المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 3

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

وقد بدأ المارنو في إشاعة مُثُل الحضارة الغربية بين الجماعات اليهودية، كما ساهم يهود البلاط (القيادة الحقيقية للجماعات ورمز النجاح الكبير والقدوة التي تُحتذَى) في ترويج أسلوب الحياة الغربي من خلال أنفسهم ومن خلال أتباعهم والمحيطين بهم الذين تشبهوا بهم. وقد كان المارانو ويهود البلاط، كما أسلفنا، ذوي خبرة بالعالم المسيحي الذي بدأ يتعلمن، وبالعالم اليهودي الذي كان متحجراً. وفرضت عليهم خبرتهم هذه عملية المقارنة بين العالمين، وبالتالي طَرْح التساؤلات بشأن الموروث الثقافي الديني اليهودي. ولعل الاندماج النسبي لهذا العدد الكبير من اليهود، ودخولهم عالم الحضارة الغربية الجديدة والاقتداء به، جعل كثيراً من المصطلحات الدينية اليهودية (مثل النفي والشعب المختار) تفقد كثيراً من مدلولاتها بالنسبة لهم. ومعنى هذا أن يهود المارانو لعبوا دوراً مماثلاً للدور الذي يلعبه بعض مثقفي العالم الثالث الذين يذهبون إلى الغرب لتلقِّي العلم أو البحث عن الرزق، لكن بعضهم يعود إلى بلاده جسدياً وحسب إذ يكتشفون أن من العسير عليهم العودة الروحية الكاملة إلى أوطانهم بعد رحلة الذهاب. ولذا، فإنهم حينما يعودون يحملون رايات التغريب ويكونون بمنزلة معاول هدم في موروثهم الحضاري.

وكان مهد حركة التنوير هو البلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة ذات صبغة غربية مثل يهود هولندا وإيطاليا. وقد حقق أعضاء هذه الجماعات معدلات عالية من الاندماج نظراً لصغر حجمها ونظراً لوجود قيادة من المارانو. كما أن كثيراً من أعضاء هذه الجماعات قد تلقوا تعليماً علمانياً وحققوا نجاحاً ملحوظاً في مهن مثل الطب. ويبدو أن فشل حركة شبتاي تسفي قد خلق ميلاً عاماً بين الجماعات اليهودية نحو رفض النزعة المشيحانية ككل، ورغبةً في الاندماج في المجتمعات التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية بين ظهرانيها. كما أن ظهور حركة مشيحانية، مثل الحركة الفرانكية، كان يعني أن اليهودية قد دخلت مرحلة أزمتها الأخيرة، فهذه الحركة كانت حركة عدمية تماماً تُعبِّر عن رغبة اليهود في التخلص من الشريعة.

ولكن العنصر الأساسي والحاسم، الذي أدَّى إلى انتشار قيم ومُثُل التنوير بين اليهود، هو التحولات التي كان المجتمع الغربي يخوضها: تزايُد معدلات العلمنة، وسيادة القيم النفعية التي أتاحت الفرص أمام أعضاء الجماعات للتحرك من الهامش الثقافي والاقتصادي والوظيفي للمجتمع نحو مركزه. وهي تحولات غيَّرت أسلوب حياتهم، كما غيَّرت البناء الوظيفي والمهني لأعداد كبيرة منهم.

وقد بدأت حركة التنوير، بالمعنى المحدَّد، في برلين. فالمجتمع المركنتالي في ألمانيا تحت حكم فريدريك الثاني الأعظم (1740 ـ 1786) خلق مناخاً مواتياً شجع اليهود على الاستيطان في بروسيا والاشتغال بالتجارة، ومنح بعض قطاعاتهم حقوقهم كاملة، فنشأت طبقة رأسمالية تجارية وجدت أن من مصلحتها الاندماج في المجتمع وأصبحت بمثابة القدوة أو النموذج لبقية اليهود. وحملت هذه الطبقة مُثُل التنوير التي طرحها المجتمع الغربي. ويُعَدُّ موسى مندلسون، الذي كان يعمل محاسباً وتاجراً كما كان متزوجاً من حفيدة أحد يهود البلاط، أهم مفكري حركة التنوير. أصدر عام 1750 مجلة أسبوعية تُسمَّى كوهيليت موسار (أي الواعظ الأخلاقي) صدرت منها ثلاثة أعداد وحسب، وهي المجلة التي تُعَدُّ أول منبر للتعبير عن أفكار حركة التنوير. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن تاريخ نشأة حركة التنوير هو عام 1783، فقد أصدر جوزيف الثاني براءة التسامح عام 1782، وفي العام التالي نشر مندلسون ترجمته الألمانية لأسفار موسى الخمسة بحروف عبرية مع تعليق ذي طابع عقلاني. وقد ساهم معه في هذه الترجمة والتعليق رابطة أصدقاء العبرية التي أصدرت في الفترة 1783 ـ 1811 فصلية عبرية تُسمَّى هاميسائيف (أي الحاصد أو الجامع) كان محتواهـا تافهاً ومملاً، واعتمـدت أسـاسـاً على الترجمات من الألمانية، إلا أن أثرها كان عميقاً للغاية، وبخاصة خارج ألمانيا. وقد رفض كُتَّاب هذه المجلة عبرية الحاخامات، وحاولوا العودة إلى الكتاب المقدَّس بأسلوبه الكلاسيكي، وزخرفوا أسلوبهم بكلمات أنيقة مصطنعة كانوا يعدونها دليلاً على الذوق الأدبي الرفيع. نشرت المجلة قصائد في مدح الحكومة والطبيعة، وقصصاً وعظية، وشروحاً للكتاب المقدَّس، ودراسات في اللغويات العبرية، ومقالات في تواريخ الجماعات اليهودية. وكان معظم المؤلفين محافظين في آرائهم السياسية. وقد حققت مُثٌل التنوير نجاحاً ساحقاً في ألمانيا حتى أنها أسقطت الشكل العبراني للحركة كما أنهم رفضوا اليديشية باعتبارها ألمانية فاسدة، واختار يهود ألمانيا الاندماج الثقافي الكامل في حضارة بلادهم. ولم تستمر حركة التنوير ذات الشكل العبراني إلا في برسلاو حتى عام 1830. ومن أهم دعاة الاستنارة في ألمانيا، نفتالي هيرتز فيسيلي وجبريل رايسر وبنديفيد لازاروس.

انتشرت مُثُل التنوير، ابتداءً من عام 1820، في الإمبراطورية النمساوية (بوهيميا وشمال إيطاليا وجاليشيا). وارتبطت الحركة هناك بالألمانية منذ البداية، إذ كان مرسوم التسامح الذي أصدره جوزيف الثاني يمنح اليهود الحقوق السياسية بمقدار ما يحققونه من اندماج ثقافي واقتصادي. وكان نفتالي فيسيلي من قيادة حركة التنوير هناك، وبين 1821 ـ 1832 أصدر دعاة التنوير في فيينا مجلة سنوية تُسمَّى بيكوري هاعيتيم (أي بواكير ثمار هذه الأزمنة) نشرت دراسات لغوية وتاريخية وسيراً انطلاقاً من مبادئ علم اليهودية، كما نشرت كتابات تسخر من الحياة التقليدية لأعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً الحسيديين منهم)، وكذلك دراسات تاريخية.

ومن الجوانب المهمة لحركة التنوير التي تستحق الإشارة دور المرأة اليهودية في هذه العملية. ويُعَدُّ هذا تحولاً عميقاً وربما ثورياً في مجرى تواريخ الجماعات اليهودية، فالشريعة اليهودية لا تطالب المرأة بالذهاب إلى المعبد اليهودي أو الصلاة. ولم يكن النساء يتعلمن اللغة العبرية، وإن كن يتعلمن الأبجدية العبرية لتلاوة بعض الأدعية التي لم يكنَّ يفهمنها. ونظراً لجهل النساء بالعبرية، كنَّ يقرأن أدباً مكتوباً باليديشية ذا طابع ديني ترفيهي وأحياناً ذا طابع دنيوي محض، أي أن معدلات العلمنة كانت أعلى بين النساء منها بين الرجال. ولكن، بعد التحول عن اليديشية وتأكيد أهمية الألمانية، بدأت النساء اليهوديات يقرأن الآداب الألمانية بدرجة أعلى من الرجال. وإذا أضفنا إلى هذا رغبة بنات الطبقات الثرية بين اليهود في الاندماج بالمجتمع الألماني وفي ممارسة حياتهن كاملة، لأمكننا فهم طبيعة نشاطهن الثقافي الذي أخذ شكل الصالون الأدبي. ومن أهم المثقفات الألمانيات اليهوديات اللائي لعبن دوراً أساسياً في ظاهرة الصالون الأدبي راحيل فارنهاجن.

وانتقلت حركة التنوير، في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، من ألمانيا وجاليشيا إلى روسيا وأصبح مركزها هناك في منتصف الأربعينيات، وبخاصة في ليتوانيا، حيث وُضعت أسس الأدب الحديث المكتوب بالعبرية ونُشرت أول رواية عبرية عام 1854 كما ظهرت عدة مجلات أسبوعية. ويُعَدُّ إسحق دوف لفنسون أهم دعاة الاستنارة في روسيا (ويُطلَق عليه «مندلسون روسيا»).

ومن أشهر الجمعيات المنادية بالتنوير جمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي أسَّست عام 1863 عدة مدارس لتعليم الحرف وغيرها من الفنون الدنيوية. وبدأ لفيف من الكاتبين بالعبرية في التحول عن الأسلوب المتأنق الذي تبناه دعاة التنوير الأوائل واتجهوا نحو النقد الاجتماعي.

ومن الملحوظ أن حركة التنوير اليهودية في روسيا لم تستبعد اليديشية كأداة للتعبير، على عكس حركات التنوير في ألمانيا والنمسا. ولكن إلى جانب الدعوة لليديشية، كان هناك فريق يدعو إلى الاستجابة لحركة الحكـومة الروسـية لترويـس رعاياهـا، أي صبغهم بالصبغة الروسية.

وتميل الكتابات التي تتناول ظاهرة التنوير إلى تقسيمها تقسيماً جغرافياً كما فعلنا. ويقسمها البعض الآخر تقسيماً لغوياً: الحركة الألمانية أو الروسية أو اليديشية أو البولندية، وهكذا. وثمة تقسيم ثالث على أساس الأجيال، فيقال: الجيل الأول من دعاة التنوير (مندلسون وأتباعه)، والجيل الثاني (ويضم تلاميذ مندلسون ومفكريه مثل جايجر وزونز وجرايتز). ولكننا نلاحظ أن هذا التقسيم الأخير يتداخل مع التقسيم الجغرافي.

وقد أصبحت حركة التنوير قوة فكرية وسياسية واجتماعية ذات بال في ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وبشكل أقل في روسيا حيث هـبت على حيـاة اليهود الثقافية رياح معـظم الحركات الفكرية العلمانيـة الغربية، مثل: الرومانسية والمثالية الفلسفية والوضعية والاشتراكية والداروينية والعنصرية. وقد أصبحت كلها، فيما بعد، ضمن مكونات الفكرة الصهيونية، وأصبح دعاة التنوير شخصيات أساسية في الجماعة اليهودية يتحدثون باسمها إلى العالم غير اليهودي.

ولقد تزايد التأثير العميق لحركة التنوير على يهود العالم الغربي كافة إلى أن سادت مُثُلها وتمت علمنتهم وتحديثهم، فأصبحوا إما ملحدين أو لاأدريين أو مؤمنين بصياغات مخففة من اليهودية كاليهودية الإصلاحية. ولكن يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا( فرنسا وإنجلترا وهولندا) لم يلعبوا دوراً كبيراً في حركة التنوير، ذلك لأن المسألة لم تكن تعنيهم كثيراً بسبب تحقيقهم معدلات عالية من الاندماج وحصولهم على حقوقهم منذ بداية استقرارهم في هذه البلاد. وعلى النقيض من هذا، يقف يهود شرق أوربا الذين لم تضرب حركة التنوير بجذور قوية بينهم. وبين الفريقين كان يقف يهود وسط أوربا (ألمانيا والنمسا وغيرهما) الذين كانوا يمثلون العصب الحقيقي لحركة التنوير، فكان منهم موسى مندلسون، وظهرت بينهم اليهودية الإصلاحية وكذلك علم اليهودية. كما يُلاحَظ أن الفكرة الصهيونية (فيما بعد) ظهرت أول الأمر بينهم، فمنهم تيودور هرتزل وماكس نوردو. وكانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية. لكن البعد الألماني الواضح لحركة التنوير لا ينفي أنه كانت توجد مؤثرات فكرية فرنسية على المفكرين، ذلك لأن الفلسفة العقلانية وصلت إلى قمة ازدهارها في فرنسا.

ويمكننا أن نميِّز، من منظور مدى انتشارها ونجاحها وإخفاقها، بين نمطين أساسيين في حركة التنوير. فهناك نمط غربي في ألمانيا والنمسا وجاليشيا حيث حققت مُثُل التنوير نجاحاً ملحوظاً، ونمط شرقي في روسيا (بولندا أساساً) حيث لم تنجح هذه المُثُل كما كان مقدراً لها. وكلمة «غربي» هنا هي الكلمة التي أطلقها يهود شرق أوربا (الأوست يودين) أو يهود اليديشية على يهود ألمانيا والنمسا ووسط أوربا. وقد أدَّى نجاح مُثُل التنوير بين يهود الغرب وإخفاقها النسبي في الشرق إلى انقسام العالم الغربي، فكان يهود الغرب المندمجون يشعرون بالخوف من يهود اليديشية وأحياناً يشعرون تجاههم بالاحتقار، في حين كان يهود الشرق يشعرون بأن يهود الغرب فقدوا هويتهم وأنهم يتشبهون بالأغيار بشكل يبعث على الضيق وأحياناً الاشمئزاز. وهو انقسام انعكس داخل الحركة الصهيونية فيما بعد وتبدَّى في انقسامها إلى صهيونية استيطانية (في شرق أوربا) وصهيونية توطينية (في وسطها وغربها). ويعود الاختلاف بين النمطين إلى اختلافات في المحيطين اللذين وُجد فيهما أعضاء كل جماعة. ويُلاحَظ أن عملية التحديث حققت قدراً من النجاح في بلاد الغرب، وخلقت فرصاً للحراك الاجتماعي أمام أعضاء الجماعات اليهودية. أما في شرق أوربا، فقد تأخر التحديث ثم تعثَّر بل توقَّف بعض الوقت، وهو ما أغلق أبواب الحراك الاجتماعي أمامهم.

ولذا، فعلى حين كانت توجد شرائح اجتماعية كبيرة في الغرب تطمح إلى الاندماج في المجتمع غير اليهودي لم توجد مثل هذه الشرائح في الشرق وظل دعاة التنوير قلة قليلة. ومن هنا نجد أن دعاة التنوير في الغرب كانت لديهم طموحات الانتماء إلى النخبة غير اليهودية وهي طموحات لم تصل في الشرق إلى الدرجة نفسها من القوة. وكان اليهود في ألمانيا يمتلكون الخبرات والأموال التي تؤهلهم للانخراط في المجتمع الجديد الذي كان مستعداً لأن يستفيد منهم. أما في روسيا، فقد ارتبط أعضاء الجماعة هناك بحرف، مثل التجارة البدائية والربا والخمور، أو بوظائف هامشية لم تَعُد مطلوبة. ولذا، فقدت حركة التنوير في الغرب قشرتها اليهودية، في حين تحولت هذه القشرة إلى محارة في الشرق. وأدَّى هذا الوضع إلى استقطاب داخل الجماعة اليهودية في الشرق، فكان دعاة التنوير عادةً من الأثرياء أو البورجوازيين أو المرتبطين بهم حيث كان بوسعهم أن يستفيدوا اقتصادياً من عملية الدمج والتغريب، وهذا مقابل الجماهير اليهودية البورجوازية الصغيرة التي كان الاندماج يعني بالنسبة إليهم الهبوط في السلم الاقتصادي إلى مرتبة العمال. وتتميَّز الجماعات اليهودية في الغرب بصغر عددها، وهو ما سهَّل عملية دمج أعضائها. أما في شرق أوربا، فكانت الكتلة البشرية اليهودية ضخمة. ومما زاد الطين بلة الانفجار السكاني الذي حدث في صفوفها في القرن التاسع عشر، و يمكن القول بأنه كانت هناك جماهير يهودية في الشرق ولم تكن توجدجماهير في الغرب. وساعد ذلك أيضاً على ألمنة يهود ألمانيا، إذ أن الكتابة العبرية كانت تعني كتابة بلا جماهير، بينما نجد أنه برغم صغر حجم قراء العبرية في الشرق كان هناك أعداد لا بأس بها من طلبة المدارس التلمودية العليا (اليشيفا) الذين يعرفون العبرية. ومما ساهم في عدم انتشار مُثُل التنوير في روسيا وبولندا على عكس ألمانياأن المحيط الثقافي الذي أحاط بيهود ألمانيا (بلد بيتهوفن وهايني) كان متقدماً مصقولاً وأغرى كثيراً من اليهود بالانضمام إليه. أما المستوى الحضاري المحيط بيهودالشرق، بجوه الإقطاعي الخانق وحكوماته الأوتوقراطية وأقنانه المتخلفين، فلم يكن فيه ما يغري بالانتماء أو الاندماج. ولذا، لم تفقد حركة التنوير في شرق أوربا شكلهاالعبري واليديشي.

وإذا كان الوسط الفلاحي المحيط بيهود الشرق متخلفاً، فإن يهود الشرق أنفسهم كانوا متدنين حضارياً وملتصقين تماماً بطرقهم التقليدية من لغة يديشية إلى زي خاص. وجعل ذلك من التكيف مع الوضع الحضاري الجديد ومع مُثُل التنوير أمراً عسيراً.

وثمة أسباب أخرى أدَّت إلى إضعاف انتشار مُثُل التنوير في الشرق، بل وفي الغرب أيضاً، وإن كان أثرها في الشرق أكثر عمقاً منه في الغرب. وحركة الاستنارة كانت سطحية وساذجة في رؤيتها للإنسان، فقد رفضت كل أنواع الخصوصية بكل مستوياتها وأصرت على أن يتحول الإنسان الفرد المتجذر في تراثه إلى مواطن عام لا جذور له. وكان التصور السائد أن عملية التخلص من الخصوصية مسألة يسيرة سهلة خاضعة لإرادة الفرد دون أي إدراك لمدى ارتباط الهوية بالمستويات العميقة للذات الإنسانية. وغني عن القول أن مثل هذه الرؤية منافية للحقائق النفسية ومنافية لواقع يهود اليديشية الذين كانوا يتمتعون بدرجة عالية من الخصوصية باعتبارهم أقلية قومية داخل روسيا القيصرية. وكان اليهودي يشعر أنه بتخليه الكامل وغير المشروط عن خصوصيته يمسخ نفسه، الأمر الذي كان يُنفِّر كثيراً من أعضاء الجماعة من محاولة الاندماج هذه. أما أولئك الذين كانوا يقبلون فكر حركة الاستنارة ويحاولون التخلي عن الخصوصية، فإن بعضهم كان يبالغ في التشبه بأعضاء الأغلبية واصطناع الأشكال الحضارية السائدة والابتعاد عن التراث اليهودي المحلي. وقد كانت هذه العملية تثير الشك والاشمئزاز في نفوس أعضاء الأغلبية وأعضاء الجماعة اليهودية الذين لم يندمجوا.

وظهرت سذاجة فكرة عصر الاستنارة في محاولة الحكومات المطلقة فرض الإصلاحات من أعلى،وكأنها شيء خارجي،عن طريق التشريعات القانونية،دون تغيير البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع.وكان الإعتاق يُعَدُّ منحة من القيصر،الأب الرحيم، لأبنائه اليهود الذين كان من واجبهم إثبات جدارتهم بهذه المنحة بأن يصبحوا مواطنين صالحين!وقد فُرضت الإصلاحات من خلال أجهزة حكومية متخلفة وبدائية.ويُلاحَظ أن الجهاز الحكومي في ألمانيا والنمسا كان أكثر حداثة وكفاءة منه في روسيا،كما أن النظام الحاكم في ألمانيا كان مدركاً لنفع أعضاء الجماعة والدور الذي يمكن أن يلعبوه في عملية التحديث.هذا على عكس الطبقة الحاكمة في روسيا وبولندا،وبدرجة أقل في النمسا،التي لم تجد دوراً خاصاً لليهود.

وساعد على انتكاس حركة التنوير، في نهاية الأمر، ظهور القوميات الأوتوقراطية المتخلفة ذات المُثُل العضوية في روسيا وبولندا، ومن قبلهما في ألمانيا. وهي قوميات لم تتبن مُثُل الإخاء والتسامح شأنها في هذا شأن القومية الفرنسية، وإنما تبنت رؤية ثنائية حادة تقسم الناس إلى الأنا والآخر. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، ظهور الفكر الرومانسي المحافظ لما يُسمَّى الحركة المعادية للاستنارة، والأفكار العنصرية المختلفة التي شاعت في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر بوصفها جزءاً من الهجمة الإمبريالية على العالم. ثم أدَّى تعثُّر التحديث في شرق أوربا، وتوقُّفه تقريباً عام 1881، إلى سحب الأرض من تحت أقدام دعاة التنوير. وتحوَّل كثير من دعاة حركة التنوير إلى دعاة للعقيدة الصهيونية بسبب الظروف المواتية.

وقد أشرنا إلى أن فكر حركة التنوير كان يحوي داخله منذ البداية تناقضاً أساسياً بين النزعة العقلانية التي تؤكد العام والمجرد وترفض الخصوصية ومن ثم تؤدي إلى الاندماج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة (غير العقلانية) الإمبريقية الحسية (الرومانسية) التي تؤكد الخاص ومن ثم تؤدي إلى العزلة. وانعكس هذا التناقض في فكر مندلسون ثم في علم اليهودية. ويجب تَذكُّر أن اليهودية المحافظة لم تخرج من التراث الديني التقليدي وإنما هي وليدة حركة التنوير، وعلم اليهودية، والرؤية النقدية والعلمية للتاريخ.

ومع هذا، ورغم انحسار حركة التنوير بوصفها حركة فكرية واعية، ظلت مقولاتها سائدة بين أعضاء الجماعات بشكل ظاهر وكامن، كما أن بنية المجتمع الغربي ذاتها تغيَّرت بشكل أصبح معه التراجع عن مُثُل الاستنارة أمراً عسيراً وصعباً. فلم تَعُد هناك حاجة إلى جماعات وظيفية وسيطة، وأصبحت المساواة بين جميع الأفراد حقيقة تكاد تكون من المسلمات التي تستند إليها النظم السياسية. وزادت معدلات العلمنة وعدم الاكتراث بالدين في المجتمع ككل بحيث لم يَعُد التمييز بين الأفراد يتم على أساس ديني. وحينما كان التمييز يتم على أساس عرْقي، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن اليهود كانوا يُعتبَرون من الجنس الأبيض. ولذا، يمكن القول بأنه، برغم تراجع حركة التنوير بين اليهود وضَعْف حركة الاستنارة في العالم الغربي وتعثُّرها، فإن مُثُلهما سادت في نهاية الأمر المجتمع الغربي وبين أعضاء الجماعات اليهودية.

