المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 4

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الصهيونية النفعية (أو صهيونية المرتزقة): المهاجرون السوفييت في إسرائيل

Utilitarian (or Mercenary) Zionism: Soviet Immignats in Israel

«الصهيونية النفعية (أو صهيونية المرتزقة)» مصطلح قمنا بسكه لوصف اتجاه عام وشائع بين يهود العالم الذين يدَّعون أنهم صهاينة. والصهيونية عقيدة علمانية مادية، ولذا فهي تحتوي على توجُّه نفعي قوي، شأنها في هذا شأن العقائد العلمانية كافة، ولكن معدل النفعية في الصهيونية أعلى كثيراً من العقائد العلمانية الشاملة الأخرى لأنالصهيونية برنامج إصلاحي واع يطرح نفسه باعتباره الإطار الذي يستطيع يهود العالم أن يحققوا من خلاله لأنفسهم مستوى معيشياً أعلى وأمناً أقوى مما حققوه لأنفسهم في أوطانهم.

ولكن الدافع المادي وحده ليس كافياً لأن تقتلع الإنسان نفسه اقتلاعاً من مجتمعه وماضيه وهويته، ولذا طورت الصهيونية الصيغة الصهيونية الشاملة المهوَّدة التي أسقطت على المشروع الصهيوني بُعداً مثالياً. ولكن المثاليات الصهيونية كانت ديباجات سطحية ولذا اتضح التوجه النفعي من البداية، فكان المستوطنون التسلليون (قبل ظهور هرتزل) يبذلون جهدهم في ابتزاز أموال روتشيلد وغيره من أثرياء الغرب، واستمر هذا الوضع قبل إعلان الدولة إذ كان المُستوطَن الصهيوني يحاول الحصول على أقصى قدر من الأموال من يهود العالم عن طريق الدعاية أو الابتزاز بتوليد إحساس عميق بالذنب لديهم باعتبار أنهم لم يهاجروا إلى إسرائيل. وبعد إعلان الدولة، تحوَّلت الدولة بالتدريج إلى دولة تعيش على المعونات الأجنبية، وهي معونات تحصل عليها باعتبارها دولة وظيفية تؤدي دوراً فهي دولة مرتزقة.

لكل هذا، نجد أن كثيراً من اليهود الذين يستوطنون إسرائيل (فلسطين) يفعلون ذلك لأسباب نفعية لا علاقة لها بمثاليات دينية أو أيديولوجية. ويمكن رؤية هجرة يهود البلاد العربية بعد عام 1948 في هذا الإطار، فهم لم يكونوا قط جزءاً من الحركة الصهيونية، سواء في شكلها الاستيطاني أم في شكلها التوطيني. وقد استوطنوا فلسطين لتحقيق الحراك الاجتماعي.

وقد تصاعدت معدلات هذا الاتجاه بعد عام 1967 داخل وخارج المستوطن الصهيوني مع انتقال المستوطن الصهيوني من المرحلة التقشفية التراكمية إلى المرحلة الفردوسية الاستهلاكية، ففي الداخل ظهر ما يُسمَّى عقلية «روش قطان»، أي «الرأس الصغير» التي تُتوج جسماً كبيراً لا يكف عن الالتهام والاستهلاك. كما تصاعدت خارجه، وخصوصاً بين أعضاء المستودع البشري اليهودي الوحيد القابل للهجرة، يهود الاتحاد السوفيتي.

والجزء الأكبر من اليهود السوفييت علمانيون شاملون ولا يؤمنون بالصهيونية أو بأية عقيدة أخرى، كما لا توجد عندهم هوية يهودية واضحة فهم جماعة بشرية لا تكترث كثيراً بأية قيم دينية أو ثقافية أو خصوصية حضارية وهدفها الأساسي هو البحث عن المنفعة واللذة. ولكنهم مع هذا يتسمون بسمة جوهرية واضحة مركزية وهي أنهم ينتمون إلى ما يُسمَّى في علم الاجتماع الغربي «عصر ما بعد الأيديولوجيا»، أي أن يعيش المرء في الحياة الدنيا بشكل إجرائي كفء، لا يفكر إلا في يومه، وإن فكَّر في مستقبله فهو يفعل ذلك بنفس المعايير الكمية الإجرائية، وهو عادةً لا يفكر في الماضي. وعملية التفكير لديه عادةً ما تكون بريئة من أية أثقال أيديولوجية أو أعباء نظرية أو أخلاقية، فالمعايير المستخدمة علمية مادية دقيقة تهدف إلى تعظيم المنفعة واللذة. فهم يؤمنون بقيم المنفعة (عادةً الكمية) واللذة (عادةً المباشرة)، وتطلعاتهم الاستهلاكية شرهة لا تخفف حدتها أية قيم، وهي تطلعات لا تقبل أي إرجاء، وذلك بسـبب غيـاب أية مُثُل عليا أو نظـريات دينية أو عقائدية (ولهذا السبب، نجد أن الوعي السياسي لليهود السوفييت ضعيف جداً وإن كانوا يتسمون بعداء حقيقي للاشتراكية. ولكن عداءهم هنا لا يعني موقفاً نظرياً وإنما هو عداء ذرائعي لكل النظريات والمطلقات، فالاشتراكية في نهاية الأمر تحوي داخلها قدراً من المثاليات ينبع من إيمانها بالإنسان كمطلق).

مثل هؤلاء البشر يتسمون بحركية غير عادية ورغبة عارمة في تحقيق الحراك الاجتماعي وتحسين المستوى المعيشي دون اكتراث بأية قيم ثقافية أو دينية أو خصوصية حضارية أو أيٍّ من هذه المطلقات التي تسبب الصداع للرؤوس الاستهلاكية، أي أن قابليتهم للهجرة بحثاً عن الفرص الاقتصادية والحراك الاجتماعي مرتفعة إلى أقصى حد. فإن من المنطقى أن يتجهوا إلى الولايات المتحدة، ولذا يُلاحَظ أن أعداداً كبيرة منهم تجيد الإنجليزية إذ كانوا يُعدِّون أنفسهم للهجرة إليها.

ومع سقوط الاتحاد السوفيتي حاول الكثير من اليهود (وغير اليهود) السوفييت الهجرة إلى الولايات المتحزة، ولكن إسرائيل أوصدت الأبواب دونهم. ومن ثم أصبحت إسرائيل بالنسبة لهم هي السبيل الوحيد للخروج من الاتحاد السوفيتي. ولذا، فإن كثيراً من المهاجرين يأتون صاغرين لا يحملون في قلوبهم أيَّ تطلُّع لصهيون أو أيَّ حب لها "فهم لا يريدون سماع أي شيء عنها" (على حد قول يوري جوردون رئيس قسم الاستيعاب في الوكالة اليهودية المسئول عن توطين اليهود السوفييت)، كما أنهم لم يُبدوا موافقة أو ترحيباً باستئناف العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل لأن هذا الأمر سيؤدي إلى نَقْل المهاجرين مباشرةً إلى إسرائيل، وهو ما يفوِّت فرصة الهجرة إلى الولايات المتحدة. بل إن بعضهم يدَّعي اليهودية، بل لم يمانعوا في أن يُختنوا في سبيل الحصول على الدعم المالي على أمل أن تُتاح له فرصة الفرار من أرض الميعادالصهيونية في فلسطين المحتلة إلى أرض الميعاد الحقيقية في الولايات المتحدة. وتحاول الدولة الصهيونية من جانبها أن تكبلهم بالمساعدات المالية التي يصعب عليهم سدادها حينما تحين لحظة الفرار.

وقد لخص أحد المهاجرين المرتزقة الموقف بقوله: "لم يكن أمامي خيار سـوى أن أذهـب إلى إسـرائيل بعد أن قضينا سـبعة شـهور في روما". ولكنه أعلن عن تصميمه على عدم البقاء. وقد بدأت الصحف الصادرة بالروسية في إسرائيل بتخصيص مساحة كبيرة يحتلها معلنون يعرضون تزويد القراء بالسلعة التي تطمح لها غالبية المهاجرون الجدد: تأشيرات دخول إلى كندا (أرض ميعاد أخرى مجاورة للولايات المتحدة). وقد وصف أرييه ديري، وزير الداخلية، المهاجرين المرتزقة وصفاً دقيقاً حين قال: إنهم بعد وصولهم ستجدهم جالسين على حقائب السفر. وقال أوبليون: "بعض ممن لا يمكنهم الذهاب إلى الولايات المتحدة سيأتون إلى إسرائيل بهدف استخدامها كمحطة على الطريق، وسيقومون باستغلالنا أيضاً، وسيأخذون أية خبرات قد نقدمها لهم، وقد ينتهي بنا الأمر إلى أن يتجمع عندنا عدد كبير من الناس الذين يشعرون بالبؤس والذين ينتظرون أول فرصة لينزحوا عن إسرائيل"، فهم يعرفون تماماً "أن إسرائيل بلد صعب وأن الولايات المتحدة بلد سهل بالمقارنة". والسهولة قيمة أساسيةبالنسـبة لهؤلاء البـاحثين عن "الراحة والترف" (كما وصفهم يوري جوردون).

وقد وصفت إحدى المؤسسات اليهودية المهاجر اليهودي السوفيتي النماذجي (في السبعينيات) بأنه شخص لم يهرب من الاضطهاد وإنما هاجر بإرادته ولدوافع غير عقائديةأصلاً. وقد أيَّد نتائج هذا التقرير تقرير آخر نشره مجلس المعابد اليهودية في نوفمبر 1974 جاء فيه: بينما ينظر الأمريكيون إلى الحملة من أجل الهجرة اليهودية منالاتحاد السوفيتي على أنها محاولة لإنقاذ بقايا الشعب اليهودي هناك، فإن المهاجرين السوفييت لا يشاركون في مثل هذه الأوهام الرومانتيكية أو الديباجات الصهيونية.

وفي جيروساليم بوست 30 أبريل 1987، صرح إسرائيل فاينبلـوم (المهاجر السـوفيتي المقـيم في إسرائيل)، وهو صهيوني حقيقي، أن من بين الـ 163 ألف مهاجر سوفيتي الذين استقروا بالفعل في إسرائيل حضر 20% منهم فقط بسبب الدوافع الدينية أو النفسية (أي العقائدية)، أما الآخرون فقد وجدوا أنفسهم في إسرائيل (على حد قوله).

وقد وصف بعض المهاجرين الأسباب التي دعتهم إلى ترك الاتحاد السوفيتي، فقال أحدهم: إن الحياة هناك أصبحت مملة. فالهجرة إلى إسرائيل هي مجرد بحث عن الإثارة. وقال أحد أساتذة علم الجبر إنه ترك الاتحاد السوفيتي لأنه أدرك أن الوقت قد حان لأن يفعل ذلك، وأشار مهاجر ثالث إلى أنه ترك الاتحاد السوفيتي لأنه يريد أن يعيش حياة أفضل. وحتى يؤكد مدى عمق التزامه بهذه الفلسفة، ذكر أنه جاء لا ليشتري سيارة ولكن ليكون لديه سيارة بمحرك أكبر. ومن المستحيل أن نعرف كم مهاجراً (سوفيتياً) يشبه إيفان الذي ترك إسرائيل بعد أن عمل سنة في الكيبوتس، لأنه يكره التعصب الديني والطقس الحار، وكأنه كان يتوقع أن تكون أرض الميعاد في القطب الشمالي أو على مسافة صغيرة من روسيا، أو أن الحركة الصهيونية قد وعدته بأرض ميعاد مكيفة الهواء.

والوكالة اليهودية تسبح مع التيار ولذا فهي تقوم بمحاولة جذب أعضاء الجماعات اليهودية للاستيطان في إسرائيل على أسس نفعية محضة فلا تهيب الإعلانات بحسهم الديني أو بارتباطهم بالأسلاف، وإنما تتحدث بشكل صريح عن البيت المريح، أو الإمكانيات الاستثمارية للمستثمرين وإمكانيات البحث العلمي للعلماء، وكأن فندق صهيون تحوَّل هنا إما إلى شركة صهيون الاستثمارية أو إلى معمل صهيون للبحوث العلمية. وقد وصل هذا الاتجاه إلى الذروة مع هجرة اليهود السوفييت الأخيرة التي بدأت بعد عام 1990.

ويبلغ عدد الإسرائيليين من منشأ روسي (من الصهاينة المرتزقة) حوالي 800 ألف (أي حوالي خُمس سكان إسرائيل) يشكلون كتلة "قومية" مستقلة، لها تميزها وحضورهاالخاص، فهم كيان مستقل داخل الكيان الإسرائيلي، فلهم محطة، إذاعة وتليفزيون خاصة بهم، وصحافة باللغة الروسية وأندية ومدارس. فهم - كما قال أحدهم - "يفكرون بالروسية ويتواصلون فيما بينهم". وتنبع قوة الثقافة الروسية المحلية (المنقطعة الصلة بالثقافة الإسرائيلية والمرتبطة بثقافة الوطن القديم) من حجمها الكبير ومن المؤهلاتالبشرية التي في حيازتها. ولذا فهي تحافظ بشراسة على استقلالها، بل إن أحدهم أشار إلى تكوين حزب إسرائيل بعالياه على أنه بداية حرب الاستقلال الخاصة بالروس. ولذا لا يُصنِّف سوى 16% من المهاجرين السوفييت نفسه على أنه "إسرائيلي" مقابل 26% اعتبر نفسه "من رابطة الدول المستقلة" و32% اعتبر نفسه "يهودياً" بشكل عام، واكتفى 12% بأن يسمي نفسه تسمية محايدة «مهاجر جديد».

ولم يتم قبول هذه الكتلة الروسية من قبل المجتمع الإسرائيلي، ولذا يشعر 59% من المهاجرين السوفييت أن المجتمع الإسرائيلي يستوعب الهجرة إما بلا مبالاة أو بعدائية. وفي المقابل حين سُئل الإسرائيليون عن وصفهم للمهاجرين السوفييت قال حوالي 36% إنهم بروفسير كناس وسمسار وعاهرات (واتهام المهاجرين السوفييت باحتراف البغاء والجريمة المنظمة، اتهامات لها أساس في الواقع).

ولم يستخدم أحد لفظ «مرتزقة» ومع هذا يمكن القول بأنه مصطلح كامن في خطاب كثير من الكُتَّاب الذين تَعرَّضوا للمهاجرين السوفييت بالوصف. فقد وصفهم أحد الكُتَّاب بأنهم «مهاجرون اقتصاديون»، كما وصفهم آخر بأنهم «هاربون من الاتحاد السوفيتي وليسوا مهاجرين إلى إسرائيل». أما جوليا ميرسكي (عالمة نفس في الجامعة العبرية)، فقد وصفتهم بأنهم «لاجئون وليسوا مهاجرين». ووصفهم كارل شراج (في جيروساليم بوست) بأنهم «مستوطنون بالإكراه أو رغم أنفهم». ولكنني أفضل وصفهم بلفظ «المرتزقة»، والاصطلاح الذي أقترحه أكثر دقة فالمرتزق هو الذي لا يقوم بعمل إلا نظير مقابل، والتزامه بالعمل هو التزام خارجي تعاقدي أي أنه لا يشعر نحوه بأي ولاء حقيقي. ويتميَّز مصطلحنا بأنه مصطلح مُتداوَل في علم الاجتماع، وهو ما يعني أنه يحوي قدراً من العمومية ولا يَسقُط في التخصيص الكامل.

وهناك نوع آخر من الصهاينة النفعيين، وهم اليهود المسنون الذين يتقاعدون في إسرائيل حيث يمكنهم أن يعيشوا حياة مترفة على معاشاتهم الصغيرة (فكأن إسرائيل هي بيت المسنين أو فلوريدا الصهيونية).

وهنـاك، أخيراً، اليهود الذين يرسلون جسمانهم ليُدفَن في إسـرائيل: فهم يرفضون العيش في إسرائيل، ولكنهم لا يرفضون الموت فيها. وعلى حد قول أحد الكُتَّاب الإسرائيليين، فإنهم يعهدون بالجانب التاريخي في حياتهم إلى أوطانهم، أما الجانب الكوني الذي يتعلق بالموت فهم يعهدون به لإسرائيل!

صهيونيــة المرتزقــة

Mercenary Zionism

انظر: «الصهيونية النفعية (أو صهيونية المرتزقة): المهاجرون السوفييت في إسرائيل».

إسرائيل بعالياه

Israel Bealaya

«إسرائيل بعالياه» عبارة عبرية تعني «إسرائيل مع الهجرة» وهو حزب سياسي جديد يتزعمه ناتان شارانسكي، وهو تعبير عما يُسمَّى «اليمين الرخو» المؤيد لنتنياهو، وهو يمين لا يهتم كثيراً بالأيديولوجيا وإنما بمصلحته المباشرة (فهو يمين عصر ما بعد الحداثة)، كما أنه تعبير عن عودة ما يمكن تسميته «السياسة الإثنية»، أي أن تكون دوافع الأحزاب والجماعات السياسية ليست الأيديولوجية الصهيونية وإنما انتماءهم الإثني، بحيث يكوِّنون جماعة مصالح لا تكترث بالمسلمات الصهيونية. والسياسة الإثنية عرفها النظام السياسي الإسرائيلي في بداياته، ثم اختفت مما أعطى الانطباع العام بأن المستوطن الصهيوني قام بتجميع عدد كبير من المنفيين ونجح في مزجهم من خلال أتون الصهر الإسرائيلي/الصهيوني. وعودة السياسة الإثنية (متمثلة في جزب جيشر وشاس وإسرائيل بعالياه) يدل على سقوط الادعاء بأن اليهود شعب واحد ويشير إلى إخفاق الصهاينة في عملية "مزج المنفيين".

ولفهم الخلفية الأساسية التي أدَّت إلى ظهور إسرائيل بعالياه لابد أن ندرك أن المهاجرين اليهود السوفييت قد حضروا لإسرائيل لتحقيق الحراك الاجتماعي، فهم صهاينة مرتزقة، غير ملتزمين بأية أيديولوجية. وقد شكَّلوا أكبر كتلة انتخابية في إسرائيل، ومع هذا يصعب التنبؤ بسلوكها الانتخابي، فكل ما يبغونه هو الحصول على جزء من الدخل القومي أو "الفطيرة القومية". ولذا صوَّت هؤلاء لحزب العمل، حينما وجدوا أن هذا في صالحهم، في الوقت الذي تنبأ فيه كثير من المحللين أنهم سيعززون قوى اليمين ومن يصوتوا لحزب ذي طابع اشتراكي.

وقد حَمَّل هؤلاء المهاجرون حزب الليكود مسئولية التقصير في عملية استيعابهم ومسئولية وَقْف ضمانات القروض الأمريكية البالغ حجمها 10 مليارات دولار بسبب إصراره العقائدي (الذي لا ضرورة له من وجهة نظرهم) على مواصلة عمليات الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ثم تبديد الموارد التي يمكن أن تُوجَّه لخلق فرص عمل جديدة لهم. كما أكدت الاستطلاعات التي جرت بين الناخبين من اليهود السوفييت أن لديهم ارتياباً ورفضاً عميقين للأحزاب الدينية، ولذلك فقد رفضوا التصويت لها. كما وجدوا في جماهير حزب العمل فئة اجتماعية مماثلة لهم، فهم من الفئات المثقفة ذات الأصول الأوربية، على عكس جماهير حزب الليكود التي تضم أغلبية سفاردية وشرقية.

ولكن حينما عرض عليهم الليكود الاشتراك في عملية إدارة المستوطن الصهيوني وإعطائهم جزء أكبر من الفطيرة القومية مقابل الاشتراك في حكومة ائتلافية تضم عناصر دينية كثيرة لم يترددوا في تغيير مواقفهم ونمط تصويتهم.

ولعل من الأمثلة الطريفة على مدى "واقعية" و"عملية" الكتلة الانتخابية الروسية هو استطلاع في الرأي كانت نتيجته أن شارانسكي لم يحصل على أصوات كافية (بسبب أنه ملوث بالأيديولوجيا إلى حدٍّ ما) فلم يأتهم، على سبيل المثال، بالوظائف التي وعدهم بها، بينما حصل لابيرمان (مستشار نتنياهو المشهور بلقب «راسبوتين») بعدد كبير من الأصوات، كما حصل تسفي بن آرى (مليونير روسي مهاجر كان يُسمَّى جريجوري ليرنر) على عدد كبير آخر من الأصوات رغم أنه على علاقة بالجريمة المنظمة، كما اتُهم بتقديم الرشاوي وتُجرى معه التحقيقات بهذا الشأن ، ولكن هذا شأن سياسي لا يهم الصهاينة المرتزقة كثيراً.

ومما يُلاحَظ أن 1% فقط من هؤلاء المرتزقة يعيش في الأرض المحتلة بعد عام 1967، ومع هذا فهم لهم ماضي إمبريالي ولذا فهم لا يمانعون في ضم الأراضي ولا يرون ضرورة للتنازل عنها (كما يقول إدوارد كوزينتسوف محرر جريدة يومية تصدر بالروسية في إسرائيل تُسمَّى فستي). كما أنهم يكرهون العرب بشكل غريزي، ربما بسبب عنصرية المجتمع الصهيوني المتأصلة، وما حملوه من "عداء للعرب"، الأمر الذي كان متفشياً بين العناصر الرجعية في المجتمع السوفيتي.

