المجلد الأول: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 3

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

(تكملة) السـلوك البراني الخاضـع للرصد المــادي، فكأن الموضوعية عاجزة عن رصد الإنسان باعتباره كائناً مركباً، وتنجـح فقـط في تحويله إلى كائن طـبيعي، وهـو ما يُبيِّن أنها تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة.

3 ـ خصوصية القول وتركيبية الإفصاح:

ويمكن أن نضيف لكل هذا أن اللغة التي يستخدمها المُدرك للإفصاح عن إدراكه للواقع يمكن أن تكون لغة جبرية دقيقة في المواقف التافهة البسيطة أو في وصف بعض الظواهر الطبيعية. أما إن انتقلنا إلى الظواهر الأكثر تركيباً، فنحن عادةً ما نستخدم لغة مركبة قد تكون مجازية أو رمزية أو غير لفظية، وهي لغة تختلف من شخص لآخر.

الواقع مركب لا يمكن رصده ببساطة، والإنسان تبلغ الغاية في التركيب ويستحيل أحياناً رصد عالمه الجواني. وهو نفسه، كراصد للواقع، لا يتلقى المعطيات وإنما يفككها ويركبها ويعيد صياغتها، وحينما يفصح عنها، فإن لغة الإفصاح تكون مرتبطة به وبتجربته. ولذا، فقد اتضح تدريجياً أن فكرة الموضوعية الكاملة والانفصال الكامل للذات المدركة عن الموضوع المدرَك مجرد أوهام. وفي السنوات العشرين الأخيرة، اتضح لنا كل هذا على صعيد حياتنا اليومية، فرقعة المعلوم آخذة في التزايد بشكل مذهل ولكن رقعة المجهول تزايدت معها بشكل أكبر. وقد حقق الإنسان معدلات تقدم مادية مذهلة ولكن آدابه تتحدث عن نكبة الإنسان الحديث، وتحكي مدنه (بتلوثها وجرائمها) قصة مختلفة عما تقوله الإحصاءات. لكل هذا، أدركنا أن المعرفة الموضوعية النهائية هي حلم المستحيل وكابوسه، وأن التحكم الإمبريالي الموعود الذي يفترض انفصال الذات المتحكمة عن الموضوع المُتحكَّم فيه هي أضغاث أحلام.

ونحن نرى أن استخدام النماذج كأداة تحليلية قد يزيد مقدرتنا على الاحتفاظ بالحدود بين الإنسان والطبيعة، وبين الذات والموضوع، وبين الحيز الإنساني والحيز الطبيعي دون أن ينكر بالضرورة إمكانية التفاعل بينهم. كما ستساعدنا النماذج على صياغة الفروض بطريقة تجعلنا قادرين على رصد الواقع وتحليله بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية. ونحن بطبيعة الحال لا نزعم أن الباحث الذي سيستخدم النماذج التحليلية سيفلت من قبضة الاختزالية والتراكمية والكمية والواحدية الموضوعية وأن استخدام النماذج يؤدي حتماً وبالضرورة إلى رؤية تركيبية، فالنموذج نفسه يمكن أن يُصاغ بطريقة اختزالية تلغي الحيز الإنساني والفوارق بين الإنسان والطبيعة (كما سنبين فيما بعد). فكل ما نذهب إليه أن استخدام النماذج يخلق التربة الخصبة لبحث يتسم بقدر معقول من التركيب ويبتعد عن الاختزال.

الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية

الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها

النموذج: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل

كلمة «نموذج» كلمة معرَّبة، كما جاء في معاجم اللغة، من كلمة «نموذه» الفارسية، وجمعها «نموذجات» و«نماذج». ونموذج البناء نسخة مُبسَّطة مجردة من بناء، ومن ثم فهو يحتوي العناصر الأساسية للبناء ولكنه يختلف عن الأصل. وقد استُعيرت هذه الكلمة في اللغة العربية وتُستخدَم للإشارة إلى «النموذج» بوصفه أداة تحليلية ونسقاً كامناً يدرك الناس من خلاله واقعهم ويتعاملون معه ويصوغونه.

والنموذج بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل فيختار بعضها ثم يُرتبها ترتيباً خاصاً، أو يُنسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحياناً «عضوية». وطريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة، وفرديته وتفرُّده. ويتصور صاحب النموذج أن العلاقة بين عناصره تُماثل العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. ولذا، فهو يرى أنه يشكل الإطار الكلي الذي يُفسِّر تفاصيل الواقع وعلاقاته. وقد يتصوَّر البعض أن النموذج يُشاكل الواقع ولكنه في حقيقة الأمر لا يتطابق معه، فهناك فرق بين النموذج من ناحية والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى (وكلمتا «نموذج» و«نسق» مترادفتان تقريباً في هذه الموسوعة، وإن كانت كلمة «نموذج» تنطوي على قدر أعلى من الوعي(.

وهناك عدة كلمات ومصطلحات في اللغات الغربية واللغة العربية متقاربة في معناها العام، قد تختلف في مدلولاتها الضيقة ولكنها تغطي رقعة مشتركة في حقل دلالي واسع متداخل:

1ـ اللغات الغربية:

باترن pattern ـ ستركتشر structure ـ تايب type ـ موديل model ـ سيستم system ـ كونستراكتيف تايب constructive type ـ أيديال تايب ideal type ـ باراديم paradigm ـ كونفيجوريشن configuration ـ ثيوري theory ـ هايبوثيسيس hypothesis ـ ثيسيس thesis ـ سينثيسيس synthesis ـ جنرال لو general law ـ فريم وورك framework ـ بيرسبكتيف perspective.

2 ـ اللغة العربية:

نموذج ـ نمط ـ نسق ـ هيكل ـ نظرية ـ فرض أو فرضية ـ منطق ـ منظور ـ رؤية ـ جوهر ـ أصول ـ منطلقات ـ مرجعية ـ إطار مرجعي.

ولا شك في أن هناك مصطلحات أخرى في اللغات الغربية وفي اللغة العربية تتعامل مع نفس هذه الرقعة المشتركة. والسمة الأساسية المشتركة في كل هذه المصطلحات والكلمات ما يلي:

1 ـ أنها ذاتية وموضوعية في آن واحد:

أ ) الذاتية:

* ثمرة عملية تجريدية عقلية، وليس لها وجود مادي.

* غير متوحدة بظاهرة بعينها فهي تصورية.

* ليست شيئاً بعينه وإنما مجموعة علاقات أو عناصر مجردة.

* تشير إلى كلٍّ مجرد متماسك يتجاوز الأجزاء الفردية المحسوسة المتناثرة.

* تفترض قدراً من الانفصال عن الواقع الخام أو التجريبي.

ب) الموضوعية:

* تزعم كل المصطلحات أن لها علاقة بالواقع، وأنها نابعة منه (يُلاحَظ أن كلمة «واقع» هنا لا تعني بالضرورة الواقع المادي الطبيعي وحسب، فهي تشير أيضاً إلى الواقع الإنساني والاجتماعي والأخلاقي، أي «الواقع» الذي يتضمن كلاًّ من عالم المادة وعالم الرؤى).

* تفترض هذه المصطلحات أن الواقع ليس عشوائياً وأنه يتسم بقدر من الاتساق الكامن.

* يمكن القول بأن كل المصطلحات تتعامل مع النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع وتتفاعل معه.

2 ـ عنصر الزمان إما مختف من المصطلحات تماماً أو ضعيف بدرجات متفاوتة.

3 ـ لا يمكن أن يقوم الإنسان بإدراك واقعه وتنظيم ما يحيط به من ظواهر وتفاصيل إلا من خلالها، فاستخدامها حتمي.

4 ـ يُفرِّق الإنسان من خلال هذه المصطلحات بين ما هو ثابت وما هو عرضي، وبين ما هو جوهري وما هو هامشي، وبين ما هو أساسي وما هو ثانوي، وبين ما هو كلي وما هو جزئي، كما تُبيِّن العلاقات بينهما.

وسنستخدم كلمة «نموذج» للإشارة إلى هذه الرقعة المشتركة نظراً لشيوع الكلمة في الأوساط العلمية ونظراً لعدم ارتباطها بأي تعريف دقيق، أي أن صلتها بالرقعة المشتركة قوية وتَصلُح أن تكون دالاً عليها، وذلك دون أن ننسى المصطلحات الأخرى حتى نظل واعين بأن نقطتنا المرجعية هي الحقل الدلالي المشترك وليس هذا الدال أو ذاك. وعلينا أن نتبنى الكلمة وأن ننسى قدرطاقتنا المعجم الغربي حتى لا نستورد ما فيه من اضطراب وخلل وإبهام، ويكفينا ما لدينا من اضطراب وخلل وإبهام (ولا بأس من استخدام الكلمات الأخرى للإشارة إلى مدلولات أخرى).

وسنحاول تعريف النموذج كأداة تحليلية من خلال الإشارة إلى بعض سماته الأساسية:

1 ـ النموذج والتجريد:

النموذج ليس هو الحقيقة أو الواقع، وهو لا يوجد جاهزاً في الواقع، وهو ليس وجوداً عيانياً ولكنه ثمرة الملكات الفكرية (المنطقية والتخيلية) للعقل. وهو ثمرة عملية اجتهادية تجريدية مُتعمِّقة، فهو صورة عقلية ونسق فكري ونمط تَصوُّري وبنية عقلية مجردة وتمثيل رمزي للحقيقة حتى يتسنى للعقل الإنساني الوصول إلى جوانب منها (باعتبار أن المسافة لا يمكن تجاوزها تماماً، كما لا يمكن ملء كل الفراغات ولا الوصول إلى الواقع في ذاته). فالنموذج يتسم عادةً بقدر من البساطة والتجريد والوحدة والاتساق الداخلي، وهو ما يعني اختلافه عن الواقع. والهدف من التجريد هو تحرير النموذج بشكل معقول من تفرُّد الظاهرة (تأيقنها) ومن عنصري الزمان والمكان، ولذا فالنموذج له زمانه الخاص وفضاؤه الخاص ويتسم بقدر من الانغلاق والتَحدُّد وبقدر من الثبات. وكون النموذج نتاج عملية تجريدية عقلية لا يُنقص من قدره، فكل الفكر الإنساني يحوي قسطاً من التجريد، وبدون التجريد يصبح النموذج صورة فوتوغرافية غير قادرة على التفسير أو التنبؤ، ويصبح الفكر الإنساني انعكاساً أبله لكل تفاصيل الواقع المتناثرة المتعاقبة.

وبسبب تجريديته، يفتقر النموذج إلى البعد الزماني، وهو ما قد يُنقص من قيمته كأداة تحليلية، ولذا فإننا نحاول تطوير النموذج كأداة تحليلية ونتحدث لا عن «النموذج» وحسب وإنما عن «المتتالية النماذجية» أيضاً.

2 ـ النموذج والمعلومات:

النموذج كما قلنا بنية تصورية، منفصل إلى حدٍّ ما عن الزمان والمكان، واستخدامه حتمي وأساسي في مواجهة الواقع والمعلومات، فلو واجهنا الواقع والمعلومات بدونه لما فهمنا شيئاً. ولكن، هل هذا يعني إهمال المعلومات والواقع تماماً؟ الرد على هذا سيكون بطبيعة الحال بالنفي، فالمطلوب هو ألا يتحوَّل الإنسان إلى صفحة بيضاء تسجل كل شيء ببلاهة موضوعية متلقية، ولكن هذا لا يعني أن يصبح الإنسان مثل بعض الآلهة الآسيوية التي تحلم بالعالم، بحيث يصبح العالم مجرد حلم ووهم. فصياغة النموذج تبدأ في الواقع ومن خلال الاحتكاك به، ومن خلال هذا الاحتكاك والتفاعل الخلاَّق يبدأ الدارس في صياغة نموذجه. وكلما اتسعت رقعة التفاصيل المطروحة ازداد النموذج تركيبية وتفسيرية. ويمكن القول بأن الصياغة الأولية للنموذج ليست هي نهاية المطاف بل هي بداية البحث، إذ يبدأ الباحث من خلال النموذج في تنظيم المعلومات وتحديد أهميتها بحيث تتحول من مجرد معلومات متناثرة إلى أنماط متماسكة ذات معنى. فالمعلومات، إذن، أساسية في المراحل الأولية للدراسة.

بل إنها أساسـية أيضاً خلال كل مراحلها. إذ لا يستطيع الباحث أن يختبر نموذجه دون العودة للمعلومات والواقـع. كما أن المعلومات ستساعد الباحث على اكتشاف علاقة الكل بالأجزاء ومدى ترابطهما وابتعادهما. فنحن يمكننا الحديث عن «الرأسمالية» بشكل عام «نماذجي»، ولكن هذا ليست له فائدة كبيرة فمن خلال الدراسة التفصيلية سندرك الفرق بين الرأسمالية الإنجليزية والرأسمالية في الهند وبين الرأسمالية الإنجليزية في عصر المركنتالية والرأسمالية الإنجليزية في النظام العالمي الجديد. ويمكن القول بأن النموذج المركب لا يستند إلى المعلومات وحسب، بل إنه قد يولِّدها لا بمعنى أنه يخترعها (فهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال) وإنما بمعنى أنه يبرز أهمية تفاصيل كان يُظَن أنها لا أهمية لها.

3 ـ النموذج والواقع:

ينفصل النموذج عن الواقع المباشر ويتجاوزه. ولكنه، مع هذا، يتضمن مجموعة من العناصر تُشاكل العلاقة بينها (في تصوُّر صاحب النموذج) العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. وبذا، يصبح النموذج قادراً على تفسير العلاقة بين الظواهر، وعلى شرح علاقاتها الداخلية، وتفسير أثرها المتبادل، وعلى الفصل والربط بين الظواهر على أساس قد يكون جديداً تماماً بحيث يبين أوجه التشابه بين بعضها رغم الاختلاف الظاهري ويبين أن ما هو مشترك بينها أكثر أهمية مما هو مختلف. والعكس صحيح أيضاً، إذ يبين الاختلاف بين بعض الظواهر الأخرى رغم التشابه الظاهري الواضح بينها.

والنموذج، كما هو واضح، لا يسقط في الانفصال الكامل عن الواقع (حيث تصبح المسافة هوّة) أو في التطابق الكامل معه والتأيقن (حيث تُلغَى المسافة تماماً) أو في الحرفية (بمعنى أنه يمكن اجتياز المسافة تماماً). فلو تشابهت جميع الظواهر التي تنضوي تحت النموذج تشابهاً كاملاً لفقد النموذج فائدته وجدواه لأنه يُفتَرض فيه أنه يحاول أن يصنف ظواهر مختلفة تتضح وحدتها من خلال تنوعها. ولو اختلفت كل الظواهر التي تنضوي تحت نموذج ما بشكل كامل لفقد النموذج فائدته وجدواه أيضاً لأنه سيقوم بربط ظواهر لا يصح الربط بينها وباكتشاف الوحدة حيث لا وحدة. فالنموذج يتناول الظواهر التي يوجد حد أدنى مشترك أو معقول بينها، وهو ما يبرر وضعها داخل إطار تصنيفي واحد رغم اختلافها.

والنموذج عادةً لا يتحقق إلا في لحظات نماذجية نادرة، إذ أن الواقع عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وأقل تبلوراً من التركيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج، كما أن الإنسان الفرد، مهما بلغ من تسطح عادةً ما يكون ـ والحمد لله ـ أكثر تركيباً وعمقاً من النموذج المعرفي الذي يؤمن به. ولذا، فإن من النادر أن يُردَّ إنسان أو مجتمعٌ إنسانيًّ في كليته إلى النموذج المعرفي والحضاري الذي يدفعه ويحركه. فلا شك في أن الإنسان يتحرك داخل حدود مادية وإدراكية، ولكنه يظل، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، عنصراً حراً مستقلاً مسئولاً أخلاقياً عما يفعله. ونحن في رؤيتناهذه نختلف عن الباحثين الذين يستخدمون النموذج في إطار الرؤية المادية الحتمية، فهم يردُّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المادي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) الذي يحركه. كما أننا نختلف عن الباحثين المثاليين الهيجليين الذين يردّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المثالي الذي يحركه. وكلا الفريقين يُنكر على الإنسان حريته ومسئوليته الأخلاقية، ولا يرى سوى حتميات، مادية أو مثالية، اختزالية معادية للإنسان.