التنويري اليهودي: فكر

Haskalah Thought

انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسها التي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتها وتناقضاتها (وأهم هذه التناقضات التناقض الحاد بين الاتجاه نحو العام والمجرد من جهة والاتجاه نحو الخاص والمحسوس من جهة أخرى ثم تصفية الثاني لحساب الأول). ولكن، حركة التنوير اليهودية كان لها طابعها الخاص وموضوعاتها المتميِّزة، نظراً للخصوصية النسبية للجماعات اليهودية في المجتمع الغربي.

ومن الموضوعات الأساسية التي طرحها الفكر التنويري اليهودي مسألة الشخصية اليهودية وخصوصيتها المفرطة وطفيليتها. فقد رأى دعاة التنوير أنها شخصية جيتوية متمسكة بتراثها وهويتها بشكل يفرض عليها العزلة. وقد تبنَّى دعاة التنوير الصورة النمطية الاختزالية التي ترسمها أدبيات معاداة اليهود لليهودي (وهي الصورة التي تبناها الصهاينة فيما بعد).

كما بيَّن دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائف التقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا (أي دور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية)، فطالب دعاة التنوير بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلة إلى عناصر منتجة مندمجة، أي تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج بحيث يمكنهم التكيف مع الوضع الاقتصادي الجديد. كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية. ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضمون اقتصادي وحسب وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحرك أعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلى نخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءه وينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء. ولذا، كان من القضايا الأساسية التي طرحتها حركة التنوير إشكالية اللغة إذ كانت الجماعات اليهودية في شرق أوربا تتحدث اليديشية. ولذا، شجع دعاة التنوير الاندماج اللغوي، فنادوا بما سموه «النقاء اللغوي». ذلك أن تنقية اللغة التي كان يتحدث بها اليهود كفيلة، حسب تصوُّرهم، برفع مستواهم الحضاري. ولذلك، طالبوا بألا يستعمل اليهود اليديشية، وأن يتعلموا بدلاً من ذلك اللغة الأم سواء كانت الروسية أو الألمانية أو البولندية. كما دعوا إلى إحياء اللغة العبرية باعتبارها لغة التراث اليهودي الأصلي. ومع هذا، كان هناك من دعاة التنوير في روسيا وبولندا من كتب أدبياته باليديشية وطالب بأن تصبح اليديشية اللغة القومية ليهود شرق أوربا.

وكانت قضية التربية القضية الأساسية بالنسبة إلى دعاة التنوير بسبب ما تصوروه من استغراق الجماعات اليهودية في التخلف والخصوصية. فقد كان ما تصوروه من الاعتقاد السائد بين أعضاء الجماعات اليهودية أن التلمود هو الكتاب الوحيد الجدير بالدراسة، وأن الدراسة العلمية غير الدينية لابد أن تبقى ثانوية وتوظَّف في خدمة الدراسة الدينية. ونادى دعاة التنوير اليهودي بأن تكون المدارس التلمودية العليا (يشيفا) مدارس لإعداد الحاخامات وحدهم، وطالبوا اليهود بأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليس الأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم. كما طالبوا إخوانهم في الدين بأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثل الهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة. وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعات اليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهودية لتعليم المرأة في روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هو السـبيل إلى تحـديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

ومن القضايا الأساسية التي طرحها دعاة حركة التنوير كذلك، قضية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، فظهر مؤرخون يهود عديدون مثل هاينريش جرايتز ونحمان كروكمال، كما ظهر علم اليهودية الذي يُعَدُّ موريتز ستاينشنايدر وسولومون ستاينهايم من أهم أعلامه.

وقد حاول دعاة التنوير إعادة تنظيم الجماعة اليهودية من الداخل، فطالبوا بإلغاء القهال وأشكال الإدارة الذاتية التقليدية، وكانوا في هذا يسـتجيبون لدعوة الدولة المركزية إلى أن يدين المواطـنون لها وحدها بالولاء. ولكن، مع تغيير حياة اليهود الاجتماعية والاقتصادية، أي بعد تحديثهم، كان ضرورياً أن يتم تحديث الديانة نفسها حتى لا ينصرف عنها الشباب اليهودي الذي كان قد بدأ يتساءل عن مدى جدوى وجدية مصطلحات مثل «المنفى» أو «صهيون» أو «العودة». وقد وجه دعاة التنوير سهام نقدهم إلى التراث القومي الديني اليهودي، فهاجموا فكرة الماشيَّح وأسطورة العودة، وحولوا فكرة جبل صهيون إلى مفهوم روحي أو إلى اسم المدينة الفاضلة التي لا وجود لها إلا بوصفها فكرة مثالية في قلب الإنسان. وأصبح الخلاص هو انتشار العقل والعدالة بين الشعوب غير اليهودية، ولم يَعُد مرهوناً بالعودة إلى أرض الميعاد. وهاجم دعاة التنوير التراث اليهودي الشفوي أو الشريعة الشفوية وكُتبها الدينية مثل التلمود والشولحان عاروخ، وأبقوا على التراث اليهودي المكتوب وحده. وذهبوا إلى أن من حقهم العودة إلى التراث الأصلي نفسه بدون التقيد باليهودية الحاخامية، كما هاجموا الحركات والكتب الصوفية العديدة التي أفرزها التراث اليهودي، مثل الحسيدية وكتب القبَّالاه. وحاولوا أن يُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمن باليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غير الديني على الدراسات الدينية اليهودية. ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون، الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي. ولكن من الأهمية بمكان تبيان أن حركة الإصلاح الديني التي حققت نجاحاً فائقاً في ألمانيا وانتقلت منها إلى الولايات المتحدة، حيث يشكل اليهود الإصلاحيون والمحافظون الأغلبية الساحقة، فشلت تماماً في شرق أوربا. ولذا، وبدلاً من حركة الإصلاح الديني، نجد أن ما انتشر بين شباب اليهود هو النزعتان الإلحادية والثورية.

وقد زعزع هذا كيان السلطة الدينية التي كانت تتحكم في اليهـود، الأمر الذي جـعل هـذه السـلطة تقاوم التيارات التنويرية وتحاول إفشالها. وهو ما كان يضطر دعاة التنوير إلى اللجوء أحياناً إلى السلطات الحكومية لتساعدهم في فرض القيم العصرية على اليهود. وقد نجح الحسيديون، ثم الصهاينة في نهاية الأمر، في السيطرة على الجماهير اليهودية.

ورغم فشل حركة التنوير اليهودي في إنجاز كل أهدافها، فإنها تركت أثاراً عميقة في اليهودية. ولعل أهم هذه الآثار هو ظهور اليهودية الإصلاحية ودعاة الاندماج من الليبراليين والثوريين اليهود الذين طالبوا بحل مشاكل اليهود، أي المسألة اليهودية، عن طريق الثورة الديموقراطية البورجوازية أو الثورة الاجتماعية الاشتراكية. غير أن حركة التنوير مسئولة أيضاً بشكل ما عن ظهور الصهيونية. وقد هاجم دعاة التنوير فكرة انتظار الماشيَّح الذي سيأتي بالخلاص، ونادوا بأن على اليهود الحصول على الخلاص بأنفسهم. وقد أزالت هذه الدعوة الحاجز الوجداني الذي كان يقف بين اليهود (المتدينين وغير المتدينين) والصهيونية، إذ أصبحت العودة إلى فلسطين ممكنة دون انتظار مقدم الماشيَّح. كما هاجم دعاة التنوير مفاهيم أخرى، مثل العودة والشعب المقدَّس، بحيث أسقطوا البعد الديني المجازي، وكان هذا تمهيداً لتحويلها إلى مفاهيم ذات طابع دنيوي وضعي حرفي فتحوَّلت صهيون إلى موقع للاستيطان وتحوَّل الشعب المقدَّس إلى شعب بالمعنى العرْقي أو الإثني. كما أن فكر حركة التنوير كان يهدف إلى تطبيع اليهود، أي أن تكون الشخصية اليهودية شخصية طبيعية، ويصبح اليهود أمة مثل كل الأمم، وتطوَّر هذا المفهوم ليصبح الدعوة إلى تأسيس الدولة الصهيونية حتى يكون للشعب اليهودي دولته المستقلة شأنه في هذا شأن كل الشعوب.

وخلقت حركة التنوير في شرق أوربا طبقة وسطى يهودية متشربة ببعض الأشكال الثقافية اليهودية الخاصة ولها ولاء كامل لتراثها الديني الغربي، ولكنها كانت في الوقت نفسه مُشبَّعة بالأفكار السياسية والاجتماعية الغربية من قومية إلى إشتراكية. وهذا الازدواج الفكري، أو التعايش بين نقيضين، هو الذي أفرز القيادات والزعامات الصهيونية القادرة على التحرك في إطار معتقداتها التقليدية المتكلسة، والتي تجيد في الوقت نفسه استخدام المصطلحات والوسائل العلمانية. وقد عمَّق التناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربية (الاتجاه نحو العام والمجرد والآلي مقـابل الاتجـاه نحـو الخاـص والحــسي والعضوي) هذا التناقض. فعلى حين أن النزعة الأولى نحو العام تطالب بدمج اليهود وبتخليهم عن خصوصيتهم، تتجه النزعة الحسية (والرومانسية) نحو تأكيدها والمطالبة بتقوية الوعي القومي. وهذا التناقض يظهر حتى عند مندلسون نفسه، أهم دعاة التنوير. فاليهودية هي دين العقل (العام)، ولكن شعائرها مُرسَلة ومُوحى بها (الخاص). ولذا، فإن العقائد الأساسية عامة ومُرسَلة لكل البشر، أما الشعائر فهي مقصورة على اليهودية وهي مصدر هويتهم وعلى اليهود الحفاظ عليها. وقد اتبع صموئيل لوتساتو الإستراتيجية نفسها في فلسفته. وأخذت رقعة العام في الانكماش في كتابات المفكرين اليهود (كما حدث في الحضارة الغربية نفسها) حتى نصل إلى علم اليهودية، وهو علم كان من ناحية يتكون من دراسات علمية نقدية عقلانية تهدف إلى الكشف العلمي عن الحقيقة التاريخية أو الاجتماعية أو الأنثروبولوجية الكامنة وراء القصص الديني، ولكنه كان، من ناحية أخرى، علماً يهدف إلى اكتشاف ماضي اليهود وإنجازاتهم الحضارية المتميِّزة والمنفردة حتى يكتشفوا خصوصيتهم ويقووا وعيهم القومي بها.

ويظهر هذا التناقض في التأرجح بشأن قضية اللغة، فقد بدأت حركة التنوير بمهاجمة اليديشية باعتبارها لغة غير طبيعية شاذة، وألمانية منحطة وغير عقلانية، وطالبوا بالعودة إلى العبرية باعتبارها لغة طبيعية وربما عقلانية. ولكن العبرية هي عودة للماضي، وهي بعث رومانسي للغة لم يَعُد يتحدث بها أحد، فأُسقطت العبرية، وتم تبنِّي الألمانية أو اللغة القومية سواء الروسية أو البولندية. ثم ظهرت الدعوة إلى اليديشية نفسها باعتبارها اللغة العضوية والمحلية والجماهيرية. وتظهر الازدواجية في الآداب المكتوبة بالعبرية فهو دعوة إلى الانفتاح على الآداب الغربية وتبنِّي أشكالها الحديثة، ولكن لغة هذه الآداب العبرية لغة ميتة تم بعثها. كما يظهر التناقض في حركة الإصلاح الديني اليهودي، إذ كان من ثمراته اليهودية الإصلاحية التي تدعو للاندماج وإسقاط العزلة، والتمسك بالعقلانية. ولكن من ثمراته أيضاً اليهودية المحافظة التي رفضت الشريعة اليهودية التقليدية وكثيراً من الأشكال التقليدية، ولكنها حوَّلت هذه الأشكال نفسها إلى تراث شعبي عضوي يشبه المطلق. ومن ثم، فهي تهاجم اليهودية الحاخامية التقليدية، والعقيدة اليهودية بكل مطلقاتها، ولكنها تتمسك بالتراث العضوي اليهودي بوصفه مطلقاً لا يمكن التساؤل عنه. ومن هنا، كان الهجوم العقلاني على أنبياء اليهود وعلى التراث الديني اليهودي باعتباره تراثاً غيبياً معادياً للإنسان. ثم يتبع ذلك البعث الرومانسي للبطولات العبرية لفترة ما قبل اليهودية، مثل شمشون وشاؤول، وهي بطولات تجسِّد عناصر لا عقلانية خارقة. ويظهر التناقض كذلك في الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة والاندماج بها، فهي تعني أن يترك اليهودي الجيتو المظلم ويترك مغارته اليهودية ليختلط بعالم الأغيار ويقوم بالعمل اليدوي والأعمال الزراعية والإنتاجية المختلفة التي حُرم منها. ولكن هذه الدعوة تصبح، كذلك، دعوة إلى العودة إلى الطابع المحلي وإلى التراث القومي العضوي الطبيعي.

ويتضح التناقض نفسه، في موقف الحركة الصهيونية من الغيبيات الدينية. فقد نظرت الحركة الصهيونية للمفاهيم الدينية باعتبارها مفاهيم لا عقلانية متجاوزة للمادة، ولذا دعت اليهود لأن يكونوا طبيعيين لا يختلفون عن البشر ولا يتحدثون إلا عن القانون الطبيعي (المادي) العام ولا يدورون إلا في إطاره. وانطلاقاً من هذا تم رفض الدين والماشيَّح وكل الغيبيات. ولكن تم تبنِّي بعض هذه الأفكار والغيبيات المرفوضة (مثل الشعب اليهودي والأرض) بعد أن أُفرغت من مضمونها الديني وتم إضفاء المطلقية عليها، أي أنه تمت استعادة القداسة من داخل المادة ومن ثم تم تشجيع الخصوصية والتفرُّد. فالشعب اليهودي شعب مثل كل الشعوب، ولكنه شعب ذو رسالة خاصة وحقوق مطلقة. وهو يؤسس دولة ديموقراطية مثل كل الدول الأخرى، ولكن هذه الدولة تتمتع بقداسة لا نظير لها حتى أنها تحل محل الرب في وجدان اليهود. والمستوطن الصهيوني سيعود إلى الطبيعة يلتصق بها، ويعمل بيديه في الأرض، ويتحرر من الاستغلال والملكية الخاصة ومن كل ما يميِّز الإنسان عن أخيه الإنسان. ولكننا نكتشف أن الأرض ليست الأرض بشكل عام بل الأرض المقدَّسة الخاصة المقصورة عليه. ومن ثم نجد أن هذا الداعي إلى الإخاء الإنساني والعالمي يقتل العرب ويرفض السماح لهم بأن يزرعوا الأرض معه. ولعل هذا الجانب في الصهيونية هو سر جاذبيتها للعالم الغربي، فهي محاولة ماهرة لحسم التناقض الكامن في الفكر العلماني. وهذا التناقض هو الذي جعل بوسع الصهيونية التوصل للخطاب الصهيوني المراوغ، بمقدرته التعبوية الهائلة والذي جعل من الممكن استيعاب يهود الغرب من دعاة الاندماج ويهود الشرق من دعاة الانعزال والهجرة الاستيطانية.

دعاة التنوير اليهودي )المسكليم)

Maskilim

«مَسْكليم» كلمة عبرية مفردها «مَسْكيل» وهي لفظة تكريم عبرية وتعني «العالم» أو «الرجل المستنير»، وهي مشتقة من كلمة «سيكيل» ومعناها «ذكاء» والتي استخدمت بعد ذلك بمعنى «استنارة». وقد استُخدمت هذه الكلمة لأول مرة في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم صارت تعني في البلاد السلافية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، العالم اليهودي الذي يتصف بحب المعرفة ويكافح من أجل البعث الحضاري لليهود ويبشر بحركة التنوير اليهودية ومُثُل حركة الاستنارة الغربية.

وقد أحـدَث دعـاة التنوير ثورة في عـالم اليهود وفي مسار تواريخهم، إذ قدموا أنفسهم باعتبارهم أعلم بمصلحة اليهود من القيادة التقليدية، وعلى أنهم بما لديهم من علم ومعرفة بالعالم الحديث أكثر قدرة على التعبير عن هذه المصالح. وكانوا يرون أنفسهم، أساساً، بشراً لا يهود اً، وطليعة حضارة إنسانية عالمية يبشرون بها بين اليهود الذين يتمسكون بحضارتهم المتخلفة.

وحاول دعاة التنوير إعادة صياغة الهوية اليهودية وتحديثها، فكانوا يتقدمون بالبرامج والمشاريع للحكومات الغربية المختلفة حتى يتم تحديث اليهود. وعلى سبيل المثال، تعاون هرتز هومبرج مع الحكومة النمساوية لفرض الصبغة الألمانية على يهود جاليشيا وأسس فيها ما يزيد على مائة مدرسة يهودية ألمانية في الفترة بين 1787و1800.

ويمكن أن نفرِّق بين دعاة التنوير في شرق أوربا من جهة ودعاة التنوير في وسطها (والذي كان يُطلَق عليه في الأدبيات اليهودية اسم «الغرب») من جهة أخرى. ففي الغرب، تمكَّن دعاة التنوير من أن يمسكوا بزمام الموقف ويقوموا بتغيير معالم حياة الجماعة اليهودية، الأمر الذي يتضح في اليهودية الإصلاحية وغيرها من الحركات. أما في شرق أوربا، فكان الوضع جد مختلف، إذ ظل دعاة التنوير أقلية صغيرة مُحاصَرة، ولم يستطع سوى الأثرياء منهم المجاهرة بآرائهم. أما الفقراء، فكانوا يهربون إلى مراكز التنوير في الغرب. ونظراً لصغر عددهم وهامشيتهم، لم تظهر حركة دينية إصلاحية في الشرق على غرار ما حدث في الغرب. وآمن دعـاة التنوير بقـوة الدولةباعتبـارها قـوة مطلقة، واستغلوا المقولة الدينية اليهودية « شريعة الدولة هي الشريعة » لإعطاء شرعية دينية لهيمنة الدولة على اليهود وغير اليهود. واستعان دعاة التنوير بالسلطات الحكومية لضرب القوى التقليدية داخل الجماعة اليهودية، وقاموا بنضال لا هوادة فيه ضد الحسيديين، وساعدوا السـلطات في اضطهاد التسـاديك (زعماءالحسـيدية) وفي مصادرة كتبهم. وظل هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن حينما بدأ دعاة التنوير يتبنون مُثُلاً اجتماعية ثورية فانقلب الحال، واستعانت القيادة التقليديةبالسلطات ضد دعاة التنوير الثوريين، مؤكدة لها أن اليهود المتمسكين بالتقاليد الدينية هم وحدهم الخاضعون للحكومة المتعاونون معها.

وقدم دعاة التنوير نقداً متكاملاً للشخصية اليهودية التقليدية، في طفيليتها وهامشيتها وعدم انتمائها. وهو النقد الذي ورثه كل من الصهاينة والمعادون لليهود. ومن الملاحَظ أن كلمة «مسكليم» لها إيحاءات قدحية في الكتابات الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية.

المسـكليم

Maskilim

«مسكليم» كلمة عبرية تشير إلى دعاة حركة التنوير بين اليهود. انظر: «دعاة التنوير اليهودي (المسكليم) ».

نفتالــي فيســيلي (1725-1805)

Naphtali Wessely

واحد من أهم دعاة التنوير الألمان، وشاعر يكتب بالعبرية. وهو أحد أصدقاء مندلسون وأحد أخلص أتباعه. وُلد لأسرة ثرية، فكان أبوه وجده من قبله يمتلكان مصنعاً للأسلحة ويعملان متعهدي تموين للأسرة المالكة الدنماركية، أي أنهما كانا من يهود البلاط. تلقَّى فيسيلي تعليماً دينياً وغير ديني، وأتقن بعض اللغات الأوربية واللغة العبرية. وقضى بضعة أعوام في أمستردام وكوبنهاجن حيث تعرَّف إلى مندلسون.

نشر فيسيلي بعض الدراسات الدينية من بينها تعليق على أحد كتب التلمود. ولكنه ذاع صيته حينما نشر عام 1782 كتيباً بالعبرية بعنوان دبري شالوم فائيميت (كلمات السلام والحق) كان بمنزلة مانفستو لحركة التنوير بعد صدور براءة التسامح عام 1782، وقد تُرجم هذا الكتيب إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية. كما ساهم فيسيلي في التعليق على كتاب أسفار موسى الخمسة الذي أعده مندلسون. وفي عام 1788، نشر سيفر هاميدوت (كتاب الأخلاق) وهو تحليل نظري للقضايا الأخلاقية.

ولكن أهم أعماله هو قصيدته البطولية شيري تيفئيريت (قصائد المجد) وهي ملحمة عن الخروج مقسمة إلى ستة أقسام وثمانية عشر كتاباً. وقد استغرق تأليفها نحو عشرين عاماً وأصبحت نموذجاً لمعظم الجهود الشعرية لحركة التنوير، وهي متأثرة بقصيدة الشاعر البولندي كلوبستوك «المسيح».وليست للقصيدة قيمة أدبية تذكر، وهي أيضاً ليست قصيدة تاريخية تحاول الحفاظ على الإيهام التاريخي،وإنما هي تعبير عن أفكار حركة التنوير وُمُثلها: فموسى، قائد العبرانيين، يشبه دعاة حركة التنوير الألمان، بل ويشبه موسى مندلسون على وجه التحديد.

ويُعَدُّ إسهام فيسيلي الأساسي في الأدب المكتوب بالعبرية أسلوبه الذي كان يتسم بالبلاغة برغم زخرفته وتأنقه الزائد، وقد كان أسلوبه نموذجاً للأدباء الذين يكتبون بالعبرية من بعده وقد أدخل فيسيلي تعديلات على عروض الشعر المكتوب بالعبرية إذ تبنَّى الوزن المقطعي والسطر المكون من اثنى عشر مقطعاً والمسمى «الإسكندري »

وساهم فيسيلي في نشر أفكار مندلسون التربوية، وفي توجيه النقد للأفكار التربوية السائدة في عصره بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب. وكان مهتماً بالتعليم الديني اليهودي، ولكنه ذهب إلى أن الدراسات التلمودية دراسات غير علمية وأن من الواجب توجيه اليهود نحو دراسة الحرف وأن يتلقوا تعليماً دنيوياً يهيِّئهم للاشتراك في الحياة حولهم. واقترح أن يتضمن هذا التعليم مبادئ العلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا واللغة الألمانية. وحاول أن يبرر دعوته العقلانية على أسس دينية، فقال: إن معرفة التاريخ تقوي معرفة اليهودي بتراثه، في حين تساعده معرفة الجغرافيا على فهم الشعائر المقدَّسة. وقد لاقت آراؤه معارضة حادة من الحاخامات. ولكن أفكاره، مع هذا، ساهمت في صياغة أفكار التربويين اليهود ممن جاءوا بعده، سواء كانوا من دعاة حركة التنوير أو كانوا من معارضيها.