وحتى مطلع عام 1996 لم يكن للمهاجرين الروسو حزب سياسي، ولكن المنبر الصهيوني كان ممثلهم الرئيسي. وكان رئيسه شارانسكي يعارض بشدة تأليف حزب للمهاجرين خشية الانعكاسات السلبية التي قد تعني تحويل المهاجرين إلى مجموعة عرْقية. ولكن الانقسامات الحزبية داخل النظام السياسي الإسرائيلي، علاوة على القوة الانتخابية الضخمة التي يشكلها المهاجرون الروس، دفعت شارانسكي إلى تحويل حركته السياسية إسرائيل بعالياه إلى حزب يحمل الاسم نفسه في 11 فبراير 1996. ويزعم شارانسكي أن حزب إسرائيل بعالياه حزب إسرائيلي بمعنى الكلمة، إذ يطالب بحل المشاكل التي تعاني منها غالبية الإسرائيليين ويطرح نفسه على أنه حزب وسط بين طرفي القوس السياسي (العمل والليكود) يبرز المسـائل غــير المختلفة بشــأنها، والتـي يمكنها توحيد الشعب، ومن ضمن هذه المسائل تحويل إسرائيل إلى مجمع للشتــات (بما في ذلك قيام اقتصاد ليبرالي قائم على التنافس يقوم باجتــذاب أعضــاء الجماعــات اليهــودية إلى الدولة الصهيونية).

ويطالب الحزب بتعزيز شئون الهجرة والاستيعاب، ولذا يطالب بإصدار قانون يحدد حقوق المهاجر وواجباته ووضع الخطط اللازمة لذلك. ويرى الحزب أن استمرار الهجرة يشكل عاملاً سكانياً حاسماً في التخطيط الإستراتيجي الطويل الأمد. لكل هذا يؤكد الحزب كثيراً من المسلمات الصهيونية (إلغاء قانون العودة - حق الشعب اليهودي في كامل أرض إسرائيل - القدس الموحدة غير قابلة للتفاوض فهي عاصمة الدولة اليهودية - رفض قيام دولة فلسطينية). علاوة على هذا يرى الحزب ضرورة توسيع صلاحيات المجالس المحلية فيما يتعلق بإنفاق الأموال المخصصة للاستيعاب واستعمال ضمانات القروض التي قدمتها الولايات المتحدة في خدمة غرضها الأصلي المتمثلة في استيعاب المهاجرين. ويرى الحزب ضرورة إيجاد حل للمشكلات الصعبة المتعلقة بزيجات غير اليهود ودفنهم.

ورغم كل الادعاءات الصهيونية الأولية فإن صهيونية المرتزقة تطل برأسها بكل صراحة وعنف في الجزء الثاني من برنامج الحزب، فحزب إسرائيل بعالياه حزب إثني في نهاية الأمر له مصالحه الروسية الخاصة. وكما قال شارانسكي نفسه: "قررنا إقامة حزب عندما اتضح أن الفصل بين المهاجرين والمجتمع يشتد. فحتى الناجحون بينالمهاجرين يشعرون بأنهم ينتمون إلى أقلية مشبوهة وغير موالية، والنظرة إليهم سلبية. إن المهاجرين من روسيا تركوا دولة كانوا يشعرون فيها دائماً بأنهم ليسوا جزءاً منالمجتمع. جاؤوا إلى هنا معتقدين أن هذا هو البيت. وفجأة أخذوا يشعرون بأنهم عبء. يُقال إنهم يجلبون الجريمة والدعارة، وعندما يديرون أعمالاً يكونون مرتبطينبالمافيا... المعادون للسامية في روسيا كانوا على الأقل يحترمون اليهود؛ إذ كانوا يقولون إن اليهود أذكياء. هنا تحوَّل مهاجرو روسيا إلى طفيليات».

وبسبب اثنيـة الحـزب وروســيته نجد أن قائمــة مرشحــيه كادت تقتصر على ممثلي المهاجرين الروس، وكانت الدعاية الانتخابية في معظمها باللغة الروسية. وحصلت قائمة إسرائيل بعالياه على 174.928 صوت أتت لها بسبعة مقاعد في الكنيست. ولذا تُعَد سادس أكبر كتلة في الكنيست (بعد العمل والليكود وشاس والمفدال وميرتس، على الترتيب). ولابد أن يؤخذ في الاعتبارأن المهاجرين الروس لم يستنفذوا كامل طاقتهم في الانتخابات الأخيرة.

فاعـد

Vaad

«فاعد» كلمة عبرية تعني «لجنة» وهي المنظمة المظلة التي تضم كل التنظيمات اليهودية في كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) وقد تأسَّست عام 1989. وتضم المنظمة ما يزيد عن مائتي جماعة ثقافية. وفاعد عضو في المؤتمر اليهودي العالمي. وقد استمرت في الوجود بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. ومن أهم الشخصيات فيها وأحد مؤسسيها ميخائيل تشيلينوف. وتتعرض منظمة فاعد الآن للهجوم من فروعها في الجمهوريات السوفيتية السابقة إذ يطالبون بأن تكون فاعد أقل مركزية وأن تصبح تنظيماً كونفدرالياً. وهذا الانقسام داخل فاعد إن هو إلا صدى للانقسام الأكبر بين أعضاء كومنولث الدول المستقلة التي تتنازعها الرغبة في التحالف مع روسيا والاستقلال عنها.

ميخائــيل تشــيلنوف (1938 ( –

Mikhail Tschelenov

عالم لغة سوفيتي يهودي، ومؤسِّس الحركة الثقافية اليهودية في موسكو في السبعينيات، والرئيس المناوب لمنظمة فاعد (المنظمة المظلة للمنظمات اليهودية في اتحاد دول الكومنولث المستقلة). ويمكن القول بأن تشيلينوف نموذج متبلور للمواطن الروسي اليهودي إذ يتبدَّى من خلاله كثير من خصائص هذا المواطن.

يعمل تشيلينوف عالم لغة متخصص في الإثنوغرافيا، ولعله عَالم فيما يُسمَّى «اللغويات الإثنية»، وهو متخصص أساساً في قبائل الإسكيمو وشعوب المحيط الهادي في جزر إندونيسيا، كما أنه يجيد العبرية بل يُعَدُّ من أهم معلمي العبرية في روسيا. وهو حفيد واحد من أهم القادة الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين واستوطنوا فيها، وهويحيل تشيلينوف. وأم تشيلينوف ليست يهودية، وكذلك زوجته وابنه، والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية داخل وخارج إسرائيل لا تعتبره يهودياً. ويبدو أن اهتمامه بالعبرية ليسله أي مضمون صهيوني وإنما هو اهتمام بالجذور الإثنية لشخصيته الروسية الثقافية (وهذه سمة مشتركة بين يهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فيهود أمريكامولعون بشكلٍّ يكاد يكون مرضياً بالبحث عن جذورهم).

ويعمل تشيلينوف رئيساً للجماعة اليهودية الثقافية في موسكو، أي أنه يسعى إلى بَعْث ثقافي لهويته الروسية اليهودية. وجماعته أول جماعة يهودية منظَّمة منذ الثورة وتضم آلاف الأتباع. ومجموعة اهتماماته هذه تضعه في مجابهة الصهيونية التي تهدف إلى تصفية الجماعات اليهودية في العالم وإلى تحويلها إلى وقود لآلة الاستيطان والحربالصهيونية. ولذا، فليس من الغريب أن يصرح تشيلينوف أنه لا ينوي الهجرة إلى إسرائيل لأنه يعلم جيداً الجو السيئ في إسرائيل بشأن الزوجات غير اليهوديات، وأنه غير مستعد لإخضاع زوجته لهذه المعاملة. ثم أضاف أنه يرى أن الهجرة ليست سوى عنصر واحد للتعبير عن الهوية اليهودية (الروسية). ويمكن أن نضيف أن تخصُّصتشيلينوف في قبائل الإسكيمو يجعل هجرته مستحيلة، إذ أنه سيجد نفسه في إسرائيل بعيداً عن المادة التي يعمل عليها (وكم عدد علمـاء اللغـويات والإثنوغرافيـا الذينيستطيع المجتمع الإسرائيلي استيعابهم؟). ويمكن القول بأن تشيلينوف نموذج جيد لكثير من اليهود السوفييت. ومما يجدر ذكره أنه رغم أنه قد قرَّر عدم الهجرة إلا أنه يؤيدهجرة اليهود السوفييت بل ويشجعها، أي أنه صهيوني توطيني. وقد تعرَّض تشيلينوف لهجوم في الفترة الأخيرة إذ وُجِّه إليه الاتهام بأنه حوَّل فاعد إلى منظمة مركزية تتركز قيادتها في يده.

نـاتـان شـارانسكي (1948 ( -

Natan Sharansky

رئيس حزب إسرائيل بعالياه ووزير الصناعة والتجارة في وزارة نتنياهو. اسمه الأصلي أناتولي ثم قام بعبرنته. وُلد في أوكرانيا ودرس الرياضيات وعلوم الكمبيوتر في معهد الفيزياء التكنولوجية في موسكو. تقدَّم بطلب للحصول على تأشيرة هجرة إلى إسرائيل عام 1973. وقد قام شارانسكي بحملة إعلامية ضخمة للمطالبة بحق اليهود السوفييت في الهجرة إلى إسرائيل وكان يُشكِّل حلقة اتصال بين يهود الاتحاد السوفيتي الممنوعين من الهجرة والصحافة الغربية. وفي عام 1976 اتهمته جريدة أزفستيا بالتعاون مع المخابرات الأمريكية ثم قُبض عليه بتهمة الخيانة والجاسوسية وحُكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاماً. وأُفرج عنه في 11 فبراير عام 1986 وترك بلده في اليوم نفسه وهاجر إلى إسرائيل حيث أعلن أنه سيستمر في الكفاح من أجل حق يهود الاتحاد السوفيتي في الهجرة.

ويذهب شارانسكي إلى أن يهود الاتحاد السوفيتي مندمجون تماماً في مجتمعهم وأنهم في طريقهم للاختفاء، ومن ثم فدعوته لمنح اليهود حق الهجرة ليس من أجل إنقاذهم وإنما من أجل خدمة مصلحة الدولة الصهيونية. ومع هذا، فمع الهجرة السوفيتية الجديدة في التسعينيات بدأ شارانسكي يوظف اندماجية هؤلاء المهاجرين وأنهم كتلة بشرية مستقلة لها مصالح مستقلة، ولذا انتهى به الأمر أن كوَّن حزباً سياسياً من المهاجرين الروس (وهو الأمر الذي تزامن مع تكوين حزب مغربي وآخر من الفلاشاه) يتجاوز المُثُل الصهيونية تماماً ليعبِّر عن مصالح المهاجرين الروس الذين لا يدينون بالولاء إلا لمصالحهم الخاصة.

الجزء الثالث: العنصرية والإرهاب الصهيونيان

الباب الأول: العنصرية الصهيونية

الأسـاس الفكري للعنصرية الصهيونية ضد اليهود والعرب

Intellectual Origins of Zionist Racism Against Jews and Arabs

تنطلق الصهيونية من توليفة من الأفكار العلمانية الشاملة التى شاعت في الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. ولعل أهم هذه الأفكار هو الفكر العنصري أو العرْقي الذي يرى البشر جميعاً مادة ولذا فالاختلافات بينهم مادية، كامنة في خصائصهم العرْقية والتشريحية، وأن البشر مادة بشرية يمكن أن تُوظَّف فتكون نافعة ويمكن أن لا يكون لها نفع. ومن هنا تَبرُز أهمية الاختلافات العرْقية (لون الجلد ـ حجم الرأس... إلخ) كمعيار للتفرقة بين البشر. والخصائص الحضارية ورقي شعب ما وتَخلُّفه هو نتيجة صفاته العرْقية والتشريحية، ومن ثم فتقدُّم أو تَخلُّف شعب مسألة عرْقية متوارثة.

وتنبع الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة من هذا التشكيل العلماني الإمبريالي العرْقي فهي تفترض أن ثمة شعباً عضوياً يحوي داخله خصائصه العرْقية والإثنية. وهذا الشعب غير نافع يمكن نقله إلى أرض خارج أوربا لتوظيفه لصالحها ليتحول إلى عنصر نافع. وقد استخدمت الصهيونية النظريات العرْقية الغربية لتبرير نقل الشعب العضوي اليهودي المنبوذ من أوربا ولتبرير إبادة السكان الأصليين ليحل أعضاء هذا الشعب محلهم.

وقد عبَّرت النظرية العرْقية الغربية عن نفسها على مستويين:

أ) داخل أوربا: طبَّق منظروا العرْقية النظريات نفسها على شعوب أوربا وأقلياتها، فاتجه الألمان إلى وضع الآريين، وخصوصاً التيوتون، على رأس الهرم، كما نجد الإنجليز يضعون العنصر الأنجلو ساكسوني (الإنجليزي الأمريكي) عند هذه القمة. وقد كان هناك أيضاً من السلاف من فعل ذلك. وعلى أية حال، فإن الشعوب البيضاء (الشقراء) في الشمال تجيء على القمة، أما الشعوب الداكنة في الجنوب (الإيطاليون واليونانيون) فكانت توضع في منتصف الهرم، وفي قاعدة الهرم كان يوضع الغجر واليهود. وقد ظهرت أدبيات عرْقية معادية لليهود تحاول إثبات عدم انتمائهم لأوربا وانفصالهم عنها حضارياً أو عرْقياً كما تحاول إثبات تدنيهم.

ب) خارج أوربا: الشعوب الملونة خارج أوربا هي شعوب متخلفة حضارياً وعرْقياً، على حين أن الرجل الأبيض متقدم متحضر، الأمر الذي يضع على الإنسان الأبيض عبئاً ثقيلاً ويفرض عليه أن يغزو بقية العالم ويهزم شـعوبها ويبيد أعـداداً منهم حتى يتم إدخال الحضارة عليهـم.

وقد تبنَّت الصهيونية كلا جانبي النظرية العرْقية الغربية، فاستخدمت النظرية العرْقية في مجالها الأوربي لتفسير ظاهرة نبذ الشعب العضوي اليهودي وضرورة نقله، واستخدمت النظرية العرْقية في مجالها العالمي لتبرير عملية طرد العرب من بلادهم.

وقد ترجمت العنصرية الصهيونية نفسها إلى شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ولفهم هذا الشعار قد يكون من الأفضل قلبه. فنقول: "شعب [يهودي منبوذ طفيلي لا نفع له في أوربا لا ينتمي لها لا وطن له فهو] بلا أرض، [ولذا يجب نقله إلى] أرض [لا تاريخ فيها ولا تراث ولا بشر فهي] بلا شعب [وإن وُجد الشعب يمكن إبادته أو طرده من وطنه]". فكأن الصهيونية تعني عمليتي نَقْل أو ترانسفير: لليهود من أوطانهم أو المنفى إلى فلسطين، وللفلسطينيين العرب من وطنهم فلسطين إلى المنفى. ولذا، فالعنصرية الصهيونية ليست موجَّهة ضد العرب وحسب وإنما ضد أعضاء الجماعات اليهودية أيضاً.

العنصرية الصهيونية ضد اليهود

Zionist Racism Against Jews

انظر: «العداء الصهيوني لليهود» ـ «الرفض الصهيوني لليهودية» ـ «غزو الدياسبورا» ـ «الخلاص الجبري» ـ «التهجير (الترانسفير) الصهيوني لأعضاء الجماعاتاليهودية» ـ «إرهاب (ترانسفير) يهود العراق».

الإدراك الصهيـــــوني للعـــــرب

Zionist Conception of the Arabs

تهدف نظرية الحقوق الصهيونية إلى تبرير استيلاء اليهود على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب التوصل إلى رؤية للذات الغازية (اليهود)، ورؤية تكميلية للآخر موضوع الغزو (العرب). وقد تناولنا رؤية الصهاينة لليهود باعتبارهم شعباً أبيض أو شعباً مقدَّساً يهودياً خالصاً أو شعباً اشتراكياً تقدمياً (انظر: «الاعتذاريات الصهيونيةالعنصرية ونظرية الحقوق اليهودية المطلقة»). وسنتناول في هذا المدخل رؤية الصهاينة للعرب.

يُلاحَظ أن طريقة صياغة الرؤية الصهيونية للعرب تتسم بكثير من سمات الخطاب الصهيوني، ابتداءً بالإبهام المتعمد وانتهاءً بالتزام الصمت، كما يُلاحَظ تصاعد معدلات التجريد إلى أن نصل إلى النقطة التي يتحقق فيها النموذج الصهيوني الإدراكي وهي التغييب الكامل للعرب:

1 ـ العربي كعضو في الشعوب الشرقية الملونة (تخفيض العربي):

وهذا التصور هو تصور تكميلي لرؤية اليهود كأعضاء في الحضارة الغربية البيضاء، فالجنس الأبيض هو موضع القداسة أما الأجنـاس الأخرى فتقع خارجها، والعربي هو من هذه الأجنـاس المتخلفـة.

وفي إطار هذا التصوُّر، يُقدِّم الصهاينة وصفاً للشخصية العربية على أنها شخصية متخلفة، ومثل هذا الوصف أمر شائع في الاعتذاريات العنصرية وفي أدبيات الاستعمار الأوربي، فالوصف هنا ليس وصفاً للعربي بقدر ما هو وصف لأي آسيوي أو أفريقي (أو حتى أي أمريكي أسود). والاستعمار الصهيوني، في أحد تصوُّراته لنفسه، كانيرى أنه جزء (تابع) لا يتجزأ من الحركة الإمبريالية الغربية، ومن الهجمة العسكرية الحضارية على الشرق العربي لإدخال الحضارة والسكك الحديدية والبلاستيك والقنابل.

وقد بلوَّر وايزمان قضية الصراع العربي الصهيوني بالأسلوب نفسه الذي بررت به الحضارة الغربية مشروعها الاستعماري في الأمريكتين وآسـيا وأفريقيا. و"إننا ما زلنا نسـمع حتى الآن أناساً يقولون: حسناً، ربما كان ما أنجزتموه عظيماً تماماً، ولكن العرب في فلسطين قد ألفوا حياة الدعة والسكينة، وكانوا يركبون الجمال، وكان منظرهم رائعاً، وكانت صورتهم منسجمة مع منظر الطبيعة. فلماذا لا تظـل هـذه الصورة كما لو كانت متحـفاً أو حديقة عامـة؟ لقد وفدتم إلى البلاد من الغرب حاملين معرفتكموإصراركم اليهودي، ولذا فصورتكم لا تنسجم مع مناظر الطبيعة. إنكم تجففون المستنقعات، وتقضون على الملاريا بطريقة تؤدي إلى انتقال البعوض إلى القرى العربية. إنكم ما زلتم تتحدثون العبرية بلكنة سقيمة ولم تتعلَّموا حتى الآن كيف تستخدمون المحراث بطريقة سليمة، وتستخدمون بدلاً من الجمل سيارة. ومن جهة أخرى فإن هذايُذكِّر المرء بالصراع الأبدي بين الجمود من جهة والتقدم والكفاءة والصحة والتعليم من جهة أخرى. إنها الصحراء ضد المدنية".

ولم يكن من الضروري في هذا الإطار الاستعماري العرْقي القيام بأية دراسة دقيقة للضحية، وإنما كان يُكتفَى بالحديث عن مدى تَقدُّم الحضارة الغربية، ومدى تَقدُّم الإنسان الأبيض، كما كان يُكتفَى بالإشارة إلى تخلُّف الإنسان غير الأبيض (سواء كان أسود أو أصفر أو أسمر). فالأمور كانت واضحة للعيان، ومن هنا كانت هذه الأوصاف أوصافاً عمومية لا تُركِّز على السمات المتعيِّنة للضحية. وعلى أية حال، فإن أي تفكير عنصري لابد أن يتسم بهذا التعميم والتجريد والانتقاء، وإلا وجد نفسه أمام وجود متعين محسوس له قداسته وله قيمته الإنسانية والحضارية المحددة، وله كيانه الخاص، الأمر الذي يجعل من العسير تَقبُّل الاعتذاريات التي تُسوِّغ استغلاله أو إبادته.

وصورة العربي المتخلف صورة مهمة في الأدبيات الصهيونية. فقد لاحظ المفكر الصهيوني آحاد هعام سنة 1891 أن المستوطنين الصهاينة يعاملون العرب باحتقار وقسوة، وينظرون إليهم باعتبارهم متوحشين صحراويين، وعلى أنهم شعب يشبه الحمير، لا يرون ولا يفهمون شيئاً مما يدور حولهم. كما لاحظ أحد الرواد الصهاينة في أوائل القرن أن الصهاينة يعاملون العرب كما يعامل الأوربيون السود. وأما أهارون أرونسون (1876 ـ 1919) أحد زعماء المستوطنين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد حذر الرواد الصهاينة من أن يقطنوا بجوار الفلاح العربي القذر الجاهل الذي تتحكم فيه الخرافات، وأكد لهم أن كل العرب مرتشون.

