المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 3

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

حتميـــة طـــرد الفلســـطينيين ونقلـــهم (ترانســـفير(

Inevitability of the Zionist Tranfer of the Palestinians

يهدف المخطَّط الصهيوني (شأنه شأن أي مشروع استيطاني إحلالي) إلى طَرْد وترحيل السكان الأصليين الذين يشغلون الأرض التي سيُقام فيها التجمُّع الصهيوني. وهذا أمر حتمي حتى يتسنى إقامة دولة يهودية خالصة لا تشوبها أية شوائب عرْقية أو حضارية أخرى. ولذا طُرح شعار "أرض بلا شعب". وهو ما يجعل طرد الفلسطينيينأمراً حتمياً نابعاً من منطلق الصهيونية الداخلي.

وقد كتب هرتزل في يومياته عن الطرق والوسائل المختلفة لنزع ملكية الفقراء، ونقلهم، واستخدام السكان الأصليين في نقل الثعابين وما شابه ذلك، ثم إعطائهم وظائف في دول أخرى يقيمون فيها بصفة مؤقتة. وحينما كتب هرتزل لتشامبرلين عن قبرص، بوصفها موقعاً ممكناً آخر للاستيطان الصهيوني، لم يتردد في أن يرسم له الخطوط العريضة لطريقة إخلائها من السكان "سيُرحَّل المسلمون، أما اليونانيون فسيبيعون أرضهم بكل سرور نظير ثمن مرتفع ثم يهاجرون إما إلى اليونان أو إلى كريت".

كما نجد أن إسرائيل زانجويل، المفكر الصهيوني البريطاني، يؤكد في كتاباته الأولى ضرورة طرد العرب وترحيلهم، فيقول: "يجب ألا يُسمَح للعرب أن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيوني ولذا لابد من إقناعهم بالهجرة الجماعية... أليست لهم بلاد العرب كلها... ليس ثمة من سبب خاص يحمل العرب على التشبث بهذه الكيلو مترات القليلة... فهم بـدو رُحل يطوون خيامهم ويَنْسَـلون في صمت وينتقلون من مكان لآخر".

وذكر جوزيف وايتز، مسئول الاستيطان في الوكالة اليهودية، في عدد 29 سبتمبر 1967 من جريدة دافار، أنه، هو وغيره من الزعماء الصهاينة، قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أنه "لا يوجد مكان لكلا الشعبين (العربي واليهودي) في هذا البلد" وأن تحقيق الأهداف الصهيونية يتطلب تفريغ فلسطين، أو جزء منها، من سكانها، وأنه ينبغي لذلك نَقْل العرب، كل العرب، إلى الدول المجاورة. وبعد إتمام عملية نَقْل السكان هذه سـتتمكن فلسـطين من استيعاب الملايين من اليـهود.

وكان جابوتنسكي بطبيعة الحال من مؤيدي هذا المخطَّط، فأعد حيلة جديرة بعقله الصهيوني الصغير، إذ اقترح أن تعلن المنظمة الصهيونية العالمية معارضتها نزوح العرب عن فلسطين، وبذا تهدئ مخاوف العرب بشأن مخطَّط نَقْل السكان الأصليين، بل سيظن هؤلاء السكان، السذج، أن الصهاينة يريدون منهم البقاء حتى يتسنى لهم استغلالهم، ولذا فإنهم سيحملون متاعهم ويرحلون. وهذه الخطة، أو الحيلة تتسم بالغباء أكثر مما تتسم بالخبث، فقد أثبت الفلاحون العرب أنهم أقل جهـلاً مما كان يتصـور الزعيم الصهيوني، وأكثر ارتياباً مما تَعشَّم.

ويمكن القول بأن جابوتنسكي "متطرف"، ولكن سنجد أن وايزمان كان من المطالبين بهذا، وقد نشرت مجلة الجويش كرونيكل، في 13 أغسطس 1937، وثيقة، وقعها وايزمان بالحروف الأولى من اسمه، تدل على أن الزعيم الصهيوني كان يرى أن نجاح مشروع التقسيم يتوقف على مدى إخلاص الحكومة البريطانية للتوصية الخاصة بنقل السكان. ولا يختلف آرثر روبين مدير دائرة الاستيطان الصهيوني كثيراً عن ذلك. فقد اقترح منذ مايو 1911 "ترحيلاً محدوداً" للفلاحين العرب الذين سيُجرَّدون من أمـلاكهم إلى منطقتي حلب وحمص في شـمال سوريا. كان تجريد المزارعين العرب وإجلاؤهم عن أراضيهم، كما كتب روبين بعد تسعة عشر عاماً، أمراً لا مفر منه، لأن "الأرض هي الشرط الحيوي لاستيطاننا فلسطين. لكن لما لم يكن ثمة أرض قابلة للزراعة إلا وهي مزروعة من قبل، فقد نجد أننا حيثما نشتري أرضاً ونسكنها لابد لزرَّاعها الحاليين من أن يُطرَدوا منها...".

ولم تكن خطة نقل المواطنين اليهود مقصورة على أولئك الذين استوطنوا الأرض من أجل أغراض رأسمالية دنيئة، أو لأسباب قومية عادية، بل كانت أيضاً خطة تبناها أولئك الذين استوطنوا فلسطين لكي يقيموا فيها مجتمعاً مثالياً قوامه المساواة. وقد أبدى بوروخوف، أبو اليسار الصهيوني، وعياً ملحوظاً بحقيقة أن الحل الصهيوني، الذي يتلخص في نقل اليهود وتوطينهم في أرض خاصة بهم، لا يمكن أن يتم "بدون نضال مرير وبدون قسوة وظلم وبدون معاناة البريء والمذنب على السواء". وفي تحديد إطار تَصوُّره لمستقبل المواطنين، قال إن المهاجرين اليهود سيقومون ببناء فلسطين، وأن السكان الأصليين سيتم استيعابهم، في الوقت المناسب، من جانب اليهود من الناحيتين الاقتصادية والثقافية على السواء. "إن تاريخ الاستيطان الصهيوني سيُكتَب بالعرَق والدموع والدم".

وقد وصف الكاتب الإسرائيلي موشي سميلانسكي ما تصوَّره اجتماعاً للرواد الصهاينة الاشتراكيين، في عام 1891، حيث تم توجيه بعض الأسئلة الخاصة بالعرب:

ـ "إن الأرض في يهودا والخليل يحتلها العرب".

ـ "حسناً سنأخذها منهم".

ـ "كيف؟" (صمت).

ـ "إن الثوري لا يوجه أسئلة ساذجة ".

ـ "حسناً، إذن، أيها الثوري، قل لنا كيف؟".

وجاءت الإجابة في شكل عبـارات واضحة لا لبـس فيها ولا إبهام: "إن الأمر بسيط جداً. سنزعجهم بغارات متكررة حتى يرحلوا.. دعهم يذهبوا إلى ما وراء الأردن". وعندما حاول صوت قَلق أن يعرف ما إذا كانت هذه ستكون النهاية أم لا، جاءت الإجابة، مرة أخرى، محددة وقاطعة: "حالما يصبح لنا مُستوطَنة كبيرة هنا، سنستولي على الأرض وسنصبح أقوياء وعندئذ سنولي الضفة الشرقية اهتمامنا وسنطردهم من هناك أيضاً، دعهم يعودوا إلى الدول العربية".

ثمة رؤية إحلالية صهيونية واضحة لها منطقها الواضح الحتمي، تحوَّلت إلى خطة لحل مشكلة الصهاينة الديموجرافية (التي تشبه مشكلة الإنسان الأبيض الديموجرافية في جميع الجيوب الاستيطانية) وهذه المشكلة عادةً ما يُطرَح حل نهائي جذري لحلها، وقد تتأرجح بين حد أقصى (الترانسفير الكامل أو الإبادة الجسدية الكاملة) أو حد أدنى، خلق أغلبية من العنصر السكاني الجديد. المتحرك هو الحدان الأعلى والأدنى، أما الثابت فهي رؤية الترحيل والإحلال. وبين سنتي 1937 و1948، صيغت وقُدِّمت عدة خطط ترحيل صهيونية، منها: خطة سوسكين للترحيل القسري (سنة 1937)، وخطة فايتس للترحيل (ديسمبر 1937)، وخطة بونيه (يوليه 1938)، وخطة روبين (يونيه 1938)، وخطة الجزيرة (1938ـ 1942)، وخطة إدوارد نورمان للترحيل إلى العراق (1934 ـ 1948)، وخطة بن جوريون (1943 ـ 1948)، وخطة يوسف شختمان للترحيل القسري (1948)، وأثناء الفترة نفسها أُلِّفت ثلاث لجان ترحيل، نيطت بها مهمة مناقشة وتصميم الطرق العملية لترويج خطط الترحيل: اللجنتان الأوليان ألفتهما الوكالة اليهودية (1937 ـ 1942)، أما اللجنة الثالثة فقد ألفتها الحكومة الإسرائيلية سنة 1948.

والثوابت واضحة والخطة ليست أقل وضوحاً، والآلية في مثل هذه التجارب الاستيطانية الإحلالية معروفة، فالبشر لا يتركون أرضهم هكذا، ولا يطوون خيامهم ويَنْسَـلون من الأرض ويختفـون، كما كان يتمـنى زانجويل، ولابد من استخدام القوة والعنف. ومع هذا لا تفتأ الدعاية الصهيونية تنفي عن نفسها تهمة العنف العسكري الموجه ضد العرب. بل إن بن جوريون بلغت به الجرأة أن يزعم أن كل مفكري الصهيونية العظماء لم يطرأ لهم على بال قط أن الحلم الصهيوني لا يمكن تحقُّقه إلا من خلال الانتصار العسكري على العرب. ولكن بن جوريون، بلا شك، قرأ رسالة هرتزل إلى البارون دي هرش، التي يحدثه فيها عن خطته لخلق البروليتاريا اليهودية المثقفة من قيادات وكوادر الجيش الصهيوني التي ستبحث وتكتشف ثم تستولي على الأرض، أي الوطن القومي. ولا شك في أنه سمع بخطاب زانجويل (في مانشستر في أبريل 1905) الذي قال للصهاينة فيه: "لابد أن نُعد أنفسنا لإخراج القبائل [العربية] بقوة السـيف كما فعل آباؤنا، أو أن نكابد مشـقة وجود سـكان أجانب كُثر، معظمهم من المحمديين" (أي المسلمين). ولابد أنه قرأ ما كتبه أهرون أهرونسون عن ضرورة "إخراج المزارعين العرب بالقوة". وبعد وفاة هرتزل، واصل صديقه نوردو الدفاع عن العنف العسكري، فاقترح تعبئة جيش ضخم، قوامه 600.000 يهودي للذهاب إلى فلسطين حتى يفرض نفسه، بوصفه أغلبية سكانية على الفلسطينيين. وقد كان الزعيم الصهيوني العمالي جوزيف ترومبلدور أكثر تواضعاً، إذ اقترح تكوين جيش قوامه 100.000 فحسب.

أما جابوتنسكي، الوريث الحقيقي لفكر هرتزل، فقد رسم خطة لخلق أغلبية يهودية فورية في فلسطين، وسماها «مشروع نوردو». وعندما حذر أحد الصهاينة الألمان من نشوب حرب شاملة مع العرب، سخر جابوتنسكي منه، ثم ضرب أمثلة استقاها من تاريخ الاستعمار الغربي في أفريقيا وآسيا: "إن التاريخ يعلمنا أن كل المستعمرين قوبلوا بقليل من التشجيع من جانب السكان الأصليين.. وقد يكون ذلك مدعاة للحزن. ونحن اليهود لن نشذ عن القاعدة". وفي خطابه أمام اللجنة الملكية لفلسطين، عام 1937، قال جابوتنسكي "إن أمة كأمتكم، عريقة في تجربتها الاستعمارية العملاقة، تعرف بكل تأكيد أن المشروع الاستعماري لم ينجح دون نزاعات مع السكان.. (ولذا يجب) السماح لليهود بإقامة حرس خـاص بهـم، مثل الأوربيين في كينيا". وبعـد عـام من ذلك التاريخ، وخلال اجتماع فرعة منظمة بيتار في بولندا ـ وهي منظمة عسكرية صهيونية ـ لعب مناحم بيجين، تلميذ جابوتنسكي المخلص، دوراً مؤثراً وفعالاً في تغيير يمين الولاء ليتضمن قسماً بالاستيلاء على الوطـن اليهودي بقوة السـلاح. وقد تولَّى بيجين زعامة المنظمة عام 1939.

ومن المعروف أنه مع بداية هذا القرن كان الشباب، من عمال صهيون الذين استوطنوا فلسطين يسيرون مسلحين بعصي كبيرة وبعضهم يسير حاملاً مدى ومسدسات. وفي عام 1907 تأسست منظمة عسكرية صهيونية سرية شعارها "لقد سقطت يهودا بالدم والنار وستنهض بالطريقة نفسها". وقد تحوَّل اسم هذه المنظمة عام 1909 إلى منظمة الهاجاناه. وقد أسقطت الهاجاناه وهي الذراع العسكري للوكالة اليهودية، وللمنظمة الصهيونية العالمية، الشعار الإرهابي آنف الذكر. ولكن الأرجون (أو هاجاناه بيت)، التي كان يترأسها مناحم بيجين، احتفظت به. وقد اتخذت الأرجون ـ رمزاً لها ـ يداً تمسك بندقية فوق خريطة فلسطين وشرق الأردن، أيضاً، نقشت تحته هذه الكلمات: "هكذا فقط"، وفي سنة 1948 اندمجت كل من الهاجاناه، والأرجون لتكوِّنا جيش الدفاع الإسرائيلي. ومن المستحيل أن يكون كل هذا قد فات على بن جوريون، وقد كان واحداً من أهم المخططين الأساسيين في مُخطَّط الاستيطان والتوسع الصهيوني.

وخلال السنوات الأولى للاستيطان الصهيوني تم تحصين المستوطنات التعاونية الزراعية بمعدات بدائية، تحوَّلت فيما بعد إلى التاكتيك المسمى «البرج والسور». وبعد عام 1948 أصبحت إسرائيل كلها "الدولة القلعة" أو "الجيتو المسلح". وقد تنبأ جابوتنسكي بهذا الوضع حينما قال إن "سوراً حديدياً من القوات المسلحة اليهودية سيقوم بالدفـاع عن عملية الاسـتيطان الصهيوني". وبعد إنشـاء الدولة الصهيونية، أصبح الحديث عن نقل (ترانسفير) العرب خافتاً ولكنه لم ينته قط، إذ لا تزال مشكلة إسرائيل السكانية قائمة، وخصوصاً أن المصادر البشرية للهجرة الاستيطانية آخذة في الجفاف.

طرد ونقل (ترانسفير) الفلسطينيين

Transfer of the Palestinians

إن إفراغ فلسطين من سكانها هو هدف صهيوني، وضرورة يحتمها منطق الأسطورة والعنف الإدراكي الصهيوني. ولكي يحقق الصهاينة مخططهم تبنوا تكتيكات مختلفة، فلم يكن العنف المسلح الوسيلة الوحيدة، وإنما استخدموا وسائل أخرى أيضاً. وقد اتهم عالم الاجتماع البولندي اليهودي، لودفيج جومبلوفيتش، هرتزل بالسذاجة السياسية، ثم طرح عليه سؤلاً بلاغياً: "هل تريد أن تؤسس دولة بدون عنف مسلح أو مكر؟ هكذا... بالتقسيط المريح؟". ومن المؤكد أن العنف المسلح والمكر هما الأداتان اللتان استخدمهما الصهاينة. ويتمثل المكر في نشر الذعر والإرهاب بين العرب، أما العنف فيتمثل في تعريضهم للإرهاب الفعلي. ويمكن القول بأن الإرهاب الصريح ضد الفلسطينيين قد استُخدم قبل 1948، ثم خلال فترة الحرب كلها، أما نشر الرعب بين السـكان، أي الحرب النفسـية، فقد تصـاعدت حدتها في المرحلة الأخـيرة. وليس لهذا التمييز بين العنف المسلح والمكر أية أهمية، إلا من الناحية التحليلية البحتة، حيث إن الأسلوبين متداخلان، بل إنهما، في الواقع، مجرد عنصرين في مخطط واحد متكامل. ففي حالة مذبحة دير ياسين، على سبيل المثال، حرص الصهاينة حرصاً شديداً على إطلاع جميع الفلسطينيين على الحادث، ليقوموا من خلاله بغرس الخوف والهلع في القلوب.

وكان أكثر أساليب الحرب النفسية شيوعاً هو أسلوب استخدام مكبرات الصوت والإذاعات لخلق جو من الذعر بين سكان قُضي على قياداتهم أثناء الثورات المتكررةالسابقة، ولا سيما بعد قمع ثورة عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني. وعلى سبيل المثال، فقد حذر راديو الهاجاناه العرب، يوم 19 فبراير عام 1948، من أن الزعماء العرب سيتجاهلون أمرهم. وفي الساعة السادسة من مساء يوم 10 مارس أذاع الراديو أن "الدول العربية تتآمر مع بريطانيا ضد الفلسطينيين". وفي الساعة السادسة من مساء يوم 14 مارس عام 1948 أذاع الراديو "إن سـكان يافا في حـالة ذعر كبيرة؛ إلى درجة أنهم ظلوا داخل منازلهـم". وأشار الكاتب اليهودي هاري ليفين في مذكراته إلى البيان، الذي كان قد سمعه يوم 15 مايو أثناء إذاعته من عربات مكبرات الصوت الصهيونية باللغة العربية، والذي كان يحث العرب على "مغادرة الحي قبل الساعة الخامسة والربع صباحاً"، ثم نصحهم بقوله: "ارحموا زوجاتكم وأطفالكم، واخرجوا من حمام الدم هذا... اخرجوا من طريق أريحا، الذي ما زال مفتوحاً. وإن مكثتم هنا، فإنكم بذلك ستجلبون على أنفسكم الكارثة"، وقد تجولت أيضاً مكبرات الصوت التابعة للهاجاناه في جميع أنحاء حيفا، تهدد الناس، وتحثهم على الفرار مع أسرهم (وذلك وفقاً لما جاء في كتاب المؤلف الصهيوني جون كيمشي الأعمدة السبعة المنهارة).

إن الإشارات المتكررة إلى الكوارث المُتوقَّعة والانهيار الوشيك هي من الموضوعات الأساسية التي ركزت عليها إذاعة الهاجاناه، ومكبرات الصوت التابعة لها، في المناطق الآهلة بالسكان العرب. وثمة موضوع آخر تكرر في الحرب النفسية التي شنها المستعمرون الاستيطانيون، هو خطر انتشار الأوبئة الوشيك. ففي الساعة السابعة والنصف مساء يوم 20 مارس 1948 بدأت الإذاعة الصهيونية في إذاعة بيان باللغة العربية جاء فيه: "هل تعلمون أنه يُعتبَر واجباً مقدَّساً عليكم أن تُطعِّموا أنفسكم على وجه السرعة ضد الكوليرا والتيفوس وما شابه ذلك من الأمراض، حيث إن من المتوقع انتشار مثل هذه الأمراض في شهري أبريل ومايو بين العرب في التجمعات الحضرية". وقد تم استخدام الموضوع نفسه يوم 18 فبراير عام 1948، عندما أكدت السـلطات الصهيونية، عن طريق الراديو، أن المتطوعين العرب "يحملون وباءالجدري"، وأضافت تقول، يوم 27 فبراير، إن "الأطباء الفلسطينيين قد أخذوا يفرون".

ويُقدِّم إيجال آلون، وزير الخارجية الإسرائيلية السابق، تقريراً في كتاب البالماخ عن مساهمته في تكتيكات الإرهاب: "جمعت جميع العمد اليهود، الذين لهم صلة بالعرب في مختلف القرى، وطلبت منهم أن يهمسوا في أُذن بعض العرب بأن قوة عسكرية يهودية كبيرة وصلت إلى منطقة الجليل، وأنها ستحرق سائر قرى منطقة الحولة. وينبغيعليهم أن يقترحوا على هؤلاء العرب، بصفتهم أصدقاء لهم، الهرب، حيث ما زال هناك وقت لتنفيذ ذلك". وشرح آلون كلامه بقوله: "وانتشرت الشائعة في جميع مناطق الحولة بأن الوقت قد حان للفرار، وبلغ عدد الهاربين آلافاً لا تُحصَى. وبذلك حقق التكتيك هدفه تماماً... وتم تنظيف المناطق الواسعة ". وكلمة «تنظيف» مناسبة جداً للتعبير عما يدور في ذهن الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الذي لم يُردْ الأرض فحسب، وإنما أراد تفريغها من سكانها. (وهي الكلمة نفسها التي استخدمها الصرب في حديثهم عن إبادة أهل البوسنة من المسلمين).

