع القبَّالاه التي ترى أن الثواب والعقاب يَتمَّان من خلال تناسخ الأرواح. فإذا كان الإنسان خيِّراً، حلت روحه في جسد إنسان خير. أما إذا كان شريراً، فإنها تحل في جسد إنسان وضيع أو حتى في جماد أو حيوان.
وعلى كلٍّ، فإن فكرة الثواب والعقاب، برغم تحدُّدها وتبلورها في الفكر الديني اليهودي، لم تستبعد الأفكار الأخرى، وبما أن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمي يضم الأفكار دون صهرها بحيث تتعايش هذه الأفكار بكل تناقضاتها داخل النسق الواحد. فليس من المستغرب أن يطرح الفكر الديني اليهودي فكرة الثواب والعقاب للنقاش مرة أخرى في العصر الحديث. وقد ذكر كلٌّ من كوهلر وكابلان وبوبر أن فكرة الثواب والعقاب لا يمكن أن تؤخذ بشكل حرفي، بل لا تنطبق على الفرد، فهي تنطبق على المجتمع ككل، وبذلك فقد قرنوا فكرة الثواب والعقاب بفكرة التقدم والتخلف، بل إن كابلان يقرن الإله نفسه بالتقدم.
وقد طُرحَت القضية مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد الإبادة النازية ليهود أوربا، وظهر ما يُسمَّى «لاهوت ما بعد أوشفيتس»، وهي عبارة تشير إلى تساؤل أساسي يطرحه الفلاسفة الدينيون اليهود، وهو: هل من الممكن، بعد أوشفيتس، الاستمرار في الإيمان بالإله بعد ما حاق باليهود من عذاب وإبادة؟ وقد تحدَّث بوبر عن «خسوف الإله». أما ريتشارد روبنشتاين، فقال إنه لم يعد بوسعه أن يقبل المفهوم التقليدي للإله، إذ أن مثل هذا الإله عليه أن يتحمل مسئولية أوشفيتس، باعتبار أن الإبادة النازية لليهود كانت حدثاً فريداً في تاريخ اليهود، ورفض أن يكون النازيون هم أداة عقاب الإله. ولقد رد عليهم فاكنهايم فقال إن رَفْض الفكرة التقليدية للإله يعني انتصار هتلر. وتؤمن الجماعات الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة برغم صهيونيتها الواضحة بأن أوشفيتس عقاب إلهي حل باليهود نظراً لرفضهم المسيح عيسى بن مريم. كما أن الحاخام مناحيم إيمانويل هارتوم يرى أن الإبادة النازية عقاب لليهود من الإله على خطاياهم، وحيث إنهم لا يزالون مستمرين فيما هم فيه، فقد يحل بهم العقاب مرة أخرى.
حلقـــة الأعـــالي
Academy on High
«حلقة الأعالي» هي ترجمة للعبارة العبرية «يشيفا شيل معلاه». وقد وردت في الأدب الأخروي (إسكاتولوجي)، وخصوصاً في العصر التلمودي، فكرة حلولية مفادها أنه توجد حلقة تلمودية (يشيفا) في السماء يترأسها الإله حيث يستمر الأتقياء والعلماء في دراسة التوراة، ومناقشاتهم لها وللقضايا الدينية الأخرى. وفي كل يوم، يطرح الإله تفسيره للتوراة، ويذكر آراء العلماء الآخرين. وتذكر الأجاداه أن المناقشات الحادة كانت تدور بين الإله وأعضاء حلقة الأعالي. ويدرس في هذه الحلقة التلمودية الأطفال الصغار الذين ماتوا قبل أن تتاح لهم فرصة دراسة الشريعة. ولكن لا يدخل هذه الحلقة، من بين الكبار، إلا من درس في الحلقات التلمودية أو المدارس التلمودية العليا على الأرض، أو أولئك الذين لم يدرسوا ولكنهم عاونوا الآخرين على الدراسة.
وقد طوَّر القبَّاليون هذا المفهوم، بحيث أصبح هناك حلقتان: تُسمَّى إحداهما حلقة السماء، وتُسمَّى الأخرى حلقة الأعالي. ويترأس الأولى ملاك، ويترأس الثانية الإله. ويمكن أن ينتقل عضو الحلقة الأولى بعد أن ينجح إلى الحلقة الثانية التي تُعَدُّ أعلى مرتبة.
وهذه الفكرة الأخروية الطريفة الساذجة هي تعبير حاد عن التيار الحلولي اليهودي في اليهودية الذي يعادل تماماً بين الإله والإنسان، وبين الأرض والسماء، بحيث يُسقط تناقضات العالم الأرضي وصراعاته وسماته على ما يدور في السماء. وفي صلاة يوم الغفران، يطلب المصلون، قبل تلاوة دعاء كل النذور، أن تسمح لهم هذه الحلقة بإقامة الصلاة مع المخطئين.
الجنــــة
Paradise
«الجنة» هي الترجمة العربية لكلمة «جن عيدن» العبرية. كما توجد كلمة أخرى في العبرية هي «باراديس» وتعني «جنة». والكلمة من أصل فارسي، وتعني «بقعة يحيط بها سور»، ولعلها ذات صلة بالكلمة اليونانية «باراديوس» التي أصبحت في الإنجليزية «باراديز paradise». ويشكل مفهوم الجنة أحد المفاهيم الأخروية اليهودية المتأخرة. وقد ورد في العهد القديم (سفر التكوين) أن الإله غرس جنة عدن ليقطن فيها آدم وحواء. وهذه الجنة بقعة جغرافية في هذا العالم. والواقع أن اليهودية الأولى، أي عبادة يسرائيل الحلولية، لم تعرف الحياة الآخرة أو العالم الآخر أو البعث. وثمة مشاكل عديدة في قصة جنة عدن هذه تتعلق بشجرة الحياة والمعرفة ودلالتها الرمزية. ومفهوم جنة عدن هو أصل مفهوم الفردوس الأرضي (الموجود بعيداً في الشرق) الذي يقطن فيه الصالحون.
وقد تطوَّر مفهوم الجنة مع تطوُّر المفاهيم الأخروية الأخرى، وظهرت مفاهيم مثل: العالم الآخر (الآتي)، والمستقبل، والعصر المشيحاني، وكلها مفاهيم تدور حول فكرة الفردوس (وإن كان هذا الفردوس فردوساً أرضياً داخل الزمان). ومع ظهور فكرة البعث وفكرة الثواب والعقاب الفرديين، صارت فكرة الجنة مرتبطة بهذه الأفكار وأصبحت جنة عدن "حديقة في العالم الآخر". بل ذهب بعض الحاخامات، لحل مشكلة الثنائية بين جنة عدن والجنة أو الفردوس الأرضي والفردوس السماوي، إلى أن جنة عدن نُقلَت إلى السماء. ومع هذا، لم يتبلور المفهوم تماماً، واختلط بمفهوم العالم الآتي وتداخل مع المفاهيم الفردوسية الأخرى. وهكذا، فإننا نجد أن الفكر القبَّالي يجعل الجنة (باراديس) في متناول العارفين بالقبَّالاه الذين يصلون إلى معنى التـوراة الخـفي، فيخترقون سطح توراة الخالق ليصلوا إلى توراة الفيض، ومن هنا ذهب القبَّاليون إلى أن بارديس هي التفسير المتعمق للتوراة. والحروف المكوِّنة لكلمة «بارديس» هي الحروف الأولى لمستويات التفسير الأربعة: ب = بيشاط (حرفي)، ر = ريميز (رمزي)، د = ديراش (وعظي)، س = سود (باطني أو صوفي حلولي). وفي العصر الحديث، تخلَّى الفكر الديني اليهودي عن هذه الفكرة تماماً، وهي لم تكن في أي وقت إحدى العقائد الأساسية.
أرض الموتى (شيول)
Sheol
«أرض الموتى» ترجمة لكلمة «شيول» العبرية التي تُستخدَم كاسم عَلَمْ، وهي مجهولة الأصل وتأتي دائماً في صيغة المؤنث وبدون أداة تعريف ولا تظهر في اللغات السامية الأخرى. وتشير الكلمة إلى مكان يسكن فيه الموتى. وقد أُشير إليه بأسماء أخرى، مثل «عفر»، أي «تراب»، و«جفر»، أي «قبر»، كما استُخدمت عبارات شتى للإشارة إليه مثل «مكان السكنى»، و«أماكن الأرض السفلى»، و«أرض الظلمة». وتقع شيول إما تحت الأرض، أو تحت الماء، أو تحت قاعدة الجبال، وأحياناً تُصوَّر على هيئة تنين مخيف.
وتُعتبَر شيول مكاناً محايداً، أي أنه لم يكن مكاناً للثواب والعقاب يتساوى فيه الملوك والعامة والأثرياء والفقراء والسادة والعبيد والأخيار والأشرار، بل هو يكاد يكون مجرد مكان للدفن. ورغم أن الإله يتحكم (حسب التصور اليهودي) في العالمين العلوي والسفلي، فإن الموتى لا يمكنهم التواصل معه أو التسبيح له (مزامير 115/17)، ذلك أنهم قد انحدروا إلى أرض السكون. ومع هذا، فيمكن استدعاء الموتى من هناك ليجيبوا عن أسئلة الأحياء. وشيول تشبه في كثير من النواحي عالم الأراللو أو عالم الظلمات في بلاد أرض الرافـدين، فهو عالم مظلم لا حساب فيه ويُنسى من ينزل إليه.
ومفهوم كلمة «شيول» مفهوم منطقي في السياق الحلولي الوثني للعهد القديم وعبادة يسرائيل، فالديانة القديمة ترى أن الجسد والروح شيء واحد، وأن الحياة الآتية امتداد للحياة الحالية. ولذا، فإن حياة ما بعد الموت، إن وُجدت، فليست إلا صورة شاحبة لهذه الحياة تتسم بنوع من نقصان الحيوية. وحين يموت المرء، تذهب روحه وجسده إلى أرض الموتى.
وقد تطوَّر هذا المفهوم فيما بعد، في فترة ما بعد السبي البابلي حين ظهرت فكرة الثواب والعقاب الفرديين، بحيث أصبحت شيول المكان الذي ينتـظر فيـه الموتى يوم الحسـاب حين يُبعثون ليُحاسَبوا. ولذا، فقد قُسِّمت شيول إلى أقسام مختلفة، ينتظر الأخيار في مكان خاص بهم، وينتظر الأشرار في أماكن أخرى مختلفة كل حسب درجة شـرِّه. ومن هنـا، تداخـل مفهـوم كلمــة «شـيول» مع مفهوم كلمة «جيهنوم» (جهنم) وهو مكان العذاب الدائم للمذنبين.
جهنم
Hell
«جهنم» من الكلمة الآرامية «جيهينوم»، ويقابلها في العبرية كلمة «جي بني هنوم»، أي «وادي أبناء هنوم». و«جهنم» أحد المفاهيم الأخروية اليهودية، ولم يظهر إلا متأخراً. فقد ظهرت في بداية الأمر كلمة أرض الموتى (شيول)، وهي كلمة ذات مفهوم محايد غير مرتبط بالثواب والعقاب أو البعث والحساب. ومع تطوُّر الفكر اليهودي من الحلولية إلى التوحيدية، ودخول أفكار خلود الروح الفردي والبعث والحساب، تطوَّر مفهوم أرض الموتى لتعبِّر عنه كلمة «جهنم»، أي «المكان الذي سيُعاقَب فيه الأشرار». وكان المعروف أن عقاب المذنبين سيتم داخل الزمان، ولذا كان يُشار إليه باعتباره «الوادي الملعون»، ثم تحوَّل إلى المكان الذي سيُعاقَب فيه الآثمون بعد البعث.