ونحن نستخدم النماذج المختلفة (الإنسان العادي ـ الثورة الصناعية) ونحن نعرف أنها مجرد بنَى ذهنية تصورية ولا نتوقع قط أن نقابل هذا الإنسان العادي في الواقع، فنحن ندرك أن فلاناً من الناس إنسان عادي بمعنى أنه تَحقُّق جزئي لنموذج الإنسان العادي ولكنه لا يتطابق معه تمام التطابق (إلا في بعض الحالات النادرة التي عادةً ما تثير الدهشة بسبب ندرتها). ونحن نتحدث عن «الثورة الصناعية» ونعرف تمام المعرفة أنها ليست «ثورة» على الإطلاق، وأنها لم تقع في يوم من الأيام أو في مكان من الأمكنة. إذ أننا بفطرتنا الإنسانية ندرك أن النموذج المجرد ليس هو الواقع المادي أو الإنساني المُركَّب.

ولنأخذ عصابات المافيا على سبيل المثال. جعل عضو المافيا هدفه في الحياة (النموذج الحاكم الذي يحركه) سلب الآخرين حياتهم وممتلكاتهم وأعراضهم، فهو ذئب بشري كامل، ترجمة حقيقيةلإنسان هوبز وداروين ونيتشه. ومع هذا، نجد أن عضو المافيا هذا يُبقي على علاقات التراحم مع أعضاء أسرته وعصابته وقد يُضحي بحياته من أجلهم. فالنموذج الأصغر الهامشي التراحمي الذي يتعامل المجرم من خلاله مع حياته الخاصة يتعايش مع النموذج الأكبر الرئيسي الحاكم المادي الإجرامي. وسواء أكان المجرم يدرك هذا التناقض أم لا، فهذا أمر ثانوي لا يهمنا، إذ أن ما يهمنا هو هذا التعايش في حياته اليومية. وأعضاء الجماعات الوظيفية يعيشون في مثل هذه الثنائية الصلبة التي تقترب من الثنوية، فهم متراحمون فيما بينهم، محايدون تعاقديون مع أعضاء مجتمع الأغلبية.

والمجتمعات الاشـتراكية كانت أكثر تنوعاً وحيوية وإنسانية من الرؤية الاشتراكية المادية. فالإنسان السوفيتي الفرد، رغم إخضاعه بشكل شرس لعمليات الترشيد المادية الاشتراكية، لم يكن قط ذلك الإنسان الاشتراكي الأممي الذي كانت تتحدث عنه كتب الدعاية السوفيتية. والإنسان الأمريكي الفرد، رغم خضوعه للعمليات القمعية التدجينية التي تقوم بها الإعلانات التي تهاجم أولاده ومنزله ليل نهار ولعمليات غسيل المخ التي يقوم بها الإعلام الأمريكي بطريقة مصقولة ذكية لا يعرف التاريخ لها مثيلاً، احتفظ بقدر من الإنسانية والتركيب يجعله مختلفاً عن إنسان الحلم الأمريكي والإعلانات المتكررة والأكاذيب السياسية اليومية.

وهذا التناقض يوجد أحياناً داخل الأنساق الفلسفية نفسها. والإنسان الفرد ـ كما أسلفنا ـ أكثر تركيباً من الأنساق ومن النماذج التي يؤمن بها ويروج لها. ولهذا السبب، فكثيراً ما يفزع مفكر ما من وحشية نموذجه فيضيف من الأقـوال ما يخفف من حدتها ويسـتعيد بعـض التركيبية ويضفي عليه غلالة إنسانية لا تغير عادةً من البنية الوحشية للنسق. والفكر الرومانسي، على سبيل المثال، كان محاولة لتهذيب النموذج العلماني الآلي (الميت) لإدخال بعض العناصر العضوية (الحية) التي تستعيد للإنسان استقلاليته عن الطبيعة. ومع هذا، سقط الفكر الرومانسي العضوي في الواحدية المادية. ولكل هذا، نجد أن النماذج الفلسفية لا تُفصح عن نفسها بشكل خالص أو متبلور في الواقع الاجتماعي والتاريخي الإنساني، وتظل هناك مسافة تفصل النموذج (المجرد) عن الواقع (المركب).

وهذا لا يعني أن نقرر أن النماذج (لهذا السبب) لا فائدة تُرجى منها. فهي أدوات تحليلية مفيدة طالما أدركنا بُعدها الاجتهادي، وأنها أداة تفسيرية ليس إلا، وليس لها وجود مادي موضوعي، أي إذا نحن لم نشيئها ولم نتصور أن النموذج هو الواقع. فنحن لو رفضنا النموذج كأداة تحليلية، نكون بذلك قد رفضنا محاولة الوصول إلى قدر معقول من المعرفة عن الحقيقة الكلية وسقطنا في التشظي وفي التعامل مع الجزئيات المنفصلة عن الكليات وتصوَّرنا أننا نفهمها، مع أن كل ما يحدث هو أننا نقوم بعملية وصف يُقال لها «موضوعية»، وهي في واقع الأمر عملية تسجيل عشوائية ليس لها عقل أو حتى قَدَم.

4 ـ محدودية النموذج وتحيزه:

النموذج بنية تصورية عقلية مجردة، ولذا فهو لا يمكن أن يغطي كل أجزاء الواقع مهما بلغت شموليته. وإنْ تطابق النموذج مع الواقع، أصبح هو نفسه واقعاً وفقد نماذجيته ونمطيته، وهذا يعني حتمية المسافة أو وجود مسافة بين الدال والمدلول، والسبب والنتيجة، والمدرك والمدرَك، والذات والموضوع، والفكرة والمادة. هذه المسافة تعني حتمية محدودية النموذج وقصوره، أي أنه سيظل أقل ثراءً وتركيباً من الواقع ولكنه سيظل أيضاً أكثر تركيزاً وبلورة منه. وهذا يعني أن التعامل مع الواقع من خلال نماذج يعني حتمية الانتقاء والاختيار، والإبقاء والإبعاد، أي حتمية تَحيُّز صاحب النموذج أو من يستخدمه. ولذا، فإن الموضوعية المطلقة (الخالية من أي تحيزات أو كليات أو مطلقات) أمر مستحيل من الناحية المعرفية.

ولكن تَحيُّز النموذج لا يعني العبثية والعدمية والذاتية، فالنموذج التفسيري الذي يعلن عن نفسه صراحةً يحمي المتلقي من وهم الموضوعية المطلقة إذ أن المتلقي سيدرك أن النموذج ليس هو الواقع المادي، وأن عقلاً إنسانياً قام بصياغته وبالتالي فهو يحوي حتماً عنصراً ذاتياً، وأن ثمة مسافة تفصل بين النموذج والواقع، ولذا سيأخذ المتلقي حذره وسيعرف أن ما يتلقاه ليس علماًمحايداً وإنما هو علم يحمل تحيزات صاحبه، فهو نتاج رؤية بشر.

ولكن، رغم تحيزات النموذج، فإن هذا لا ينفي أن المتلقي قد يتلقى قدراً من العلم ومن المعرفة والخبرة يؤهله للتعامل مع الواقع وفهمه وتفسيره والتنبؤ به دون أن يتحكم فيه بالضرورة. وحتى إن تَحكَّم في بعض جوانبه، فإن هذا لا يعني بالضرورة السيطرة الإمبريالية الكاملة عليه، أي أن المتلقي سيُحقق قدراً من الحرية ولكنه سيقبل أيضاً بقدر من الضرورة. كما أن بوسع المتلقي أن يختبر المقدرة التفسيرية للنموذج ضمن عملية تتم خارج ذاتية صاحب النموذج.

5 ـ حتمية استخدام النماذج:

الإدراك ـ كما أسلفنا ـ ليس مجرد عملية تسجيل لكل المعطيات الحسية التي ترد للعقل ومراكمة لها، والعقل نفسه ليـس أداة كفئاً لتحقيق ذلك، لأنه أداة محدودة مبدعة فعالة ولأن الواقع مركب فإن عملية الإدراك تصبح عملية انتقاء وصياغة، وهو ما يعني استحالة الوصول إلى المعرفة الموضوعية المطلقة أو معرفة الأسباب في علاقتها بالنتائج بشكل صارم. وهذا يعني، في واقع الأمر، حتمية استخدام النماذج إن أراد الإنسان تجاوز الرصد التوثيقي المباشر الأبله المستحيل، وإن أراد تجاوز وجوده المادي المباشر حيث يتماس الجهاز العصبي بالواقع المادي بشكل مباشر (وكأن كل المعرفة هـي مثل معـرفة الطفـل الذي لا يُدرك النار إلا باحتراق أصابعـه، وكأننا كلنا مثل كـلب بافلوف الشـهير).

ونحن نذهب إلى أننا لا نستطيع كتابة أي شيء (إلا قائمة المشتريات من البقال) بدون نموذج. فنحن لا يمكننا إدراك الواقع الخـام مبـاشرةً إذ لابد أن نتعامل معه من خلال خريطة إدراكية تُبقي وتَستبعد. فالنموذج، بهذا المعنى، مرتبط تمام الارتباط بأبسـط العمليـات الإدراكية بل بالحالة الإنسـانية نفسها وبطبيعة الإنسان؛ لا ككائن مادي طبيعي، شيء بين الأشياء، وإنما ككائن بشري أو رباني لا يخضع لمنطق الذرات والأرقام. إنه مرتبط بخروج الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة الجنينية (حيث لا تُوجَد مسافة بين المدرك والمدرَك وبين المثير والاستجابة) إلى حالة الحضارة المركبة. إن استخدام النماذج أمر حتمي للإدراك الإنساني ولإجراء أي بحث. فلو جابه الإنسان الواقع، ولو جابه الباحث موضوع بحثه بصفحة عقله المادية البيضاء، لأصابه الشلل، ولوجد نفسه مذعناً إما لنماذج الآخرين دون وعي، أو لبعض جوانب الظاهرة موضوع الإدراك والبحث، بحيث يرصدها بشكل ذري مفتت غير متماسك. وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحسن أن ننطلق من إدراك هذه الحتمية وأن نواجه الواقع بتساؤلاتنا وإشكالياتنا ونماذجنا التحليلية، مدركين ذلك تمام الإدراك، الأمر الذي سيُحسِّن أداءنا النظري والتطبيقي.

وهذه الموسوعة هي بمعنى من المعاني دراسة لحالة معيَّنة (اليهود واليهودية والصهيونية) من خلال استخدام مجموعة من النماذج المستقلة المتشابكة.

المنحنى الخاص للظاهرة

تتأرجح كثير من المناهج بين الموضوعية والذاتية، أي افتراض موضوع خالص يوجد بذاته في العالم الخارجي يمكن إدراكه بطريقة فوتوغرافية دون تشويه، أو افتراض ذات خالصة تقف مستقلة تماماً عن الموضوع، تشوه كل ما يصلها من معطيات مادية لأنها تسقط نفسها عليه.

ونحن نطرح فكرة المنحنى الخاص للظاهرة كمحاولة لتجاوز هذه الثنائية الصلبة. وتفترض هذه الفكرة وجود موضوع، ولكنه له جوانب عدة منسقة بشكل معين تمنحه تفرُّد وتجعله مستقلاً عن الكل (مستقلاً وليس منفصلاً تماماً). والعقل البشري لا يمكنه رصد الموضوع بشكل كامل فوتوغرافي، لا بسبب محدوديته وحسب وإنما بسبب مقدرته التوليدية وبسبب تركيبية الظاهرة نفسها، وأخيراً بسبب وجود كل من الظاهرة والعقل البشري داخل الزمان والمكان.

ولكن العقل البشري مع هذا قادر على إدراك الظواهر والتوصل إلى قدر معقول من المعرفة بالواقع يمكِّنه من التعامل معه، وإن كان لا يكفي للهيمنة عليه. فالعقل البشري مسلحاً بحواسه وعواطفه وذكرياته ينظر للظاهرة فيدرك بعض جوانبها بطريقة تتفق مع طريقة الآخرين في بعض جوانبها وتختلف عنهم في بعض الجوانب الأخرى. فكأن المنحنى الخاص للظاهرة ليس أمراً موضوعياً كامناً في الظاهرة تماماً ولا هو نتيجة إبداع الذات المدركة أو قصورها، وإنما هو نتيجة تفاعل بين الذات المحدودة المبدعة والموضوع المركب.

ضبط المستوى التحليلى للنموذج حسب نوعية الظاهرة موضع الدراسة

يمكن دراسة أية ظاهرة من منظـور تَفرُّدها الكامل أو من منظور عموميتها وخصائصها المشتركة مع ظواهر مماثلة. ولهذا، فإن بعض المدارس الفكرية يذهب إلى أن كل ظاهرة إنسانية ظاهرة فريدة تتحدى التصنيف والتعميم بحيث تقف الظاهرة كياناً عضوياً فريداً يشبه الأيقونة المكتفية بذاتها والتي لا تشير إلى شيء خارجها. ومن ثم، فإن فهم هذه الظاهرة أمر مستحيل إلا لمن يلتحمون بها عضوياً. ولكن حتى هؤلاء، نظراً لالتحامهم بها، هم أيضاً غير قادرين على الإفصاح عنها. ولذا فإن المعرفة في هذه الحالة لا تكون إلا معرفة إشراقية من خلال الحدس والإلهام والتخيل وحسب. كما يرى هؤلاء أن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان واقع مستمر مترابط يشبه ألوان الطيف المتداخلة. ولذا، فإن كل ما يمكن أن يفعله الإنسان أمام هذا التكامل العضوي هو أن يتقبله كما هو دون تفسير أو تجزئة.

ولكن هناك من يذهب إلى عكس ذلك فيرى الواقع من خلال مجموعة من القوانين العلمية العامة التي ترى أن الجوانب الفريدة في ظاهرة ما (ما نسميه المنحنى الخاص للظاهرة) أمر لا يستحق التسجيل أو الرصد، وإن سُجِّلت فهي لا تُعدِّل القـانون العلمي الأسـاسي القـادر على تفسير كل الظواهر عن طريق رد الأجزاء إلى الكل، والخاص إلى العام، ورد كل شيء إلى عنصر واحد أو بُعد واحد أو سبب واحد، فيصبح الواقع كله كماً واحداً لا قسمات له ولا ملامح، ولا يتسم بأي تَعيُّن أو تركيب أو خصوصية، فهو يشبه الصور النيجاتيف التي تنتجها أشعة إكس والتي لا تتسم بالجمال أو القبح، وهي صور "صادقة" و"حقيقية" ولكنها تثير الفزع.

والنموذج، كأداة تحليلية، يتسم بمقدرته على ربط الخاص بالعام، والجزء بالكل، والنتيجة بالسبب، والذات بالموضوع، دون أن يفقد أي عنصر منها شخصيته وهويته واستقلاليته، وذلك على عكس الاتجاه نحو التأيقن الذي يُسقط العام والكل، وعلى عكس فكرة القانون العام التي لا تتعامل إلا مع العام والكل، فكلاهما يُسقط المسافة الموجودة بين الكل والجزء والعام والخاص.

يحاول النموذج حل المشكلة بافتراض وجود مسافة تفصل الكل عن الأجزاء (والسبب عن النتيجة والذات عن الموضوع) بحـيث لا يمكن رد الكل إلى الجزء (فـهو كيان مجرد متجـاوز للأجزاء) ولا يمكن ردُّ الجزءفي كليته إلى الكل، إذ أن لكل ظاهرة منحناها الخاص الذي يعطيها هويتها الخاصة. فرغم أنها جزء من كل، إلا أنها ليست جزءاً عضوياً لا يتجزأ، وإنما هي جزء يتجزأ. ولذا، يحاول النموذج أن يرى ظاهرة ما في علاقتها بالظواهر الأخرى (وهذا ما يكسبها دلالتها العامة) دون إهمال استقلالها النسبي وشخصيتها المستقلة (المنحنى الخاص)، ولذا فهي لا تفقد تَعيُّنها وخصوصيتها. وينجح النموذج في إنجاز هذا عن طريق ما نسميه «تعدُّد المستويات»، وعن طريق ضبط المستوى التحليلي من ناحية التعميم (التجريد) والتخصيص (التعيُّن) بحيث يتناسـب المسـتوى التحليلي مع الظاهرة موضع الدراسة.