ويتصف العربي، حسب تصور وايزمان، بصفات قريبة من التي ذكرناها من قبل، فهو عنصر منحط يحاول الجري قبل أن يستطيع السير، وهو شعب غير مستعد للديموقراطية ومن السهل أن يقع تحت تأثير البلاشفة والكاثوليك [كذا] كما ورد في رسالة وايزمان إلى أينشتاين بتاريخ 30 نوفمبر 1929. أما الفيلسوف الأمريكيهوراس كالن، فإنه لم يرى العربي إلا في صورة شيخ قبيلة من صحراء النقب، يلبس هو وأولاده ساعات مستوردة لا تبيِّن الوقت، ويحملون أقلاماً لا يستعملونها في جاكتات غربية يرتدونها فوق جلابيبهم، ووظيفتهم الأساسية هي تهريب الحشيش بطبيعة الحال. وفي أحد استطلاعات الرأي (نُشرت نتائجه عام 1971)، جاء أن 76% من الإسرائيليين يؤمنون بأن العرب لن يصلوا إلى مستوى التقدم الذي وصل إليه اليهود. ونعتقد أنه لا يفيد كثيراً أن نأتي بمزيد من الأدلة والقرائن والبراهين من أعمال بن جوريون أو جابوتنسكي أو غيرهما من الكُتَّاب الصهاينة، إذ أن مثل هذا سيكون مجرد توثيق كميّ وتمدُّد أفقي لا يغيِّر ملامح الصورة كثيراً.

وفي هذا الإطار، نلاحظ أن العربي الجديد، وهو المقابل البنيوي لليهودي الأبيض، لا يأتي ذكره إلا في النادر. ومن هذه اللحظات النادرة ما دوَّنه هرتزل في يومياته حينما كان في القاهرة يتفاوض في شأن أحد مشروعاته الاستيطانية، فقد استمع الزعيم الصهيوني إلى محـاضرة عـن الري، ويبدو أنه رأى بعـض المصريين واستمع إلى أسئلتهم، فكتب يقول: "[المصريون] هم سادة المستقبل هنا، ومن العجيب أن الإنجليز لا يرون ذلك، فهم يعتقدون أنهم سيتعاملون مع الفلاحين إلى الأبد". ثم أخذ هرتزل بعد ذلك يصف كيف أن الاستعمار نفسه يخلق الجرثومة التي تقضي عليه، وذلك لأنه يعلِّم الفلاحين الثورة. ثم أبدى هرتزل دهشته لفشل البريطانيين في إدراك هذه الحقيقة البسيطة. ويحق للمرء أن يتعجب لفشله هو نفسه في إدراكها، إذ أنه ذهب ليتفاوض في اليوم التالي بشأن منطقة العريش لتكون موطناً للاستيطان الصهيوني. ويبدو أن ما حدث هو لحظة إدراك تاريخية نادرة من جانب الزعيم الصهيوني فَهم فيها الاستعمار البريطاني باعتباره ظاهرة تاريخية إنسانية لا تتسم بالثبات. ولكنه غاص، مرة أخرى، في الأسطورة الصهيونية الحلولية العضوية، فاستثنى الاستعمار الصهيوني المقدَّس والمطلق من هذا القانون التاريخي الإنساني، ولم تُترجَم لحظة الإدراك نفسها إلى حكمة إنسانية أو سلوك عقلاني.

وقد رسم هوراس كالن صورة الفلسطيني في المستقبل، كما يحب أن يراها، فقال: "لو حصل اللاجئون على جوازات سفر وغيرها من الوثائق التي تُمكِّنهم من التحرك بحرية، ولو حصلوا على مبلغ كاف من المال ليشـقوا به طريقهم إلى مكـان من المُتوقَّع أن يجدو فيه سـبل العيـش المعقولة. وقيل لهم إن هذا هو كل ما سيحصلون عليه ولا شيء آخر أبداً، لو حدث هذا لبدأوا عندئذ في الاعتماد على النفس"، أي أن تحديث الشخصية العربية سينتج عنه أن يفهم العرب الحقوق اليهودية في إطارها الحلوليالعضوي باعتبارها حقوقاً مقدَّسة أزلية لا تقبل النقاش ولا تخضع للتغير.

كما أن التصوُّر الصهيوني يقوم على أن تحديث الشخصية العربية قد يؤدي بالفعل إلى تلاشي الشخصية العربية نفسها، أو أنها ستكتشف أنه لا توجد هوية عربية، وإنما هوية سنية أو شيعية أو مصرية (فرعونية). وهكذا تتبخر القومية العربية وتظهر الدويلات الإثنية الدينية على النمط الإسرائيلي. ولكن الحديث عن الإنسان العربي فيالمستقبل هو في نهاية الأمر حديث نادر في الكتابات الصهيونية.

2 ـ العربي ممثلاً للأغيار (تجريد العربي: (

وينطلق هذا التصوُّر من التصوُّر الصهيوني لليهودي باعتباره يهودياً خالصاً (وأنه وحده موضع الحلول ويوجد داخل الدائرة المقدَّسـة). ويصبح العـربي ممثلاً لكل الأغيار (الذين يقعـون خـارج نطـاق دائرة الحلول والقداسة)، أي أنه تصوُّر ينبع من الثنائية الحلولية الصلبة.

وقد وُصف الأغيار في الأدبيات الصهيونية بأنهم: ذئاب، قتلة، متربصون باليهود، معادون أزليون لليهود. و«الأغيار» مقولة مجردة، بل إنها أكثر تجريداً من مقولة «اليهودي» في الأدبيات النازية، أو مقولة «الزنجي» في الأدبيات العنصرية البيضاء. وهي أكثر تجريداً لأنها لا تضم أقلية واحدة، أو عدة أقليات، أو حتى عنصراً بشرياً بأكمله، وإنما تضم كل الآخرين في كل زمان ومكان. وقد وضع الصهاينة الإنسان العربي على وجه العموم، والفلسطيني على وجه الخصوص، داخل مقولة «الأغيار» حتى يصبح بغير ملامح أو قسمات.

وتظهر مقولة «الأغيار» هذه في وعد بلفور (أهم الوثائق الصهيونية) حيث أشار إلى العرب (الذين كانوا يشكلون أكثر من حوالي 93% من مجموع السكان) على أنهم الجماعات غير اليهودية، دون تحديد هذه الجماعات أو ذكر اسمها، حتى تظل هذه الجماعات عند مستوى عال من التجريد. إن هذه الجماعات غير اليهودية هي أية جماعةإنسانية تشغل الأرض التي سيستوطن فيها الشعب اليهودي. وبينما كان هرتزل يتفاوض بشأن كريت موقعاً للاستيطان الصهيوني كتب عن الجماعات غير اليهودية التي تقطنها بطريقة تنم عن عدم الاكتراث والتجريد، فقد وصفهم بأنهم "عرب، يونانيون، هذا الحشد المُختلَط من الشرق".

أما تشرنحوفسكي، في قصيدته «وقت الحراسة» التي كتبها في تل أبيب عام 1936، فلم يُكلِّف خاطره الإشارة إلى العرب، بل يتحدث عن الأغيار فحسب، بوصفهم رجال الصحراء المتوحشين، وهم بهذا، يصبحون شيئاً عاماً مجرداً خالياً من القداسة، وجزء من الطبيعة يَسهُل التعامل معه واصطياده وإبادته.

وفي إسرائيل، لا يتحدثون عن «اليهود والعرب»، وإنما يتحدثون عن «اليهود وغير اليهود». وكما يقول إسرائيل شاهاك، فإن كل شيء في إسرائيل ينقسم إلى يهودي وغير يهودي. وينطبق هذا التقسيم على كل مظاهر الحياة فيها، حتى على ما يزرع من خضراوات من طماطم وبطاطس وغيرها. وفي هذا الصدد، قد يكون من المفيد أن نتذكر أن الحاخام أبراهام أفيدان حين أوصى الجنود الإسرائيليين بقتل المدنييين الأغيار أو غير اليهود كان يعني في الواقع العرب فحسب، ولا شك في أن جنود جيـش الدفاع الإسـرائيلي يعرفون تماماً ما كان يرمي إليه الحاخـام.

هذا هو التصوُّر الصهيوني للعربي (الممثل للأغيار) في الماضي والحاضر، فماذا عن الإنسان العربي ممثل الأغيار في المستقبل؟ هنا نجد أن الزمان قد تجمَّد وأُلغي، كما هو شأن الكتابات الصهيونية دائماً، فالأغيار ذئاب في الماضي والحاضر والمستقبل. والإنسان العربي الخانع الخاضع للعنف الصهيوني، هو نفسه الإنسان العربي المقاتلالأزلي ضد اليهود: كلاهما جزء من مخطط ميلودرامي أزلي. وقد وصف رئيس جمهورية إسرائيل السابق إسحق بن تسفي المقاومة العربية في أوائل القرن الحالي بأنها مجرد مذبحة يرتكبها أعداء اليهودة في فلسطين، حرَّض عليها قنصل روسيا القيصري، أي أن معاداة اليهود هي هي لا تتغيَّر، فهي تأخذ شكل مذابح في روسيا أو مقاومة عربية في فلسطين! وفي المؤتمر الصهيوني السابع (1905)، طرح أحد الصهاينة تصوراً مماثلاً للتصور الذي طرحه هرتزل عن الإنسان العربي في المستقبل، وحذَّر من أن الفلاحين الفلسطينيين سيثورون ضد الاستعمار الصهيوني، كما طالب المستوطنين الصهاينة بأن يسلكوا سلوكاً مختلفاً حتى لا يشتد الصراع مع العرب. وقد ردَّ أحد المستوطنين الصهاينة بأن الفلاحين العرب سيتحولون ضد اليهود مهما كان تصرف وسلوك اليهود حيالهم، فثورة الفلسطينيين ليست محاولة لرد العدوان والظلم الواقع عليهم، وإنما هي تعبير عن العداء الأبدي الذي يبديه الأغيار نحو اليهود "هذا الشعب الذي طُرد من بلاده". وهذا التفسير السهل الذي يشرح كل شيء لا يزال شائعاً في إسرائيل حتى بين المثقفين. ويُفسِّر الكاتب الإسرائيلي يهوشاوا المقاومة العربية بأنها شيء غير مفهوم، ودوافعها غير عقلانية إلى حدٍّ كبير، فثمة شيء ما في اليهود يؤدي إلى إثارة جنون الأغيار. والعرب، بوصفـهم أغياراً، لا يشذون عن هذه القاعدة. والواقع أن مقولة «الأغيار» (العرب) تُعفي الصهاينة من مسئولية التوجُّه المحدَّد للمسألة الفلسطينية وللإنسان العربي.

3 ـ تهميش العربي:

إن عملية التجريد السابقة تستهدف تهميش العربي حتى لا يشغل مركز الأحداث بالنسبة لفلسطين. والعربي الهامشي نمط أساسي في الإدراك الصهيوني للعرب. إن الصهاينة ينكرون وجود أية هوية سياسية للعرب عامة، وللفسطينيين على وجه الخصوص، أو أية مشاعر قومية من جانبهم. فالصهاينة في إدراكهم للثورات العربية ضدهم، ينكرون طبيعتها القومية والسياسية ويؤكدون لأنفسهم ولرفاقهم أن الدافع إليها ليس حب الأرض أو الوطن أو التمسك بالتراث، فالدافع إليها هو التعصب الديني. وقد كان الصهاينة يلومون المسيحيين العرب، أحياناً، باعتبارهم الأعداء الحقيقيين لمشروعهم الاستيطاني، ويصورون المسلمين في صورة الفريق الطيب الذي يمكن التفاهم معه. وكانوا أحياناً أخرى يفترضون العكس، فيؤكدون أن المسلمين هم العدو الحقيقي، وأن المسيحيين هم الفريق الذي يبدي استعداداً كبيراً للتعاون. وكانت الجماهير الفلسطينية بالنسبة إليهم مجرد غوغاء يتلاعب بها المهيجون الإقطاعيون والأفندية ولا تحركها الدوافع القومية. ويرى سمحا فلابان أن وايزمان كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن تمرُّد هذه الجماهير ليس تعبيراً صادقاً عن حركة قومية خلاقة وإنما كانت تمليه الاعتبارات الإقطاعية والقَبَلية الضيقة.

وإلى جانب هذا، كان الصهاينة يرون الفلسطيني أو العربي حيواناً أو مخلوقـاً اقتصـادياً محضاً تحركه الدوافع الاقتصادية المباشـرة. ولذا، فيمكن حل المشكلة العربية (حسب هذا التصور) في إطار اقتصادي لا يكون سياسياً بالضرورة. ولعل من الأمثلة الأولى على هذه الإستراتيجية الإدراكية رشيد بك، هذا العربي الذي تم تخليقه حسب المواصفات الصهيونية في رواية هرتزل الأرض الجديدة القديمة، فهو يؤكد أن الوجود الصهيوني قد عاد على العرب بالنفع الكبير: لقد زادت صادرات البرتقال عشر مرات، كما أن الهجرة اليهودية كانت خيراً وبركة، خصوصاً بالنسبة لملاك الأراضي لأنهم باعوا أرضهم بأرباح كبيرة. وظل لفيف من الصهاينة يؤمنون إيماناً راسخاً بإمكان التغلب على معارضة الفلسطينيين عن طريق توضيح المزايا الاقتصادية الجمة التي سيجلبها الاستيطان الصهيوني، وعن طريق حثهم على الرحيل إلى البلاد العربية بعد إعطائهم التعويض الاقتصادي المناسب عن وطنهم. وكانت إحدى القناعات الإدراكية عند وايزمان أن تطوُّر فلسطين سيؤدي إلى أن يفقد العرب الاهتمامبالمعارضة السياسية.

ويؤكد وولتر لاكير وغيره من المؤرخين أن السياسة الرسمية للصهيونية في العشرينيات (ويمكن أن نضيف: وبعدها) هي عدم الدخول في مناقشات سياسية مع العرب، بأية حال، وحصر أيَّ تفاوض في التعاون الاقتصادي وحده، وعدم التعرض لطبيعة النظام السياسي. ويُلاحَظ أن الإستراتيجية الإدراكية هنا تهدف إلى إسقاط الطبيعة القومية لردة الفعل العربية، فلو تم تصنيفها كحركة قومية فإن منطق التصنيف نفسه يؤدي إلى ضرورة الاعتراف بالعرب كجماعة قومية لها أرض قومية وتراث قومي ومجال قومي ومجموعة من الحقوق القومية تنسف الادعاءات الصهيونية القومية بشأن الأولوية القومية الأزلية لليهودي في أرض فلسطين.

ومع هذا، فقد كانت القومية العربية أحياناً تفرض نفسها على الإدراك الصهيوني فرضاً كدافع محرك للجماهير العربية. وهنا، كان الصهاينة يتبنون إستراتيجيتين أخريين هما في جوهرهما تعبير أكثر حذقاً وصقلاً عن محاولة تهميش العربي ونزع الصبغة السياسية عنه. أما الأولى، فهي الاعتراف الجزئي بالطبيعة القومية للثورات الفلسطينية مع تفسيرها تفسيراً يجردها من مضمونها الإنساني ويفصلها عن الحركات القومية المماثلة فتصبح بالتالي قومية ناقصة لا تستحق أن تحصل على أية حقوق. والقومية العربية، حسب هذا الإدراك، إن هي إلا قومية مصطنعة تابعة للإنجليز وللقوى الخارجية وعميلة لهم. كما أن الصهاينة كانوا أحياناً يرون القومية العربية مجرد رد فعل للاستيطان الصهيوني ليست لها وجودها الحقيقي، ومحاولة لسلب الصهيونية ليست لها دينامية ذاتية مستقلة. وكان الصهاينة العماليون يصفون القومية العربية بأنها قومية رجعية، أو كما قال حاييم أرلوسوروف فإنهم قومية تهيمن عليها قوى الرجعية الاجتماعية والطغيان السياسي ولم تبرز داخلها قيادات سياسية مثل صن يات صن أوغاندي.

وأما الإستراتيجية الإدراكية الثانية، فهي مواجهة القومية العربية كأمر واقع يفرض نفسه فيتم الاعتراف بها كقومية كاملة مع تقليص مجال فعاليتها بحيث لا تضم الفلسطينيين. ويقول أحد مؤرخي الحركة الصهيونية إن الإسهام الأساسي لوايزمان في النظرة الصهيونية إلى العرب تتلخص في تمييزه بين العرب والفلسطينيين، إذ كان يرى إمكانية التوصل إلى اتفاق مع القومية العربية، بل مساومتها، مقابل أن يتخلى العرب عن مطالبهم في فلسطين. وكان أيضاً، حسبما ورد في كتاب فلابان، صاحب النظرية القائلة بأن فلسطين جزء غير مهم من الوطن العربي الكبير. وكان أرلوسوروف موافقاً على التعاون مع العرب، ولكنه كان متشائماً بشأن التعاون مع الفلسطينيين. ويمكن أن نرى مفاوضات وايزمان/فيصل ومعظم اتصالات الصهاينة مع العرب في هذا الإطار. بل إن الصهاينة قدَّموا عام 1930 مشروعاً طرحه موشيه بينكوس نائب رئيس تحرير دافار ونال تأييد بن جوريون الحذر، وهو في جوهره تعبير عن هذه الإستراتيجية. كان المشروع يدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تصبح جزءً من اتحاد فيدرالي يضم الشرق العربي بأسره. وكان المفروض أن يشكل الفلسطينيون أقلية داخل الدولة المفتوحـة، ولكنهـا هي نفسها كانت تشكل أقلية داخل اتحاد الدول العربيـة.

ولعل هذه الإستراتيجيات الإدراكية هي أذكى الإستراتيجيات على الإطلاق وأكثرها تَفرُّد ودهاءً وتعبيراً عن خصوصية الصهيونية كحركة استيطانية إحلالية لا تهدف إلى غزو العالم واستبعاده (على طريقة النازية) وإنما إلى الاسـتيلاء على الأرض الفلسـطينية وحدها دون سـكانها. فعملية التهميش هنا تصبح مقصورة على الضحية المباشرة، أي الفلسطيني، دون حاجة إلى استجلاب عداء الآخرين، سواء في الشرق أو في الغرب. ولا تزال محاولة تهميش العرب نمطاً أساسياً في الإدراك الإسرائيلي للعربي.

4 ـ العربي الغائب:

إن ذكر العرب، ولو في مجال التشهير بهم، هو اعتراف ضمني بهم، ولكن الصهاينة يحاولون إخفاء العرب بإدخالهم في مفهوم مقولة «الأغيار» المجردة. هذا الاتجاه يصل إلى قمته فيما يمكن أن نسميه مقولة «العربي الغائب»، فبدلاً من الإخفاء الجزئي خلف مقولة مجردة، تصل محاولة الإخفاء إلى حد الإغفال الكامل، فالصهاينة أحياناً لا يذكرون العربي بخير أو شر، ويلزمون الصمت حيال الضحية، ويُظهرون عدم الاكتراث الكامل بها (وهذه إحدى سمات الخطاب الصهيوني(.

والواقع أن مقولة «العربي الغائب» كامنة في مقولة «اليهودي الخالص». وكلما تزايدت معدلات الحلولية العضوية وتركزت القداسة في اليهود، اتسعت الدائرة وزاداستبعاد الآخر تدريجياً إلى أن يختفي تماماً ويغيب حين يصبح اليهودي الخالص هو اليهودي المطلق ذي الحقوق المطلقة الخالدة التي لا تتأثر بوجود الآخرين أو غيابهم. وهكذا، فإن نظرية الحقوق المطلقة تعني غياب أية حقوق أخرى غياباً تاماً.

ويُفسِّر بعض المفكرين ظاهرة العربي الغائب بأنها محاولة للتهرب من حقيقة صلبة تتحطم عندها كل الآمال الصهيونية. فيقول عالم السياسة الإسرائيلي شلومو أفنيري: "إن الرواد الصهاينة الأولون لم يكن في مقدورهم مواجهة حقيقة أن ثمن الصهيونية هو نقل العرب، ولذا أخذت آليات الدفاع عن النفس شكل تَجاهُل تَعيُّن المشكلة العربية. فالتمسك بالرؤية الصهيونية لم يكن ممكناً دون اللجوء بشكل غير واع لخداع النفس. ويقول ليبوفيتس: إن الصهاينة الأوائل لم يريدوا (لأسباب نفسية واضحة) رؤية الحقيقة،ولم يدركوا أنهم كانوا يضللون أنفسهم ورفاقهم. ومهما كانت الدوافع، فإن من الواضح أن الصهاينة أرادوا أرض فلسطين دون فلسطينيين (أرضاً بلا شعب)، ولذا كان يجب أن يختفي العرب ويزولوا.