ومع هذا، ظل المفهوم قلقاً غير محدد، مثله مثل معظم المفاهيم الأخروية، فليس من المعروف ما إذا كان الآثمون سيدخلون جنهم بعد البعث أم بعد الموت؟ ولم يحدد الفكر الديني مدى العقوبة، فثمة رأي يذهب إلى أن الآثمين من جماعة يسرائيل سيُعاقَبون مدة عام، ثم تباد أرواحهم بعد ذلك. وذهب الحاخام عقيبا إلى أنهم سيذهبون إلى الجنة بعد قضاء فترة العقوبة. وكان الرأي يذهب إلى أن كل أعضاء جماعة يسرائيل، باستثناء قلة مذنبة صغيرة، سيكون لهم نصيب في الآخرة أو العالم الآخر (الآتي). ويُقال إن إبراهيم سيقف عند باب جهنم وينقذ من دخولها المختونين من نسله. وسيستريح كل المذنبين من العذاب، ومن ضمنهم غير اليهود، يوم السبت. وقد أنكر بعض حاخامات فلسطين وجود جهنم وقالوا إن أرواح الأشرار ستباد تماماً يوم الحساب. وفي العصر الحديث، أسقط كثير من المفكرين الدينيين اليهود فكرة جهنم تماماً. وقد كان الأمر بالنسبة إليهم يسيراً لأنها لم تصبح قط ضمن العقائد اليهودية المستقرة.
الملائكة
Angels
«الملائكة» صيغة جمع عربية لكلمة «ملاك» التي تقابلها «ملاك» العبرية ومعناها «مُرسَل» لأداء «مل آخاه» أي «مهمة» أو «بعثة». ويمكن القول بأن الملائكة داخل إطار حلولي تختلف تماماً عنها داخل إطار توحيدي، فهم داخل الإطار التوحيدي رمز للغيب وتعبير عن قدرة الإله اللانهائية التي تتجاوز مقدرات البشر وإدراكهم. أما داخل الإطار الحلولي، فالأمر جدُّ مختلف، فهم ليسوا رسل الإله وحسب وإنما هم جزء منه ووسطاؤه. ولذا، يشار إلى الملائكة في التراث الديني اليهودي باعتبارهم «بنو إلوهيم» أو «بنو إليم»، أي «أبناء الإله» أو «قيدوشيم»، أي «المقدَّسون»، وأحياناً «إيش»، أي «رجل». أما أسماء مثل: «آرئيليم»، أو «كروبيم» أو «سيرافيم» أو «أوفانيم»، فتُستخدَم للإشارة إلى الملائكة المرتبطين بالعرش أو المركبة الإلهية. وقد عرف الشرق الأدنى القديم آلهة مجنحة لها رؤوس بشر ذكور وإناث، هي التي تظهر أمام القصور الآشورية، كما عرفتها العبادة الكنعانية.
ويظهر الملائكة في الأجزاء الأولى من العهد القديم على هيئة بشر. وهم يضطلعون بوظائف عديدة، من بينها حماية العبرانيين أثناء خروجهم من مصر وأثناء تجوالهم في البرية، ويفسرون لزكريا ودانيال الرؤى (أبوكاليبس) التي شاهدها. كما أنهم يقومون بعقاب المذنبين، مثلما فعلوا عند تحطيم سدوم وعموراه. وهم يحيطون بالعرش الإلهي، ومنهم أيضاً الجوقة التي تسبح للإله. ومن أهم أحداث العهد القديم، حادثة الصراع بين يعقوب والملاك (الذي ظهر فيما بعد أنه الإله)، وقد صرعه يعقوب، وسُمِّي «يسرائيل»، أي «الذي تصارع مع الإله» أو «من صرع الإله». ويرتكب الملائكة الحماقات، فقد ورد في العهد القديم (تكوين 6/1ـ 2): "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أن أبناء الإله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا".
وبعد العودة من بابل ترسَّخ مفهوم الملائكة في العقيدة اليهودية، وأصبح للملائكة أسماء وطبقات. وقد تزايد عددهم وتزايدت أسماؤهم في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وظهرت فكرة رئيس الملائكة الذي سقط. ومع هذا، فقد استمرت فرق مثل الصدوقيين في إنكار الملائكة، وهو جزء من إنكارها لفكرة البعث والإله المتجاوز للطبيعة والتاريخ.
والإيمان بالملائكة داخل الإطار الحلولي هو إحدى العقائد الأساسية في التلمود. وقد تَعمَّق الاهتمام بهم مع ظهور التراث القبَّالي ووصوله إلى ذروته، وهو تعبير عن هيمنة الحلولية. ويضم كتاب الزوهار، وغيره من الكتب القبَّالية، قوائم طويلة بأسماء الملائكة، ومهمة كل واحد منها والوقت الذي يزداد فيه نفوذ كل ملاك ومكانه في الأبراج السماوية. وقد استُخدمت أسماؤهم في القبَّالاه العملية، في إعداد التمائم والتعاويذ المختلفة. بل يصبح الملائكة، شأنهم في هذا شأن عزازيل، قوى مستقلة عن الذات الإلهية، أي آلهة صغيرة لها إرادة مستقلة تقف على باب السماء تمنع دخول أدعية البشر للإله، ولذا يحاول اليهود خداعهم. ولاتقاء شرهم، يتلون بعض الأدعية في صلاة الصباح بالآرامية بدلاً من العبرية. وحينما يسمع الملائكة الأدعية بالآرامية، فإنهم يحتارون في أمرها. وأثناء حيرة حارس بوابة السماء، تدخل الأدعية الأخرى دون أن يدري.
وقد اتُهم اليهود بأنهم من عبدة الملائكة من فرط اعتمادهم عليها وتَضرُّعهم لها. ولا يزال كتاب الصلوات الأرثوذكسي يتضمن تضرعات موجهة إلى الملائكة، مثل تلك الموجهة إلى ملاك الرحمة (ملآخ هارحيم). أما أنشودة "شالوم عليخم مل آخي هاشاريت"، أي "السلام عليكم يا ملائكة العون"، فهي تُنشَد في المعبد أو في المنزل بعد صلاة المساء. وتتضمن الصلاة الإضافية (موساف) التي تُتلى في السبت والأعياد في المعابد الأرثوذكسية تضرعاً إلى الملائكة، وكذا الأدعية التي تُتلى أثناء نفخ الشوفار في احتفال رأس السنة. هذا على الرغم من أن موسى بن ميمون أدان أية صلاة لغير الإله.
وقد استبعدت كتب اليهودية الإصلاحية أية إشارة إلى الملائكة تقريباً، كما استبعدت اليهودية المحافظة معظمها، وخصوصاً تلك الصلوات ذات الأصل القبَّالي. وقد احتفظ الأرثوذكس بطقوس الصلوات القديمة، دون أن يضفوا أهمية غير عادية على الكلمات والفقرات الصوفية كما كان الحال في الماضي.
وقد أُثيرت مؤخراً (في إسرائيل) قضية خاصة بالملائكة، إذ صنع المثَّال الإسرائيلي إدوارد لفين ثلاثة تماثيل للملائكة لتزيين دار البلدية في القدس، ولكنه نظراً لأنه نشأ في روسيا جعل الملائكة تشبه تلك التي تظهر في الأيقونات البيزنطية، وقد طُلب إليه تهويدها فأضاف إليها نجمة داود!
الكروب (الملائكة)
Cherub; Kerub
«كروب» كلمة عبرية تعني «ملاك» وجمعها «كروبيم». وهي مشتقة من الكلمة الأكادية «كاريبو» بمعنى «شفيع». وكانت «الكاريبو» في بلاد الرافدين، خصوصاً في آشور، عبارة عن ثيران أو أسود مجنحة لها رؤوس بشر. وكانت هذه التماثيل توضع على مداخل المعابد والقصور. والكروب آلهة ثانوية تتدخل لدى كبير الآلهة لصالح الإنسان. وقد عُثر على تماثيل للكروبيم في سوريا أيضاً، وكان بعضها على هيئة بشر ذوي جناحين. وتعود فكرة الملائكة (كروبيم) في اليهودية إلى أصول آشورية وسورية وكنعانية وربما مصرية أيضاً. وقد استُخدمت الكروبيم لإضفاء طابع جمالي على الهيكل. ولم تكن الملائكة آلهة ثانوية في اليهودية، وإنما كائنات خلقها الإله، وهي تحمل عرشه وتحرس بوابات جنة عدن وشجرة الحياة والهيكل، وتظهر على هيئات مختلفة، فقد تم تخُّيلها على أنها ذات وجهين؛ وجه بشر ووجه حيوان. وفي رواية أخرى صُوِّرت على هيئة حيوانات ذات أربعة أوجه؛ إنسان وأسد وثور ونسر.
ووجود تماثيل الملائكة في الهيكل يدل على أن اليهودية لم تكن معادية تماماً للتصوير. فقد كان هناك أيضاً العجول الذهبية (في دان وبيت إيل) التي شُيِّدت كرموز ليهوه. وقد وُجدت تماثيل للملائكة (كروبيم) في الهيكل، كما وُجدت صور لها على الحوائط والستائر. وداخل قدس الأقداس، فوق تابوت العهد، كان يوضع تمثالان من الذهب طول كل منهما خمسة عشر قدماً، وأجنحتها بالطول نفسه. وقد تلامس جناحان من أجنحتها في حين يلامس الجناحان الآخران حائط قدس الأقداس. وتغيَّرت صورتهما، في مرحلة لاحقة بعد العودة من بابل، وأصبحا على هيئة رجل وأنثى مجنحين في عناق ذي طابع جنسي، رمز الحب بين الإله وجماعة يسرائيل (وقد ذكر راشي أن الملاكين كانا متصلين أحدهما بالآخر، وملتصقين ومتعانقين، كما يعانق الذكر الأنثى). وكان الإله يكلِّم موسـى من فـوق غطاء تابوت العهـد ومن بين الملاكين الذين يظللان التابوت. وقد حاول فيلون أن يفسر دلالة الملاكين بأنهما رمز للخير والسيادة، ولكن راب فتينا (وهو فقيه من بابل في القرنين الثالث والرابع) بيَّن أنهما يمثلان رموزاً جنسية مقدَّسة، وأنهما كانا يُعرضان أثناء الحج على جماهير اليهود، فيزاح ستار قدس الأقداس، ويُقال: "انظروا إن حبكم للإله هو مثل حب الذكر للأنثى".
ميتاتـرون
Metatron
«ميتاترون» هو اسم أعلى الملائكة بحسب ما جاء في الأجاداه والتراث القبَّالي، ويبدو أن الاسم من اللاتينية «ميتاتور» وتعني «من يخطط الحدود»، أو من اليونانية «ميتاثرونون» وتعني «أقرب إلى العرش الإلهي». ولعل هذا الاسم يعود إلى اسم الإله الفارسي «ميثرا». ويُقال إن «ميتاترون» تعني «الملاك حامل الاسم الرباعي». وأحياناً يُطلَق عليه «أمير الحضور» وكأنه شخيناه مُذكَّرة، ويُقرَن بالملاك ميخائيل. ويقوم ميتاترون بتسجيل حسنات الناس وسيئاتهم، وأحياناً يصبح الوسيط بين الإله والعالم والذي خلق العالم من خلاله، وهو إحدى حلقات الفيض الإلهي. وتعادل القيمة الرقمية لاسمه القيمة الرقمية لاسم أحد أسماء الإله (شدَّاي)، وأحياناً كان يُقرن بالإله والإنسان في آن واحد، أي أن الحلقة الحلولية تكتمل من خلاله. ويُتداوَل اسم «ميتاترون» بين الدروز في لبنان، ومن الواضح أن أصل ميتاترون غنوصي.
الجن والشياطين
Demons
توجد في العهد القديم إشارات عديدة إلى كائنات خرافية قد تكون خيرة أو شريرة حسب الوظيفة التي تقوم بها. ومن هذه الكائنات الشياطين، وأهمها عزازيل وليل (ليليت).