وبعد ظهور براءة التسامح، سنحت أمامه الفرصة لوضع أفكاره موضع التنفيذ حينما أسس ديفيد فرايدلاندر عام 1778 المدرسة اليهودية الحرة، إذ تبنت هذه المدرسة منهجاً جديداً يمزج الدراسات الدينية بالدراسات الدنيوية. فكانت النصوص الدينية تُدرَّس بالعبرية، ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك دروس دينية أيضاً تُدرَّس بالألمانية التي حلت محل اليديشية كلغة للتدريس. وكانت هذه المدرسة نموذجاً للمدارس الأخرى التي أُسِّست بعد ذلك.

موسى مندلسون (1729-1786)

Moses Mendelson

رائد حركة التنوير اليهودية. وُلد في دساو (ألمانيا الوسطى) لأب فقير يعمل في كتابة مخطوطات التوراة أي لفائف الشريعة. وأُصيب بمرض في طفولته تسبَّب في تقوُّس عموده الفقري وأثر في جهازه العصبي. وتلقَّى مندلسون تعليماً تقليدياً على يد حاخام ثم سافر إلى برلين حيث درس الطب والفلسفة واللغات اليونانية واللاتينية والإنجليزية والفرنسية، وكان هذا أمراً غير عادي بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في أوربا آنذاك. اشتغل مندلسون مدرساً خصوصياً لأولاد صاحب مصنع حرير ألماني يهودي ثم عمل محاسباً عنده، واستوعبت الوظيفة كثيراً من وقته، ولكنها أتاحت له فرصة الإقامة في برلين كيهودي يتمتع بالحماية بسبب نفعه. وظل يعمل طيلة حياته تاجراً وتزوج من حفيدة يهودي البلاط صموئيل أوبنهايمر.

صادق مندلسون عديداً من المثقفين الألمان في عصره من بينهم كانط ولسينج الذي كتب مسرحية نيثان الحكيم (1779) واستخدم مندلسون فيها كنموذج لبطل المسرحية اليهودي الذي يتحدث عن الأخوَّة وحب الجنس البشري.

قرأ مندلسون أعمال موسى بن ميمون وتأثر بنزعته العقلانية، كما تأثر بأعمال لايبنتز وإسبينوزا. وذاع صيته في بداية الأمر بسبب كتاباته في فلسفة الجمال التي تُعَدُّ إسهاماً لابأس به في هذا الحقل الفلسفي، ثم نشر كتاب فايدون (1767) تناول فيه موضوع الخلود الشخصي في شكل حوار أفلاطوني يؤكد فيه فكرة خلود الروح وأن الموت لا يعني الفناء الكامل، وبيَّن أن الرب الخيِّر ما كان ليغرس هذه الفكرة في روح الإنسان إن لم يكن هناك خلود حقيقي للروح. ويتضح في الكتاب مدى تأثر مندلسون بمفكري عصر العقل والاستنارة والفلاسفة الربوبيين، الذين كانوا يؤمنون بالخالق دون إيمان بأي دين ولا حتى بالآخرة. وقد ذاع صيت مندلسون بعد هذا الكتاب وكان يشار إليه بأنه «أفلاطون الألمان وسقراط اليهود». ورُشح مندلسون لأكاديمية العلوم في برلين ولكن الملك شطب اسمه من قائمة المرشحين. ودخل مندلسون في نقاش حاد مع المفكر الديني المسيحي السويسري يوحنان لافاتر الذي طلب إلى مندلسون أن يثبت زيف الدلائل على صدق العقيدة المسيحية أو أن يفعل ما كان سيفعله سقراط لو كان في الموقف نفسه، أي أن يتنصَّر.

لكل هذا، دخل مندلسون مرحلة فكرية ثانية ظهر فيها اهتمامه باليهود واليهودية، فبذل قصارى جهده كي يقضي على العزلة الفعلية والنفسية لليهود. وحاول أن يحطم ما أسماه بالجيتو العقلي الداخلي الذي أنشأه اليهود حول أنفسهم لموازنة الجيتو الفعلي الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه حتى عهد قريب، فأنشأ مدرسة للأطفال في برلين لتعليم الألمانية والحرف اليدوية إلى جانب العلوم التقليدية، وهاجم استخدام اليديشية، وأصدر عام 1750 مجلة لنشر ثمار الثقافة العالمية بعنوان كوهيليت موسار (الواعظ الأخلاقي) مقلداً أسلوب مجلتي إسبكتاتور و تاتلر، ولكنها منيت بالفشل ولم يظهر منها سوى ثلاثة أعداد. ثم نشر عام 1783 مجلة هاميئاسيف (الحاصد أو الجامع) التي كانت تُعَدُّ أهم مجلات حركة التنوير، واستمر نشرها حتى عام 1811.

ونشر مندلسون عام 1770 طبعة مشروحة من سفر الجامعة، كما نشر تعليقاً بالعبرية على كتاب موسى بن ميمون عن المنطق. وانتهى مندلسون من ترجمة أسفار موسىالخمسة إلى الألمانية والتي كُتبت بحروف عبرية، وكتب تعليقاً بالعبرية (بيور) عام 1783. وقد نُشرت الترجمة مع تعليقات وشروح كتبها معه مؤلفون يهود آخرون من بينهم نفتالي فيسلي وهيرتز هومبرج وياروسلاف. ويُعَدُّ هذا العمل من أهم أعمال عصر الإعتاق والتنوير، فهو الخطوة الأولى التي خطاها أعضاء الجماعة اليهودية نحوالحضارة الغربية العلمانية الحديثة، وقد حرَّم الحاخامات تداولها. كما ترجم مندلسون بعد ذلك المزامير ونشيد الأنشاد إلى الألمانية، وكتب كريستيان دوم عمله الشهير عننفع اليهود وتحسين أحوالهـم بخصوص إصلاح مكانة اليهود المدنية، الذي يتناول فيه هذه القضية بعد أن حثه مندلسون على ذلك. ويُقال إنه اشترك معه في كتابته وإن كان اختلف معه بعد ظهور الكتاب، لأن دوم طالب بمنح اليهود بعض الحقوق المدنية وأوصى بعزلهم داخل الجيتو والاحتفاظ بمؤسسات الإدارة الذاتية وألا يشغلوا وظائف عامة.

وفي عام 1782، قام أحد أصدقاء مندلسون بترجمة كتاب منَسَّى بن إسرائيل الذي يدافع فيه عن اليهود ونفعهم، وكتب له مندلسون المقدمة. وأثار الكتاب نقاشاً حاداً لأنه نادى بضرورة إلغاء حق الحاخامات في طرد اليهود من حظيرة الدين (حيريم). ورد عليه أحد النقاد مبيناً أن مثل هذا المطلب غير منطقي لأن القسر الديني هو أحد أعمدةاليهودية، وزعم أن مندلسون اقترب (في موقعه هذا) من المسيحية التي لا تستند إلى الشرائع والقواعد وإنزال العقوبات بمن لاينفذها وإنما إلى العقائد الأخلاقية غيرالمرتبطة بنظام عقوبات.

واضطُر مندلسون إلى كتابة أورشليم: أو عن السلطة الدينيـة والعقيـدة اليهـودية (1783) للرد على الانتقادات الموجهة إليه. والكتاب في جزئه الأول يشبه كتاب إسبينوزا في دفاعه عن الحرية الدينية وحرية الضمير إذ أن للدولة وحدها، من وجهة نظره، حق استخدام القوة من أجل مصلحة المواطنين. ولكن لا الدولة ذاتها ولا الكنيسة لها الحق في فرض أية قيود على عقيدة الإنسان، أو على مبادئه، ولا يمكن تحديد مكانة الإنسان في المجتمع أو حقوقه بناء على عقيدته. ومن ثم طالب مندلسون بمنح كل فرد حرية العقيدة، ليقرر كلٌّ ما يشاء حسبما يمليه عليه ضميره وتصوُّره الأخلاقي. وإذا ما أرادت الكنيسة أو أية مؤسسة دينية أن تبشر بعقيدتها، فلابد أن تلجأ إلى الإقناع لا القسر وطالب بفصل الدين عن الدولة.

ولكن يُلاحَظ أن ما يقرره الضمير الفردي لا يتجاوز البتة رقعة حياة الفرد، إذ يظل للدولة الحق الكامل فيما يختص بالمصلحة العامة والحياة العامة. وهذا يعني أن مندلسون كان يحاول أن يطرح على اليهود التحدي الذي طرحه عليهم عصر الإعتاق والانعتاق بأن يصبح اليهودي مواطناً لا عضواً في جماعة إثنية دينية، وأن يكون ولاؤه فيما يختص بالحياة العامة للدولة وحدها. ويمكنه أن يحتفظ بولائه فيما يختص بالدين لأعضاء جماعته الدينية حسبما يمليه عليه ضميره، أي أن يصبح اليهودي مواطناً في الشارع يهودياً في منزله.

ويتوجه مندلسون في الجزء الثاني من الكتاب لمشكلة اليهود واليهودية، فيوجه سهام نقده إلى سيطرة الحاخامات، ويحاول أن يطرح تصوراً لليهودية عقلانياً في أساسه، ولكن للوحي فيه مكاناً، فيذهب إلى أن هناك أسساً ثلاثة لليهودية هي: وجود الإله، والإيمان بالعناية الإلهية، وخلود الروح. وهذه الأسس حقائق بدهية مثل الحقائق الرياضية، كما تشكل الأساس الفلسفي لكل الأديان قاطبة. ومن ثم، لا يوجد تعارض بين العقل واليهودية في الجانب العقيدي، ولا يوجد بالتالي داع للقسر الديني. ولكن اليهودية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه فهي ليست ديناً مرسلاً وإنما مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية السلوكية والشعائر المرسلة، فهي ديانة لا تهدف إلى تقنين طريقة تفكير اليهودي وإنما لوضع أسس لسلوكه.

واليهودية لا تطلب الإيمان بأية عقائد يهودية محددة أو حقائق خاصة بالخلاص، ولا تنقل معرفة ربانية خاصة، ولا توجد وصية واحدة من الوصايا العشر تتحدث عن الإيمان وإنما تتحدث كلها عن السلوك. وعندما تحدَّث الرب مع موسى في سيناء لم يذكر له أية عقائد بل ذكر له طريقة للسلوك يطبقها اليهود في حياتهم، أي أن العقل يصل إلى العقائد (العامة والجوهرية)، والوحي يقرر الشعائر (الخاصة والمحلية)، وكأن العقل يمثل المضمون والوحي يمثل الشكل. ويتبع مندلسون في هذا تمييز عصر العقل والاستنارة بين الحقائق العقلية والحقائق التاريخية أو الدنيوية. فالأولى لا تتطلب سوى عملية عقلية لإثباتها وتقبُّلها فهي عامة ومجردة، أما الثانية فتتطلب قرائن حسية لإثباتها فهي محددة بالزمان والمكان.

ويقول مندلسون إن المملكة العبرانية المتحدة كانت ثيوقراطية، أي أن العقيدة والدولة كانتا متوحدتين، ولذا فمن كان يرفض الانصياع للأوامر والنواهي الدينية يخرق قانون الدولة ويتمرد عليها. وقد سقطت الدولة، ولكن لم تسقط القوانين أو الشريعة مع هذا لأنها مُرسَلة من الرب، ولذا فهي ملزمة لليهود وحدهم ولكل من يُولد يهودياً ولكنها لا تنطبق على غير اليهود ممن أُرسلت إليهم شريعة نوح. ويشير مندلسون إلى أن اليهود الذين كانوا يتنصَّرون، في القرون الأولى من العصر المسيحي، كانوا يستمرون في ممارسة الشعائر اليهودية، على عكس غير اليهود الذين تنصَّروا، فهؤلاء لم يكونوا مُلزَمين باتباع هذه الشعائر وتنفيذها، أي أنه ربط هنا بين الدين والعرْق أو الإثنية. وبذا، يكون مندلسون قد أعاد تعريف اليهودية تعريفاً إثنياً، وهذه هي الصياغة الصهيونية. ويرى مندلسون أن القوانين الشعائرية والأوامر والنواهي تحتفظ لليهود بروابطهم، وتمنحهم خصوصيتهم وتفرُّدهم، وهذه الصياغة تقترب هي الأخرى من الصياغات الصهيونية للقضية نفسها.

وعلى هذا، فإن مندلسون يقبل (في الأمور الجوهرية) اللاهوت الطبيعي والفكر الديني لفلسفة الربوبية، ولكنه في الوقت نفسه يقبل التوراة في الشعائر. وقد قال ليو بايك، عن حق، إن اليهودية أصبحت بالنسبة إلى مندلسون خليطاً من الشريعة والديانة الطبيعية (الربوبية). ولكن هذا تجلٍّ للتناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربي بين النزوع العقلي نحو العام والمجرد والنزوع الحسي والتجريبي والرومانسي نحو الخاص والمتعيّن.

وتجب ملاحظة الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة الربوبية، فبينما يرى مندلسون أن العقل والوحي مختلفان وأن الأول يسبق الثاني، يرى فلاسفة الفكر الربوبي أن العقل حينما يصفو يقترب من الوحي الأمر الذي يفترض وحدة العقل والوحي. كما ينبغي أيضاً إيضاح الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة موسى بن ميمون والرؤية الدينية العقلانية. فموسى بن ميمون يرى أن معرفة الإنسان بالحقيقة تستند إلى العقل والوحي، ورغم أن الديانات في جوهرها عقلانية ولا يمكن أن يُوجَد تناقض بين مضمونالدين والعقل، فإن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى الحقيقة دون وحي. أما مندلسون، فيرفض مسألة الطريق المزدوج لمعرفة الحقيقة والمصدرالمزدوج للحقيقة نفسها، فالوحي لا يمكنه أن يقنع أي إنسان بحقيقة شيء لم يدركه عقله. فكأن العقل هو النقطة المرجعية النهائية والمطلقة في كل الحقائق الأساسية. ومع هذا، وكما أسلفنا، فإنالوحي له دوره، فهو مصدر الشعائر الخاصة بكل دين. ولأن مندلسون ترك مكاناً في نسقه الفكري للوحي، فإنه يختتم كتاب أورشليم بالدفاع عن استقلالية الأديان وخصوصية كل منها، ويرى أن محاولة مزج كل الأديان في دين واحد مسألة غير ممكنة، ذلك أن تعدُّد الأديان أمر مهم للغاية.

وتعريف مندلسون لليهود يقترب إلى حدٍّ كبير من تعريف إسبينوزا الذي يرى أن شريعة اليهود أُرسلت لليهود دون سواهم. وبينما كان إسبينوزا يرى أن هذه الشريعة فقدت حيويتها ووظيفتها مع نهاية الدولة العبرانية، كان مندلسون يؤمن بأنها مازالت ذات فاعلية. كما يرفض مندلسون حلولية إسبينوزا المتطرفة، فالرب حالٌّ ومفارق في آن واحد وهو رب يرسل الأوامر والنواهي ولكنه رحيم. والإله ليس مجرد نظام منطقي (النظام الضروري والكلي للأشياء) أو قانون طبيعي غير شخصي (كما كان إسبينوزا يتصوّر). وهذا يعني أن مندلسون احتفظ بشيء من الثنائية الأساسية التي تسم أي تفكير ديني وإن أصبحت باهتة للغاية. ولذا، فحينما علم أن صديقه ليسنج اعترف قبل موته بأنه من المؤمنين بفكر إسبينوزا وحلوليته وإلحاده، أصيبب مندلسون بالذعر وألَّف كتاباً يهاجم فيه إسبينوزا، وكان آخر كتبه. ويبدو أن الجهد العصبي الذي بذله في كتابته كان فوق طاقته إذ تُوفي بعد عدة أيام من تسليم مخطوط الكتاب للناشر.

ولكن، برغم وقوف مندلسون ضد النزعة العقلانية المتطرفة، فإن رؤيته في جوهرها رؤية عقلية عقلانية لاتاريخية تنحو نحو العام والمجرد تختلف عن النزعة الحسية والتجريبية والنزعة الرومانسية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر والتي تؤكد الخاص والمحلي والمتعيِّن واللاعقلاني. ويُلاحَظ كذلك أن تأكيد مندلسون أهميةالشعائر الدينية اليهودية، وكذلك إسقاطه أهمية العقائد، يقف في مواجهة تطوُّر اليهودية اللاحقة إذ أن الاتجاه التنويري في اليهودية ركز على العقائد باعتبارها الجزء العقلاني من اليهودية والجزء المشترك مع بقية البشر، وأهمل الشعائر باعتبار أنها مصدر العزلة والخصوصية. ثم تطوَّر هذا الاتجاه في اليهودية المحافظة بحيث أصبح ما يميِّز اليهودية عقائدها الخاصة والفريدة، ولعل هذا يُفـسِّر سـبب تجاوز فلسـفته الدينية بعد موته.

وتأثر كل من كانط، وهيجل، في رؤيتهما لليهودية، بآراء مندلسون، إذ نظرا إليها باعتبارها ديناً شعائرياً عقلانياً عقلياً بارداً لا يتطلب الإيمان وإنما الممارسة الدينية وحسب مقابل المسيحية التي تؤكد عالم الباطن والروح. وخلص هيجل في مقدماته إلى أن اليهودية قد أصبحت مجرد حفرية مقابل المسيحية التي لا تزال ديناً حياً.

وذاع صيت مندلسون لدرجة أن اليهود أطلقوا عليه لقب «موسى الثالث»، (باعتبار أن النبي موسى هو الأول، أما الثاني فهو موسى بن ميمون). ورغم أن مندلسون هو الأب الحقيقي لحركة التنوير، فإنه كان من بعض النواحي شخصية انتقالية إذ كانت تسيطر عليه أحياناً تحفظات كثيرة بشأن ترجمة كل العلوم الدينية. كما كان يعارضالتعليم المشترك بين اليهود والأغيار خشية أن يؤدي مثل هذا التعليم إلى تحوُّل اليهود عن دينهم. وقد هاجمه المفكر الصهيوني بيريتس سمولنسكين لأنه طالب بفصل الدينعن القومية، ولأنه أعلن أن اليهودية لا يمكنها الاستمرار إلا بوصفها ديناً وحسب، وهو الأمر الذي يتنافى مع جوهر اليهودية كما يراها سمولنسكين، فهي دين وقومية في آن واحد.

وقد تنصَّر أبناء مندلسون كلهم إلا واحداً، وهذه حقيقة يسوقها بعض اليهود الأرثوذكس والصهاينة دليلاً على أن حركة التنوير كانت حتماً ستؤدي إلى اختفاء اليهودية وإلى انصهار اليهود. ولكنهم لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزل وأبنائه، حيث تنصَّر أحدهم وجُنَّ الآخر وانتحر، أما ابنته فكان سلوكها الجنسي شائناً إذ يُقال إنها احترفت البغاء، نقول لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزل لاكتشفوا أن ما يحدث لأبناء زعيم حركة سياسية أو فكرية ما، خصوصاً بعد وفاته، لا يصلح لأن يكون معياراً وحيداً للحكم على هذه الحركة.

دانيال إيتزيج (1733-1799(

Daniel Itzig

مصرفي ألماني يهودي وابن تاجر خيول، غيَّر اسمه عدة مرات، كان يُدعَى إتيزيج بن ديفيد جافي. تزوج في أسرة ثرية، وبدأ حياته المهنية مسئولاً عن الفضة في دار السك الملكية، وأصبح رئيس الجماعة اليهود ليصبح ضمن اليهود المحميين (بالألمانية: شوتسيودين Schutzjuden)، أي اليهود الذين يتمتعون بوضع خاص بسببتميُّزهم (مُنح إيتزيج حقوق التجار المسيحيين عام 1761). وصلت حياته المهنية إلى قمتها مع حرب السنين السبع 1756 ـ 1763 (كما هو الحال مع كثير من التجار اليهود ويهود البلاط) وذلك حينما طلب فريدريك الثاني منه ومن يهودي بلاط آخر الاشتراك في تمويل الحرب من خلال إصدار مجموعة من النقود المعدنية التي تقل عن قيمتها الحقيقية. وبعد الحرب، استثمر أمواله في صناعة الجلد والسلع الحديدية وأصبح أغنى رجل في بروسيا (بل ويُقال في أوربا كلها)، وبنى قصراً لنفسه وأسس مصرفاً. وأصبح ممثلاً لكل يهود بروسيا. وكان رئيساً للجنة التي شُكِّلت لدراسة حال الجماعة اليهوديــة ولتقـديم الاقتراحـات التي تهــدف إلى تحسين أحوالها. ثم عُيِّن مستشاراً مالياً لوليام الثاني الذي منحه حقوق المواطنة الكاملة، له ولكـل أعضـاء أسـرته باعتبارهم يهوداً نافعين (غير قابلين للترحيل)، وكانوا بذلك أول من حصل على هذا الحق. وفي عـام 1797، عُيِّن في منصــب مصـرفي البلاط ومفتش إنشاء الطرق.

وكان إيتزيج يرى ضرورة تحويل اليهود إلى عنصر منتج، ولذا قرَّر أن يفتح مدرسة لأبناء الأسر اليهودية الفقيرة كي يتعلموا فيها العلوم العلمانية إلى جانب العلوم الدينية وكان هذا يمثل ثورة حقيقية. وقد أدار هذه المدرسة (بعد موته) زوج ابنته ديفيد فرايدلاندر (المصلح الديني) ثم لازاروس بنديفيد. وكان ملحقاً بالمدرسة دار لنشر الكتب العبرية. قام إيتزيج (بإيعاز من زوج ابنته وموسى مندلسون) بمنع الحاخام هيرشل لفين (حاخام برلين الأكبر) من إصدار أمر بطرد فيسيلس من حظيرة الدين (حيريم) بعد أن أصدر كتابه كلمات السلام والحقيقة (1782 ـ 1785). وكان إيتزيج مع هذا يرى ضرورة احتفاظ اليهود بعقيدتهم، فقرر في وصيته أن يُحْرَم من الميراث من يتنصَّر من ذريته. ولكنه، نظراً لتردده في موقفه، عاد وألغى هذا الشرط. وكانت مخاوفه في محلها، إذ لم يبق أحد من نسله يهودياً.

ولنا أن نلاحظ ما يلي:

1 ـ يُعَدُّ إيتزيج نموذجاً جيداً لشخصية يهودي البلاط الانتقالية الذي يقف بين العالمين اليهودي والمسيحي.

2 ـ بسبب هذا نجده يلعب دوراً نشيطاً أساسياً في حركة التنوير والإصلاح الديني، وبخاصة في المجال التعليمي.

3 ـ كانت شخصيات مثل إيتزج هي النموذج الجديد الذي يُحتذَى لدى الشباب من أعضاء الجماعات اليهودية. ومنطق مثل هذه الشخصيات وسر نجاحها هو التخفف من اليهودية إلى درجة تقترب من التخلي عنها (أي أن يصبح يهودياً غير يهودي) وعادةً ما يكون نسل مثل هؤلاء غير يهود اسماً وفعلاً، كما حدث لنسل إيتزيج.