والنموذج حينما يتعامل مع الظواهر الإنسانية يشبه كلاًّ من الاسكتش المجرد العام والصورة الزيتية وحينما يتعامل مع الظواهر الطبيعية فهو يشبه كلاًّ من الصورة الفوتوغرافية وأشعة إكس، فالنماذج ليست جميعها على نفس مستوى التعميم أو القدرة على التفسير، فنموذج "الحضارة الغربية الحديثة" على سبيل المثال (مقابل الحضارة الغربية التقليدية أو الحضارة اليابانية الحديثة) يتمتع بمستوى عال من التعميم والتجريد فهو يغطي رقعة كبيرة من الأزمنة والأمكنة. لكن هذه الرقعة تتقلص حينما نتعامل مع نموذج "الحضارة الإنجليزية الحديثة" وتزداد تقلصاً حينما نتحدث عن "الحضارة الإنجليزية في القرن التاسع عشر" إلى أن نصل إلى "حضارة أو ثقافة سكان مدينة مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر" وحينما نتحدث عن نموذج حياة النحل فنحن نسقط الزمان والمكان بشكل شبه كامل تقريباً. وزيادة الرقعة الزمانية أو المكانية لا يُنقص المقدرة التفسيرية للنموذج ولا يزيدها وإنما يُغيِّر مجاله وحسب. وكلما ازدادت درجة عمومية النموذج والمستوى الحضاري ازدادت مقدرته التفسيرية في المجالات الحضارية التي لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتفاصيل التجريبية أو بحقبة زمانية محدَّدة (مثل مفهوم الشكل عند الإنسان الغربي). ولكن هذه المقدرة نفسها تتناقص في الوقت نفسه في مجال التفاصيل التجريبية المرتبطة بمكان محدَّد وحقبة زمنية محدَّدة (زيادة معدلات الجريمة في مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر) إلى أن تنعدم تقريباً حينما نأتي للظواهر الطبيعية. والعكس صحيح أيضاً، فكلما ازدادت درجة خصوصية النموذج يضيق نطاقه، وتزداد مقدرته التفسيرية في مجال التفاصيل التجريبية وتَضعُف في مجال الظواهر الحضارية. فمستوى التعميم والتخصيص لنموذج ما يحدِّدان نوعية التفاصيل أو الظواهر التي يمكن التعامل معها من خـلاله. ولا يمـكن مثلاً تفسـير تزايد الجـريمة في مانشستر بالحــديث عن أزمة الحضارة الغربية، كما لا يمكن استخدام تزايد الجريمة في مانشستر (وهو دليل واحد فحسب) برهاناً على أزمة الحضارة الغربية الحديثة!

ويمكن أن يتحرك النموذج في إطار السببية الصلبة التي تسود عالم الأشياء وفي إطار السببية الفضفاضة الاحتمالية التي تقبل بوجود مسافة بين السبب والنتيجة بسبب وجود عناصر كثيرة لايمكن إدخالها شبكة السببية. ولهذا السبب فإن السببية الفضفاضة (التي لا يمكن دراسة ظاهرة الإنسان بدونها) تخلق حيزاً للحركة وللفعل الذي يُلغي الحتمية ويجعل التنبؤ العلمي الصارم أمراً مستحيلاً وتوقعاً طفولياً. فعالم الإنسانيات الذي يستخدم النماذج مثله مثل عالم الطبيعة الذي يجري تجارب على الضوء ولكنه لا يعرف ماهية هذا الضوء: هل هي موجـات أم ذرات؟ وإذا كان الضـوء (وهو في نهاية الأمر ظـاهرة طبيعية) بهذا التركيب وبهـذه الدرجـة من المراوغة، فما بالك بالإنسان، ذلك المجهول الذي يحمل داخله أحلاماً وذكريات وحضارة وتاريخاً وخيراً وشـراً لا يعلم كنهها إلا الله!

ومفهوم السببية مرتبط تمام الارتباط بدرجة اليقين التي يحاول الباحث أن يصل إليها، فإن كان الباحث يتعامل مع حقائق رياضية فهو سيصوغ نماذج رياضية (تستبعد الفاعل الإنساني تماماً وتلغي الحيز الإنساني) لتتعامل مع الكم وحسب ولذا يمكن الوصول إلى درجات عالية من اليقين، والشيء نفسه ينطبق على الحقائق الطبيعية/المادية. ولكن حين يتعامل الباحث مع حقائق إنسانية فهو سيصوغ نماذج مركبة ولذا فالنتائج التي سيتوصل إليها لن تتمتع بقدر عال من اليقينية وستكون أكثر احتمالية وتقريبية.

ويمكن أن يتجاوز النموذج الزمان ولكن يمكنه أيضاً أن يُقدِّم تصوراً للزمان لا باعتباره أحداثاً متتالية متراصة صلبة، وإنما باعتباره أحداثاً واقعة وإمكانات كامنة، وباعتبارها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تفصلها ثغرات وانقطاعات تشكل مجال الحرية الإنسانية. ولذا، يسمح النموذج لمن يستخدمه برصد الماضي والحاضر والمستقبل ما هو ظاهر وما هو باطن وما هو قائم وما هو ممكن.

ويمكن القول بأن النماذج التفسيرية يمكن أن تكون قانوناً عاماً أو نظرية كلية صارمة تُفسِّر الظواهر الطبيعية، ولكن بوسعها أن تبتعد عن فكرة القانون العام أو النظرية الكلية التي تحاول أن تشرح كل شيء، ومن ثم تصبح أقرب إلى الفرض العلمي، ولكنه فرض لن تتم البرهنة عليه أو تفنيده، بل هو فرض دائم ـ إن صح التعبير ـ يُستخدَم لدراسة بعض جوانب الواقع والأنماط المتكررة فيه. والنماذج التفسيرية التي تُستخدَم لتفسير ظاهر الإنسان تُشبه الصور المجازية من بعض الوجوه في وظيفتها الإدراكية والتفسيرية. فالصورة المجازية، مثل النموذج التفسيري، جزء من العملية الإدراكية ومن نسيج لغة البشر (وليست مجرد زخرفة تضاف هنا وهناك). ويلجأ الإنسان للتعبير المجازي ليكتشف علاقة غامضة مركبة في الواقع أو عناصر لا محدودة لا يمكنه الإمساك بها، ومع هذا فهو يشعر بوجودها من خلال تجلياتها المادية المُتقطِّعة التي لا تتبع نمطاً واضحاً (علاقات: الجزء الملموس بالكل المُتصوَّر ـ الإنسان بالإله ـ المعلوم بالمجهول ـالمحدود بغير المحدود ـ النسبي بالمطلق ـ الماضي بالمستقبل)، أو يلجأ للتعبير عن أحاسيس عميقة يشعر المرء أن اللغة النثرية المعتادة لا تكفي للإفصاح عنها (تماماً مثل الرصد المتلقي المباشر في حالة الظواهر المركبة) فيصوغ صـورة مجــازية هي في جوهـرها ربط للمعـروف بغير المعروف واكتشاف للعناصر الرئيسية في الواقع وإبرازها، وهذه هي أيضاً طريقة النموذج في الرصد والتفسير.

وباختصار شـديد، يمكن أن نقـول إن النموذج أداة تفسيرية تَصلُح لتفسير كل من الظواهر الطبيعية والإنسانية، تَصدُر عن تَفهُّم لمحدودية الإدراك البشري في رصد الواقع الطبيعي والإنساني. ولكن النموذج مع هذا لا يسقط في العبثية أو العدمية بسبب هذه المحدودية فهو أداة تستند إلى الإيمان بالمقدرة الإبداعية للعقل البشري على صياغة نماذج مركبة فضفاضة يمكنها تفسير الواقع المركب الحركي خارج إطار الحتميات المطلقة والسـببيات الصـلبة والمطلقة والوحدة الصـارمة. وغنيٌّ عن القـول أن فكر ما بعد الحـداثة يرفض فكـرة النماذج تماماً.

ويجب الانتباه إلى أن النموذج، كأداة تحليلية، لا يؤدي حتماً إلى الإدراك المركب وتشغيل الخيال، فهناك دائماً من يصوغ نماذج تحليلية بسيطة واختزالية. وهناك كذلك خطورة تشيؤ النموذج. فبعض الباحثين قد يغفل عن حقيقة أن النموذج أداة إدراكية، تماماً مثل الصور المجازية، ويتصور أن النموذج هو الواقع فينقض على الواقع مسلحاً بنموذجه ويقوم بجمع المعطيات المادية التي تؤيد رؤيته المسبقة. كل ما نؤكده هنا هو أن النموذج يخلق تربة خصبة (ارتباطاً اختيارياً) لمن يريد تجاوز الواحدية السببية والاختزالية، ولمن يريد أن يرصد الظواهر الإنسانية دون اختزال الحيز الإنساني أو الحيز الطبيعي. (وهو ما نحاول إنجازه في هذه الموسوعة).

وظيفة النموذج

من أهم وظائف النموذج وظيفته الإدراكية الإنسانية الفطرية، فهو يحتوي على رؤية الإنسان للكون (مسلماته الكلية) التي يرتب الحقائق وينظم المعلومات على أساسها، وذلك أثناء أبسط عمليات الإدراك. فكأن وظيفة النموذج هنا وظيفة فطرية، ومن ثم يمكن تسمية النموذج من حيث هو أمر فطري «النموذج الإدراكي». فنحن حين نقول إن فلاناً «دمنهوري» أو «بريطاني» فنحن في واقع الأمر نستدعي صورة ذهنية تؤكد بعض الصفات وتستبعد صفات أخرى. ويمكن القول بأن كل المناهج البحثية تستخدم فكرة النموذج بشكل شبه واع أو غير واعٍ، فكل نص إنساني، مهما بلغت سطحيته أو عمقه، يحتوي على نموذج ما (بمعنى رؤية للكون). فدراسة ماركس للمجتمع الغربي تدور حول نموذج «الرأسمالية الرشيدة» (رغم أنه لم يستخدم المصطلح)، وأي كتابتاريخ يستخدم نماذج تحليلية مثل «الثورة الصناعية» أو «عصر النهضة»، فهذه ليست وقائـع إمبريقية، وإنما هي مفهـوم أو صورة مجازية تضم ما يتصوره الباحثون السـمات العامة لهذه الثورة أو ذلك العصر.

ولكننا نضع مقابل هذا النموذج الإدراكي (غير الواعي أو شبه الواعي) ما نسميه «النموذج التفسيري التحليلي» وهو النموذج الذي يصوغه باحث ما بشكل واع ليقوم من خلاله بتحليل الظواهر، أي أنه يحوِّل النشاط غير الواعي إلى عملية واعية بذاتها وبالإجراءات اللازم اتباعها. وبهذا المعنى تكون الدراسة من خلال النموذج (أداة) لا تُشكِّل قطيعة معرفية مع المناهج القائمة بقدر ما تُشكِّل محاولة للتنبيه على أهمية شيء قائم بالفعل، ربما على مستوى الكمون (أو شبكة العلاقات التي تشكل ماهية الشيء)، ثم نضع مقابل كل هذا البنية، وهي النموذج كما يتبدَّى في نص أو ظاهرة ما، خارج عملية الإدراك.

إن النماذج (كأداة واعية) تندرج في إطار ما يُسمَّى «المنهج العلمي»، أي النسق المفاهيمي والنظري الذي يُنظم الحقائق والظواهر المتناثرة، ويربط بعضها ببعض. وثمة إجماع على أن العلمعملية فكرية لا تتوقف عند وصف الظواهر، وإنما تحاول أن تصل إلى النمط الكامن وراءها لتكشف العلاقات الضرورية القائمة بين الظواهر وبين الأحداث التي تلازمها أو تسبقها. وبعد عملية الكشف يقوم الباحث بصياغة تعميمات قابلة للتحقيق ترتبط بمجموعة أخرى من التعميمات التي تمت مراكمتها من قبل. هذه التعميمات تساعدنا على التنبؤ بالطريقة التي ستعمل بها الظاهرة في المستقبل، ويُقال أيضاً إن الهدف النهائي من العلم هو التحكم. ومسلمات العلم ثلاث: الحتمية (أن هناك نظاماً معيَّناً في الكون)، والاطَّراد (أن نظام الكون مطَّرد)، والوصفية أو الحسية في المعرفة (أن معرفتنا لهذا النظام لا تتأتى عن طريق آخر غير الملاحظة والخبرة الحسية). والدراسة من خلال النماذج تدور في هذا الإطار وتقبل بهذه الأهداف والمسلمات، ولكنها تتيح فرصة توسيع نطاق الأهداف وتفسير المسلمات بطريقة تسمح بأن نفرِّق بين النماذج التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الإنسانية، وتلك التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الطبيعية. فنحن نؤمن بوحدة العلوم (لا بواحديتها) بمعنى أن ثمة إجراءات عامة تُستخدَم في عملية تحصيل المعرفة، ولكن ثمة اختلافات جوهرية بين معرفتنا بسلوك النحل والبقر ومعرفتنا بسلوك البشر. ومن ثم رغم الوحدة العامة المبدئية، ثمة فروق منهجية أساسية. ولكننا سنؤكد الاختلافات ونتعامل معها بالتفصيل على حساب الوحدة، لأن العلوم الإنسانية تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية، ومن ثم يسيطر عليها الواحدية. وكل هذا هو جزء من دفاعنا عن الإنسان.

النســـق

كلمة «نسق» مصطلح يكاد يكون مرادفاً لكلمة «نموذج» وإن كانت الكلمة الأخيرة تحمل قدراً أعلى من الوعي والتركيب والانفصال عن الذات.

المنظومــة

كلمة «منظومة» تكاد تكون مترادفة مع كلمة «نسق».

الإشكاليــة

«إشكالية» ترجمة لكلمة «بروبليماتيك problematic» الإنجليزية. وهي من «شَكَل الأمر شكولاً» بمعنى «التبس». و«المشكلة» أو «المُشكل» هي «الأمر الصعب الملتبس». وفي علم الاجتماع «المشكلة» هي "ظاهرة تتكون من عدة أحداث أو وقائع متشابكة وممتزجة بعضها بالبعض لفترة من الوقت ويكتنفها الغموض واللبس، تواجه الفرد أو الجماعة ويصعب حلها قبل معرفة أسبابها والظروف المحيطة بها وتحليلها للوصول إلى اتخاذ قرار بشأنها". و«الإشكال»، في قانون المرافعات، هو «الأمر الذي يوجب التباساً في الفهم». ويبدو أنه تم اختيار كلمة «إشكالية»، مؤنث «إشكال»، قياساً على كلمتي «مشكلة» و«مُشكل».

ومجموعة الكلمات هذه تؤكد عنصري الالتباس والتشابك بين العناصر، أي أنها تؤكد تركيبية الظواهر وتشابك عناصرها. وهي علاوة على هذا تؤكد ذاتية الإدراك، فالالتباس شيء يحدثللإنسان المدرك وليس للشيء المدرَك. كل هذا يبتعد بهذه الكلمات عن عملية الرصد الموضوعي ويقترب بها من عمليات الرصد من خلال نماذج حيث لا يوجد انفصال بين الذات والموضوع.

وكلمة «إشكالية» (بروبليماتيك) كلمة ثرية تعني «سمة حكم أو قضية قد تكون صحيحة لكن الذي يتحدث لا يؤكدها صراحةً» ويضرب مثلٌ على ذلك موقف العقل من القضايا الأولية التي تشكل قضية شرطية أو قطعية: "إما أن يكون العالم نتاج مصادفة، وإما أن يكون نتاج ضرورة داخلية". كما أن كلمة «إشكالية» تؤكد العنصر الذاتي، فإذا كانت المشكلة موجودة في الواقع، فالإشكالية يصوغها عقل الإنسان. وأخيراً تؤكد كلمة «إشكالية» أن القضية موضع الدراسة ذات طابع فكري وأن حلها ليس سهلاً ولا يمكن أن يكون نهائياً أو قاطعاً.

ويمكن القول بأنه حينما يواجه المرء ظاهرة أو موضوع ما يتسم بقدر من التركيب فإنه يجد نفسه مضطراً لصياغة الإشكالية ومجموعة الأسئلة التي يتصور أنه سيمكنه عن طريقها تفكيك الظاهرة وإعادة تركيبها حسب نموذجه التصنيفي والتفسيري. وهو إن لم يضع الإشكاليات ولم يطرح الأسئلة فإنه إما أن يبتلعه الموضوع تماماً أو يظل قابعاً داخل ذاتيته لا يبرحها.

وهذه الموسوعة هي دراسة لظاهرة اليهود واليهودية والصهيونية من خلال نماذج، ولذا تبدأ بصياغة الإشكاليات ثم تأتي بالنماذج التفسيرية الملائمة، وهذا تعبير عن محاولة الفكاك من أسر كل من الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية المادية وصولاً إلى مستوى تحليلي قد يكون أقل يقينية ولكنه يطمح أن يكون أكثر تفسيرية. والمجلد الأول (الإطار النظري) يطرح إشكالية الطبيعي والإنساني، والموضوعي والذاتي، والكلي والجزئي ثم يقدم فكرة النموذج حلاً لها. والمجلد الثاني يتعامل مع الإشكاليات الأساسية الخاصة بالجماعات اليهودية. ولا يختلف الأمر كثيراً بخصوص المجلدات الخاصة باليهودية والصهيونية وإسرائيل، إذ يبدأ كل مجلد بمجموعة من الأبواب تطرح فيها الإشكاليات الأساسية التي تدور حول موضوع المجلد ثم يرد في بقية الأبواب النماذج التفسيرية الملائمة التي نتصور أنها ذات مقدرة تفسيرة عالية.