وإفراغ فلسطين من كل سكانها أو معظمهم (أي تغييبهم) هو أحد ثوابت الفكر الصهيوني، وهو عنصر مُتضمَّن بشكل صامت في الصيغة الصهيونية الأساسية. وهذا أمر منطقي ومفهوم، إذ لو تم الاستيلاء على الأرض وبقي سكانها عليها لأصبح تأسيس الدولة الوظيفية مستحيلاً، ولتم تأسيس دولة عادية تمثِّل مصالح سكانها بدرجات متفاوتة من العدل والظلم. فيهودية الدولة (مع افتراض تغييب السكان الأصليين) هو ضمان وظيفيتها وعمالتها.

ومن هنا، كان اختفاء العرب حتمياً، ومن هنا كانت الصفة الأسـاسية للاسـتعمار والاستيطان الصهيوني وهي كونه استعماراً إحلالياً، فصهيونيته تكمن في إحلاليته، كما أنإحلاليته هي التعبير الحتمي عن صهيونيته (ويهوديته المزعومة(.

ورغم أن رَصْد مقولة «العربي الغائب» وتوثيقها أمر بالغ الصعوبة لأن ما هو غائب لا يمكن رصده وتوثيقه بالطريقة التقليدية التي تعتمد على الاقتباسات والنصوص وتحليلها. ومع هذا، فإن هناك عدداً كبيراً من التصريحات والمفاهيم الصهيونية لا يمكن فهمها إلا في إطار مقولة «العربي الغائب». ويمكن أن يندرج تحت هذا كل ذلك الحديث المسـتفيض عن الأرض المقدَّسـة وإرتـس يسـرائيل وصهيون وأرض الميعاد، فهو حديث يستند في نهاية الأمر إلى افتراض غياب فلسطين العربية. والحديث عن استيطان المهاجرين من روسيا القيصرية باعتبارها «عاليا»، أي «صعود»، والحديث عنهم باعتبارهم «معبيليم»، أي يهود يدخلون فلسطين كما دخلها العبرانيون القدامى رغم كل الصعـاب والعـوائق، هو أيضاً حديث يفترض غياب العرب وغياب تاريخهم. بل إنه يمكن القول بأن المصطلح الصهيوني ككل (نفي، عـودة، تجميع المنفيين... إلخ) يفترض هذا اليهودي الخالص الذي يفترض بدوره العربي الغائب. وقراءة أي نص صهيوني وفهم أي برنامج صهيوني أمر صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، من دون افتراض مقولة العربي الغائب كمثل أعلى ونقطة تحقُّق.

ويعبِّر الإدراك الصهيوني للعرب عن نفسه من خلال الهيكل الاقتصادي والقانوني للمستوطن الصهيوني ابتداءً من قانون العودة (عودة يهود المنفى إلى أرض الميعاد)، مروراً بقوانين الصندوق القومي اليهودي (القوانين التي تمكِّن الشعب المقدَّس من الاستيلاء على الأرض المقدَّسة)، وانتهاءً بالقوانين التي تمنع العرب من العودة إلى فلسطين (العربي الغائب أو الذي يجب أن يغيب(.

العـــربي كيهـــودي واليهـــودي كعــــربي

The Arab as a Jew and the Jew as an Arab

ثمة موضوعان أساسيان يتواتران في الكتابات الصهيونية: اليهودي كعربي والعربي كيهودي. ورغم أنهما نقيضان، إلا أنهما ينبعـان من إحدى الأفكار الأسـاسية المتـواترة في الفكر الصهيوني، وهي فكـرة تصفية الدياسـبورا (أي أعضـاء الجماعات اليهودية في العالم). والصهيونية تنطلق من الإيمان بأن الدياسبورا غير جديرة بالبقاء، فيهود المنفى شخصيات عليلة مريضة طفيلية. ومما يجدر ذكره أن أدبيات معاداة اليهود تحتوي على نقد متكامل متماسك لما يُسمَّى «الشخصية اليهودية». وقد أصبح هذا الانتقاد جزءاً من الترسانة الإدراكية للصهيونية التي طرحت نفسها بوصفها الحركة التي ستُطبِّع اليهود، أي تجعلهم قوماً طبيعيين، وتُخلِّصهم من الصفات السلبية المفترضة اللصيقة بشخصيتهم.

وقد تواتر الموضوع الأساسي الأول، أي اليهودي كعربي، في الكتابات الصهيونية التي صدرت قبل أن تتحدد معالم المشروع الاستيطاني الصهيوني تماماً، وقبل أن تتبلور خريطته الإدراكية، وقبل أن يتحول العربي إلى الآخر (ولعل هذا قد حدث بعد وعد بلفور). وفي هذه المرحلة، كان من الممكن النظر إلى العربي على أنه الشرقي وممثل الأغيار الأصحاء الذين يمكن التشبه بهم والتوحد معهم للشفاء من أمراض المنفى، وحسب هذا الإدراك يتحوَّل العربي إلى بطل رومانسي تحيطه هالات أسطورية كثيفة. ويبدو أن بعض المستوطنين الصهاينة الأوائل من أعضاء جماعة البيلو، انطلاقاً من الرؤى الرومانسية التي كانت سائدة في أوربا آنذاك، كانوا ينظرون إلى استيطانهم في فلسطين باعتباره نوعاً من "العودة إلى الشرق" الطاهر (مقابل الغرب المدنَّس المليء بالشرور). وأن «العربي» هو الحكيم الذي سيعلمهم كل الأسرار ويأخذ بيدهم ويهديهم سواء السبيل. وقد تبنَّى هذه الرؤية أحد زعماء موجة الهجرة الثانية، مائير ويلكانسكي، وتبعه في ذلك جوزيف لويدور (صديق الزعيم الصهيوني حاييم برنر وقد لقيا مصرعهما في إحدى المعارك مع العرب). ويُلاحَظ أن أول جماعة عسكرية صهيونية، والتي كانت تُدعَى الحارس (هاشومير)، كانت ترتدي زياً عربياً، وأن بعض أعضائها كانوا يعيشون مع البدو ليتعلموا طرقهم.

وكان الأدب الصهيوني في هذه المرحلة الأولى مفعماً بهذه الرؤية الرومانسية، فكتب موشيه سميلانسكي الكاتب الصهيوني سلسلة من الكتب، تحت اسم مستعار هو الخواجة موسى، يصوِّر فيها بإعجاب شديد حياة الفلسطينيين الذين تحولوا في هذه الكتب إلى بدو ورعاة جائلين يُذكِّرون القارئ بشخصيات العهد القديم. وفي قصة قصيرة كتبها زئيف يافيتس عام 1892، يرد وصف لطفل يهودي في مستوطنة بتاح تكفا يتعلم من العرب كيف يدرب جسده على "الحرارة والصقيع وعلى الفيضانات والقحط".

ومن أكثر الأمثلة تطرفاً وطرافة، مسرحية كتبها آرييه أورلوف أريلي نشرت عام 1912 في مجلة هاشيلواح (التي كان يحررها ويصدرها آحاد هعام في أوديسا). تصور المسرحية جماعة من المستعمرين الرواد من موجة الهجرة الثانية كانوا يعيشون في مزرعة جماعية. وبطلة المسرحية هي المستوطنة الصهيونية ناعومي التي ترفض حب اثنين من زملائها وتؤثر عليهما بائعاً جوالاً عربياً يُدعَى علي! وحينما يقتل أحد الرواد شاباً عربياً، ينتقم علي لصديقه المذبوح بأن يقتل الصهيوني! ولكن حتى هذا الفعل لا يغيِّر من حب ناعومي له. وتنتهي المسـرحية بمونولـوج عاصف تقول فيه ناعومي مخاطبة إخوانها الصهاينة: "إن روحي تحتقركم أيتها الديدان المتحضرة. لقد تعلمت من العربي الضاري شيئاً، لقد تعلمت منه هذه الكلمات: الله كريم" (وهذا هو عنوان المسرحية).

ويبدو أن هذا التيار كان شائعاً لدرجة كبيرة حتى أن مجلة هاشيلواح نشرت مقالاً للناقد الصحفي الصهيوني جوزيف كلاوزنر وجه فيه اللوم للكُتَّاب الصهاينة المستوطنين في فلسطين الذين يصورون كل اليهود في فلسطين كمتحدثين بالعربية يشبهون العرب في كل شيء. وقد استمر هذا التيار وأخذ شكلاً مغايراً وهو الدعوة إلى الوحدة السامية والإيمان بالأصول السامية المشتركة لكلٍّ من العرب واليهود والتي عبَّر عنها فكر الحركة الكنعانية التي انتشرت بعض الوقت بين المثقفين الصهاينة. ويجب ملاحظة أن هذا الموقف من العربي، كبدوي وبطل رومانسي، يتسم بقدر كبير من التجريدية، فالعربي هنا ليس إنساناً حقيقياً تاريخياً وإنما هو مقولة رومانسية مجردة ليست ذات حقوق متعيِّنة. كما أن العربي هنا بدوي أي إنسان متنقل غير مرتبط بالأرض، الأمر الذي يخدم المصالح الصهيونية ولا شك. وتمجيد العربي هو في واقع الأمر فصله عن أرضه وعزله عن إنسانيته المتعيِّنة ليصبح شيئاً يشبه الآثار الساكنة (التي نسميها «الأنتيكة» في مصر). والصهيونية في هـذا، مرة أخرى، لا تختلف كثيراً عن العنصرية الغربية، التي كانت لا تمانع بتاتاً في الإعجاب بـ "الماضي التليد" و"الأمجاد الغابرة" ما دامت مقطوعة الصلة بالواقع وما دامت لا تُستخدَم كمؤشر على ما يمكن أن ينجزه صاحب هذا التراث في المستقبل. وقد اختفت هذه المقولة الإدراكية تماماً في الخطاب الصهيوني، ولم يبق لها سوى أصداء خافتة باهتة.

أما مقولة «العربي كيهودي» فهي أكثر وضوحاً ومركزية وتواتراً، فنحن إذا نظرنا لكثير من المقولات الإدراكية الصهيونية (والإسرائيلية) ـ العربي كمتخلف، وتهميش العربي، والعربي كحيوان اقتصادي، والعربي كشخص له انتماء قومي محدد، والعربي كطفيلي، والعربي كشـخص يحركه التعـصب الديني، والقومية العربية كقومية عميلةللإنجليز، للاحظنا أن هذه هي نفسها صفات اليهودي في أدبيات معاداة اليهود في الغرب، والتي كانت تهدف إلى إسقاط حقوق اليهودي وطرده باعتباره شخصية طفيلية هامشية غير منتمية، وإلى إبادته في نهاية الأمر. وكما قلنا، كانت هذه المقولات جزءاً من الترسانة الإدراكية للصهيونية تشــبعت بها وتبنتها وطبقتها على الآخَر (أي علىيهـود المنفى)، ثم أسقطتها على الآخَر (أي العربي)، كمحاولة لتغييبه وتهميشـه وتجريده وطرده وإبادته واجتثـاث علاقته بالأرض، تماماً كما فعل المعادون لليهود باليهود داخل التشكيل الحضاري الغربي (والطريف أن اليهودي هنا يصبح ممثل الأغيار الذي يذبح العربي كيهودي بعد أن ينسب إليه كل الشرور وينعته بكل الرذائل، تماماً كما كان الأغيار يُسقطون حقوق اليهود ثم يقومون بذبحهم).

المضمون الصهيوني للممارسات الإسرائيلية العنصرية

Zionist Content of Israeli Discriminatory Practice

تعاونت أجنحة الصهيونية كافة في مرحلة ما قبل 1948 على إنجاز العنصر المُتضمَّن في الصيغة الصهيونية الأساسية، أي التخلص من السكان الأصليين وتغييبهم. وثمة أدبيات ثرية في هذا الموضوع توثق النية الصهيونية المبيتة لطرد العرب، وتبين الطرق المختلفة التي لجأت إليها قوات المستوطنين لطرد الفلسطينيين (ولسحق مقاومتهم سواء قبل 1948 أو بعدها أو قبل الانتفاضة أو بعدها). وقد علَّق حاييم وايزمان بأن خروج العـرب بشكـل جماعي كان تبسيطاً لمهمة إســرائيل ونجاحـاً مزدوجــاً: انتصــاراً إقليمياً وحـلاًّ ديموجرافياً نهائيــاً، بمعنى أن الأرض تم الاسـتيلاء علىـها وتم تفريغها من سكانها حتى يتسـنى للشعـب الذي لا أرض له أن يهاجر إليها ويستوطنها.

ولكن وايزمان كان مخطئاً في نبوءاته متعجلاً فيها، فالأرض لم يتم تفريغها تماماً من سكانها، فقد بقيت أقلية من العرب آخذة في التزايد. وقد لجأت دولة المستوطنين الصهاينة إلى اتخاذ إجراءات قانونية للضرب على يد هذه الأقلية العربية وتكبيلها. ولم يكن ذلك أمراً عسيراً إذ أنها ورثت فيما ورثت خاصية اليهودية باعتبارها خاصية رئيسية ومحورية تسم اليهود الذين تقوم على خدمتهم مجموعة من المؤسسات الاستيطانية المقصورة عليهم. وبصدور قانون العودة في يوليه 1950، تحوَّلت خاصية اليهودية هذه إلى مقولة قانونية تمنح صاحبها حقاً تنكره على غير اليهود. ويمنح هذا القانون بشكل آلي جميع اليهود في العالم حق الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. وقد جاء في القانون أن من حق كل يهودي أن يأتي إلى إسرائيل كمهاجر، وأن تُمنَح تأشيرة لكل يهودي يعرب عن رغبته في الاستقرار في إسرائيل. وهكذا أصبح من حق أي يهودي، حتى وإن لم تطأ قدماه أرض فلسطين من قبل، أن يستقر في إسرائيل، بينما الفلسطيني الذي وُلد ونشأ في فلسطين ويريد العودة إلى وطنه لا يتمتع بهذا الحق وتُحرِّم عليه العودة.

ويستند القانون إلى المفهوم الصهيوني الفريد الخاص باليهودي الخالص أو المطلق صاحب الحقوق المطلقة في أرض فلسطين، وإلى مفهوم الشعب اليهودي الواحد. وقد أكد بن جوريون المضمون الأيديولوجي للقانون بقوله: إن الدولة لا تنوي من وراء هذا المشروع أن تمنح اليهود حق المجيء إلى إسرائيل حيث إن هذا الحق مُتوارَث، وإنما يهدف القانون إلى تحديد طابع الدولة الصهيونية الفريد وهدفها الذي لا يقل تفرُّداً. فهذه الدولة تختلف عن بقية دول العالم من حيث عناصر قيامها وأهدافها. فسلطتها قدتكون محصورة في سكانها ولكن أبوابها مفتوحة لكل يهودي أينما كان، أي أنها دولة الشعب اليهودي بأسره. وقد قارن كثير من الكُتَّاب اليهود قانون العودة بالقوانينالنازية، فهو يميِّز بين الأفراد على أساس ديني أو عرْقي.

ثم قُدِّم إلى الكنيست قانون الجنسية (باعتباره قانوناً مكملاً لقانون العودة)، وتمت الموافقة عليه هو الآخر عام 1952. وهذا القانون تجسيد للنزعة الاستيطانية الإحلاليةالصهيونية التي تعبِّر عن نفسها من خلال قبولها ازدواج جنسية اليهود وجعلها مسألة صعبة بالنسبة إلى السكان الأصليين إذ عليهم أن يتقدموا بطلب للحصول عليها. وهذا القانون ينطلق، مثل سابقه، من مفهوم وحدة الشعب اليهودي، وهو شعب مُوزَّع في جميع أقطار العالم. ولذا، فقد نص القانون على أن الحصول على الجنسية الإسرائيلية لا يتوقف على التنازل عن جنسية سابقة.

هذا هو الجانب الذي يخص المستوطنين. أما بالنسبة إلى العرب، فقد نص القانون على منح الجنسية الإسرائيلية للمقيمين من غير اليهود وكانوا مواطنين فلسطينيين ومسجلين بموجب مرسوم تسجيل السكان الصادر عام 1949. ولكن، وبينما يعطي هذا القانون الجنسية بشكل آلي للمهاجر الصهيوني، فإنه يُلزم الفلسطيني وحده باتباع إجراءات التجنيس الشائكة.

ولابد، لكي نفهم وضع العرب في فلسطين، من النظر إلى قانوني العودة والجنسية في علاقتهما بالقوانين المتعسفة الأخرى التي تحكم حياة العرب اليومية. فهذه القوانين تُطبَّق اسماً على جميع مواطني إسرائيل، ولكنها فعلاً تُطبَّق على غير اليهود وحسب. وأهم هذه القوانين ما يُعرَف باسم «قانون وأنظمة الطوارئ» التي أصدرتها سلطات الاحتلال الإنجليزية في عام 1936 ثم أُضيفت إليها نصوص جديدة عام 1945. وقد صادق الكنيست على تمديدها بعد إجراء بعض التعديلات، فأصبحت سارية المفعولفي الدولة الصهيونية، وعُمِّم تطبيقها على المناطق المحتلة بعد يونيه 1967.

وقد تم تكبيل العنصر البشري الفلسطيني عن طريق هذه القوانين التي بدأت بقانون العودة وتحوُّل خاصية اليهودية إلى مقولة قانونية. بقي بعد ذلك الاستيلاء على الأرض، وهنا نجد أن نقطة البدء هي دستور الصندوق القومي اليهودي الذي يستند أيضاً إلى خاصية اليهودية كمقولة قانونية. والصندوق القومي اليهودي مؤسسة ضمن عدةمؤسسات صهيونية أخرى مقصورة على اليهود تحوَّلت إلى مؤسسات حكومية رسمية بعد إعلان الدولة، ولعله أهمها على الإطلاق. وقد كان الصندوق مؤسسة خاصة للمساعدات الذاتية ينص دستوره على أنه شركة تحت سيطرة اليهود تهدف إلى توطين اليهود على الأراضي التي يتم الحصول عليها، والتي يحق لليهود وحدهم استخدامها. ولا تُنقَل ملكية هذه الأراضي بالبيع أو بأية طريقة أخرى، فهي مملوكة ملكية خالصة للشعب اليهودي. ويقوم الصندوق بمنح التبرعات التي من شأنها أن تخدم مصلحة اليهود. ولا يمكن، علاوة على هذا كله، استئجار غير اليهود للعمل في هذه الأراضي. فالصندوق يشجع الاستعمار الزراعي القائم على العمل العبري. وقد تم تعريف اليهودي بأنه اليهودي بالمفهوم الديني أو العرْقي أو بأنه يرجع إلى أصل يهودي. وتُجمع المصادر على أن حوالي 90% من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 تقع تحت سيطرة الصندوق. ويُعاقَب كل إسرائيلي يقوم باستئجار العمال العرب بدفع غرامة لانتهاكه دستور الصندوق الذي ينص على أن من حق الصندوق أن يحرم المالك اليهودي من أرضه، دون دفع أيِّ تعويض له إذا قام بانتهاك هذه المادة ثلاث مرات.

وكما صدر قانون العودة كقانون يجسد الفكرة الصهيونية وتبعته بعض القوانين التي تترجم المقولة إلى إجراءات، فإن «دستور» الصندوق القومي اليهودي قد تبعته عدة قوانين خاصة بالأراضي تهدف إلى الاستيلاء عليها. يمنح "قانون" الهستدروت والوكالة اليهودية مزايا خاصة فقط للمواطنين اليهود. وهناك سلسلة من القوانين الأخرى تحصر الاستفادة من عدة مزايا اجتماعية فيمن أدوا الخدمة العسكرية وعائلاتهم (ومما هو معروف أن الخدمة العسكرية مقصورة على المستوطنين الصهاينة). ويمكن القول بأن قانون المناسبات الرسمية وأيام العطل ذات مضمون إثني/ديني تميز ضد العرب، ولعل أهم هذه الأعياد هو إعلان استقلال إسرائيل الذي يسميه الفلسطينيون «النكبة».

ويلاحظ أن المحاكم في الخمسينيات والستينيات كانت وسيلة من الوسائل المستخدمة لسلب المواطنين العرب أراضيهم، ولم تقدم أية مساعدة للمتضررين من الحكم العسكري في تلك الفترة. ولا يزال نظام المحاكم الجنائية في غير مصلحة العرب، فلا وجود لمحامين عرب على أي من مستوياته، وهذا يعبِّر عن قلة عدد المحامين العرب، ولكنه أكثر ارتباطاً بالعقبات الأمنية (كالحصول على تأشيرة أو تصديق أمني) التي تعترض تعيين العرب في أي منصب من مناصب النظام القضائي. وغالباً ما تكون الأحكام جائزة ضد العرب.