ليل (ليليت)
Lilith
«ليل أو (ليليت)» شيطانة في التراث الديني اليهودي الشعبي. ويبدو أن كلمة «ليل» صيغة مُعَبْرَنة للشيطانة البابلية ليليتو، ومن خلال ربط اسمها بالكلمة العبرية «ليلاه»، أي «ليل»، فُسِّرت ليل بأنها شيطانة الليل والظلام التي تأتي بالأحلام الجنسية للرجال وتسبب القذف أثناء النوم، وتقتل الأطفال المولودين وأمهاتهم، وخصوصاً في الأيام السبعة الأولى بعد الميلاد، وتظهر صورتها في آثار سومر على هيئة أنثى عارية مجنحة تقف على ظهر أسد، ولها مخالب طائر. وحسبما جاء في التلمود، كانت ليل عشيقة آدم في الفترة التي افترق فيها عن حواء بعد طردهما من الجنة وولَدت له عدة شيـاطين. وفي روايـة أخـرى، كانت ليـل هـذه زوجتـه الأولـى قبل حـواء، خُلقَت مثله من طين لا من ضلعه، ولكنهما تشاجرا لأنها لم توافق على أن يطأها الرجل في عملية الجماع، وذلك لأنها ترى أن في هذا إذلالاً لها وهيمنة للرجل عليها، فنطقت باسم يهوه وهربت وأقسمت أن تنتقم منه. ولذا، فهي تقتل أولاد حواء. ولكن يمكن أن يُوقَف مفعول لعنتها عن طريق استخدام الحجاب المناسب.
والواقع أن شخصية ليل (أو ليليت) مثال جيد للسمة الجيولوجية في النسق الديني اليهودي، فهي قد ذُكرَت في العهد القديم بشكل عابر (أشعياء 34/14) باعتبارها إحدى الأرواح أو أحد الوحوش المفترسة التي ستدمر الأرض في آخر الأيام. ثم نُسجَت حولها الأساطير بحيث أصبح داخـل اليهـودية قصتان متناقضتان للخلق يتعايشان جنباً إلى جنب. وقد أصبحت ليليت إحدى بطلات حركة التمركز حول الأنثى في أمريكا والعالم الغربي وعلماً على الأنثى المتمردة.
عزازئيل
Azazel
«عزازئيل» اسم عبري معناه «الرب يقوي»، و«قوة الرب»، وكذلك «القوة المناوئــة للــرب» كما يُقال إن الاسم يعود إلى اسم الإله السـوري الكنعـاني «عــزيز». وعزازئيل روح شريرة أو شيطـان ورد اسمه في العهد القديم (لاويين 16/8 ـ 10 ـ 26). وهو أحـد قواد الملائكـة الذين سقـطوا من السـماء. ويعيش عزازئيل حسب الرؤية اليهودية القديمة في البرية بالقرب من أورشليم. وكان كبير الكهنة يُقدِّم في يوم الغفران كبشين: أحدهما قرباناً ليهوه، والآخر قرباناً لعزازئيل. وكان الكبش الثاني لا يُذبَح، وإنما يُطلَق سراحه في البرية، حاملاً ذنوب جماعة يسرائيل، ولكنه مع هذا كان يُذبَح فيها أو يُدفَع به من عل حتى لا يعود حاملاً هذه الذنوب.
ومن الواضح أن عزازئيل هذا هو استمرار لطقوس وثنية وأفكار غنوصية، فهو رمز الشر، بل هو خالق كل الشرور في العالم، وهو نقيض يهوه خالق الخير. ويبدو أن هذا الطقس يفترض أن يهوه وعزازئيل عنصران متكاملان يشبهان في هذا علاقة إله الخير بإله الشر في عبادات الفرس الثنوية. وقد توارى وجوده بعض الشيء أثناء الفترة التلمودية، ولكنه عاد إلى الظهور مرة أخرى مع انتشار القبَّالاه.
وقد صار عزازئيل في القبَّالاه قوة مستقلة تصارع ضد الإله، ولذلك يقرأ القبَّاليون أدعية لإرضاء الإله وأخرى لإرضاء الشيطان. بل ويؤمن القبَّاليون بأن بعض القرابين في الهيكل كانت تُقدَّم إلى الشيطان، وهم ليسوا مجانبين الصواب تماماً في ذلك. ويُقال إن كل القرابين في الأيام السبعة الأولى من عيد المظال كانت تُقدَّم إلى عزازئيل باعتباره حاكم الأغيار، حتى يظل مشغولاً عن اليهود، وحتى يمكن تقديم القرابين إلى الإله في اليوم الثامن.
الباب العشرون: الماشيح والمشيحانية
الماشـــيَّح والمشــــيحانية
Messiah and Messianism
«ماشيَّح» كلمة عبرية تعني «المسيح المخلِّص»، ومنها «مشيحيوت» أي «المشيحانية» وهي الاعتقاد بمجيء الماشيَّح، والكلمة مشتقة من الكلمة العبرية «مشح» أي «مسح» بالزيت المقدَّس. وكان اليهود، على عادة الشعوب القديمة، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما، علامة على المكانة الخاصة الجديدة وعلامة على أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما. وكما يحدث دائماً مع الدوال في الإطار اليهودي الحلولي، نجد أن المجال الدلالي لكلمة «ماشيَّح» يتسع تدريجياً إلى أن يضم عدداً كبيراً من المدلولات تتعايش كلها جنباً إلى جنب داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي. فكلمة «الماشيَّح» تشير إلى كل ملوك اليهود وأنبيائهم، بل كانت تشير أيضاً إلى قورش ملك الفرس، أو إلى أي فرد يقوم بتنفيذ مهمة خاصة يوكلها الإله إليه. كما أن هناك في المزامير إشارات متعددة إلى الشعب اليهودي على أنه شعب من المشحاء.
وهناك أيضاً المعنى المحدد الذي اكتسبته الكلمة في نهاية الأمر إذ أصبحت تشير إلى شخص مُرسَل من الإله يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي وكائن معجز خلقه الإله قبل الدهور يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله. وهو يُسمَّى «ابن الإنسان» لأنه سيظهر في صورة الإنسان وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان، فهو تَجسُّد الإله في التاريخ، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد. وهو ملك من نسل داود، سيأتي بعد ظهور النبي إليا ليعدل مسار التاريخ اليهودي، بل البشري، فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء جماعة يسرائيل، ويتخذ أورشليم (القدس) عاصمة له، ويعيد بناء الهيكل، ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوية ويعيد كل مؤسسات اليهود القديمة مثل السنهدرين، ثم يبدأ الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام، ومن هنا كانت تسمية «الأحلام الألفية» و«العقيدة الاسترجاعية».
ولأن إله اليهود لا يَحلّ في التاريخ فحسب، وإنما يحل في الطبيعة أيضاً، فإننا نجد أن العصر الذهبي (أو العصر المشيحاني) يشمل التاريخ والطبيعة معاً. فعلى مستوى التاريخ، نجد أن السلام ـ حسب إحدى الروايات ـ سيعم العالم، وأن الفقر سيزول، وستُحول الشعوب أدوات خرابها إلى أدوات بناء، ويصبح الناس كلهم أحباء متمسكين بالفضيلة، ولكن صهيون ستكون بطبيعة الحال مركز هذه العدالة الشاملة، كما ستقوم كل الأمم على خدمة الماشيَّح. وفي رواية أخرى؛ ستسود صهيون الجميع وستحطم أعداءها. أما على مستوى الطبيعة، فإننا نجد أن الأرض ستُخصب وتطرح فطيراً، وملابس من الصوف، وقمحاً حجم الحبة منه كحجم الثور الكبير، ويصير الخمر موفوراً.
والفكر المشيحاني فكر حلولي متطرف يعبِّر عن فشل الإنسان في تَقبُّل الحدود، وعن ضيقه بالفكر التوحيدي الخاص بفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمادة والتاريخ، وعن ضيقه بفكرة حدود الإرادة الإنسانية والعقل البشري، وبالتاريخ باعتباره المجال الذي تركه الإله للإنسان ليمارس حريته (فكأنه ضيق طفولي بالوضع الإنساني). يضيق الإنسان بكل هذا ويتخيل تساقط الحدود ليحل الإله في التاريخ والطبيعة والإنسان وينهي كل المشاكل دفعة واحدة إما بتَدخُّله الفجائي والمباشر في التاريخ أو بإرساله المخلِّص (كريستوس) في المنظومة الغنوصية لينجز المهمة (وتظهر هذه الفجائية في أسفار الرؤى على عكس كتب الأنبياء الذين يرون التاريخ مجالاً للفعـل الإنسـاني الحر والرقي التدريجي).
وقد أضعفت عقيدة الماشيَّح انتماء أعضاء الجماعات (وخصوصاً في الغرب) لمجتمعاتهم، وزادت انفصالهم عن الأغيار، ذلك أن انتظار الماشيَّح يلغي الإحساس بالانتماء الاجتماعي والتاريخي، ويلغي فكرة السعادة الفردية. أما الرغبة في العودة، فتلغي إحساس اليهودي بالمكان وبالانتماء الجغرافي. ويبدو أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية واشتغالهم بالتجارة الدولية في الغرب، كعنصر تجاري غريب لا ينتمي إلى المجتمع، هو الذي عمَّق أحاسيسهم المشيحانية، فالتاجر لا وطن له، ولا تحد وجدانه أو تصوراته أية قيود أو حدود، على عكس الفلاح الذي لا يجيد التعامل إلا مع قطعة معينة من الأرض. ومما له دلالته أن الحركات المشيحانية ارتبطت دائماً بالتصوف الحلولي وتراث القبَّالاه الذي ينطلق من رؤية كونية تلغي الفوارق والحدود التاريخية بين الأشياء.
وأصل عقيدة الماشيَّح المخلِّص فارسية بابلية، فالديانة الفارسية ديانة حلولية ثنوية تدور حول صراع الخير والشر (إله النور وإله الظلام) صراعاً طويلاً ينتهي بانتصار الخير والنور. وقد بدأت هذه العقيدة تظهر أثناء التهجير البابلي، ولكنها تدعمت حينما رفض الفرس إعادة الأسرة الحاكمة اليهودية إلى يهودا. وقد ضربت هذه العقيدة جذوراً راسخة في الوجدان اليهودي، حتى أنه حينما اعتلى الحشمونيون العرش، كان ذلك مشروطاً بتعهدهم بالتنازل عنه فور وصول الماشيَّح.
وقد أخذت عقيدة الماشيَّح في البداية صورة دنيوية تعبِّر عن درجة خافتة للغاية من الحلول الإلهي ولكنها أصبحت بعد ذلك تعبيراً عن حلول إلهي كامل في المادة والتاريخ. وحسب هذه الصورة، فإن الماشيَّح محارب عظيم (أو هو الرجل الممتطي صهوة جواده) الذي سيعيد مُلْك اليهود ويهزم أعداءهم (أشعياء 9/9 ـ 7). وتزايدت درجة الحلول، ومن ثم ازدادت القداسة، فيظهر الماشيَّح بن داود على أنه ابن الإنسان أو ابن الإله (دانيال 7/13). ولما لم تتحقق الآمال المشيحانية، ظهرت صورة أخرى مكملة للأولى، وهي صورة الماشيَّح ابن يوسف الذي سيعاني كثيراً، وسيخر صريعاً في المعركة، وستحل الظلمة والعذاب في الأرض (وهذه هي الفكرة التي أثرت في فكرة المسيح عند المسيحيين). ولكن، سيصل بعد ذلك الماشيَّح العجائبي الخارق من نسل داود، والذي سيأتي بالخلاص. ويفسر الحاخامات تأخُّر وصول الماشيَّح بأنه ناتج عن الذنوب التي يرتكبها الشعب اليهودي، ولذا فإن عودته مرهونة بتوبتهم.