هذا عن أساليب الحرب النفسية، أو أساليب المكر التي اتبعها الصهاينة، وهي، بلا شك أساليب كانت مبتكرة. ولكن الملاحظ الموضوعي لا يملك إلا أن يشهد بأن العقل الصهيوني بمقدرته اللامتناهية على الإبداع في مجال العنف المسلح أو الإرهاب، قد طوَّر وجدَّد في مجال العنف المباشر، أكثر من تجديده في مجال المكر والحرب النفسية.

ولعل من أهم الشخصيات في مجال العنف المسلح الصهيوني غير اليهودي أورد وينجيت. ويمكننا أن نذكر هنا مساهماته في تدعيم تقاليد الإرهاب الصهيوني وتطويرها بما يتفق مع خصوصية الموقف في فلسطين. وقد نجح وينجيت في الحصول على موافقة القيادة البريطانية على تشكيل الفرقة الليلية، التي كان الهدف منها هجومياً وليس دفاعياً. فبدلاً من انتظار الهجوم العربي، طالب وينجيت بأن يقوم المستوطنون بتشكيل وحدات متحركة ليقوموا بالبحث عن العدو في أرضه خلال ظلمة الليل. والافتراضات هنا غريبة بعض الشيء، إذ تفترض أن الفلاحين الفلسطينيين، داخل فلسطين نفسها، يمكن أن يكونوا في حالة "هجوم" في أي وقت من الأوقات. ففي تصوري أنهم طالما ظلوا في فلسطين، فهم في حالة دفاع مشروع عن النفس، ولكن إذا ما عدنا للتصورات الصهيونية والاسترجاعية فإننا سنجد أن الأغيار الذين يقطنونفلسطين هم معتدون، بالضرورة. وقد اعترض بعض أعضاء الهاجاناه على خطط وينجيت خشية أن يؤدي الموقف الهجومي المقترح إلى زيادة حدة توتر العلاقات بين المستوطنين الصهاينة وجيرانهم العرب. بيد أن وينجيت أصر على موقفه، وتم تشكيل الفرقة الليلية.

وكانت العمليات العسكرية تبدأ عادةً بأن يطلق وينجيت بعض العيارات النارية على إحدى القرى العربية، فيستفز العرب بذلك ويردون بوابل من الطلقات النارية. وحينما يتجمع العرب بحثاً عن المهاجمين، يتم حصارهم بسرعة. وفي إحدى الغارات قتل الصهاينة، تحت قيادة وينجيت، خمســة من تسـعة من العرب الذين ذهبـوا يبحثون عنالمهاجمين، وأُسر الأربعة الآخرون. وقام وينجيت بتهنئة أعضاء فرقته في "هدوء وسكون"، ثم بدأ التحقيق مع العرب بشأن أسلحتهم المخبأة. وعندما رفض العرب الإدلاءبأية معلومات عنها، انحنى وينجيت وتناول حفنة من الرمال والزلط من الأرض وأرغم أول عربي على مضغها ودفع بها في حنجرته حتى كادت أن تخنقه "وتزهق روحه". ولكن العرب مع هذا لم يستسـلموا.

وهـنا انتهـج الصهيوني غير اليهودي أسـلوباً آخر، إذ التفت إلى أحد اليهود وأشار إلى العربي قائلاً: "أطلق الرصاص على هذا الرجل". فتردد اليهودي، في بادئ الأمر، ولكن وينجيت قال: في صوت يشوبه التوتر "ألم تسمع؟ أطلق الرصاص عليه". فقام المستوطن الصهيوني ـ ممتثلاً ـ بإطلاق الرصاص على العربي، واضطر المسجونون العرب الآخرون إلى أن يتكلموا في النهاية. وقد أشار الجنرال دايان في مذكراته إلى أن الكثير من الرجال الذين كانوا يعملون مع وينجيت "قد أصبحوا ضباطاً في الجيش الإسرائيلي، الذي حارب العرب وهزمهم". وأوضح دايان أن الذين استفادوا من معرفة وينجيت وتكتيكاته لم يكونوا مساعديه المباشرين فقط بل إن كل قائد في الجيشالإسرائيلي حتى اليوم هو تلميذ من تلاميذ وينجيت: "لقد أعطانا التكتيك الذي نسير عليه اليوم، وكان هو الإلهام الذي نستوحي منـه تكتيكـاتنا، لقد كان ـ بالنسبة لنا ـالديناميكية التي تعطينا القوة".

استفادت قوات الغزو الصهيونية من فكر وينجيت الإرهابي العسكري قبل 1948وبعدها (فكرة الضربة المجهضة على سبيل المثال)، ولكن ما يهمنا هنا هو الغارات الليلية التي كانت تشنها الهاجاناه والبالماخ عام 1948. فقد أشار دايان إلى أن الهاجاناه والبالماخ كانتا تشنان هذا النوع من الغارات خلال عام 1948. وكما أشار المؤرخ اليهودي أرييه يتشاكي فإن التكتيكات كانت شديدة البساطة: "هجوم على قرية العدو، ثم تدمير أكبر عدد ممكن من المنازل". وكانت النتائج بسيطة بالمثل: "مصرع عدد كبير من المسنين والنساء والأطفال في أيِّ مكان تواجه فيه القوة التي تشن الهجوم أية مقاومة".

ولكن الهاجاناه أدخلت، على ما يبدو، بعض التحسينات المهمة على تكتيكاتها، ولا سيما في نهاية عهد الانتداب. ففي الهجوم على القرى العربية كان رجال الهاجاناه يضعون، أولاً، وبهدوء، شحنات متفجرة حول المنازل المبنية من الحجارة، ويبللون إطارات النوافذ والأبواب بالبنيزين. وبمجـرد أن يتم تنفيـذ هذه الخطوة، يفتحون نيرانهم، في الوقت الذي يبدأ انفجار الديناميت، فيحترق السكان النائمون حتى الموت.

وقد علق حاييم وايزمان على نتائج الإرهاب والمكر الصهيونيين قائلاً: إن خروج العرب بشكل جماعي كان تبسيطاً لمهمة إسرائيل ونجـاحاً مزدوجاً: انتصـار إقليمي، وحل ديموجرافي نهائي. إن الأرض، بعد تفريغها من سكانها، أصبحت بلا شعب حتى يأتي الشعب الذي لا أرض له.

قانـون العـودة: قانون صهيوني أساسي

Law of Return: A Zionist Basic Law

«قانون العودة» قانون صدر في إسرائيل عام 1950 يمنح أي يهودي في العالم حق الهجرة إلى فلسطين وأن يصبح مواطناً فور وصوله. ومن المعروف أن جميع أجنحةالصهيونية تعاونت في مرحلة ما قبل 1948 على إنجاز أهم عنصر مُتضمَّن في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، أي التخلص من السكان الأصليين وتغييبهم. وثمة أدبيات ثرية في هذا الموضوع توثق النية الصهيونية المبيتة لطرد العرب، وتبيِّن الطرق المختلفة التي لجأت إليها قوات المستوطنين لطرد الفلسطينيين وتفريغ فلسطين من سكانها. ولكن المشروع الصهيوني لم يُحقِّق النجاح الكامل إذ بقيت أقلية من العرب (وهي آخذة في التزايد). وقد لجأت دولة المستوطنين إلى اتخاذ إجراءات قانونية للضرب على يد هذه الأقلية العربية وتكبيلها. ولم يكن ذلك أمراً عسيراً، إذ ورثت هذه الدولة، فيما ورثت، خاصية اليهودية باعتبارها خاصية رئيسية ومحورية تسم اليهود الذين تقوم على خدمتهم مجموعة من المؤسسات الاستيطانية المقصورة عليهم. وبصدور قـانون العـودة في يولــيه 1950، تحوَّلـت خاصية اليهودية هذه إلى مقولة قانونية تمنح صاحبها حقاً تنكره على غير اليهود.

وقد صدر هذا القانون عن الكنيست الأول عام 1950، وخضع لتعديل لاحق في أغسطس عام 1954، وهو ينطلق من الافتراض الصهيوني القائل بأن اليهود "شعب بلاأرض"، شعب عضوي نُفي قسراً من وطنه فلسطين منذ ألفي عام. ولكن هذا النفي لم يؤثر في أعضاء هذا الشـعب، فغالبيتهم ـ حسب التصوُّر الصهيوني ـ مرتبطون عضوياً ارتباطاً تاماً بوطنهم ويريدون "العودة" إليه لينهوا حالة الشتات وليحققوا وحدة الشعب اليهودي بأرضه اليهودية. ومن هنا تسمية القانون بـ «قانون العودة».

ويعني هذا الافتراض أيضاً أن فلسطين "أرض بلا شعب"، وأنه إن وُجد شعب فيها في عشرات القرون الماضية فهو وجود عرضي ومؤقت ولا يُضفي على أعضاء هذا الشعب أية حقوق ثابتة، إذ أن اليهود وحدهم لهم حقـوق عضوية مطلقـة في أرض فلسـطين، أو إرتـس يسرائيل، كما يُقال في الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية واليهودية.

لكل هذا نص قانون العودة صراحةً على حق كل يهودي في الهجرة أو العودة إلى إسرائيل (بعد آلاف السنين "من الغياب المؤقت")، وأنكر بشكل ضمني هذا الحق علىالفلسطينيين الذين هاجروا من أرضهم عام 1948 حتى يبـقى المجـال الحيوي لليهود وللدولة اليهودية. خالياً من العرب. ونص القانون على حق كل يهودي في الهجرة إلىإسرائيل ما لم يكن وزير الداخلية مقتنعاً بأن طالب الهجرة يمارس نشاطاً موجَّهاً ضد اليهود، أو يمكن أن يعرض الأمن والصحة العامة للخطر، أو أن له ماضياً إجرامياً. وتضمَّن مواد هذا القانون الفريد حق اليهودي، في حالة رفض هجرته لغير الأسباب السابقة، في اللجوء إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لإجبار السلطات على السماح لهبذلك حتى لو ظل مواطناً أجنبياً على أرض دولة أخرى. كما يمنح القانون الأشخاص الذين يدخلون إسرائيل بموجبه الجنسية وحقوق المواطنة على الفور.

وبموجب المادة الرابعة من قانون العودة، يُعتبَر كل يهودي هاجر إلى فلسطين (قبل سريان القانون) وكل يهودي مولود فيها (قبل سريانه أو بعده) شخصاً جاء إلى فلسطين بصفة "مهاجر عائد". ورغم أن هذا القانون قانون هجرة وليس قانون جنسية، فإن اعتماد جوهره في قانون الجنسية الإسرائيلية جعل منهما كلاًّ متكاملاً.

وقد أشار بن جوريون إلى طبيعة قانون العودة إبان عرضه على الكنيست، حيث ذكر أن هذا القانون لا يمنح اليهودي "الحق" في الهجرة إليها، فهذا الحق كامن في كل يهودي باعتباره يهودياً، وإنما يهدف القانون إلى تحديد طابع الدولة الصهيونية وهدفها الفريد، فهذه الدولة تختلف عن بقية دول العالم من حيث عناصر قيامها وأهدافها،وسلطتها محصورة في سكانها ولكن أبوابها مفتوحة لكل يهودي حيث وُجد. وأكد بن جوريون أن قانون العودة هو التعبير القانوني عن الرؤية الصهيونية (من هنا وصفنا لقانون العودة بـ «الصهيوني»).

وفي مارس عام 1970، أدخل الكنيست تعديلاً جديداً على القانون، عقب نشوب أزمة وزارية متكررة الحدوث حول تعريف اليهودي. وتَضمَّن التعديل أن اليهودي هو «المولود لأم يهودية أو المهتدي إلى الدين اليهودي والذي لا يدين بدين آخر». كما نص على أن تُمنَح الجنسية الإسرائيلية بصورة آلية لجميع أفراد الأسرة المهاجرة من غير اليهود.

وعُدِّل قانون العودة فيما بعد، ووفقاً لهذا التعديل لا تُشتَرط الإقامة في إسرائيل أو إتقان اللغة العبرية أو حتى التنازل عن الجنسية الأخرى، ويُكتفى للاستفادة بقانون العودة أن يعرب المهاجر على نيته في الاستقرار في إسرائيل.

وقد قارن كثير من الكُتَّاب اليهود والإسرائيليين بين قانون العودة والقوانين النازية. فعلى سبيل المثال، أعـرب الأستاذ الإسرائيلي د. كونفيتس ـ خلال النقاش الذي دار قبل الموافقة على قانون العودة ـ عن مخاوفه من احتمال مقارنة هذا القانون بالقوانين النازية، ما دام يُجسِّد مبدأ التمييز بين الأفراد على أساس ديني أو عرْقي.

وبعد صدور هذا القانون، حذَّرت جريدة جويش نيوزلتر، في عددها الصادر في 12 مايو 1952، من أن هذا القانون يعيد إلى الذاكرة النظرية العنصرية الخطيرة القائلة بأن الفرد الألماني يتمتع بمزايا جنسيته، بغض النظر عن المكان الذي يوجد فيه.

وفي مقارنة عقدها روفن جراس بين قانون العودة والقوانين النازية، بيَّن أن قانون العودة يمنح امتيازات الهجرة لأيِّ يهودي بموجب تعريف قـوانين نورمبرج: أي أن يكون جـده يهـودياً. ويؤكد حاييم كوهين، الذي كان قاضياً بالمحكمة العلـيا في إسـرائيل أن "من سخرية الأقدار المريرة أن تُستخدَم نفس الأطروحات البيولوجية والعنصرية التي روَّج لها النازيون والتي أوحت لهم بقوانين نورمبرج الشائنة، كأساس لتعريف الوضع اليهودي داخل دولة إسرائيل".

وهناك، على الأقل، حالة واحدة معروفة، قامت فيها السلطات الدينية في إسرائيل بالرجوع إلى السجلات النازية، للتأكد من الهوية العنصرية الدينية الإثنية لأحد المواطنين الإسرائيليين. ورغم أن قانون العودة هو الإطار القانوني للإحلالية والتوسعية والعنصرية الصهيونية، وهو مصدر الهوية اليهودية المزعومة للدولة الصهيونية (ومن ثم فهو أساس عزلتها وعدائها لجيرانها)، ورغم أن أعداد اليهود التي ترغب في "العودة" إلى إسرائيل آخذة في التناقص (ومن هنا الضغط على اليهود السوفييت للهجرة إلى إسرائيل)، فإن جميع اتفاقيات ومعاهدات السلام لم تتعرض له من قريب أو بعيد. بل طُلب من منظمة التحرير الفلسطينية أن تلغي بنوداً أساسية في ميثاقها، بينما لم يطلب أحد من إسرائيل أن تلغي قانون العودة.

ونحن نرى أن قانون العودة هو أهم تجسد للاستيطانية الإحلالية الصهيونية، أي أهم تجسد لجوهر الصهيونية. ولا يوجد حل إلا بمحو هذا الجوهر، أي نزع الصبغةالصهيونية عن الكيان الصهيوني. ويمكن أن يأخذ هذا المطلب المجرد شكلاً إجرائياً متعيناً من خلال إما إلغاء قانون العودة أو أنسنته بمعنى أن يطبق على كل من الفلسطينيين واليهود دون تمييز، وأن يكون المقياس الوحيد هو حاجة فلسطين المحتلة إلى كثافة بشرية ومقدرتها الاستيطانية.

الطرق الالتفافية

By-Pass Roads

هي طرق تبنيها الدولة الاستيطانية الإحلالية الصهيونية يقتصر استخدامها على المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية بحيث تتحوَّل التجمُّعات الفلسطينية إلى كانتونات مُحاصَرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية والمنشآت العسكرية. والطرق الالتفافية بذلك تكون بمنزلة سياج أمني حول المستوطنات، كما أنها تجعل المستوطنين الذين يعيشون وسط القرى والمدن العربية قادرين على التحرك دون أن يضطروا إلى عبور الأراضي الفلسطينية أو مواجهة الفلسطينيين.

وتستند خطة الاستيطان أمناه (وهي برنامج واسع للاستيطان والبناء في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة) على نظام متكامل من الطرق الالتفافية أعلنها الجيش الإسرائيلي رسمياً في أواخر سنة 1994 أثناء حكم حزب العمل واكتسبت شرعيتها من خلال اتفاق توسيع الحكم الذاتي عام 1995 (أوسلو ـ2) وموافقة السلطة الفلسطينية عليها لارتباطها بخطة إعادة الانتشار من المناطق الفلسطينية الآهلة.

وقد كثَّفت إسرائيل بناء هذه الطرق التي تخترق معظم مناطق الضفة الغربية المأهولة بالسكان منذ عام 1995، يتم من خلالها تجديد طرق ترابية قائمة وشق أخرى،إضافة إلى فتح طرق سريعة من الشمال إلى الجنوب عبر وادي الأردن، وشق مداخل ومخارج جديدة في شمال الضفة الغربية، وشق مجموعة طرق عسكرية. وأهم هذه الطرق الطريق رقم 60، والطريق رقم 20.

وقد بلغ عدد هذه الطرق عام1996 حوالي عشرين طريقاً تغطي 400 كم تتفرع من الطريق الرئيسي المعروف باسم «الطريق 60» الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب لجزئي الضفة الغربية. وبعض هذه الطرق ما زال قيد الإنشاء، وتعتزم سلطات الاحتلال بناء خمس طرق أخرى. ويلتف الطريق 60 حول المدن الفلسطينية في الضفة ويربط عشرات المستوطنات المنتشرة في كل أنحاء الضفة.

ويتم الاستيلاء على معظم الأراضي اللازمة لبناء هذه الطرق من خلال أوامر وضع اليد، وهي غطاء قانوني يحجب المصادرة، وهي أولى الخطوات نحو المصادرة النهائية، والتبرير المعطى في أكثرية أوامر وضع اليد هو الأمن والضرورة العسكرية، وهو تبرير لا يمكِّن المُلاك الفلسطينيين من الاحتجاج ضده.

وتؤدي هذه الطرق إلى إتلاف آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية وتدمير مئات المنازل، وإلحاق خسائر فادحة لأن هذه الأراضي مزروعة بكثافة بأشجار الزيتون،الأمر الذي يؤدي إلى تدمير مصدر رزق العائلات الفلسطينية الوحيد. كما يؤدي شق هذه الطرق إلى إعاقة نمو القرى الفلسطينية والحد من قدرة البلديات الفلسطينية على توسيع الخدمات البلدية.

كل هذا يجعلنا نرى الطرق الالتفافية لا باعتبارها مجرد ظاهرة سياسية اقتصادية وإنما صورة مجازية تعبِّر بشكل متبلور عما آل إليه الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين المحتلة. فهو استيطان يستند إلى أكذوبة (أرض بلا شعب) لم يَعُد بمقدور صاحبها الاستمرار فيها فدب فيها الموت. ولكن الأكذوبة أساسية لبقائه واستمراره ولذا فهو يحاول أن يتشبث بها ويبث فيها الحياة بقدر الإمكان بالطرق الالتفافية، فهي محاولة أخيرة يائسة بعد أن فشل الاستيطان الصهيوني في جانبه الإحلالي، ولم يتمكن من إبادة الشعب أو طرده أو حتى تقليل كثافته وأثبتت فلسطين أنها ليست أرضاً بلا شعب بل أرض مأهولة يزرعها ويحرثها نسلها. ولذا فالحل أن تصبح فلسطين "أرضاً يسكنها شعب لا تقع عيوننا عليه، فكأنها بالفعل أرض بلا شـعب، وإن ظـهر الشـعب على طرقنـا الالتـفافـية حصدته رصاصات جيش الدفاع الإسرائيلي، فتستمر الأكذوبة".

ومن الواضح أن فلسـطين ثابتة، فمدنها وقراها لا تتحول، وسكانها لا يكفون عن المقاومة. فالطرق الالتفافية من ثم تعبير عن قدرة الصهاينة على خداع الذات. ولكنه خداع للذات يكلف صاحبه الكثير من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. فالطرق الالتفافية تتناقض مع أبسط معايير الجدوى الاقتصادية (أن يكون هناك طريق للمستعمر وآخر للسكان الأصليين) وهدفها تحقيق قدر كبير من الراحة النفسية لصاحبه. ولكن لا شك في أن وجود الجنود الإسرائيليين لحراسة هذه الطرق يؤدي إلى القلق ويُذكِّر المستوطنين "بالشعب الذي لا تقع عيوننا عليه".