فـكر وأفكــار

نميز في هذه الموسوعة بين «الفكر» و«الأفكار»، فكلمة «فكر» ـ في تصوُّرنا ـ تشير إلى منظومة من الأفكار مترابطة من خلال نموذج معرفي كامن فيها، أما «الأفكار» فهي مجموعة من الأفكار لا يربطها سوى رباط سطحي براني.

وحينما يتعامل الإنسان مع الأفكار (وليس مع الفكر) يهمل النموذج المعرفي الكامن وراء الأفكار فيقوم بنقلها أو تناولها دون إدراك لأبعادها المعرفية (الكلية والنهائية)، ومن ثم يختفي المنظورالنقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة جنباً إلى جنب بسهولة ويسر ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي.

النماذجـــى

«النماذجي» كلمة تم توليدها من كلمة «نموذج». والنماذجي هو ما يُعبِّر عن جوهر النموذج ومنطقه الأساسي ويتحقق فيه النموذج. وقد فضلنا استخدام كلمة «نماذجي» بالنسب إلى صيغة الجمع على استخدام كلمة «نموذجي» بالنسب إلى الصيغة المفردة للكلمة، وذلك لأننا حينما نقول «اللحظة النموذجية» قد نتوهم أن كلمة «نموذجية» تعني «مثالية» (كما في قولنا «المدرسةالنموذجية»). وتأكيداً على هذا البُعد التحليلي لمفهوم النموذج، فإننا نُفضِّل في سياقنا استخدام كلمة «نماذجية» على كلمة «نموذجية» الأكثر شيوعاً واستقراراً.

المتتالية النماذجية

يتسم النموذج، كأداة تحليلية، بأنه يكاد يكون خالياً من الزمان، كما يتسم بشيء من السكون. ولكن عنصر الزمان يمكن أن يدخل عليه، ومن ثم فإنه يأخذ شكل متتالية متعددة الحلقات تتحقق تدريجياً عبر الزمان.

والمتتالية، مثل النموذج، رؤية تَصوُّرية نماذجية جردها عقل الإنسان من ملاحظته للظواهر في نموها وتطورها عَبْر حلقات مختلفة أو تَطوُّرها من خلال عملية عقلية تصورية. وقد استخدمنا مفهوم المتتالية النماذجية في دراستنا لتطور الصهيونية (من صهيونية غير يهودية إلى صهيونية توطينية إلى صهيونية استيطانية)، وفي دراستنا للانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة، ومن مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة.

اللحظة النماذجية

يأخذ النموذج عادةً شكل متتالية متعددة الحلقات تتحقق تدريجياً عبر الزمان. ويصل النموذج إلى أقصى درجات تحققه في آخر السلسلة. والنموذج في العادة لا يتحقق أبداً إذ أن الواقع يكون عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وعمقاً وأقل تبلوراً من المتتالية النماذجـية التي تُوجِّه فرداً أو مجـتمعاً ومن التركـيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج.

ومع هذا، فإن هناك لحظات نادرة قد يفصح فيها النموذج عن مرجعيته النهائية إفصاحاً كاملاً في كتابات الفيلسوف صاحب النموذج أو في ممارسات من يحاولون وضع هذا النموذج موضعالتنفيذ أو بعد اكتمال حلقات المتتالية التي تُعبِّر عن تَجلِّي النموذج في التاريخ. هذه اللحظة النماذجية النادرة (والنهائية) هي ما نسميه "لحظة تَعيُّن النموذج وتبلوره". وهذه اللحظة ـ رغم ندرتها ـ تُعبِّر عن جوهر النموذج أكثر من اللحظات الأخرى. وقد تحدث هذه اللحظة فجأة قبل اكتمال المتتالية. وقد لا تحدث هذه اللحظة أبداً. ولكن افتراضها، مع هذا، أمر مهم من الناحية التحليلية، إذ أنه سيمكِّن الباحث من تَخيُّل ما هو قائم وما يمكن أن يكون إن تحققت الظروف المثالية (التي قد لا تتحقق أبداً)، وهي عملية تخيلية توضح للباحث جوهر النموذج ومنطقه وتساعده على رصد الواقع بطريقة ذكية، كما تساعده على ترتيب تفاصيله في إطار ما هو مهم وما هو أقل أهمية، وفي تَجاوُز الموضوعية المتلقية.

وعادةً ما يحاول حملة نموذج ما أن يُهِّمشوا اللحظة النماذجية الكاشفة الدالة باعتبارها مجرد انحراف عن الجوهر (كما تفعل الحضارة الغربية مع اللحظة النازية). ويمكن للدارس من خلالعملية التفكيك وإعادة التركيب المتأنية أن يكشف طبيعة النموذج، ومن ثم علاقته الوثيقة (بل العضوية) باللحظة النماذجية. ودراسة اللحظة النماذجية ـ من هذا المنظور ـ لا تختلف كثيراً عن دراسة الحالة، ولكنها حالة نماذجية. وإذا كانت دراسة الحالة العادية، هي دراسة لحالة ممثِّلة متكررة، فإن دراسة الحالة أو اللحظة النماذجية هي أيضاً دراسة لحالة ممثِّلة، وإن كانت فريدة، وهي ممثِّلة لا بالرغم من تفرُّدها، وإنما بسببها. وهذا لا يختلف كثيراً عن دراستنا لشخصيات نماذجية، ترمز لعصر أو لفكرة. ففاوستوس رمز عصر النهضة والحلم الإنساني الهيوماني بابتلاع العالم وكل المعرفة (ورمز الخوف من هذا الطموح في آن واحد)، وفرانكنشتاين رمز الخوف الإنساني من العقل المادي والتكنولوجيا. أما الكاوبوي فهو رمز الإنسان الذي يخرج إلى الواقعالإنساني فلا يُفرِّق بين الإنساني والطبيعي ويحسم كل مشاكله بفوهة البندقية، فيصيد البقر ويصرع الهنود بنفس البساطة والحس العملي الذي يتجاوز سائر المنظومات الأخلاقية! وهتلر نفسه أصبح رمزاً للعقل الإمبريالي المادي، والسوبرمان (superman) النيتشوي الذي يتألَّه ويمنح الحياة ويقرر الموت ويقرر ما هو الخير وما هو الشر. أما أيخمان فقد أصبح رمزاً للجلاد البيروقراطي، السبمان (subman) ما دون الإنسان، الذي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر دون أي تساؤل. وقد استخدمنا مفهوم اللحظة النماذجية في هذه الموسوعة، وبخاصة في دراستنا للنازية.

البنيـــة

«البنية» شبكة العلاقات القائمة في الواقع التي قد يعقلها الإنسان ويجردها بعد ملاحظته للواقع في كل علاقاته المتشابكة، ويرى أنها تربط بين عناصر الكـل الواقعـي أو تجْمع أجزاءه، وأنها القانون الذي يضبط هذه العلاقات ولكنه قد لا يدركها على الإطلاق. ومن ثم فالبنية، كما تتبدَّى في عقل الإنسان، ليست ذاتية ولا موضوعية تماماً. هذا لا يعني أن البنية مجرد "إدراك" لشبكة العلاقات ونموذج عقلي يجرده الإنسان، وإنما هي كل من "الإدراك" (الذاتي) و"الشبكة" (الموضوعية)، أي أن البنية، إلى جانب وجودها الذاتي في العقل، لها وجود موضوعي في الواقع، قد يدرك الإنسان معظم أو بعض جوانبه، وقد لا يدرك أياً منها.

وقد يكون من المفيد التمييز بين «البنية السطحية» و«البنية العميقة»، فالبنية السطحية هي هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشيء وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتُضفي عليها خصوصيتها. وعادةً ما يعي كثير من الدارسين البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيّسر ويتم بالحواس الخمسة، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس. وكثيراً ما يعيش البشر داخل بنى اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستبطنونها فتؤثر في سلوكهم وتشكِّل رؤيتهم للكون وتُحدِّد خطابهم الحضاري دون وعي منهم. ومن ثم، فإن ثمة فارقاً بين «البنية» من جهة، و«النية» و«النموذج» الذي يحرك المرء ويحدد سلوكه من جهة، فقد تَخلُص النية ولكنـها تتعارض مع قوانين البنـية، ولذا قد يجد المرء نفسـه يسلك سلوكاً يختلف تماماً عما نواه.

وحينما نقول في هذه الموسوعة "إن هذا الشيء لصيق ببنية المجتمع" فإننا نعني أنه جزء جوهري وليس عرضياً منه، حتى لو لم يدرك أعضاء المجتمع هذه الحقيقة. وترد عبارات مثل «معاداة اليهود البنيوية»، بمعنى أن بنية العلاقات في المجتمع، كما تشكلت، تؤدي إلى العداء لليهود، بغض النظر عن نوايا أعضاء المجتمع والقائمين عليه والنماذج المعرفية التي يحملونها. كما أن عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» تعني أن «بنية اليهودية» ليست كلاً عضوياً متكاملاً متجانساً، وإنما مجموعة من الطبقات الجيولوجية المتراكمة المتجاورة غير المتفاعلة، وأن هذا التركيب لا علاقة له بإرادة اليهود أو نيتهم أو ادعاءاتهم أو الديباجات التي يستخدمونها. وعبارة «إحلالية المجتمع الصهيوني» تعني أنه تجمُّع إحلالي بحكم تكوينه وبنيته، وأنه كي تكون إسرائيل فلابد أن يُنفى كل الفلسطينيين أو على الأقل عدد كبير منهم. وثمة فارق بين بنية الشيء وتاريخه ووظيفته. فتاريخ الشيء هو سببه (أصوله ـ عوامل تكوينه ـ مضمونه) أما وظيفته فهي النتيجة (دوره في المجتمع ـ احتكاكه بعناصر الواقع)، أما البنية فهي تركيب الشـيء في لحظـة محدَّدة. والفـارق بين «النمـوذج» و«البنية» قد يكون طفيفاً أحياناً، وقد يتطابق الاثنان تمامالتطابق، ولكنهما قد يفترقان تماماً بل يتصارعان.

ويمكن أن نضرب مثلاً على الانفصال الكامل بين النموذج والبنية. إن سألنا ربة البيت: ماذا تعملين يا سيدتي؟ سيكون ردها "لا شيء"، فهذا هو النموذج الذي تؤمن به ويحركها. ولكنها مع نهاية اليوم ستكون منهكة تماماً من أثر ما قامت به من "أعمال". وإن دققنا قليلاً لاكتشفنا أن النموذج الذي تدرك هذه المرأة الواقع من خلاله قد عرَّف العمل بأنه ما يتم أداؤه في رقعة الحياة العامة شريطة أن يتقاضى عنه الإنسان أجراً، أما ما يتم في رقعة الحياة الخاصة وما لا يتقاضى عنه أجراً فهو ليس عملاً، رغم أن ربة البيت هذه قضت سحابة يومها تعمل (تنشئة الأطفال ـ الطبخ ـ تنظيف المنزل... إلخ)، أي أن بنية واقعها متناقضة تماماً مع نموذجها المعرفي والإدراكي.

وحينما توصلت الحضارة الغربية إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فهي قد توصلت إلى نموذج معرفي لا علاقة له ببنية الواقع في فلسطين (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). ويتبدَّى هذا في وعد بلفور الذي أشار إلى شعب فلسطين باعتباره «الجماعات غير اليهودية»، وما حدث في فلسطين منذ ذلك التاريخ هو إعادة صياغة العلاقات القائمة في الواقع (بنيته) حتى يتفق النموذج المعرفي مع البنية. وهو ما حدث إلى حدٍّ ما مع ظهور كتلة بشرية استيطانية احتلت فلسطين وطردت كثيراً من سكانها، ولكن التطابق ليس كاملاً، ومن يقاوم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يقول في واقع الأمر إن بنية العنف والظلم التي تشكلت في الواقع ليست نهائية، فنحن نحمل نموذجاً معرفياً أكثر إنسانية وأكثر عدلاً من النموذج السائد في الوقت الحاضر. ونحن نهدف إلى تغيير بنية العلاقات في الواقع، فنقيم العدل في الأرض ونحقق السلام الشامل الدائم المبني على العدل.

ونحن نستخدم أحياناً كلمة «نسق» و«منظومة» لنؤكد انفصال «النمـوذج» عن الذات تماماً كما نفعل مع «البنـية» ولعل الفارق بين هذه المفردات أن كلمتي «نسق» و«منظومة» تتعاملانبالدرجة الأولى مع عالم الفكر المترابط متمثلاً في العلاقات السائدة في المجتمع. أما البنية فتتعامل بالدرجة الأولى مع العلاقات السائدة في المجتمع إما باعـتبارها تعبيراً عـن نموذج معـرفي أو باعتبارها كياناً موضوعياً يعبِّر عن نموذج ما لم ندرك طبيعته بعد. فالبنية تؤكد عنصر انفـصال «النمـوذج» تماماً عن الذات، دون التركيبية.

كما أننا نتحدث أحياناً عن «بنية الفكر» أو «بنية النموذج»، ونحن في هذه الحالة لا نتحدث عن علاقات في الواقع وإنما عن طريقة ترابط الأفكار داخل نموذج ما، وما هو جوهري منها وما هو عرضي (بغض النظر عن رؤية حامل النموذج). فبعض المؤمنين بالأيديولوجية النازية كانوا يؤمنون بأن جوهر النازية هو رسالتها الحضارية لتوحيد العالم وسيادة الجنس الآري باعتباره أمراً يخدم صالح البشرية جمعاء، أما ما تم من عنصرية وإبادية فهي أمور عرضية، أو أمور استبعدها النموذج تماماً. والصهاينة كانوا يتحدثون عن عودة اليهود إلى وطنهم القومي، وهذا هو جوهر الفكر الصهيوني والنموذج المعرفي الصهيوني. أما طَرْد الفلسطينيين والمذابح التي ارتكبت ضدهم فقد تم التزامه الصمت تجاهها باعتبارها غير موجودة أساساً أو أمراً تافهاً عرضياً مع أن طرد العرب هو جزء جوهري من النموذج، لا يمكن أن يتحقق دونه.

النموذج والأقوال (والنوايا)

النموذج أداة تحليلية يتمكن الدارس من خلالها من الاقتراب من جوهر الظاهرة بحيث يمكنه أن يعرف ما هو جوهري فيها وما هو فرعي، وما هو نماذجي وما هو عرضي. ونحن نطلق على ما هو عرضي اصطلاح «قول» أو «أقوال» بمعنى أنها مجرد كلمات زخرفية لا تُعبِّر عن حقيقة النموذج. ولكن ثمة مشكلة عميقة تواجهنا أثناء التحليل النماذجي لظاهرة ما أو لنص ما، وهو وجود عناصر نرى أنها لا تتفق مع جوهر هذا النص أو الظاهرة مع أنها "موجودة" بالفعل. ولنضرب مثلاً بالإمبريالية والصهيونية: الصهيونية والإمبريالية حركتان سياسيتان تهدفان إلى اغتصاب أرض الآخر وإلى إبادته أو طرده أو تسخيره. ومع هذا كان الإنسان الغربي يتحدث عن العبء الحضاري الواقع على كاهله (بالإنجليزية: وايت مانز بردين white man's burden) أو رسالته الحضارية (بالفرنسية: مسيون سيفيلاتريس mission civilatrice)، وعن رغبته العارمة في أن يُحضر النور إلى الشرق ليبدد الظلمات. وكان الصهاينة كثيراً ما يثرثرون عن: التعاون مع إخوتهم العرب وضرورة مساعدة الشرق على النهوض، وتحقيق الحلم الصهيوني دون إلحاق أي أذى بالعرب. بل كانوا يزعمون أن بالإمكان إقناع العرب بالطرق الديموقراطية بمشروعية الحلم الصهيوني. ولا تزال الدعاية الصهيونية مستمرة في هذه الثرثرة وفي تلك المزاعم. ومع خطاب ألقاه رئيس للولايات المتحدة أثناء حرب الخليج، تَحوَّل الاستعمار العالمي (القديم) الذي ينهب العالم بطريقة منهجية منظمة إلى نظام عالمي جديد يحاول إقامة العدل.

فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر أن العنف والاستغلال والبطش هي السـمات النماذجية الإمبريالية والصهيونية، وأن ما قد تدعيانه من تسامح، بل ما قد تقومان به من أفعال خيِّرة لا يشكل الجوهر، فهو مجرد "قول" أو "أقوال"؟

أعتقد أن بالإمكان إزالة اللبس عن طريق خطوتين:

1 ـ من الداخل: بالعودة إلى طبيعة النموذج ومرجعيته النهائية (الكامنة الحاكمة) ومنطقه الداخلي الحاكم. فنُصنِّف ما لا يتفق مع النموذج ولا يتفق مع مرجعيته النهائية الحاكمة باعتباره مجرد أقوال زخرفية وديباجات ليس لها أية دلالة أو مقدرة تفسيرية، أو باعتبار أن دلالتها ضعيفة ومقدرتها التفسيرية جزئية، بمعنى أنها قد تفسر عدداً من العناصر ولكنها ستترك العدد الأكبر دون تفسير. أما ما يتفق مع المرجعية الحاكمة والمنطق الداخلي فهو صاحب الدلالة والمقدرة التفسيرية والمركزية.