وصورة المسيح في الفكر الديني المسيحي متأثرة بكل هذه التراكمات؛ فهو أيضاً مُرسَل من الإله، وهو ابن الإنسان وابن الإله، وهو يتعذب كثيراً بل يُصلَب ثم يقوم وسيُحرز أتباعه النصر. ولعل الفارق الأساسي بين الرؤية المشيحانية في اليهودية والرؤية المشيحانية في المسيحية هو أن المسيحية جعلت الحلول الإلهي في شخص بعينه (عيسى ابن مريم) وهو حلول مؤقت ونهائي وغير قابل للتكرار، على عكس الفكرة المشيحانية في اليهودية. كما أن الخلاص في الفكر المسيحي غير مرتبط بمصير أمة بعينها وإنما هو ذو أبعاد عالمية، فباب الهداية مفتوح للجميع.
والنزعة المشيحانية يمكن أن تأخذ أشكالاً مختلفة، فهي باعتبارها تعبيراً عن الحلولية اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحُّده معهم) تكتسـب بُعـداً مادياً قـومياً شـوفينياً متطرفاً (إذ كانت حلولية ثنائية صلبة)، حيث إن وصـول الماشيَّح يعـني عودة الشعب المختار إلى صهيون، أو وصوله إلى أورشليم التي سيحكم منها الماشيَّح، قائد الشعب اليهودي، بل قائد شعوب الأرض قاطبة، فهنا هو خلاص لليهود وحدهم وسينتقم اليهود من أعدائهم شر انتقام، ويشغلون مكانتهم التي يستحقونها كشعب مقدَّس. ولكن ثمة صورة أخرى عالمية وغير قومية للعصر المشيحاني (تعبير عن الحلولية الكونية الشاملة السائلة)، فهو حسب هذه الرؤية عصر يسود فيه السلام والوئام بين الأمم. وإذا كان الشعب اليهودي ذا مكانة خاصة، فإن هذا لا يستبعد الشعوب الأخرى من عملية الخلاص. وإذا كانت الرؤية الأولى تؤكد الفوارق الصلبة الصارمة بين اليهود والأغيار، فالرؤية الثانية تُـلْغي الفوارق تماماً بحيث تنتـج عن ذلك حالـة سـيولة كونية محيطية (تشبه حالة الطفل في الرحم قبل الولادة)، ينتج عنها إسقاط الحدود تماماً وذوبان اليهود في بقية الشعوب.
ويمكن أن تأخذ المشيحانية طابعاً ترخيصياً مارانياً (نسبة إلى يهود المارانو المتخفين) كما هي الحالة مع الشبتانية (نسبة إلى شبتاي تسفي)، وكذلك الدونمه والفرانكية، فالماشيَّح وأتباعه كانوا يخرقون الشريعة ويسقطونها ويتمتعون بالحرية الناجمة عن ذلك ويمارسون الإحساس بما تبقَّى من هوية يهودية في الخفاء، ومن خلال أشكال أبعد ما تكون عن اليهودية. ولعل هذا يعود إلى أن اللحظة المشيحانية هي لحظة حلول الإله تماماً في الإنسان (الماشيَّح)، فهي لحظة وحدة وجود ومن ثم لحظة شحوب كامل أو حتى موت للإله إذ يتحول إلى مادة بشرية. وإذا حـدث ذلك، فإن شـرائعه التي أرسـل بها باعتباره الإله تموت وتسقط. وقد ارتبطت المشيحانية بالتعبير الفجائي وبمظاهر العنف الذي قد يأخذ شكل البعث العسكري أحياناً، كما هو الحال مع كلٍّ من أبى عيسى الأصفهاني، وداود الرائي، وديفيد رءوبيني، ويعقوب فرانك (والصهيونية في نهاية الأمر).
وثمة محاولة داخل اليهودية الحاخامية لتهدئة التطلعات المشيحانية المتفجرة، فركزت على الجانب الإلهي لعودة الماشيَّح، وعلى الماشيَّح من حيث هو أداة الإله في الخلاص. وبناءً على ذلك، أصبح من الواجب على اليهود انتظار عودة الماشيَّح في صبر وأناة. ويصبح من الكفر أن يحاول فرد أو جماعة التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس). وقد نجحت المؤسسة الحاخامية في ذلك إلى حد كبير، إلى أن انتشر يهود المارانو في أوربا، وبعض أجزاء الدولة العثمانية (وخصوصاً البلقان). وقد كانت النزعة المشيحانية بينهم عميقة متجذرة، وانتشرت القبَّالاه اللوريانية بين أعضاء الجماعات بما تتضمنه من رؤى مشيحانية، وأصبح اليهودي مركز الكون. وأصبحت صلاته، وقيامه بأداء الأوامر والنواهي (متسـفوت) بمنزلة مسـاهمة نشيطة فعالة من جانبه للتعجيل بمجيء الماشيَّح. وقد خلق هذا تربة خصبة لشبتاي تسفي والشبتانية. ومن المعروف أن المؤسسة الحاخامية بذلت قصارى جهدها عبر تاريخها للوقوف ضد كل هذه النزعات، ولكن أزمة اليهود واليهودية كانت قد وصلت إلى منتهاها.
وقد ظهر بين أعضاء الجماعة اليهودية عدد من المشحاء الدجالين، نذكر من بينهم كلاًّ من: بركوخبا، وأبى عيسى الأصفهاني، ويودغان، وداود الرائي. أما في العـصر الحديـث في الغرب، فيمـكن أن نذكـر منهم: ديفيد رءوبيني وشبتاي تسفي وجوزيف فرانك.
ويُلاحَظ أن النزعة المشيحانية في العصر الحديث، رغم جذورها السفاردية، قد انتشرت في شرق أوربا وفي الأجزاء الأوربية من الدولة العثمانية. وبعد البدايات السفاردية، أصبحت المشيحانية مقصورة على الأقليات الإشكنازية. فالفرانكية، والحسيدية، وأخيراً الصهيونية، هي حركات إشكنازية بالدرجة الأولي. ولعل هذا يعود إلى وجود الإشكناز في تربة مسيحية، فالمسيحية تُركِّز الحلول الإلهي في شخص واحد هو المسيح عيسى بن مريم، وهو ما تقوم به أيضاً الحركات المشيحانية إذ أنها تنقل الحلول الإلهي من الشعب اليهودي إلى شخص الماشيَّح الذي سيأتي بالخلاص.
ومع ذلك، فيمكن القول بأن الرؤى المشيحانية إمكانية كامنة في جميع الحضارات ولا تفجرها سوى حركة التاريخ نفسه، وأن الانفجارات المشيحانية اليهودية المتكررة في العصر الحديث تعبير عن أزمة اليهود واليهودية. فالمجتمع الأوربي كان يتحرك بسرعة منذ عصر النهضة، حين بدأت البورجوازية بقيمها الدينامية في الظهور، في حين أن أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو كانوا غير قادرين على مواكبة التطور لأن المجتمع لم يساعدهم على ذلك، ولأن تقاليدهم الدينية الفكرية المعقدة جعلت التكيف أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. وكلما كانت هامشية أعضاء الجماعات تتزايد، كان الاضطهاد الواقع عليهم يتزايد، وبازدياد الاضطهاد كانت التوقعات تزداد أيضاً وكذلك الانفجارات المشيحانية. ففي أوقات الضيق والبؤس، كانت الجماهير اليهودية التي تتحرك داخل إطار حلولي ساذج وبسيط تتذكر دائماً الرسول الذي سيبعثه إله الطبيعة والتاريخ، والذي سيأتي بكل المعجزات اللازمة لإصلاح أحوالهم. كما أن الماشيَّح الملك يشبع رغبة أعضاء الجماعات في تَملُّك زمام السلطة السياسية التي حُرموا منها. ويمكن القول بأن المشيحانية هي الثورة الشعبية اليهودية، ولذا كانت تجتذب الفقرّاء والعناصر التي تم استبعادها من النخبة. ولكنها، مع هذا، كانت ثورة حمقاء عاجزة عن إدراك الأسباب الحقيقية للأزمة، وبالتالي فهي عاجزة عن الإتيان بحلول. وهي بذلك تشبه نزعة معاداة اليهود بين أعضاء الطبقات الشعبية المسيحية، فهي الأخرى شكل من أشكال الثورة الشـعبية العـاجزة عن إدراك سبب إفقار الجماهير وآليات الاستغلال. ولذا، فبدلاً من أن تصل إلى لب المشكلة وتهاجم المستغل الحقيقي، كانت الجماهير الشعبية تنحرف عن هدفها وتهاجم الجماعات اليهودية لأنها كانت الأداة الواضحة المباشرة للاستغلال.
ومن المهم التأكيد على أن للحركات المشيحانية سياقين: أحدهما محلي، والآخر دولي. كما يهمنا أن نؤكد على أن تلاقي السياقين هو عادةً ما كان يؤدي إلى الانفجار. أما العنصر المحلي فيتمثل كما أشرنا في تزايد بؤس اليهود، وأما العنصر الدولي فيتمثل في وجود لحظة مفصلية يتصور الماشيَّح المزعوم أنها الفرصة المواتية له (انتهاء العصر الأموي بالنسبة لأبي عيسى الأصفهاني، والتطلعات البابوية لتجديد حروب الفرنجة بالنسبة لداود الرائي، وبدايات الاستعمار الغربي وأول هزيمة للعثمانيين بالنسبة إلى شبتاي تسفي).
وتتميَّز المشيحانية بأنها صيغة هلامية لا يمكن أن تُهزَم. فإذا ظهر ماشيَّح، فإن ظهوره علامة على صدق الرؤية المشيحانية، وإذا لم يظهر فإن الواجب هو الانتظار. أما إذا ظهر الماشيَّح وانتصر في المراحل الأولى، فهذا علامة على صدقه. وإذا انهزم فهزيمته نفسها تعد علامة صدقه، فهو يتعذب من أجل شعبه. وإذا أخذت الهزيمة شكل ارتداد عن اليهودية، فإن هذا (حسب التصورات المشيحانية) من باب التمويه والتقية. كما أنه، باعتباره الماشيَّح، عليه أن ينزل إلى عالم الشر ذاته لمواجهته (ومن هنا ارتداده عن اليهودية). كما أنه إذا قُتل أو مات، فإن أتباعه عادةً ما يؤمنون بأنه لم يمت أو يُقتَل وإنما اختفى وسيعود. وتكون جماعة التابعين المنتظرين، شيعة أو فريقاً دينياً مستقلاً عن المؤسسة الحاخامية، تدور عقائدها حول أفكار الماشيَّح، وتدور ممارساتها حول انتظاره. وهذا هو، في الواقع، النمط الكامن في معظم الحركات المشيحانية (اليهودية وغير اليهودية) التي عادةً ما تنتهي بالإخفاق، فيدفع المؤمنون بها الثمن غالياً.
ويُلاحَظ زيادة حدة النزعة المشيحانية في العصر الحديث في الغرب، ابتداءً من القرن السابع عشر، وهو بداية المشروع الاستعماري الغربي وتزايد علمنة الحضارة الغربية، بكل ما يطرحه ذلك من إمكانات أمام الإنسان الغربي لحل مشاكله عن طريق تصديرها وعن طريق غزو العالم. كما شهدت هذه الفترة تصاعد التفكير الصهيوني (الألفي) في الأوساط البروتستانتية التجارية. وقد ظلت هذه النزعة المشيحانية كامنةً بعد فشل محاولات شبتاي تسفي وجيكوب فرانك، إلى أن ظهرت الصهيونية. ويمكن القول بأن الحركة الحسيدية هي أيضاً حركة مشيحانية دون ماشيَّح أو حركة مشيحانية مبعثرة بحيث تشتت الحلول الإلهي في عدد كبير من الأولياء الذين يُسمَّون «تساديك» وكان كل واحد منهم يجسد قدراً من الحلول الإلهي ويلتف حوله عدد كبير من التابعين.