4 ـ ساهم إيتزيج بذلك في تقويض دعائم الإيمان الديني اليهودي ووضع أسس دنيوية للنجاح على أساس شروط الأغيار وساهم بذلك هو (وغيره) في خَلْق التربة الخصبة والجو المواتي لظهور الحركة الصهيونية، وهي حركة ترفض اليهودية وتقرر النجاح في عالم الأغيار من خلال آلياتهم وبشروطهم، والمشاركة في السلطة حتى يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب.

هـرتز هـومبرج (1749-1841(

Herz Homberg

تربوي ألماني يهودي من رواد حركة التنوير ودعاتها. تلقَّى تعليماً دينياً تقليدياً في بداية حياته، ثم تعلَّم الألمانية في السر، وبعدها تعلَّم الرياضيات وعدة لغات أجنبية في برلين وهامبورج. وتأثر هومبرج بأفكار روسو في التربية، وبقي من عام 1775 حتى 1782 مدرساً لابن مندلسون. ولكنه، وقد جذبته إصلاحات جوزيف الثاني (إمبراطور النمسا)، انخرط في سلك التدريس في تريستا، وكان أول يهودي في براغ ينجح في امتحان اختيار مدرسين للعمل في مدارس حكومية.

وبعد أن قرر الإمبراطور عدم السماح لليهود بالعمل إلا بعد تعلُّم الألمانية، وكانت قد تأسست مدارس يهودية لتحقيق هذا الهدف، عُيِّن هومبرج مشـرفاً عـاماً على هذه المدارس ورقيباً على الكـتب في جاليشيا. ووضع كتيباً وجَّهه إلى الحاخامات يقترح عليهم فيه ضرورة أن يكون التعليم اليهودي متكيفاً مع الحضارة الأوربية، كما دافع عن تعليم العبرية والألمانية والحرف اليدوية وعن تعليم الفقراء. وأسس هومبرج مائة وسبعاً من المدارس والفصول لتعليم اليهودية، كما أنشأ مدرسة لتخريج المدرسين، ولكن اليهود لم يرسلوا أولادهم إلى هذه المدارس. وألقى هومبرج باللوم على الحاخامات باعتبارهم المسئولين عن فشل اليهود في أداء واجبهم نحو الدولة، واتهمهم بأنهم يحتفظون بولائهم لإرتس يسرائيل ويتحاشون الخدمة العسكرية. وقد اقترح هومبرج على السلطات إلغاء المعاهد التقليدية، كما طالبهم بمنع استخدام العبرية وبأن يُفْرَض على كل الهيئات اليهودية أن تستخدم مدرسين تم تدريبهم تدريباً حديثاً. وطالب بأن يُوجَّه اليهود إلى الحرف المنتجة وأن تُمنَح الحقوق المدنية لليهود الذين يطبقون قانون الدولة، كما طالب بأن تقوم الدولة بإلغـاء كل ما يميِّز اليـهود عن الأغـيار بما في ذلك اللحـية والأزياء الخاصة. ورغم أن الدولة كانت تقف وراء التجربة، إلا أنها فشلتفشلاً ذريعاً بسبب معارضة اليهود.

ويبدو أن هومبرج كان عقلانياً لا يدرك أن اللحظة التاريخية تساهم في صياغة الإنسان. ودفعه رفضه اليهودية الحاخامية إلى أن يطرح اقتراحات ثورية صبيانية مستحيلة مثل إلغاء منصب الحاخام وتدمير كل الكتابات الحاخامية وإلغاء الشريعة الشفوية.

استقر هومبرج بعد ذلك في فيينا وكان رقيباً على الكتب. ووضع عدة كتب دينية مدرسية اقترح في أحدها عقد اختبار إجباري لكل من ينوي الزواج من اليهود. وعمل بين 1816 و1841 في براغ مشرفاً على المدارس اليهودية. وتم تعميد أولاده الأربعة في حياته.

لازاروس بنديفـــيد (1762-1832)

Lazarus Bendavid

أحد دعاة حركة التنوير بين يهود ألمانيا، وله كتابات في الفلسفة أحرزت ذيوعاً في وقتها، كما أن سله كتابات تناولت موضوعات يهودية نادى فيها بإصلاح اليهودية. وكان يرى أن الطريقة الوحيدة لوقف تنصُّر اليهود هي اليهودية الإصلاحية. وقد تقبَّل بنديفيد فكرة نقد العهد القديم، وكان يذهب إلى أن الشعائر هي سبب ضعف اليهودية في عصره، ونادى بإلغائها. كما طالب بالابتعاد عن الشريعة الشفوية، وبيَّن أن الإيمان بالماشيَّح ليس إحدى العقائد الأساسية في اليهودية، وأن حصول اليهود على حقوقهم ومساواتهم بالأغيار هو في واقع الأمر عودة الماشيَّح.

أيزيــك لفنســون (1788-1860(

Isaac Levinsohn

مؤسس حركة التنوير في روسيا، ويُسميه البعض «مندلسون روسيا». وُلد لأسرة يهودية ثرية، ونشأ في بلدة على حدود جاليشيا النمساوية. علَّم نفسه البولندية والألمانيةوالفرنسية، ويُعَدُّ من أوائل اليهود الذين أتقنوا اللغة الروسية. وعمل كمترجم للقوات الروسية أثناء الغزو الفرنسي عام 1812. تنقَّل بين عامي 1813 و1820 بين عددمن مدن شرق جاليشيا مثل برودي وتارنبول، وقام بالتدريس في المدارس اليهودية الحديثة، وهناك تعرَّف إلى عدد من دعاة التنوير اليهود. وفي عام 1823، استقر فيمدينة كرمنتز ليكرِّس جهده ونشاطه في نشر فكره المتصل بإصلاح أوضاع اليهود.

بدأ نشاطه الأدبي حينما كان في جاليشيا، فنشر قصيدة بالعبرية، كما نشر ترجمة يديشية للتعريفة الجمركية الروسية الرسمية، وأعد كتاباً بالعبرية لتعليم قواعد اللغة الروسية، إلا أنه لم يُنشَر. وشهد عام 1828 ظهور أهم كتب لفنسون شهادة في إسرائيل الذي يوجه فيه نقداً لاذعاً للمدارس الأولية الخاصة (حيدر) التي يتمركز منهجها حول التلمود وهي مدارس تتبع طرقاً غير منهجية في التدريس ويُستخدَم فيها العقاب البدني، ولذا سماها لفنسون «غرف الموت». وقد عارض لفنسون استخدام اليديشيةكلغة للتدريس، وطالب باستخدام اللغة الألمانية أو الروسية. وحث اليهود على تعلُّم اللغات الأجنبية والمواد العلمانية. كما طالب لفنسون اليهود بإعادة بناء حياتهم الاقتصادية والاجتماعية على أساس الابتعاد عن التجارة والاشتغال بالحرف الإنتاجية المختلفة. ولتدعيم وجهة نظره، كان لفنسون يشير دائماً إلى ممارسات مشاهير اليهود فيالماضي. وقد أغضبت أفكاره الدوائر الأرثوذكسية، ولكن كثيراً من الشباب اعتبر كتابه شهادة في إسرائيل إنجيلاً جديداً. وحصل لفنسون على جائزة مقدارها ألف روبل عن هذا الكتاب، وذلك لاتفاق أفكاره مع اتجاهات الحكومة الروسية لإصلاح أوضاع الجماعات اليهودية في روسيا.

وانتهى لفنسون من تأليف كتابه الثاني بيت يهودا (عام 1829)، ولكنه لم ينشره إلا بعد عشرة أعوام؛ نظراً للمعارضة الشديدة من قبل الحاخامات لطبعه، فهو عبارة عن تفسير لليهودية في ضوء فلسفة التاريخ. وفي محاولته الإجابة عن إمكانية إصلاح اليهود واليهودية، يتبع لفنسون تفسير مندلسون الذي يرى في اليهودية قانوناً شاملاً فيما عدا القانون الإلهي، كما تشتمل على قانون مدني يختص بممارسات المجتمع والعلوم المطلوبة للحفاظ عليه وتطويره. وهذا القانون، كما يرى لفنسون، يمكن تعديله وإصلاحه طبقاً لروح العصر ومتطلبات الشعب. وفي الجزء الثاني من الكتاب، يقدِّم لفنسون عرضاً تاريخياً لتعاليم حكماء اليهود ومن بينهم مندلسون. ويُنهي لفنسون كتابه ببرنامج لإصلاح حياة اليهود في روسيا يشتمل على العناصر التالية:

أ) تأسيس مدارس أولية للبنين والبنات من الطبقات الفقيرة وضرورة تعليمهم حرفاً مختلفة. كما طالب بتأسيس كليات مركزية في وارسو وفلنا وأوديسا ليدرس فيها الموهوبون من الطلبة التلمود والقوانين والعلوم واللغات المختلفة.

ب) تعيين حاخام أكبر ذى صلاحيات كبيرة بحيث يمكنه تعيين حاخامات ووعاظ في مدن روسيا يخضعون لإشرافه على أن تساعده محكمة عليا دينية. كما طالب بتعيين لجنة من قيادات الجماعة للدفاع عن الفقراء والناس العاديين ضد قياداتهم وضد الأغنياء الذين يستغلونهم أسوأ استغلال.

جـ) تعيين وعاظ ليقوموا بحثِّ الناس على السلوك القويم وتشجيعهم على امتهان الحرف المختلفة، وليوضحوا لهم واجباتهم تجاه الإله وتجاه أنفسهم وتجاه الآخرين وتجاه الدولة وتجاه البشرية عامة.

د) توجيه يهود روسيا إلى العمل بالزراعة.

وقد اشترت الحكومة الروسية ألفي نسخة من هذا الكتاب لتوزيعها في المعابد والمدارس العبرية. ورغم توجيه لفنسون النقد لطريقة حياة اليهود، وتأكيده ضرورة أن تُطبَّق إصلاحاته المقترحة دون أخذ موافقتهم، إلا أنه دافع عن اليهودية كديانة. ففي عام 1838، كتب دفاعاً حاراً ضد هجمات المرتدين وضد تهمة الدم في كتابه الذي يُسمَّى لا يوجد دم، وتُرجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية فيما بعد. ومن أهم كتبه الأخرى زروبابل الذي صدر بعد وفاته في أوديسا عام 1863 في شكل غير كامل، ثم صدر بعد ذلك في عدة طبعات مختلفة. وفي هذا الكتاب، دافع لفنسون عن التلمود واليهودية ضد هجمات ماكول (المبشر الإنجليزي)، كما نشر هجوماً باليديشية على الحسيدية.

جــبريل رايســر (1806-1863)

Gabriel Riesser

محامي ألماني يهودي، وأحد أهم دعاة حركة التنوير. وُلد في هامبورج ودرس القانون في كيلي وهايدلبرج. لم يوفَّق في محاولته الاشتغال بالمحاماة والقضاء، ولكنه على عكس كثير من معاصريه لم يتنصَّر ليحقق غرضه، وبـدلاً من ذلك أصرّ على أن يدافـع عن حـق اليهود، كمواطنين، في أن يحصلوا على حقوقهم كاملة. ودخل في محاجة مع المفكر الديني العقلاني هـ. أ. ج. باولوس الذي ذهب إلى أن تمسُّك اليهود بدينهم جعل منهم أمة، ولذا ليس لهم الحق في أن يكونوا مواطنين، بل هم رعايا موضوعون تحت الحماية وحسب. كما أن باولوس ذهب إلى أن محاولة اليهود الاندماج في الشعب الألماني، هي محاولة زائفة، ستؤدي إما إلى طردهم أو إلى إبادتهم. وقد رد رايسر على ذلك بأن إيمان اليهود بدينهم هو مسألة عقيدة شخصية، ومن ثم فهم متساوون مع المواطنين الألمان كافة حيث عاش الألمان واليهود في ألمانيا منذ عدة أجيال. ولم يكن رايسر محافظاً على شعائر دينه في حياته الخاصة، ولكنه أصر على حق اليهود في ممارسة هذه الشعائر. وكان رايسر من أهم أعضاء معبد هامبورج الإصلاحي واليهودية الإصلاحية.

ونجح رايسر في كثير من جهوده إذ شغل عدة وظائف إلى أن أصبح عضواً في البرلمان في فرانكفورت (1848 ـ 1849)، كما أصبح نائباً لرئيسه وعضواً في اللجنة الدستورية، ثم شغل منصب عضو في محكمة هامبورج العليا، وكان أول ألماني يهودي يُعيَّن في مثل هذا المنصب كما سُمِّي شارع باسمه في هامبورج.

جمعية تنميـة الثقافة بين يهود روســيا

Society for the Promotion of Culture among the Jews of Russia

جمعية ثقافية روسية أسسها عام 1863 في سانت بطرسبرج عدد من أثرياء الجماعة اليهودية في روسيا بغرض نشر الثقافة الروسية بين الجماهير اليهودية والإسراع بعملية التحديث والترويس بينهم.

وكانت عملية التحديث والنمو الاقتصادي التي بدأتها الحكومة القيصرية، والتي اتخذت شكلاً أكثر ليبرالية في عهد ألكسندر الثاني (1855 ـ 1881)، قد أتاحت فرصة الحراك الاجتماعي والاقتصادي لأعضاء الجماعة اليهودية. ومن ثم، نشأت طبقة من التجار والأثرياء اليهود المتعاونين مع الحكومة في عملية التحديث والداعين للدمج والترويس بين الجماهير اليهودية. وأعرب ليون روزنتال، أحد مؤسسي الجمعية، عن أن الدافع وراء تأسيس الجمعية هو الاتهامات التي كانت توجَّه للجماعة اليهودية والقائلة بأن الانعزال الديني والثقافي والاجتماعي لليهود وطفيليتهم الاقتصادية هما السبب الرئيسي وراء عدم إعتاقهم وعدم منحهم حقوقهم المدنية. وكان القطاع الأكبر من الجماهير اليهودية رافضاً لعملية التحديث نظراً لما تسببت فيه من ضياع وظائفهم التقليدية وتدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، كما كان هذا القطاع من الجماهير رافضاً مسألة الدمج والترويس. ولكن هذا التحول كان ضرورياً في نظر أثرياء اليهود المتروِّسين حرصاً على مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الطبقية، خصوصاً أن عملية التحديث والتحوُّل الاقتصادي صاحبتها ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية بالنسبة للجماهير الروسية بشكل عام، وهو ما كان يهدد بوضع أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من الأقليات الدينية أو الإثنية أو العرْقية في موضع هجوم واتهام في حالة تأزُّم الأوضاع الاجتماعية وأثناء زيادة حدَّة الإفقار، وهو ما حدث بالفعل بعد تعثُّر عملية التحديث عام 1882.

وقد واجه تأسيس الجمعية، في البداية، عدة اعتراضات من أكثر من جهة، فاليهود الأرثوذكس رفضوا المشروع خوفاً من آثاره السلبية على العقيدة اليهودية. أما دعاة التنوير، فطالبوا باتخاذ إجراءات أسرع وأكثر راديكالية. وأما الحكومة الروسية، فكانت تخشى من تحوُّل هذه الجمعية إلى مؤسسة ذات قاعدة شعبية عريضة، ولذلك رفضت فتح أية فروع لها في أنحاء البلاد، وبخاصة داخل منطقة الاستيطان، الأمر الذي أدَّى إلى تقليص تأثيرها في الجماهير فيما بعد.

وبعد مفاوضات طويلة، تقرَّر تحديد هدف الجمعية وتم النص على أنه تنمية الثقافة بين يهود روسيا ودعم المؤلفين والعلماء والطلبة اليهود،أما السبيل إلى ذلك فيتحدَّد في تعليم اللغة الروسية للجماهير اليهودية وإصدار الكتب والترجمات والدوريات باللغتين الروسية والعبرية.كما تقرَّر أن تعمل الجمعية تحت إشراف وزارة التعليم،وأن تقبل أعضاء من جميع الأديان والأجناس والطبقات والمراكز.

وكان أول من ساهم في تأسيس وتمويل صندوق الجمعية أثرياء اليهود من رجال المال، خصوصاً ليو روزنتال وعائلة جونزبورج التي انتُخب أحد أعضائها رئيساً لمجلسإدارة لجنة الجمعية. وكانت الجمعية تعتمد على تمويل عدد من أثرياء اليهود وهو ما ترك أثره في طبيعة الجمعية ومشاريعها وتوجهاتها. وقد انضم للجمعية عدد من المثقفين والمفكرين اليهود، مثل: أبراهام لفنسون، وأبراهام مابو، ويهودا جوردون، ومندل موخير سفاريم، وغيرهم، كما جرت محاولات لجذب مفكرين وكُتَّاب وشخصيات عامة ليبرالية غير يهودية.

وبرزت داخل الجمعية، منذ بدايتها، بعض الخلافات حول كيفية مخاطبة الجماهير ونشر الثقافة بينهم واللغة التي يجب نشرها. فكان هناك اتجاه يمثله ليو روزنتال يرى ضرورة بناء الجديد دون هَدْم القديم ودون المساس بالقيم والتقاليد التي تحترمها الجماهير اليهودية، وبالتالي فإن على الجمعية توفير تعليم محايد لا يثير شكوك الجماهير أو مخاوفها أو يصدم معتقداتها بل يوفر لها قدراً من المعرفة بالعلوم والجغرافيا والتاريخ. كما فضَّل هذا الاتجاه استخدام اللغة العبرية في نشر الثقافة بين الشباب اليهودي والاهتمام بإصدار الكتب والدوريات العبرية. كما رفض هذا الاتجاه استخدام اليديشية، مع العلم بأن الغالبية السـاحقة من الجمـاهير اليهـودية في روسـيا لم تكن تعرف العبرية، فقد كانت لغة ميتة تقتصر معرفتها على الأرستقراطية الدينية من كبار الحاخامات وخريجي المدارس التلمودية العليا (يشيفا). ولم يكن الاتجاه نحو بعث العبرية اتجاهاً شعبياً أو تقليدياً وإنما كان اتجاهاً صهيونياً يرفض وضع أعضاء الجماعات اليهودية في أنحاء العالم ويرمي إلى بعث قومي ومن ثم إلى الاهتمام بالعبرية. ومن ناحية أخرى، كان هناك اتجاه آخر داخل الجمعية يمثله د. شولسون وأ. هاركابي يدعو إلى ضرورة نشر اللغة الروسية بين أعضاء الجماعات اليهودية والمساهمة في تطوير وبلورة أدب روسي يهودي والعمل على هدم الحواجز التي تفصل بين اليهود وسائر أفراد الشعب الروسي والتصدي لجميع الاتهامات الكاذبة الموجهة لليهود أو اليهودية. كما كان هناك اتجاه أكثر تطرفاً بالنسبة لمسألة الترويس داخل الجمعية، وبخاصة في فرعها في أوديسا (تأسس عام 1867)، ويمثله رابينوفيتش وليو بنسكر، وكان هذا الاتجاه يطالب بترويس يهود روسيا بشكل كامل وسريع. وبالإضافة إلى كل هذا، كانت هناك مجموعة صغيرة يمثلها الحاخام شواباخر، وهو حاخام أوديسا، تطالب بتخصيص قسم داخل الجمعية لتعليم اللغة الألمانية للشباب حتى يكون في استطاعتهم الاطلاع على الأعمال اليهودية المهمة التي كُتبت بهذه اللغة إلى جانب أن اللغة الألمانية كانت تعني فتح مجال التعرف على الثقافة الأوربية بشكل عام. واستقر رأي الجمعية في نهاية الأمر (عام 1864) على أن يكون نشر اللغة الروسية هو الهدف الأساسي وراء جميع أنشطتها حيث إن ذلك هو السبيل الوحيد لمشاركة الجماهير اليهودية في الحياة الروسية.

وعندما أصبح يهودا ليب جوردون سكرتيراً للجمعية عام 1872، أدخل بعض التعديلات على الجانب التنفيذي وقام بنشر هذه التعديلات في الصحافة العبرية حيث تضمنت الدعوة إلى ضرورة العمل على تطوير التعليم المهني والفني والمؤسسات الخاصة بها. وأعلنت الجمعية عن استعدادها لمساعدة الحرفيين اليهود على الاستيطان في جميعأنحاء الإمبراطورية الروسية، وطالبت الجمعية بإدخال تعديلات وتغييرات في الأطر الإدارية للجماعات اليهودية، والتأكيد على مبدأ دعاة التنوير الخاص بأن انعتاق اليهود سيتحقق فقط بعد أن يحقق اليهود تقدماً وتحسناً في المجال الروحي والأخلاقي.

وتركزت أنشطة الجمعية في مجالات النشر والتعليم. ففي مجال النشر، اهتمت الجمعية بتوفير المراجع التي تساعد على تعليم اللغة الروسية، كما قامت بترجمة ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» إلى الروسية حتى يتعرف إليه القارئ الروسي، وخصصت منحاً للكُتَّاب اليهود لتشجيعهم على الكتابة بالروسية. وتم التخطيط لإصدار نشرة فكريةوأدبية سنوية تضم أعمالهم، غير أنها لم تُصدر سوى نشرة واحدة نتيجة عدد من الصعوبات من بينها عدم وجود عدد كاف من الكتابات والمواهب الأدبية، بالإضافة إلى القيود الرقابية والمخاوف الداخلية من توجيه أية انتقادات للعقيدة اليهودية. كما قامت الجمعية بدعم عدد من الجرائد الأسبوعية وبتمويل إصدار ملحق باللغة الروسية لجريدةهاكارميل الأسبوعية. وكان من أهم إنجازات الجمعية القيام بتجميع آراء الحاخامات الواردة في التلمود وإصدارها باللغة العبرية عام 1871 ثم بالروسية عامي 1874 و1876. وكان الغرض من هذا العمل توفير مرجع للحاخامات لتحضير خطبهم بلغة البلاد، بالإضافة إلى تعريف الجمهور غير اليهودي بالقواعد والمبادئ الأساسية في التلمود. كما قامت الجمعية بترجمة العهد القديم إلى الروسية، وذلك أملاً في تحقيق النتائج الإيجابية التي حققتها هذه الخطوة في ألمانيا لحركة الاستنارة اليهودية.

وفي عام 1873، قامت الجمعية بإصدار ترجمة جديدة للتوراة، كما خصَّصت أموالاً كثيرة لترجمة كتب الصلوات اليهودية (سدور) وكتب صلوات الأعياد (محزور)، وكذلك لتأليف عدد من الكتب المدرسية بالروسية ولدعم المفكرين اليهود لإجراء بحوث حول ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، كما خصَّصت الجمعية منحاً لمؤلفي الكتب باللغة العبرية في الرياضيات والفيزياء والطبيعة والكيمياء والجيولوجيا. وقامت الجمعية أيضاً بدعم الدوريات العبرية، وهي دوريات كانت مهتمة بشكل خاص بالعلوم الطبيعية وبالتاريخ والسير الذاتية اليهودية. وإلى جانب ذلك، ساهمت الجمعية في إصدار كتابين في الجغرافيا والتاريخ الروسي.