والأمر الذي يجدر تأكيده هو أن التمييز العنصري في إسرائيل ليس أمراً ناجماً عن تعصب شخصي أو انحراف فردي وإنما هو أمر نابع من القوانين الإسرائيلية نفسها ومن صهيونية الدولة، فمقولة «يهودي» هي مقولة قانونية أساسية. فقوانين التمييز والتفرقة العنصرية تُشكِّل جزءاً عضوياً من الإطار القانوني للدولة الصهيونية. وهذه الخاصية بالذات هي ما يفصل بين التمييز العنصري الذي تمارسه الجيوب الاستيطانية، والتمييز العنصري في بقية أنحاء العالم. فالتمييز العنصري في الحالة الأولى يستند إلى قوانين الدولة نفسها، بينما يُمارَس التمييز العنصري في كل البلاد الأخرى ضد إرادة القانون. وقد انعكست هذه القوانين على أحوال العرب في المناطق المحتلة قبل 1967 وبعدها في كثير من مجالات حياتهم.

وبطبيعة الحال تعبِّر العنصرية الصهيونية عن نفسها لا على المستوى الدستوري والقانوني وحسب وإنما على مستوى الممارسة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية. وكما قال موشيه أرنس، قطب الليكود، ووزير الدفاع السابق: "هناك في دولة إسرائيل شيء يهودي خاص، فهل يتمكن العرب من الشعور بالانتماء الكامل له...؟" فهناك بالفعل مجموعة من الثوابت التي تحكم الحياة السياسية، وهي قواعد عرفية وغير مقننة، ولا تنسجم بأية صورة مع أسس الديموقراطية. فعلى سبيل المثال لا يُعتبر أمراً شرعياً إقامة ائتلاف حكومي تدخل فيه أحزاب عربية، سن قوانين اعتماداً على أصوات غير يهودية في الكنيست.

ويقر سامي سموحا، وهو أكاديمي إسرائيلي يبحث في شئون الفلسطينيين في إسرائيل، بأن إسرائيل ليست ديموقراطية ليبرالية، ولكنها ديموقراطية من الدرجة الثالثة، ويفضل أن يطلق عليها عبارة "ديموقراطية عرْقية".

ونورد هنا بعض النقاط التي تظهر تردي أحوال السكان العرب قياساً بالسكان اليهود:

1 - إن المخصصات المالية الحكومية للمجالس المحلية اليهودية تتخطى خمسة أضعاف مساهمة الحكومة لميزانية المجالس المحلية العربية.

2 - إن المخصصات المالية لإعالة الأطفال وقروض السكان ونفقات الدراسة الجامعية للطلاب ترتبط جميعها بالخدمة العسكرية التي تمنح اليهود، بصورة آلية، مزية على العرب.

3 - إن دعم الحكومة لتكلفة المياه التي يستهلكها المزارعون اليهود يناهز ما تمنحه للمزارعين العرب بمائة ضعف.

4 - يبلغ عدد الأكاديميين في الجامعات الإسرائيلية نحو خمسة آلاف أكاديمي، لا يوجد بينهم سوى عشرة من العرب، في وقت تبلغ فيه نسبة العرب من 15 - 20% من السكان.

5 - تتاح للمهاجرين اليهود القادمين حديثاً دروساً جامعية بلغاتهم الأصلية، بينما يُجبر الطلاب العرب على الدراسة باللغة العبرية.

6 - ثمة عربي واحد من مجموع 2400 يحتلون مراكز إدارية في الشركات التي تملكها الحكومة.

وبصورة عامة يمكن القول بأن الوضع الاقتصادي للأقلية العربية في إسرائيل يختلف اختلافاً جذرياً عن الوضع الاقتصادي للمستوطنين الصهاينة، فالوجود الفعال للعرب في قطاعي الزراعة والصناعة محظور، فمن غير المسموح لهم التواجد في المؤسسات التعاونية الزراعية؛ كما أنهم لا يستطيعون العمل في أية شركة صناعية إسرائيلية لها علاقة بصناعة السلاح؛ كذلك لا يحق لهم الوجود في المنشآت الحكومية المهمة.

أما من ناحية الدخل، فهنك فارق كبير بين معدل دخل الأسرة اليهودية ومعدل دخل الأسرة العربية. حتى أن التقديرات لسنة 1983 تبيِّن أن معدل دخل الفرد العربي هو 46% فقط قياساً بمعدل دخل الفرد اليهودي.

والتمييز ضد العرب قائم في مرافق الحياة الإسرائيلية كافة. ويكفي المقارنة بين الوضع التعليمي للعرب بالوضع التعليمي لليهود في إسرائيل. ففي سنة 1985، كانت نسبة من لا يذهب إلى المدارس من السكان اليهود فوق سن 14 عاماً لا تتجاوز 5%، بينما بلغت هذه النسبة بين العرب أكثر من الضعف (13.6%). أما نسبة اليهود (فوق 14 عاماً) الذين دخلوا الجامعات فكانت 22.2%، في حين كانت لدى العرب ثلث ذلك تقريباً (7.8%).

وأثار بعض العلماء من الصهاينة والمتعاطفين معهم كثيراً من الاعتراضات على وصف الصهيونية بالعنصرية، من أهم هذه الاعتراضات: كيف يمكن أن تكون الصهيونيةحركة عنصرية إذا كان اليهود لا يعترفون بأنفسهم كعرْق؟. وبالفعل، تجنح الاعتذاريات الصهيونية الآن نحو الابتعاد عن استخدام لفظة «عرْق» ويشار بدلاً من ذلك إلى "الإثنية اليهودية". والاعتراض المثار اعتراض لفظي محض، ولكن حتى لو أخذنا به فإن من السهل دحضه. وقد أشرنا من قبل، أثناء حديثنا عن التعريف الصهيونيلليهودي، إلى تطوره التاريخي من تعريف عرْقي إلى تعريف إثني وإلى الأسباب التي أدَّت إلى ذلك (انظر: «الهويات اليهودية: التعاريف الصهيونية»). ويمكننا أن نضيفهنا أن ذلك لم ىكن تطوراً حقيقياً إذ أن كلمتي «عرْق» و «إثنية» تكادان تكونان مترادفتين. وقد عرَّف معجم وبستر العالمي الجديد (بالإنجليزية) كلمة «جنــس» بالمعنى العرْقي المحدد، ولكنه أورد كذلك معنى أكثر اتسـاعاً: "حالة كون الإنسان عضواً في شعب أو جماعة إثنية". وقد خصَّص كاتب مدخل «العلاقات العرْقية» في الموسوعة البريطانية قسماً كاملاً من مقاله لمشكلة التعريف بدأه بقوله: "إن كلمة «عرْق» نفسها من الصعب تعريفها"، واقترح أن نستغني تماماً عنها وأن تحل محلها كلمة «جماعة إثنية» التي يمكن وصفها بأنها ذات "نمط جسدي موروث (أي عرْقي) أو حضارة أو قومية موروثة (أي إثنية) أو خليط من كل هذه الصفات". وقد حـاول اغناتز زولتشـان، باعتباره أحد المفكرين الصهاينة، إثبات أن اليهود عرْق، ولكنه كان مع هذا يتحدث عن اليهود كأمة من الدم الخالص احتفظت بأعظم الصفات الإثنية، أي أن الكلمتين حتى وإن لم تكونا مترادفتين تمـاماً فإنهما وثيقتـا الصلة الواحدة بالأخرى.

وعلى كل حال، مهما كان ما أصاب المجال الدلالي من اضطراب، ومهما اختلطت معاني الكلمات، فإن كلمة «عنصرية» تظل مصطلحاً يشير إلى نسق من القوانين والممارسات مبني على التفاوت، ويعمقه، ويمنح أفراد مجموعة بشرية بعينها عدداً من المزايا ينكرونها على سائر أعضاء المجتمع بسبب خاصية مقصورة على هؤلاء ولا يمتلكها الآخرون. وفي إسرائيل، فإن هذه الخاصية هي «اليهودية» سواء عُرِّفت تعريفاً عرْقياً أو عُرِّفت إثنياً علمانياً أو إثنياً دينياً. وانطلاقاً من هذا أصدرت هيئة الأمم المتحدة (عام 1975) قرارها الذي يقضي بأن الصهيونية حركة عنصرية، وهو القرار الذي ألغته عام 1991 مع تغيُّر موازين القوى في العالم.

الباب الثانى: الإرهاب الصهيوني/الإسرائيلي حتى عام 1948

العنــــف والرؤيــــة الصهيونيـــة للواقـــع والتاريـــخ

Violence and the Zionist View of Reality and History

»العنف« هو «الشدة والقسوة» وهو ضد الرفق واللين، وهي من «عَنَّف» بمعنى «عامله بشدة وقسا عليه». وأحد الأشكال الأساسية «للعنف الصهيوني» هو رفض الصهاينة قبول الواقع والتاريخ العربي في فلسطين باعتبار أن الذات الصهيونية واليهودية هي مركز هذا الواقع ومرجعيته الوحيدة. ولذا يستبعد الصهاينة العناصر الأساسية (غير اليهودية) المكونة لواقع فلسطين وتاريخها من وجدانهم ورؤيتهم وخريطتهم الإدراكية. والإرهاب الصهيوني إن هو إلا محاولة تستهدف فرض الرؤية الصهيونيةالاختزالية على الواقع المركب، ولذا يمكن القول بأن الإرهاب هو العنف المسلح (مقابل العنف الإدراكي(.

والعنف النظري والإدراكي سمة عامة في الفكر العلماني الشامل الإمبريالي. والصهيونية لا تمثل أي استثناء من القاعدة، فقد نشأت في تربة أوربا الإمبريالية التي سادت فيها الفلسفات النيتشوية والداروينية والرؤية المعرفية الإمبريالية التي تتخطى الخير والشر والتي تحوسل العالم والناس بحيث يصبح الآخر مجرد أداة أو شيئاً يُستخدَم. ومع هذا يظل العنف الصهيوني ذا جذور خاصة تمنحه بعض السمات المميزة:

1 ـ لم تكن الصهيونية حركة استعمارية وحسب وإنما هي حركة استيطانية إحلالية (أرض بلا شعب) وهو ما يعني ضرورة أن تُخلي الأرض التي سيُنفَّذ فيها المشروعالصهيوني من السكان الأصليين، ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال أقصى درجات العنف النظري والإرهاب الفعلي.

2 ـ من السمات الأساسية للأيديولوجيات العلمانية الحلولية العضوية أنها تحوي مركزها أو مرجعيتها (أو مطلقها) داخلها، ومن ثم فهي تشكل نسقاً مغلقاً ملتفاً حول نفسه يخلع القداسة على الذات ويجعلها موضع الحلول والكمون ويحجبها عن الآخرين (الذين يقعون خارج دائرة القداسة) فيهدر حقوقهم ويبيدهم، فهم ليسوا موضع الحلول.

والصهيونية وريثة الطبقة الحلولية اليهودية (داخل التركيب الجيولوجي اليهودي) هي عقيدة علمانية حلولية كمونية تجعل اليهود شعباً عضوياً ذا علاقة عضوية خاصة بالأرض (إرتس يسرائيل) أي فلسطين، وهي علاقة تمنحهم حقوقاً مطلقة فيها، الأمر الذي يعني طَرْد السكان الأصـليين الذين لا تربطهم بأرضـهم رابطة عضـوية حلولية مماثلة.

وقد حوَّلت الصهيونية العهد القديم إلى فلكلور للشعب اليهودي، وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف حروب كثيرة خاضتها جماعة يسرائيل أو العبرانيون مع الكنعانيين وغيرهم من الشعوب، فقاموا بطرد بعضهم وإبادة البعض الآخر. وجماعة يسرائيل يحل فيها الإله الذي يوحي لها بما تريد أن تفعل، ويبارك يدها التي تقوم بالقتل والنهب، فكل أفعال الشعب مباركة مقدَّسة لأن الإله يحل فيه.

3 ـ ورثت الصهيونية ميراث الجماعة الوظيفية اليهودية بفصلها الحاد بين الشعب المقدَّس والأغيار وبما يتسم به ذلك من ازدواجية في المعايير تجعل الآخر مباحاً تماماً وتجعل استخدام العنف تجاهه أمراً مقبولاً.

لكل هذا، أصبح العنف إحدى المقولات الأساسية للإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ. وقد أعاد الصهاينة كتابة ما يسمونه «التاريخ اليهودي» فبعثوا العناصر الحلولية الوثنية مؤكدين جوانب العنف فيه. فصوروا الأمة اليهودية في نشأتها جماعةً محاربة من الرعاة الوثنيين الغزاة. فبيردشفسكي، على سبيل المثال، ينظر إلى الوراء إلى الأيام التي كانت فيهـا "رايات اليهـود مرتفعـة"، وينظر إلى الأبطال المحاربين "اليهود الأوائل". كما أنه يكتشف أن ثمة تياراً عسكرياً في التراث اليهودي، فالحاخام إليعازر قد بيَّن أن السيف والقوس هما زينة الإنسان، ومن المسموح به أن يظهر اليهودي بهما يوم السبت. هذه الرؤية للتاريخ تتضح في دعوة جابوتنسكي لليهودي أن يتعلم الذبح من الأغيار. وفي خطاب له إلى بعض الطلاب اليهود في فيينا، أوصاهم بالاحتفاظ بالسيف لأن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك "لأجدادنا الأوائل... إن التوراة والسيف أنزلا علينا من السماء"، أي أن السيف يكاد يكون المطلق، أصل الكون وكل الظواهر. ولهذا لا يتردد جابوتنسكي في رفض التاريخ اليهودي الذي يسيطر عليه الحاخامات والمفكرون اليهود.

ويبدو أن هذا السيف المقدَّس (رمز الذكورة والقوة والعنف) كان محط إعجاب كل الصهاينة الذين كثيراً ما عبَّروا عن إعجابهم وانبهارهم بالعسكرية البروسية الرائعة (هذا بالطبع قبل أن يهوى هذا السيف البروسي على الرقاب اليهودية في أوشفتس). وتمتلئ كتابات هرتزل بعبارات الإعجاب بهذا السيف، إذ كتب في مذكراته يشيد ببسمارك الذي أجبر الألمان على شن عدة حروب، الواحدة تلو الأخرى، وبذلك فرض عليهم الوحدة وبدأ تاريخهم الحديث كدولة موحدة. فالعنف العسكري هو وحده محرك التاريخ الحقيقي، "إن شعباً كان نائماً زمن السلم، رحب بالوحدة في ابتهاج في زمن الحرب". وبينما كان هرتزل ينظر من نافذة أحد المسئولين الألمان شاهد مجموعات من الضباط الألمان يسيرون بخطى عسكرية، فعبَّر عن انبهاره بهم في يومياته وذهب إلى أن هؤلاء هم صناع تاريخ ألمانيا: "ضباط المستقبل لألمانيا التي لا تُقهَر". بل إنهم قد يكونون أيضاً صناع التاريخ الصهيوني نفسه، إذ يشير هرتزل إلى تلك "الدولة التي تريد وضعنا تحت حمايتها".

وتَغنَّى ناحوم جولدمان أيضاً بهذه الروح العسكرية البروسية في شبابه: "ألمانيا تجسد مبدأ التقدم ونجدها واثقة من النصر. ألمانيا ستنتصر وستحكم الروح العسكرية العالم. ومن يريد أن يندم على هذه الحقيقة ويعبِّر عن حزنه فله أن يفعل، ولكن محاولة إعاقة هذه الحقيقة هي شيء من قبيل العناد وجريمة ضد عبقرية التاريخ الذي تحركه السيوف وقعقة السلاح".

وقد تبع مناحم بيجين أسـتاذه جابوتنسـكي، وكل الصهاينة من قبله، في تأكيد أهمية السيف باعتباره محركاً للتاريخ إذ يقول: "إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليست السلام بل السيف".

وغني عن القول أن العنف الصهيوني الإدراكي يصل إلى ذروته في إدراك العرب والتاريخ العربي، إذ يحاول الصهاينة، بسبب مشروعهم الإبادي الإحلالي، أن يلتزمواالصمت تماماً تجاهه، فلا يذكرونه من قريب أو بعيد. أو أن يغمغموا بأصوات ليبرالية تخبئ الحد الأقصى من العنف. فحينما اكتشف أحد الزعماء الصهاينة في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) أن فلسطين ليست أرضاً بلا شعب كما كان الادعاء، جرى إلى هرتزل وأخبره باكتشافه، فهدَّأ الأخير من روعه وقال له إن الأمر ستتم تسويته فيما بعد. وكان هرتزل يعرف تماماً كيف كانت تتم تسوية مثل هذه الأمور على الطريقة الإمبريالية، ونحن نعرف كيف تمت تسويتها في فلسطين. وعلى كل فإن الحديث الصهيوني المستمر عن السيف كمحرك للتاريخ ليس تعبيراً عن رغبة الصهاينة في ممارسة رياضة محببة لبعض النفوس وإنما هو تعبير عن برنامج محدد لتغيير الواقع.

ويُعَد هذا العنف الإدراكي لبنة أساسية في التصور الصهيوني للذات والواقع والتاريخ والآخر، وهو قد يعبِّر عن نفسه بطريقة مباشرة، كما بيَّنا في الاقتباسات السابقة، ولكنه قد يعبِّر عن نفسه بطريقة غير مباشرة عن طريق عشرات القوانين والمؤسسات. وما قانون العودة الإسرائيلي إلا ترجمة لهذا العنف حين يُعطي أيُّ يهودي في العالم حق "العودة" إلى إسرائيل في أي وقت شاء ويُنكر هذا الحق على ملايين الفلسطينيين الذين طُردوا من فلسطين على دفعات منذ عام 1948، رغم أن يهود العالم لا يودون الهجرة إلى إسرائيل بينما يقرع الفلسطينيون أبوابها. ولكنها الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تحوسل كل البشر (العرب واليهود) والزمان (تواريخ الجماعات اليهودية وتاريخ فلسطين) والمكان (فلسطين). وما الإرهاب الصهيوني الذي لم يهـدأ إلا تعبيراً عن رؤية الصهاينة التي تحاول أن تصل إلى نهاية التاريخ: نهاية تاريخ الجماعات اليهودية في العالم، ونهاية التاريخ العربي في فلسطين.

العنف الصهيوني وتحديث الشخصية اليهودية

Zionist Violence and the Modernization of the Jewish Personality

ثمة عنف أساسي في الإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ. ولم يكن هناك مفر من أن يُترجم هذا الإدراك نفسه لإجراءات وعنف مسلح لتغيير الواقع ولرفض الرؤية اليهودية الحاخامية. ولتحقيق هذا الهدف كان حتمياً أن تُنتَج المادة البشرية القتالية القادرة على تحريك التاريخ لا من خلال التوراة وإنما من خلال السيف، وهذا ما سماه الصهاينة «تحديث الشخصية اليهودية»، أي علمنتها وجعلها قادرة على تغيير قيمها حسبما تقتضيه الظروف والملابسات، وتبنِّي قيم نيتشوية وداروينية لا علاقة لها بمكارم الأخلاق أو بالمطلقات الإنسانية والأخلاقية والدينية.

وقد بيَّن الصهاينة أن اليهودية الحاخامية طلبت من اليهود الانتظار في صبر وأناه لعودة الماشيَّح، وألا يتدخلوا في مشيئة الإله، لأن في هذا كفراً وتجديفاً. ولكن الصهاينة، الرافضين للعقيدة اليهودية، تمردوا على هذا الموقف أو وصفوه بالسلبية ونادوا بأن يتمرد اليهودي على وضعه وألا ينتظر وصول الماشيَّح، إذ ينبغي أن يعمل اليهودي بكل ما لديه من وسائل على العودة إلى أرض الميعاد. فالمنفى بالنسبة إلى بن جوريون يعني الاتكال، الاتكال السياسي والمادي والروحي والثقافي والفكري، "وذلك لأننا غرباء وأقلية محرومة من الوطن ومُقتلَعة ومشرَّدة عن الأرض، وعن العمل وعن الصناعة الأساسية. واجبنا هو أن ننفصل كلياً عن هذا الاتكال، وأن نصبح أسياد قدرنا". ويلخص بن جوريون برنامجه الثوري في أنه لا يرفض الاستسلام للمنفى فحسب، بل يحاول أيضاً إنهاءه في التو، وهو يعتقد أن هذا هو حجر الزاوية:"القضية الحقيقية الآن، كما كانت في الماضي، تتركز فيما لو كان علينا أن نعتمد على قوة الآخرين أم على قوتنا. على اليهودي من الآن فصاعداً ألا ينتظر التدخل الإلهي لتحديد مصيره، بل إن عليه أن يلجأ إلى الوسائل الطبيعية العادية" (مثل الفانتوم والنابالم مثلا). وهذا ما يُسمَّى أيضاً في الأدبيات الصهيونية «إشكالية العجز وعدم المشاركة في السلطة» (انظر المدخل بهذا العنوان).