والطرق الالتفافية تُذكِّر المرء بتجربة أعضاء الجماعات اليهودية في أوكرانيا حين أسس النبلاء البولنديين (شلاختا) للمتلزمين اليهود (أرانداتور) مدناً صغيرة شُتلت شتلاً في أوكرانيا (الشتتل) وهي جيتوات متكاملة كان أعضاء الجماعة اليهودية الوظيفية يمارسون فيها حياتهم كاملة، لا يتعاملون مع البيئة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية المحيطة (بل والمحدقة) بهم، فهم فيها وليسوا منها، لا يتعاملون مع الأغيار إلا في السوق، في عمليات التبادل المجردة، التي لا تتخللها أية حميمية ولا تعبِّر عن أيِّ تراحم. والطرق الالتفافية تحقق هذا للمستوطنات الصهيونية المشتولة في الضفة الغربية، فهم في الضفة الغربية وليسوا منها، ولا يقابلون السكان الأصليين إلا في السوق.

ورغم أن إقامة الشتتلات كان يهدف إلى حماية أعضاء الجماعة اليهودية، حتى يمكنهم الاستمرار في استغلال الفلاحين الأوكرانيين لصالح النبلاء البولنديين، فإن الشتتلات تحوَّلت إلى معازل محصنة مسلحة، وحتى المعبد اليهودي نفسه تمت إعادة صياغته معمارياً بحيث أصبح معبداً وقلعة في آن واحد، يتعبد فيه اليهود ومنه يقاتلون، معبداً له أبراج بها كوات تخرج منها المدافع والبنادق، وهو ما يُذكِّرنا بالدولة الصهيونية الوظيفية، التي تزعم أنها في الشرق الأوسط وليست منه، والتي تحاول ألا تتعامل مع العرب إلا في السوق الشرق أوسطية. فهي الدولة/الشتتل، أو الدولة/الجيتو وهي في الوقت نفسه المعبد/القلعة.

وقد كان الجنود البولنديون يقومون على حراسة الشتتلات حتى لا يهاجمها الفلاحون الأوكرانيون، وهذا ما يفعله الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي الذي يصب في الكيان الصهيوني فيقوي عضده ويجعله قادراً على بناء طرق التفافية ليس لها أية جدوى اقتصادية. وحينما هبت انتفاضة شميلنكي لم تكتسح في طريقها القوات البولندية وحسب وإنما اكتسحت الشتتلات المحصنة والمعابد/القلاع أيضاً.

ومن هنا خطورة الطرق الالتفافية، فبدلاً من أن يواجه الإسرائيليون طبيعة وضعهم ويتعاملوا معه خارج الإطار الصهيوني (الذي يؤدي إلى عَزْل الآخر وتحصين الذات وإطاحتها بسياج عسكرية) فإنهم يحاولون إطالة عمر الأكذوبة، وهو ما يعني أن الفلسطينيين لن ينالوا حقوقهم إلا من خلال الانتفاضات المتتالية، التي ستقضي على الطرق الالتفافية وغيرها من الطرق.

المعــــــــــــــــــازل

Ghettos; Palestinustans

«المعازل» كلمة عربية تُستخدَم لوصف القرى والمدن العربية في الضفة الغربية، وربما يقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة «جيتو». فبعد أن تحقَّق الصهاينة من أن فلسطين أرضاً بلا شعب، وبعد إدراكهم أن الشعب لا يود أن يخضع لآليات الترانسفير المختلفة، بل إنه يتوالد ويتكاثر تقرَّر تأسيس مستعمرات استيطانية صهيونية في مناطق إستراتيجية وطرق التفافية مختلفة تربط هذه المستعمرات بحيث تتحوَّل القرى والمدن الفلسطينية إلى "مناطق" مأهولة بالسكان معزولة خاضعة للرقابة العسكرية الصارمة، وتمارس حق تقرير المصير في حدود المفهوم الصهيوني للإدارة الذاتية بحيث تتحول فلسطين من وطن إلى أرض، ومجموعة من القرى والمدن الممتازة "يُعزَل" الفلسطينيون فيها ويتم حصارهم.

وهذا المفهـوم ليـس جديـداً. فالنازيون أسَّسوا جيتوات خاصة باليهود (في وارسو ولودز) كانت تتمتع بصلاحيات إدارية واسعة لا تختلف كثيراً عن الصلاحيات التي تتمتع بها السلطة الفلسطينية. كما أن مفهوم البانتوستان أي المعازل التي تم تأسيسها في جنـوب أفريقيـا للسـكان السـود لا تخـتلف كثيراً عن المعازل التي أسَّسها المستوطنون الصهاينة ومن هنا تسميتنا لها «الفلسطينوستان».

البلــدوزر الإسـرائيلي

The Israeli Bulldozer

يرتبط الاستيطان الصهيوني في الأذهان بالمدفع الرشاش والنابالم والقنابل. ولكن هناك رموزاً أخرى أصبحت ذات أهمية خاصة. فمع بدايات الاستيطان كان هناك أسلوب السور والبرج في اغتصاب الأرض وطرد سكانها حيث كان يُحضر مئات من المستوطنين الصهاينة أبراج مراقبة والأكواخ الجاهزة في ظلام الليل، ثم يحيطون قطعة أرض بالأسلاك الشائكة يقيمون فيها أبراج الحراسة بحيث يستيقظ أصحاب الأرض في الصباح فيجابهون أمراً واقعاً مسلحاً لا يملكون إلا الخضوع له أو الحرب ضده.

ومع ظهور الدولة الصهيونية تطوَّر هذا الأسلوب، فلم يعد هناك حاجة لبرج الحراسة، إذ تأتي القوات الإسرائيلية ومعها البلدوزر الإسرائيلي.

والبلدوزر الإسرائيلي له طبيعة مزدوجة فهو يُستخدَم لهدم بيوت الفلسطينيين من جانب وبناء المستوطنات من جانب آخر، ومن ثم فهو رمز حقيقي للاستعمار الاستيطاني الإحلالي. وعملية هدم بيت فلسطيني تشبه عملية حربية يشارك فيها مئات الجنود الإسرائيليون في سواد الليل أو عند الفجر ويصحبها حظر التجول في عموم القرية أو البلدة. وهذا الاستخدام المُبالَغ فيه بل الاستعراضي لرموز العنف يجعل هدم بيت واحد بمنزلة رسالة نفسية لبلدة بأسرها. وعملية الهدم نفسها تجرى بشكل بالغ التكثيف والكثافة (دقائق معدودة بين الإنذار بمغادرة البيت وبين تفجيره بالديناميت وإزالته بالبلدوزر).

ولا يخفى ما يحمله هذا التكثيف من دلالة، فالبيت الذي بناه الأجداد والآباء وتحوَّل إلى مخزن للحياة المشتركة والتراث والذكريات والأحلام على مدى عشرات السنين ينهار أمام أصحابه في دقائق وربما دون أن يتمكنوا من إنقاذ ما يمكن إنقـاذه من مقتنيـات تحتـضن معنى الحياة المشتركة عميقة الجذور.

ثم يبدأ البلدوزر بعد ذلك في عمليات تمهيد الأرض اللازمة لبناء المستوطنات الصهيونية.

الباب الثالث: التهجير (الترانسفير) والهجرة الاستيطانية

الترانسفير (التهجـير) الغربي لبعض أعضـاء الجماعات اليهوديـة

Western Transfer of Some Members of Jewish Communities

إن انتقال (هجرة) إنسان من وطن إلى أي مكان آخر عملية بالغة القسوة، فعلى هذا الإنسان أن يقتلع نفسه من جذورها ويستقر في مكان آخر، ويغيِّر نمط حياته بل ومنظومته القيمية أحياناً. وعملية نَقْل الإنسان قسراً (تهجير أو ترانسفير) مسألة وحشية. ومع هذا، يمكن القول بأن الحضارة الغربية الحديثة حضارة توجد داخلها إمكانية كامنة للهجرة والتهجير، فهي حضارة الترانسفير المستمر: أن ينتقل الإنسان بنفسه دائماً، ويقوم بنقل الآخرين.

والحضارة الغربية الحديثة تنظر لأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم مادة بشرية تُنقل وتُوظَّف، لا يختلفون عن أية مادة بشرية أخرى. ومع هذا، فإن ثمة عناصر خاصة بالجماعات اليهودية جعلتهم عُرضة للنقل (الترانسفير) أكثر من غيرهم من العناصر البشرية:

1 ـ حلت أوربا مشكلة أعضاء الجماعات اليهودية منذ العصور الوسطى عن طريق طرد اليهود من إنجلترا ثم فرنسا فإيطاليا فألمانيا إلى أن استقر بهم المقام في بولندا وروسيا. وقد كانت عملية الطرد تتم في إطار أنهم جماعة وظيفية حركية يمكن توظيفها في أي مكان، فالجماعة الوظيفية لا ترتبط بوطن وإنما بوظيفة. وحينما بدأت الحركة الاستعمارية الاستيطانية الغربية أصبح يهود أوربا جزءاً لا يتجزأ منها، وتوجهت حركة الهجرة اليهودية حيثما توجَّه الاستعمار الاستيطاني الغربي. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى أن اليهود أعضاء في جماعة وظيفية تتسم بالحركية وينظر لها المجتمع نظرة محايدة، فهي جزء يُوظَّف وموضوع يُستخدَم. ولذا، حينما تعثَّر التحديث في روسيا وشرق أوربا، طُرحت فكرة تهجير اليهود ونقلهم كحل للمسألة اليهودية.

2 ـ ومما ساعد على جعل فكرة نَقْل اليهود مطروحة دائماً تصوُّر الغرب لهم وتصوُّرهم هم لأنفسهم أحياناً كجزء من تاريخ يهودي مستقل عن التاريخ الأوربي، وبالتالي فهم ليسوا جزءاً من أوربا، وإن تواجدوا فيها فهم متواجدون على الهامش وحسب وبشكل عرضي مؤقت، وهي فكرة دعمها وضعهم الهامشي في العصور الوسطى.

3 ـ ارتبط اليهود دائماً بفكرة الخروج من المنفى (مصر ـ بابل) والتغلغل في كنعان (فلسطين)، وهو ما يوحي بأنهم دائماً في حالة خروج من المنفى (أوربا) وفي حالة ارتباط عضوي دائمة بفلسطين.

4 ـ ولا شك في أن الرؤية الدينية المسيحية البروتستانتية الحلولية رؤية حرفية ترى اليهود كياناً مستقلاً له تاريخ مستقل هو في جوهره امتداد للتاريخ التوراتي، وهي رؤية ترى أن روايات العهد القديم وأساطيره لا تزال لها دلالتها الحرفية ومصداقيتها «الآن وهنا». ومن أهم هذه الأساطير أسطورة الخروج من مصر. بل إن التاريخ اليهودي يبدأ، حسب هذه الرؤية، بهذا الخروج ويصل ذروته بعد الاستقرار في فلسطين، ثم يأتي بعد ذلك التهجير إلى بابل والعودة منها، ثم الخروج من القدس بعد سقوط الهيكل والأمل في العودة. وداخل هذا الإطار الأسطوري أصبحت مسألة نَقْل اليهود مطروحة على مستوى الوجدان الديني (المسيحي واليهودي).

5 ـ خلقت صهيونية غير اليهود (بديباجاتها المختلفة) المناخ الملائم لعملية النقل هذه، وقد تسربت هذه الرؤية إلى اليهود بكل حرفيتها بحيث بدأت قطاعات من اليهود تنظر لأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم شيئاً يمكن نَقْله.

6 ـ أدَّى تدهور الدولة العثمانية وبروز أهمية فلسطين الإستراتيجية إلى زيادة الاهتمام بنَقْل اليهود نظراً لارتباطهم بفلسطين في الوجدان الغربي.

7 ـ يبدو أنه كان ثمة وهم أن فلسطين يمكن شراؤها، وهو موضوع يتكرر في الكتابات الصهيونية. وقد ذكر أحد المؤرخين الصهاينة أنه، في تلك الفترة، قامت أمريكا بشراء فلوريدا من إسبانيا وألاسكا من روسيا ولويزيانا من فرنسا. وهذا تعبـير عن علمنة الحيز والمكان بشكل عام.

لكل هذا، يمكن القول بأن عملية نَقْل اليهود كانت مطروحة على الوجدان الغربي ولم تكن مسألة بعيدة عن الأذهان، وهو ما أدَّى إلى ظهور الصيغة الصهيونية الأساسيةالشاملة. هذا لا يعني أن العوامل التي أسلفنا الإشارة إليها هي التي أدَّت إلى نَقْل اليهود وتهجيرهم، فمثل هذا القول بسيط ساذج ومخل يسقط في السببية البسيطة. وكل ما نقوله هو أن هذه العوامل خلقت المناخ العاطفي الذي يسمح بتقبُّل مثل هذه الفكرة الوحشية الهمجية. وقد طُرح مشروع نَقْل اليهود بشكل جماعي من رومانيا، وقد استحسنه القنصل الأمريكي في بوخارست وعارضه زعماء الجماعة اليهودية هناك.

ولكن الصهيونية بين اليهود قامت بتهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة حتى أصبح من اليسير على أعضاء الجماعات اليهودية استبطانها وأصبح الترانسفير مسألة مطروحة داخل وجدانهم.

الترانسفير (التهجير) الصهيوني لبعض أعضاء الجماعات اليهودية

Zionist Transfer of Some Members of Jewish Communities

يعبِّر التهجير في العادة عن نَقْل جماعة سكانية من مكان إلى أخر بدون سعي منها أو بدون موافقتها، وذلك لأسباب تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهو يختلف عن الهجرة التي تتم بإرادة المهاجر. ومن أهم الأمثلة على التهجير: تهجير اليهود إلى بابل والذي يُسمَّى «السبي البابلي» ونطلق عليه هنا «التهجير البابلي»، وتهجير الهنودالحمر (سكان أمريكا الأصليون) من المناطق التي كانوا يستقرون فيها إلى مناطق أخرى (وهو تهجير كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى إبادة أعداد كبيرة منهم).

ويُشار إلى التهجير أحياناً بأنه «ترانسفير» أي «نَقْل». ويمكن القول بأن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي في جوهرها عملية نقل (ترانسفير) لمجموعة من المصطلحات والمفاهيم الدينية من مستواها الديني والمجازي إلى المستوى الزمني المادي الحرفي (وهذه سمة أساسية في الخطاب الحلولي التجسيدي حيث تتحول الكلمة إلى مادة ويتحول الدال إلى مدلول ويتداخل المطلق والنسبي). فالشعب المختار، حسب المفهوم الديني اليهودي، جماعة دينية تلتزم بمجموعة من العقائد، فينقل هذا المفهوم من السياق الديني ليصبح شعباً بالمعنى العرْقي أو يصبح مادة بشرية فائضة. أما صهيون، وهي المكان الذي سيعود إليه الماشيَّح في آخر الأيام، فتصبح بقعة جغرافية في الشرق الأوسط ذات قيمة إستراتيجية واقتصادية يُصدَّر لها الفائض البشري ويُوطَّن ويُوظَّف فيها. والواقع أن عملية نَقْل المصطلحات هذه من مستواها الديني والمجازي إلى المستوى الزمني والحرفي ينجم عنها ظهور صيغة تنطوي على عمليتي نَقْل سكاني:

1 ـ نَقْل اليهود من المنفى إلى فلسطين.

2 ـ نَقْل الفلسطينيين من فلسطين إلى المنفى.

وقد بدأت عملية النقل السكاني الثانية، بشكل متقطع وغير منظم، في أواخر القرن التاسع عشر على يد الصهاينة التسلليين، ثم استمرت بطريقة منهجية بعد وعد بلفور تحت رعاية حكومة الانتداب في النصف الأول من القرن العشرين، ثم وصلت إلى ذروتها عام 1948. واستمرت العملية بشكل منظم من قبل الدولة الصهيونية لتصل إلى ذروة أخرى عام 1967 وهكذا. ولا يزال التهجير القسري للعرب مستمراً حتى الوقت الحاضر إما عن طريق "تشجيع" العرب على تَرْك فلسطين أو إرهابهم أو طردهم بموجب قرار من الحكومة الإسرائيلية.

ولكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن الصهيونية كانت وما زالت حركة مبنية أيضاً على تهجير اليهود، فهي حركة توطينية استيطانية، كما أن تدفُّق المادة البشرية القتالية على المُستوطَن الصهيوني مسألة أساسية وحيوية بالنسبة له حتى يستمر في الاضطلاع بوظيفته القتالية. ولذا، نجد أن الحركة الصهيونية كثيراً ما تلجأ إلى عملية تهجير قسرية لبعض يهود العالم.

وتبدأ عملية التهجير القسري بمحاولة خَلْق ما يمكن تسميته «الصهيونية البنيوية» أي الصهيونية التي تتجاوز المشروع المعلن والشعارات المطروحة لتخلق وضعاً (بنيوياً) يجعل استمرار أعضاء الجماعات اليهودية في الحياة في أوطانهم صعباً ويجعل رفضهم الصهيونية شبه مستحيل. وأولى هذه المحاولات كانت وعد بلفور حيث سعى الصهاينة إلى استخدام عبارة «العرْق اليهودي» بدلاً من «الشعب اليهودي» حتى يجعلـوا كل يهودي، شـاء أم أبى، عضـواً في هذا الشـعب، إذ أن الانتماء العرْقي لا يترك مجالاً لاختيار، ومن ثم تسقُط صفة المواطنة عن يهود العالم فيضطرون إلى الهجرة.

وقد أخذ التهجير شكل التعاون مع القوى المعادية لليهود (فون بليفيه، وزير داخلية روسيا القيصرية، وبتليورا، الزعيم الأوكراني، وأخيراً النظام النازي نفسه) وتوقيع معاهدة الهعفراه (أي التهجير أو الترانسفير). وتأخذ محاولة التهجير أيضاً شكل إغلاق باب الهجرة في العالم أمام أعضاء الجماعات اليهودية بحيث يتجهون، شاءوا أم أبوا، إلى أرض الميعاد. وينطبق هذا على يهود روسيا السوفيتية حيث تحاول المنظمة الصهيونية تحويل الهجرة التلقائية إلى الولايات المتحدة إلى تهجير قسري إلى إسرائيل عن طريق إغلاق باب الولايات المتحدة أمامهم وفتح أبواب إسرائيل، ومنع المنظمات اليهودية من مساعدة اليهود السوفييت المهاجرين إلى الولايات المتحدة.

ويمكن أن نرى هجرة يهود العالم العربي، وخصوصاً يهود العراق، على أنها عملية تهجير قام بها الصهاينة بخلقهم الظروف الموضوعية والبنيوية التي أضطرت أعضاءالجماعة اليهودية إلى الهجرة، مثل وضع القنابل في المعبد اليهودي في العراق أو تجنيد بعض يهود مصر لوضع قنابل في السفارات الأجنبية، وهو ما أدَّى إلى تدهور وضع الجماعات اليهودية في مصر. وغني عن القول أن الخطاب الصهيوني، حينما يتحدث عن التهجير (الترانفسير)، يتحدث عن العرب وحسب. ولكن مع الهجرة السوفيتية الأخيرة ومع جفاف مصادر الهجرة البشرية للدولة الصهيونية ومع رفع شعارات مثل السوق الشرق أوسطية وعملية السلام فإن الدولة الصهيونية تلجأ إلى الإغواء أكثر من القسر.

الخــــلاص الجـــبري

Forcible Redemption

«الخلاص الجبري» مصطلح قمنا بسكه لوصف المحاولات الصهيونية التي تهدف إلى غزو الدياسبورا، أي الجماعات اليهودية في العالم، لإرغام أعضائها على ترك أوطانهم والهجرة إلى إسرائيل، ذلك لأن هجرتهم هذه (تهجيرهم ـ ترانسفير) فيها خلاص لهم من النفي في أرض الأغيار. فالصهيونية تفترض أنها تعرف ما فيه صالح أعضاء الجماعات اليهودية وأن يهود المنفى غافلون عما يحيق بهم من أخطار مادية ومعنوية، ونظراً لغفلتهم هذه فإنهم لا يُبدون حماساً كبيراً للهجرة إلى إسرائيل. وقد وصف أحد المسـئولين الإسـرائيليين هـذا الوضع بقوله: "إننا نجد أنفسنا مضطرين إلى سحب كل مهاجر جديد إلى إسرائيل وكأنه بغل حرون". وطالب بضرورة التدخل الجراحي، أي ضرورة تخليص اليهود بالإكراه.

والخلاص الجبري يأخذ أشكالاً كثيرة من بينها إصدار تصريحات وممارسة نشاطات صهيونية من شأنها تعريض أعضاء الجماعات اليهودية لتهمة ازدواج الولاء. ومن الأمثلة على هذا ما قامت به جولدا مائير حين كانت تشغل منصب وزير خارجية إسرائيل (عام 1960) إذ بعثت رسالة رسمية إلى بعض الحكومات الغربية تحتج فيها على أحداث وقعت في تلك الدول تنطوي على عداء لليهود، وكأن إسرائيل هي المسئولة عن يهود العالم، وكأنها بالفعل قادرة على التدخل لحمايتهم، وكأن يهود العالم قد فوضوها أن تتحدث باسمهم وتدافع عنهم.