وكانت الجمعية،سواء بجناحها المؤيد للغة الروسية أو جناحها المؤيـد للغة العبرية،معـارضة للغة اليديشية باعتبار أنها تمثل مرحلة بائدة. ورغم ذلك، أظهرت الجمعية استعدادها لدعم مجلة أسبوعية يديشية باعتبار أن ذلك سيساعد على توصيل المعرفة والمعلومات إلى قطاع أوسع من الجماهير اليهودية. كما خصصت بعض الموارد المالية لإصدار كتب باليديشية حول التاريخ اليهودي والروسي، ولكنها تراجعت عن ذلك عقب الانتقادات التي وُجِّهت لهذه الخطوة في كلٍّ من الصحافة الروسية والصحافة الروسية ـ اليهودية.

أما بالنسبة للأنشطة التعليمية، فقد خصصت الجمعية جزءاً كبيراً من ميزانيتها لدعم ومساعدة الطلبة اليهود في مؤسسات التعليم العالي الروسية، وبخاصة في سانت بطرسبرج، حيث اعتبرهم دعاة التنوير أفضل المرشحين لقيادة الجماعة اليهودية. كما ساعدت الجمعية الطلبة على الدراسة في الجامعات والمعاهد الأجنبية، ولكن الحكومة الروسية منعت ذلك عام 1879 باعتبار أنه مخالف للوائح الجمعية. وفي أعقاب الإصلاحات التي طُبِّقت على شبكة المدارس اليهودية الحكومية والتي أدَّت إلى إغلاق كثير من هذه المدارس، قرَّرت الجمعية إقامة صندوق خاص لسد احتياجات المدارس الثانوية والابتدائية. كما اقترحت إدخال تعليم اللغة الروسية كمادة إجبارية في هذه المدارس، وإقامة قسم خاص للمواد العبرية، ودعم فصول الحرف الملحقة بالمدارس، والمساعدة في تأسيس معاهد للمعلمين داخل منطقة الاستيطان، والسماح بإلحاق عدد من الطلبة بهذه المدارس على نفقة الجمعية. كما شاركت الجمعية في تأسيس المكتبات العامة.

وزاد حجم العضوية في الجمعية من 175 عام 1864 إلى 287 عام 1873 ثم إلى 740 عام 1888. وكان المصدر الأساسي لتمويل الجمعية، وبخاصة في السنوات العشر الأولى، عائلتا جونزبورج وليو روزنتال. وخلال سنوات وجودها الـ 25 أنفقت 286 ألف روبل على الطلبة اليهود في المدارس العامة والتعليم العالي.

وشهدت التسعينيات من القرن التاسع عشر بعض التجديدات في الجمعية حيث انضم إليها عدد من الشباب المتعلم والمثقف الذي جاء بأفكار ومشاريع جديدة. فقامت الجمعيةعام 1891 بتأسيس لجنة تاريخية للبحث في تاريخ الجماعة اليهودية في روسيا. وتحوَّلت هذه اللجنة عام 1908 إلى الجمعية التاريخية والإثنوغرافية اليهودية. وفي عام 1894، تأسست لجنة للتعليم الشعبي اهتمت بالمدارس اليهودية، خصوصاً تلك التي تضم مناهج عبرية. كما اهتمت بتدريب معلمي العبرية، فانعقد مؤتمر للمعلمين عام 1903 في روسيا البيضاء. وتم افتتاح فروع جديدة للجمعية في موسكو (1894) وريجا (1898) وكييف (1908). وفي عام 1900، وصل حجم العضوية إلى 3010 عضو. وفي عام 1906، تم تعديل قوانين الجمعية بحيث أصبح من حقها افتتاح المدارس والمكتبات وتنظيم المحاضرات والحلقات الدراسية لتدريب المعلمين، كما تقرَّر فتح فروع لها في المناطق التي تزيد العضوية فيها على 25 عضواً. وفي عام 1912، وصل عدد الفروع 30 فرعاً في كل أنحاء روسيا تضم 7000 عضو. كما كان للجمعية عام 1910 عشرة مدارس، إلى جانب 98 مدرسة تشرف عليها بشكل جزئي. وفي العام نفسه، بدأت الجمعية في إصدار جريدتها الخاصة التي تتناول قضايا التعليم والثقافة والمكتبات. وفي عام 1912، تأسست لجنة لدراسة كيفية إصلاح وتطوير المدارس اليهودية التقليدية مثل المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر).

ونظراً لأن الجمعية كانت المؤسسة اليهودية الوحيدة المسموح لها بمزاولة الأنشطة التعليمية والثقافية، فقد انضم إليها في أوائل القرن العشرين عدد من الزعماء الصهاينة والمنادين بالقومية اليهودية مثل آحاد هعام وبياليك. وبعد فشل ثورة 1905، انضمت إلى هذه الجمعية عناصر من الأحزاب الاشتراكية اليهودية، ونتج عن ذلك وجود ثلاثة تيارات متصارعة داخل الجمعية: التيار المطالب بالاندماج والارتباط الوثيق بالثقافة الروسية، والتيار الصهيوني العبري، ثم التيار اليديشي الممثَّل في عناصر حزب البوند. وافتتحت الجمعية خلال الحرب العالمية الأولى 215 مدرسة تضم 130 ألفاً من الأطفال اليهود واللاجئين، وبعد ثورة فبراير الروسية اتَّجه الصهاينة لتأسيس اتحادهم التعليمي والثقافي الخاص تحت اسم «تاربوت»، كما أقام مؤيدو اليديشية جمعية خاصة بهم. وبعد الثورة البلشفية، تمت تصفية جميع أفرع الجمعية في الأقاليم وإغلاق مدارسها وإنهاء أنشطتها التعليمية. وظل المركز الرئيسي في بتروجراد يعمل، ثم تم حل الجمعية بشكل نهائي عام 1930 وألحقت مكتبتها التي ضمت 50 ألف كتاب و1000 مخطوطة إلى معهد الثقافة اليهودية البروليتارية في كييف.

صالونات النسـاء الألمانيات اليهوديات

Salons of German Jewish Women

«صالونات النساء اليهوديات» صالونات فكرية أقامتها بعض بنات أثرياء اليهود في فيينا وبرلين في بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً يلتقي فيه أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في أوربا مع بعضهم البعض، ومع البارزين من أعضاء الجماعة اليهودية. وظاهرة الصالونات ظاهرة مرتبطة تماماً بحركة التنوير اليهودية ثم بداية انفتاح الجماعة اليهودية على عالم غير اليهود وبداية علمنة أعضائها ودمجهم بل صهرهم وأحياناً تنصيرهم.

ولعل قيام النساء بهذا الدور القيادي في عملية التقارب بين الجماعة اليهودية وعالم غير اليهود يعود إلى مُركَّب من الأسباب الثقافية والاقتصادية. وأهم الأسباب بطبيعة الحال هو أن المجتمع الغربي بأسره كان قد بدأ يتحول من مجتمع تقليدي مبني على الفصل بين الطبقات والجماعات إلى مجتمع حديث تديره دولة قومية علمانية مركزية. ولم يكن هناك مفر من القضاء على كل الجيوب الإثنية والدينية والجماعات الوظيفية بحيث يتم دمجها في بنية المجتمع ككل. والجماعة اليهودية كانت إحدى هذه الجماعات، كما أن الصالونات كانت آلية من آليات الدمج إذ أن احتكاك أعضاء القيادة اليهودية بالثقافة غير اليهودية كان يسهم ولا شك في زيادة اقترابهم منها واستيعابهم لها ومن ثم وصولها إلى كل أعضاء الجماعة، ذلك أنه، مع تحوُّل النخبة، يَسهُل تحوُّل الجماهير. وقبل أعضاء الأرستقراطية الألمانية، رغم ما عرف عنهم من عنصرية، ارتياد هذه الصالونات لأنها كانت تتسم بقدر كبير من الحرية والانفتاح، ومن ثم كانت مجالاً لتبادل الأفكار غير متاح في المجتمع. ولابد أن نتذكر أن الفكر العقلاني وجد طريقه إلى أعضاء الأرستقراطية الغربية وعبَّر عن نفسه في ظاهرة الحكومات المطلقة المستنيرة التي كانت تبغي إصلاح المجتمع من أعلى، ومن خلال تشريعات حكومية. كما أن انتشار الرؤية النفعية والمركنتالية في المجتمع، جعل بالإمكان تقبُّل اليهودي أو أي شخص آخر ما دام أثبت نفعه.

أما من الناحية الاقتصادية المباشرة، فيعود ظهور الصالونات إلى حرب الأعوام السبعة (1756 ـ 1763)، إذ أعطى فريدريك الأكبر مجموعة من العقود للمتعهدين العسكريين اليهود، الذين أثبتوا كفاءتهم في سد حاجاته من السلع والمواد المختلفة ونفعهم لبروسيا. وتمكَّن هؤلاء المتعهدون من مراكمة الثروات إبَّان هذه الحرب، وكثير من المزايا التي منحها إياهم الإمبراطور مكافأة لهم على الخدمات التي أدوها لوطنهم بروسيا. وقد اضطر كثير من أعضاء الأرستقراطية الألمانية إلى اقتراض المال من المموِّلين اليهود في هذه الفترة. ولكل هذا، ازداد اختلاط أعضاء الأرستقراطية الألمانية بأثرياء اليهود.

وفي إطار هذا، يمكن القول بأن الصالونات كانت تمثل مرحلة انتقالية في تاريخ الجماعات اليهودية، فهي مرحلة كانت الجماعات اليهودية لا تزال تلعب فيها دور الجماعة الوظيفية، ولكن قوة الدولة المركزية كانت آخذة في التزايد، ومن ثم بدأت عملية الاستغناء عن الجماعات الوظيفية. كما أن الجماعة الوظيفية اليهودية ذاتها كانت قد بدأت تراكم الثروات وهو ما جعلها مستعدة لارتياد قطاعات اقتصادية جديدة داخل الاقتصاد الوطني وفي صلبه. وعلى المستوى الثقافي، نجد الوضع نفسه، فأعضاء النخبة في الجماعة اليهودية كانوا لا يزالون (يهوداً) يتَّسمون بشيء من الخصوصية التي يتمتع بها أعضاء الجماعات الوظيفية. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه قد بدأوا يتحركون في عالم الألمان، ويتشربون شيئاً من ثقافتهم، ويتطلعون إلى فقدان ما تبقى لديهم من خصوصية، ويندمجون تماماً في عالم ثقافة الأغلبية.

ويظل سؤال أخير: لماذا النساء اليهوديات دون الرجال؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى مفارقة غريبة وهي أن التراث الديني اليهودي كان يحرم على المرأة المشاركة في الحياة العامة (الدينية) والدراسة الدينية، وكان هذا يعني أن كثيراً من الفتيات اليهوديات من أبناء الأسر الثرية بدأن يتلقين تعليماً غربياً علمانياً، فأصبحن أكثر إلماماً بالعلوم والثقافة الغربية وأكثر كفاءة في التعامل مع العالم الغربي وأكثر تملكاً لناصية خطابه الحضاري. ولذا، كان بمقدورهم أن يلعبن دور الوسيط بين أعضاء الجماعة اليهودية والنخبة الألمانية. كما أن ثراء أسرهن حررهن من الدور التقليدي للمرأة، فأصبح لديهن الوقت والثقافة والثراء الكافي لمثل هذه الصالونات.

وبدأ مندلسون تقليد الصالونات هذا حين خصص ليلة يلتقي فيها المثقفون اليهود مع غير اليهود ليتبادلوا الأفكار. وكان أول صالون تفتحه مثقفة يهودية هو صالون هنريتا هرتز (1764 ـ 1847) وهي زوجة ماركوس هرتز أحد تلاميذ مندلسون، الذي كان يكبرها سناً، فتولى إكمال عملية تعليمها. وكانت تجيد عشر لغات من بينها العبرية، وكان صالونها ملتقى لمعظم المفكرين والأدباء مثل جوته وميرابو وأعضاء الأرستقراطية الألمانية. وتزوجت هنريتا هرتز من أحد رواد الصالون بعد موت زوجها، وتنصَّرت. ومن أهم الصالونات الأخرى صالون دوروثيا فايت (1763 ـ 1879) وهي ابنة مندلسون التي تزوجت مصرفياً يهودياً، ولكنها طلقت زوجها وتزوجت من الكاتب الألماني فريدريك فون شليجيل واعتنقت المسيحية البروتستانتية، ثم تكثلكا معاً. وكان صالون راحيل ليفين فارنهاجن (1771 ـ 1833) أهم الصالونات جميعاً، وكان ملتقى النخبة. وبعد زيجتين فاشلتين، التقت بضابط يهودي يصغرها سناً بأربعة عشر عاماً فتزوجا. وحينما استقرت في فيينا، فتحـت صالونها هـناك، فكان مندوبو بروسيا لمؤتمر فيينا يلتـقون فيه. وكانت الصالونات نقطة تجمُّع للحركة الرومانتيكية ولحركة ألمانيا الفتاة.

وكانت ظاهرة صالون النساء اليهوديات ظاهرة مؤقتة، فمع نمو عدد أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في المجتمع، ومع تنوُّع حاجاتها الفكرية، بدأت تظهر مؤسسات متخصصة للوفاء بهذه الحاجات، مثل الجماعات المهنية والنادي الثقافي والمجلات والصحف. كما أن تزايُد النزعة القومية الألمانية، وما صاحبها من معاداة اليهود، ساهم في تشجيع أعضاء النخبة على الانصراف عن هذه الصالونات. ولعل تنصُّر كثير من القائمات على مثل هذه الصالونات ساهم أيضاً في القضاء عليها إذ أن ذلك يعني أنها عجزت عن مد أية جسور بين الجماعة اليهـودية وحضـارة الأغيار. وأخـيراً، مع تزايد معـدلات الاندماج والعلمنة، بدأت أعداد أكبر من الرجال تمتلك ناصية الخطاب الحضاري الغربي وتتحرك بكفاءة أكبر في المجتمع وتعقد صلات مع المجتمع المضيف دون حاجة إلى صالونات النساء اليهوديات.

دوروثيــا شــليجـل (1764 – 1839(

Dorothea Schlegel

كبرى بنات موسى مندلسون، تزوجت في سن العشرين من المصرفي الألماني سيمون فيت (من أسرة فيت الشهيرة في عالم المصارف) وأنجبت منه أربعة أولاد، وكان ينعقد في منزلها واحد من أشهر الصالونات الأدبية. وقد صوَّرها الفيلسوف والكاتب الرومانسي الألماني فريدريش فون شليجل (1772 - 1829 ) في روايته التي لم يكملها لونسيد على أنها المثل الأعلى للمرأة. وتقبلت دوروثيا مبدأه الخاص بالحب الحر (أي ممارسة الجنس بلا أية حدود أو قيود أخلاقية) وذهبت وعاشت معه وكتبت رواية رومانسية تحت تأثيره (وتحت تأثير جوته) تُسمَّى فلورنتين كما ترجمت رواية مدام دي ستايل كورنين. وفي عام 1802، تنصَّرت على المذهب البروتستانتي، وبعد ستة أعوام تكثلكلت مع شليجل، وعندها تزوجا زواجاً شرعياً واستقرا في فيينا حيث أصبح منزلهما مركزاً اجتماعياً وثقافياً. وقد أقنعت ابنيها فيليب وجوناس بأن يتكثلكا، وعاشت بقية حياتها مع ابنها فيليب في فرانكفورت.

وحياة دوروثيا شليجل حياة مثيرة، ولكنها مع هذا تنتمي إلى نمط آخذ في الشيوع وهو نمط اليهودي غير اليهودي.وإذا كان الجيل الأول هو موسى مندلسون الذي بدأ يترك عالم اليهودية الحاخامية وراءه، فإن ابنته بدأت تُسرع الخطى نحو عالم أوربا للحصول على تأشيرة دخول فتنصَّرت،ومع الجيل الثالث يصبح التنصُّر حدثاً عادياً. ولذا تنصَّر كل أولاد مندلسون وتيودور هرتزل.كما أن صالونها الأدبي تعبير عن الظاهرة نفسها،أي رغبة كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في أن يتركوا عالمهم اليهودي لينضموا لعالم الأغيار، فكان الصالون هو الأرضية التي يلتقون فيها بأقرانهم من الأغيار.

راحـيل فارنهاجـن (1771-1833(

Rahel Varnhagen

سيدة صالون ألمانية وُلدت لعائلة يهودية ثرية في برلين، واسمها الأصلي راحيل ليفاين. نشأت راحيل في بيئة يهودية أرثوذكسية، ولكنها كانت تخجل من أصلها اليهوديالذي اعتبرته «كالخنجر الذي غُرس في قلبها » وسعت للهروب منه. وقد تنصَّر أخوها بعد وفاة والدهما، ولم تمانع راحيل، هي الأخرى، فكرة التنصُّر، ولكنها لم تقدم على ذلك بسبب اعتمادها مالياً على والدتها. وأتاحت لها خطبتها لنبيل بروسي الدخول في دائرة الأرستقراطية الألمانية. وبرغم أن هذه الخطبة فُسخت بعد أربع سنوات بسبب رفض عائلة النبيل الألماني زواجه من يهودية، إلا أن بيتها كان قد تحوَّل إلى ملتقى للأدباء والمفكرين والسياسيين وغيرهم من الشخصيات اللامعة آنذاك يمثلون مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والأدبية والسياسية. وكان من بين راود صالونها الأديب الألماني الكبير جوته.

وفي عام 1801 خُطبت راحيل للمرة الثانية لسكرتير المفوضية الإسبانية لدى بروسيا وفُسخت الخطبة مرة أخرى عام 1804. وفي عام 1810، اتخذت راحيل اسم روبرتس بدلاً من اسم ليفاين وهو نفسه الاسم الذي اتخذه أخوها بعد أن تنصَّر. وفي عام 1814، تزوجت من دبلوماسي بروسي يصغرها بأربعة عشر عاماً اسمه كارل أوجست فارنهاجن، واعتنقت المسيحية البروتستانتية. وبعد زواجها، تحوَّل بيتها مرة ثانية إلى ملتقى للشخصيات الفكرية والسياسية، وغلب على صالونها هذه المرة الطابع السياسي حيث ضم كثيراً من المتعاطفين مع حركة ألمانيا الفتاة أمثال هنريش هايني. واكتسبت راحيل بفضل شخصيتها وذكائها إعجاب الكثيرين من رواد صالونها، وتمتعت بنفوذ واسع، وتعتبر راحيل إحدى ألمع السيدات اليهوديات الأوربيات في عصرها. وظلت راحيل طوال حياتها رافضة ليهوديتها، واعتبرتها نوعاً من البلاء ابتليت به وأحد أسباب تعاستها. ومع هذا، يُقال إنها اتجهت في أواخر أيامها لقبول أصلها اليهودي، ويبدو أن هذا التحول بدأ عقب اندلاع مظاهرات معادية لليهود في ألمانيا أثار تعاطفها مع اليهود.

علْــــــم اليهوديـــــــــة

Wissenchaft des Judentums (Science of Judaism)

«علْم اليهودية» علم أسسه في القرن التاسع عشر المفكرون الألمان اليهود ذوو التوجه العلماني والاهتمام التاريخي، بهدف دراسة اليهودية واليهود دراسةً تاريخية وعلمية لاكتشاف الخصوصية اليهودية. وكلمة «علم» ترجمة للكلمة الألمانية «فيزنشافت» وهي تشير إلى الدراسة المنهجية في العلوم الإنسانية والتاريخ والتي تتبنَّى طريقة علمية تعتمد كل وسائل البحث الدقيق وتنطوي على احترام الحقائق والخصوصية التاريخية. ويُلاحَظ أن ثمة تناقضاً كامناً في الأهداف، فهي من ناحية موضوعية متطرفة فيما يتعلق بناحية البحث العلمي، ولكنها ذاتية ذات قصد محدَّد فيما يتعلق بالبحث عن الخصوصية التاريخية. ويعود هذا التناقض الأساسي إلى ذلك التناقض الكامن في فكر حركة الاستنارة آنذاك. فهي حركة عقلانية تؤكد أهمية الموقف العلمي والموضوعي والتجريدي والحقائق العامة والعالمية. ولكن هناك أيضاً جانباً آخر وهو الجانب التجريبي الحسي الذي يؤكد أهمية التجربة المباشرة والخصوصية. ودعَّم ذلك ظهور الحركة الرومانسية التي تهتم بالعاطفة والماضي واللون المحلي والخصوصيةوالتطور. وتأثر أعضاء النخبة المثقفة اليهودية بحضارتهم الغربية، فمندلسون مثلاً يرى أن اليهودية دين عام عقلاني ولكن شعائرها خاصة مقصورة على اليهود. ونتيجةًللتطور التاريخي، يُلاحَظ تناقص رقعة العام واتساع مساحة الخصوصية حتى تصبح هي الرقعة الأساسية بين أعضاء الجيل الثاني من دعاة التنوير اليهودي الذين دعوا منالناحية النظرية إلى دراسة اليهودية لاكتشاف الماضي وليس رفضه أو تقديسه.

وأحد الافتراضات الأساسية الكامنة وراء علْم اليهودية أن المؤسسات والأفكار اليهودية تطوَّرت بحسب قوانين تطوُّر المجتمعات التي وُجدت فيها، وأن هذه المؤسسات لم تكن أحسن أو أسوأ حالاً من أية مؤسسات اجتماعية أو ثقافية غير يهودية أخرى. ولكن هناك افتراضاً آخر يتناقض تماماً مع الأول وهو أن ثمة خصوصية يهودية تُعبِّر عننفسها من خلال هذه المؤسسات.

وينعكس هذا التناقض في أهداف علْم اليهودية على النحو التالي:

1 ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف جوهرها الحقيقي، وبالتالي يمكن التخلص من التراكمات الخرافية التلمودية التي علقت بها. ومن ثم يمكن القول بأن علم اليهودية هو جزء من حركة الإصلاح الديني اليهودي. وقد حاول هذا العلم أن يبين دنيوية وتاريخية التراث الديني اليهودي، أي أنه نتاج ظروف تاريخية محددة، وبالتالي نزع عنه أية قداسة أو مطلقية وهو ما فتح الطريق أمام إمكانية التحرر منه ورفضه واكتشاف سوابق تاريخية داخله تبرر الإصلاح. فعلى سبيل المثال، تمكَّن ليوبولد زونز، من خلال الدراسة العلمية التاريخية، أن يبيِّن أن لغة الصلوات اليهودية لم تكن دائماً العبرية، ومن ثم لا يوجد أي مبرر للسلطات الألمانية لأن تغلق معبداً يهودياً كانت تُقام فيه الصلوات بالألمانية على أساس أن هذا مناف للتراث اليهودي كما ادعى اليهود الأرثوذكس، أي أن اليهودي أصبح بوسعه التحرر من قبضة تراثه الذي كان يكرس عزلته المقدَّسة وأن يندمج في مجتمعه. كما أن تدهور وتخلُّف المؤسسات اليهودية، وهي جزء من تشكيلات حضارية أكبر، لا يمكن أن يُستخدَم مسوغاً للتمييز ضد اليهود باعتبار أن هذا التخلف جزء من كل أكبر غير يهودي. وإذا كان التخلف نتيجةً لاعتبارات تاريخية وبيئية، فإن من الممكن تجاوزه من خلال عملية الإصلاح.