ولا يعرف اليهود القرّاءون عقيدة الماشيَّح، وربما يرجع ذلك إلى تأثير الإسلام، وقد حذروا أتباعهم من أولئك الذين يتنبأون بظهور الماشيَّح. أما موسى بن ميمون فإنه، برغم إيمانه بأن السلام سيعم المجتمع بمقدم الماشيَّح، أكد أن الطبيعة لن تغيِّر قوانينها، كما شكَّك في مدعي المشيحانية في أيامه وحذَّر منهم. وفي العصر الحديث، يؤمن اليهودالأرثوذكس بالعودة الشخصية للماشيَّح، على عكس اليهودية الإصلاحية التي ترفـض هـذه الفكرة وتُحلّ محلهـا فكرة العصر المشيحاني، أي مشيحانية بدون ماشيَّح، وهذا تعبير عن الحلولية بدون إله.
والصهيونية، بمعنى من المعاني، عقيدة مشيحانية. ويمكن القول بأن السياق المحلي للحركة المشيحانية الصهيونية هو تزايد بؤس يهود شرق أوربا، وخصوصاً بعد تَعثُّر التحديث. أما سياقها الدولي، فهو ضعف الدولة العثمانية، وتزايد حدة الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق. والكتابات الصهيونية تزخر بإشارات إلى العودة، والعصر المشيحاني الذهبي، والماشيَّح. وفي يوميات هرتزل، نجد أن جزءاً من أوهامه عن نفسه يأخذ طابعاً مشيحانياً. وإذا كان بعض الصهاينة لا يؤمنون بعودة الماشيَّح شخصياً، فإنهم جميعاً يؤمنون بفكرة العصر المشيحاني أو «سبت التاريخ» على حد قول هس، أو «نهاية التاريخ»، وهي فكرة لا تختلف كثيراً عن التصورات الدينية التقليدية، إلا في استبعاد شخصية الماشيَّح نفسه، أي أنها مشيحانية بدون ماشيَّح (نابعة من حلولية بدون إله). وباستبعاد شخصية الماشيَّح أصبح من الممكن أن يتحالف المؤمنون والملحدون، وأصبح من الممكن أن تظهر مشيحانية لا دينية، أي محاولة استرجاع العصر المشيحاني الذهبي في فلسطين عن طريق التكنولوجيا والعنف والوسائل اللادينية كافة، دونما انتظار مقدم أي مبعوث إلهي، ولكن المشيحانية الملحدة لا تختلف كثيراً عن التصور اليهودي للقضية في صورته الدنيوية الأولى التي وصفناها آنفاً. وتحافظ الصهيونية على المشاعر والتوقعات المشيحانية بين أعضاء الجماعات بتصعيد إحساسهم بالاضطهاد وبعدم الانتماء لبلادهم، حتى يفـقدوا صلتهم بالـزمان والمكان ويتجهوا إلى إسرائيل. ومن يدرس التجارب التاريخية لأعضاء الجماعات يعرف أنه لم يحدث قط أن تمكنت أية حركة مشيحانية من السيطرة على يهود العالم جميعاً، وذلك بسبب عدم ترابطهم. ولذلك، فإن إخـفاق أية حركة مشيحانية، وتحوُّل أتباعها عن اليهودية في أية منطـقة، لم تكن تَنتُج عنه هزة شـاملة لليهـودية في كل البلاد الأخرى. أما في العصر الحديث، فقد حدث لأول مرة أن تمكنت حركة مشيحانية مثل الصهيونية من الوصول إلى يهود العالم تقريباً. وحركة جوش إيمونيم حركة مشيحانية في كثير من جوانبها؛ في توقعاتها وخطابها ورموزها.
ويمكن القول بأن حدة التفكير الثوري والعدمي عند بعض المفكرين اليهود أو مفكرين من أصل يهودي في العصر الحديث (إسبينوزا برؤيته لعالم هندسي مادي مصمت، وماركس برؤيته لعالم شيوعي خال من الجدل، ودريدا برؤيته لعالم يسوده اللامعنى) قد يكون نتيجة التراث المشيحاني. كما يمكن القول بأن ثوريتهم وعدميتهم ورفضهم الكامل للحدود التاريخية والبشرية تعبير عن حالة متطرفة من المشيحانية بدون ماشيَّح، وعن رغبة طفولية في اختزال العالم إلى عنصر أو اثنين والعودة إلى حالة السيولة الكونية (الرحمية) التي تسم الفكر المشيحاني.
أبو عيسـى الأصفهـاني (القرن الثامن الميلادي)
Abu-Issa Al-Asfahani
اسمه الحقيقي إسحق بن يعقوب، وهو من مواليد أصفهان. ويُعتبَر أبو عيسى مؤسس فرقة يهودية في فارس، وهي أولى الفرق بعد هدم الهيكل الثاني. وحسبما ورد عند المؤرخ القرّائي (القرقساني)، كان أبو عيسى خياطاً أمياً عاش في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان (865 ـ 705)، بينما يذهب الشهرستاني إلى أنه عاش في الفترة بين حكم الخليفة الأموي مروان بن محمد (744 ـ 750) والخليفة العباسي المنصور (754 ـ 775)، ويبدو أن هذا التاريخ الأخير أكثر دقة، فقد كانت هذه الفترة فترة انتقال شهدت سقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية، وعادةً ما كانت الحمى المشيحانية تتصاعد بين اليهود (والأقليات بشكل عام) في مثل هذه الفترات.
وفي عام 755، أعلن أبو عيسى أنه الماشيَّح الذي سيحرِّر اليهود من الأغيار، وأن هناك خمسة أنبياء (من بينهم موسى وعيسى عليهما السلام، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه) سبقوا ظهور الماشيَّح، وأنه هو خاتم المرسلين. وقد قيل إنه لم يعلن أنه الماشيَّح نفسه، وإنما المبشر به، أي الماشيَّح ابن يوسف الذي يُمهِّد لظهور الماشيَّح الحقيقي (الماشيَّح ابن داود). وقاد بهذه الصفة، ثورة ضد الحكم العباسي. ويُلاحَظ أن ثورة أبى عيسى الأصفهاني، رغم اعتدالها، كانت أولى الثورات ضد المؤسسة الحاخامية، ومن ثم تُعَدُّ ثورته أولى الثورات المعادية للتلمود. وقد أدخل بعض التعديلات على الشعائر، فجعل الصلوات سبعاً بدلاً من ثلاث، ومنع الطلاق (متأثراً بالمسيحية)، ومنع أكل اللحم، وشرب الخمر، والنواح بسبب هدم الهيكل. لكن أتباع الأصفهاني لم يَجر طردهم من حظيرة الدين اليهودي.
قاد الأصفهاني تمرداً ضد الحكم الإسلامي، وانضم له العديد من يهود فارس، لكن هذا التمرد تم إخماده بعد عدة سنوات وقُتل أبو عيسى. لكن أتباعه، كما هي العادة، أعلنوا أنه لم يقتل وإنما دخل كهفاً واختفى. كما تداولوا بعض القصص عن المعجزات التي أتى بها، من بينها أنه ضرب المسلمين ضربة قوية وأنه انضم لأبناء موسى في الصحراء ليطلق نبوءاته. وقد تأسست من بعده فرقة العيسوية التي ظلت قائمة حتى حوالي عام 930. ويُقال إن يودغان وعنان بن داود (مؤسسي المذهب القرّائي) تأثرا برؤية أبى عيسى وبأفكاره.
يودغــان (القرن الثامن الميلادي)
Yudghan
يُقال إن كلمة «يودغان» صيغة فارسية لكلمة «يهودا». ويودغان هو مؤسس «اليودغانية» وهي فرقة يهودية، وقد عاش في أصفهان (وربما في حمدان)، في النصف الأول من القرن الثامن. وجاء في القرقشاني أن يودغان ظهر بعد أبى عيسى الأصفهاني (ويُقال إنه تلميذه)، وكان أتباعه يسمونه «الراعي». وقد ادعى يودغان النبوة، كما ادعى أنه الماشيَّح. وهو يشبه أبا عيسى في كثير من عقائده، فقد قدَّم تفسيراً باطنياً للعهد القديم، وخصوصاً النصوص التي تخلع على الإله صفة إنسانية، ونادى بأن الإنسان مخيَّر لا مسيَّر، وقد اعترف يودغان برسالة كلٍّ من عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وسلم)، وحرَّم أكل اللحم وفرض شعيرة الصيام. وكان يودغان يذهب إلى أن شعائر السبت والأعياد ليست ملزمة لليهود، فهي مجرد تذكرة لهم بالماضي. ويُقال إن عنان بن داود مؤسس المذهب القرّائي تأثر بأفكار يودغان.
داود الرائــي (القرن الثاني عشر)
David Alroy
هو داود بن سليمان، ويُدعى أيضاً داود الرائي (أو الروحي). سمَّى هو نفسه مناحِّم، أي «المواسِّي»، وهو أحد الألقاب التي كانت تُطلَق على الماشيَّح. وقد قيل إن كلمة «الروحي» أو «الرائي» تصحيف لكلمة «الدوحي»، وهو اسم اسرته بالعربية. وهو من مواليد مدينة آمد في إقليم كردستان سنه 1135، درس التوراة والمدراش والمشناه، كما أتقن علوم العرب التي كانت مزدهرة آنذاك وتعلَّم فنون السحر والتصوف اليهودية. وفي شمال شرق القوقاز، بدأت دعوته المشيحانية بين يهود الجبال، وذلك بعد هجوم قبائل الكبشاك (من شعوب الإستبس المقيمين حول البحر الأسود) وهو الهجوم الذي ألحق البؤس الشديد بأعضاء الجماعة اليهودية. ويبدو أن هجمات الفرنجة على فلسطين، والفوضى في العالم العربي، طرحت إمكانات العودة وتحرير القدس في مخيلة أعضاء الجماعة.
بدأت الحركة على يد سليمان (أبي داود) الذي أعلن أنه إليا المبشَّر به. وقد أخذ داود الرائي في نشر دعوته بين يهود بغداد والموصل والمناطق المحيطة، وتَجمَّعت حوله أعداد كبيرة من يهود أذربيجان. وبعد أن انكسرت قواته، حاول نقل مركز حركته إلى آمد (في جبال كردستان) على الطريق الإستراتيجي الموصل بين مملكة الخزر اليهودية التركية (ولعل شيئاً من ذكراها كان لا يزال عالقاً بذهنه أو وجدانه) والممالك الصليبية. وقد انتشرت حوله الشائعات، فأُشيع أنه أودع السجن ولكنه فرَّ منه بسحره. وقد دعا الرائي يهود أذربيجان وفارس والموصل إلى أن يأتوا إلى آمد مخبئين أسلحتهم، ليشهدوا كيف سيستولي على المدينة. ويبدو أن بعض المحتالين زيفوا خطاباً باسمه، وعد فيه يهود بغداد بأنه سينقلهم إلى القدس ليلاً على أجنحة الملائكة، وصدق كثيرون ما جاء في الخطاب. فانتظروا وصول الماشيَّح طوال الليلة الموعودة، وفي الصباح أصبحوا أضحوكة الجميع.
ومما يجدر ذكره، أن المؤسسة الحاخامية، كعادتها، وقفت ضد هذه الدعوى المشيحانية وحاولت رد داود الرائي عن عزمه دون جدوى. وفي نهـاية الأمر، قتلـه والد زوجته بعد أن تقاضى مكافأة من حاكم المدينة. وبعد مقتله، تحوَّل إلى أسطورة حافلة بالخوارق والمعجزات الخرافية. وقد بقى المؤمنون من يهود أذربيجان ينتظرون عودته، وكانت فرقتهم تُسمَّى «النحمانيين». وقد كتب دزرائيلي رواية خيالية تدور أحداثها حوله.