ويأخذ الخلاص الجبري أحياناً شكل قَطْع المعونات عن المهاجرين اليهود الذين يرفضون الاتجاه لإسرائيل كما حدث مع بعض نزلاء معسكرات المرحَّلين بعد الحربالعالمية الثانية الذين كانوا يرغبون في الهجرة إلى الولايات المتحدة. فقد مارس الصهاينة شتى أنواع الضغط عليهم من حرمان من حصص الطعام وطرد من العمل وحرمان من الحماية القانونية وضمن ذلك حق الحصول على تأشيرة السفر. وكانوا في بعض الأحيان يُطردون من المعسكر كليةً. وتجري ممارسة نفس الضغط في الوقت الحاضر على المهاجرين السوفييت الذين يودون الاتجاه إلى الولايات المتحدة. ومن أشكال الخلاص الجبري الأخرى، توريط المستوطنين الجدد في إسرائيل من خلال إعطائهم معونات كبيرة يقومون بإنفاقها ويصبح من المستحيل عليهم سدادها. وقد مورست هذه الحيلة على نطاق واسع جداً مع المهاجرين السوفييت في السنين الأخيرة. وقد صرح كاتب في جريدة دافار بأنه لو كان الأمر بيده لبعث مجموعة من الشبان الإسرائيليين الصهاينة المتحمسين ليتولوا مهمة الخلاص الجبري ليهود الشتات المتفرقين عن طريق التخفي وإثارة ذعر اليهود بإطلاق شعارات معادية لليهود مثل "اليهود الملاعين" و"أيها اليهود اذهبوا إلى فلسطين" (والشعار الأخير، على كلٍّ، هو شعار صهيوني ومعاد لليهود في آن واحد). ولعل أهم حوادث الخلاص الجبري التي قامت بها الحركة الصهيونية هي عملية العراق حين بعثت الدولة الصهيونية عملائها إلىالعـراق حيـث زرعـوا المتفجرات في أماكن تجمُّع أعضاء الجماعة اليهودية، وفي المعابد اليهودية، لإرهابهم "وتشجيعهم" على الفرار أو الخلاص الجبري.

إرهاب (ترانسفير) يهود العراق

Transfer of Iraqi Jews

من أهم العمليات الإرهابية التي قام بها الصهاينة ضد إحدى الجماعات اليهودية لإرغام أعضائها على الهجرة (الترانسفير)، وذلك لتحقيق الخلاص الجبري أو غزو الدياسبورا، وهي العملية التي دُبِّرت ضد يهود العراق بعد إعلان الدولة الصهيونية.

كان المجتمع العراقي يمر بمرحلة انتقالية في الأربعينيات، وكانت هناك صعوبات تكتنف حياة جميع الأقليات الدينية والعرْقية هناك، وضمنها الأقلية اليهودية. وفي سنة 1941، قامت مظاهرات معادية للجماعة اليهودية، ولكنها "الأولى من نوعها" كما تقول موسوعة الصهيونية وإسرائيل. وفي النهاية، كان لليهود العراقيين نصيبهم العادي من السعادة والشقاء، ففي ديسمبر 1934 أرسل السير ف. همفري، السفير البريطاني في بغداد، برقية سرية إلى وزارة الخارجية البريطانية، قال فيها أن الجماعة اليهودية في العراق "تتمتع" بوضع موات أكثر من أية أقلية أخـرى في البـلاد، وأوضـح أنــه "ليـس هنـاك عداء طبيــعي بـين اليهــود والعـرب في العــراق"، ويبدو أن تقرير السفير البريطاني كان دقيقاً بصفة عامة، فيهود العراق كانوا مؤمنين بأنهم عراقيون (أساساً) يرجع نَسبَهم إلى أيام النفي البابلي، وكان عدد كبير منهم يتمتع برخاء نسبي.

وكانت نسبة قيد يهود العراق في المدارس والكليات أعلى كثيراً من النسبة على المستوى القومي، فقد أوضح رافي نيسان (اليهودي العراقي الذي هاجر إلى إسرائيل واستوطن فيها) أنه، على الرغم من أن اليهود العراقيين تركوا ممتلكاتهم خلفهم في العراق، فإنهم أتوا معهم بشيء أكثر أهـمية "من المـال" وهو "خبرتنا وعلمنا"، على حد تعبيره. فثلث المهاجرين من يهود العراق تلقوا تعليماً لمدة أحد عشر عاماً على الأقل وهي نسبة تعلو حتى على النسبة المقابلة بين أولئك القادمين الجدد (إلى الدولة الصهيونية) من أوربا وأمريكا. وأضاف رافي أن "أكثر من 80 في المائة من أرباب الأسر المهاجرة كانوا من الحرفيين المهرة وأصحاب المحال التجارية والمديرين والمحامين والموظفين والمعلمين". وفيما يتعلق بمقدار المشاركة في الحكومة والسلطة، فقد أعلنت الحكومة العراقية "حرية الدين والتعليم والتوظف ليهود بغداد الذين لعبوا دوراً مهماً جداً في تحقيق رخاء المدينة وتطوُّرها". وكان هناك ستة أعضاء يهود في البرلمان العراقي.

ورغم هذا السلام والاستقرار اللذين كانت تتمتع بهما الجماعة اليهودية، قرر الصهاينة جعل العراق هدفاً لنشاطهم. والعراق ـ مثلها في هذا مثل ليبيا ومصر وفلسطين ـ كانت هي الأخرى مطروحة في وقت من الأوقات هدفاً محتملاً لخطة الاستيطان الصهيوني، الأمر الذي كان كافياً في حد ذاته لإثارة التوتر بين أغلبية السكان والجماعة اليهودية. وعندما اقتصرت المخططات الصهيونية على فلسطين (وتخومها)، تحوَّلت الأنشطة الصهيونية عن أرض العراق، وتركزت على يهود العراق، فأسَّس أهارون ساسون (سنة 1919) جمعية في بغداد تُدعى «اللجنة الصهيونية». وأنشأت هذه المنظمة فروعاً لها في عدة مدن عراقية (نحو 16 فرعاً)، بل أرسلت وفداً عنها إلى المؤتمر الصهيوني الثالث عشر (1923)، كما قامت بتنظيم جماعات شبابية لإعداد الشباب المهجرين وطبع عدة نشرات شهرية بالعبرية والعربية، وأسَّست مكتبةصهيونية. وكان الصهاينة يقومون أحياناً ـ بغرض تسميم العلاقات بين يهود العراق وباقي الشعب العراقي ـ بتوزيع منشورات في المعابد تحتوي على شعارات مهيجة، مثل "لا تشتروا من المسلمين" متعمدين أن تصل هذه المنشورات إلى أيدي المسلمين. ونجحت الدعاية الصهيونية، إلى حدٍّ ما، في بذر الشقاق و"المرارة" كما ألمح السفيرالبريطاني في برقيته سنة 1934 لبيان أن منع النشرات الصهيونية من الصدور قد يكون في "صالح اليهود أنفسهم".

ويبدو أنه، برغم الجهود الصهيونية، وبرغم تشاؤم السفير البريطاني، فإن يهود العراق لم يكونوا منعزلين تماماً عن وطنهم. فبعد النشاط الصهيوني الطويل في العراق،وبعد مظاهرات 1941 المؤسفة، اسـتأنف اليهود العراقيـون (بجذورهم الثابتـة في البلاد) حياتهـم الطبيعية، فأقاموا حياً يهودياً. واستثمروا مبالغ ضخمة في مجال البناء في مدينة بغداد، فقد جاء في كتاب لمؤلفة إسرائيلية أن المبعوثين الصهاينة في العراق "أدركوا أن الأيديولوجية الصهيونية لن تلقى قبولاً في معظم الدوائر اليهودية". وقد حاول أحد هؤلاء المبعوثين تجنيد عناصر من بين المثقفين "إلا أنه فشل". ثم جاء قيام الدولة الصهيونية والهزيمة العربية، الأمر الذي أدَّى كما هو متوقع إلى تعقيد الأمور بالنسبة للجميع. فقد أُعفي اليهود العراقيون، الذين كانوا يتولون مناصب تتطلب الاتصال بدول أجنبية، من مناصبهم. وباستثناء مثل هذه الحالات، فإن رد الفعل العراقي كان يتسم بضبط النفس إذا ما أخذنا في الحسبان أبعاد الموقف.

ورغم النشاط الصهيوني المكثف داخل العراق، ورغم تورُّط بعض يهود العراق البارزين في هذا النشاط، لم تنشأ حالة هستيريا شعبية من ذلك النوع الذي يجتاح الرأي العام عادةً في زمن الحرب، وبصفة خاصة في أعقاب الهزيمة. وقد قال كبير حاخامات العراق للحاخام بيرجر سنة 1955: "إننا نسمع أنكم، في الولايات المتحدة، لم تعاملوا مواطنيكم اليابانيين معاملة طيبة أثناء موجة الانفعال العاطفي التي أعقبت بيرل هاربر"، وكان يشير بذلك إلى اعتقال آلاف من الأمريكيين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية.

لقد كان من الممكن أن تنتهي المتاعب وقتها (سنة 1948)، وكان من الممكن أن يستأنف يهود العراق حياتهم، بدرجات مختلفة من التوتر والتوافق، وكان الزمن كفيلاً بجعل الجروح تلتئم. غير أن الصهاينة كان لديهم مخطط مختلف عن هذا، فقد كانت هناك خطوات أساسية لابد من اتخاذها بهدف تحقيق الخلاص "لمائة وثلاثين ألف يهودي ولتحسين موقف إسرائيل، في الوقت نفسه، من حيث عدد السكان". ونحن نعرف من مصادر صهيونية أن حركة صهيونية سرية ـ مثل تلك التي كانت تعمل في مصر ـ قد تأسست في العراق سنة 1941. وأعطيت المنظمة الجديدة (التي بدأت في تعليم الشبان اليهود كيفية استخدام الأسلحة النارية وتصنيع المتفجرات) اسم «حركة الرواد البابليين». وكونت الحركة السـرية جيشـاً شـبه مسـتقل داخل العراق كانت له أسلحته ومجندوه. وفي سنة 1947، كتب إيجال آلون، قائد البالماخ، رسالة إلى دان رام وصفه فيها بأنه "قائد جيتو العراق". وقامت الهاجاناه بتهريب الأسلحة ـ من بنادق وذخائر وقنابل ـ إلى العراق. وقال آلون في رسالته إلى دان رام "إن الهدف من إرسال هذه الأسلحة هو تشجيع كل أشكال الهجرة".

ولكن ما الذي كان يراد من كل هذه الأسلحة (التي عُثر عليها فيما بعد)؟ "هل كنا سنحارب العراق كله بها، هذا على افتراض أن ولاءنا كان متجهاً لإسرائيل، وهو ما لم يكن كذلك في الواقع". إن هذا التساؤل الذي طرحه حاخام عراقي عام 1955 كان له ما يسوغه، وكان من الممكن أن يظل دون إجابة لو لم تتكشف بعض القرائن.

شهدت بغداد عدداً من الحوادث سنة 1950، فقد أُلقيت شحنة ناسفة داخل مقهى اعتاد المثقفون اليهود الاجتماع فيه، ثم انفجرت قنبلة في المركز الإعلامي للولايات المتحدة. ومرة أخرى، نجد أن هذا المركز كان مكاناً اعتاد الشباب ـ وبخاصة اليهود منهم ـ أن يجلسوا فيه ويقرأوا، وعندما انفجرت قنبلة ثالثة في معبد ماسودا شيمتوف، أودى الحادث بحياة صبي يهودي، كما فَقَد رجل يهودي إحدى عينيه. ولا شك في أن المؤرخين الصهاينة كانوا سيصوِّرون هذه الفترة على أنها مذبحـة جماعية أخرى ضد اليهـود، لولا أن النقاب أزيح، بطريق الصدفة، عن مخطط صهيوني منظم للأعمال الاستفزازية.

ومن اليهود الذين ظنوا أن الانفجارات كانت من صنع العرب، يهودي عراقي يُدعَى كوخافي، أصبح فيما بعد مواطناً إسرائيلياً وعضواً بجماعة الفهود السود. لكنه قال إنه سمع إشاعة تتردد في إسـرائيل (بعد أن كان أفـراد الجمـاعة اليهودية العراقية، جميعهم تقريباً، قد هاجروا إلى الدولة الصهيونية) مفادها أن الحادث كان من فعل عميل صهيوني "وقد نُشر هذا الموضوع في الصحف أيضاً، ولم ينفه أحد". وربما كان كوخافي يشير بهذا إلى المقال الذي نشرته صحيفة هاعولام هازيه يوم 29 مايو سنة 1966، والتقرير الذي نشرته مجلة الفهود السود يوم 9 نوفمبر سنة 1972 وهما العملان اللذان أعادا ترتيب الحوادث التي وقعت أثناء المذابح الصهيونية المنظمة وأزاحا النقاب عن الحقيقة البشعة بأكملها.

ففي سنة 1951، أي بعد الانفجار الغامض مباشرةً، شاهد لاجئ فلسطيني من عكا (كان يعمل في أحد المحال الكبيرة في بغداد) أحد رواد المتجر، وعرف أنه يهودا تاجر (الضابط بالحكومة العسكرية الإسرائيلية في عكا). فأبلغ اللاجئ الشرطة العراقية عن وجود الضابط الإسرائيلي الذي قُبض عليه ومعه شالومك تزلاه وخمسة عشر آخرين من أعضاء المنظمة السرية الصهيونية. وكشف تزلاه أثناء التحقيق عن حقيقة المخطط الصهيوني، وأرشد الشرطة العراقية إلى مخابئ الأسلحة في المعابد. وقد حوكم العملاء من أعضاء المنظمة الصهيونية السرية بتهمة محـاولـة "إثـارة ذعـر اليهـود العراقيين لدفعـهم للهجرة إلى إسرائيل"، وصدر الحكم بالإعدام على اثنين من هؤلاء العملاء، وبالسجن لمدد طويلة على الباقين. وقال محام عراقي (من سكان تل أبيب الآن): "لقد كانت الأدلة من القوة بحيث لم يكن شيء ليمنع صدور الأحكام". والآن، يحاول قدوري سليم ـ المواطن الإسرائيلي اليهودي العراقي الذي فقد عينيه في حادث معبد شيمتوف ـ الحصول على تعويض من الحكومة الإسرائيلية.

الهجـرة الصهيونية الاستيطانية قبل عام 1948: تاريخ

Zionist Settler Immigration before 1948: History

يطلق الصهاينة على هجرتهم إلى فلسطين كلمة «عالياه» وهي كلمة عبرية مشتقة من «يعلو»، والمهاجرون هم «عوليم». ولكلمة «عالياه» العبرية معان عدة أولها «الصعود إلى السماء»، وثانيها «الصعود لقراءة التوراة في المعبد أثناء الصلاة»، وثالثها «الصعود إلى إرتس يسرائيل بغرض الاستيطان الديني». وفي العهد القديم، نجدأن الذهاب إلى فلسطين يعبَّر عنه بعبارة «الصعود إلى الأرض»، ومن هنا كانت التسمية «عالياه» من «العلا»، أما الذهاب إلى مصر فيعبَّر عنه «بالنزول إليها»، أي أنالمصطلح العبري مرتبط بطقوس دينية عديدة وله إيحاءات عاطفية. وقد كانت للعالياه أغراض عديدة في التقاليد اليهودية، فمثلاً كانت تتم بغرض الشفاء من الأمراض وللتخلص من الفقر، كما كان الكهول يهاجرون لاعتقادهم أن الدفن في أرض الميعاد يجلب ثواباً كبيراً. وكان البعض «يعلو» إلى إرتس يسرائيل بغرض دراسة التوراة.

وقد استخدمت الحركة الصهيونية هذا المصطلح الديني وجردته من بُعده الإيماني المجازي وأطلقته على حركة الهجرة الصهيونية من شرق أوربا إلى فلسطين في العصر الحديث، وفي هذا تعمية أيديولوجية. فالعالياه مصطلح ديني يصف أفعالاً فردية وأوامر يُفترض فيها أنها ربانية ذات قداسة معينة من وجهة نظر من يقوم بها، ولا يمكن إطلاقه على ظاهرة اقتصادية اجتماعية سياسية يقوم بها فريق من الصهاينة لا يؤمن معظمه بالعقيدة اليهودية. ومن هنا فإننا في دراستنا لظاهرة هجرة اليهود إلى فلسطين سنسقط تماماً كلمة «عالياه» الدينية ونستخدم مصطلح «الهجرة الاستيطانية الصهيونية». ومما له دلالته أن كلمة «هجيراه» العبرية كلمة محايدة تؤدي نفس المعنى، ولكن الحركة الصهيونية تؤثر استخدام المصطلحات التقييمية على المصطلحات الوصفية حتى يمكِّنها فَرْض غمامات أيديولوجية (ومن هنا استخدام مصطلح «يريدا» أي «الارتداد» للإشارة إلى اليهودي الذي يهاجر من إسرائيل).

والاستيطان هو الدعامة الأساسية للمشروع الصهيوني، ولذلك تحاول الحركة الصهيونية أن تدفع اليهود إلى تلك الهجرة وتيسرها لهم.

1 ـ تُقسَّم موجات الهجرة الصهيونية إلى خمس موجات فيما بين عامي 1882 و1944:

الموجة الأولى:

استغرقت الموجة الأولى السنوات من 1882 إلى 1903 تقريباً، وضمت عدداً يصل من 20 ـ 30 ألف مهاجر (بمعدل 1000 مهاجر كل عام). وقد جاءت الأكثرية الساحقة من المهاجرين من روسيا ورومانيا وبولندا (أي من يهود اليديشية)، وقد ارتبطت تلك الموجة بتعثُّر التحديث في تلك البلاد وصدور قوانين مايو، وقد تمت هذه الهجرة تحت رعاية جماعة أحباء صهيون والبيلو بتمويل المليونير روتشيلد. وكان الطابع الاجتماعي العام للمستوطنات التي أقاموها طابعاً رأسمالياً تقليدياً حيث كان اليهود يمثلون «أرستقراطية زراعية مصغرة» يستغلون العمال من اليهود والعرب الذين يعملون بالأجر على السواء. ويبدو أن الأحوال قد ساءت جداً بهذه الجماعات، ولذا كانوا من مؤيدي مشروع شرق أفريقيا الاستيطاني. كما أن اليهود المتدينين الذين كانوا يقيمون في فلسطين من قبل (فيما يُطلَق عليه «اليشوف القديم») لم يرحبوا بهم بسببسلوكهم العدواني تجاه اليهود العرب، ولإثارتهم المشاكل بين الأقلية اليهودية والأغلبية العربية. وكان من أسباب سخط اليهود المتدينين استخدام المهاجرين اللغة العبرية في حديثهم اليومي الدنيوي (فقد كانت العبرية حسب التصور الديني لغة دينية وحسب). كما أثارت مشكلة دينية في سنة شميطاه المفروض فيها إراحة الأرض المقدَّسة وعدم زرعها. ومما هو جدير بالذكر أن عدد اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة في تلك الفترة كان أكثر من نصف مليون، أي أن عدد المهاجرين إلى فلسطين كان حوالي 2% من مجموع المهاجرين اليهود عامة.

الموجة الثانية:

استغرقت الموجة الثانية السنوات من 1904 إلى 1914 تقريباً وضمت عدداً يتراوح بين 35 و40 ألفاً من اليهود (بمعدل 3000 مهاجر سنوياً) معظمهم من العمال الروس. وقد ارتبطت تلك الموجة تاريخياً بالاضطرابات السياسية التي سادت روسيا بعد هزيمتها على يد اليابان. وينحدر معظم أعضاء هذه الموجة من أصول يديشية، وقد كانوا يعيشون في مدن صغيرة (شتتل) الأمر الذي ترك أثره في تفكيرهم وتصوراتهم. ومما يُذكر أن أفراد الصفوة الحاكمة في إسرائيل (بن جوريون وإشكول) كانوا أعضاء فى الموجة الثانية. ويتميَّز أعضاء هذه الموجة بأنهم حَمَلة أفكار الصهيونية العمالية (كما عبَّر عنها سيركين وبوروخوف): المطالبة بالاعتماد على الذات، ممارسة العمل اليدوي، وإبراز الهوية اليهودية. وقد ترجمت هذه الأفكار نفسها في شكل مؤسسات عسكرية زراعية استيطانية مثل الكيبوتس، وفي شكل الإصرار على التحدث بالعبرية (التي كانوا لا يعرفونها لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية) وعلى فلكلور يهود اليديشية الذين كانوا يعتبرونه التراث اليهودي. وبينما اعتمد أعضاء الموجة الأولى على الفلاحين العرب ولم يقووا على الاستمرار دون معاونة المليونير اليهودي روتشيلد، نجد أن أعضاء الموجة الثانية (أصحاب فكرة اقتحام الأرض والعمل) كانوا يعتبرون فلسطين لا بمنزلة ملجأ وحسب وإنما بمنزلة قاعدة إستراتيجية لتنفيذ المشروع الصهيوني.