2 ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف خصوصيتها وقوانينها العضوية. وسيؤدي اكتشاف الخصوصية إلى إظهار الشخصية اليهودية المستقلة وإنجازاتهاالحضارية، الأمر الذي سيعيد لليهود هويتهم واحترامهم أمام الشعوب الأوربية. كما أن اكتشاف هذه الخصوصية سيقوي وعي اليهود بأنفسهم وتراثهم وهويتهم المستقلة ووعيهم بذاتهم القومية.

فكأن الهدف الثاني مناقض تماماً للهدف الأول. وقد اكتسب الهدف الثاني إلحاحاً غير عادي نظراً لتزايد انصراف الشباب من اليهود عن اليهودية بعد حركة الإعتاق والدمج ونظراً لبعدهم عن تراثهم الديني بل احتقارهم اليهودية (وهذا أمر لم يكن مقصوراً على الشباب من اليهود فالموقف نفسه كان شائعاً بين كل شباب أوربا مع تزايد معدلات العلمـنة). وأدَّى كل ذلك إلى تراجُـع اليهـودية وإلى انصـهار اليهود، ومن ثم أصبح اكتشاف التراث ضرورة ملحة لوقف هذا التراجع وهذا الانصهار، أي أن هذه العملية كانت، من هذا المنظور، تصدياً لحركة الإصلاح الديني ولليهودية الإصلاحية. وبالتدريج، أصبح الهدف الأساسي من الاكتشاف ليس الدراسة وإنما تقديس التراث. وبالتالي، نجد أن علم اليهودية مرتبط باليهودية المحافظة. ومع هذا، كان لمفكري اليهودية الإصلاحية بعض الإسهامات في هذا الحقل (والفكر الديني الإصلاحي اليهودي تعبير عن الجانب العقلي العقلاني في فكر حركة الاستنارة). ولم يكن من الممكن أن تنشأ حركة علم اليهودية من داخل المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، حيث إن خريجي هذه المعـاهد الدينية لـم يكونوا مُعَـدِّين الإعـداد الثقـافي اللازم لكتـابة دراسـات تاريخيــة أو اجتماعية في التراث الديني. ومن هنا نجد أن كل المشتغلين في حقـل علـم اليهـودية من خريجـي المـدارس التي أسستها الحكومات الغربية التي كانت مقرراتها غير دينية أو مُختلَطة (أي دينية دنيوية).

وقد قام ليوبولد زونز، وصديقه إدوارد جانز (1798 ـ 1839)، وهو قانوني من أتباع هيجل، وموسى موزر (1796 ـ 1838)، وهو تاجر مثقف، وآخرون، بتأسيس رابطة الثقافة اليهودية وعلم اليهودية. وكان من أعضاء هذه الجماعة الشاعر هايني. وكانت الجماعة تهدف إلى اكتشاف الثقافة اليهودية، ونشرها بين الشباب، وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية والإنتاجية. وقد حُلَّت الرابطة عام 1824 بعد أن تنصَّر رئيسها جانز وتبعه هايني. ولكنها، مع هذا، كانت قد أسست هذا النوع من الدراسة وجمعت تحت مظلتها كثيراً من الدارسين، مثل: المؤرخ كروكمال والمؤرخ جرايتز وجايجر وفرانكل وصموئيل ولوتساتو وستاينشنايدر وغيرهم. كما أصدرت حولية نشرت عشرات الدراسات المهمة. وتفرَّع علم اليهودية إلى كثير من المجالات والموضوعات، مثل: نقد العهد القديم ودراسة التلمود والأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود والتاريخ والآثار والفلسفة الدينية. وكان يُشار إلى علم اليهودية في بعض بلدان أوربا بعبارة «الدراسات اليهودية»، أو بالكلمة اللاتينية «جودايكا».

وكان التركيز الأساسي على تاريخ الأفكار والأدب، حتى أصبح ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» تاريخ أفكار أساساً، في حين احتل التاريخ الاقتصادي والاجتماعي مكاناً ثانوياً تحت تأثير الفلسفة الألمانية المثالية، كما أن الدراسات اليهودية كانت تحتوي على قدر كبير من الاعتذاريات.وأدَّت هذه الدراسات إلى تراكُم قدر كبير من المعلومات والحقائق عن التجارب التاريخية للجماعات اليهودية، وبالتالي ساهمت في الترويج لمفهوم وجود هوية يهودية تاريخية إثنية مستقلة.

واستمرت الدراسات العلمية لليهودية وأُسِّست كراسٍيّ في الجامعات وأنشئت معاهد مستقلة لهذا الغرض. ولم يعد يُستخدَم مصطلح «علم اليهودية» في الوقت الحاضر،ويُستخدَم بدلاً منه مصطلح «الدراسات اليهودية».

صمـوئيل لوتسـاتو (1800-1865)

Samuel Luzzatto

ويُعرَف أيضاً باسم «شادال» المكوَّن من الحروف الأولى لاسمه، فصموئيل هو شموئيل بالعبرية، وهو مفكر إيطالي يهودي وُلد في تريسته لأسرة سفاردية إيطالية. وهو من نسل موشيه حاييم لوتساتو الشاعر القبَّالي الإيطالي مؤسس الآداب المكتوبة بالعبرية في العصر الحديث. كان أبوه عاملاً عارفاً بالقبَّالاه، حيث تلقَّى تعليماً دينياً، كما درس هو في إحدى المدارس التي أسسها نفتالي فيسيلي بناء على براءة التسامح التي أصدرها جوزيف الثاني. وكانت ثمة مقررات مُختلَطة، دينية ودنيوية، تدرس في هذه المدارس. تعلم في المدرسة اللغات الحديثة والجغرافيا والعلوم الطبيعية، وعُيِّن أستاذاً في أول كلية حاخامية حديثة في العالم في بادوا، وظل في هذا المنصب طيلة حياته. ووفر له منصبه إمكانية التفرغ للبحث العلمي، فنشر ديوان يهوذا اللاوي عام 1864، كما كتب أول تعليق نقدي على الكتاب المقدَّس وترجم أسفار موسى الخمسة والصلوات العبرية إلى الإيطالية، وكتب العديد من الكتيبات بالإيطالية والعبرية عن النحو والفلسفة والدراسات اللاهوتية، ونُشرت رسائله بعد موته في تسعة أجزاء.

تأثر لوتساتو بكل من الاتجاهات الرومانسية في عصره وبقيم العقلانية النقدية. وينعكس هذا في أعماله التي تتأرجح بين قبول كل من العقل والوحي وبين النقد والنقل، فقد هاجم القبَّالاه وتقاليدها. ويُعدُّ لوتساتو أحد كبار المساهمين في علم اليهودية النقدي، كما تناول كتب العهد القديم تناولاً نقدياً، فأكد أن سفر الجامعة أُلف في تاريخ متأخر عن التاريخ الذي يُفترَض أنه تم تأليفه فيه، بل وعارض رؤيته التشاؤمية العدمية. ولكنه، مع هذا، أصر على أن سفر أشعياء من تأليف مؤلف واحد استخدم أساليب مختلفة، في حين يذهب معظم علماء العهد القديم إلى أن الجزء الذي يلي الإصحاح الأربعين من تأليف أنبياء آخرين. وبرغم موقفه هذا، فإنه لم يتردد في إدخال بعض التعديلات على هذا السفر وعلى أسفار العهد القديم باستثناء أسفار موسى الخمسة التي كان يرى أنها وحدها من وحي إلهي. وبيَّن لوتساتو أن كتاب الزوهار لا يمكن أن يكون قد تم تأليفه في القرن الثاني الميلادي كما كان الزعم. ويتجلى تأرجحه، بين الموقف العقلي والعاطفي والإيماني والعلمي والعقلاني واللاعقلاني، في إصراره على أن العهد القديم لا يخاف النور أو النقد، ومع هذا فقد أصر في الوقت نفسه على ضرورة عدم توجيه النقد إليه.

ومن بعض الوجوه، فإن لوتساتو يشبه مندلسون. فهو يحاول المزج بين العقل والوحي، كما يُعرِّف اليهودية بأنها عقيدة لا تتنافى مع العقل، مع أن شعائرها مُرسَلة من الإله. ويرى لوتساتو أن العقيدة الوحيدة المطلقة في اليهودية هي الإيمان بالإله الواحد، فهي وحدها الملزمة لليهودي، أما ما عداها فيمكن الأخذ والرد بشأنه، كما أن بوسع اليهود أن يختلفوا فيما بينهم بشأن كل القضايا الدينية الأخرى دون أن يُعَدُّوا مهرطقين.وضرب مثلاً بالفيلسوف قريشقش وتلميذه يوسف ألبو اللذين اختلفا مع موسى بن ميمون لأنه لم يميِّز في عقائده الثلاث عشرة بين العقائد الأساسية والعقائد الفرعية.ورفض قريشقش مفهوم حرية الإرادة،وآمن جيرونيدس بقدم العالم،ولم يشك أحد في إيمانهما،ذلك أن جوهر اليهودية العقائدي عقلاني عالمي،فهي ديانة العدالة وحب الخير،وهي ديانة تهدف من هذا المنظور إلى حماية المجتمع الإنساني والإنسانية جمعاء.

ولكن البحث عن الحقائق العامة المطلقة هو مجال الفلسفة. فالإله لا يتواصل مع الإنسان من خلال الحقيقة المجردة المطلقة إذ أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يؤسَّس على مثل هذه الحقيقة. ومن هنا، كان هجوم لوتساتو على ابن ميمون وبن عزرا وإسبينوزا، ومن هنا أيضاً تَبرُز أهمية الدين وحتمية الوحي، فالدين لا يهدف إلى نشر الحقيقة المجردة وإنما إلى نشر الفضيلة وهداية الناس إلى طريق الخير. وهو يؤمن بالمعجزات التي وردت في التوراة، وبأنها حقائق ليست عقلية إذ شاهدها ستمائة ألف يهودي في سيناء. كما يؤمن بمعجزات الأنبياء، فهي أحداث تتجاوز العقل والزمان والمكان والسبب والنتيجة التي تقع في عالم المحسوسات.

وتتضح ازدواجية العقل والوحي في تمييزه بين الروح الهيلينية والروح العبرانية، وهو نمط إدراكي كان يشكل أساساً فكرياً للحضارة الغربية في القرن التاسع عشر (ثم للعنصرية الغربية بعد ذلك). فالروح الهيلينية هي روح الجمال والشكل والعقل والاتزان والعلم، وهي الروح التي أدَّت إلى تَراكُم المعلومات، ولكنها أيضاً أدَّت إلى عقلانية لا معنى لها وعالم متقدم بلا روح. أما الروح العبرانية، كما أسلفنا، فلها جانبها العالمي متمثلاً في دعوتها إلى العدل والحق والخير. ولكن ثمة جانباً آخر لليهودية. ويذهب لوتساتو، شأنه في هذا شأن مندلسون، إلى أن الجانب العقائدي العام في اليهودية ليس مهماً على الإطلاق، فالمهم هو الجانب الشعائري الخاص. بل إنه يذهب إلى أنها دين يُركِّز على الممارسة والشعائر وسلوك الإنسان بالدرجة الأولى، فالتوراة لا تهدف إلى ضمان انتشار الحقيقة الصحيحة المجردة مثل النزعة الهيلينية وإنما إلى إصلاح أخلاق الإنسان من خلال طاعة الشريعة وتنفيذ الأوامر والنواهي بشكل متعيِّن كما في النزعة العبرانية. ولكن هذا ليس الهدف الوحيد للشعائر، فهي تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الهوية اليهودية وعلى تَفرُّد اليهود وعلى تقوية وعيهم القومي وعلى عزلهم عن الشعوب الأخرى. ومن هنا تسمية اليهودية «الإبراهيمية» (نسبة إلى إبراهيم) لتأكيد خصوصيتها ولتأكيد الجانب الإثني فيها.

ثم يربط لوتساتو بين الخاص والعام في اليهودية إذ يقول: إن اليهودي، بحفاظه على يهوديته وإثنيته وتَفرُّده، إنما يدافع عن القيم العالمية العامة في دينه، وبالتالي فحفاظه على هويته فيه خدمة للإنسانية وتخليه عنها لا يخدم الإنسانية قط وإنما يشكل تخلياً عنها لأن اليهودية هي قلب العالم الذي يمكنه أن يأتي بالتوازن له، ومن ثم يتحول اليهود إلى مركز عملية الخلاص الكونية، وهذا أحد المفاهيم القبَّالية الأساسية. وهكذا يحدث التداخل بين القومية والدين. وقد كان لوتساتو يرى أن العبرية ليست لغة مقدَّسة وحسب وإنما لغة قومية أيضاً،وكذا الكتاب المقدَّس، فهو كتاب مقدَّس وكتاب قومي. وهذه الصيغة تشبه الصيغة الصهيونية الحلولية التي يتداخل فيها المقدَّس مع القومي.ويُلاحَظ أن نقد لوتساتو للعقل ليس نقداً لحدوده وحسب وإنما يشكل انسحاباً مما هو إنساني وعالمي وعام إلى ما هو يهودي ومحلي وخاص.ولذا، كان لوتساتو يرى أن النضال الحديث من أجل الحقوق المدنية لليهود يشكل خطراً قد يؤدي إلى الإبادة، لأن اليهـودية ليسـت ديناً وحسـب وإنمـا هي وعي قومي أيضاً.

موريــتز سـتاينشـنايـدر (1816-1907(

Moritz Steinschneider

أحد مؤسـسي علم اليهـودية، وبخـاصة في حـقل البيبليوجرافيا. وُلد في مورافيا، ودرس دراسات دينية ودنيوية، وأتقن عدداً من اللغات الأوربية من بينها الفرنسيةوالإيطالية كما أتقن العبرية. وذهب إلى برلين حيث تعرَّف إلى زونز وجايجر واستقر في برلين عام 1845.

انصب اهتمامه على دراسة علاقة اليهود بالحضارات الأخرى، واهتم بشكل خاص بعلاقة اليهود بالحضارة العربية، ودورهم باعتبارهم مترجمين وناقلين للحضارة العربية والهيلينية في العصور الوسطى في الغرب. وكان موقفه رافضاً تماماً للصهيونية إذ كان يرى أن اليهودية قد ماتت، وأن علم اليهودية هو العلم الذي سيقوم بعملية دفنها.

سولومون سـتاينهايم (1789-1866)

Solomon Steinheim

مفكر ديني ألماني يهودي كان يعمل طبيباً. حاول في كتاباته أن يبيِّن الفرق بين الوحي والعقل وأن يبيِّن أن الحقيقة (من ثم) ثنائية. والوحي، في رأيه، يفوق العقل منزلةً، والشعب اليهودي هو حامل عبء رسالة مُوحى بها من الإله، وهذا هو سرّ بقائه. ويُلاحَظ تأثره بالفلسفة الرومانسية الألمانية وبفكرة الشعب العضوي بعد ربطها بالديباجات الدينية.

الباب السادس: الرأسمالية والجماعات اليهودية

الرأسـمالية والجماعات اليهودية: مقدمة

Capitalism and the Jewish Communities: (Introduction)

يمكن القول، بشكل عام، بأن يهود العالمين العربي والإسلامي لم يلعبوا دوراً اقتصادياً متميِّزاً، ولم يضطلعوا بوظائف اقتصادية خاصة مقصورة عليهم دون بقية أعضاء المجتمع، ومن ثم فإنهم لم يلعبوا دوراً خاصاً أو متميِّزاً في نشأة الرأسمالية أو في المشروعات الرأسمالية الحرة في العالم العربي أو الإسلامي، وخصوصاً أن الرأسمالية لم تنبع من داخل البلاد العربية والإسلامية وإنما وفدت من أوربا، وبخاصة مع الجيوش الاستعمارية. كما يُلاحَظ أن البلاد العربية والإسلامية التي أسست نظاماً اقتصادياً يتبع نموذج الاقتصاد الحر، مثل تركيا ودول الخليج ولبنان، لم يكن فيها جماعات يهودية كبيرة. وحتى حين وُجدت جماعات يهودية كبيرة نسـبياً في بعـض البلاد، كما هو الحال في المغرب، فإنها لم تساهم بشكل خاص في التاريخ الاقتصادي لهذه البلاد. لكن هذا التعميم لا ينفي، بطبيعة الحال، وجود أي شكل من أشـكال التمـايز بين الجمـاعة اليهودية والأغلبية، فهذا ضد طبيعة الأشياء. فالأقليات الدينية والإثنية والعرْقية لعبت دائماً وأبداً دوراً متميِّزاً في المجتمعات التقليدية؛ إذ كانت قطاعات منها تتحول إلى جماعات وظيفية، وجماعات وظيفية وسيطة على وجه التحديد. وكان تقسيم العمل يتم أحياناً في هذه المجتمعات التقليدية حسب الأوضاع الإثنية والدينية. ولا يشكل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي استثناءً من القاعدة، لكن درجة تميُّزهم الاقتصادي لم تكن حادة، كما أنهم لم يكونوا قط الأقلية الوحيدة التي تلعب دوراً اقتصادياً متميِّزاً. ومن ناحية أخرى، كان كثير من الحرف والوظائف التي كان يشتغل بها أعضاء الجماعة اليهودية غير مقصورة عليهم بل كان يشتغل بها المسلمون والمسيحيون.

أما في العالم الغربي، فقد كان الأمر جد مختلف، إذ لعب أعضاء الجماعات اليهودية فيه دوراً محدَّداً بارزاً الأمر الذي حدا بكثير من المفكرين الغربيين، مثل كارل ماركس وماكس فيبر ووارنر سومبارت، إلى دراسة قضية العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعات اليهودية وظهور الرأسمالية في العالم الغربي وتطوُّرها ومدى مساهمتهم فيها. وأصبحت القضية نفسها إشكالية أساسية في الفكر الاشتراكي وأدبيات معاداة اليهود والفكر الصهيوني ذاته. وتُركِّز الأدبيات الخاصة بهذه الإشكالية على عنصرين أساسيين يربطان بين أعضاء الجماعات اليهودية والعقيدة اليهودية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى:

1 ـ تجربة الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية داخل التشكيل الحضاري الغربي (دون تسمية المصطلح بطبيعة الحال(.

2 ـ النسق الديني اليهودي ذاته.ولا يميِّز ماركس وفيبر وسومبارت بين اليهودية واليهود (خصوصاً ماركس الذي يكاد يفترض ترادفهما(.

ويؤكد فيبر أهمية العنصر الديني (الفكر الديني اليهودي) على حساب العناصر التاريخية. أما سومبارت، فإنه يؤكد أهمية العنصرين معاً، ولكنه يعطي لأطروحته الخاصة بمسئولية اليهود (خصوصاً المارانو) عن ظهور الرأسمالية صفة الحتمية بل والعرْقية إذ يرى وجود علاقة سببية بسيطة بين اليهود والرأسمالية.

ويميِّز المفكرون الثلاثة بين شكلين من أشكال الرأسمالية:

1 ـ رأسمالية المجتمعات التقليدية أو الإقطاعية والتي يُسمِّيها ماركس «الرأسمالية الشكلية»، ويسميها فيبر «الرأسمالية المنبوذة»، ويسميها سومبارت «الرأسمالية التجارية». ويستخدم ماركس وإنجلز المصطلح الأخير أيضاً (ونسـميها نحـن في مصطلحنا «الجماعة الوظيفية الوسيطة»).

2 ـ رأسمالية المجتمعات الحديثة والتي يُسمِّيها ماركس «الرأسمالية الصناعية أو الحقيقية»، ويسميها فيبر «الرأسمالية الرشيدة»، ويُطلق عليها سومبارت مصطلح «رأسمالية الاستثمارات».

ويتسم الشكل الأول بأنه رأسمالية تعمل بنَقْل البضائع من مجتمع إلى آخر، أما نشاطها فيتركز على عمليات التبادل دون أن تقوم بإنتاج أية سلع جديدة ولا تُضيف أي فائض قيمة. أما الشكل الثاني، فإنه يقوم بالاستثمار والمخاطرة وإنتاج السلع الجديدة. ولذا، نجد أن مركز الرأسمالية الأولى هو سوق الأوراق المالية، أما الثانية فمركزها المصنع. ومن ثم، نجد أن الرأسمالية الأولى هي مجرد جيب رأسمالي (تجاري مالي) في المجتمع الإقطاعي يعيش فيه وبه، على نقيض الرأسمالية الحقيقية التي تُولَد في المدينة خارج المجتمع الإقطاعي وتقف على الطرف النقيض منه وتقضي عليه في نهاية الأمر. وقد ربط هؤلاء المفكرون بين أعضاء الجماعة اليهودية من جهة والرأسمالية التجارية من جهة أخرى. ولعل هذا من أهم أسباب عدم تحدُّد وضع اليهود داخل الحضارة الغربية من وجهة نظرهم، فهم ممثلون لقوى رأسمالية ولكنها رأسمالية المجتمع الإقطاعي. ولذا ارتبط وجودهم في الأذهان بعدة قوى متناقضة: الطبقات الحاكمة التقليدية، والقوى الرأسمالية المعادية لها، ثم القوى الثورية التي وقفت ضد الفريقين.

ويمكننا أن نحيل القارئ إلى المداخل الثلاثة (في هذا القسم) عن ماركس وإنجلز ثم فيبر وسومبارت، ونؤكد على أهمية ما قاله فيبر بشأن محاولة تفسير ظاهرة عدم إسهام اليهود في نشأة الرأسمالية الرشيدة رغم أن اليهودية لعبت دوراً أساسياً في ترشيد الحضارة الغربية.

وفي محاولتنا رصد دور الجماعات اليهودية في ظهور الرأسمالية سنفرِّق بين العقيدة اليهودية من جهة والجماعات اليهودية من جهة أخرى. كما سنحاول الابتعاد عن طرح أي تصور خاص بوجود علاقة سببية واضحة بين اليهود وظهور الرأسمالية في الغرب. وسيكون نموذجنا التفسيري لهذه العلاقة هو مفهوم الجماعة الوظيفية الوسيطة.

العقيدة اليهودية والرأسمالية

Judaism and Capitalism

ليس بإمكان الدارس المدقق إنكار أن النسق الديني اليهودي، في صياغته الأولى التوراتية، ثم في صياغاته التلمودية ثم القبَّالية، يحوي داخله استعداداً كامناً أو قابلية لظهور الرأسمالية، وهذا جانب وفَّاه فيبر حقه من الدراسة. ولكن من الواضح أن فيبر لم يكن ملماً بالتحولات العميقة التي دخلت اليهودية بعد هيمنة الفكر القبَّالي عليها وانتشار التصوف بين أعضاء الجماعات أو لعله لم يدرك أهميتها. والقبَّالاه اللوريانية فكر حلولي (روحي) متطرف يضع اليهودي في مركز الكون باعتباره امتداداً للخالق ويعمق من إحساس اليهودي بأنه من الشعب المختار، كما يُصعِّد حدة التوقعات المشيحانية. فالحلولية تعني حلول الإله في الأشياء حتى يتوحَّد بها ولا يُوجَد مستقلاً عنها فتصبح المخلوقات في قداسة الخالق مساوية له فتُرَدُّ كل الأشياء إلى مبدأ واحد، كامن في المادة ولا يعلو عليها، وكل هذا يساعد على تزايُد معدلات العلمنة. أما النزعة المشيحانيةوالإحساس بالاختيار فهي عناصر تعزل اليهودي عن واقعه المباشر وعن الجماعات الإنسانية المحيطة به فيصبح عنصراً موضوعياً وشخصاً غريباً، وهذه صفات أساسية تخلق استعداداً كامناً لدى صاحبها لتبنِّي أخلاقيات الرأسمالية المجردة والسوق الحر الذي يرى كل الظواهر باعتبارها خاضعة تماماً لآليات العرض والطلب. وتَجدُر الإشارة إلى أن العلاقة بين التصوف (الحلولي) والتجارة أمر مثير للغاية ويحتاج إلى مزيد من الدراسة، وبخاصة في ضوء علاقة الجماعة الوظيفية بالرؤية الحلولية للكون (المكان والزمان والإنسان) ومركب الشعب المختار (انظر: «الجماعات الوظيفية والحلولية الكمونية الواحدية»).