ديفيــد رءوبيني (؟ -1535)
David Reuveni
مغامر ذو تطلعات مشيحانية. والمصدر الأساسي لمعرفة هويته الحقيقية مذكراته وبعض خطاباته. كان ديفيد رءوبيني يدَّعي أنه ابن لملك يُدعى سـليمان، وأخ لملك يُدعى يوسـف يحكم قبائل رءوبين وجاد، وكذلك نصف قبائل منَسَّى في خيبر بالقرب من المدينة المنورة، ومن هنا كان اسمه «الرءوبيني». وقد كانت رواياته عن أهله متضاربة، فقد ذكر في مناسبة أخرى أنه من نسل قبيلة يهودا وأنه رسول من ملك يُدعى يوسف. وانتقل من بلد إلى آخر، حتى وصل إلى روما راكباً فرسه الأبيض (إحدى علامات الماشيَّح). وذهب إلى البابا كليمنت السابع عام 1524، وأخبره بأن أخاه لديه ثلاثمائة ألف جندي مدربين على الحرب، ولكنهم لسوء الحظ ينقصهم السلاح، وطلب إلى البابا تزويدهم بما ينقصهم حتى يمكنهم طرد المسلمين من فلسطين. وقد استقبله البابا استقبَّالاً حسناً (فقد كان رءوبيني يخبره أن رؤيته بالنسبة له كانت مثل رؤية الإله). وقد التف يهود روما من حوله، واكتتبوا ببعض الأموال له، حتى يعيش على مستوى يليق بمقام سفير ملك اليهود. وقد نجح رءوبيني في مقابلة ملك البرتغال عام 1525، وفي التأثير فيه، حتى إنه أوقف محاكمات يهود المارانو الذين أحرز رءوبيني شعبية واسعة بينهم، وكان من بينهم ديوجو بيريس الذي أخذه الحماس فتهود وتختن وغيَّر اسمه إلى سولومون ملكو وتبع رءوبيني وكانت له هو الآخر تطلعات مشيحانية. وقد طلب الاثنان (رءوبيني ومولوخو) من إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة تشارلز الخامس تسليح المارانو ليحاربوا ضد المسلمين. ولكن نظراً لانشغال الإمبراطور بأمور عظمى (تهديد البروتستانتية لحكمه من الداخل والعثمانيين من الخارج) لم يكن عنده متسع من الوقت فقبض عليهما وأحرق أحدهما لخروجه على المسيحية وأودع الآخر السجن في إسبانيا حيث مات مسموماً.
ولحياة رءوبيني دلالة عميقة، إذ يبدو أنه كان يرى أن مهمته تمهد للعصر المشيحاني، وربما إلى عودة الماشيَّح، وبالتالي يمكن أن نعده قائد أولى الحركات ذات الطابع المشيحاني، والتي ظهرت تعبيراً عن ضائقة أعضاء الجماعات اليهودية وبداية أزمة اليهودية نفسها في الغرب. كما يمكننا أن نرى في سيرة حياة رءوبيني ملامح من الحل الصهيوني للمسألة اليهودية. فرغم استفادته من التطلعات المشيحانية لدى اليهود، لم يَدَّع أنه نبي أو ماشيَّح، بل حاول أن يقدم برنامجاً سياسياً واقعياً عملياً، وأن يقدم نفسه كقائد عسكري، ويُلاحَظ أيضاً أنه أكد الفائدة العسكرية لليهود. وهذا ما حاولت الصهيونية إنجازه، فقد قدمت نفسها هي الأخرى باعتبارها الحل السياسي العسكري الواقعي للمسألة اليهودية. وقد علمنت الصهيونية التطلعات المشـيحانية، وحولـتها إلى حركة اسـتيطانية. وقد أدرك رءوبيني إمكانية الاستفادة من التطلعات العسكرية لأوربا نحو الشرق، ومن الصراعات الداخلية فيها. فقد كان يعلم أن البابا يود تعزيز سلطته الدنيوية، وأن قيام حملة صليبية (على حد تعبيره) تحت رعايته لابد أن تنجز مثل هذا الهدف. وقد قدَّم هو حملته اليهودية على أنها تفي بهذا الغرض. والصهيونية دائمة الاستفادة من الصراعات داخل العالم الغربي، ومن التطلعات الاستعمارية للغرب. والواقع أن الحل الصهيوني ومخطط رءوبيني متماثلان، فكلاهما مبني على التحالف بين أعضاء الجماعات والغرب لتهجير اليهود وإعادة توطينهم في الشرق، وبذلك تتخلص أوربا منهم، وفي الوقت نفسه تفتح أجزاء من العالم المتخلف للنفوذ الغربي، أي أن حل رءوبيني شبه المشيحاني هو الحل الصهيوني الاستعماري.
ومن الأمور الأخرى التي تثيرها حياة رءوبيني أن الدعوة الاسترجاعية والألفية كانت أمراً منتشراً في أوربا بأسرها ليس بين أعضاء الجماعات اليهودية وحسب، وإنما بين أعضاء النخبة الحاكمة الدينية والسياسية. فنجد أن شخصية أساسية مثل البابا يستقبل رءوبيني وتابعه ويبسط عليهما حمايته (رغم تحريم المسيحية الكاثوليكية للعقيدة الألفية وحربها ضدها). كما نجد أن ملك البرتغال هو الآخـر يسـلك السـلوك نفسـه. ولا شـك في أن انتـشار الأحـلام الاسترجاعية نتيجة متوقعة لظهور الرؤية الإمبريالية الغربية.
سـولومون ملكـو (1500-1532)
Solomon Molcho
اسمه الحقيقي هو ديوجو بيريس. وهو يهودي من المارانو، تلقَّى تعليماً علمانياً وعُيِّن سكرتيراً لملك البرتغال. قابل الماشيَّح الدجال ديفيد رءوبيني في لشبونة عام 1525. وتَملَّكه الحماس فتختن وأعلن يهوديته وسمَّى نفسه ملكو، ربما من الكلمة العبرية «ميليك» أي «ملك»، ومن ثم فإن اسمه يعني «سليمان الملك». فرَّ مع رءوبيني واستقر بعض الوقت في سالونيكا (عاصمة المارانو) حيث درس القبَّالاه، ونشر كتابه الدراشوت «المواعـظ» (1529) وهي مواعـظ مليئة بالادعاءات المشيحانية.
وحينما نُهبت روما عام 1527 على يد تشارلز الخامس رأى علامات على مقدم النهاية والخلاص وعاد إلى إيطاليا عام 1529، وقد جذبت مواعظه عديداً من الناس، ومنهم المسيحيون. ولكن أحد المارانو وشى به، قائلاً إن ملكو كان مسيحياً أبطن اليهودية ثم أظهرها حينما سنحت الفرصة، وهو الأمر الذي كانت محاكم التفتيش لا تسمح به، ولذا اضطر إلى الفرار من روما. وحتى يؤكد أنه الماشيَّح، وكي ينفذ إحدى النبوءات الخاصة بالماشيَّح، ارتدى ملكو ملابس الشحاذين وجلس لمدة ثلاثين يوماً مع المرضى والشحاذين والعجزة على كوبري على نهر التيبر في روما. وقد نجح ملكو في كسب ثقة البابا كلمنت السابع الذي منحه الحماية عام 1530، وخصوصاً أنه كان قد تنبأ بوقوع فيضان في روما وزلزال في البرتغال وتحققت نبوءاته. ثم وشى به أحد الوشاة مرة أخرى لمحاكم التفتيش فحُكم عليه بالحرق، ولكن البابا تَدخَّل شخصياً وحُرق رجل آخر مكانه، وعندئذ ذهب إلى شمال إيطاليا حيث قابل رءوبيني عام 1532 وذهبا معاً إلى تشارلز الخامس (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة) ليقنعاه بتجنيد جيش من يهود المارانو للحرب ضد الدولة العثمانية، ولكنه سلمهما لمحاكم التفتيش التي حكمت بحرقه ونفذت فيه حكم الإعدام.
شــبتاي تســفي (1626 – 1676 )
Shabettai Tzevi
ماشيَّح دجال. وُلد في أزمير لأب إشكنازي يشتغل بالتجارة، وكان إخوته أيضاً من التجار الناجحين. وقد تلقَّى تسفي تعليماً دينياً تقليدياً، فدرس التوراة والتلمود، ولكنه استغرق في دراسة القبَّالاه وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية بنزوعها الغنوصي. وتتزامن الفترة التي وُلد ونشأ فيها تسفي مع بداية تعاظم نفوذ الرأسمالية البريطانية والهولندية (البروتستانتية)، وبدايات مشروعهما الاستعماري العالمي، وبداية حلولهما محل المشروع الاستعماري الإسباني والبرتغالي (الكاثوليكي). كان أبـوه منـدوباً لشركتين تجاريتين: إحداهما بريطانية والأخرى هولندية. وقد شهد عام 1648 حدثين من أخطر الأحداث في تاريخ الجماعات اليهودية في الغرب: أولهما انتهاء حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648)، وهي حرب استفاد منها أعضاء النخبة من يهود البلاط، وعانـت منهـا الجماهير اليهودية أيما معاناة. وبرغم استفادة أثرياء اليهود، فإن نهاية الحرب نفسها كانت بداية تدهور الشبكة التجارية اليهودية العالمية، وتَدنِّي وضع النخبة اليهودية بسبب تصاعد عملية تَركُّز السلطة في يد الدولة القومـية المركزية الذي أدَّى إلى الاسـتغناء عن اليهـود كجـماعة وظيفية. أما الحدث الثاني، فهو انتفاضة فلاحي أوكرانيا والقوزاق تحت قيادة شميلنكي (1648) التي هزت قواعد التجمع اليهودي في بولندا، أكبر تجمُّع يهودي في العالم آنذاك. وكان مجلس البلاد الأربعة أهم مؤسسة يهودية تتمتع بشرعية لم تحققها مؤسسة يهودية أخرى منذ زمن بعيد. وقد كان لهذه الانتفاضة أعمق الأثر في يهود العالم كافة. ومن الطريف أن كتاب الزوهار، حسب بعض التفسيرات، كان قد تنبأ بوصول الماشيَّح عام 1648، وقد أعقب ذلك كله حروب عام 1655 (بين روسيا والسويد) في مناطق تَركُّز اليهود في بولندا، ثم هجمات القوزاق الهايدماك. وتُعرَف هذه الفترة من تاريخ بولندا باسم «الطوفان».
وشهدت هذه الفترة إرهاصات الفكر الصهيوني بين المسيحيين في إنجلترا، وبداية الاهتمام باليهود، واسترجاعهم كشرط أساسي للخلاص. وكانت هناك نبوءة تسري في الأوساط المسيحية (البروتستانتية الصهيونية في إنجلترا وبعض فرق المنشقين المسيحيين في روسيا) بأن عام 1666 هو بداية العصر الألفي الذي سيتحقق فيه استرجاع اليهود لفلسطين. ولا شك في أن مثل هذه النبوءات الاسترجاعية ذات علاقة قوية بالجو الاستعماري والاستيطاني النشيط في تلك المرحلة. وقد تزايد في تلك الفترة أيضاً نشاط محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، وظهر الإصلاح المضاد في إيطاليا بنزعته المعادية لليهود.
وفي هذا الجو من الإحباط والثورات والتردي الحضاري والاقتصادي، حققت القبَّالاه اللوريانية انتشاراً غير عادي (يرى جيرشوم شوليم أن الفترة بين عامي 1630 و1640 هي التي حققت فيها القبَّالاه اللوريانيـة الهيمنـة الكاملة التي جعلت اليهود مركزاً لعملية الخلاص الكونية، وإن كان شبتاي قد عدَّل هذه الصياغة بحيث يتم الخلاص من خلال شخصية الماشيَّح، أي أنه جعل شخص الماشيَّح مركز الحلول الإلهي بدلاً من الجماعة اليهودية). ومن العوامل الأخرى الأساسية التي هيأت الجو للانفجار المشيحاني انتشار يهود المارانو في كثير من موانئ البحر الأبيـض المتوسـط والمـدن التجارية، فقد كانوا يحملـون فكراً قبَّالياً، كما أنهم كانوا يعانون من الضيق بعد أن شهدوا أيامهم الذهبية في الأندلس وإسبانيا المسيحية، وكانوا يعيشون أيضاً خارج نطاق السلطة وبعيداً عن مراكز صُنع القرّار، الأمر الذي جعل من العسير عليهم تَقبُّل الوضع القائم. وفي الواقع، فإن كل هذا قد هيأ الجو لتصاعُد الحمى المشيحانية، وقامت أعداد كبيرة من اليهود بالإعداد لوصول الماشيَّح، وبدأت الإشاعات تنتشر عن جيش يهودي جرار يجرى إعداده في الجزيرة العربية ليخرج منها ويفتح فلسطين.