وجدير بالملاحظة أن عدد اليهود الذين تركوا روسيا القيصرية وبولندا والنمسا ورومانيا في الفترة من عام 1882 ـ 1914 (التي تغطي الموجتين الأولى والثانية) بلغوا أربعة ملايين، على حين كان عدد اليهود في فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى 90.000 وضمنهم أعضاء اليشوف القديم. وأثناء الحرب، هاجر أكثر من نصفهم إلى الولايات المتحدة (وكان من بينهم مؤلف نشيد هاتيكفاه، نشيد الحركة الصهيونية والدولة الصهيونية فيما بعد).

الموجة الثالثة:

تُعَدُّ الموجة الثالثة استمراراً لسابقتها (وكانت تضم بين أعضائها جولدا مائير) وقد استغرقت السنوات من 1919 إلى 1923 تقريباً (لم تكن هناك هجرة أثناء الحرب)، وضمت حوالي 35 ألف يهودي غالبيتهم من روسيا وبولندا من أبناء الطبقة العاملة ممن كانوا متأثرين بالفكر الاشتراكي والتعاوني فأسسوا الكيبوتسات والهستدروت. وجدير بالذكر أن الزيادة النسبية في هذه الموجة تعود إلى أن الولايات المتحدة كانت قد أخذت في تطبيق نظام النصاب (بالإنجليزية: كوتا quota) أو العدد المصرح به لأعضاء فئة اجتماعية أو قومية ما بالهجرة، وهذا ما جعل أبواب الولايات المتحدة مغلقة نسبياً. وقد أسَّس أعضاء هذه الموجة جماعة الحارس الفتي. وبانتهاء الموجــة الثــالثـة نجـد أن عـدد اليهــود الذين قرروا الهجرة إلى فلسـطين لم يــزد عن 80 ألفــاً من مجمـوع يهــود العـالم البـالغ عددهم آنئذ 15 مليوناً، وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن الفترة من 1920 إلى 1924 شهدت نزوح 12% من المستوطنين عن فلسطين.

الموجة الرابعة:

وتُسمَّى أيضاً هجرة جرابسكي (نسبة إلى رئيس وزراء بولندا المعروف بمعاداته لليهود واليهودية) وقد استغرقت هذه الموجة السنوات من 1924 إلى 1931 تقريباً، وضمت حوالي 82 ألف يهودي غالبيتهم من روسيا وبولندا. وكان الطابع الغالب على تلك الموجة أن أفرادها كانوا من البورجوازية الصغيرة أو كانوا رأسماليين أُمِّمت أموالهم («رأسماليون دون رأسمال») فكانوا مجموعة من صغار التجار أو «بروليتاريا الطبقات الدنيا»، كما كان يحلو لأرلوزوروف تسميتهم. ولعل أصولهم البورجوازية الصغيرة وعزوفهم عن العمل في الزراعة يفسر سبب امتلاء تل أبيب فجأة بالحوانيت بحيث أصبح يخص كل خمس عائلات حانوت. وكان وضعهم الاقتصادي السيئ يجعل منهم أداة ضغط على الحركة الصهيونية، وهو ما شكَّل أساساً لانتقاد جابوتنسكي للأسلوب المتدرج للحركة الصهيونية ومطالبته بإقامة الدولة اليهودية فوراً على كل أراضي فلسطين تحت الانتداب بالإضافة إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن. وقد هاجر معظم أعضاء الموجة الرابعة إلى فلسطين بغرض الربح الاقتصادي وبسـبب التشدد في تطبيق نظام النصاب في الولايات المتحدة. وقد نزح عن فلسطين كثير منهم (أكثر من 33% من عدد المهاجرين حسب بعض التقديرات) بسبب سوء الأحوال الاقتصادية. وقد لاقى أعضاء هذه الموجة الكثير من الصعوبات من جانب أعضاء الموجات السـابقة بسبـب اختــلاف الانتماء الاجتماعي.

وتجدر الإشــارة هنــا إلى أنه بانتهــاء الموجــة الرابعة، بلغ عـدد اليهــود الموجــودين في فلسطين 174.000 وحسب (منهم 30 ألفــاً من اليشـوف القديم يمثلون 16% من عدد السكان). وهذا هو كـل العـدد الذي هاجــر خـلال مـدة 50 عاماً، أي بمعدل 2500 يهودي كل عام من مجموع يهود العالم الذي بلغ آنذاك 16 مليوناً.

الموجة الخامسة:

واستغرقت الموجة الخامسة السنوات من 1932 إلى 1944 تقريباً وضمت حوالي 265 ألف يهود، وهو أعلى رقم بلغته أفواج المهاجرين إبان الانتداب. وترتبط تلكالموجة باستيلاء النازيين على السلطة، ولذا كانت غالبية أعضائها من بولندا وألمانيا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، أي وسط أوربا، بينما كان المهاجرون حتى الموجة الرابعة من شرقها.

وقد كان أعضاء هذه الموجة من الرأسماليين وأرباب المهن الحرة ذوي ثقافة عالية وكان بينهم 25.130 مهاجراً يحمل كل واحد منهم أكثر من ألف جنيه. وقد دخل فلسطين في عام 1935 وحده 6309 من هؤلاء الأثرياء. وقد أثر هذا في الحركة الصهيونية، فالتكوين الطبقي الجديد شد من أزر الصهاينة التصحيحيين باتجاههمالرأسمالي الفاشي. وقد وظَّف المهاجرون رؤوس أموالهم في فلسطين، وأسفر ذلك عن نمو كبير في الصناعة الصهيونية، وخصوصاً صناعات النسيج والصناعات الكيميائية والمعادن. كما نمت عملية إنتاج وتصدير الحمضيات نمواً كبيراً وتضاعف عدد المؤسسات الصناعية. ومع الحرب العالمية الثانية وإغلاق أبواب المنافسة ضد البضائع الأجنبية أخذت الصناعة الصهيونية فرصتها التاريخية للتوسع والازدهار (كانت حصة الصناعة من الناتج الكلي للاقتصاد الصهيوني عام 1936 نحو 26%، ارتفعت هذه النسبة بتأثير الحرب حتى بلغت 41.3% عام 1945. ويُقال إن هذه الفترة هي التي شهدت تشييد البنية التحتية للكيان الصهيوني).

وقد استمرت الهجرة بعد ذلك، ووصل إلى فلسطين 192 ألف مهاجر، وجاء بعد الحرب العالمية مجموعة من 161 ألفاً معظمهم «مهاجرون غير شرعيين». ولعل من المفيد في هذا المضمار أن نذكر أن معظم من نجوا من معسكرات الاعتقال والإبادة لم يستوطن فلسطين وإنما شق طريقه إلى الولايات المتحدة أو إلى إحدى دول العالم الأخرى.

والملاحَظ أن هذه الموجات المتكررة تسببت في إفساد البناء الاقتصادي الفلسطيني وفي تحويل أعداد كبيرة من الفلاحين الفلسطينيين إلى عمال غير مؤهلين وإلى تفشِّي البطالة بينهم لأن أبواب الصناعات الجديدة الصهيونية كانت موصدة دونهم. على عكس العمال في جنوب أفريقيا الذين كانوا يُقتَلعون من قراهم وقبائلهم ويُقذَف بهم في المدن أو على مقربة منها. ولكن الاقتصاد الجديد كان يستوعبهم، لأن الهجرة الأوربية إلى جنوب أفريقيا كانت استيطانية ولم تكن إحلالية. وقد كانت انتفاضات الفلسطينيين المختلفة (وخصوصاً انتفاضة 1936) تعبيراً عن السخط العربي على الهجرة اليهودية.

ولابد من الإشارة إلى أن الإحصاءات السابقة ليست على جانب كبير من الدقة لأن الحركة الصهيونية (وإسرائيل من بعدها) تجعل أعداد المهاجرين إلى فلسطين أسراراً عسكرية تتلاعب بها حسبما يتفق مع أهوائها الإعلامية. فمثلاً نجدها أحياناً تضم أعداد السائحين والحجاج إلى إحصاءات المهاجرين، كما تتعمد إغفال ذكر عدد المهاجرين إلى خارج فلسطين أحياناً أخرى.

ومع هذا، يمكن القول بأن عدد اليهود في فلسطين عام 1948 قد بلغ 649.623 يهودياً. ولو جمعنا هذا العدد في عائلات تتألف الواحدة منها من خمسة أشخاص لكان العدد 129.927 عائلة، بينما كانت الأملاك القومية اليهودية المشتراه حتى عام 1948 لا تتسع إلا لنحو 32.521 عائلة يهودية، أي أن هناك 97.406 من العائلات الفائضة عن القدرة الاستيعابية التي يُفتَرض وجودها في الأملاك الصهيونية وفقاً للحسابات التي أجراها الصهاينة أنفسهم. ومن هذا نستنتج أن الغرض الأساسـي أو النتيجـة الحتمية للهجرة اليهوديـة هي طرد الشـعب الفلسطيني، أي أنها هجرة «إحلالية» بالضرورة، بل إن هذه الهجرة لا يمكن رؤيتها إلا بوصفها الترجمة السكانية للعنف الصهيوني (وقد احتل المهاجرون المنازل العربية التي تركها سكانها، بل كانوا يتسابقون عليها للحصول على المساكن الجيدة في الأحياء الجديدة. أما الذين وصلوا فيـ مرحلة متأخرة، مثل اليهود الشرقيين، فقد حصلوا على منازل عربية عتيقة آيلة للسقوط).

الهجرة الصهيونية الاستيطانية بعد عام 1948: تاريخ

Zionist Settler Immigration after 1948: History

بلغ عدد اليهود الذين هاجروا بعد إنشاء الدولة حتى عام 1951 حوالي 687 ألف. من بينهم 106.163 ألف يهودي من بولندا و17.912ألف يهودي من رومانيا و24.731من تشيكوسلوفاكيا. وهاجر أيضاً ما يُعرَف بيهود المعسكرات (وهم بقايا الهجرة غير الشرعية) كما هاجرت أعداد من يهود البلقان ويوغوسلافيا.

ويبدو أن الحركة الصهيونية حينما كانت تتحدث عن اليهود كانت تعني حينئذ يهود أوربا وحسب، ومن ثم لم توجه نشاطها نحو تهجير يهود البلاد العربية رغم قربهم من فلسطين مكانياً. غير أن إنشاء الدولة الصهيونية كان من نتيجته خَلْق كثير من المشاكل لليهود العرب، وخصوصاً أن الدولة الصهيونية حاولت التدخل في شئون اليهودالعرب الداخلية، كما ظهر في فضيحة لافون. ويُلاحَظ أن المجتمع العربي كان يتجه نحو الاشتراكية ونحو تأميم القطاع الخاص، وكان أعضاء الجماعات اليهودية في العالمالعربي مرتبطين بالاقتصاد الحر والمصالح المالية الأجنبية (وقد كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود العرب يحملون جوازات سفر أجنبية). وفي نهاية الأمر كانت الهجرة إلى الدولة الصهيونية تحقق قدراً لا بأس به من الحراك الاجتماعي لبعض قطاعات اليهود العرب. لكل هذا، هاجرت أعداد كبيرة من يهود البلاد العربية، منهم 45.731 ألف يهودي يمني و123.625 ألف يهودي عراقي و30.242 ألف يهودي ليبي و16.607 يهودي من مصر و21.784 يهودي من إيران.

ومنذ عام 1969 بدأ تدفُّق جديد للمهاجرين اليهود حيث وصل عددهم ذلك العام 38.111 والعام الذي يليه 36.750. وأخذ العدد في التزايد التدريجي 41.930 (1971) و55.888 (1972) و54.886 (1973). والغالبية الساحقة من المهاجرين تأتي من أوربا (روسيا أساساً) وأمريكا الشمالية واللاتينية (أي من العالم الغربي)، ومن المعروف أن هجرة يهود جورجيا تمت خلال هذه الفترة حيث هاجرت أعداد ضخمة منهم. وبعد حرب عام 1973 هبط العدد إلى 31.981، وابتداءً من عام 1975 عاد إلى معدله العادي 20.028 (1975) ـ 19.754 (1976) ـ 21.429 (1977) ـ 26.394 (1978) ـ وزاد العدد إلى 37.222 (عام 1979 الذي شهد توقيع اتفاقيةكامب ديفيد). ولكنه تراجع مرة أخرى إلى 20.428 (1980) ـ 12.599 (1981) ـ 13.723 (1982) ـ 16.906(1983) ـ 19.981 (1984) ـ 10.642 (1985). وعلى هذا، فإن الغالبية الساحقة لا تزال من العالم الغربي. ولا يمكن تفسير هذا التراجع إلا في إطار أزمة المجتمع الإسرائيلي الاقتصادية والمعنوية (انظر: «أزمة الصهيونية») وتآكل الهويات اليهودية في الخارج (انظر: «هجرة اليهود السوفييت») بحيث أصبح الدافع للهجرة دافعاً اقتصادياً محضاً، واكتسب العنصر الاقتصادي وحده مركزية تفسيرية.

ومع بدايات عام 1989، تبدأ هجرة اليهود السوفييت وهجرة يهود الفلاشاه، وقد وصل إلى إسرائيل عام 1990 نحو 20.038 يهودي.

وقد علقت إحدى الجرائد الصهيونية (دافار عدد 13 يوليه 1984) على الإحصاءات المختلفة للهجرة بما يلي: "لم يهاجر إلى إسرائيل بين عامي 1978 و1983 سوى 127 ألف مهاجر فقط مقابل 224 ألف مهاجر خلال السنوات 1971 ـ 1976 (أي خلال سنوات حكم المعراخ) بينما بلغ عدد المهاجرين من الشرق والغرب في الفترة من 1948 إلى 1953 حوالي 717 ألف مهاجر تم استيعابهم بواسطة كيان صغير لم يزد عدد سكانه وقتها عن 80.000 فقط".

وتهدف هذه الجريدة إلى تفسير تناقص الهجرة إلى الكيان الصهيوني على أساس أن إسرائيل في حكم بيجين لا تمثل مركز جاذبية بالنسبة ليهود العالم، وذلك على عكسالحكومة العمالية. ومن الواضح أن انخفاضاً حاداً قد حدث بالفعل لحجم الهجرة اليهودية عام 1980 (20.428) ثم ازداد ذلك تدنياً عام 1981 (12.599)، وهو أدنى رقم يُسجَّل منذ 29 عاماً (إذ سجَّل عام 1953 أدنى رقم في تاريخ الهجرة حيث بلغ 11.575 مهاجر). ومع هذا، يُعَدُّ رقم عام 1981 أكثر تدنياً بالنسبة لعدد السكان اليهود في فلسطين المحتلة حيث كان لا يتجاوز المليون عام 1953، ثم اقترب من الأربعة ملايين عام 1981.

وتبيِّن أرقام عامي 1982 و1983 أن النمط نفسه مستمر. وقد سجل عام 1984 ارتفاعاً نسبياً بسبب هجرة يهود الفلاشاه، ثم عادت الأرقام للهبوط عام 1985.

إن عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة (حتى بداية هجرة اليهود السوفييت عام 1989) كان آخذاً في التناقص ولا شك. ولكن هذا التناقص في الهجرة لا يمكن تفسيره على أساس وجود الليكود في الحكم وجود المعراخ العمالي في المعارضة، فثمة فترات عديدة امتدت لعدة سنوات تدنت فيها الهجرة وكانت الأحزاب العمالية أثناءها هي الأحزاب الحاكمة، مثل الفترة من عام 1952 إلى 1954، والفترة من عام 1965إلي 1968 (وهي الفترة التي سبقت العدوان الصهيوني عام 1967 والتي تلته). ويُقال إن تدنِّي الهجرة في ذلك الوقت كان حاداً إلى درجة أن صافي الهجرة كان سلبياً. ويرى بعض المحللين السياسيين أن ذلك كان أحد الأسباب التي دفعت العدو الصهيوني لشن العدوان على مصر والأردن وسوريا.

لكن تغيَّر الحزب الحاكم في فلسطين المحتلة لا يفسر بتاتاً زيادة أو قلة الأعداد المهاجرة، ذلك لأن نقاط الاختلاف بين حزب صهيوني وآخر لا تعني المهاجر الصهيوني كثيراً، وإنما تفسرها حركيات تقع خارج نطاق الإرادة الصهيونية أو اليهودية. فهي تفسر على أساسين رئيسيين لا ثالث لهما، عناصر الطرد من البلد الأصلي وعناصر الجذب في إسرائيل. وعناصر الطرد هي حجم المشاكل التي يجابهها اليهود في البلاد التي يعيشون فيها أو في تلك التي يفكرون في الهجرة إليها، فإن زادت المشاكل وتضخمت زادت الرغبة في الهجرة (هتلر في ألمانيا ـ الضغوط الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي ـ إغلاق باب الهجرة إلى الولايات المتحدة). وتتمثل عناصر الجذب في أن يكون الكيان الصهيوني متمتعاً بقدر من الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي، وهو ما حدث بعد المساعدات الاقتصادية الألمانية، وبعد حرب 1967، حيث انهالت المساعدات المالية من يهود العالم ومن الولايات المتحدة على الكيان الصهيوني، وحيث تم ضم أراض شاسعة تُعَدُّ مجالاً حيوياً يتحرك فيه المستوطنون ويجنون ثمراته.

وعناصر الطرد في الوطن الأصلي يمكن أن تكون من القوة بحيث يصبح أي مكان آخر عنصر جذب. ولكن، مهما كان الأمر، فإن الدافع وراء الهجرة الصهيونية أبعد ما يكون عن الصهيونية. فالحركة الصهيونية قد جعلت الهجرة إلى أرض الميعاد لتأسيس دولة صهيونية فكرة محورية. وقد ادعى الصهاينة أن الهدف الحقيقي من إنشاء الدولة الصهيونية هو إيواء المهاجرين، ولكن الواقع يبين أن الهدف الحقيقي هو إنشاء دولة وظيفية لحماية المصالح الغربية، ولذا فإن المهاجر اليهودي إن هو إلا أداة، جزء من الحائط المقام للدفاع عن الدولة الإسرائيلية، وهو حائط بشري من لحم ودم وليس حائطاً من حجارة، على حد قول بن جوريون.

وقد ظهر هذا في مؤتمر إفيان عام 1938 الذي عُقد لبحث مشكلة المهاجرين اليهود والذي حضرته وفود 31 دولة. وقد سمحت الحكومة النازية لوفد يهودي من ألمانيا بحضور المؤتمر. ولم يتحمس ممثلو الدول الغربية لفتح أبواب بلادهم أمام اللاجئين، وإن كانت الولايات المتحدة قد أعلنت عن استعدادها لقبول 30 ألف مهاجر سنوياً، كما وافقت جمهورية الدومينيكان على دخول 100 ألف مهاجر من أولئك اللاجئين دفعة واحدة، وكان أعضاء المؤتمر من اليهود فاترين في موقفهم من الهجرة اليهودية لبلادهم أما أعضاء المنظمة الصهيونية العالمية فقد قابلوا فكرة المؤتمر باللامبالاة والعداء إذ أن هذا يعني في واقع الأمر تحويل تيار الهجرة الاستيطانية عن فلسطين. وهذا الموقف الصهيوني من الهجرة اليهودية، والذي يحوِّل اليهودي إلى أداة ووسيلة، هو نفسه الذي يفسر سَعْي الحركة الصهيونية لدى الولايات المتحدة لإغلاق أبوابها أمام المهاجرينالسوفييت.

ملاحظة مني انا : هنا يوجد جدول بأعداد المهاجرين الاستيطانيين إلى فلسطين منذ 1882 حتى عام 1997. ولكن فيه اخطاء بالترتيب في السيدي لذلك فضلت عدم نقله خوفا من ان انقل لكم اي اخطاء

الهجرة الصهيونية الاسـتيطانية غير الشرعية

Illegal Settler Immigration

«الهجرة الصهيونية الاستيطانية غير الشرعية» (في المصطلح الصهيوني تُسقط كلمة «استيطانية») اصطلاح يُطلَق على المهاجرين اليهود الذين استوطنوا في فلسطين عن طريق التسلل إليها، مخالفين بذلك القوانين التي أصدرها العثمانيون، ثم سلطات الانتداب، بهدف تنظيم الهجرة بما يتناسب مع قدرة البلاد على الاستيعاب. وقد ساهمتالهاجاناه في عمليات الهجرة غير الشرعية، كما ساهم أيضاً الجستابو النازي وفرق الـ إس. إس. في التخلص من الجماعة اليهودية وفي تسريب بعض الجواسيس النازيين إلى المنطقة.