2 ـ من الخارج: بالعودة إلى تجليات النموذج وتَحقُّقه الفعلي في بنية العلاقات وعلاقات القوة، إذ أن هذا سيساعدنا على التمييز بين ما هو أصلي وجوهري وما هو فرعي وعرضي وزخرفي.

إن طبقنا هذا على الإمبريالية العالمية، وجدنا أن منطق داروين يُعلي من شأن القوة ويتقبلها معيارية نهائية، ولذا ليس من السهل تصوُّر أن النظام الاستعماري القديم سيغير طبيعته بتغيير اسمه إلى «النظام العالمي الجديد». كما أن تاريخ النظام الاستعماري القديم وممارسات النظام العالمي الجديد وبنيته تبيِّن حقيقة الاستمرارية بين هذين النظامين.

ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الصهيونية بالنظر للمنطق الداخلي للأيديولوجية الصهيونية، فالصهيونية التي تدَّعي أنها حركة تحرير الشعب اليهودي تعني في واقع الأمر نقل عدد من يهود العالم إلى فلسطين ليستأنفوا تاريخهم الذي توقف مع هدم الهيكل منذ ألفي عام (حسب الإذعان الصهيوني). لكن هذه المجموعة ستشغل ولا شك حيزاً مكانياً لتستأنف فيه تاريخها الذي توقف، وهو حيز يشغله آخرون. وهذا ما يعني أن المنطق الداخلي هو ضرورة طرد هؤلاء الآخرين. كما أن الممارسة الصهيونية منذ عام 1882 حتى الوقت الحاضر تدل على أن مسألة النهوض بالعرب ومساعدتهم هي مجرد أقوال وزخارف، فالجميع يعرف ملامح البنية التي تشكلت في الواقع: بنية القمع الصهيوني والمقاومة العربية، وحلقة العنف التي لم تنته.

وفي جميع الأحوال، يمكن أن ننظر إلى كثير من النصوص الإمبريالية أو الصهيونية التي كتبها أصحابها وأعلنوا فيها عن المنطق الداخلي والأساسي لمنظومتهم بصراحة كاملة ودون مواربة، وذلك لأسباب كثيرة من بينها أن النـص ربما يكـون موجـهاً للعالم الغربي أو أن صاحب النص وجد أن من الأسلم الإعلان عن جوهر النسق. بل أحياناً يكون الهدف من النص المخاتلة والمخادعة، ولكن الحقيقة تُعبِّر عن نفسها. ولا شك في أن آليات دراسة النصوص وتحليلها، وهي آليات تطورت مؤخراً بشكل مذهل، تساعد في هذا المضمار.

والسؤال هو: لماذا تلجأ نظرية مثل الصهيونية (تدعو للعنف والصراع الدموي والاستيلاء على أراضي الآخرين) من أجل البقاء إلى زخارف وأقوال وديعة وإنسانية؟ لتفسير هذا يمكن أن نسوق بعض الأسباب:

1 ـ هناك السبب الواضح وهو التعمية، فلا يدرك أحد المقاصد الحقيقية للنموذج.

2 ـ ولكن الأمر يمكن أن يكون أعمق من ذلك. فبعد أن يصوغ الفيلسوف الإرهابي نموذجه المعرفي، يشعر بتوحشه الكامل ولا إنسانيته وسيولته. ولذا فهو، من خلال الديباجات الزخرفية، يُدخل قدراً من الإنسانية عليها، ولكن هذه اللحظة تظل إنسانية على مستوى البنية الظاهرة والأقوال والديباجات، أما البنية الكامنة والمرجعيات النهائية فتظل على وحشيتها ولا إنسانيتها. وهذه الزخارف تزيد القيمة التعبوية للنموذج، فالبشر (بسبب تركيبيتهم وإنسانيتهم) لا يمكنهم أن يقبلوا نموذجاً وحشياً لا إنسانياً ولا يمكنهم تبنِّيه، ولهذا فإن الأقوال والديباجات الزخرفية تيسر لهم هذا الأمر.

ويمكن هنا أن نثير قضية النوايا المعلنة الحقيقية، وطبيعة علاقة النموذج بالنوايا. فإن كان هناك فيلسوف يدافع عن فلسفة وحشية، فهو لابد يظن (عن نية صادقة) أن مثل هذه الفلسفة ليستوحشية، بل يرى أنها ستأتي بالخير للبشر. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الأيديولوجيات السياسية. ففي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، هناك كثير من الصهاينة كانوا "صادقي النية" بالفعل في رغبتهم ألا يلحقوا الأذى بالعرب. وفي التحليل النماذجي يمكن لنا أن نقول إن النوايا (ودوافع الفاعل بشكل عام) هي مجرد عنصر من بين عناصر كثيرة تشكل الواقع أو النموذج ويمكن إخضاعها لنفس العملية التحليلية، أي التحليل من الداخل (منطق النموذج) ومن الخارج (تجلياته في البنية). وفي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، أخبر هرتزل صديقه عالم الاجتماع الدارويني جومبلوفيتش أنه ينوي إقامة الدولة الصهيونية بالطرق الليبرالية، أي أنه عبَّر عن نيته الالتزام بالنموذج الليبرالي. فكتب له هذا الأخير قائلاً: "أتظن أن بإمكانك أن تقيم مثل هذه الدولةبدون خديعة وإرهاب؟". وما فعله جومبلوفيتش هو أنه درس المنطق الصهيوني الداخلي ودرس التجارب المماثلة وتَوصَّل إلى أن هرتزل ساذج وأن نواياه الطيبة ودوافعه الليبرالية لا علاقة لها بالنموذج أو الظاهرة التي ستتحقق والتي تحققت في نهاية الأمر بكل ما صاحبها من طرد وبطش وتهجير وإبادة. وقد علق أحد المؤرخين الإسرائيليين على نوايا هرتزل الطيبة بقوله: "إنه يود أن يطبخ أومليت دون أن يكسر البيض"، فنموذج الأومليت وتَحقُّقه يتطلب ويحتم بنية كسر البيض! وفي هذه الموسوعة، حاولنا تَجاوُز الادعاءات والأقوال الصهيونية لنصل إلى البنية الكامنة التي تشكَّلت في الواقع. ونحن نميل إلى التفرقة بين النوايا والديباجات من جهة، والبنية من جهة أخرى.

الديباجـة

تعني كلمة «ديباجة» حسب معجم الرائد: "1ـ القطعة من الديباج (ثوب لحمته وسداه من الحرير)؛ 2 ـ من الوجه (حُسْنُ بَشرَته)؛ 3 ـ من الكتاب (فاتحته)؛ 4 ـ ديباجة الكاتب (أسلوبه)". وبالتالي تفترض الكلمة وجود مسافة بين الشكل والمضمون وبين الظاهر والباطن وبين الواقع والاعتذاريات، ولكنها لا تستبعد في الوقت نفسه إمكانية التوافق التام والامتزاج (فحُسن بشرة الوجه قد يكون رمزاً جيداً ينم عن شخصية صاحبه، وقد يكون قناعاً يخبئ ما وراءه، وكذا الثوب والأسلوب). ومن ثم، فهي كلمة يمكن أن نصفها بأنها مركبة. ونحن نرى أنها مصطلح مهميمكن أن تستفيد منه العلوم العربية الإنسانية في محاولة دراسة ظاهرة ما، إذ يمكن تفتيتها مع الاحتفاظ بوحدتها. وفي الظواهر ذات الطابع الأيديولوجي الحاد، مثل النازية، التي تصاحبها اعتذاريات مصقولة تحاول فرض تفسير ما على حَدَث أو فعل، فإنها تصبح مصطلحاً حيوياً ومهماً. وفي ظاهرة مثل الصهيونية تشارك فيها قوى مختلفة (متحالفة ومتصارعة، يحاول كل منها أن يفرض تفسيره عليها بما يتفق مع مصلحته وبما يمليه عليه موقعه)، يصبح مصطلح «الديباجة» ضرورياً، وربما حتمياً. وتحل كلمة «ديباجة» إشكالية الفرق بين النموذج من جهة والأقوال والنوايا من جهة أخرى.

الكلى والنهائى

يُوصَف «المعرفي» بأنه ما يتعامل مع الظاهرة من منظور «كلي ونهائي». و«الكلي» مقابل «الجزئي» هو ما يُنسَب إلى الكل. و«الكل» في اللغة اسم لمجموع أجزاء الشيء. وكلمة «كلي» في هذه الموسوعة تفيد الشمول والعموم، وهي لا تعني الكليات بالمعنى الفلسفي، أي الحقائق التي لا تقع تحت حكم الحواس بل تُدرَك بالعقل والمنطق وحسب. وعلى هذا، فإن كلمة «كلي» في هذه الموسوعة تشمل كل شيء في جوانبه كافة؛ ما يقع منها تحت حكم الحواس وما لا يقع.

أما كلمة «نهائي» فهي كلمة منسوبة إلى «نهاية»، ونهاية الشيء غايته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء. قال ابن سينا "النهاية ما به يصير الشيء ذو الكمية إلى حيث لا يوجد وراءهمزاد شيء فيه".

المسلمات الكلية والنهائية للنموذج (الركيزة النهائية)

عملية الإدراك، في أبسط أشكالها، تتم من خلال نماذج. والنماذج هي نتاج عملية تجريد وانتقاء، تُبقي وتستبعد، تُضخَّم وتُهمَّش. وعملية التضخيم والاستبعاد لابد أن تتم في إطار رؤية معيَّنة (نموذج إدراكي) هي مصدر اليقين الخاص بالنموذج ومعياره الداخلي الذي يتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذره وأساسه العميق وتزوده ببعده الغائي النهائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد حدود النموذج وضوابط السلوك (حلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق وما هو نسبي) وتُوجِّه الفكر والسلوك (النشاط الذهني والاجتماعي)، فهي باختصار ميتافيزيقا والنموذج مرجعيته أو بُعده المعرفي (الكلي والنهائي) أو مسلماته الكلية والنهائية التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية.

ويمكن لهذه المسلمات الكلية والنهائية أن تأخذ أشكالاً متنوعة كثيرة نصنفها نحن في نوعين أساسيين: أن تكون الركيزة الأساسية والنهائية (المركز) كامنة في النموذج أو الظاهرة نفسها، وهذه هي المرجعية الكامنة، أو أن تكون الركيزة النهائية مفارقة للنموذج أو الظاهرة متجاوزة لهما، وهذه هي المرجعية المتجاوزة (وهذا هو الفرق بين النموذج المادي والنموذج الحلولي الكموني من جهة والنموذج المادي الروحي والنموذج التوحيدي من جهة أخرى). ويمكن للمُسلَّمة الكلية والنهائية أن تُعبِّر عن نفسها في شكل صورة مجازية نهائية أو مجموعة صور مجازية أو أساطير.

البعد المعرفى (الكلى والنهائى)

كلمة «معرفي» في الخطاب الفلسفي العربي هي عادةً ترجمة لكلمة «إبستمولوجيا»، وهي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين «إبستيم» بمعنى «معرفة» أو «علم» و«لوجوس» بمعنى «دراسة» أو «نظرية». والإبستمولوجيا هي علم دراسة ما نزعم أنه معرفة، إما عن العالم الخارجي (المادي) أو عن العالم الداخلي (الإنساني)، وهو علم يدرس (بشكل نقدي) المبـادئ والفرضـيات والنتائج العلمـية بهـدف بيان أصلها وحدودها ومدى شموليتها وقيمتها الموضوعية ومناهجها وصحتها. والإبستمولوجيا، في اللغة الإنجليزية، هي بشكل عام نظرية المعرفة (التي تتناول العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف). أما في اللغة الفرنسية، فهي تعني أساساً نظرية العلوم أو فلسفة العلوم وتاريخها. وقد سبب اختلاف المعنى بين المعجمين الإنجليزي والفرنسي اختلاطاً كبيراً في اللغة العربية، إذ يتخذ كل مؤلف على حدة من معجم غربي معيَّن دون غيره مرجعيته، فتظهر الكلمة في اللغة العربية بمدلولين مختلفين. وسوف نحاول أن نصل إلى تعريف يتجاوز إلى حدٍّ ما الاختلاط الدلالي.

وفي تصوُّرنا، فإن الكلمة تعني «كلي ونهائي». ومن هنا، فإننا عادةً ما نضع المستوى المعرفي في مقابل المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل الحضاري (وهذا المعنى، رغم جدته، مُتضمَّن في كثير من تعريفات كلمة «إبستمولوجيا»). والإبستمولوجيا، بالمعنى الضيق للكلمة، تتناول موضوعات مثل طبيعة المعرفة ومصادرها وإمكانية تحققها ومصداقيتها وكيفية التعبيرعنها، ولكنها تعني أيضاً المسلمات الكامنة وراء المعرفة. وهذا المجال الأخير ينقلنا من المعنى الضيق إلى المعنى الواسع. فالإبستمولوجيا تعني أيضاً توضيح المقـولات القَبْلية في الفكر الإنسـاني، ولذا يذهب البعض إلى أن الميتافيزيقا تنقسم إلى: أنطولوجيا وإبستمولوجيا، وأن كل رؤية للعالم تحوي داخلها ميتافيزيقا (أي أنطولوجيا وإبستمولوجيا). كما يرى البعض أن الإبستمولوجيا تعني «رؤى العالم». ولتوضيح مفهوم الإبستمولوجيا بالمعنى العريض للكلمة، سنضرب بعض الأمثلة بإشكاليات وقضايا وُصفت بأنها «معرفية» و«إبستمولوجية»:

1 ـ تورد بعض المعاجم المسألة التالية باعتبارها مسألة معرفية: ما الفرق بين هذه المفاهيم: العقيدة ـ الإيمان ـ الرأي ـ الخيال ـ التفكير ـ الفكرة ـ المعرفة ـ الحقيقة ـ الواقع ـ الخطأ ـ الإمكانية ـاليقين؟

2 ـ تحاول الإبستمولوجيا (حسب أحد التعريفات) أن تُوضِّح الفرق بين الثنائيات المتعارضة التالية: المعرفة الذهنية مقابل المعرفة غير الذهنية ـ التبرير مقابل الوصف ـ القَبْلية مقابل البَعْدية ـ الضروري مقابل العرضي ـ التحليلي مقابل التركيبي ـ العارف مقابل المعروف ـ المدرك مقابل المدرَك ـ المعرفة المادية مقابل المعرفة الحدسية ـ الحقيقي مقابل الوهمي ـ الكلي مقابل الجزئي ـ اليقين مقابل الشك.

3 ـ من القضايا الأساسية التي وُصفت بأنها «معرفية» قضية التناقض الأساسي في الحضارة الغربية الحديثة بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية.

4 ـ من القضايا الأخرى الأساسية في الحضارة الغربية التي وُصفت بأنها «معرفية» فكرة الجوهر وفكرة الكل. وهما في رأي البعض فكرتان مرتبطتان تمام الارتباط. فالجوهر هو الدعامةالأساسية والثابتة لكل الظواهر، وهو الناحية الأولية والكلية في الشيء. وتعتمد الظواهر على الجوهر لوجودها ولا يعتمد هو على أي شيء آخر لوجوده. ومن ثم، فإن الجوهر هو الحقيقي، وما عداه فهو وهم. والجوهر هو الباطن والوهم هو الظاهر. ولا يمكن لشيء أن يُوجَد دون جوهر، وبدونه لا يمكن أن يكون على ما هو عليه. والإيمان بفكرة الجوهر يعني الإيمان بأن ثمة ثباتاً في الواقع. وأن هناك كليات ثابتة وراء الجزئيات المتغيرة.

5 ـ قضية الحقيقة هي الأخرى من القضايا التي تُوصَف بأنها «معرفية»: ما معيار الحقيقة؟ وقد كان الفكر الغربي حتى عصر النهضة يؤمن بنظرية التقابل بأن الحقيقي هو الشيء الذي له ما يناظره في الواقع. ثم بدأت هذه النظرية في الانحسار تدريجياً لتحل محلها نظرية التماسك، فالحقيقي هو الشيء المتماسك (بشكل عضوي) المتسق مع ذاته. وأخيراً هناك النظرية البرجماتية، وهي ترفض كلاًّ من نظريتي التقابل التماسك وترى أن الحقيقي هو ما ينجح، أي أن المنظور الوحيد هو دائماً منظور إجرائي. وهذه القضية، مثل السابقة، هي قضية ليست مقصورة على الحقلالمعرفي وإنما تُناقَش أيضاً على مستوى علم الأخلاق وعلم الجمال وعلى المستوى الأنطولوجي، بل على مستوى تاريخ الأفكار وتاريخ الحضارة وفلسفة التاريخ.