في هذا المناخ، ظهر شبتاي تسفي. ويبدو أن حياته النفسية لم تكن سـوية، مثلـه مثل حيـاة جيكوب فرانك الماشيَّح الدجال الذي جاء بعده، فقد كان محباً للعزلة، كثير الاغتسال والتعطر، حتى أن أصدقاءه الشبان كانوا يعرفونه برائحته الزكية. وكان يظهر عليه ما يُسمَّى في علم النفس بالسيكلوثاميا، وهي حالة نشاط وهيجان بالغين يعقبهما انقباض وقنوط، وقد صاحبته هذه الحالة حتى الأيام الأخيرة من حياته. وكثيراً ما كان شبتاي يتغنى بالأشعار وينشد المزامير في حالة نشاطه. وحيث إنه تلقى تعليماً دينياً تلمودياً كاملاً، فلم يتهمه أحداً قط بالجهل. وتزوج شبتاي فتاة بولندية يهودية حسناء تُدعى سارة تربت في أحد الأديرة الكاثوليكية أو ربما في منزل أحد النبلاء البولنديين إذ يبدو أن أباها كان من يهود الأرندا، أي وكيلاً مالياً للنبيل في منطقة أوكرانيا، ويبدو أنها كانت سـيئة السـمعة من الناحيـة الأخلاقية، وهناك من يقول إنها كانت عاهرة وكانت تدَّعي أنها لن تتزوج إلا الماشيَّح ولذا فإن الإله قد أعطاها رخصة أن تعاشر من تشاء جنسياً إلى أن يظهر الماشيَّح ويعقد قرّانه عليها. وحينما نشبت انتفاضة شميلنكي التي اكتسحت الإقطاع البولندي في أوكرانيا، كما اكتسحت وكلاء النبلاء الإقطاعيين، كان أبواها من ضحاياها. وقد قابل تسفي سارة في القاهرة، أو ربما سمع عنها، فأرسل إليها وتزوجها. وقام تسفي بخرق الشريعة عامداً عام 1648، فأعلن أنه الماشيَّح، ونطق باسم يهوه (الأمر الذي تحرمه الشريعة اليهودية)، وأعلن بطلان سائر النواميس والشريعة المكتوبة والشفوية. ولتأكيد مشيحانيته، طلب أن تُزَفَّ التـوراة إليـه، فهي عروس الإله. وقد رفض الحاخامات الاعتراف به، فطُرد من أزمير. وقد تنقَّل تسفي في الأعوام العشرة التالية في مدن اليونان، فذهب إلى سالونيكا وغيرها، وقضى بضعة أشهر في إستنبول. وقام بخرق الشريعة مرة أخرى في هاتين المدينتين، إذ نَظَّم أدعية أو ابتهالات تتلى في الصلوات للإله ليحلل ما حرَّم. وحينما زار القاهرة، انضم إلى حلقة من دارسي القبَّالاه كان من أعضائها رئيس الجماعة اليهودية، روفائيل يوسف جلبي، مدير خزانة الدولة. ثم رحل إلى فلسطين عام 1662. وقد بشَّر به اليهودي الإشكنازي نيثان الغزاوي عام 1664، على أنه الماشيَّح الصادق الموعود، وأنه ليس مجرد المسيح ابن يوسف، وإنما هو المسيح بن داود نفسه. وأعلن نيثان أنه هو نفسه النبي المرسل من هذا الماشيَّح، وكتب عدة رسائل لأعضاء الجماعات اليهودية يخبرهم فيها بمقدم الماشيَّح الذي سيجمع الشرارات الإلهية التي تبعثرت أثناء عملية الخلق، والذي سيستولى على العرش العثماني ويخلع السلطان (وهذه من الأفكار الأساسية للقبَّالاه اللوريانية).
وقد دخل شبتاي القدس في مايو عام 1665، وأعلن أنه المتصرف الوحيد في مصير العالم كله، وركب فرساً (كما هو متوقع من الماشيَّح) وطاف مدينة القدس سبع مرات هو وأتباعه، وقد عارضه الحاخامات وأخرجوه من المدينة. ولكن تسفي أعلن عام 1666 أنه سيذهب إلى تركيا ويخلع السلطان. وقد زاد ذلك حدة التوقعات المشيحانية بين يهود أوربا وزاد حماسهم. وقد وصلت الأنباء إلى لندن وأمستردام وهامبورج. وصارت الجماهير اليهودية تحمل بيارق الماشيَّح في بولندا وروسيا. ومما يجدر ذكره أن أهم مؤسسة يهودية في العالم آنذاك، وهي مجلس البلاد الأربعة، اكتسحتها الحمى المشيحانية فأرسلت مندوبين عنها للحديث معه والاعتراف به (ولم تُصدر هذه المؤسسة قرّاراً بطرده إلا عام 1670 بعد تردُّد طويل). بل إن بعض الأوساط المسيحية بدأت تؤمن بأن تسفي سيُتوَّج ملكاً على فلسطين. وحينما حاول حاخامات أمستردام الاعتراض على رسائل تسفي وما جاء فيها، كادت الجماهير تفتك بهم. ولقد باع بعض الأثرياء كل ما يملكونه استعداداً للعودة، واستأجروا سفناً لتنقل الفقرّاء إلى فلسطين، واعتقد البعض الآخر أنهم سيُحمَلون إلى القدس على السحاب. وسيطرت الهستريا على الجماهير، فكان أتباعه يُغشَى عليهم ويرونه في رؤاهم ملكاً متوجاً. وانقسم كثير من الجماعات اليهودية بصورة حادة. وقد سمى الحاخامات أتباع تسفي بأنهم الكفار (بالعبرية: كوفريم). ولكن تسفي تمادى في دوره، وبدأ في توزيع الممالك على أتباعه، وألغى الدعاء للخليفة العثماني الذي كان يُتلى في المعبد اليهودي، ووضع بدلاً من ذلك الدعاء له هو نفسه كملك على اليهود ومخلِّص لهم. وأخذ تسفي يضفي على نفسه ألقاباً يوقع بها رسائله. ومن هذه الألقاب: « ابن الإله البكر » و« أبوكم يسرائيل » و« أنا الرب إلهكم شبتاي تسفي ». وتوجَّه تسفي إلى إستنبول في فبراير عام 1666 حيث أُلقي القبض عليه.
ويبدو أن السلطات العثمانية التي اعتادت عدم التجانس الديني في الإمبراطورية الشاسعة، لم تكن تريد أية مواجهات مع أتباعه، ولذلك تم سجنه في قلعة جاليبولي المخصصة للشخصيات المهمة. وقد تحوَّل السجن بالتدريج إلى بلاط ملكي لشبتاي تسفي (فكان يحتفظ بعدد كبير من الحريم، ومع هذا كانت له تصرفات تنم عن ميول نحو الشذوذ الجنسي، أي أنه كان مخنثاً). وكان الحجاج يأتونه من كل بقاع الأرض، وكُتبت الأناشيد الدينية تسبيحاً بحمده، وأُعلنت أعياد جديدة وطقوس جديدة. فألغى صيام اليوم السابع عشر من تموز من التقويم اليهودي، كما ألغى صيام التاسع من آب وجعله عيداً لميلاده. وقد أعلن نيثان أن التغييرات الحادة التي تطرأ على مزاج الماشيَّح تعبير عن الصراع الدائر داخل نفسه بين قوى الخير والشر.
وفي سبتمبر من ذلك العام، جاء الحاخام القبَّالي نحميا (من بولندا) لزيارة شبتاي، وقضى ثلاثة أيام في الحديث معه رفض بعدها دعواه بأنه الماشـيَّح، بل أخـبر السـلطات التركية بأنه يحرض على الفتنة، فقُدِّم للمحاكمة وخُيِّر بين الموت أو أن يعتنق الإسلام، فأشهر إسلامه وتعلَّم العربية والتركية ودرس القرآن. وأسلمت زوجته من بعده، ثم حذا حذوه كثير من أتباعه الذين أصبح يُطلَق عليهم اسم «دونمه». ولكنه، مع هـذا، لم يقطـع الأمل في أن يستمر في قيادة حركته، وظل كثير من أتباعه على إيمانهم به، لأن الماشيَّح في التصور القبَّالي « سيكون خَيِّراً من داخله، شريراً من خارجه »، وهذه مواصفات تنطبق على تسفي تمام الانطباق. ويتضح هنا تأثر تسفي بتفكير يهود المارانو بشأن ضرورة أن يُظهر المرء غير ما يُبطن. وقد نقل العثمانيون تسفي في نهاية الأمر إلى ألبانيا حيث مات بوباء الكوليرا عام 1676.
وظهور شبتاي تسفي تعبير عن الأزمة العميقة التي كانت تخوضها اليهودية الحاخامية بسبب تَآكُل العالم الوسيط في الغرب بل ونهايته، وهو العالم الذي نشأت فيه اليهودية الحاخامية التي فشلت في التعامل مع العالم الجديد. ويشبه شبتاي تسفي في هذا معاصره إسبينوزا، فكلاهما تعبير عن أزمة واحدة، وكلاهما تَحدَّى الشريعة (هالاخاه) وطرح رؤية ذات جوهر علماني تركِّز على هذا العالم المادي. وبينما تحداها تسفي من الداخل، تحداها إسبينوزا من الخارج. وكلاهما كان يؤمن بنسق حلولي يَصدُر عن رؤية حلولية كونية واحدية (أخذت طابعاً دينياً عند تسفي وطابعاً فلسفياً لا دينياً عند إسبينوزا).
ويمكن القول بأن تسفي يمثل وحدة الوجود الروحية، أي أن يحل الإله في الطبيعة والتاريخ ويظل محتفظاً باسم الألوهية، أما إسبينوزا فيمثل مرحلة وحدة الوجود المادية، حيث يصبح الإله هو قوانين الحركة، ولكنه مع هذا كان من الدهاء بحيث أبقى اسم الإله ولكنه قال إن الإله هو الطبيعة. ولذا يُشار إلى إله إسبينوزا بأنه الإله/الطبيعة.
وتُعتبَر حركة شـبتاي تسـفي أهـم الحركات المشـيحانية على الإطلاق، فقد هزت اليهودية الحاخامية من جذورها، حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك. وانتشر أتباع تسفي في كل مكان، وانتشر معهم الفكر الشبتاني حتى بين بعض القيادات الحاخامية، ويتضح ذلك في المناظرة الشبتانية الكبرى التي ظهر خلالها أن الحاخام جوناثان إيبيشويتس، وهو من أهم العلماء التلموديين في عصره، كان شبتانياً. وبعد ذلك، ظهرت الحركتان الحسيدية والفرانكية اللتان رفضتا القيادة التقليدية التلمودية، وأخيراً ظهرت الصهيونية التي ورثت كثيراً من النزعات المشيحانية. وثمة رأي يذهب إلى أن تسفي بهجومه على اليهودية الحاخامية التقليدية مهد الطريق للصهيونية التي ترفض القيود الدينية، كما ترفض الأوامر والنواهي وتُعلِّي الذات القومية على كل شيء. كما أن تَوجُّه تسفي للعمل على العودة الفورية إلى فلسطين يشبه، في كثير من النواحي، المشيحانية الصهيونية العلمانية التي ترفض الموقف الديني التقليدي الذي ينصح اليهود بالانتظار، بل تبادر إلى الإسراع بالنهاية ليبدأ العصر المشيحاني دون انتظار مشيئة الإله. وقد كان تيودور هرتزل معجباً للغاية بتسفي وكان يفكر في كتابة أوبرا عنه لتمثيلها في الدولة الصهيونية بعد إنشائها.