لكل هذا تنطلق الصهيونية من نقد نيتشوي للشخصية اليهودية في المنفى فيقول ماكس نوردو إن اليهودي، خلال ثمانية عشر قرناً من النفي، أصبح مترهل العضلات (وهذه هي إحدى الأوصاف السائدة لليهـود بين أعداء اليهـود). ولذلك "أقترح أن يُقلع اليهـودي عن قهر جسده، وأن يعمل على تنمية قواه الجسدية وعضلاته، أسوة بذلك البطل بركوخبا، آخر تجسيد لتلك اليهودية في صلابة عودها المقاتل وحبها لقعقعة السلاح". والفكرة نفسها تَرد في كتابات جابوتنسكي الذي رفض أخلاقيات العبيد ونادى بتفضيل العقل على الفكر وأخلاق السادة على أخلاق العبيد والسيف على الكتاب حتى يظهر اليهودي الجديد المتحرر من أغلال الدين والقيم.

إن العنف هنا يصبح الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية. فاليهودي، في هذا التصور، يحتاج إلى ممارسة العنف لتحرير نفسه من نفسه ومن ذاته الطفيلية الهامشية. وكان الكاتب الصهيوني بن هكت يشعر بسعادة في قرارة نفسه في كل مرة يقتل فيها جندياً بريطانياً لأنه، على حد قوله، كان يتحرر من مخاوفه ويُولَد من جديد، تماماً مثل شارلوت كورداي في قصيدة لجابوتنسكي بعنوان "شارلوت المسكينة". فشارلوت تتخلص من رتابة حياتها وسخافتها وتروي تَعطُّشها للعمل البطولي بأن تقوم بتسديد الضربة إلى جان مارا فترديه قتيلاً في الحمام. العنف هنا يصبح مثل الطقوس الدينية التي تستخدمها بعض القبائل البدائية حينما يصل أحد أفرادها إلى سن الرجولة. فاليهودي حينما يقوم بهذا الفعل الذي كان يخاف منه أجداده (ذبح أحد الأغيار) يتخلص من مخاوفه، ويصبح جديراً بحمل رمز الذكورة. وهذا الجانب من الفكر الصهيوني يتضح بجلاء في كتاب الثورة الذي ألفه مناحم بيجين، والذي يقلب فيه عبارة ديكارت المعروفة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" لتصبح "أنا أحارب، إذن أنا موجود". ثم يضيف: "من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال، نموذج غير معـروف البتـة للعالم في الألف وثماني السنين الماضية: اليهودي المحـارب".

وحتى الليبرالي الأمريكي الهادئ برانديز، يُشير (باستحسان شديد) إلى وظيفة العنف الصهيوني في إعادة صياغة الشخصية اليهودية: "غرست الصهيونية في الشباب اليهودي الشجاعة، فألفوا الجمعيات، وتدربوا على الأعمال الرياضية وعلى اللعب بالسيف، وصارت الإهانة تُرَدُّ بإهانة مثلها. وفي الوقت الحاضر، يجد أفضل لاعبي السـيف الألمـان أن الطلبة الصهيونيين يسـتطيعون أن يُدمـوا الخدود، كما يفعل التيوتون، ويرون أيضاً أن اليهود سوف يكونون أفضل لاعبي السيف في الجامعة" (وفي الشرق الأوسط فيما بعد). لقد كان برانديز يفكر في الطالب الآري "وحش نيتشه الأشقر" حينما كان يتحدث عن بطله اليهودي.

والعنف عند بن جوريون يقوم بالوظيفة نفسها في إعادة صياغة الشخصية اليهودية، إذ يصف الرواد الصهاينة بأنهم لم يكن لهم حديث إلا الأسلحة "وعندما جاءتنا الأسلحة لم تسعنا الدنيا لفرط فرحتنا، كنا نلعب بالأسلحة كالأطفال ولم نعد نتركها أبداً. كنا نقرأ ونتكلم والبنادق في أيدينا أو على أكتافنا". إن موقف بن جوريون مبني على تصـوُّر جديد للشـخصية اليهودية باعتبارها شـخصية محـاربة منـذ الأزل "إن موسى، أعظم أنبيائنا، هو أول قائد عسكري في تاريخ أمتنا". ومن هنا يكون الربط بين موسى النبي وموشى ديان مسألة منطقية بل حتمية، كما لا يكون من الهرطقة الدينية في شيء أن يؤكد بن جوريون أن خير مفسر للتوراة هو الجيش، فهو الذي يساعد الشعب على الاستيطان على ضفاف نهر الأردن، فيفسر بذلك كلمات أنبياء العهد ويحققها. ولنلاحظ النمط الحلولي الكموني الذي يبدأ بوضع السيف في خدمة التوراة، ثم يصبح السيف موازياً لها، ثم تصبح هي تابعة له، فالسيف هو الذي يفسر التوراة ويفرض عليها المعنى، وكأنه أحد نقاد ما بعد الحداثة أو هارولد بلوم الناقد الأمريكي القبَّالي الذي يرى أن الناقد هو الذي يفرض المعنى على النص، أو كأنه "الشعب المختار" اختاره الإله ثم حل فيه ثم أصبح تابعاً له، أو كأنه الشريعة الشفوية (تفاسير البشر) التي جاءت للوجود لتفسر الشريعة المكتوبة ولكنها حلت محلها بالتدريج.

الإرهـاب الصهــيوني: تعــريف

Zionist Terrorism: Definition

«الإرهاب» بالمعنى الضيق للكلمة هو القيام بأعمال عنف كالقتل وإلقاء المتفجرات أو التخريب لتحقيق غرض ما مثل بث الرعب في قلب سكان منطقة ما ليرحلوا عنها أو لتتم الهيمنة عليهم وتوظيفهم وإجبارهم على قبول وضع قائم مبني على الظلم (من منظور الضحية). ويمكن أن يتسع مفهوم الإرهاب ليشمل مختلف الممارسات الاقتصادية السياسية والعسكرية، المادية والمعنوية. وفي حالة الإرهاب الصهيوني فإن هذا يتضمن سرقة الأراضي بالاحتيال والتزوير والقانون إلى طَرْد أصحابها بقوة السلاح، ومن فرض أنظمة تعليمية تُشوه الوعي الفلسطيني إلى تحقيق شروط اقتصادية غير مواتية لنمو المنتجين العرب. وإذا كان الإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) هو عنف إدراكي، فإن الإرهاب الصهيوني هو الممارسات التي تُحوِّل النظرية والإدراك إلى واقع قائم "وتخلق حقائق جديدة" على حد قول موشيه ديان،وسنتناول في مداخل هذا الباب الإرهاب بالمعنى الضيق والمباشر.

والإرهاب الصهيوني ليس حدثاً عابراً عرضياً وإنما هو أمر كامن في المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي وفي الصيغة الصهيونية الأساسـية الشـاملة. كما أن حـلقات وآليات هذا الإرهاب مترابطة متلاحقة، فالهجمات الإرهابية التي شُنَّت ضد بعـض القرى العربية أدَّت إلى اسـتسلام بقية سكان الأراضي المحتلة، أي أن المذابح والاعتقالات والإبعادات إن هي إلا آلية من آليات الاستيطان الصهيوني الإحلالي، ولا يمكن تَخيُّل إمكانية تَحقُّق المشـروع الصهيـوني بدونها.

والإرهاب الصهيوني هو الآلية التي تم بها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها وفرض المستوطنين الصهاينة ودولتهم الصهيونية على شعب فلسطين وأرضها. وقد تم هذا من خلال الإرهاب المباشر، غير المنظم وغير المؤسسي، الذي تقوم به المنظمات الإرهابية غير الرسمية (المذابح ـ ميليشيات المستوطنين ـ التخريب ـ التمييز العنصري) والإرهاب المباشر، المنظم والمؤسسي، الذي تقوم به الدولة الصهيونية (التهجير ـ الهيكل القانوني للدولة الصهيونية ـ التفرقة العنصرية من خـلال القانون ـ الجـيشالإسـرائيلي ـ الشرطة الإسرائيلية ـ هدم القرى).

ورغم أننا نفرِّق بين الإرهاب المؤسسي وغير المؤسسي إلا أنهما مرتبطان تمام الارتباط ويتم التنسيق بينهما ويجمع بينهما الهدف النهائي، وهو إفراغ فلسطين من سكانها أو إخضاعهم وحصارهم. ولعل واقعة دير ياسين (قبل عام 1948) وفرق الموت المعروفة باسم «المستعرفيم» هي أمثلة أخرى واضحة على هذا التعاون والتنسيق.

والإرهاب الصهيوني مرتبط تمام الارتباط بالدعم الإمبريالي الغربي حين قامت حكومة الانتداب بحماية المستوطنين وتأمين موطئ قدم لهم وسمحت بتأسيس البنية التحتية العسكرية المكونة من المستوطنات التعاونية (وبخاصة الكيبوتس) فيما نسميه «الزراعة المسلحة» ،كما ساعدت المنظمات الصهيونية المسلحة المختلفة ودعمتها، فكانت بمنزلة قوة مسلحة كامنة قامت بالانقضاض على أرض فلسطين وأهلها عام 1948. وبعد إنشاء الدولة، استمرت الدول الغربية "الديموقراطية" في دَعْم الكيان الاستيطاني الإحلالي الصهيوني، رغم ممارساته الإرهابية التي تتسم بكل الجدة والاستمرار، ورغم الحروب العديدة التي شنها على العرب ورغم توسعيته التي لا تعرف أية حدود.

ويحاول الصهاينة قدر استطاعتهم أن يصنفوا المقاومة الفلسطينية المشروعة (من منظور القانون الدولي والأعراف الإنسانية) على أنها شكل من أشكال «الإرهاب»، ومن هنا الإشارة للفدائيين الفلسطينيين بأنهم «إرهابيين»، والإشارة للعمليات الاستشهادية بأنها «عمليات انتحارية إرهابية».

الإرهاب الصهيوني حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية: تاريخ

Zionist Terrorism till the Outbreak of the Second World War: History

يبدأ تاريخ الإرهاب الصهيوني مع الاستعداد للهجرة الاستيطانية، فموجات الهجرة الأولى جاءت بنموذج اليهودي الذي رفض ما يسميه الصهاينة «السلبية اليهودية الحاخامية» والذي كان يرى أن عليه أن يصوغ مستقبله بنفسه عن طريق اغتصاب أرض فلسطين وطرد أصحابها ليخلق لنفسه مجالاً حيوياً يمارس فيها سيادته القومية. وكان تنظيم "الهاشومير" من طلائع التنظيمات في هذه الفترة وهي المنظمة التي تُعَد الهاجاناه امتداداً لها. وكانت الاشتباكات آنذاك تقتصر على استخدام السكاكين والعصي.

ومع قرب انتهاء الحرب العالمية الأولى، بدأت بشائر المرحلة الثانية حيث أخذ الصهاينة يجمعون السلاح لتبدأ بعد ذلك مرحلة قتالية جديدة وطور جديد من أطوار ممارسة الإرهاب المسلح وإن لم يصل إلى حد المواجهة المباشرة بل اكتفى بأسلوب الكر والفر. وبعد الحرب العالمية الأولى، وبعد وضع فلسطين تحت حكم الانتداب البريطاني، يبدأ التاريخ الحقيقي للإرهاب الصهيوني.

فمنذ بدء الانتداب البريطاني على فلسطين أخذ البناء التنظيمي للإرهاب الصهيوني في النمو والرسوخ في فلسطين مستفيداً من دعم الاستعمار البريطاني للحركة الصهيونيةوتأمينه هجرة آلاف الصهاينة من الشباب الذين سرعان ما انخرطوا في تنظيمات الإرهاب. وقد استقر البناء التنظيمي للإرهاب الصهيوني منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين حين تأسَّست الهاجاناه ممثلة الذراع العسكري والباطش للوكالة اليهودية عام 1920، والتي نظمت داخل تنظيمها فرقاً خُصِّصت للهجمات الإرهابية ومنها كتائب بوش التي تقرَّر تشكيلها عام 1937 وكذا فرق البالماخ. وفي السنة التالية أيضاً لاندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 انشق أنصار الصهيونية التصحيحية عن الهاجاناه وكوَّنوا تنظيماً اتخذ لنفسه مظهراً أشد تطرفاً ودموية هو عصابة الأرجون تسفاي ليومي (الإتسل). وفيما بعد انشق عن "إتسل" جماعة أبراهام شتيرن وكوَّنت عام 1940 جماعة ليحي. وتُعَد هذه المنظمات الثلاث (الهاجاناه ـ إتسل ـ ليحي) العمود الفقري للإرهاب الصهيوني حتى عام 1948، حتى أنه يندر أن نجد عملاً إرهابياً وقع في فلسطين منسوباً إلى جماعة غيرها، فضلاً عن أن بعض الحلقات الإرهابية الصهيونية كانت خاضعة لإشرافها.

وهكذا كما ترسخت بنية الإرهاب الصهيوني في العشرينيات والثلاثينيات، شهد النصف الثاني من الثلاثينيات قفزة واضحة بالنسبة لحجم النشاط الإرهابي الصهيوني في فلسطين. وهي القفزة التي تجدر مناقشتها على ضوء المد العالمي للفاشية، وتدفُّق جيل من الشباب الصهاينة الذين تمرسوا على العمل السري والإرهابي في بلدان أوربا الشرقية خاصة. وتشير مذكرة رسمية بريطانية صادرة عن وزارة الدولة للمستعمرات إلى أن الإرهابيين الصهاينة يأتون من روسيا وبولندا والبلقان ولا يعرفون التسامح ولا يعترفون بحقوق الآخرين وتقرِّر أنهم نتاج أنظمة تعليمية تغذي التعصب والشوفينية. كما ترتبط القفزة الواضحة في حجم النشاط الإرهابي الصهيوني آنذاك بتصاعُد الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني الذي كان قد حقَّق تراكماً كافياً في أدواته وإمكاناته تؤهله للصدام مع الفلسطينيين والشروع في التحرك على عجل لتحقـيق غايته وتأسـيس الدولـة الصهيونية.

ومن بين السجل الحافل للنشاط الصهيوني في فلسطين خلال المرحلة الثانية (حتى الحرب العالمية الثانية) يمكن الإشارة لبعض العمليات المهمة من بينها قيام إرهابييالهاجاناه بقتل مواطنين عربيين فلسطينيين بجوار مستعمرة بتاح تكفا رمياً بالرصاص حيث كان كوخهما، وذلك في 16 أبريل عام 1936. وهو نفس العام الذي أصدرت فيه الهاجاناه سبعة قرارات بإطلاق النار على العرب أينما كانوا. كما شهد عام 1937 سلسلة من عمليات إلقاء القنابل اليدوية على تجمعات المواطنين الفلسطينيين العزل في المقاهي ووسائل النقل والأسواق، وكان من أشهرها إلقاء إتسل قنبلة على سوق الخضار المجاور لبوابة نابلس في القدس فسقط عشرات من العرب بين قتيل وجريح. كما أطلق أعضاء نفس المنظمة النار على قافلة عربية فقتلوا ثلاثة ركاب بينهم امرأتان في 14 نوفمبر 1937 وهو اليوم الذي أُطلق عليه لقب «الأحد الأسود» في القدس، حين نفَّذ الإرهابيون الصهاينة أكثر من عملية في المدينة كمظهر لاستعراض القوة.

وفي 6 مارس عام 1937 لقي 18 عربياً مصرعهم وأصيب 38 آخرون من جراء إلقاء قنبلة يدوية في سوق حيفا. كما تعرض نفس السوق في شهر يوليه من العام نفسه إلى تفجير سيارة ملغومة أودت بحياة 350 عربياً فلسطينياً وجرحت 70 آخرين، بينما يفتخر المؤرخون الصهاينة بأن عدد الضحايا كان أكثر بكثير مما أعلنت عنه سلطات الانتداب. وفي اليوم التالي سقط 27 عربياً فلسطينياً وأصيب 46 آخرون بجراح من جراء قنبلة يدوية ألقتها العصابات الصهيونية على السوق المزدحم. كما تعرَّض سوق القدس في 26 أغسطس عام 1938 إلى انفجار سيارة ملغومة أسفر عن مقتل 34 عربياً وجرح 35 آخرين وفق أقل التقديرات. وفجَّرت إتسل قنبلة يدوية أمام أحد المساجد في مدينة القدس في 15 يوليـه 1938 أثنـاء خروج المصـلين فقتلت عشـرة أشخاص وأصابت ثلاثين. وعن أحداث العام نفسه يفتخر الصهاينة بهجوم الإرهابي شلومو بن يوسف واثنان من رفاقه من جماعة إتسل على سيارات عربية فلسطينية يستقلها مواطنون عُزَّل. وقد نفَّذت السلطات البريطانية حكم الإعدام في شولمو فحوَّله المستوطنون الصهاينة إلى بطل قومي مثالي ويحمل طابع بريد إسرائيلي صورته، واختارت إحدى منظمات الإرهاب الصهيوني السرية في الثمانينات اسمه لتطلقه على عملية مماثلة جرت في الضفة الغربية.

ومن بين العمليات الإرهابية الصهيونية خلال عام 1939 شهد يوم 27 فبراير وحده سقوط 27 قتيلاً عربياً وجرح 39 آخرين في حيفا إثر تفجير منظمة إتسل قنبلتين. كما سقط ثلاثة من العرب وجُرح رابع في تل أبيب. بينما قُتل ثلاثة آخرون وجُرح ستة في القدس. إلا أن من أبرز العمليات الإرهابية التي شهدها العام الهجوم الذي دبرته إتسل على سينما ركس في القدس حيث جرى تخطيط متعدد المراحل لتحقيق أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية بواسطة المتفجرات التي تم تسريبها إلى المبنى إضافة إلى إلقاء القنابل داخله ثم فتح نيران الرشاشات على رواد السينما الذين خرجوا في حالة من الذعر والهلع، وقد تم تنفيذ هذه العملية الإرهابية في 29 مايو 1939.

ولم تكن الهاجاناه بعيدة عن التنافس مع إتسل، فقد هاجمت عناصرها قرية بلدة الشيخ بجوار حيفا في 12 يوليه 1939 واختطفت خمسة من سكانها ثم قتلتهم. كما جرى في 29 يوليه الهجوم على ست سيارات عربية فلسطينية في تل أبيب ورحبوت وبتاح تكفا كانت حصيلتها قتل 11 عربياً. وأسفر إلقاء القنابل في مدينة يافا في 26 أغسطس عن مصرع 24 عربياً فلسطينياً وجرح 35 آخرين.

وقد وجدت المنظمات الصهيونية سنوات الحرب العالمية فرصة لتطوير نفوذها وتقوية هياكلها وتسليحها تمهيداً للانطلاق عند انتهاء الحرب. فزادت عدداً وعدة وأضفت على وجودها قدراً من الشرعية بالتعاون مع بريطانيا والحلفاء. وهكذا أعدت المنظمات نفسها للانطلاق لاحقاً نحو هدفين: الأول إجبار الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصليين على مغادرة أراضيهم بما فيها تلك التي يشكلون فيها أغلبية ساحقة وهي الأرض التي خصهم بها مشروع التقسيم لاحقاً. والثاني الضغط على البريطانيين لإلغاء القيود المفروضة وبخاصة على الهجرة والعمل من أجل إقامة دولة صهيونية بأسرع الوسائل.

الإرهاب الصهيوني منذ عام 1945 وحتى إعلان الدولة الصهيونية: تاريخ

Zionist Terrorism from 1945 till the Declaration of the Zionist State: History

تكتسب طبيعة العلاقة بين المنظمات الإرهابية الثلاث الأساسية (الهاجاناه ـ إتسل ـ ليحي)، قبل أن يتقرر حلها ودمجها في جيش الدفاع الإسرائيلي مع قيام الدولة، أهمية خاصة. فرغم أن المنظمات الثلاث احتفظت باستقلالها التنظيمي فقد تبلور التعاون فيما بينها خلال هذه الفترة واتخذ شكلاً مؤسسياً حين وقَّع قادتها، مع نهاية الحرب العالمية وباشتراك الوكالة اليهودية، اتفاقاً ثلاثياً تضمنت بنوده:

1 ـ تدخـل منظمة الهاجاناه المعـركة العسـكرية ضـد السلطات البريطانية. وهكذا قامت حركة العصيان العبري .

2 ـ يجب على منظمتي ليحي وإتسل عدم تنفيذ خططها القتالية إلا بموافقة قيادة حركة العصيان.

3 ـ تنفذ ليحي وإتسل الخطط القتالية التي تكلفان بها من قبَل قيادة الحركة.

4 ـ يجب ألا يكون النقاش حول العمليات المقترحة شكلياً فيجتمع مندوبو المنظمات الثلاث في جلسات ثابتة أو حسب الحاجة، على أن يتم خلال هذه الجلسات مناقشة الخطط من الناحيتين السياسية والعملية.

5 ـ بعد أخذ الموافقة المبدئية على العمليات المقترحة يناقش خبراء المنظمات الثلاث تفاصيل تنفيذ هذه العمليات.

6 ـ ضرورة الحصول على موافقة قيادة حركة العصيان لتنطبق على العمليات التي يجري تنفيذها ضد الممتلكات مثل الاستيلاء على الأسلحة من أيدي البريطانيين أو الحصول على الأموال.

7 ـ الاتفاق بين المنظمات الثلاث يرتكز على "أمر افعل".