دور الجماعات اليهودية في ظهور الرأسمالية

The Role of the Jewish Communities in the Emergence of Capitalism

إذا كانت ثمة عناصر داخل النسق الديني تخلق عند أعضاء الجماعات اليهودية استعداداً كامناً لتقبُّل أخلاق الرأسمالية، ومن ثم المساهمة في تطويرها، فإن تجربتهمالتاريخية داخل التشكيل الحضاري الغربي هي التي بلورت وضعهم وحوَّلت الاستعداد الكامن والقابلية إلى حقيقة تاريخية واقعة. وأهم سمات هذه التجربة أن أعضاءالجماعات اليهودية قد نُظر إليهم، منذ البداية (داخل التشكيل الحضاري الغربي)، باعتبارهم الشعب الشاهد، أي أنهم ليسوا جزءاً من جماعة الأغلبية المسيحية، كما أصبحوا أقناناً للبلاط ومن بعد ذلك يهود أرندا ثم يهود بلاط، أي أن اليهود ظلوا خارج نطاق العلاقات الاقتصادية والدينية والأخلاقية للمجتمع الإقطاعي. فاليهودي كان غريباً بمعنى الكلمة، ونحن نرى أن انتشار القبَّالاه ساهم ولا شك في تعميق هذه العزلة والغربة إذ أضفت على دور اليهود، كوسطاء وغرباء، قدراً عالياً من القداسة، بحيث أصبح اليهودي هو الوسيط الكوني بين الإله والعالم، مجرد أداة لتوصيل الإرادة الإلهية لبقية البشر. وترتبط رؤية الخلاص بمدى قيامه بتنفيذ الأوامر والنواهي، أي أن القداسة حوسلت اليهودي تماماً. ولكن هذه الوساطة الكونية كانت صدى (وربما تبريراً وتسويغاً أيضاً) لعملية وساطة أخرى؛ إذ اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، منذ بدايات العصور الوسطى حتى بدايات الثورة التجارية، بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، فكانوا يقومون بنقل الفائض الزراعي والسلع الترفية، ويؤدون وظائف مالية وتجارية مختلفة في غاية الحيوية للمجتمع الإقطاعي، مع أنها لم تكن من صميم العلاقات الإنتاجية لهذا المجتمع، كما لم يكن بوسع بقية أعضاء المجتمع القيام بها. وكان المجتمع يُظهر التسامح تجاه اليهود مادام في حاجة إليهم، ولكنهم لم يُعطوا قط حقوقاً قانونية محدَّدة (مثل حقوق وواجبات أهل الذمة في الإسلام). وكانت تَصدُر مواثيق خاصة تؤمِّن حقوقهم وتحدِّد واجباتهم ومقدار الضرائب المفروضة عليهم وأماكن إقامتهم وتُزوِّدهم بالحماية وتمنحهم المزايا. وكانت هذه المواثيق تُلغَى في أي وقت تنتفي فيه الحاجة إلى اليهود وإلى دورهم الاقتصادي، وبالتالي كان يتم طردهم، أي أن حوسلة أعضاء الجماعات اليهودية تمت تماماً. وكان يُشار إلىهم باعتبارهم أقنان بلاط،أي أنهم كانوا خاضعين للملك أو الإمبراطور مباشرة بل يُعَدُّون ملكية خاصة له وأداة من أدواته، يدينون له وحده بالولاء، الأمر الذي حقق لهم قسطاً كبيراً من حريةالحركة، لكن ذلك زاد في الوقت نفسه من عزلتهم عن بقية قطاعات المجتمع.

ونتج عن ذلك أن وجود أعضاء الجماعات اليهودية في إطارالحضارة الغربية كان يتسم بعدم التجذر أو الانتماء الكامل لأي تشكيل ثقافي أو طبقي محدَّد، فتحولوا إلى عنصر بشري حركي يحتفظ برأسماله على هيئة نقود سائلة يمكن نقلها بسهولة من مكان إلى آخر. ودعم هذا الاتجاه عدم السماح لليهود، في معظم الأحوال، بشراء العقارات الثابتة.

لقد تحوَّل اليهود، نظراً لغربتهم وعدم تَجذُّرهم وبسبب الطبيعة السائلة لثروتهم، إلى عنصر بشري متحرك وموضوعي ومجرد: موضوعي لأنه يُنظَر إليه دائماً منالخارج، ومجرد لأنه لا يوجد داخل سياق مُحدَّد. وأصبح أعضاء الجماعة يجسدون ضرباً من الاقتصاد الحركي المجرد داخل الاقتصاد الزراعي الثابت الطبيعي. ووصل هذا التجريد إلى قمته في التنظيم الكامل لعلاقة اليهود بالمجتمع، وفي إحلال العلاقات القانونية التعاقدية محل العلاقات التقليدية الشخصية المبنية على كلمة الشرف والثقة التي كانت سائدة في المجتمع الإقطاعي. فكانت المواثيق التي تُمنَح لليهود تحاول أن تنظم كل جوانب العلاقات الممكنة بين المجتمع المسيحي وأعضاء الجماعة اليهودية، وهي علاقات كان الهدف منها، بالنسبة إلى الطرفين، الربح الاقتصادي المحض. وفكرة القانون اللاشخصي والعلاقات البشرية (علاقات إنسانية بين أشياء وعلاقات إنتاج بين بشر) هما الجوهر النفعي للاقتصاد والمجتمع الرأسماليين. ويمكننا القول بأن اليهود أصبحوا نواة الجيسيلشافت Gesellschaft (المجتمع التعاقدي الذري المفتت) في داخل الجماينشافت Gemeinschaft (الجماعة العضوية التراحمية المترابطة التقليدية).

وأدَّى عدم انتماء اليهود وتجريدهم - إلى جانب وجود التبادل الاختياري بين اليهودية والرأسمالية - إلى تحوُّل أعضاء الجماعة إلى الخميرة التي ساعدت على نشوءالرأسمالية، دون أن يكونوا بالضرورة السبب الوحيد أو حتى الأساسي في العملية التاريخية المركَّبة التي أدَّت إلى ظهور الرأسمالية.

ويظهر دور أعضاء الجماعات اليهودية، كخميرة للنظام الرأسمالي في الغرب، في كثير من النشاطات التي لعبوها وفي إبداعاتهم. فهم من أوائل منْ طوَّروا فكرة الأسهم والسندات التي تحقق تراكماً رأسمالياً يمكن توجيهه إلى أي مجال استثماري قد يظهر،أي أنهم أسرعوا بعملية تجريد النقود بفصلها عن الأفراد وعن الرغبات البشرية والعواطف والأخلاق،وزادوا كفاءتها كرأسمال، وجعلوا مقياس الكفاءة الذي يُطبَّق عليها هو معدل الربحية وحسب.

وبالطبع، كان اليهودي الذي تم استبعاده من النظام الإقطاعي يقع خارج نطاق القيم الدينية والأخلاقية للمجتمع (وهو في هذا لا يختلف عن عضو الجماعة الوظيفية الذي ينظر له المجتمع المضيف باعتباره شيئاً لا قداسة له، ومجرد آلة يستفاد منها ثم تُنبَذ). كما أن قيمه التجارية الموضوعية المجردة كانت مختلفة عن القيم المسيحية التي كانت تنظر بعين الشك إلى النشاط التجاري ككل، وإلى الربا على وجه الخصوص، وتهدف إلى أن تجعل من السوق مكاناً يلتزم بالحد الأدنى من الأخلاق وبأفكار مثل فكرةالثمن العادل والأجر الكافي، مع ضرورة إتاحة الفرصة لكل التجار لتحقيق ربح معقول مع وضع حدٍّ أقصى للأرباح. وأدَّت هذه الأخلاقيات، المتخلفة من منظور رأسماليدنيوي،والتي تخلط بين الاقتصاد والأخلاق،إلى الحد من حركية التجارة.أما العنصر اليهودي، فلم يكن يدين بالولاء لمثل هذه الأخلاقيات. بل ظهر بين أعضاء الجماعاتاليهودية مقياسان أخلاقيان: أحدهما يُطبَّق على الجماعة اليهودية (باعتبارها جماعة مقدَّسة لها حرمتها) والآخر يُطبَّق على المجتمع ككل (باعتباره لا حُرمة له ولا قداسة). ولذا، لعب العنصر اليهودي دوراً أساسياً في تحطيم الأخلاقيات المسيحية الاقتصادية الإقطاعية وفي تقويض هذا الضرب من الاقتصاد المحافظ الذي تتداخل فيه العناصر الاقتصادية مع العناصر الأخلاقية والدينية. فساهم أعضاء الجماعة في عملية العلمنة والترشيد، أي فصل العنصر الاقتصادي عن العناصر الأخرى، بحيث يصبح النشاطالاقتصادي مرجعية ذاته ولا يتم ضبطه من خلال مرجعيات (أخلاقية أو دينية أو إنسانية) متجاوزة له. وأدَّى هذا إلى ظهور اقتصاد تجاري مبني على التنافس وعلى محاولة تعظيم الربح (اقتصاد يطرح فكرة الإنتاج بلا حدود وإشباع حاجات المستهلك التي لا تنتهي).

كما أن أعضاء الجماعة، بسبب عدم انتمائهم، كانوا من أكثر العناصر حركية والتزاماً بالقوانين الاقتصادية للسوق كقيمة مطلقة. فنجد أنهم حاولوا دائماً أن يوسِّعوا نطاق السوق وانتشاره، وهي العملية التي انتهت إلى تحويل المجتمع بأسره إلى النمط الرأسمالي والتي أطلق عليها ماركس تعبير «تهويد المجتمع». وكانوا يبحثون عن أسواق جديدة وعن زبائن جدد وعن سلع جديدة. كما أنهم كانوا على استعداد لأن ينتجوا سلعاً أقل جودة وأقل تكلفة عما كان ينتجه (في العصر الوسيط) الحرفي أو التاجر الذييعتز بحرفته وتجارته، والذي تعوَّد على إنتاج سلعة بعينها يرقى بها إلى مستوى معيَّن من الجودة ولا يمكنه أن يتنازل عنه أو يتهاون فيه، فالواقع أن حرفته كانت جزءاً من ميراثه الشخصي. وكان اليهودي، في محاولة توسيع نطاق السوق، من أوائل العناصر التي شجعت على استخدام الإعلانات على حين كان كثير من المفكرين الغربيين،حتى منتصف القرن الثامن عشر، يهاجمون الإعلانات باعتبارها عملاً غير أخلاقي، بل صدر في باريس عام 1761 قانون يمنع الإعلانات أو الجري وراء الزبائن لحثهم على الشراء. ويمكننا أن نرى هنا، مرة أخرى، أن الأخلاق المسيحية والتقليدية تحد من حركية السوق، على عكس الأخلاقيات الحركية (العلمانية) للجماعة الوظيفية التي لا تأبه بالحرمات ولا تعبأ بالمطلقات ولا تهتم بأية قيم، سوى قيم الربح والخسارة والبقاء.

وربما كان من العناصر الأساسية التي جعلت من أعضاء الجماعة اليهودية خميرة للنظام الرأسمالي أنهم، نظراً لانتشارهم (شتاتهم) على هيئة جماعات منفصـلة مترابـطة، كانوا عنصراً بشــرياً متعدد الجنسيات، عابراً للقارات، إن صح التعبير. فقد كان ليهود بولندا علاقات تجارية ومالية وثيقة مع يهود ألمانيا ومع يهود العالم الإسلامي، وهلم جراً. وساهم هذا في تسهيل عملية التجارة الدولية وتوسيع نطاق السوق، كما سهل عملية جمع المعلومات التجارية، الأمر الذي جعلهم قادرين على المنافسة.

وقد لعب يهود شرق أوربا دوراً خاصاً، فالباعة اليهود، وكذلك اليهود الذين كانوا يقومون بأعمال الفنادق الصغيرة وتقطير الخمور وبيعها وإنتاج الماشية في المناطق الريفية وجمع الضرائب لحساب كبار الملاك، ساعدوا على إدخال عناصر التبادل واقتصاد المال. وكان نشاط صغار التجار اليهود في المناطق الريفية يشجع إنتاج فائض زراعي لزيادة استهلاك البضائع غير الزراعية، كما كان يساهم في إبعاد جزء من قوة العمل الزراعي عن الأراضي، وتوجيهها إلى صناعة الأكواخ المنزلية وخدمات النقل. وهذا النشاط هو الذي ساعد على خلق قوة عمل غير زراعي في المناطق الريفية تعتمد على الأجور أكثر من اعتمادها على العائد من الأرض.

وبظهور النظرية المركنتالية، زاد الدور الذي يلعبه أعضاء الجماعات اليهودية داخل النظام الرأسمالي. فهذه النظرية تجعل مصلحة الدولة المبدأ الأعلى المقبول لدى الجميع، والإطار المرجعي بحيث يتم الحكم على الإنسان لا بحسب انتمائه الديني وإنما بمدى نفعه للدولة. وقد ظهرت في هذه الفترة فكرة مدى نفع اليهود وفُتح المجال أمامهم للإسهام في جميع النشاطات الاقتصادية. وابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، استعان الملوك والأمراء في وسط أوربا (في ألمانيا وغيرها من الدول) باليهود في كثير من النشاطات الاقتصادية، مثل:التجارة الدولية،وتمويل الجيوش،وعقد القروض والصفقات. وهـؤلاء هـم الذين يُطلَق علـيهم مصطلـح «يهود البلاط».

لكل ما تقدَّم، نجد أن تاريخ الجماعات اليهودية في الغرب مرتبط بتاريخ الرأسمالية في كثير من الوجوه. ومن الملاحظ أن كثيراً من الدول التي كانت لها مشاريع تجارية أو استعمارية، كانت ترى أن العنصر اليهودي عنصر أساسي في هذه العملية ويمكن الاستفادة من خبراته ورأسماله كما يمكن توظيفه في أماكن نائية وجديدة، فهو عنصر حركي وحسب. وقد تم توطين اليهود في بولندا في القرن الثالث عشر مع التجار الألمان، لتشجيع الاقتصاد التجاري. ثم تم توطينهم في أوكرانيا بعد ضمها إلى بولندا للسبب نفسه. كما تم توطين اليهود في كثير من المستعمرات الاستيطانية والمراكز التجارية التابعة لإنجلترا وهولندا في العالم الجديد.

وقد رحب كرومويل بتوطين اليهود في إنجلترا لكي ينعشوا الاقتصـاد الإنجليزي ولكي يكونوا جواسـيس يأتون له بالمعلومات التجارية. وسمحت فرنسا ليهود المارانو المطرودين من إسبانيا بالاستيطان في بعض المراكز التجارية المهمة فيها، مثل بايون وبوردو. وكان توطين أعـضاء الجمـاعات اليهـودية يأخذ، في العادة، النمط التالي: يبدأ توطين اليهود السفارد، بمالهم من خبرات تجارية مالية ورؤوس أموال واتصالات دولية، في الدول الغربية والدولة العثمانية ثم يتبعهم في معظم الأحوال جماعات من اليهود الإشكناز الذين بدأوا في الهجرة بعد ثورة شميلنكي.

ولكن، ورغم أهمية الدور الذي لعبه أعضاء الجماعات اليهودية كخميرة ساعدت في نشوء الرأسمالية الحديثة الرشيدة، فإنهم كجماعة وظيفية وسيطة ظلوا مرتبطين بالطبقةالحاكمة في المجتمعات الإقطاعية تابعين لها يخدمونها ويخدمون مصالحها. فالتجارة والربا اليهوديان، أي ما يسميه فيبر «رأسمالية المنبوذين»، لم يشكلا نقيضاً للمجتمعالإقطاعي وإنما خلية داخله. ولذا، كانت هذه التجارة اليهودية تقع ضحية عملية ظهور الرأسمالية الرشيدة المحلية رغم أنها ساهمت هي نفسها في الإعداد لها وتخميرها وإنكانت ساهمت أيضاً في قمعها وتأخير ولادتها كما حدث في بولندا. وربما يكون من المفيد في هذا المضمار أن نفرق بين الدور الذي لعبه أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا في قمع الرأسمالية المحلية وبين الدور الذي لعبه أعضاء الجماعة اليهودية في هولندا وإنجلترا وفرنسا في تطويرها. ولكن أعضاء الجماعات اليهودية، سواء أكانوا أداة قمع في بولندا أم كانوا أداة للتطوير في هولندا، ظلوا دائماً أداةً وحسب لخدمة هدف ما. وهم، في هذا، يشبهون الجماعات الوظيفية الوسيطة في كل مكان. ولقد كانت جيوب اليونانيين والإيطاليين في مصر تمثل عنصراً تجارياً نشيطاً حيث بنوا المصانع، مثل مضارب الأرز ومطاحن الدقيق، ولكنهم لم يغامروا قط في الصناعة الثقيلة أو تلك التي تتطلب استثمارات ضخمة بعيدة المدى. فقد ساهموا في حركة التصنيع التي ساعدت على نشوء طبقة رأسمالية محلية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يحاولون وقف نموها من خلال الهيمنة الاستعمارية. ثم تزايدت قوة الطبقة الجديدة بالتدريج، فطردت الجماعات الوظيفية الوسيطة الغربية لتتولى هي كل النشاطات التجارية والاستثمارية ثم الصناعية.

أثر الرأسمالية الرشيدة فى الجماعات اليهودية

The Impact of Rational Capitalism on the Jewish Communities

بعد تناول الدور الذي لعبه أعضاء الجماعات اليهودية في تكوين الرأسمالية والاقتصاد التجاري، يمكننا الآن أن نترك المرحلة التكوينية لنرى أثر ظهور الرأسمالية (الرشيدة) عليهم ومقدار إسهامهم في الاقتصاد الرأسمالي ذاته. وسنلاحظ أن دور يهود غرب أوربا يختلف عن الدور الذي لعبه يهود وسط أوربا وشرقها. ويعود هذا إلى معدلات النمو الرأسمالي في هذه البلاد وإلى علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بالمجتمع ككل ووضعهم فيه. ففي فرنسا وإنجلترا وهولندا لعب اليهود دوراً ثانوياً، أو لنقل دور الجزء في الكل الاقتصادي الأكبر الذي كان قد اكتسب كثيراً من ملامحه الرأسمالية الحديثة في غيبة أعضاء الجماعات اليهودية، وكان لهذه الدول مشاريعها الاستعمارية الضخمة، ولذا لم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية في هذه البلاد سوى دور جزئي منشط.

أما في شرق أوربا، فلم تكن المجتمعات الأوربية هناك متطورة بما فيه الكفاية ولم يُقدَّر للرأسمالية الرشيدة التي نشأت في مرحلة متأخرة أن تتطور، كما لم يكن لديها مشروع استعماري مهم. وانتهى الأمر بأن حل النمط الاشتراكي في الإنتاج محل النمط الرأسمالي. ولهذا، انخرط أعضاء الجماعات اليهودية هناك إما في الطبقة العاملة وإما في الطبقة البورجوازية الصغيرة. وكان من بينهم كذلك رأسماليون ولكنهم كانوا نسبة صغيرة.

وفي وسط أوربا، وبخاصة في ألمانيا، ظهر النظام الرأسمالي الذي أخذ يتطور بسرعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتبلور لألمانيا مشروعها الاستعماري الخاص، وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون عنصراً مهماً في عملية التطور الرأسمالي هذه. ولكن الرأسمالية الألمانية تم ضربها وتم كذلك ضرب مشروعهاالاستعماري ثم تحوَّلت ألمانيا نفسها إلى ما يشبه المستعمرة بعد اتفاقية فرسـاي (1919). وحينـما عاودت ألمانيا محاولة التصنيع مرة أخرى، لم يتم ذلك حسب النمطالرأسمالي الحر وإنما تم بتدخل الدولة، وقد راح رأس المال الذي يملكه بعض أعضاء الجماعات اليهودية ضحية هذه العملية.

ويتضح تباين معدلات إسهام أعضاء الجماعة في نمو الرأسمالية من بلد إلى آخر من خلال علاقتهم بالمدن ومدى تركُّزهم فيها. فظهور المدن وازدياد أهميتها كان يعني أن الوظائف المالية والتجارية الهامشية القديمة أصبحت تحتل المركز. وقد صاحب ذلك تحوُّل في وَضْع أعضاء الجماعات اليهودية، فبدلاً من كونهم عنصراً بشرياً متحركاً يحمل رأس مال متحركاً ويتحرك على أطراف المجتمع، تحوَّلوا إلى عنصر بشري يقطن المدينة في داخل المجتمع وليس على هامشه، أي أنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني. وأتاح ظهور الرأسمالية فرصة أمام رأس المال الذي يمتلكه يهود (ومن ثم فإنه قد اتسم بدرجة عالية من الحركية) لدخول الاقتصاد الجديد بنسبة أعلى من رأس المال المحلي (غير اليهودي) الثابت المُستثمَر في العقارات والمزارع، وهو الأمر الذي تم إنجازه في إنجلترا وفرنسا ثم ألمانيا. أما في شرق أوربا، فرغم أن تركُّز أعضاء الجماعة اليهودية في المدن قد ازداد، فإن السياق الطبقي لهذه العملية كان مختلفاً، فقد ساهم وجودهم في المدن في تحويل أعداد منهم إلى طبقة عاملة.

أما فيما يتصل بعلاقة الصهيونية بالرأسمالية، فيمكن القول بأنها ليست مباشرة. فالصهيونية ليست جزءاً من التشكيل القومي الغربي، وإنما هي جزء من التشكيل الإمبريالي الغربي يخدم مصالحه الإستراتيجية تحت ظروف خاصة هي ظروف الاستيطان في فلسطين. ولذا، لم تصر الإمبريالية الغربية، أو البورجوازيون من أعضاء الجماعة اليهودية في الغرب، على أن يأخذ المشروع الصهيوني شكلاً رأسمالياً محدَّداً، بل سمحت له وللدولة الصهيونية الوظيفية من بعده باتخاذ الشكل الاقتصادي المناسب الذي يضمن بقاءه حتى يستمر في خدمتها. وقد توصَّل الصهاينة إلى أن الأشكال الجماعية في الإنتاج التي تستخدم ديباجات اشتراكية هي أنسب الطرق لتنفيذ المشروعالصهيوني الاستيطاني الإحلالي. ولذا، فعلى حين كانت الولايات المتحدة (المكارثية) تحارب الشيوعية في الولايات المتحدة، كان الصهاينة في الخمسينيات يرفعون لواءالاشتراكية، ويحتفلون بعيد العمال في مايو، وينتسبون إلى الدولية الاشتراكية ويتلقون المعونات بسخاء من الحكومات ومن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الرأسمالي، ويقومون على خدمة الإمبريالية.