نيثـان الغــزاوي (1643-1680 )
Nathan of Gaza
الداعية الأول لشبتاي تسفي وأهم المبشرين به، وهو من أصل إشكنازي. درس القبَّالاه، واستقر في غزة، ثم أعلن أن شبتاي تسفي هو الماشيَّح. وبعد أن أسلم تسفي، تجوَّل نيثان في شبه جزيرة البلقان، وطوَّر الفكر الشبتاني مستنداً إلى القبَّالاه اللوريانية، فقال إن روح الماشيَّح عليها أن تنزل إلى عالم الظلمات التي هي القشرة الخارجية (قليبوت) لهذا العالم، لتخلص الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) التي التصقت بها ويتحقق إصلاح الخلل الكوني (تيقون) فيستعيد حالته الأصلية. وبذلك، حل نيثان مشكلة أساسية واجهها أتباع تسفي وهي اعتناقه الإسلام، فقد فسَّر مسلك شبتاي على أنه نزول إلى عالم الظلمات. وقد استخدم الشبتانيون هذه الفكرة فيما بعد لتفسير الانحلال الأخلاقي عند زعمائهم.
جيكوب قويريدو (؟ -1690 )
Jacob Querido
أحد أتباع شبتاي تسفي ووريثه الأساسي. أظهر الإسلام، وأبطن اليهودية منذ عام 1683، هو وثلاثمائة أسرة من أتباعه، واستمروا في ممارسة الطقوس الشبتَّانية سراً. وهو مؤسس طائفة الدونمه.
الحركة الشبتَّانية
Shabbateanism
«الشبتَّانية» مصطلح يُطلَق على الحركات المشيحانية الدينية الباطنية (الغنوصية) اليهودية التي ظهرت في الغرب وأطراف الدولة العثمانية بعد أن أسلم شبتاي تسفي. وكلها هرطقات ضد الدين اليهودي، وضد الصياغة التلمودية على وجه الخصوص. وتُعَدُّ الشبتانية شكلاً من أشكال الثورة ضد الدين اليهودي، وتعبيراً عن أزمة اليهودية. وقد ساهمت القبَّالاه اللوريانية وانتشارها في خلق التربة الخصبة لانتشار الأفكار الشبتانية.
والواقع أن المفهوم القبَّالي الخاص بإصلاح الخلل الكوني (تيقُّون) قد غيَّر كثيراً من المفاهيم اليهودية التقليدية تماماً. فقد كان الخلاص يعني العودة إلى أرض الميعاد، أما التيقون فقد جعل الخلاص هو إصلاح الخلل الكوني وإنهاء حالة النفي التي تَسم الكون بأسره. والنفي ليس وضعاً خارجياً كامناً في وجود اليهود خارج فلسطين، وإنما هو وضع داخلي كامن في الطبيعة البشرية نفسها ويتمثل في ابتعادها عن الإله وعدم التصاقها به (ومن هنا أهمية الأوامر والنواهي والوصايا لكل من اليهود والأغيار). وتبدأ عملية الخلاص في هذا العالم الداخلي الباطني، أي في عقل الإنسان وقلبه، استعداداً للخلاص الخارجي، بمعنى أن الحالة العقلية النفسية أكثر أهمية من اللحظة التاريخية. وبذلك، فقد مزجت القبَّالاه اللوريانية النزعة القبَّالية الباطنية (الذاتية) بالنزعة المشيحانية الخارجية، وجعلت الثانية تعتمد على الأولى، ومهدت الطريق بذلك لظهور شبتاي تسفي والشبتانية ككل.
ولكن أتباع شـبتاي تسـفي قامـوا بتعديل التصور اللورياني وتعميقه، فالقبَّالاه اللوريانية، مثلها مثل قبَّالاة الزوهار (برغم حلوليتها المتطرفة وهرطقتها)، كانت تحوي داخلها إمكانية تعميق الولاء للشريعة وممارسة شعائرها، وبالفعل جعلت الخلاص المشيحاني وإصلاح الخلل الكوني (تيقون) مرتبطاً بممارسة اليهود للشعائر وتنفيذهم الأوامر والنواهي. أما شبتاي تسفي وأتباعه، فقد كان موقفهم معادياً للشريعة والشعائر بشكل واضح وصريح، بل تعمدوا خرق قوانينها وإبطال أوامرها ونواهيها. وإذا كان الشعب اليهودي يشغل في التصور اللورياني مركز عملية الخلاص، فإن شخصية الماشيَّح تشغل هذا المركز في التصورات الشبتانية. فالمؤمن هو من يؤمن بالأفعال الصوفية الخارقة التي يأتي بها شبتاي تسفي كماشيَّح مخلِّص. ولعل التأكيد على شخصية الماشيَّح، بدلاً من الشعب اليهودي، يعود إلى وجود اليهودية إما في تربة مسيحية (بولندا وروسيا) أو على مقربة منها (في شبه جزيرة البلقان). وقد قضى يهود المارانو عشرات السنين يعانون من الاضطهاد الناجم عن قولهم إن المسيح عيسى بن مريم ليس هو الماشيَّح الحقيقي، وأن الماشيَّح اليهودي سيأتي لينقذ شعبه. وهكذا تحوَّلت النزعة المشيحانية إلي إيمان بشخصية الماشيَّح.
وكان من الممكن أن يؤدي ظهور شبتاي تسفي إلى سد الفجوة بين الظاهر والباطن. ولكنه، كما هو متوقع، فشل في ذلك تماماً، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور الحركة الشبتانية برؤيتها للكون. ويُعدُّ نيثان الغزاوي أهم مفكري الشبتانية وأبرز دعاتها، فقد أعاد تفسير كثير من الأفكار اللوريانية، وأضاف إليها حتى خَلَق نسقاً فكرياً يُعدُّ تنويعاً جديداً على النسق اللورياني. وأهم أفكار نيثان هي فكرة "النور الذي لا عقل له" مقابل " النور العاقل". وحسب هذا التصور، يحوي الإين سوف (الإله الخفي أو العدم) النورين داخله. أما الأول، فهو قوة مدمرة هائلة لا عقل لها، وهي لا تكترث كثيراً بعملية الخلق بل تعاديها فهي قوة العدم. وأما النور العاقل، فهو النور الذي يفكر في عملية الخلق ويقوم بها في نهاية الأمر. وقد حدثت عملية الانكماش الإلهي (تسيم تسوم) ليس في الوجود الإلهي بنوريه العاقل والمعادي للعقل وإنما حدثت في النور العاقل وحده استعداداً لعملية الخلق، فانفصل النور العاقل عن النور الذي لا عقل له فصار هذا النور العدمي قوة نابعة من الإين سوف (الإله الخفي) مستقلة عنه، وبذلك فقد أصبح قوة الشر، أي أن الشر الماثل في الدنيا إن هو إلا جزء من الإله. ويقوم هذا النور بتدمير كل ما ينتجـه النـور العاقل الذي اخترق، رغـم هذا، الفضاء العلوي وشيَّد العالم. ومع هذا، فقد ظل النصف السفلي، أو الهوة الكبرى (الهيولي السفلي)، مظلماً بعيداً عنه وعن سلطانه. ويصبح جدل الكون هو محاولة النور العاقل الوصول إلى العالم السفلي، وقيام النور غير العاقل بصد الإشعاعات (وهذا تعبير عن الثنوية القوية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي). ولا يمكن في الواقع أن تصل هذه الإشعاعات إلا من خلال شخصية الماشيَّح، فهو وحده القادر على توصيلها وعلى إعادة تشكيل الهيولي السفلي. بل إن روح الماشيَّح توجد في هذا العالم السفلي، فهو إحدى الشرارات الإلهية التي التصقت بالقشرة (قليبوت)، ولذا فهو ليس خاضعاً لسلطان التوراة أو القانون، وهو وحده القادر على بدء عملية التيقون.
والبشر جميعاً خاضعون لسلطة الشريعة، التي هي تعبير عن النور العاقل والأرواح المتصلة به، على عكس الماشيَّح الذي لا يخضع لسلطانه. فهو يحوي النورين، وله من الرخص ما لم يُمنَح لبشر. وقد مكَّنت هذه الفكرة نيثان الغزاوي من أن يفسر تلك الأعمال الغريبة التي صدرت عن الماشيَّح. وقد وصفه بأنه البقرة الصغيرة الحمراء التي ورد ذكرها في العهد القديم (عدد 19)، فهو يطهر المدنَّسين ولكنه هو نفسه مدنَّس، وهو أيضاً الثعبان المقدَّس الذي سيُخضع ثعابين الهوة (والواقع أن كلمة «ناحاش» العبرية، أي ثعبان، لها القيمة الرقمية نفسها التي لكلمة «ماشيَّح»، ولذا فإنه مقدَّس مهما أتى من أفعال قد تبدو مُدنَّسة).
وتستند هذه الرؤية للماشيَّح إلى فكرة شبتانية أساسية، وهي فكرة التوراتين: توراه دي أتسليوت، أي توراة العالم العلوي أو توراة الفيض والخلاص، وتوراه دي بريئاه، أي توراة الخلق أو توراة الظاهر والعالم الحسي أو السفلي. فحسب التصور الشبتاني (وهو مجرد تطوير وتعميق للفكر القبَّالي)، هناك معنىان للتوراة؛ أحدهما ظاهري والآخر باطني. ويرتبط المعنى الظاهري بهذا العالم، عالم الخير والشر والحياة والموت والزوال والدنس والشتات والنفي. ولذا، فإن هذه التوراة، توراة الخلق والخليقة، تحوي الوصايا والأوامر والنواهي التي يجب على اليهودي اتباعها ليساعد الشخيناه (المنفية مع اليهود) في محنتها. ويُشار إلى توراة الخلق هذه بأنها رداء الشخيناه في سبيها. أما المعنى الباطني للتوراة، فيرتبط بالعالم السامي، عالم الخير والحياة الأزلية، وهو عالم ثابت لا نفي فيه ولا شتات، وتوراته هي توراة الخلاص، ولا يدرك كنهها سوى القديسين، والماشيَّح المخِّلص. وبرغم التشابه بين التوراتين في المحتوى والألفاظ، فإن طريقة فهم كل منهما مختلفة لأن تفسير كل توراة يتم وفقاً للعالم الذي نزلت من أجله. فالتوراة في العصر السابق على الخلاص (العصر الشبتاني أو المشيحاني)، تُقرأ في ضوء من الوصايا والنواهي والتحريمات المعروفة لدينا. أما توراة الخلاص والفيض فتسمح بالمحرمات، بل إن انتهاك توراة الخليقة لينهض دليلاً على مجيء العصر الجديد الذي بشَّر به شبتاي تسفي.
ويستند كل هذا إلى مفهوم محوري في الفكر الشبتاني، هو مفهوم قداسة الرذيلة. فالأفعال المدنَّسة هي في الواقع أفعال مقدَّسة، شـكلها الخارجي وحسـب هو المدنَّس (ويظهر هنا تأثير المارانو مرة أخرى). ويصبح العقل المدنَّس مقدَّساً إن عمل بحماس ديني. وقد وجد الشبتانيون تبريراً لرأيهم هذا في التلمود الذي ورد فيه أن الخطيئة التي تُقتَرف لذاتها هي أعظم من وصية لا تُؤدَّى لذاتها. كما أن المختارين لا يمكن أن يُحكَم عليهم بالمقاييس العادية، فهم ينتمون إلى قانون مختلف هو قانون الفيض، وهم فوق الخير والشر (مثل الإنسان الأعلى عند نيتشه). فمن المستحيل على الذين يعيشون في عالم التيقون أن يرتكبوا الخطيئة، لأن الشر بالنسبة إليهم فَقَد معناه لأنهم وصلوا إلى الخلاص الداخلي الكامل.