ومن وجهة نظر عربية، تُعَدُّ الهجرة الاستيطانية الإحلالية الصهيونية ـ بغض النظر عن شكلها القانوني ـ هجرة «غير شرعية». ولهذا، لا تُعالَج الهجرة غير الشرعية (حتى في المصادر الصهيونية) كظاهرة منفصلة عن الهجرة الاستيطانية الصهيونية. فهما عنصران متداخلان وينتميان إلى بناء واحد.

المجتمع الاسـتيطاني الصهيوني كمجتمع مهاجرين

Zionist Settler Society as an Immigrant Society

المجتمع الصهيوني هو أساساً تجمُّع مستوطنين، وقد ترك هذا الوضع أثراً عميقاً في بنية هذا المجتمع وسماته الأساسية، نورد بعضها فيما يلي:

1 ـ يعتمد التجمُّع الصهيوني حتى الآن على الهجرة لزيادة عدد سكانه ولنموه الاقتصادي، فالزيادة الطبيعية للسكان كانت تشكل، حتى عهد قريب، أقل من نصف حجم الزيادة الكلية.

2 ـ يتسم سكان هذا التجمُّع بعدم التجانس، فقد تكوَّنت النخبة السياسية التي تسلمت زمام السلطة عام 1948 من مهاجري شرق أوربا من يهود اليديشية (وخصوصاً منالهجرة الثانية والهجرة الثالثة) ومعظمهم كان علمانياً يؤمن بأيديولوجية جماعية يُقال لها «عمالية». وكانت سلطتها مطلقة في تحديد قواعد اللعبة، وكذلك في أسلوبومعايير توزيع الموارد وتحديد الأهداف السياسية والاقتصادية، وكان المفهوم ضمناً أن قيم هذه النخبة قيم صهيونية عامة يجب على جميع الفئات أن تتبناها وأن تتكيف معها. ولكن الهجرة جاءت بأنواع مختلفة من المهاجرين فانقسم المجتمع بحدة إلى غربيين وشرقيين، وكل فريق ينقسم إلى فئات وأقليات متعدِّدة. بل إن المجتمع ينقسم على نفسه من الناحية الدينية، فهناك الأرثوذكس والمحافظون والإصلاحيون، وهناك كذلك الحاخاميون والقراءون وغيرهم من الفئات الدينية. ويؤدي عدم التجانس الإثني والديني إلى إخفاق التجمُّع الصهيوني في التوصل إلى هوية قومية.

3 ـ يؤدي عدم التجانس هذا إلى تخفيف حدة الصراعات الطبقية داخل الكيان الصهيوني لأن الصراعات الإثنية والجيلية تطغى على الصراعات بين أعضاء الطبقات المختلفة. فالمهاجر إنسان متطلع باحث عن الحراك وانتماؤه هو انتماء عرْقي وإثني بالدرجة الأولى، وهو يحاول تحقيق ذاته ومصالحه من خلال الانتماء لجماعته الإثنية.

4 ـ تسببت الهجرة السوفيتية الإشكنازية في تعميق حدة الصراع الطائفي، لأن المهاجرين السوفييت يُعاملون معاملة خاصة، ويتم إسكانهم في منازل فاخرة، وهو ما يثير حفيظة الصهاينة الآخرين المقيمون خلف الخط الأخضر، حدود 1948، وفي إثارة سخط الشرقيين الذين هاجروا في الخمسينيات.

5 ـ يُلاحَظ أن النظام الحزبي في إسرائيل لا يزال يعكس الطابع الاستيطاني للدولة؛ فهو يساهم في عملية استيعاب المهاجرين، كما أن كثيراً من المؤسسات السياسية والعسكرية في فلسطين المحتلة تأخذ طابعاً خاصاً بل فريداً لأنها تحاول أن تتكيف مع متطلبات مجتمع المهاجرين الصهيوني.

6 ـ تتأثر الانتخابات الإسرائيلية، بل التوجه العام للمجتمع الإسرائيلي، بنوعية المهاجرين التي تتدفَّق عليه، ولعل هذا يُفسِّر سرّ تحمُّس المؤسسة الصهيونية الإشكنازية للهجرة من الاتحاد السوفيتي، فهذه الهجرة ستحقق لها ثلاثة أهداف:

أ ) خَلْق كثافة سكانية يهودية تعادل الكثافة السكانية العربية.

ب ) خَلْق كثافة سكانية إشكنازية تعادل الكثافة الشرقية.

جـ) خَلْق كثافة سكانية علمانية تعادل الكثافة الدينية.

وفي الانتخابات الأخيرة ظهرت أحزاب "المهاجرين" مرة أخرى ولعبت دوراً أساسياً في التحالف الوزاري.

7 ـ ونظراً لأن مجتمع المهاجرين مهدد بالتآكل والتفسخ في أية لحظة بسبب عدم تجانسه، وبسبب ضعف انتماء أعضائه، فإن النخبة الصهيونية الحاكمة تحاول دائماً أن تضخِّم الخطر "العربي"، أو الخطر الأصولي (الخارجي) حتى تدفع العناصر المتصارعة المختلفة إلى التماسك في مواجهته. وهكذا تصبح حالة شبه الحرب الدائمة حالة مثالية بالنسبة لهذا المجتمع الذي يحتاج إلى عقلية الحصار.

8 ـ يمكن تفسير تفشِّي الجريمة والمؤسسات الإجرامية المختلفة في الكيان الصهيوني على أساس أنه تجمُّع مهاجرين لا يتسم بالتماسك ولا بتوحُّد القيم.

9 ـ تعتمد التوسعية الصهيونية على تدفُّق المهاجرين من الخارج فهم يشكلون المادة البشرية التي تجعل مثل هذا التوسع ممكناً. وقد رفض بن جوريون تعريف حدود الكيانالصهيوني بفلسطين عام 1948 باعتبار أن ما سيحدد ذلك هو حجم المهاجرين المستوطنين، فكلما ازدادت أعداد المهاجرين اتسعت الحدود!

10 ـ مجتمعات المهاجرين عادةً مجتمعات دينامية، فالهجرة تعني التضخم السكاني السريع والحاجة إلى إعادة تأهيل المهاجرين واستيعابهم، وهي تعني أيضاً استيراد فكر جديد ومعارف جديدة وتجارب وخبرات وأموال وموارد بشرية وثقافات متعددة. والمجتمع الإسـرائيلي من أكثر المجتمـعات ديناميـة ومقدرة على تغيير توجهه وأدواره. ومما يساعد على ذلك صغر حجم المجتمع. كما أن أسطورة الاستيطان الصهيونية تدعو إلى أن يبدأ المستوطنون من نقطة الصفر، ومن ثم فالمجتمع لا ينوء بعبء التقاليد والماضي.

هجـــرة اليهـــود الشـــرقيين

Immigration of Oriental Jews

رغم الخلافات الأيديولوجية بين التيارات الكثيرة التي انضمت إلى مؤسسات الاستيطان المنظم، فقد كانت جميعها متفقة على المبادئ الأساسية للحركة الصهيونية، وكانت منسجمة اجتماعياً وإثنياً، على اعتبار أنها تنتمي إلى الأصول الاجتماعية الإشكنازية نفسها. وأدَّت هجرة اليهود الشرقيين بعد إقامة الدولة إلى تحولات جوهرية في المجتمع الجديد، وهي:

1 ـ تحوُّل جذري في البناء الطبقي، فقد أدَّت الهجرة إلى حراك سريع نحو الأعلى لعدد كبير من السكان القدامى؛ إذ تضخَّم الجهاز الإداري بسرعة، واستوعب جزءاً كبيراً منهم، ومُنحوا الوظائف في جهاز التعليم والمهن الحرة والجيش والحكم العسكري. وكان منهم رجال العلم والبحث والأدب والفن وغير ذلك. وضمنت هذه الأعمال دخلاً عالياً نسبياً ومكانة اجتماعية وقوة سياسية. كما توجَّه جزء منهم إلى المبادرة الاقتصادية بدعم ومساعدة من الدولة، فنشأت بذلك طبقة وسطى جديدة من صنع الدولة وتابعة لها.

أما بالنسبة لليهود الشرقيين، فقد سبَّبت الهجرة لجزء كبير منهم الحراك نحو الأسفل، لا سيما أنهم كانوا في عداد الطبقة الوسطى في مجتمعاتهم الأصلية، فتحوَّلوا في الغالب من موظفين وتجار إلى عمال بسطاء في الزراعة.

2 ـ أضافت الهجرة الجديدة إلى الدولة قوة بسبب ضخامة عدد المهاجرين، لكنها سبَّبت عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على ميزانية الدولة. وقد تم استيعابهم على نحو سريع نسبياً، وبثمن منخفض، إذ استُوعبوا في مستوطنات أُقيمت على أنقاض القرى الفلسطينية المهجورة، وخصوصاً في المناطق الحدودية، وأُقيمت مستوطنات جديدة خاصة بهم تُسمَّى «مدن التطوير». كذلك بقي عدد كبير منهم في معسكرات انتقالية أعواماً عدة. وتم توطين جزء صغير منهم في الضواحي العربية في المدن، ولا سيما في اللد والرملة وعكا وحيفا ويافا والقدس.

وتميَّز استيعاب المهاجرين الشرقيين بتوطينهم في المناطق البعيدة عن مركز البلد، ولا سيما في شماله وجنوبه. وهكذا تحوَّلوا إلى فئة محيطية هامشية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

3 ـ لم يُعتبَر الشرقيون استمراراً للهجرات الإشكنازية السابقة، ولذلك سُمِّيت هجرتهم «الهجرة الجماهيرية» بدلاً من «الهجرة السادسة». كما أن طبيعة أعمالهم لم تُحسب ضمن الأعمال الطليعية والبطولات التي يمكن أن تُترجَم إلى مكانة وقوة سياسية.

4 ـ تحوَّل الشرقيون بعد فترة وجيزة من وصولهم إلى شريحة اجتماعية تابعة للدولة، وشكَّلوا دعماً لها. وكانت تعبئتهم سهلة، فساهموا في تقوية الدولة في وجه الجماهير العربية الفلسطينية.

5 ـ شكَّل الشرقيون بعد أعوام قليلة من توطينهم مشكلة اجتماعية/ اقتصادية كبيرة وعبئاً ثقيلاً. إذ بدأوا يطالبون بتوزيع أكثر عدالة للموارد وبالمساواة في الفرص. لكن الدولة كانت دائماً ترد مطالبهم بحجة المشكلة الأمنية وعدم إمكان معالجة المشكلات كلها في وقت واحد، وهو ما عبَّر عنه موشي ديان بمشكلة رفع العَلمين: عَلم الأمن وعَلم الرفاه الاجتماعي. وقد سـاعد هذا الادعـاء في احـتواء ظاهرة الفقر واستيعابها.

هكذا يمكن القول بأن هجرة الشرقيين أدَّت إلى تغيير التركيب الاجتماعي في إسرائيل على نحو جوهري.

النـــــــــــــــزوح

Emigration; Yeridah

حاولت الصهيونية منذ البداية أن تصوِّر العلاقة بين اليهود وأرض فلسطين العربية بوصفها علاقة مطلقة تستمد مغزاها من "وعد الإله لشعبه المختار"، وهي لذلك لا تخضع لأية متغيرات تاريخية أو اجتماعية، ولكن هذا ما يصطدم مع ما يرونا من حقائق عن تزايد معدلات الهجرة والنزوح، وهي حقائق تؤكد أن العلاقة بين اليهودي و"أرض الميعاد" هي علاقة نسبية تؤثر فيها المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

والمقصود بالنزوح هو حركة الهجرة المضادة إلى خارج إسرائيل وتُسمَّى بالعبرية «يريداه» أو «النزول»، ويُطلَق على المهاجرين إلى الخارج اسم «يورديم» أي «نازحين أو هابطين» أو «مرتدين» مقابل «عوليم» أي «صاعدين». ولعل هذه التسمية في حد ذاتها تعكس رؤية الصهاينة لحركة النزوح باعتبارها جريمة أخلاقية وخيانة للمبادئ الصهيونية، بل إن هؤلاء النازحين يُطلَق عليهم اصطلاح «الدياسبورا الإسرائيلية» بما يسببه من حرج للحركة الصهيونية باعتبار أن الدياسبورا مصطلح يشير إلى اليهود الذين يقطنون خارج فلسطين ولا يمكنهم الهجرة إليها لسبب أو آخر، أما أن تنشأ "دياسبورا" كانت تسكن فلسطين فهذا ما لا يقبله منطق الصهاينة. فالدياسبورا تفترض حالة غربة من الصعب في هذه الحالة تعريف مضمونها. بل إن من التطورات المهمة أن قرار النزوح أصبح مقبولاً اجتماعياً حيث يظهر بعض النازحين على التليفـزيون الإسـرائيلي ليتحدثوا عن قصص نجاحهم في الولايات المتحدة، كما تظهر في الصحف إعلانات عن إسرائيليين يودون بيع شققهم استعداداً للهجرة، وهذه أمور كانت في الماضي تتم سراً لأن نزوح أعداد كبيرة من الإسرائيليين، تماماً، مثل تساقط أعداد كبيرة من المهاجرين السوفييت، فيقوِّض دعائم الشرعيةالصهيونية.

ولذلك تحاول المؤسسة الصهيونية تقليل حجم المشكلة، فالأرقام المعلنة عن النزوح، وإن كانت تعطي مؤشرات ودلالات مهمة، لا تمثل الحقيقة تماماً، إذ أن معظمها مأخوذ عن الإحصاءات الرسمية للهيئات الصهيونية داخل وخارج إسرائيل، وهي مثار شكوك عديدة من جانب القادة الصهاينة أنفسهم، فكثيراً ما عبَّر أناس لا يشك المرء في صهيونيتهم مثل إيريل شارون عن أن الأرقام المعلنة تقل كثيراً عن الحقيقة، ومن ناحية أخرى فلا يوجد تعريف "قانوني واضح وملزم" لكلمة «نازح»، من حيث مدة بقائه خارج إسرائيل، وخصوصاً أن جزءاً كبيراً من المهاجرين لا يغادر إسرائيل بتأشيرة مهاجر، علاوة على أن الإحصاءات لا تضم الذين يعيشون في الخارج ويحملون جنسيات مزدوجة، حيث يسجلون أنفسهم "إسرائيليين" تهرباً من الضرائب ومن أداء الخدمة العسكرية. كما أن أعداداً كبيرة من الطلاب الذين يمضون عدة سنوات للدراسة في الخارج يقررون عدم العودة لإسرائيل، وتكشف الأرقام والجداول الآتية عن حجم الظاهرة وتناقُض المعلومات بشأنها وإن كانت تعبِّر في النهاية عن ظاهرة خطيرة بالنسبة للمشروع الصهيوني .

هنا ايضا يوجد جدولين لم انقلهم لنفس السبب

الاول : السكان الذين مر على بقائهم خارج البلد عاماً متواصلاً فأكثر (أعداد مطلقة ونسب مئوية) .المصدر: دليل إسرائيل (خليفة وجريس).

والثاني :هجرة ونزوح المستوطنين الصهاينة : معدلات سنوية المصدر : نقلاً عن مقال تسيون رافي ، هآرتس 5 و 6 يناير 1986.

ويكشف الجدولان السابقان (1، 2) عن اختلاف المعلومات بشأن أعداد النازحين، ولكن نستنتج منها أن نسبة النازحين بلغت في مجمل عهد الانتداب البريطاني نحو 17% من مجموع المهاجرين إلى فلسطين، ويمكن تقدير عدد النازحين من إسرائيل منذ قيامها وحتى نهاية عام 1993 طبقاً للإحصاءات الإسرائيلية بنحو 471.800 شخص، أي بمعدل 10500 نازح في العام الواحد، وإذا تذكرنا أن عدد الذين هاجروا إلى إسرائيل في الفترة نفسها هو 2.363.477 شخصاً، أي بمعدل 52.500 تقريباً في العام الواحد، فإن نسبة النازحين حتى نهاية عام 1993 تبلغ 20% تقريباً من مجموع المهاجرين إلى إسرائيل، ويُلاحَظ أن هذه النسبة (نسـبة الهابطين إلى الصـاعدين) كانـت نحو 14% حتى أواسط السبعيـنيات، وبدأت هذه النسبة ترتفع بعد ذلك حتى وصلت ذروتها في أوائل التسعينيات، إذ بلغت 40.8 عام 1993، وهو مؤشر لارتفاع أعدادالنازحين مقابل انخفاض أعداد المهاجرين إلى إسرائيل.

وهناك الكثير من الدلائل تشير إلى تقدير عدد النازحين بحوالي نصف مليون فقط هو محاولة من جانب المؤسسة الصهيونية التقليل من حجم الظاهرة. فبعض المصادرترى أن عدد النازحين يصل إلى حوالي 750 ألف، وهو نفس عدد سكان المُستوطَن الصهيوني عام 1948، وهو ما حدا ببعض الصحف الإسرائيلية إلى الإشارة لهذه المفارقة وأشارت إلى ما سمته "الخروج من صهيون". وكلمة "خروج" مرتبطة في المعجم الديني اليهودي بالخروج من مصر والصعود إلى صهيون، أما أن يكون الخروج من صهيون فهو أمر يقف على طرف النقيض من الأسطورة الصهيونية.

والجدير بالذكر أن معظم النازحين من ذوي المهارات المهنية والأكاديمية، بل إن من النازحـين أعـداداً كبيرة من الضـباط والدبلوماسيين، فقد ذكرت صحيفة هآرتس 24 أغسطس 1987 أنه نزح عن إسرائيل 171 ضابطاً كبيراً في الاحتياط برتبة عقيد فما فوقها، وهو ما يعادل نسبة 10% من مجمل الضباط برتبة عقيد فما فوقها من الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي. كما أن 400 من الدبلوماسيين الذين أُرسلوا في بعثات حكومية إلى الولايات المتحدة من 1966 ـ 1985 غيَّروا وضعهم واستقروا في الولايات المتحدة، وقد كانت نسبة النازحين في البداية من بين المهاجرين، ولكن مع أواخر السبعينيات كان ثُلث النازحين من جيل الصابرا، أي الجيل الذي وُلد ونشأ على "أرض الميعاد". بل وصلت النسبة إلى 70 ـ 80% في منتصف الثمانينيات، بالإضافة إلى نسبة كبيرة من النازحين من بين أبناء الكيبوتسات.

ويمكن القول بأن حركة النزوح ترتبط إلى حدٍّ كبير بأوضاع إسرائيل الأمنية حيث ارتفعت نسبة النازحين منذ منتصف السبعينيات، وبالتحديد بعد حرب عام 1973،وارتفعت بصورة أكثر حدة مع اندلاع الانتفاضة وذلك مقابل انخفاض الهجرة إلى إسرائيل في الفترة نفسها. بل إن عدد النازحين (14.600) أصبح أكبر من عدد المهاجرين إلى إسرائيل بحوالي 12% وذلك في عام 1988. ورغم الانخفاض النسبي في بداية التسعينيات مقابل تزايُد هجرة اليهود السوفييت، فإن حركة النزوح ارتفعت إلى 24 ألف نازح عام 1992، و31 ألف نازح عام 1993.

ورغم قدرة إسرائيل على تدبير الموارد الاقتصادية من خلال المعونات فإن العامل الاقتصادي يُعَد أحد أهم أسباب النزوح، وهذا ليس غريباً، باعتبار أن الدافع وراء الاستيطان في المقام الأول كان اقتصادياً، كما يرتبط النزوح بالتركيب المهني فهو يزداد بازدياد حدة الاختلاف بين مهن المهاجرين في الأقطار التي جاءوا منها وبين مجالات استيعابهم في إسرائيل، ويُتوقَّع أن يزداد نزوح المهاجرين السوفييت الذين تدفَّقوا على إسرائيل في أوائل التسعينيات وذلك بسبب فائض المهن العلمية والأكاديمية والفنية لديهم، وعدم قدرة سوق العمل الإسرائيلية على استيعابهم.

وتُشكِّل صعوبات الاندماج الاجتماعي بين المستوطنين في إسرائيل عاملاً مهماً من عوامل الهجرة للخارج حيث يحمل المستوطنون ثقافات وعادات وسمات قومية وحضارية متباينة إلى أقصى حد، بجانب انعدام المساواة وشيوع التفرقة بين الطوائف اليهودية، ومشاكل الجهل بالدين اليهودي التي تواجه المهاجرين إلى إسرائيل، فالكثير منهم يأكل لحم الخنزير ويتزوج من نساء غير يهوديات ولا يعرف أبسط قواعد الشريعة اليهودية، ثم يُفاجأ في إسرائيل بهيمنة المؤسسة الأرثوذكسية ورفضها الاعتراف بزواجه من غير يهودية.