ديفيـد ريكــاردو (1772-1823)

David Ricardo

اقتصادي بريطاني، وُلد في لندن لعائلة يهودية سفاردية من أصل إيطالي كانت قد استقرت في هولندا (مسقط رأس إسبينوزا) ثم هاجرت إلى إنجلترا عام 1760 قادمة من أمستردام. أرسلته أسرته إلى هولندا للدراسة، فعاد إلى لندن عام 1786 حيث اشتغل مع والده الذي كان سمساراً ناجحاً في البورصة. ولكنه، في عام 1793، انفصل عن عائلته حيث تزوج من سيدة من طائفة الكويكرز، كما ترك العقيدة اليهودية وانضم إلى الكنيسة. ثم عمل ريكاردو في البورصة بمفرده وحقق ثروة فاقت ثروة أبيه. وفي عام 1814، اعتزل البورصة وعالم المال واتجه إلى دراسة الاقتصاد ليصبح أحد أهم مؤسسي علم الاقتصاد السياسي الحديث. ويعود اهتمامه بهذا المجال إلى عام 1799حينما قرأ ثروة الأمم لآدم سميث، حيث بدأ بعد هذا التاريخ في الكتابة حـول بعض القضـايا المالية والاقتصـادية المهمة في إنجلترا آنذاك. كما نشأت علاقة فكرية بينه وبين الاقتصاديين جيمس ميل وتوماس مالثوس، الأمر الذي زاد من اهتمامه بدراسة الاقتصاد. وتوثقت علاقته بفيلسوف النفعية (المادية) جيريمي بنتام (أي أنه كان على علاقة وطيدة بأهم المفكرين العلمانيين في إنجلترا آنذاك). وأهم أعمال ريكاردو على الإطلاق هو مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب (1817) ويضم أهم تحليلاته ونظرياتهالخاصة بالسياسات المالية والضريبية والتجارة الدولية والتي أصبحت أساساً لكثير من المفاهيم الاقتصادية الحديثة. تناول في تحليلاته: قيمة العمل، وعلاقة الأرباحبالأجور، وعلاقة مستوى الأجور بالنمو السكاني، وندرة الموارد الطبيعية، والقوانين التي تحكم عملية توزيع الثروة. وقدم ريكاردو تحليلاً للآثار الاقتصادية للسياساتالضريبية على التراكم الرأسمالي ولتوزيع الدخل القومي ومستوى الأسعار، كما اكتملت نظريته في التجارة الدولية. ومن أهم إسهاماته، استنتاجه أن ما يحدد قيمة السلعة هو قيمة الجهد المبذول فيها، ومن ثم فقد استبعد الريع وإيجار الأرض كمصدر للقيمة، أي أن ساعة قيمتها 100 جنيه تتطلب عشرة أضعاف العمل المطلوب لإنتاج حذاء قيمته 10 جنيهات. كما طوَّر ريكاردو مفهوم الأجور وحد الكفاف، وهو يرى أن الأجور خاضعة لما سماه «القانون الصارم للأجور» والذي يؤدي إلى استقرار الأجور عند حد الكفاف. فإن زادت الأجور على حد الكفاف، فإن الطبقة العاملة ستتزايد عدداً وسيزداد التنافس بين أعضائها فتزداد أثمان السلع وتقل الأجور ويستقر كل شيء عند حد الكفاف مرة أخرى. أما فيما يتصل بالتجارة الدولية، فكان يطالب بحرية التجارة وحرية انتقال السلع، وكان يرى أن آليات السوق في حد ذاتها كفيلة بتحقيق التوازن. وظلت نظريات ريكاردو تسيطر على السياسات الاقتصادية البريطانية مدة خمسين عاماً. وقد دخل ريكاردو البرلمان عام 1819 ليس عن طريق الانتخاب ولكن عن طريق شراء مقعد له (كما جرت العادة آنذاك). ورغم انفصاله عن اليهودية، دافع ريكاردو داخل البرلمان عن إسقاط الأهلية القانونية عن أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا. وكان موقفه هذا نابعاً من رؤيته الليبرالية، فهو لم يكن يرى أن ثمة دوراً خاصاً لليهود أو للرأسمالية اليهودية، كما أن كتاباته عن النظرية الاقتصادية لا تتعرض لوضع اليهود أو دورهم داخل التشكيل الرأسمالي الغربي (وهو الأمر الذي ناقشه ماركس وفيبر وسومبارت والفكر الاشتراكي الغربي ككل).

ويُعتبَر ريكاردو من أهم الفلاسفة الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين قدَّموا رؤية اقتصادية (مادية) محضة، فهو لم يشغل باله بالاعتبارات الأخلاقية أو النفسية فقدَّم رؤية أحادية علمية (بالمعنى الضيق) من خلال أسلوب مجرد شبه رياضي لا يستخدم أية استشهادات تاريخية بقدر ما يلجأ لاستشهادات مجردة افتراضية. وجعل ريكاردو العامل الاقتصادي هو العامل الأساسي أو المبدأ الواحد الذي يُرَدُّ إليه سلوك الإنسان (القوة الدافعة له التي تتخلل ثناياه وتضبط وجوده). كما أنه، شأنه شأن الفلاسفة النفعيين، جعل حب الذات الدافع الأساسي في سلوك الإنسان، ومن ثم فإن المنافسة هي الآلية الكبرى. وعلى هذا، ساهم ريكاردو مساهمة فعالة في وضع أسس علم الاقتصاد الحديث وفي فصله عن المنظومات الدينية والأخلاقية وعن العلوم الأخرى، وجعله مجموعة من المبادئ تتعامل مع المصادر المادية. كما طوَّر النماذج الرياضية المجردة، وهو ما يعني استبعاد العناصر الإنسانية والأخلاقية. ويظهر في كتاباته الإنسان الاقتصادي الذي لا يبحث إلا عن مصلحته، واليد الخفية التي طرحها سميث تفقد أي مضمون ديني أو إنساني لتصبح جزءاً من الآلية الاجتماعية الصماء (قوة لا متعينة لا تعرف التمايز الفردي).

ويمكن أن نضع ريكاردو في إطار أولئك المفكرين اليهود السفارديين (الممتدين من إسبينوزا إلى دريدا) الذين قاموا بتفكيك ظاهرة الإنسان تماماً ورأوه في ضوء مجموعة من الحتميات المادية الصارمة وردوه إلى بعض الأصول المادية دون أية مثاليات أو غيبيات. وعالم ريكاردو المادي الآلي لا يختلف كثيراً عن عالم إسبينوزا في ماديته وآليته الصارمة، فهو عالم تسوده المادية الصلبة التي لا تحتمل أية فراغات أو ثغرات أو مسافات، ومن هنا جاءت سيادة النماذج الرياضية والهندسية في كتابات كل منهما.

ويثير ريكاردو قضية أساسية فيما يتعلق بالمعادين لليهودية، فالكثيرون منهم يفسرون سلوك ماركس وفكره على أساس يهوديته. وحينما يُشار إلى حقيقة أن أباه قد تنصَّر وأنه عمَّد الطفل ماركس في طفولته، فإنه عادةً ما يُقال: ولكنه مع هذا ظل يهودياً. وهم يفعلون ذلك ليبينوا أن اليهود مسئولون عن الشيوعية وأن الشيوعية ثورة يهودية. والمشكلة التي تظهر هنا هو أن ريكاردو فيلسوف الرأسمالية الحرة في أقصى أشكالها تجريداً وتطرفاً هو الآخر يهودي متنصِّر. ولعل الفارق الوحيد هو أن أصول ماركس إشكنازية بينما أصول ريكاردو سفاردية! وإذا قبلنا منطق تصنيف الشيوعية كحركة ذات أصول يهودية لأن مؤسسها من أصول يهودية، فلابد أن نقبل أيضاً مقولة أن الرأسمالية هي الأخرى حركة ذات أصول يهودية، ذلك أن واحداً من أهم فلاسفتها ذوو أصول يهودية. وغني عن القول أن هذا منطق متهافت يشبه منطق الصهاينة الذين ينسبون لليهود صفات عجائبية!

رؤية كارل ماركس (1818-1883) وفريدريك إنجلز (1820-1895) للعلاقة بين الرأسمالية والجماعات اليهودية

Karl Marx and Friedrich Engels on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities

تظهر موضوعات الفكر الاشتراكي بشأن اليهود في كتابات كارل ماركس (1818 - 1883) وفريدريك إنجلز (1820 - 1895) بدرجات متفاوتة من الحدة وبأشكال مختلفة. فالأطروحات الغربية العرْقية، على سبيل المثال، لها أصداؤها في كتابات هذين المفكرين، ولكنها مجرد أصداء. وهذا على عكس الأطروحة الاجتماعية التي تربط بين اليهود والتجارة أو الرأسمالية البدائية التجارية، فهي أكثر عمقاً وتَجذُّراً ومركزية. ويُلاحَظ أن أياً منهما لا يطرح حلاًّ صهيونياً للمسألة اليهودية. كما يجب أن نذكر أيضاً أن أياً منهما لم يُعر المسألة اليهودية أو أعضاء الجماعات اليهودية اهتماماً خاصاً. فرغم الخلفية اليهودية لماركس، فإن الموضوع اليهودي لم يشغل باله كثيراً. وقد أشار المؤرخ الألماني اليهودي هاينريش جرايتز في خطاب منه إلى ماركس إلى أن كتابه تاريخ اليهود يقع خارج نطاق اهتماماته. ولم يكن جرايتز نفسه ـ على ما يبدو ـ يعرف شيئاً عن كتاب ماركس المسألة اليهودية، رغم أنه تعرَّف إلى المؤلف عام 1877. لكن عدم اهتمام ماركس وإنجلز بالمسألة اليهودية أمر مفهوم في إطار اهتماماتهما التي انصبت بالدرجة الأولى على الظاهرة الرأسمالية بقطبيها الأساسيين: أصحاب العمل والعمال. ومما زاد من عدم اهتمامهما أنهما - على ما يبدو - كانا لا يعرفان الكثير عن يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) الذين كانوا يشكلون آنذاك أكبر جماعة يهودية في العالم كانت تضم نحو 80% من يهود العالم. ومن ثم، فإنهما لم يكونا يعرفان الكثير عن اليهود من أعضاء الطبقة العاملة. ومع هذا، لابد أن نشير هنا إلى أن عملية تحوُّل كثير من اليهود في شرق أوربا إلى عمال لم تتضح معالمها إلا مع العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. كما أن ماركس وإنجلز قضيا معظم حياتهما في إنجلترا بعيداً عن يهود شرق أوربا. وقد مات ماركس قبل أن تبدأ روسيا وبولندا في تصدير الفائض البشري اليهودي إلى إنجلترا وإلى غيرها من الدول. أما إنجلز الذي عاش حتى نهاية القرن التاسع عشر، فشاهد وصول المهاجرين اليهود إلى إنجلترا وتحوُّلهم إلى طبقة عاملة. وكان لهذا أعمق الأثر فيه وفي إليانور ابنة كارل ماركس التي اكتشفت ما زعمت أنه هويتها اليهودية مرة أخرى من خلالهم، وإن كان الاكتشاف تم لأسباب اجتماعية ثورية لاعلاقة لها بأي انتماء يهودي ديني أو حتى إثني.

لكل ما تقدَّم، لا يتناول المفكران الاشتراكيان المسألة اليهودية إلا بشكل عرضي وغير منهجي. كما ظهرت بعض كتاباتهما في الموضوع إبَّان المرحلة الأولى من حياتهما قبل أن يتبلور فكرهما، وقبل أن تتضح كثير من معالمه.

والعمل الأساسي الذي خطه ماركس في هذا الموضوع هو المسألة اليهودية (1844)، الذي كتبه وهو بعد في مقتبل حياته، حينما كان فكره لا يزال هيجلياً بشكل فاقع، كماكان أسلوبه يتسم بالتناقضـات والتقابلات اللفظية الطريفة والسـحرية والسـطحية، مثــل: « المسيحية هي الفكر السامي لليهودية»، و« اليهودية هي التطبيق العاديللمسيحية »، و« التحرر الاجتماعي لليهودي إنما هو تحرير المجتمع من اليهودية »، و« لم يجر تحرير الإنسان من الملكية بل نال الإنسان حرية الملكية ». ومن الصعب الوصول إلى وضوح في الأفكار من خلال هذا الأسلوب إذ أن حركيته ومنطقه يفرضان على كاتبه مواقف متطرفة يتطلبها التقابل الهندسي اللفظي. وإلى جانب كل هذا، فمن المعروف أن ماركس كانت له تحيزاته الشخصية الحادة والواضحة مثل أية شخصية عظيمة أو أي مفكر ضخم، فكان لا يتورع عن الإفصاح عنها بأسلوب قاطع له أنياب وأظفار الأمر الذي يؤدي إلى التضحية بكلٍّ من الإبهام والتركيب.

وسنحاول أن نعرض في هذا المدخل أفكار ماركس وإنجلز في المسألة اليهودية بادئين بماركس. وبطبيعة الحال، يشكل كتيب المسألة اليهودية النص الماركسي الأساسي، ولكننا لن نهمل الإشارات المتفرقة في الكتابات الأخرى لماركس مثل الخطابات والمقالات. ولا يوجد في العمل الكلاسيكي الأساسي لماركس رأس المال (الجزء الأول، عام 1867) سوى إشارات نادرة متفرقة هنا وهناك تلقي مزيداً من الضوء على موقفه ولكنها لا تعِّدله بشكل جوهري.

ولفهم موقف ماركس من اليهود واليهودية، يجب أن نضعه أولاً في سياقه الشخصي والحضاري. جاء ماركس من أسرة يهودية متدينة، فعمـه من حاخامات مدينة تريير التي وُلد هـو فيهـا. وجاءت أمه من هولندا، من أسرة تشتهر بوجود عدد كبير من الحاخامات فيها. ولكن اليهودية كانت قد دخلت في ذلك الوقت مرحلة أزمتها الحادة نتيجةً لمواجهتها مع الحضارة العلمانية، وتَصاعُد الهجوم عليها من داخلها. فهناك اليهودية الإصلاحية، وعلم اليهودية، وهناك حركات التنوير المختلفة التي كانت تبيِّن أن الموروث الديني اليهودي يشكل عبئاً ثقيلاً لا طائل من ورائه. لكن الهجمات من الخارج كانت أكثر حدة، فقد شهدت الفترة نفسها الهجوم العقلاني والعلماني الشرس على ظاهرة الدين ككل باعتبارها تعبيراً عن حرمان الإنسان. وشهدت هذه الفترة حركة نقد قوية للعهد القديم، كما شهدت نشر كتاب لودفيج فيورباخ جوهر المسيحية (1841) الذي حاول فيه تبيان أن الإنسان هو الذي خلق الإله وليس العكس، أي أن الإله إن هو إلا إسقاط للطموحات السامية عند الإنسان، وهي فكرة استفاد بها ماركس. وقد أخذ الهجوم على الدين ككل شكل الهجوم على العنصر السامي (الأخلاقي) وتمجيد العنصر الهيليني (الجمالي). لكل هذا، ليس من الصعب فهم سبب تنصُّر والد ماركس، خصوصاً أن التنصُّر كان يعني دخول الحضارة الغربية، كما كان يعني أن بوسعه ممارسة مهنة المحاماة في المحاكم البروسية التي لم يكن مسموحاً لغير المسيحيين بالعمل فيها. وقد عُمِّد كل أولاده ومن بينهم كارل الذي عُمِّد وهو في سن السادسة. ولكن يبدو أن ماركس كان مثل كثير من اليهود المتنصرين في عصره، ممن تركوا اليهودية فعلاً وتبنوا المسيحية اسماً وحسب، أو لم يتبنوا أي دين على الإطلاق على طريقة إسبينوزا، وأصبحوا علمانيين بمعنى الكلمة غير مكترثين بالدين. وربما كان هذا العنصر في خلفية ماركس مسئولاً عن فشله الكامل في إدراك أهمية العنصر الديني في تشكيل القوى السياسية والتاريخية. وعلى كلٍّ، فهذه نقطة قصور في عصر الاستنارة ككل حيث جرى تجاهُل أهمية الدين بسبب الالتزام بفكرة الإنسان الطبيعي أو الإنسان العقلاني المادي. ومن هنا نجد بعض العبارات السطحية، مثل « في كلمة واحدة، أكره كل الآلهة »، وهي عبارة من مسرحية بروميثيوس للكاتب الإغريقي أيسـخيلوس جعلها ماركـس شـعاراً لرسالته في الدكتوراه. ومن هنا نجد بعض الشعارات السطحية التي أطلقها ماركس مثل: « الدين أفيون الشعب » والتي لا تعبِّر بالضرورة عن كلية وتركيبية موقفه من الدين. ومن هنا نجد رؤيته السطحية للدين باعتباره جزءاً من بناء فوقي غير حقيقي خاضع بشكل مطلق للظروف الاجتماعية والاقتصادية يعبِّر في نهاية الأمر عن بناء تحتي حقيقي (اقتصادي مادي).

أما الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية التي ترى أن الدين مقولة تحليلية وعنصر مهم في الحضارة الإنسانية، فلم تظهر إلا في مرحلة لاحقة، واتضح أثرها في تفكير ورنر سومبارت وماكس فيبر اللذين طرحا إشكالية أصول الرأسمالية وعلاقتها بالدين اليهودي أو بالبروتسـتانتية (على عكـس الكاثوليكية) بشـكل أكثر تركيباً وعمـقاً وأصالة، وبشكل يحاول تحاشي السببية البسيطة الصلبة.

وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن ماركس شارك في العنصرية العامة التي كانت تسم الحضارة الغربية في ذلك الوقت، وإلى أن الصورة الإدراكية لليهود في ذهنه لم تكن تختلف كثيراً عن الصورة الإدراكية التي صاغتها العنصرية الغربية، واستمر إدراكه لليهود من خلال هذه الصورة طوال حياته. وقد وردت هذه العبارات في كتابات ماركس (الرسائل والكتب):

ـ « اليهودي ذو الابتسامة الباهتة ».

ـ « يهودي فيينا الملعون ».

ـ « المؤلف.. هذا الخنزير.. يهودي اسمه ماير».

وتصبح الأمور أكثر سوءاً إذا كان اليهودي من العاملين بالشئون المالية:

ـ « اليهودي بامبرجر جزء من معبد/ بورصة باريس ».

ـ « يهودي البورصة ».

وأحياناً تتسع العنصرية لتصبح عنصرية ضد كل الأجناس الأخرى:

ـ « يدل شكل رأس لاسال وشعره على أنه سليل الزنوج الذين انضموا لقطيع موسى إبَّان الخروج من مصر».

ـ « هو أيضاً الييد » (و«الييد» لفظة تحقير ليهود بولندا).

ـ « وهو لاعازا الأبرص ـ النموذج البدائي لليهودي ».

وقد استمرت عنصرية ماركس حتى آخر أيام حياته، إذ نجده يستخدم العبارات التالية:

ـ « الممارسة البورجوازية لليهودي القذر».

ـ « هذه المدينة مليئة بالذباب واليهود ».

ووردت هذه العبارة في رأس المال:

ـ « يعرف الرأسمالي أن كل السلع هي مجرد نقود تشبه اليهود المختنين من الداخل ».

ولكن يُلاحَظ أن الإشارات تناقصت على مر الأيام حتى أصبحت نادرة، كما أن مثل هذه الأقوال لا يمكن أن يُحاسَب ماركس عليها، رغم عنصريتها الكريهة، لأننا نتعامل في نهاية الأمر معه باعتباره مفكراً يقدم نسقاً فكرياً، وهذه العبارات لا تشكل عنصراً أساسياً في هذا النسق.

وثمة جانب آخر لموقف ماركس، ورثه من عصر الاستنارة، وهو أن الهجوم على المسيحية كان أمراً لا يزال محفوفاً بالمخاطر بعض الشيء في الحضارة الغربية. ولذا، كان الهجوم على المسيحية وعلى الكنيسة يأخذ شكل هجوم على ما يمكن تسميته «المسيحية البدائية»، أي اليهودية. فالهجوم على اليهودية هو، في واقع الأمر، هجوم على المسيحية. وقد كان هذا هو أحد أشكال الخطاب العلماني في ذلك العصر وإحدى شفراته المفهومة لدى الجميع. ولا شك في أن ماركس قد تأثر بهذا الجانب من الخطاب الفلسفي، كما أنه كان يتسم بالجراءة غير العادية، بل والوقاحة أحياناً، في التعبير. ولذا، فإن هجومه على اليهودية لم يكن ينبع من مثل هذه الذرائع وحسب وإنما من رؤية متكاملة لليهودية، في علاقتها بالمسيحية، ولعلاقة الدين ككل بالمجتمع المدني البورجوازي، مجتمع العلاقات البرانية والتعاقدية التي يغترب فيها الإنسان عن نفسه.

ولكن ماركس هو، في نهاية الأمر، إحدى الثمرات المتألقة للفكر الألماني في القرن التاسع عشر. وقد تواترت فكرة أساسية في كتابات المفكرين الألمان وهي التمييز بين الجماينشافت، أي الجماعة العضوية المترابطة التقليدية، مقابل الجيسيلشافت، أي المجتمع التعاقدي الذري المفتت. وهو تمييز له جانبان: أحدهما معرفي وأخلاقي ينصرف إلى رؤية الإنسان وطريقة إدراك الكون، والآخر سياسي واقتصادي واجتماعي ينصرف إلى طريقة تنظيم المجتمع. والجانبان هما تعبير عن الفكرة الواحدة نفسها في مجالين مختلفين. ومن الواضح أن من استخدموا هاتين الفكرتين كأداة تحليلية، كانوا يفضلون الجماعة المترابطة التي ينتمي إليها المواطن الذي يصبح جزءاً من كل يفقد ذاته فيه بحيث تختفي مصلحته الشخصية الأنانية الضيقة ويحل محلها مصلحة الدولة أو الجماعة، ويصبح لا وجود له خارجها. ونظراً للارتباط العضوي للإنسان بجماعتهوتطابُق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فإن الجماعة تُعبِّر عن جوهر الإنسان بدلاً من أن تشكل اغتراباً عنه. والقانون البشـري لا يشـكل في هـذه الحالة قيداً علىالإنسان أو حدوداً له، ولا يتعارض مع إدراكه لنفسه، وإنما يعبر عن جوهره ويحقق إمكاناته الكامنة. ومن هنا، فإن الرابطة بين الإنسان والجماعة رابطة عضوية ورابطةداخلية (جوانية) لا يتناقض فيها الذات والموضوع.

الصفحة التالية ß إضغط هنا