وتبيِّن الأمثلة السابقة أن كلمة «معرفي» قد يكون لها معنى ضيق مع أنها ذات معنى واسع وعريض، وليس هناك ما يُلزمنا بأن نأخذ بالتعريف الضيق دون التعريف العريض. وهنا، تنشأ مشكلة وهي أن التعريف العريض يتداخل مع الميتافيزيقا، فالأسئلة الكلية والنهائية هي ذاتها الأسئلة التي تطرحها الميتافيزيقا، ولذا كان من الأجدى أن نتحدث عن الميتافيزيقا (وهذا ما يفعله أنصار ما بعد الحداثة). ولكن هذه الكلمة فقدت مكانتها تماماً في اللغة العربية وفي اللغات الأوربية، سواء بين المتخصصين أو بين العامة، وأصبحت مرتبطة في العقول بالخزعبلات والخرافات، ولذا سنحتفظ بكلمة «معرفية» ونُسقط مرجعيتها المعجمية الإنجليزية (نظرية المعرفة) أو الفرنسية (فلسفة العلوم) ونرجع بالكلمة إلى المعجم العربي حيث تُعرَّف المعرفة بأنها «إدراك الشيء على حقيقته» (عَرف الشيء: أدركه بعلمه). وحيث إننا نرى أن إدراك الشيء على حقيقته يعني ضرورة التجريد للوصول إلى المعنى الكلي أو إلى النموذج الكامن، فإن عبارة مثل «المستوى المعرفي» تعني "المستوى الذي يتم فيه إدراك الحقيقة الكلية والنهائية الكامنة وراء ظاهرة أو نص ما، ويتم ذلك من خلال عملية تجريدية تزيح جانباً التفاصيل التي يراها الباحث غير مهمة وتُبقي السمات الأصلية الجوهرية للشيء التي تشكل في واقع الأمر إجابة النص أو الظاهرة على الأسئلة الكلية والنهائية".

والأسئلة الكبرى أو الكلية أو النهائية هي أسئلة عما يُسمَّى في النقد الأدبي الغربي الموضوعات الكبرى (بالإنجليزية: ميجور ثيمس major themes) في حياة الإنسان، وهي أسئلة تدور حول الإنسان والإله والطبيعة. ولكن هذه المحاور الثلاثة مترابطة إلى درجة أنه يمكن من خلال التعمق في دراسة عنصر واحد الوصول إلى رؤية النموذج للعنصرين الآخرين. وفي هذه الموسوعة سنُركِّز على الإنسان: طبيعة وجوده وكيفية إدراكه للواقع وعلاقته بالطبيعة وما وراء الطبيعة والهدف من وجوده في الكون وخواص الطبيعة وسماتها الأساسية.

ويمكن تلخيص كل هذه الموضوعات الأساسية في ثلاثة محاور أساسية:

1 ـ علاقة الإنسان بالطبيعة/المادة، وأيهما يسبق الآخر: هل الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة أم هو جزء يتجزأ منها وله استقلاله النسبي عنها؟ هل الإنسان وجود طبيعي/مادي محض أم أنه يتميَّز بأبعاد أخرى لا تخضع لعالم الطبيعة/المادة؟ هل يتسم الكون بالثنائية أم تسود فيه الواحدية؟ هل الإنسان سابق للطبيعة/المادة متجاوز لها أم أنها سابقة عليه، متجاوزة له؟

2 ـ الهدف من الوجود: هل هناك هدف من وجود الإنسان في الكون؟ هل هناك غرض في الطبيعة أم أنها مجرد حركة دائمة متكررة، حركة متطورة نحو درجات أعلى من النمو والتقدم أم حركة خاضعة تماماً للصدفة؟ ما هو المبدأ الواحد في الكون، القوة المحركة له التي تمنحه هدفه وتماسكه وتضفي عليه المعنى؟ هل هو كامن فيه أم متجاوز له؟

3 ـ مشكلة المعيارية: هل هناك معيارية أساساً؟ ومن أين يستمد الإنسان معياريته: من عقله المادي أم من أسلافه أم من جسده أم من الطبيعة/المادة أم من قوى متجاوزة لحركة المادة؟

وهذه أسئلة مجردة عميقة ولكن حياة الإنسان هي محاولة للإجابة عنها. وحتى محاولة التهرب منها ورفضها يُشكِّل إجابة. ولذا، فهي تتجلى في فكره الواعي وغير الواعي وفي أعماله ذات الدلالة العميقة وفي أفعاله التي تبدو تافهة وغير ذات دلالة على الإطلاق.

والمستوى السياسي في التحليل يتوجه لأسئلة سياسية، كما أن المستوى الاقتصادي يتوجه لأسئلة اقتصادية ويحاول أن يجيب عنها بطريقة سياسية واقتصادية "محايدة" لا تصل إلى الأسئلة الكلية النهائية. فمثلاً يمكن لأحد علماء السياسة أن يقول "الأزمة السياسية لهذا المجتمع هي في جوهرها أزمة اقتصادية ويمكن حلها عن طريق رفع مستوى المعيشة والتنمية السريعة"، فهو يرى أن الأزمة السياسية تضرب بجذورها في الوجود الاقتصادي للإنسان ويتأتى حلها عن طريق آليات اقتصادية. وقد يتصور هذا العالِم السياسي أنه لم يتوجه لأية أسئلة كلية أو نهائية مثل تكوينالإنسان والهدف من وجوده ومعياريته. ولكن التحليل المعرفي المتعمق يمكنه أن يكشف أن اجابته تفترض إجابة اقتصادية (مادية) عن هذه الأسئلة الكلية والنهائية، فالإنسان هو جسد ومادة وحسب، احتياجاته ودوافعه ومعياريته اقتصادية، ومن ثم فإنه حين لا يحقق ذاته اقتصادياً تنشأ الأزمة في المجتمع ويمكن حلها عن طريق إشباع الرغبات والدوافع الاقتصادية. وإن كانت هناك دوافع غير اقتصادية فلا شك في أنها ثانوية وهامشية، ولذا فإن حل أزمة المجتمع لا يتوجه لها، كما أن عملية رصد المجتمع تستبعدها. ومن ثم فإن هناك بُعداً معرفياً كلياً ونهائياً في أي خطاب تحليلي مهما بلغ من الحيادية والتجريدية والسطحية والمباشرة.

ونحن نرى أن لكل كاتب تحيزاته الخفية الكامنة أو الواضحة الظاهرة، وأن السبيل الوحيد للوصول إلى نوع من الموضوعية هو أن يحاول كل كاتب أن يوضح هذه التحيزات، فالتحيز حتمي ولكنه ليس نهائياً. والتحيزات الحقيقية كامنة في المسلمات الكلية والنهائية للنموذج التفسيري الذي يستخدمه الكاتب. وقد حاولت قدر استطاعتي أن أوضح هذه التحيزات حتى يدركها القارئ ويختبرها ويقبلها أو يرفضها كلياً أو جزئياً. ونحن، كما هو واضح، في كثير من صفحات هذه الموسوعة نَصدُر عن نموذج توحيدي متجاوز يستند إلى ثنائية أساسية هي ثنائية الخالقوالمخلوق، وهي ثنائية لا يمكن إلغاؤها (في تصوُّرنا). وهي تتبدَّى في ثنائية أساسية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة. ونحن نرى أن إلغاء الثنائية يؤدي إلى القضاء على إمكانية التجاوز وإلى السقوط في الواحدية وظهور النماذج الاختزالية البسيطة. ومع هذا، فنحن لا نرى علاقة سببية بسيطة بين التوحيد والنماذج المركبة، وإنما نرى أن ثمة علاقة تفضيل اختياري بمعنى أن التوحيد يخلق تربة خصبة لظهور النماذج التفسيرية التركيبية.

كما نرى أن من الممكن أن تُولَد ثنائية داخل النظم العلمانية فيما يعُرف بـ «الفلسفة الإنسانية الهيومانية»، فهي فلسفة مادية ولكنها مع هذا ترى أن ثمة ثنائية أساسية هي ثنائية الإنسان والطبيعة تعصم هذه الفلسفات من السقوط في الواحدية المادية الفظة. ورغم أن هذه الثنائية تستند (في تصوُّرنا) إلى أساس واهٍ (الاختيار الوجودي للمفكر الإنسـاني وإيمانه العـميق بالإنسان كمطلق)، إلا أنه يُبقي داخل النظم الإنسانية مطلقاً ما، متجاوزاً للطبيعة، يمكن استناداً إليه تأسيس نظم معرفية وأخلاقية وكذا الإفلات من قبضة الصيرورة المادية وشبح ما بعد الحداثة. ومن ثم، توجد رقعة مشتركة بين النظم الإنسانية والنظم التوحيدية، فكلاهما يستند إلى ثنائية الإنسان والطبيعة، وكلاهما لا يذعن لحركة المادة والضرورة والصيرورة، وكلاهما يؤمن بالتجاوز. ورغم اختلاف الأساس الفلسفي، إلا أن الرقعة المشتركة، على مستوى المسلمات الكلية والنهائية، تشكل أساساً راسخاً لحوار مثمر قد يخرج بنا من المأزق الذي أوصلتنا إليه العقلانية المادية وقد يؤدي إلى التوصل إلى رؤية جديدة لحداثة جديدة أكثر إنسانية وأكثر مقدرة على الاستمرار وتحقيق قسط معقول من السعادة للبشر.

الصورة المجازية

قد تكون لغة المجـاز أحـياناً مجرد زخـرفة لفظية ومن قبيل المحـسنات البديعية. ولكنها، في كثير من الأحيان، تكون جزءاً أساسياً من عملية التفسير والإدراك ونسيج الخطاب، ولا يمكن الوصول إلى المعنى دون إدراك علاقاتها الكامنة وتضميناتها الخفية. ونحن نذهب إلى أن معظم النصوص (المكتوبة والشفوية)، وكل رؤية للكون، تحوي داخلها صورة مجازية أساسية. ونحن نطلق على مثل هذه الصورة اصطلاح «صورة أساسية إدراكية» لأنها صور استخدمها صاحب النموذج (بوعي أو بغير وعي) للتعبير عن نموذجه المعرفي، ولذا فإن النموذج المعرفي الكامن في النص يَتَجَّلى من خلالها بشكل متعيِّن مباشر وتظهر مرجعيته النهائية. وقد لا يمكن إدراك طبيعة النموذج وبنيته بدونها. وإن لم يصل الإنسان إلى فهم الصورة المجازية الإدراكية الأساسية، فإن كثيراً من التفاصيل ستبدو كما لو كانت تفاصيل غير مترابطة. والصورة المجازية الأساسية كامنة عادةً، لكن درجة كمونها تتفاوت من نسق فكري إلى آخر. وما يحدث هو أن عقل المُفسِّر يتوصل إلى الصورة المجازية الأساسية الكامنة ويستخدمها لتحويل الأجزاء المتبعثرة إلى كلٍّ متماسك. وكما أن النماذج بنية عقلية سكونية تترجم نفسها عبر الزمان إلى متتالية، فإن الصور المجازية الأساسية يمكن أن تتطور هي الأخرى بتطور المتتالية، ولذا يمكن دراسة تاريخ الأفكار والنماذج الإدراكية من خلال دراسة تتابع الصور المجازية وتتاليها وتحولاتها.

وقد قمنا في هذه الموسوعة بتحليل الصور المجازية الأساسية في النصوص الصهيونية. كما درسنا الصهيونية باعتبارها تعبيراً عن الاتجاه القومي العضوي، وعلى أساس أن الصور المجازية العضوية مركزية في النموذج الصهيوني (شأنه في هذا شأن معظم النماذج الشمولية مثل النازية والفاشية). وقد استخدمنا صورة النموذج الجيولوجي التراكمي لدراسة العقائد والجماعات اليهودية. وحلَّلنا الصور المجازية القبَّاليـة مثل الآدم قدمون وتهشم الأوعية (شفيرات هكليم)، وبيَّنا علاقة صورة الجسد والجنس والرحم بالنظم الحلولية.

الوصف المكثف ولغة المجاز

«الوصف المكثَّف» ترجمة لعبارة «ثيك ديسكربشان thick description» وهي عبارة من كتابات الأنثروبولوجي كليفورد جيرتز. وآلية الوصف المكثف مأخوذة من عالم الأدب. فالقصيدة الشعرية، على سبيل المثال، هي نص ذو معنى مُركَّب كُتب بلغة ثرية يحتوي على العديد من التفاصيل المتعينة التي تتجاوز أحياناً المعنى الظاهر والمباشر.

والباحث الواعي يعرف أن آلاته التحليلية (ونماذجه التفسيرية) هي في واقع الأمر، ومهما بلغت من دقة، نماذج لا يمكنها الإحـاطة بشـكل كامـل بالواقـع الحي، ويعرف أن بعض أبعاد هذا الواقع تظل خارج حدود النموذج. ولذا، فهو يلجأ إلى الوصف المكثف، أي يصف الظاهرة أو بعض جوانبها بشكل أدبي متعيِّن لعل القارئ قد يصل إلى بعض الدلالات الخفية التي فشل النموذج التحليلي إلى توصيلها. والوصف المكثف بهذا المعنى يتجاوز النموذج دون أن يلغيه، ويتحداه دون أن يرفضه، ويُعدِّله دون أن يقوضه.

ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن استخدام لغة المجاز، فهي محاولة للوصول إلى بعض المعاني المُتضمَّنة والمركبة التي تعجز اللغة التحليلية المباشرة عن توصيلها. وقد لجأ كاتب الموسوعةإلى الوصف المكثف في كثير من مداخلها.

صياغة النموذج وتشغيله

صياغة النموذج التفسيري التحليلي عملية مركبة وإبداعية تتضمن عمليات عقلية عديدة متنوعة ومتناقضة. فالنموذج لا يوجد من العدم أو من أعماق الذات وثناياها وحدها (كما قد يتراءى للبعض)، وإنما هو ثمرة فترة طويلة من ملاحظة الواقع والاستجابة له ومعايشته والتفاعل معه ودراسته والتأمل فيه وتجريده وبعد التوصل إلى نموذج يتم اختباره وإثراؤه وإعادة اختباره (إلى ما لا نهاية). إن النموذج كأداة تحليلية يربط بين الذاتي والموضوعي ولذا يمكن القول بأن عملية صياغة النموذج تجمع بين الملاحظة الإمبريقية واللحظة الحدسية، وبين التراكم المعرفي والقفزة المعرفية، وبين الملاحظة الصارمة والتخيل الرحب، وبين الحياد والتعاطف، والانفصال والاتصال. وهو يفتح مجال البحث العلمي من خلال الخيال الإنساني ومقدرته على التركيب وعلى اكتشاف العناصر والعلاقات الكامنة، ولكنه في الوقت نفسه يكبح جماح هذا الخيال بأن يجعل النتائج خاضعة للاختبار، وهي مسألة تقع خارج ذاتية من صاغ النموذج. وبدون كل هـذه العـملياتالمركبة، يحل محل النموذج التحليلي المركب فرضية اختزالية شائعة (أي نموذج اختزالي شائع)، وتصبح الملاحظة عملية اختزال للواقع ويصبح البحث عملية توثيق أفقية مملة، هي تأييد للأطروحات السائدة في حقل ما.

- تبدأ عملية صياغة النموذج بإدراك أن المعطيات الحسية في ذاتها لا تقول شيئاً، وأن المعلومة ليست النهاية وإنما البداية، وأنها ليست حلاًّ للإشكالية وإنما هي الإشكالية ذاتها. فإن قُلت إن زيداً ضرب عمراً فهذا مجرد خبر يحتمل الصدق أو الكذب في ذاته كما يقول البلاغيون العرب. ولا يمكن إقرار مدى صدقه أو أهميته أو دلالته، كما لا يمكن فهمه في ذاته، فهو حدث مادي محض. كما لا يمكن التعميم منه، فهو يكاد يكون دالاً دون مدلول (كلاماً دون معنى). أو ذا معنى خاص جداً أو معنى عام جداً، تماماً كما لو قُلت "فستان أحمر" و"قطة زرقاء" ولن يُضير كثيراً إن أضفت و"كلب أخضر".

- ينطبق نفس الشيء على أي نص (قصيدة ـ إعلان ـ خبر صحفي)، فرسالته ليست أمراً بسيطاً يوجد في السطح وفي المعنى المباشر للكلمات، فهي ليست مجرد كلمات مرصوصة جنباً إلى جنب.