إن ظاهرة النزوح المتفاقمة من إسرائيل تُشكِّل ـ على مستوى الممارسة ـ ضربة في الصميم لمقدرات المشروع الصهيوني العسكرية، فإذا كان اليهودي المهاجر من بلده إلى فلسطين المحتلة يتحول إلى مستوطن صهيوني مقاتل، فإن الحركة العكسية (النزوح والتساقط) تؤدي إلى تحوُّل المستوطن الصهيوني المقاتل إلى مواطن يهودي في بلد آخر، وبخاصة مع وجود نسبة كبيرة من النازحين من بين أعضاء الكيبوتسات وكبار الضباط والطيارين والمهندسين في صناعة السلاح، وفي ظل كون المشروع الصهيوني مشروعاً مسلَّحاً بالدرجة الأولى، يكتسب قدراً كبيراً من شرعيته الحقيقية أمام نفسه وأمام الغرب (بل وأمام العرب) من مقدراته القتالية.

ويمكن القول بأن تفاقم ظاهرة النزوح تثير قضية العلاقة بين الحركة الصهيونية من جهة ويهود العالم من جهة أخرى، وهو ما يؤكد عزلة الحركة الصهيونية عن يهود العالم وعجزها عن التأثير في أوساطهم بشكل فعال وحثهم على الهجرة والاستقرار في فلسطين المحتلة، بل يكشف عن زيف الدعايات الصهيونية والتناقُض الكامن في بنيةالأيديولوجية الصهيونية نفسها القائمة على تهجير اليهود وعودتهم من المنفى إلى أرض الميعاد. ولكن الوقائع تثبت أن المنفى البابلي في الولايات المتحدة قوة لا تُقاوم حتى من جانب طليعة الشعب اليهودي، أي المستوطنين الصهاينة.

الباب الرابع: هجرة اليهود السوفييت

موقف الدولـة السوفيتية من هجرة أعضاء الجماعات اليهودية

Attitude of the Soviet State to the Immigration of Members of Jewish Communities

يمكننا بشيء من التبسيط القول بأن سياسة السوفييت تجاه الهجرة كانت تحكمها ثلاثة اعتبارات أساسية:

1 - الاعتبارات العقائدية والتي يشكل صالح الدولة السوفيتية جزءاً أساسياً منها، وغني عن القول أن رأي البلاشفة في المسألة اليهودية بُعد أساسي في الاعتباراتالعقائدية.

2 - اعتبارات السياسة الداخلية خارج الإطار العقائدي.

أ ) فعلى سبيل المثال، يُقال إن بعض العناصر الروسية القومية داخل الحزب كانت تهدف (في السبعينيات) إلى "تنظيف" المجتمع من اليهود باعتبارهم عناصر أممية، وكان هذا يعني في الوقت نفسه إخلاء عدد لا بأس به من الشقق.

ب) كما كانت توجد عناصر في المخابرات السوفيتية ترى أن اليهود عنصر مسبب للقلق وأنه لو سُمح بهجرة بعض العناصر من اليهود الرافضين الذين كانوا قد بدأوا يتصلون بعناصر الرفض في ليتوانيا ولاتفيا وأوكرانيا لقُضي على عنصر أساسي من عناصر الرفض.

جـ) يذهب البعض إلى أن أعضاء القوميات الأخرى غير الروسية يعتبرون اليهود من دعاة الترويس (أي صبغ الأقليات بالصبغة الروسية) ورحيلهم يعني إخلاء بعض الوظائف التي يشغلها الروس لأبناء جلدتهم.

3 - اعتبارات السياسة الخارجية مثل العلاقة مع العرب والرغبة في التقارب مع الغرب، أو التصدي له.

وفي الغالب كانت العناصر الثلاث تلتقي حتى بداية السبعينيات حين بدأت العقيدة الماركسية في التآكل وبدأت الاتجاهات الذرائعية في الظهور. وقد صاحبت ذلك رغبة في الوفاق مع الغرب والتقرب منه والتخلي عن المبادئ الماركسية.

هذه هي بعض المحدِّدات العامة للسياسة السوفيتية تجاه هجرة اليهود السـوفييت. ويمكنــنا الآن أن نتـناول التطـور التــاريخي نفسه.

حينما قامت الثورة البلشفية تناقص عدد المهاجرين إلى فلسطين بحيث بلغ عددهم في الفترة من عام 1919 إلى تاريخ إعلان الدولة الصهيونية 52.350 ، أي أقل من ألفي مهاجر كل عام (من مجموع اليهود السوفييت الذين كان يصل عددهم إلى حوالي 2.5 مليون). وظل موقف السوفييت من الهجرة لا يتغيَّر في أساسياته بعد إعلان الدولة إذ يبدو أن عدد اليهود الذين هاجروا في الفترة من 15 مايو 1948 حتى نهاية 1969 حوالي عشرة آلاف - أي أقـل من خمسـمائة مهاجر كل عام. وفي الفترة من 1954 حتى 1964، بلغ عدد المهاجرين 1452 (بمعدل 140 كل عام). وفي الفترة من 1957 إلى 1960، بلغ عدد المهاجرين 224 (أي حوالي 80 مهاجراً كلعام). ومع هذا، لابد أن نشير إلى أن 20 ألف يهودي روسي تمت إعادة توطينهم في بولندا في الفترة 1956 - 1959 مع علم الاتحاد السوفيتي بأنهم كانوا سيهاجرون في نهاية الأمر إلى إسرائيل. ولعل المحرك الأساسي للسياسة السوفيتية تجاه الهجرة بعد إعلان الدولة وحتى السبعينيات هو مركب من الاعتبارات العقائدية واعتبارات المواجهة مع الإمبريالية والرغبة في الوقوف ضد إسرائيل، قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط. كما أن الاعتبارات الداخلية لعبت دوراً ولا شك، إذ أن الاتحاد السوفيتي كان يحتاج إلى المادة البشرية اليهودية في فترة بنائه بعد الحرب. كما أنه كان يرفض التعاون مع أية اتجاهات قومية تهدد وحدته.

وقد تغيَّر موقف السوفييت، ومن ثم زاد عدد المهاجرين، ابتداءً من عام 1971، ولا يمكن تفسير هذا التغير على أساس الضغوط الصهيونية أو تصاعُد الروح القومية اليهودية، وإنما هو أمر مرتبط تماماً بحركيات المجتمع السوفيتي (والمجتمع الأمريكي) إذ يبدو أن الاتحاد السوفيتي بدأ يصبح أكثر انفتاحاً واستجابة للضغوط الدولية وضغوط الأحزاب الشيوعية الأوربية التي كانت قد بدأت في تحسين صورتها أمام الغرب (وهي العملية التي انتهت في نهاية الأمر بأن فَقَد الجميع توجهاتهم الماركسية ثم سقط الاتحاد السوفيتي). كما أن الاتحاد السوفييتي كان يفكر في تحسين علاقاته الاقتصادية مع الغرب، بل يُقال إنه كان يود أيضاً التخلص من العناصر المقلقة والمشاغبة داخله. ولذا، هاجر عام 1970 نحو 1.027 يهودياً وحسب من الاتحاد السوفيتي، على حين أن عـام 1971 شـهد هجرة 13.022 زادت إلى 3.681 في العام التالي، ووصلت إلى 34.733 عام 1973 (وقد شهدت هذه الفترة أيضاً فتح أبواب الهجرة أمام أعضاء الأقليات الأخرى فهاجر 9.064 ألمانياً و4.000 أرمنياً). وقد تراجع عدد المهاجرين اليهود إلى 20.628 عام 1974 ثم إلى 13.222 عام 1975. ويبدو أن التراجع يعود إلى حرب 1973، وتوتُّر العلاقة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وفشل المحادثات الأمريكية السوفيتية الخاصة بإعطاء الاتحاد السوفيتي معاملة الدولة الأكثر تفضيلاً. ويُقال إن الاتحاد السوفيتي بدأ يفكر في الخسارة الناجمة عن هجرة العقول منه. وكان بين المهاجرين عدد ضخم من اليهود الذين تلقوا تعليماً عالياً. كما كان هناك بعض الاعتبارات الأمنية إذ كان بين المهاجرين عدد كبير من المطلعين على الأسرار العسكرية وأسرار الدولة.

وقد زاد عدد المهاجرين في الفترة من 1976إلى 1979، فكان عدد المهاجرين اليهود 111.195 والألمان 36.659. ويبدو أن هذا يعود إلى مؤتمر هلسنكي لحقوق الإنسان ومحاولة الاتحاد السوفيتي تحسين علاقاته الاقتصادية. ولكن السياسة السوفيتية تغيَّرت عام 1980 (وخصوصاً في عام 1981) بالنسبة لليهود وغير اليهود. ويبدو أن السبب هو تدهور العلاقات مع الغرب. وقد ازداد التدهور مع انتخاب ريجان. ويُقال إن الاتحاد السوفيتي ترك أعداداً اسمية من المهاجرين تستمر في الخروج ليؤكد للعالم أن عنده سلعة ثمينة يمكنه التفاوض بشأنها ليحصل على الثمن.

ويبدو أن عام 1989 كان عاماً حاسماً إذ قفز عدد المهاجرين إلى 31.297، ولكن هذا الأمر لم يحدث بشكل تلقائي إذ يبدو أنه حدثت اتصالات بين الجانبين الإسرائيلي والسوفييتي، وتوصل البلدان إلى توقيع أول اتفاق تجاري علمي منذ سنة 1967. إلا أن كلاًّ منهما كان يلتمس من وراء ذلك صيداً ثميناً مختلفاً. فقد كان الإسرائيليون يودون رفع القيود عن خروج اليهود السوفييت الراغبين في الذهاب إلى إسرائيل. أما السوفييت، الذين كانوا مقتنعين بأن «اللوبي اليهودي» يتحكم في صنع قرارات الولايات المتحدة، فكانوا يريدون سياسة أمريكية أكثر ليناً في مجالي التسليف والتجارة معهم، بحيث يتمكَّنون من تحقيق الإصلاحات التي جاء جورباتشوف بها. ثم نُشرت أخبار في جيروساليم بوست (إبريل 1989) عن أن "موجة مهاجرين تتكون من مئات الألوف من اليهود الروس قد باتت وشيكة، وأنها تفوق قدرة الولايات المتحدة على الاسـتيعاب". والعبارة الأخـيرة لها دلالتها. أما بالنسـبة للولايـات المتحدة، التي ضغطت على الاتحاد السوفيتي لإخراج اليهود وهيجت من أجل حقوق الإنسان، فقد اكتشفت أنها كانت قد منحت اليهود السوفييت وضع لاجئ سياسي وهو ما أعطاهم الحق في الهجرة إليها دون التقيد بأيِّ نصاب، وقد أدَّى ذلك إلى هجرة الغالبية الساحقة من اليهود السوفييت إلى الولايات المتحدة، ولذا كان على الولايات المتحدة أن تغيِّر سياستها حتى يمكن توجيه المادة البشرية اليهودية السوفيتية إلى إسرائيل. وبدأت وزارة الخارجية الأمريكية تناقش علانية فرض القيود على الهجرة إلى الولايات المتحدة، وسرعان ما اكتشفت بسرور بالغ أن المنظمات اليهودية الأمريكية التي سعت فيما مضى بقوة لفتح المجال أمام هجرة اليهود القادمين، كانت الآن (نزولاً عند طلب إسرائيل) مستعدة لقبول هذه القيود. وعندما بدأ اليهود السوفييت فعلاً يغادرون بأعداد كبيرة، شعرت إدارة بوش بأنها حرة التصرف. وقد أنهت الولايات المتحدة حق اليهود السوفييت شبه التلقائي في الدخول كلاجـئين في سـبتمبر 1989، وأعـادت تصـنيفهم كلاجئين عاديين، ووضعت سقفاً لا يتجاوز 50.000 لطلبات تأشيرة الدخول من الاتحاد السوفيتي تتوزع بين اليهود وبين غيرهم من الجماعات الأخرى.

وأكد الجهاز المركزي للإحصاء في إسرائيل في يونيه 1997 أن 40 ألف مهاجر يهودي من بين 656 ألف يهودي من أصل روسي ممن هاجروا من الاتحاد السوفيتي السابق في الفترة بين 1990 و1996 إلى إسرائيل قد غادروا البلاد في إطار الهجرة المعاكسة من إسرائيل.

ويُلاحَظ أنه ابتداءً من عام 1990 ترتفع نسبة المهاجرين اليهود السوفييت الذين يتوجهون إلى إسرائيل بشكل ملحوظ، فهي تقفز من 15.5% عام 1989 إلى 90.5% عام 1990. ويعود هذا بطبيعة الحال إلى السياسة الأمريكية التي أوصدت دونهم أبواب الهجرة إلى الولايات المتحدة. ولكن النسبة تعود للهبوط. وفيما يلي جدول بأعداد المهاجرين السوفييت في الفترة من 1993 - 1997:

الســـــــنـة / عدد المهاجرين

1993 / 64.652

1994 / 67.956

1995 / 64.771

1996 / 59.049

1997 / 51.745

هجـرة اليـهـود السـوفييت في التسعينيات

Soviet Jewish Immigration in the Nineties

ذهب كثير من الدوائر العربية للتعامل مع ظاهرة هجرة اليهود السوفييت بموضوعية متلقية مباشرة وتوثيقية لا أثر فيها للاجتهاد، الأمر الذي دفعها إلى الوصول إلى استنتاجات تتسم بقدر كبير من التهويل. فالهجرة - حسب هذه الرؤية - هي «جريمة العصر» لأنها ستكون بمنزلة الحل السحري لجميع مشاكل إسرائيل الاقتصادية والسكانية والاستيطانية. وهي ستعزز قوى اليمين الإسرائيلي وستضرب كل القوى التي تطالب بالسلام مقابل الأرض. كما ستعمل على تقوية تلك القوى المطالبة بالتهجير الجماعي للفلسطينيين (الترانسفير). وقد ظهرت التقديرات المختلفة حول حجم الهجرة اليهودية المتوقعة إلى إسرائيل حيث تراوحت ما بين 400 ألف و70 ألفاً ثم صعدت إلى مليون وسبعة ملايين واثنى عشر مليوناً. وتناقلت الصحف العربية هذه الأرقام بموضوعية متلقية وحياد شديد.

ولا شك في أنه لا يصح التهوين من خطورة هذه الظاهرة، فهجرة اليهود السوفييت تشكل لحظة بالغة الأهمية - قد تصبح نهائية وحاسمة - في الصراع العربي الصهيوني. فهذه المجموعة البشرية كانت ولا تزال آخر مستودع من مستودعات المادة البشرية لدعم طاقة الكيان الصهيوني الاستيطانية والقتالية في ظل نضوب المصادر الأخرى للمهاجرين (فيهود الولايات المتحدة لا يهاجرون، ويهود العالم الغربي وأمريكا اللاتينية يتجهون إلى الولايات المتحدة).

وقد بلغ عدد المهاجرين من اليهود السوفييت إلى إسرائيل 185.227 مهاجر عام 1990 من مجموع المهاجرين في ذلك العام والبالغ عددهم 204.700 ، أي بنسبة 90.5% من إجمالي المهاجرين، وزاد إلى 147.839 مهاجر عام 1991 من مجموع عدد المهاجرين البالغ عددهم 189.800، وفي عام 1992 هاجر من الاتحاد السوفيتي 118.600 مهاجر لم يذهب منهم إلى إسرائيل سوى 65.093، ويمثلون نسبة 83% من جملة الهجرة إلى إسرائيل في ذلك العام والبالغ قدرها 77.057 مهاجر. وذهبت النسبة الباقية إلى دول غير إسرائيل حيث هاجر 41.3% إلى الولايات المتحدة والبقية الباقية هاجرت إلى دول أخرى (ألمانيا بالأساس). وقد هبطت نسبة المهاجرين حتى وصلت إلى51.745 عام 1997.

ولكن بدلاً من رصد الحقيقة بشكل مباشر وبدلاً من تناقل الأخبار التي تذيعها وكالات الأنباء كما لو كانت حقائق، قمنا في كتاب هجرة اليهود السوفييت برصد الظاهرة من خلال صياغة نموذج تفسيري مركب ومتتاليات افتراضية احتمالية ومن خلال استخدامهما، بدلاً من الرصد الموضوعي المتلقي المباشر، أصبحنا - في تصوُّرنا - أكثر إلماماً بالواقع مهما بلغ من تركيبية، فوضعنا نصب أعيننا كل الاحتمالات القريبة والبعيدة التي قد تتحقق في إطار معطيات معيَّنة وقد لا تتحقق في إطار معطيات أخرى. ومن خلال هذا المنهج بيَّنا أن هجرة اليهود السوفييت ظاهرة تخضع لمركب من العوامل والاعتبارات المختلفة مثل عدد يهود الجمهوريات السوفيتية السابقة وفقاً للإحصاءات الرسمية وغير الرسمية، وعوامل الطرد والجذب في هذه الجمهوريات وفي مراكز التجمع اليهودي في العالم، وهوياتهم الإثنية والعقائدية والدينية، وتركيبتهم الوظيفية والمهنية، ودوافعهم ومطامعهم في الهجرة. ومن خلال التوصل إلى هذه الحقائق، أمكننا أن نقرر الحجم الحقيقي لهذه الهجرة المتوقعة (وكان مغايراً للتوقعات السائدة) واحتمالات استمرار تدفقها أو انعدام ذلك، ومدى أثرها في التجمع الصهيوني ثم كيفية التصدي لها. وقد استند توقُّعنا إلى رصد عناصر الطرد والجذب في كلٍ من المجتمعين السوفيتي والصهيوني، وإلى دراسة أعداد يهود الاتحاد السوفيتي عند صدور الكتاب (عام 1990):

1 - عناصر الطرد والجذب.

أ) عناصر الطرد والجذب في المجتمع السوفيتي:

وبدايةً، وجدت الدراسة أن اليهود السوفييت حققوا نجاحاً وحراكاً اجتمـاعياً كبيراً في ظل الدولة السـوفيتية، وتمتعـوا بأعلى مستوى تعليمي، وتركزوا في المهن العلمية والأدبية والصحافة والمهن الحرة (مثل الطب والهندسة والعلوم)، وتميَّزوا في مجالاتهم بحيث وُصفوا بأنهم نخبة علمية ومتخصصة وصلت إلى قمة الهرم المهني والوظيفي. وقد ساعد ذلك على تزايد الاندماج، خصوصاً مع تزايد معدلات العلمنة والزواج المُختلَط. وهذا الوضع عادةً ما يُعَدُّ من عناصر الجذب فقد حقَّق لليهود السوفيت الاستقرار الذي ينشده معظم البشر والانتماء الذي يحتاجونه. ولكنه، مع هذا، شكَّل، في حـالة اليهود السـوفييت، عنـصر طرد أيضاً، وذلك لأن من يصل إلى قمة الهرم لا يمكنه الصعود أو الحراك أكثر من هذا. ولذا تحوَّل النجاح الاجتماعي من عنصر جذب إلى عنصر طرد، وبدأ الكثيرون يفكرون في الهجرة بحثاً عن مزيد من الحراك الاجتماعي الذي تقلصت فرصه داخل المجتمع السوفيتي، وخصوصاً بعد وصول كثير من أعضاء الجماعات اليهودية إلى أقصى ما يمكن تحقيقه داخل المجتمع السوفيتي، وهو ما لا يتفق بالضرورة مع أقصى طموحاتهم. ولكن، من ناحية أخرى، ومع تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وتحوُّل أغلب جمهورياته السابقة عن الاشتراكية وانفتاحها أمام الشركات متعددة الجنسيات، قد انفتح مجالات عديدة لا بأس بها أمام المهنيين اليهود للحراك. وبالإضافة إلى ذلك، كان أحد أهم عوامل الطرد ارتباط عدد كبير من اليهود بالسوق السوداء واشتغالهم بالأعمال التجارية والمالية المشبوهة والممنوعة، الأمر الذي جعلهم يضيقون بالنظام الاشتراكي. ومع عملية التحول آنفة الذكر، أصبح كثير من الأنشطة التي كانت تُعَدُّ مشبوهة أنشطة شرعية، وزاد نشاط ودور القطاع التجاري الحر. وقد أدَّى هذا إلى فتح مجال العمل والحراك أمام هذه العناصر اليهودية، وخصوصاً أنها تمتلك الخبرات التجارية التي اكتسبتها في الخفاء وهو ما يؤهلها أكثر من غيرها للحركة داخل المجتمع الجديد.