8 ـ إذا أمرت منظمة الهاجاناه في يوم من الأيام بالتخلي عن الحرب ضد البريطانيين تواصل المنظمات إتسل وليحي حربهما.

وهكذا تشكَّل ما سُمِّي "حركة العصيان العبري" وتمثلها قيادة حركة المقاومة المتحدة للإشراف على الأمور التنفيذية. وضمت هذه القيادة ممثلين عن الهاجاناه مثل إسرائيل جاليلي وموشي سنيه ومن إتسل مناحم بيجين ومن ليحي أبراهام شيترن وياليني مور. وتوضح نصوص الاتفاقية المسئولية المشتركة للمنظمات الإرهابية الصهيونية وهو الأمر الذي سعت الهاجاناه إلى التنصل منه تاريخياً.

وكانت باكورة أعمال حركة العصيان نسف محطة سكك حديد رام الله في أول نوفمبر عام 1945. إلا أن العلاقة بين المنظمات الثلاث لم تكن بسيطة بأي حال. فقد عادت العلاقة بين أطراف حركة العصيان للتوتر وبخاصة بين إتسل والهاجاناه، وعادةً ما كان الخلاف بينهما يتخذ طابع المنافسة على السيطرة على المُستوطَن الصهيوني. ولم يكن اللجوء إلى العنف بعيداً عن خلافات العصابات الصهيونية نفسها إلى الحد الذي أثار مخاوف الصهاينة من نشوب حرب أهلية بين منظمات الإرهاب. ولأكثر من مرة تبادلت إتسل والهاجاناه أعمال خطف لعناصرهما. كما كوَّنا فرقاً للاعتداء والضرب لتأديب بعضهما البعض شمل ضررها عائلات يهودية بكاملها. ووصلت موجة الاختطاف إلى ألمانيا حين تولت عناصر الهاجاناه أمر أربعة من أعضاء إتسل ولقي أحدهم مصرعه تحت التعذيب. وحتى عقب التوصل إلى اتفاق جديد بين إتسل والهاجاناه في 7 مارس 1948 تعرَّض الاتفاق وفي وقت حرج إلى اختبار صعب حين جرت معركة مسلحة بين إتسل ورجال البالماخ كادت تعرِّض وحدة جيش الدولة المنتظرة للخطر بسبب النزاع على شحنة سلاح كانت قادمة على ظهر السفينة التالينا. وكادت الاشتباكات أن تودي بحياة مناحم بيجين زعيم إتسل، كما سقط عدد منالجرحى والقتلى من الجانبين قبل احتواء الموقف. وبصفة عامة تبادل زعماء هذه المنظمات اتهامات الخيانة والتعاون مع البريطانيين واغتصاب أموال بعضهم البعض.

وعلى أية حال فإن العنف المتبادل بين المنظمات الإرهابية الصهيونية قد تجاوز مراراً حدود التراشق بالاتهامات مثل اتهام الهاجاناه لإتسل وليحي "بالفاشية اليهودية" أو إطلاق هاتين المنظمتين صفة "قتلة الأطفال" على الهاجاناه التي قامت بعملية قتلت خلالها أمًّا عربية وستة من أطفالها، أو التهديدات المتبادلة.

وإذا كان التنافس على النفوذ والسيطرة على قيادة الحركة الصهيونية فضلاً عن الاختلاف حول السياسة التي يتعين اتباعها إزاء بريطانيا قد يكونان عاملين أساسيين في تصعيد الخلافات بين منظمات الإرهاب الصهيونية، فقد كان الاتفاق على الغايات الصهيونية وتنفيذ المخطط الاستيطاني على حساب العرب هو عامل الوحدة والتعاون الحاسم فيما بينها.

وقد حرصت الكتابات التاريخية الصهيونية على تصوير الإرهاب الصهيوني في هذه المرحلة باعتبارها نضالاً يهودياً للتحرر القومي في مواجهة الاستعمار البريطاني لجأ خلاله الصهاينة إلى السلاح. وهو الأمر الذي يخالف حقيقة الحركة الصهيونية فضلاً عن مجافاته لوقائع التاريخ التي تؤكد أن العرب الفلسطينيين ظلوا دائماً هم الهدف الأول للإرهاب الصهيوني.

فقد نال الفلسطينيون والعرب الحظ الأوفر من العمليات الإرهابية الصهيونية وبخاصة خلال عامي 1947 و1948 الحاسمين، حيث كثَّف الإرهابيون الصهاينة جهودهم لاقتلاع الفلسطينيين، الأمر الذي أدَّى إلى تشريد حوالي 900 ألف فلسطيني إلى خارج أراضيهم ووطنهم. ففي هذه السنوات غلب أسلوب مهاجمة القرى والمدن العربية وارتكاب المذابح الجماعية دون تمييز بين رجل وامرأة وطفل وكهل، أو بين أولئك العُزل وبين من يحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم.

وإذا كانت دير ياسين أشهر المذابح التي خلَّفها تاريخ تلك المرحلة، فإن مذابح لا تقل أهمية عنها لا يمكن حصرها قد وقعت خلال العامين 1947 و1948 خاصة. وبينها على سبيل المثال مذابح قرى حساس ويازور وسعسع والدوايمة والرملة وبلدة الشيخ. وهي مذابح راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. وتذهب بعض التقديرات إلى أن تلك المذابح قد تسببت في هجر السكان الفلسطينيين خلال حرب 1948 لحوالي 350 قرية ومدينة بشكل كلي أو جزئي من بين 450 سيطرت عليها العصاباتالصهيونية. وإلى جانب الإبادة كان المقصود هو ارتكاب أبشع أنواع الفظاعات ونشر أنبائها لخلق حالة من الذعر بين المواطنين الفلسطينيين تدفعهم إلى الرحيل.

إلا أن الأمر الأكثر حاجة إلى إعادة التأكيد أن التنظيمات العسكرية الصهيونية (وضمن ذلك الهاجاناه) قد اشتركت دون استثناء في تخطيط وتدبير وتنفيذ هذه المجازر التي جرى معظمها في إطار خطط عسكرية سياسية عامة وصفتها القيادة الصهيونية، وكان أشهرها الخطة (د) التي ارتُكبت في إطارها مأساة دير ياسين.

الإرهاب الصهيوني ضد حكومة الانتداب البريطاني وأعضاء الجماعات اليهودية

Zionist Terrorism against the British Mandate Government and the Jewish Communities

كان الفلسطينيون والعرب بطبيعة الحال الهدف الأساسي للنشاط الإرهابي الصهيوني، ومع هذا توجد بعض الاستثناءات. فمصالح الدولة الاستعمارية الراعية لا تتفق تمام الاتفاق مع مصالح الجيب الاستيطاني، فمصالح الأولى عالمية، أما الثانية فمصالحها محلية. ومن هنا الصراع الذي نشب بين المستوطنين والدول الاستعمارية، التي رعتهم في بادئ الأمر. فعلى سبيل المثال أصدرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض في مايو عام 1939 (الذي صدر لتهدئة العرب وللظهور بمظهر من يتصف بالعدالة والإنصاف) فشرعت الحركة الصهيونية في الضغط على سلطات الانتداب البريطاني للتراجع عما جاء بالكتاب، ومن ثم بدأت في تنفيذ عمليات ضد أهداف بريطانية. ففي 21 أغسطس 1939 قتلت إتسل ضابطين بريطانيين بلغم استهدف الضابط المسئول عن الدائرة اليهودية في أجهزة الأمن التابعة لسلطة الانتداب.

إلا أن طبيعة النشاط الإرهابي المحدود الذي وجهته المنظمات الصهيونية ضد البريطانيين كان مختلفاً تماماً عن الاعتداءات التي استهدفت الفلسطينيين لكونهم مجرد فلسطينيين. فقد جرى انتقاء الضحايا البريطانيين في البداية بصورة محددة (شخص محدد وراءه مبررات محددة واضحة). أما الأهداف العربية فقد تم انتقاؤها وتنفيذ عملياتها بشكل يهدف إلى قتل وإصابة أكبر عدد ممكن من الضحايا الذين لا يعلم عنهم الإرهابي الصهيوني المنفِّذ والمخطِّط شيئاً محدداً سوى أنهم فقط من الفلسطينيين والعرب. ويتضح ذلك في اختيار الأماكن المزدحمة بروادها العرب (مقاهي - أسواق - قافلات). كما افتخر منفِّذو هذه الجرائم باتباع أكثر الأساليب ضماناً لسقوط عدد أكبر من الضحايا ومن بينها استخدام غاز البروم مع المتفجرات.

ويلفت النظر أيضاً أن الإرهاب الصهيوني خلال الفترة بين إعلان الانتداب ومطلع الحرب العالمية يدخل في إطار ما يُسمَّى أسلوب "اضرب واجر" إذ تحاشى الإرهابيون الصهاينة في الأغلب الأعم الدخول في مواجهات مسلحة (كأن يقوموا بحصار قرية مثلاً).

وما كانت آلة الإرهاب الصهيوني التي نمت تحت سمع وبصر السلطات البريطانية خلال هذه المرحلة أن تبلغ هذا الشأن إلا بمساعدة بريطانيا نفسها. وعبارة الإرهابي الصهيوني إسحق بن تسفي ذات دلالة، إذ قال: "نعم.. هناك جبهة بريطانية يهودية.. إن لم تكن في السياسة فهي في الخنادق"، بمعنى أنه رغم الاختلافات السياسية إلا أن السلطات البريطانية هي التي أمدت المنظمات العسكرية الصهيونية بالسلاح ومنحت المستوطنين الصهاينة تراخيص حملة (جرى منح 120 رخصة لليهود في مدينة القدس وحدها) وحجبت هذه التراخيص عن المواطنين العرب، وهي أيضاً التي اعترفت بهذه المنظمات، ومن المعروف أن 800 عضو في الهاجاناه التحقوا بصفوف الشرطة البريطانية في فلسطين وتدربوا على البندقية البريطانية عام 1936 في وضح النهار.

ولقد اشتركت المؤسسات الصهيونية على اختلافها في الإعداد للعمل الإرهابي حيث كانت التدريبات تجرى أسبوعياً في المدارس العبرية والدينية والمصانع الصغيرة والحمامات ودور العبادة اليهودية. وهكذا لم يكن النشاط الإرهابي عملاً على هامش الحركة الصهيونية. بل كان عملاً يرتبط بالوجود الصهيوني وبطبيعة الاستيطان الإحلالية.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية دخلت المنظمات العسكرية الصهيونية في جدل حول السياسة التي يتعين اتباعها إزاء السلطات البريطانية. فهل تواصل الطريق الذي شرعت فيه بعد صدور الكتاب الأبيض عام 1939 فتوجِّه قسطاً من أعمال العنف تجاه أهداف بريطانية، أم تلتزم بمهادنة بريطانيا ودعمها في الحرب ضد النازية؟ وإذا كانت أعمال الإرهاب الصهيوني في فلسطين لم تتوقف تماماً خلال فترة الحرب العالمية، فإن نشاطها الذي خفَّت حدته كثيراً بين عامي 1940 و1944 يمكن وصفه بالكمون مقارنة بسنوات قبل الحرب وبعدها. وقد لا يعود ذلك إلى محض اختيار المنظمات العسكرية الصهيونية، فالسلطات البريطانية من جانبها شدَّدت قبضتها على البلاد مع نشوب الحرب فاعتقلت على الفور نشطاء وقيادات الحركة الصهيونية إلى جانب الثوار العرب. وتوصلت إلى تسويات مع الهاجاناه وإتسل قبل أن تعيد إطلاق سراح المعتقلين. وهكذا أعلنت قيادة الحركة الصهيونية أثناء فترة الحرب نبذ أعمال الإرهاب وهو الأمر الذي أعلنت كل من الهاجاناه وإتسل قبوله (ورفضته منظمة ليحي).

وقد وجدت المنظمات الصهيونية سنوات الحرب العالمية فرصة لتطوير نفوذها وتقوية هياكلها وتسليحها تمهيداً للانطلاق عند انتهاء الحرب. فزادت عدداً وعدة وأضفت على وجودها قدراً من الشرعية بالتعاون مع بريطانيا والحلفاء. وهكذا أعدت المنظمات نفسها للانطلاق لاحقاً نحو هدفين: الأول إجبار الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصليين على مغادرة أراضيهم بما فيها تلك التي يشكلون فيها أغلبية ساحقة وهي الأرض التي خصهم بها مشروع التقسيم لاحقاً. والثاني الضغط على البريطانيين لإلغاء القيود المفروضة وبخاصة على الهجرة والعمل من أجل إقامة دولة صهيونية بأسرع الوسائل.

هذا لا ينفي امتداد دائرة العنف الصهيوني لتشمل البريطانيين والأوربيين بل أحياناً اليهود. ففي عام 1944 أعلنت إتسل وقف هدنتها مع البريطانيين بنسف منزل في يافا بحجة أنه مقر للشرطة البريطانية، وكررت نفس الأعمال في حيفا والقدس. وقد بلغ النشاط الإرهابي الصهيوني ضد البريطانيين ذروته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديداً خلال عام 1946، حيث اتفقت المنظمات على توجيه ضربات للبريطانيين كان أشهرها نسف فندق الملك داود في 22 يوليه عام 1946 والذي كان يضم مكاتب إدارة الانتداب البريطاني، والتي افتخر بيجين بتنفيذها باتفاق مسبق مع الهاجاناه وليحي. وقد أسفر الانفجار عن مقتل 91 شخصاً بينهم 41 عربياً و28 بريطانياً و17 يهودياً وخمسة من جنسيات أخرى بينهم أمريكيون.

إلا أن الطابع الذي غلب على العمليات التي استهدفت سلطات الانتداب البريطاني كان السعي لتدمير البنية الأساسية للبلاد مثل السكك الحديدية والجسور والمطارات والموارد الاقتصادية مثل خط البترول الواصل إلى حيفا. ويبدو أن الهدف من ذلك كان إظهار عجز السلطات البريطانية عن إدارة البلاد وحفظ الأمن. ولقد أصدرت السلطات البريطانية في يوليه عام 1946 كتاباً أبيض يكشف وقائع الإرهاب الصهيوني والتنسيق بين المنظـمات الثلاث، وهو الكـتاب الذي اعترف بيـجين بمصـداقية ما جاء فيه.

ويلفت النظر أن فترة ما بعد إعلان الحرب العالمية الثانية قد شهدت ما يمكن تسميته إعادة تصدير بؤر النشاط الإرهابي الصهيوني إلى المنطقة العربية وأوربا. ولا يقف الأمر عند حدود قيام إلياهو حكيم وإلياهو بيت زوري من عصابة ليحي بقتل الوزير البريطاني اللورد موين في القاهرة في 6 نوفمبر عام 1944. (اعترف بن جوريون لاحقاً أنه ساهم في التستر على القتلة رغم تظاهره بإدانة الحادث). فقد نفَّذت العصابات الصهيونية العديد من الأعمال الإرهابية التي راح ضحيتها أبرياء في أوربا، فدبرت ليحي انفجاراً في فندق بفيينا ينزل به ضباط بريطانيون أسفر عن مصرع سيدة نمساوية. وقد بلغ إجرام العصابات الصهيونية حد التخطيط في مطلع عام 1948 لتسميم مصادر المياه في العاصمة البريطانية بجراثيم الكوليرا. وقد تولَّى إلياب، أحد قادة ليحي بنفسه، تدبير زجاجات الجراثيم عبر بعض الأطباء اليهود في معهد باستير في باريس. إلا أن صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين والإعلان عن إنهاء الانتداب البريطاني عليها جعل المنظمة تصرف النـظر عن تنفيذ العمـلية التي كانت قد بـلغت نهاية مرحـلة الإعداد. وذلك كما ورد في مذكرات يعقوب إلياب نفسه. (من المعروف أن وباء الكوليرا انتشر في مصر بعد عام 1948، وقد انتشرت شائعات في ذلك الحين عن أن الأمر قد يكون له علاقة بالدولة الصهيونية).

ويُلاحَظ أن مثل هذا النشاط الذي جرى خارج فلسطين لم يقف وراءه فقـط مبعوثو منـظمات الإرهاب الصهيوني المتجولون في أنحاء العالم، بل إن العديد من الخلايا الإرهابية تم زرعها لتستقر في مدن وعواصم العالم والشرق الأوسط وبخاصة بغداد. والجدير بالذكر أن عزرا وايزمان كان عضواً في خلية إرهابية زرعتها إتسل في بريطانيا. ولقد أدخل الإرهاب الصهيوني إلي المنظمات أساليب الطرود الملغومة والاختطاف واغتيال الشخصيات البارزة (مثل الوزير) البريطاني اللورد موين في معاهدة 1946) على نطاق واسع منذ الأربعينيات.

كما تواصل قبل قيام الدولة عام 1948 قيام منـظمات الإرهاب الصهيونية بالأعمال التي تضم عصابات السرقة والإجرام العادية. إلا أن الأكثر مدعاة للتأمل هو تفاخر قادة المنظمات الصهيونية العسكرية (وقادة الدولة الإسرائيلية فيما بعد) بقيامهم بتخطيط وتنفيذ السطو على البنوك والممتلكات. ومن بين هذه الأعمال سرقة البنك العثماني في 13 سبتمبر 1946 وبنك باركليز في أغسطس عام 1947 لحساب ليحي. وقد أُلقي القبض على بعض أعضاء الجماعات الإرهابية الصهيونية وحُكم على بعضهم بالسجن بسبب تلك الأعمال المشينة ومن بين هؤلاء يهوشاع زلتر الذي حُكم عليه بـ 15 عاماً بسبب سطوه على أحد البنوك في تل أبيب. والملاحظ أن العديد من تلك الأعمال مثل سرقة 27 ألف ليرة من بنك ديسكونت في 24 مارس 1947 لحساب ليحي قد حظيت باهتمام مذكرات قيادات الإرهاب الصهيوني والتي أبرزت وقائعها المشينة في وصف ملئ بالفروسية والإثارة والتفاخر.

إلا أن التعبير الأساسي والمتبلور عن الإرهاب الصهيوني في هذه الفترة هو سلسلة المذابح التي ارتكبت ضد العرب بهدف إبادة الأقلية وإرهاب الأٌلبية حتى يترك الفلسطينيون أرضهم لتصبح أرضاً بلا شعب.

ولم ترحم آلة الإرهاب الصهيونية المهاجرين اليهود أنفسهم، حيث تصدت المنظمات العسكرية الصهيونية في الثلاثينيات لجماعات البوند وحزب بوعليه صهيون (عمال صهيون) الذين جاءوا من بولندا مطالبين بإلغاء سيطرة اللغة العبرية على المُستوطَن الصهيوني والاعتراف الرسمي باليديشية. فأشبعوهم ضرباً وتهديداً ورجماً بالحجارة وتهشيماً لواجهات حوانيتهم التي تحمل لافتات كتبت باليديشية. كما قام عضوان من الحركة التصحيحية في عام 1933 بقتل حاييم أرلوزوروف رئيس القسم السياسي فيالوكالة اليهودية وأحد قادة الماباي. كما قامت إحدى المنظمات الصهيونية باغتيال يعقوب دهان المفكر الديني اليهودي الذي كان معروفاً بعدائه للصهيونية. وقد اعترف قتلته بارتكاب الحادث في الثمانينيات بعد ما يزيد عن نصف قرن من الإنكار، وبعد التلميح لعدة سنوات بأن يعقوب دهان كانت تربطه علاقة شاذة مع أحد الشبان العرب، وأن هذا هو الذي تسبب في مصرعه.

ولعل أشهر الحوادث التي تعرَّض لها اليهود في المنطقة خلال عام 1940 كان على أيدي العصابات الصهيونية نفسها حين فجَّر إرهابيو الهاجاناه السفينة باتريا في ميناء حيفا وسقط ضحية العمل 250 يهودياً ثمناً للضغط على السلطات البريطانية كي تستجيب لطوفان الهجرة غير الشرعية بعد تحميلها وزر هؤلاء الضحايا. أما الأطفال اليهود في اليمن والعراق فقد اختطفهم الإرهاب الصهيوني عنوة بالعشرات من أُسرهم إلى فلسطين.