- يجب أن يُدرك الباحث أنه لا يأتي للنص أو للظاهرة بعقل يشبه الصفحة البيضاء، وإنما بعقل مُثقل بالإشكاليات والأنماط والتساؤلات، عقل له مسلماته الكلية والنهائية، وهذا ما سماه بروفسير ديفيد كارولDavid Carroll «ما قبل الفهم» (بالإنجليزية: بري أندرستاندنج pre-understanding)، وهذا لا يعني بالضرورة السقوط في الذاتية، بل بالعكس فإدراك الباحث أنه يأتي للظاهرة وللنص مسلحاً (أو مثقلاً) ببعض الأفكار والتساؤلات والتحيزات والمسلمات، يجعله قادراً على الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها وإخضاعها للتساؤل وتجاوزها إن ظهر عجزها التفسيري. كما أن إدراكه لوجود مقولات قَبْلية كامنة فيما قبل الفهم أو الفهم المسبق تمنعه من أن يسقط صريع المقولات العامة المهيمنة التي نقبلها باعتبارها حقائق كلية نهائية (مثل التقدم ـ الصراع ـ البقاء) ولا نُخضعها للتمحيص. ومعظم هذه المقولات في حالتنا مستوردة من العالم الغربي، ولذا وصف أحد الباحثين هذه الحالة بأنها «إمبريالية المقولات«.

- صياغة النموذج في جوهرها هي عملية تفكيك للظاهرة (أو النص) وإعادة تركيب لها. وإن كان ينبغي ملاحظة أن النص عادةً ما يكون أكثر تماسُكاً ووحدة من الظاهرة التي تتسم بقدر من التناثر. ولذا، فإن صياغة النموذج لدراسة الظواهر تختلف عن صياغة النموذج لدراسة النصوص، ومع هذا، فثمة وحدة أساسية بين الأمرين.

- تبدأ عملية التفكيك بأن يُقسِّم الباحث الظاهرة أو النص إلى وحدات منفصلة بعضها عن البعض.

- يقوم الباحث بعد ذلك بتجريد هذه الوحدات، أي عزلها إلى حدٍّ ما عن زمانها ومكانها المباشر وعن ماديتها المباشرة (فهو بهذه الطريقة وحدها يمكن أن يربط الواحدة منها بالأخرى وبغيرها من التفاصيل(.

- يربط الباحث هذه الوحدات الصغيرة ويجعل منها مجموعات أكبر.

- يُجرِّد الباحث هذه المجموعات الأكبر ثم عليه بعد ذلك أن يربط بينها وأن يضع كل مجموعة من المجموعات المجردة المتشابهة داخل نمط مستقل، إلى أن يضع كل المجموعات (بكل ما تحوي من وحدات وتفاصيل) داخل أنماط مختلفة.

- يقوم الباحث بعد ذلك بتجريد هذه الأنماط نفسها، ويحاول من خلال عمليات عقلية استنباطية أن يُدخلها في أنماط من التشابه والاختلاف أكثر تجريداً. عندئذ، ستبدأ العبارات المحايدة والتفاصيل المتناثرة تكتسب معنى محدداً أو أبعاداً أكثر عمقاً. وتبدأ ملامح النموذج في الظهور.

- حتى هذه اللحظة يتحرك الباحث داخل حدود الظاهرة أو النص لا يفارقهما، فهو يقوم بعمليات تجريد من الداخل، ولكن لابد أن يترك تلك الحدود ويتحرك خارجها، إذ لابد أن يحاول المقارنة بين ما توصَّل إليه من أنماط (وتفاصيل وإشكاليات) وأنماط مماثلة خارج الظاهرة نفسها، فهذا من أفضل السبل للتوصل إلى أنماط ذات مقدرة تصنيفية وتفسيرية عالية.

- لابد أن يُركِّب الدارس مجموعة من الأنماط الافتراضية ويجرب مقدرتها التفسيرية فيستبعد الأنماط ذات المقدرة التفسيرية الضعيفة ويُبقي الأنماط ذات المقدرة العالية إلى أن يكتشف الأنماط الأكثر تفسيرية فيُعدِّلها ويُكثِّفها.

- لابد أن يرصد الباحث الأنماط من خلال عدة متتاليات: متتالية مستقرة لها مقدرة تفسيرية عالية وتتعامل مع ما هو كائن، وأخرى احتمالية تتعامل مع ما هو كائن وما يمكن أن يكون، وثالثة مستحيلة بمعنى أن يكون جاهزاً لإدراك لحظات الانقطاع الكامل.

- يُلاحَظ، في عملية البحث عن أنماط، أن الدارس لابد أن يبدأ بملاحظة ما يمكن تسميته «التفاصيل القلقة»، فهي غير مستقرة ولا تتبع نمطاً واضحاً، وبالتالي قد تقوده إلى أنماط جديدة.

- الصور المجازية منبع خصب للوصول إلى النماذج التحليلية أو الكامنة، فالصورة المجازية ترجمة مباشرة غير واعية أحياناً لطريقة تنظيم النص. ولذا، لابد وأن يحاول الباحث رصد التعبيرات المجازية وتحليلها لأنه سيصل من خلالها إلى الأنماط الكامنة في النص.

- من المهم بمكان أن يدرك الباحث أن عملية صياغة الإشكاليات الأساسية والتوصل للنمط الأساسي الكامن وتصنيفه وإعطائه مضموناً متعيناً لا يمكن أن تتم من خلال تحليل داخلي بنائي محض وحسب، ولا يمكن أن تتم إلا من خلال معرفة الباحث بالأنماط (والإشكاليات) التاريخية والثقافية المحيطة بالظاهرة أو النص والتي تشكل مرجعيتها. ولذا، لابد أن يقوم الباحث بتثقيف نفسه فيما يتصل بالموضوع موضع الدراسة حتى يصبح أفقه أكثر اتساعاً من أفق اللحظة المباشر والإدراك المباشر للظاهرة.

- أثناء عملية التجريد، يجب أن تظل عيون الباحث على التفاصيل حتى لا يتوه في الكل ويهمل الجزئيات، وحتى لا يطفو على سطح العموميات مهملاً المنحنى الخاص للظاهرة (لابد من التحليق والتحديق، على حد قول جمال حمدان).

- أثناء محاولة الوصول إلى الأنماط الكامنة، لابد أن تتضمن الأنماط والمتتاليات الافتراضية عناصر من الواقع كما هو في الحقيقة، وعناصر من الواقع كما يتخيله الآخر، ومن الرموز التي يدرك الواقع من خلالها، ومن المعاني التي يُسقطها عليه، كما لابد أن تتضمن الحدود الواقعية المادية والإمكانيات الكامنة والطموحات المثالية، فبدون تضمين هذه العناصر في النمط الافتراضي ستُستبعَد العناصر غير المادية ولن يتم رصدها.

- ستؤدي هذه العملية (بإذن الله) إلى الوصول إلى إدراك النمط الأساسي الكامن وراء كل هذه الأنماط المتشابهة أو المتنوعة والمتناقضة.

- بعد هذه العملية، لابد أن يحاول الباحث اكتشاف البُعد المعرفي الكامن وراء كل هذه الأنماط، فهو وحده الذي سيحدد جوهر الرؤية الكامنة للكون وراء الأنماط (رؤية الإنسان والطبيعة والإله).

- عند هذه النقطة، يمكن للباحث أن يعيد ترتيب الأنماط وتركيبها حسب أهميتها، وأن يربط بعضها ببعض داخل منظومـة متكاملــة بطـريقـة تجـعل العــلاقات بينهـا تشاكل ما يُتصوَّر أنه العلاقات الجوهرية بين عناصر الواقع.

ويمكننا الآن أن نضرب مثلاً بإحدى الظواهر ولتكن واقعة ضرب زيد لعمرو، حيث يمكن أن نرصد عدد المرات التي ضرب فيها زيد عمراً، ويمكن أن نسأل هل يضرب زيد عمراً أم أنه يضرب آخرين أيضاً؟ وما السمة الأساسية في هؤلاء الذين يضربهم زيد؟ ونبدأ في تجربة هذه العناصر ونسأل: هل من يضربهم زيد من الفقراء أم هم من الأغنياء؟ من السود أم من البيض؟ من الذكور أم من الإناث؟ وهل الضرب يتم كل يوم أم في فصول معيَّنة؟ ثم بعد قراءة كُتب التاريخ، نسأل: لم استولى جد زيد على أرض عمرو؟ هل هناك علاقة بين الضرب والاستيلاء على الأرض؟ وما مصلحة زيد من الناس في عملية البطش المستمرة هذه؟ هل يدرك كل من زيد وعمرو طبيعة علاقتهما؟ هل يقبلانها، أم أن عمراً يرفضها ويتمرد عليها؟ ما الرؤية الكامنة للكون في هذه العلاقة؟ هل يريد زيد أن يجعل من عمرو مادة استعمالية يوظفها لحسابه؟ وهل يرى عمرو نفسه باعتباره مادة أم يرى نفسه باعتباره بشراً كاملاً؟

ولنضرب مثلاً بنصين مكتوبين، وهما حديثان شريفان: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". أما الحديث الثاني فهو قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "بينما رجل يمشي، فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فمـلأ خفه ثم أمسـكه بفـيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر" (أي في كل حي من الحيوان والطير ونحوهما).

وبإمكان الباحث أن يقوم بتقسيم الحديثين إلى وحدات مختلفة تشكل عناصرهما الأولية. ويمكن القول بأن العناصر الأولية في الحديث الأول هي: امرأة ـ قط ـ جوع ـ زيادة الجوع ـ موت ـ جهنم. أما العناصر الأولية في الحديث الثاني فهي: رجل ـ كلب ـ عطش ـ سُقيا ـ حياة ـ جنة.

عند هذه اللحظة، سيقف الحديثان كما لو كانا متناقضين، ففي الحديث الأول امرأة وفي الثاني رجل، وفي الأول هرة وفي الثاني كلـب، وفي الأول جـوع وفي الثاني عطـش، وفي الأول بطـش بالحيــوان وزيادة الجوع، وفي الثاني رفق بالحيوان وري للعطش، وينتهي الحديث الأول بالموت وجهنم وينتهي الثاني بالحياة والجنة. وتحليل المضمون السطحي دائماً يقف عند هذا المستوى لا يتجاوزه وينهمك الباحث في إحصاء عدد الكلمات!

ولابد أن نزيد مستوى تجريدنا قليلاً بحيث تتجاوز عناصر كل حديث الفضاء الزماني والمكاني المباشر لكل منهما، حتى يمكن رؤيتهما في علاقة كل منهما بالآخر. وستأخذ عملية التجريد الشكل التالي: المرأة والرجل يجردان إلى إنسان ـ القطة والكلب: حيوان ـ الجوع والعطش: حالة طبيعية (حياة ـ موت) ـ البطش بالحيوان وزيادة الجوع والرفق بالحيوان وري العطش: فعل إنساني ـ موت القطة وحياة الكلب: نتيجة مادية ـ الجنة والنار: نتيجة روحية.

ثم نزيد من التجريد على النحو التالي: فاعل ـ مفعول ـ فعل ـ عاقبة. والإنسان هو الفاعل، والحيوان هو المفعول به، وثمة فعل يؤدي إلى نتيجة.

ويمكن، عند هذه النقطة، أن نرتفع بالعملية التجريدية إلى المستوى المعرفي ورؤية الكون. ولابد من معرفة بعض المفاهيم الأساسية الحاكمة في الإسلام (الاستخلاف ـ الأمانة ـ وضع الإنسان في الكون) فهذا سيساعدنا على الوصول إلى البُعد المعرفي وإلى تحديد العلاقة بين الإنسان (الفاعل) والحيوان (المفعول به). ومن كل هذا سنستنتج أن الحديثين يتحدثان عن علاقة الإنسان بالطبيعة وهي علاقة استخلاف واستئمان، فالإنسان يُوجَد في مركز الكون لأن الله كرمه وحباه عقلاً وحكمة. وقد أعطاه الله الطبيعة ولكنه ليس صاحبها فقد استخلفه الله فيها وحسب، وقد قَبل هوأن يحمل الأمانة، ولذا فلا يجوز أن يبددها وكأنه وحده في الكون: كائن لا متناه متأله. (لابد أن نشير هنا إلى الفلسفة البنيوية التي ترصد الواقع من خلال نماذج رياضية ولغوية عامة وتظل تُصعِّد مستوى التجريد لتصل إلى ثنائيات متعارضة عامة أو قيمة لغوية لا تقل عمومية. وهذا المستوى من التجريد وهذا المفهوم للنموذج يختلف تماماً عما نطرحه هنا).

- بعد تصاعدُ معدلات التجريد وظهور الأنماط الأساسية وربطها داخل منظومة متماسكة وبعد أن يتوصل الباحث إلى معالم النموذج التحليلي الذي يمكن من خلاله فهم الظاهرة أو معالم النموذج المعرفي الكامن في النص، ينبغي أن يدرك أن هذه ليست النهاية، بل هي بداية عملية جديدة إذ يتعيَّن عليه العودة إلى النص أو الظاهرة لاختبار المقدرة التفسيرية للنموذج (الذي صاغه أو اكتشفه). فقد يكتشف الباحث بعض العناصر أو الجوانب التي لم يتوجه إليها النموذج، فيحاول أن يوسع نطاقه حتى يستوعب هذه العناصر ويفسرها. ثم يعود الباحث بعد ذلك ليختبر النموذج مرة أخرى، فعملية الصياغة عملية حلزونية، لا نهائية، مستمرة مادامت التطبيقات ممكنة على حالات مختلفة، ولا شك في أن النموذج يزداد ثراء بتعدد تطبيقاته. بل قد تتغيَّر هويته تماماً بعد أن يحاول تفسير بعض الحالات التي تشكل انقطاعاً جذرياً.

- يستطيع الباحث أن يزيد من ثراء النموذج (وتماسكه وترابطه) بأن يُجري بعض العمليات العقلية الاستنباطية ويتخيل مواقف مختلفة لم تتحقق في الواقع.

- إذا تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار اختزالي، فإن ثمرة العملية ستكون نموذجاً اختزالياً. أما إذا تمت في إطار مركب، فإن الثمرة ستكون نموذجاً مركباً.

- إن تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار نموذج مستقر مهيمن فهي عملية تطبيقية. ولكن بإمكان الباحث أن يقوم بعملية تفكيك وتركيب في إطار نماذج ومسلمات جديدة، وهو ما يؤدي إلى إعادة تفسير المعلومات تفسيراً جديداً ومن ثم يُعاد تصنيفها على أسس جديدة، وحينذاك يكون النموذج نموذجاً تأسيسياً.

- من الضروري أن يدرك الباحث أن عملية التجريد (بما تنطوي عليه من تفكيك وتركيب) هي تاكتيك منهجي، فعناصر أية ظاهرة هي في نهاية الأمر غير منفصلة عن بعضها البعض ولا عن الظاهرة التي تنتمي إليها، فالظاهرة توجد ككل مُتعيِّن غير قابل للتجزيء. ولذا، لابد أن يذكِّر الباحث نفسه أن النموذج أشبه بالصورة المجازية التي لا تعكس الواقع وإنما تفسره، ولا تحيط بكل تفاصيله وإنما تحاول الوصول إلى جوهره.

- يمكن القول بأن عملية التفكيك والتركيب ونحت النماذج هي عملية «استنطاق» (أي «دفعه إلى النطق»). فما يحدث هو أن الباحث حين يتوصل للنموذج الكامن في نص ما ويحدد مفرداته ومفاهيمه الأساسية الكلية فإنه يصبح في مقدوره إضافة مفردات ومفاهيم أخرى غير منظورة ولكنها مُتضمَّنة في النص (ما بين السطور)، وتُستخدَم هذه الكلمات والمفاهيم في ملء بعض الفراغات التي قد توجد في النص أو الظاهرة. وبهذه الطريقة، نحدد المعنى الدقيق لمفردات نص أو ظاهرة عن طريق ربط الجزئي بالكلي والظاهر بالكامن. والنموذج، بهذا، يوضح المسلمات (أو الكليات القَبْلية) الكامنة في الخطاب الإنساني، كما يوضح المعنى المقصود من المفردات.

- يتم تشغيل النموذج من خلال عمليتي تفكيك وتركيب تشبه تماماً عملية صياغة النموذج.

وغني عن القول أن الجهد الفكري الأساسي في هذه الموسوعة ينصب على محاولة صياغة مجموعة من النماذج التحليلية المركبة وتوضيح العلاقة بينها وربطها وتطبيقها على مجموعة من النصوص والظواهر اليهودية والصهيونية. وقد تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار مسلمات جديدة، ومن هنا فهي موسوعة تأسيسية.