ومن عناصر الطرد الأخرى، ظهور معاداة اليهود بين صفوف العناصر القومية الروسية في كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، وعودة الاتهامات العنصرية القديمة التي تجعلاليهود مسئولين عن كل الشرور وتجعل الوضع المتردي في الاتحاد السوفيتي نتيجة مباشرة للتآمر اليهودي الذي أخذ شكل النظام الشيوعي. ولكن الدلائل وأقوال المختصين في شئون يهود روسيا وأوكرانيا كانت تشير إلى أن الأشكال الفظة والعنيفة القديمة لمعاداة اليهود لم يَعُد لها وجود، وإلى أن كثيراً من اليهود الذين لديهم وعي ضئيل بيهوديتهم كان بوسعهم التكيف مع هذه الأشكال الطفيفة من معاداة اليهود، وذلك بالإضافة إلى وجود منظمات وصحف روسية تهاجم معاداة اليهود وتناهض الجماعات التي تروج له.

وتختلف عوامل الطرد والجذب والقابلية للهجرة باختلاف الهويات الإثنية والعقائدية والدينية لليهود السوفييت. ومن المعروف أن يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) لم يشكلوا أبداً مجموعة حضارية أو دينية أو اجتماعية واحدة، بل شكلوا جماعات غير متجانسة تتحدث عدة لغات وتعيش في مناطق مختلفة. وبالتالي، فإن القابلية للهجرة تختلف من جماعة إلى أخرى.

فهناك اليهود الإشكناز (يهود اليدشية) البالغ عددهم 1.376.910 والموزعون على النحو التالي في أواخر الثمانينيات: روسيا 551 ألفاً حسب إحصاء 1989 - أوكرانيا 488 ألفاً - روسيا البيضاء 112 ألفاً. وهم من أكثر العناصر اليهودية اندماجاً وعلمنة، حيث بدأت عملية دمجهم منذ عهد القياصرة ثم تصاعدت مع الثورة البلشفية. ولم يبق عند هذه العناصر ما يمكن تسميته "حس أو وعي يهودي"، وخصوصاً أن العناصر اليهودية ذات الحس القومي بينهم هاجرت في فترة الهجرة اليهودية في السبعينيات ثم الثمانينيات، وبالتالي فهم لا يفكرون إطلاقاً في إطار صهيوني ولا يرغبون في الذهاب إلى إسرائيل، فهم يتمتعون بمستوى عال من التأهيل العلمي والمهني، وبالتالي لا يمكنهم تحقيق أيَّ حراك داخل المجتمع الصهيوني. ولذلك، فإن نسبة التساقط بينهم (حيث يزعم اليهودي أنه ذاهب إلى إسرائيل ثم يتجه إلى الولايات المتحدة حيث يمكنه تحقيق معدلات عالية من الحراك الاجتماعي) تصـل أحياناً إلى ما يزيد على 90%.

أما يهود البلطيق، وهم أيضاً من الإشكناز، فعددهم هو 39.500 موزعين كالتالي: أستونيا 4500 - لاتفيا 23 ألفاً - ليتوانيا 12 ألفاً - مولدافيا 66 ألفاً. وهؤلاء من أكثر العناصر التي يمكن اعتبارها عناصر صهيونية ومن أكثرها رغبة في الهجرة إلى إسرائيل، فلم تُضَم هذه المناطق إلى الاتحاد السوفيتي إلا خلال الحرب العالمية الثانية. ولذلك، فلا يزال عندهم بقايا حس أو وعي يهودي ولا يزالون محتفظين بهويتهم اليهودية، كما أن بعضهم لا يزال يتحدث اليديشية. وقد كانت ليتوانيا، على سبيل المثال، من أهم المراكز التقليدية للدراسات التلمودية في العالم. ولكن من ناحية أخرى، فإن من الأرجح أن أكثر العناصر الصهيونية الراغبة والقادرة على الهجرة كانت قد أقدمت على ذلك بالفعـل كما أن نسـبة المسـنين بينهم مرتفعة جداً. أما يهود مولدافيا، فهم من أهم الجماعات من منظور القابلية للهجرة حيث يعيشون في منطقة حدودية مع رومانيا تطالب بالانضمام إلى رومانيا. وقد اندلعت في هذه المنطقة، بالفعل، مواجهات شديدة بين المولدافيين وأعضاء الجماعة اليهودية (الذين يُصنَّفون أيضاً على أنهم روس)،وبالتالي فهي منطقة طرد، وقد قدَّم 70% من أعضاء الجماعة بها طلبات هجرة إلى إسرائيل وإن كان من غير المؤكد إن كانوا سيتجهون جميعاً إلى إسرائيل. وتشيرالإحصاءات السابقة إلى أن نسب التساقط بينهم ضئيلة.

وبالنسبة ليهود جورجيا ويهود الجمهوريات الإسلامية، فإن عددهم 667.37، وهم موزعون على النحو التالي: يهود الجبال 19.516 - يهود جورجيا 16.23 - يهود بخارى 36.568 - الكرمشاكي 1.559 ، وقد احتفظ أعضاء هذه الجماعات أيضاً بوعي وحس يهودي نظراً لأنهم ينتمون إلى مجتمعـات تقليدية مبنيـة على الفصـل بين الجمـاعات والطبقات. ومن ثم، فهم من العناصر المرشحة للهجرة إلى إسرائيل، وخصوصاً أن هذه الجمهوريات تشبه الدول النامية اجتماعياً واقتصادياً إلى حدٍّ كبير وتضم جماعات عرْقية وإثنية مختلفة تزيد احتمالات الاحتكاك والصراع فيما بينها. كما تمثل إسرائيل بالنسبة لهم فرصة أكبر للحراك الاجتماعي عن الولايات المتحدة نظراً لأن مستواهم التعليمي منخفض نوعاً. ولكن، من جهة أخرى، نجد أن 25% من الجماعات اليهودية في جورجيا والجمهوريات الإسلامية من اليهود الإشكناز قد يجدون فرصاً جديدة تتفتح أمامهم في ظل التحولات الجديدة وتبنِّي سياسات السوق. كما أن كثيراً من العناصر الشرقية بدأت تفقد هويتها التقليدية وتقبلت عملية الترويس أو الروسنة وقد تفضل الهجرة إلى المدن الروسية الكبرى لتحقيق ما تطمح إليه من حراك. كما تجب الإشارة إلى أن كثيراً من العناصر القادرة، أو الراغبة، على الهجرة قد هاجرت في الفترة ما بين عام 1970 و1990 ، الأمر الذي يعني أن نسبة القادرين أو الراغبين بين العناصر المتبقية صغيرة.

أما على الصعيد الديني، فإننا نجد أن 3% فقط من يهود اتحاد دول الكومنولث المستقلة متدينون، وقد اتجهت حركة الإحياء اليهودي اتجاهاً دينياً روحياً وهو صدى لحركة الإحياء الديني في الاتحاد السوفيتي والعالم بأسره. وهم في الأغلب من العناصر غير الصهيونية وأحياناً المعادية للصهيونية، وبالتالي فهذا التيار يشكل حركة جذب للاتحادالسوفيتي، وخصوصاً أن أغلب سكان إسرائيل علمانيون.

ولنا أن نلاحظ أن أغلب اليهود في اتحاد دول الكومنولث المستقلة علمانيون تماماً أو تآكلت هويتهم الدينية بل والإثنية تماماً. لكن ذلك لا يعني اختفاء هذه الهوية إذ أنهم يعرِّفون هويتهم اليهودية على أساس عرْقي/إثني إلحادي. وأحياناً تكون هذه الهوية العرْقية الإلحادية بالغة الضئالة، فهم من "يهود الصدفة"؛ يهود بالمولد دون أن يكون لديهم أي انتماء يهودي ديني أو إثني حقيقي. ويمكن الإشارة إليهم بوصفهم "يهود غير يهود" بمعنى أنهم يهود فقدوا كل مكونات يهوديتهم، ومع هذا يصنفهم المجتمع ويصنفون أنفسهم على أنهم كذلك. ومع ذلك، هناك حركة بَعْث ثقافي يهودي هي جزء من حركة بَعْث إثنية عامة في روسيا وأوكرانيا. وهذا البَعْث يتخذ شكلين: أولهما حركة بَعْث ثقافي يديشي ينظر أنصارها إلى يهود شرق أوربا أو يهود اليديشية باعتبارهم قومية أو أقلية قومية شرق أوربية لها تجربتها التاريخية المحددة وتراثها الثقافي ولغتها اليديشية. ولذا، فقد اصطدم هؤلاء منذ البداية مع التيار الصهيوني، وهم يضمون في صفوفهم عناصر معادية للصهيونية والعبرية. وإلى جانب هذه الحركة اليديشية، يوجد بعث ثقافي روسي يهودي وهو بَعْث مرتبط بالثقافة واللغة الروسيتين، مع اهتمامه بحياة وقضايا الروس اليهود. وفي كلتا الحالتين، فإن المضمون اليهودي للهوية مرتبط تماماً بالمضمون الروسي أو اليديشي وهو ما يعني أن الحركة الناتجة من هذا التعريف ليست طاردة وإنما جاذبة.

ب) عناصر الطرد والجذب في المُستوطَن الصهيوني:

لعل أهم عناصر الجذب في المُستوطَن الصهيوني هو أنه يتيح فرصة الحراك الاقتصادي للمهاجرين المرتزقة. ولكن هذا العنصر تم تحييده إلى حدٍّ ما بسبب مشاكل الاستيعاب الحادة داخل إسرائيل. ومن أهم هذه المشاكل، مشكلة الإسكان حيث خلقت الهجرة أزمة إسكان حادة وهي مشكلة آخذة في التفاقم بسبب الأزمة الاقتصادية. ونظراً لأن هؤلاء المرتزقة يتحركون في إطار ما نسميه «الصهيونية النفعية» ويسعون إلى الحياة المترفة، فقد تمركزوا في الأحياء السكنية المترفة واشتد ضيقهم عندما وضعتهم السلطات الإسرائيلية في مراكز سكنية فقيرة أو في أحياء لا تتوفر فيها البنية التحتية الجيدة، وقد رفضت غالبيتهم الساحقة الاستيطان في الضفة الغربية. ولكن لأزمة الإسكان جانبها السلبي - من منظور عربي - وهو أنها قد تدفع المهاجرين للاستيطان في الضفة الغربية حيث يوجد سكن مدعوم. كما يبدو أن بعض المهاجرين اختاروا السكن في الكيبوتسات برغم طابعها التنظيمي الجماعي بعد أن تبيَّن لهم أنها ليست مؤسسات اشتراكية وأنها تحوَّلت إلى مؤسسات إشكنازية أرستقراطية تتمتع بأعلى مستوى معيشي في إسرائيل. وقد نجحت الكيبوتسات التي تعاني منذ عدة سنوات من أزمة مالية وبشرية حادة في تبديد شكوك ومخاوف المهاجرين الذين بدأوا في التدفق عليها حتى أن طلبات السكن بها فاقت حجم المساكن المتوفرة.

ولكن المشكلة الحقيقية كانت متمثلة في البطالة. إذ كانت إسرائيل تعاني من معدلات بطالة مرتفعة تصل إلى 10%، لكن هذه النسبة كانت ترتفع بين العلماء وذويالمؤهلات العالية ممن تكتظ بهم إسرائيل. ويتمتع كثير من المهاجرين اليهود السوفييت بمؤهلات تفوق المستوى المطلوب في سوق العمل الإسرائيلي الذي يحتاج إلى العمال الفنيين والعمال المهرة. وقد اضطر كثير من العلماء والأطباء والمهندسين اليهود إلى العمل كعمال نظافة وعمال بناء وفي غير ذلك من المهن المماثلة، الأمر الذي يعني هبوطاً في السلم الاجتماعي لجماعة بشرية جاءت لتحقيق حراك اجتماعي.

كما تمثل المؤسسة الدينية لهؤلاء المهاجرين اللادينيين مصدر أرق وضيق، فكثير من اليهود السوفييت لا يكترثون بالمسائل الدينية والشرعية في الزواج والطلاق، وبالتالي يجدون عند قدومهم إلى إسرائيل أن أبناءهم غير شرعيين، وتجد كثير من المهاجرات المطلقات أن طلاقهن غير شرعي وبالتالي لا يحق لهن الزواج من رجل آخر. كما تتمسك الحاخامية بالتحقق من الأصول اليهودية قبل إبرام عقد الزواج، وعلى كل من يريد أن يحصل على زواج أو طلاق شرعي (حتى لا يوسم أولاده بأنهم غير شرعيين) أن يخضع لمراسم التهود وهي طويلة ومعقدة.

2 - تعداد اليهود بين الزيادة والنقصان:

أما بالنسبة لتعداد الجماعات في الجمهوريات السوفيتية السابقة، فإن التقديرات تذهب إلى أن عددهم حوالي مليون ونصف. وإذا أجرينا مقارنة بالهجرات السابقة، فإننا سنجد أن نسبة المهاجرين خلال الهجرة اليهودية الكبرى (1882 - 1914) لم تزد عن 25%، وهي فترة كانت الولايات المتحدة مستعدة فيها لتوطين كل من يشاء. كما يجب أن تتوافر في المهاجر مواصفات جسدية ونفسية ووظيفية معيَّنة تمكِّنه من بداية حياته من جديد. وعادةً ما يكون سن المهاجر بين العشرين والأربعين، ولكننا نجد أن نسبة المسنين بين اليهود السوفييت مرتفعة حيث إن 50% منهم فوق الخمسين، وإذا استبعدنا المعوقين والمرضى فإن نسبة القادرين على الهجرة ستكون أقل من النصف. وفي ضوء المعطيات السابق ذكرها، فإن حجم الهجرة اليهودية التي قدَّرنا أنها ستخرج من الاتحاد السوفيتي كان حوالي 25% من تعداد الجماعات أي حوالي 400 ألف. وإذا قدَّرنا أن الولايات المتحدة ستستوعب حوالي 50 ألفاً والدول الأخرى 15 ألفاً كل عام، فإن 65 ألف مهاجر لن يدخلوا إسرائيل سنوياً. وإذا امتدت الهجرة إلى حوالي خمسة أعوام، فإن هذا يعني أن جزءاً كبيراً منها سيتسرب إلى خارج إسرائيل. ولكن هناك احتمالات مهمة يجب أخذها في الاعتبار (وهذه من المتتاليات الافتراضية الاحتمالية) مثل حدوث تدهور اجتماعي واقتصادي كامل في الجمهوريات السوفيتية السابقة الأمر الذي قد يدفع الملايين من اليهود وغير اليهود إلى النزوح إلى خارج البلاد. وبالفعل صاحب عملية تفكُّك الاتحاد السوفيتي عام 1991، ثم انتقال جمهورياته إلى اقتصاد السوق، أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع في معدلات البطالة وتزايد النزاعات العرْقية والمواجهات المسلحة، ولا يزال الوضع غير مستقر ويحمل كثيراً من الاحتمالات المفتوحة.

وهناك أيضاً ظاهرة بالغة الأهمية وهي ظاهرة اليهود المتخفين، وهم اليهود الذين ينكرون هويتهم لأسباب عملية مختلفة ويذوبون وينصهرون في مجتمعاتهم عدة أجيال ثم يُظهرون هويتهم اليهودية تحت ظروف معيَّنة. ويقدِّر البعض عددهم بحوالي 1.3 - 1.5 مليون. كما أن هناك قضية العناصر شبه اليهودية أو غير اليهودية التي قد تنضم إلى الهجرة للاستفادة من الفرص المتاحة أمام اليهود في إسرائيل والولايات المتحدة. وقد أعلنت الحاخامية في إسرائيل بالفعل أن ما بين 30% و40% من المهاجرين السوفييت ليسوا يهوداً وفقاً للشريعة اليهودية للأسباب التالية: الزوجة ليست يهودية - الزوج لم يُختن - الأبناء ليسوا يهوداً لأن الأم ليست يهودية - أحد الزوجين لا تربطه أية صلة بالديانة اليهودية. ونظراً لأن قانون العودة الإسرائيلي يسمح لأي شخص له جد يهودي، سواء من ناحية الأم أو من ناحية الأب، بالهجرة إلى إسرائيل، فقد بدأ الكثيرون في اكتشاف أن لهم جدوداً يهوداً برغم عدم ارتباطهم بالديانة اليهودية. بل إن هناك عناصر من مدَّعي اليهودية تحاول أيضاً الانضمام إلى الهجرة. وتشير الإحصاءات بالفعل إلى أن أكثر من 30% من المهاجرين السوفييت سجلوا أنفسهم على أنهم غير يهود. وقد تكون هذه النسبة أكبر، فمن المعروف أن كثيراً ممن سجلوا أنفسهم يهوداً، رغم أنهم ليسوا يهوداً، فعلوا ذلك خوفاً من الحرمان من المزايا الممنوحة للمهاجرين اليهود.

ويقودنا ذلك إلى نقطة مهمة وهي مدى استعداد الكيان الصهيوني لأن يضم إلى الدولة اليهودية عناصر شبه يهودية أو غير يهودية. ونحن نذهب إلى أنه قد يقدم على ذلك بالفعل حتى تتوفر له المادة البشرية الاستيطانية والقتالية اللازمة لتحل المشكلة السكانية الحادة في إسرائيل وتخلق تعادلاً مع العرب بغض النظر عن مدى يهوديتها (وهو الأمر الذي حدث بالفعل). ونحن نستند في ذلك إلى تجربة إسرائيل مع يهود الفلاشاه حيث تم تهجيرهم إلى إسرائيل رغم عدم نقاء عقيدتهم وهويتهم الدينية ورغم اعتراضات المؤسسة الحاخامية الدينية ثم أخيراً ترحيبه بيهود الموراه فلاشاه.

وهذه العوامل السابقة الذكر تفسر لنا حجم الهجرة الفعلي الذي وصل إلى إسرائيل وهو 400 ألف مهاجر. وقد توقَّف سيل الهجرة عند هذا الرقم حتى أواخر عام 1992 انضم لهم حوالي 280 ألف بعد ذلك. وأعداد المهاجرين التي تصل إلى إسرائيل في الوقت الحاضر لا تزيد عن معدلات الهجرة العادية، وهذا الرقم أقل كثيراً من الأرقام المتضخمة التي أُذيعت عند بدء الهجرة ويتطابق مع الرقم الذي قدرناه للهجرة التي ستخرج من الجمهوريات السوفيتية السابقة.

وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة وهي ما ستنتج عنه هذه الهجرة من احتكاكات عديدة على المستويات الاقتصادية والطبقية والاجتماعية بين المهاجرين الجدد والأعضاء القدامى في التجمُّع الصهيوني، وخصوصاً مع اليهود الشرقيين الذين يشعرون بتهديد هذه الهجرة لأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وطموحاتهم السياسية، ذلك أن هؤلاء المرتزقة سينقضون على الكثير من الفرص والامتيازات التي كان يمكن توجيهها إلى اليهود الشرقيين، كما أنهم سيساعدون على عودة التحيز الإشكنازي ضد الشرقيين، هذابالإضافة إلى أن قدوم المهاجرين الجدد سيكثف استهلاك البنية التحتية والموارد المائية والرقعة الزراعية. كما أن تزايد معدلات الجريمة (بسبب الهجرة السوفيتية) وعدم قبول الكتلة الروسية (من قبل المستوطنين الصهاينة) لابد وأنه سيزيد حجم التوتر الاجتماعى.

ومن المتوقع أن تزيد المشكلات الناجمة عن وصول اليهود السوفييت (ازدحام المساكن - زيادة التوتر الاجتماعي - نقصان الفرص) من عدد النازحين من إسرائيل، بل سينضم إلى هؤلاء بعض المهاجرين المرتزقة. ومن الطبيعي أن تكون أرقام النازحين من المهاجرين الجدد أمراً خاضعاً للرقابة، ولذلك فإن من الصعب معرفة حجمهمعلى وجه الدقة. ولكن من المعروف أن 18 ألف قادم جديد طلبوا العودة إلى موطنهم عام 1990. وهؤلاء النازحون أو المطالبون بالنزوح يُشكِّلون نزيفاً من التجمُّعالصهيوني، كما يُشكِّلون عنصر خلخلة وقلق.

ومن ناحية أخرى، بدأت إسرائيل في وضع خطة كبرى وشاملة بعيدة المدى تهدف إلى استغلال القدرات العلمية للمهاجرين الجدد بغرض تحويل إسرائيل في القرن الحادي والعشرين إلى قوة تكنولوجية عظمى تحـل من خـلال صـادراتها من السـلع التكنولوجية مشـكلة ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى توفير فرص العمل للمهاجرين. وتهدف الخطة إلى إقامة عدد من الشبكات بتمويل خاص تقوم بتطوير إنتاج وتصدير السلع التكنولوجية باستخدام التكنولوجيات التي تم تطويرها في الاتحاد السوفيتي. وتضم الخطة أيضاً بعض الإجراءات التي يجب اتخاذها لتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية الخاصة في هذا القطاع. وهذه خطة طموحة ستواجه كثيراً من الصعوبات في التنفيذ، إلا أن احتمال تحققها يُشكِّل خطورة حقيقية بالفعل.

الصفحة التالية ß إضغط هنا