إلا أن خط الحركة الصهيونية وتنظيماتها العسكرية لم يكن مستقيماً بأية حال إزاء الأطراف المتحاربة. فرغم الضجة العنصرية التي أحاطـت بها الصـهيونية ما تعـرَّض له يهود أوربيين على أيدي النازية، فإن المذكرات والكتابات التاريخية للصهاينة أنفسهم قد كشفت في وقت لاحق الروابط التي تم نسجها بين الحركتين الصهيونية والنازية وتحديداً في مجال النشاط الإرهابي. وبين ذلك التعاون السياسي والاستخباري بين الهاجاناه وجهاز الأمن الألماني منذ وصول النازيين إلى السلطة. وقد قام أيخمان نفسه بالفعل بزيارة يافا عام 1973 وأسفرت الزيارة عن إنشاء مكتب لتنظيم الهجرة تابع لجهاز الهاجاناه. أما أيخمان نفسه (الذي اختطفته السلطات الإسرائيلية فيما بعد وقامت بإعدامه) فكان مسئولاً عن الهجرة اليهودية لدى السلطات الألمانية النازية. كما كان للجانبين الصهيوني والألماني النازي عميل مشترك يُدعَى "بوليكي" وهو صهيوني كان يمد النازيين بمعلومات استخبارية عن الحلفاء والحركتين القومية العربية والشيوعية. وكان يتم إعداد وتدريب وتسليح الإرهابيين الصهاينة في بولندا حتى عام 1940 بالاتفاق مع من أسمتهم المصادر الصهيونية بالمعادين لليهود. وذلك في إطار خطة جابوتنسكي وإتسل الرامية إلى إعداد جيش من 40 ألف صهيوني يقوم بغزو فلسطين. وقد اعترف الإرهابي الصهيوني إلياب أن العديد من كوادر إتسل وليحي قد طورت قدراتها الإرهابية تدريباً وتسليحاً في إطار هذه الخطة. كما فضح استمرار التعاون مع النازية والفاشية حين ذكر أن ليحي حصلت على أسلحة أثناء الحرب العالمية من الأراضي اللبنانية التي كانت تحت سيطرة حكومة فيشي وعن طريق الألمان والإيطاليين ولأغراض سياسية مشتركة.

المذابـح الصهيونيــة بين عامـي 1947 و1948

Zionist Massacres between 1947 and 1948

تعتبر مذبحة دير ياسين من أهم المذابح الصهيونية وأكثرها منهجية ومع هذا لم تكن دير ياسين سوى جزء من نمط أعم: القيام بمذابح ذات طابع إبادي محدود، يتم الإعلان عنها بطريقة درامية لتبث الذعر في نفوس العرب الفلسطينيين فيهربون. وبذا تتم عملية التطهير العرْقي وتصبح فلسطين أرضاً بلا شعب. كما كانت فرق الإرهابالصهيونية تنفِّذ بعض المذابح للانتقام ولتلقين العرب الفلسطينيين درساً في عدم جدوى المقاومة. ومن أهم المذابح الصهيونية قبل عام 1948 ما يلي:

مذبحة قريتي الشيخ وحواسة (31 ديسمبر عام 1947): انفجرت قنبلة خارج بناء شركة مصفاة بترول حيفا وقتلت وجرحت عدداً من العمال العرب القادمين إلى المصفاة. وإثر ذلك ثار العمال العرب بالشركة وهاجموا الصهاينة العاملين بالمصفاة بالمعاول والفؤوس وقضبان الحديد وقتلوا وجرحوا منهم نحو ستين صهيونياً. وكان قسم كبير من العمال العرب في هذه المصفاة يقطنون قريتي الشيخ وحواسة الواقعتين جنوب شرق حيفا، ولذا خطط الصهاينة للانتقام بمهاجمة البلدتين.

وفي ليلة رأس السنة الميلادية 1948 بدأ الصهاينة هجومهم بُعيد منتصف الليل وكان عدد المهاجمين بين 150، 200 صهيوني ركزوا هجومهم على أطراف البلدتين، ولم يكن لدى العرب سلاح كاف، ولم يتعد الأمر وجود حراسات محلية بسيطة في الشوارع.

هاجم الصهاينة البيوت النائية في أطراف هاتين القريتين وقذفوها بالقنابل اليدوية ودخلوا على السكان النائمين وهم يطلقون نيران رشاشاتهم. وقد استمر الهجوم ساعة انسحب إثرها الصهاينة في الساعة الثانية صباحاً بعد أن هاجموا حوالي عشرة بيوت وراح ضحية ذلك الهجوم نحو 30 فرداً بين قتيل وجريح معظمهم من النساء والأطفال وتركوا شواهد من الدماء والأسلحة تدل على عنف المقاومة التي لقوها.

مذبحة قرية سعسع (14 ـ 15 فبراير 1948): شنت كتيبة البالماخ الثالثة هجوماً على قرية سعسع، فدمرت 20 منزلاً فوق رؤوس سكانها، وأسفر ذلك عن مقتل 60 عربياً معظمهم من النساء والأطفال. وقد وُصفت هذه العملية بأنها "مثالية".

مذبحة رحوفوت (27 فبراير 1948): حدثت في مدينة حيفا قرب رحوفوت حيث تم نسف قطار القنطرة الأمر الذي أسـفر عن اسـتشهاد سـبعة وعشرين عربياً وجرح ستة وثلاثين آخرين.

مذبحة كفر حسينية (13 مارس 1948): قامت الهاجاناه بالهجوم على القرية وقامت بتدميرها وأسـفرت المذبحـة عن اسـتشهاد ثلاثين عربياً.

مذبحة بنياميناه (27 مارس 1948): حدثت مذبحتان في هذا الموضع حيث تم نسف قطارين، أولهما نُسف في 27 مارس وأسفر عن استشهاد 24 فلسطينياً عربياً وجرح أكثر من 61 آخرين، وتمت عملية النسف الثانية في 31 من نفس الشهر حيث استُشهد أكثر من 40 عربياً وجُرح 60 آخرون.

مذبحة دير ياسـين (9 أبريل 1948): (انظر: «مذبحـة دير ياسين»).

مذبحة ناصر الدين (14 أبريل 1948): اشتدت حدة القتال في مدينة طبربة بين العرب والصهاينة، وكان التفوق في الرجال والمعدات في جانب الصهاينة منذ البداية. وجرت محاولات لنجدة مجاهدي طبرية من مدينة الناصرة وما جاورها. وجاءت أنباء إلى أبناء البلدة عن هذه النجدة وطُلب منهم التنبه وعدم فتح النيران عليها. ولكن هذه الأنباء تسربت إلى العدو الصهيوني الذي سيطر على مداخل مدينة طبرية فأرسلت منظمتا ليحي والإرجون في الليلة المذكورة قوة إلى قرية ناصر الدين يرتدي أفرادها الملابس العربية، فاعتقد الأهالي أنهم أفراد النجدة القادمة إلى طبرية فاستقبلوهم بالترحاب، وعندما دخل الصهاينة القرية فتحوا نيران أسلحتهم على مستقبليهم، ولم ينج من المذبحة سوى أربعين عربياً استطاعوا الفرار إلى قرية مجاورة. وقد دمر الصهاينة بعد هذه المذبحة جميع منازل ناصر الدين.

مذبحة تل لتفنسكي (16 أبريل 1948): قامت عصابة يهودية بمهاجمة معسكر سابق للجيش البريطاني يعيش فيه العرب وأسفر الهجوم عن استشهاد 90 عربياً.

مذبحة حيفا (22 أبريل 1948): هاجم المسـتوطنون الصـهاينة مدينة حيفـا في منتصف الليل واحتلوها وقتلوا عدداً كبيراً من أهلها، فهرع العرب الفلسطينيون العُزل الباقون للهرب عن طريق مرفأ المدينة فتبعهم اليهود وأطلقوا عليهم النيران، وكانت حصيلة هذه المذبحة أكثر من 150 قتيلاً و40 جريحاً.

مذبحة بيت داراس (21 مايو 1948): حاصر الإرهابيون الصهاينة قرية بيت داراس التي تقع شمال شرق مدينة غزة، ودعوا المواطنين الفلسطينيين إلى مغادرة القرية بسلام من الجانب الجنوبي، وسرعان ما حصدت نيران الإرهابيين سكان القرية العُزل وبينهم نساء وأطفال وشيوخ بينما كانوا يغادرون القرية وفق تعليمات قوة الحصار. وكانت نفس القرية قد تعرضت لأكثر من هجوم صهيوني خلال شهري مارس وأبريل عام 1948. وبعد أن نسف الإرهابيون الصهاينة منازل القرية وأحرقوا حقولها أقاموا مكانها مستعمرتين.

مذبحة اللد (أوائل يوليه 1948): أي بعد إعلان الدولة الصهيونية (انظر: «مذبحة اللد»(.

مذبحة دير ياسـين (9 أبريل 1948(

Deir Yassin Massacre

مذبحة ارتكبتها منظمتان عسكريتان صهيونيتان هما الإرجون (التي كان يتزعمها مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد) وشتيرن ليحي (التي كان يترأسها إسحق شامير الذي خلف بيجين في رئاسة الوزارة). وتم الهجوم باتفاق مسبق مع الهاجاناه، وراح ضحيتها زهاء 260 فلسطينياً من أهالي القرية العزل. وكانت هذه المذبحة، وغيرها من أعمال الإرهاب والتنكيل، إحدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلحة من أجل السيطرة على الأوضاع في فلسطين تمهيداً لإقامة الدولةالصهيونية.

تقع قرية دير ياسين على بُعد بضعة كيلو مترات من القدس على تل يربط بينها وبين تل أبيب. وكانت القدس آنذاك تتعرض لضربات متلاحقة، وكان العرب، بزعامة البطل الفلسطيني عبد القادر الحسيني، يحرزون الانتصارات في مواقعهم. لذلك كان اليهود في حاجة إلى انتصار حسب قول أحد ضباطها "من أجل كسر الروح المعنوية لدى العرب، ورفع الروح المعنوية لدى اليهود"، فكانت دير ياسين فريسة سهلة لقوات الإرجون. كما أن المنظمات العسكرية الصهيونية كانت في حاجة إلى مطار يخدم سكان القدس. كما أن الهجوم وعمليات الذبح والإعلان عن المذبحة هي جزء من نمط صهيوني عام يهدف إلى تفريغ فلسطين من سكانها عن طريق الإبادة والطرد.

كان يقطن القرية العربية الصغيرة 400 شخص، يتعاملون تجارياً مع المستوطنات المجاورة، ولا يملكون إلا أسلحة قديمة يرجع تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى.

في فجر 9 أبريل عام 1948 دخلت قوات الإرجون من شرق القرية وجنوبها، ودخلت قوات شتيرن من الشمال ليحاصروا القرية من كل جانب ما عدا الطريق الغربي، حتى يفاجئوا السكان وهم نائمين. وقد قوبل الهجوم بالمقاومة في بادئ الأمر، وهو ما أدَّى إلى مصرع 4 وجرح 40 من المهاجمين الصهاينة. وكما يقول الكاتب الفرنسي باتريك ميرسييون: "إن المهاجمين لم يخوضوا مثل تلك المعارك من قبل، فقد كان من الأيسر لهم إلقاء القنابل في وسط الأسواق المزدحمة عن مهاجمة قرية تدافع عن نفسها.. لذلك لم يستطيعوا التقدم أمام هذا القتال العنيف".

ولمواجهة صمود أهل القرية، استعان المهاجمون بدعم من قوات البالماخ في أحد المعسكرات بالقرب من القدس حيث قامت من جانبها بقصف القرية بمدافع الهاون لتسهيلمهمة المهاجمين. ومع حلول الظهيرة أصبحت القرية خالية تماماً من أية مقاومة، فقررت قوات الإرجون وشتيرن (والحديث لميرسييون) "استخدام الأسلوب الوحيد الذي يعرفونه جيداً، وهو الديناميت. وهكذا استولوا على القرية عن طريق تفجيرها بيتاً بيتاً. وبعد أن انتهت المتفجرات لديهم قاموا "بتنظيف" المكان من آخر عناصر المقاومة عن طريق القنابل والمدافع الرشاشة، حيث كانوا يطلقون النيران على كل ما يتحرك داخل المنزل من رجال، ونساء، وأطفال، وشيوخ". وأوقفوا العشرات من أهل القرية إلى الحوائط وأطلقوا النار عليهم. واستمرت أعمال القتل على مدى يومين. وقامت القوات الصهيونية بعمليات تشويه سادية (تعذيب ـ اعتداء ـ بتر أعضاء ـ ذبح الحوامل والمراهنة على نوع الأجنة)، وأُلقي بـ 53 من الأطفال الأحياء وراء سور المدينة القديمة، واقتيد 25 من الرجال الأحياء في حافلات ليطوفوا بهم داخل القدس طواف النصر على غرار الجيوش الرومانية القديمة، ثم تم إعدامهم رمياً بالرصاص. وألقيت الجثث في بئر القرية وأُغلق بابه بإحكام لإخفاء معالم الجريمة. وكما يقول ميرسييون: "وخلال دقائق، وفي مواجهة مقاومة غير مسبوقة، تحوَّل رجال وفتيات الإرجون وشتيرن، الذين كانوا شباباً ذوي مُثُل عليا، إلى "جزارين"، يقتلون بقسوة وبرودة ونظام مثلما كان جنود قوات النازية يفعلون". ومنعت المنظمات العسكرية الصهيونية مبعوث الصليب الأحمر جاك دي رينييه من دخول القرية لأكثر من يوم. بينما قام أفراد الهاجاناه الذين احتلوا القرية بجمع جثث أخرى في عناية وفجروها لتضليل مندوبي الهيئات الدولية وللإيحاء بأن الضحايا لقوا حتفهم خلال صدامات مسلحة (عثر مبعوث الصليب الأحمر على الجثث التي أُلقيت في البئر فيما بعد).

وقد تباينت ردود أفعال المنظمات الصهيونية المختلفة بعد المذبحة، فقد أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة إلى رعنان قائد الإرجون المحلي قال فيها: "تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك إنهم صنعوا التاريخ في إسرائيل". وفي كتابه المعنون الثورة كتب بيجين يقول: "إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي". وأضاف قائلاً: "لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل". وقد حاولت بعض القيادات الصهيونية التنصل من مسئوليتها عن وقوع المذبحة. فوصفها ديفيد شالتيل، قائد قوات الهاجاناه في القدس آنذاك، بأنها "إهانة للسلام العبري". وهاجمها حاييم وايزمان ووصفها بأنها عمل إرهابي لا يليق بالصهاينة. كما ندَّدت الوكالة اليهودية بالمذبحة. وقد قامت الدعاية الصهيونية على أساس أن مذبحة دير ياسين مجرد استثناء، وليست القاعدة، وأن هذه المذبحة تمت دون أي تدخُّل من جانب القيادات الصهيونية بل ضد رغبتها. إلا أن السنوات التالية كشفت النقاب عن أدلة دامغة تثبت أن جميع التنظيمات الصهيونية كانت ضالعة في ارتكاب تلك المذبحة وغيرها، سواء بالاشتراك الفعلي في التنفيذ أو بالتواطؤ أو بتقديم الدعم السياسي والمعنوي.

1 ـ ذكر مناحم بيجين في كتابه الثورة أن الاستيلاء على دير ياسين كان جزءاً من خطة أكبر وأن العملية تمت بكامل علْم الهاجاناه "وبموافقة قائدها"، وأن الاستيلاء على دير ياسين والتمسك بها يُعَد إحدى مراحل المخطط العام رغم الغضب العلني الذي عبَّر عنه المسئولون في الوكالة اليهودية والمتحدثون الصهاينة.

2 ـ ذكرت موسوعة الصهيونية وإسرائيل (التي حررها العالم الإسرائيلي روفائيل باتاي) أن لجنة العمل الصهيونية (اللجنة التنفيذية الصهيونية) وافقت في مارس من عام 1948 على "ترتيبات مؤقتة، يتأكد بمقتضاها الوجود المستقل للإرجون، ولكنها جعلت كل خطط الإرجون خاضعة للموافقة المسبقة من جانب قيادة الهاجاناه".

3 ـ كانت الهاجاناه وقائدها في القدس ديفيد شالتيل يعمل على فرض سيطرته على كل من الإرجون وشتيرن، فلما أدركتا خطة شالتيل قررتا التعاون معاً في الهجوم على دير ياسين. فأرسل شالتيل رسالة إليهما تؤكد لهما الدعم السياسي والمعنوي في 7 أبريل، أي قبل وقوع المذبحة بيومين، جاء فيها: "بلغني أنكم تخططون لهجوم على دير ياسين. أود أن ألفت انتباهكم إلى أن دير ياسين ليست إلا خطوة في خططنا الشاملة. ليس لدي أي اعتراض على قيامكم بهذه المهمة، بشرط أن تجهِّزوا قوة كافية للبقاء في القرية بعد احتلالها، لئلا تحتلها قوى معادية وتهدِّد خططنا".

4 ـ جاء في إحدى النشرات الإعلامية التي أصدرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية أن ما وصف بأنه "المعركة من أجل دير ياسين" كان جزءاً لا يتجزأ من "المعركة من أجل القدس".

5 ـ أقر الصهيوني العمالي مائير بعيل في السبعينيات بأن مذبحة دير ياسين كانت جزءاً من مخطط عام، اتفقت عليه جميع التنظيمات الصهيونية في مارس 1948، وعُرف باسم «خطة د»، وكان يهدف إلى طَرْد الفلسطينيين من المدن والقرى العربية قبيل انسحاب القوات البريطانية، عن طريق التدمير والقتل وإشاعة جو من الرعب والهلع بين السكان الفلسطينين وهو ما يدفعهم إلى الفرار من ديارهم.

6 ـ بعد ثلاثة أيام من المذبحة، تم تسليم قرية دير ياسين للهاجاناه لاستخدامها مطاراً.

7 ـ أرسل عدد من الأساتذة اليهود برسائل إلى بن جوريون يدعونه فيها إلى ترك منطقة دير ياسين خالية من المستوطنات، ولكن بن جوريون لم يرد على رسائلهم وخلال شهور استقبلت دير ياسين المهاجرين من يهود شرق أوربا.

8 ـ خلال عام من المذبحة صدحت الموسيقى على أرض القرية العربية وأقيمت الاحتفالات التي حضرها مئات الضيوف من صحفيين وأعضاء الحكومة الإسرائيليةوعمدة القدس وحاخامات اليهود. وبعث الرئيس الإسرائيلي حاييم وايزمان برقية تهنئة لافتتاح مستوطنة جيفات شاؤول في قرية دير ياسين (مع مرور الزمن توسعت القدس إلى أن ضمت أرض دير ياسين إليها لتصبح ضاحية من ضواحي القدس).

وأياً ما كان الأمر، فالثابت أن مذبحة دير ياسين والمذابح الأخرى المماثلة لم تكن مجرد حوادث فردية أو استثنائية طائشة، بل كانت جزءاً أصيلاً من نمط ثابت ومتواتر ومتصل، يعكس الرؤية الصهيونية للواقع والتاريخ والآخر، حيث يصبح العنف بأشكاله المختلفة وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية وتنقيتها من السمات الطفيليةوالهامشية التي ترسخت لديها نتيجة القيام بدور الجماعة الوظيفية. كما أنه أداة تفريغ فلسطين من سكانها وإحلال المستوطنين الصهاينة محلهم وتثبيت دعائم الدولةالصهيونية وفَرْض واقع جديد في فلسطين يستبعد العناصر الأخرى غير اليهودية المكوِّنة لهويتها وتاريخها.

وقد عبَّرت الدولة الصهيونية عن فخرها بمذبحة دير ياسين، بعد 32 عاماً من وقوعها، حيث قررت إطلاق أسماء المنظمات الصهيونية: الإرجون، وإتسل، والبالماخ، والهاجاناه على شوارع المستوطنة التي أُقيمت على أطلال القرية الفلسطينية.

مذبحة اللد (أوائل يوليه 1948(

Lod Massacre

تُعَد عملية اللد أشهر مذبحة قامت بها قوات البالماخ. وقد تمت العملية، المعروفة بحملة داني، لإخماد ثورة عربية قامت في يوليه عام 1948 ضد الاحتلال الإسرائيلي. فقد صدرت تعليمات بإطلاق الرصاص على أي شخص يُشاهَد في الشارع، وفتح جنود البالماخ نيران مدافعهم الثقيلة على جميع المشاة، وأخمدوا بوحشية هذا العصيان خلال ساعات قليلة، وأخذوا يتنقلون من منزل إلى آخر، يطلقون النار على أي هدف متحرك. ولقي 250 عربياً مصرعهم نتيجة ذلك (وفقاً لتقرير قائد اللواء). وذكر كينيث بيلبي، مراسل جريدة الهيرالد تريبيون، الذي دخل اللد يوم 12 يوليه، أن موشي دايان قاد طابوراً من سيارات الجيب في المدينة كان يُقل عدداً من الجنود المسلحين بالبنادق والرشاشات من طراز ستين والمدافع الرشاشة التي تتوهج نيرانها. وسار طابور العربات الجيب في الشوارع الرئيسـية، يطلق النيران على كل شيء يتـحرك، ولقد تناثرتجثث العرب، رجالاً ونساء، بل جثث الأطفال في الشوارع في أعقاب هذا الهجوم. وعندما تم الاستيلاء على رام الله أُلقى القبض، في اليوم التالي، على جميع من بلغوا سنالتجنيد من العرب، وأُودعوا في معتقـلات خاصـة. ومرة أخرى تجوَّلت العربات في المدينتين، وأخذت تعلن، من خلال مكبرات الصوت، التحذيرات المعتادة. وفي يوم 13يوليه أصدرت مكبرات الصوت أوامر نهائية، حدَّدت فيها أسماء جسور معيَّنة طريقاً للخروج".

الصفحة التالية ß إضغط هنا