المقدرة التنبؤية للنموذج

يمكن القول بأن النموذج كلما ازداد إحاطة بجوانب الظواهر وأبعادها المختلفة، أي كلما ازداد تركيبية، زادت مقدرته التفسيرية والتنبؤية. ونحن نرى أن استرداد العامل الإنساني (بدوافعه ورؤاه وذكرياته وأحزانه وأفراحه ومصالحه ومصلحته الحقيقية والمتخيلة) هي أهم عناصر التركيب، ومن ثم أهم العناصر في زيادة المقدرة التنبؤية للنموذج. وقد يكون من المفيد أن أضرب مثلاًبمحاولة سابقة قمت بها في محاولة رصد الواقع من خلال نموذج مركب وكيف أن زيادة التركيب تؤدي إلى زيادة المقدرة التفسيرية والتنبؤية. فقد نشرت في جريدة الرياض (المملكة العربية السعودية) مقالاً بعنوان "إلقاء الحجارة في الضفة الغربية" وذلك في 24 فبراير 1984. وتنبأت في هذا المقال بأن استخدام الحجارة سيكون أحد أشكال النضال الأساسية. والواقع أنني توصَّلت إلى هذه النتيجة من خلال عملية مركبة للغاية بدأت بإدراكي للمنحنى الخاص للوضع في الضفة الغربية. كنت أتحدث في القاهرة مع إحدى طالباتي الفلسطينيات من غزة، ولاحظت مدى ازدرائها للإسرائيليين وعدم خوفها منهم. وبدأت ألاحظ أن فلسطينيي الداخل غير منكسرين على عكسنا نحن عرب الخارج، فالفاعل الإنساني العربي هنا قوي متماسك. ثم قرأت إعلاناً عن إحدى المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، فلم أجد فيه إشارة واحدة لأرض الميعاد أو صهيون أو المُثُل "العليا" الصهيونية، أي أن الفاعل الإنساني الصهيوني محايد غير مكترث، متمركز حول ذاته.

وبعد أن استرجعت كلاً من الفاعل الإنساني العربي والصهيوني، بدأت أرصدهما في تفاعلهما ومواجهاتهما اليومية، فأدركت أن الفاعل الصهيوني يدرك العالم من خلال حرصه الشديد على المعدلات الاستهلاكية مادية العالية التي يتمتع بها، ولذا فهو لا يملك إلا أن يسقط هذه الرؤية على العرب فيدركهم من خلال رؤيته هو للعالم. إنطلاقاً من هذا أشرت ـ في مقالي ـ إلى الوهم الإسرائيلي الذي يستند إلى الرؤية المادية بأن «المقاومة قد اجتُثَّت تماماً من جذورها» وأن هناك علامات وقرائن على ما سماه الجنرال بنيامين بن أليعازر (منظم الأنشطة في الضفة الغربية وحاكمها العسكري) " الاتجاه المتردد أو الحذر نحو البرجماتية " والذي يعني في نهاية الأمر «التكيف مع الأمر الواقع وتَقبُّله» (الجيروساليم بوست 14 نوفمبر 1983). وقد رأى الجنرالإمكانية تقوية هذا الاتجاه عن طريق إنشاء عدد أكبر من البنوك والشركات الاستثمارية، أي عن طريق إشباع حاجات العرب الاقتصادية وإغراق هويتهم، الأمر الذي يؤدي إلى استغراقهم فكرياً في أمور الدنيا والمال بدلاً من قضايا الوطن والأرض والهوية!

ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هذا الاتجاه التطبيعي البرجماتي، فقامت الولايات المتحدة (كما أذكر في المقال) بمد يد المساعدة إلى الجنرال الإسرائيل المذكور، فدُعي إلى الولايات المتحدة ليجتمع مع وزير الخارجية الأمريكية وكبار موظفي الوزارة ليبحث معهم كيفية تحسين مستوى معيشة العرب في الأرض المحتلة (أي مزيد من البنوك) وكيف يمكن أن تساهم الولايات المتحدة في تخفيف حدة بعض جوانب الاحتلال الإسرائيلي عن طريق المساعدات الفنية والتنموية.

وبعد أن عرضت للرؤية الصهيونية المادية الاختزالية للعرب، حاولت أن أحدد الحالة العقلية والنفسية للصهاينة والأهداف المحددة التي يرمون إلى إنجازها، فوصفت الاستعمار الصهيوني بأنهاستعمار استيطاني إحلالي لا يود استغلالنا أو استغلال مواردنا الطبيعية وحسب (كما كان الحال مع الاستعمار الإنجليزي في مصر) وإنما يرمي إلى ما يلي:

1 ـ استلاب الأرض.

2 ـ العيش فيها ناعماً براحة البال والهدوء.

3 ـ أن يسلبنا أسباب الحياة والاستمرار حتى نرحل من الأرض ليحل محلنا فيها.

والمستوطنون الصهاينة، في تصوُّرنا، هم أساساً مرتزقة، ولكن بينما كان القدامى منهم على استعداد لتَحمُّل شظف العيش وإرجاء الإشباع وانتظار المكافأة المادية المؤجلة، نجد أن المستوطنين الجدد، مع تَزايُد معدلات العلمنة، يُصرون على تحقيق مستويات معيشية وأمنية عالية عاجلة دون تأجيل. ولذا، فإن المنظمة الصهيونية تدفع لهم الرشاوي الباهظة على هيئة منازل مريحة وطرق مُعدَّة خصيصاً لهم ومدارس لأطفالهم وحراسة مشددة حتى ينعموا بالعيش في هواء «أرض الميعاد المكيَّف». إن النموذج الإدراكي للصهاينة نموذج آلي اختزالي مادي، وبالتالي كانت رؤيتهم للعرب ولأنفسهم آلية اختزالية مادية.

في مقابل ذلك، رصدت موقف العرب فلاحظت أنهم يرفضون الانصياع للنموذج الاختزالي المادي الذي يُطبَّق عليهم. وقد لاحَظ الجنرال بن أليعازر نفسه أن العرب يُلقون بالحجارة على الإسرائيليين، وصرَّح لجريدة معاريف (14 نوفمبر 1983) بأنه قرر وضع حد لظاهرة إلقاء الحجارة. ثم بعد يومين اثنين، اصطحب الجنرال الإسرائيلي البرجماتي أحد مؤسسي روابط القرى لافتتاح مبنى بلدية جديد في إحدى مدن الضفة. ولكن الجماهير الفلسطينية العنيدة لم تُبد أية برجماتية أو اعتدال أو تَقبُّل للقانون الطبيعي المادي، ولم تُقابل أبطال البنوك والاستثمارات بالزهوروإنما بالحجارة (الجيروساليم بوست 16 نوفمبر 1983. وقد أشرت في المقال إلى وقائع عديدة أخرى عن إلقاء الحجارة أدَّت إلى غضب المستوطنين الصهاينة وإلى مطالبتهم الجيش الإسرائيلي بالتدخل لوضع حد لهذه الظاهرة. بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني (كما ورد في الجيروساليم بوست 24 يناير 1984) اجتمع مع عضوي الكنيست من كتلة هتحيا وأخبرهما بأن إلقاء الحجارة من أسباب قلقه العميق ووعد بأن يدرس القضية شخصياً.

بعد أن رصدت ما تصوَّرته النموذج الإدراكي للفلسطينيين العرب وتَصوُّرهم لأنفسهم، حاولت أن أرصد إدراكهم لحالة الإسرائيليين النفسية والعقلية ولنموذجهم الإدراكي، فقلت بالحرف الواحد: "إن مواطني الضفة الغربية أدركوا أن كل ما يُنغِّص على المستوطنين (مكيفي الهواء) حياتهم هو في نهاية الأمر إحباط للمخطط الصهيوني"، ومن هنا أصبح إلقاء الحجارة سلاحاً أساسياً في الضفة الغربية. وتنبأت في المقـال نفسه بأن هذا السـلاح، رغم ضعفه وبدائيته، قد أصبح سلاحاً فعّالاً ستزداد أهميته.

والواقع أنني وصلت إلى ما توصلَّت إليه من نتائج لا من خلال عملية رصد خارجية لأحداث لا معنى لها تتم على مساحة، وإنما من خلال مراقبتي لبشر لهم رؤية محدَّدة تحدِّد استجابتهم وتوقعاتهم وبالتالي سلوكهم. فالصهيوني الذي يحاول أن يرفع مستوى معيشة العرب، حتى ينسوا الوطن والهوية، هو نفسه الذي يودُّ أن يتمتع بحمام السباحة في المستوطنة والذي يصر على مستويات عالية من الراحة والمتعة. والعربي الذي يرفض الانصياع للرؤية البرجماتية التي تودُّ تطبيعه وتدجينه هو نفسه القادر على أن يدرك التآكل الداخلي للمستوطنين وتحولهم إلى شخصيات شرهة مستهلكة غير منتجة. من هنا الحجر الذي قد لا يَقتُل ولكنه يُعكر صفو المستوطنين ويُسقط معنى حياتهم. ومن هنا كانت الانتفاضة.

وتهدف هذه الموسوعة إلى تحسين المقدرة التنبؤية عند العرب عن طريق صياغة نماذج تفسيرية مركبة تتسم بقدر معقول من العمومية والخصوصية.

الباب الثانى: أنواع النماذج

أنواع النماذج: مقدمة

ليست كل النماذج نوعاً واحداً. ويمكننا تصنيف النماذج على عدة أسس:

1 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس مدى الكمون أو الظهور (الوعي أو عدم الوعي):

- أهم أنواع النماذج الواعية هو ما نسميه «النموذج التحليلي». ويتسم هذا النموذج بأن من يستخدمه واع به تمام الوعي إذ يقوم الباحث بصياغة النموذج بشكل واع لرصد وتحليل الظواهر. ومثل هذا النموذج عادةً ما يتسم بقدر عال من التكامل والاتساق المنطقي الداخلي. وعادةً ما يحاول الباحث صاحب النموذج أن يوضح للمتلقي مسـلماته الكلية الكامنة. لكن وعي صاحـب النموذج التحليلي بنموذجه لا يعني أنه قد نفض تحيزاته عن نفسه تماماً، فهو ولا شك يخضع لنفوذ النموذج الإدراكي الذي ورثه عن مجتمعه وبيئته. ويمكن أحياناً أن يكون النموذج التحليلي هو نفسه النموذج الإدراكي.

- مقابل النموذج التحليلي الواعي (والمتتاليات المثالية المُفترَضة)، نضع «النموذج الإدراكي الكامن» غير الواعي، أي النموذج الذي يُوجِّه سلوك الناس دون أن يعوا وجوده فهو يُشكِّل رؤيتهم للكون، ويُشبه قواعد اللغة الأم بالنسبة للمتحدث بها. فنحن حين نتحدث العربية لا نفكر في المبتدأ والخبر ولا في أي من القواعد التي نستخدمها إذ أننا استبطناها تماماً. والنماذج الإدراكية (غير الواعية) عادةً ما تكون غير متجانسة ولا تتسم بالنقاء أو الاتساق، بل كثيراً ما تحوي أفكاراً متناقضة مع المنطق الأساسي للنموذج (ولذا نُفضِّل تسمية هذه النماذج بـ «المنظومة»(.

2 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى يقينيتها واستقرارها واحتماليتها:

- والنماذج المستقرة هي تلك التي تم تجريبها واكتسبت قدراً معقولاً من اليقينية، فهي «نماذج تفسيرية مستقرة».

- أما النماذج الاحتمالية، فهي لا تزال فرضية منفتحة تحاول أن ترصد ما هو كامن لترى هل سينتقل من عالم الإمكان إلى عالم التحقق أم لا، كما أنها محاولة لرصد ما هو مجهول لنرى هل هو موجود بالفعل أم هو مجرد وهم، فهي «نماذج تفسيرية احتمالية».

3 ـ ويمكن تصنيف النموذج من واقع عملية التفكيك والتركيب ونوعيتها:

- فالتجريد يمكن أن يكون تفكيكاً بدون تركيب وثمرة هذه العملية هي «النموذج التفكيكي».

- ويمكن أن يكون تفكيكاً ثم تركيباً على أسس جديدة. في هذه الحالة، يمكن القول بأن النموذج «نموذج تأسيسي» لأنه لم يكتف بتحليل الواقع أو النص من خلال المسلمات القائمة وإنما أعاد التفسير من خلال مسلمات ورؤية جديدة.

4 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس انفتاحها وانغلاقها:

- فإن كان النموذج يحتوي على عناصر معروفة مضبوطة بحيث تكون النتائج كامنة تماماً في المقدمات، فهو «نموذج مغلق» أو «نموذج تكامل عضوي».

- أما إذا كان النموذج يعترف بالمجهول ويحتوي على عناصر من المعروف والمستقر وعناصر احتمالية وعنده مقدرة على اكتشـاف الجـديد وغير المـادي فهو «نمـوذج مفتوح» أو «نموذج فضفاض» أو «نموذج تكامل غير عضوي».

5 ـ ويمكن تصنيف النماذج من منظور تركيبيتها واختزاليتها:

- فإن كان النموذج بسيطاً، ينطوي على عنصر واحد أو عنصرين، فإنه سيختزل الواقع بأسره إلى هذا العنصر أو هذين العنصرين، والنموذج هو «نموذج اختزالي».

- أما إذا كان النموذج مركباً ينطوي على عدة عناصر ومنفتحاً على العناصر التي قد تجدُّ وعلى ما هو مادي وغير مادي فهو إذن «نموذج مركب».

6 ـ ويمكن تصنيف النموذج على أساس درجة ارتباطه بالزمان والمكان أو تَجرُّده منها:

- فإن كان عنصر الزمان والمكان واضحاً فيه، فهو «نموذج تعاقبي». ويرتبط بالنموذج التعاقبي مفهوم المتتالية النماذجية، وهي حلقات تَحقُّق النموذج في الزمان والمكان.

- أما إذا بهت عنصر الزمان واختفى فهو «نموذج تزامني» أو «نموذج بنيوي» يركز على البنية وحدها دون التعاقب التاريخي.

- ويمكن أن تستمر درجة التجريد إلى أن نصل إلى «النموذج الأوَّلي» (بالإنجليزية:آرك تايب archetype)، وهو نموذج يتكرر عَبْر كل الأزمنة والأمكنة في اللاوعي الجمعي عند البشر، مثل اليهودي التائه أو فاوستوس أو السندباد البحري أو النبي الذي لا كرامة له في وطنه أو الشاطر حسن، وهو نموذج ساكن يتعامل مع الثوابت متحرراً تماماً من الأزمنة والأمكنة.

- ويمكن أن يصل التجريد درجة عالية تصل بنا إلى النماذج الرياضية أو اللغوية التي تحاول دراسة الواقع الإنساني من منظور العلاقات الرياضية أو القواعد اللغوية وهذه هي «النماذجالبنيوية».

7 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الهدف الذي يرمي صاحب النموذج إلى تحقيقه:

- فإذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الطبيعي/المادي) باعتباره مجموعة علاقات بسيطة يمكن رصدها بدقة، كما هي، فهو «نموذج موضوعي» (وعادةً «مادي»).

- أما إذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الإنساني) باعتباره مجموعة علاقات بين عناصر بعضها معروف وبعضها مجهول وأن هذه العلاقات مركبة إلى أقصى درجة، ومن ثم فشرحها شرحاً كاملاً وردها إلى قوانين عامة مجردة أمر مستحيل ومن ثم لا مناص من أن يقنع الإنسان بعملية التفسير، فهو «نموذج تفسيري».

8 ـ يمكن تقسيم النماذج على أساس مفهوم العقل وعلاقته بالواقع وطبيعة الإدراك:

- فإن كان النموذج ينطوي على تَصوُّر للعقل باعتباره سلبياً متلقياً، فهو «نموذج متلقي».

- وإذا كان النموذج ينطوي على مفهوم للعقل باعتباره مبدعاً في أية عملية إدراكية، فهو «نمـوذج اجتهادي».

9 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس فكرة التراكم والتوليد:

- فإن كان النموذج موضوعياً، كان اكتسـاب المعرفة عملـية تراكم (على صفحة العقل) وكان النموذج «نموذجاً تراكمياً».

- وإن كان النموذج تفسيرياً، فإن اكتساب المعرفة لا يكون عملية تراكم وإنما هي أيضاً عملية إبداع وتوليد (من داخل العقل)، وكان النموذج «نموذجاً توليدياً».

10 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى واقعيتها ومثاليتها:

- فإن أخذنا مفهوم «مثالي» بمعنى «مُتخيَّل» أو «غير متحقق بعد» أو «ما ينبغي أن يكون»، فإننا نضع «النموذج المتحقق الفعلي» مقابل «النموذج المثالي» أي الذي لم يتحقق بعد، ويكون النموذج حينذاك منتمياً إلى عالم الآمال والتوقعات والبرامج الثورية. فالاشتراكية في الاتحاد السوفيتي كانت حلماً وصورة مُتخيَّلة إذ تصوَّر الناس أنهم لو فعلوا كذا وكذا لحققوا العدالة في المجتمع والسعادة للأفراد. ونحن نذهب إلى أن النموذج يتحقق من خلال متتالية متعددة الحلقات، وما حدث في المجتمع الاشتراكي أنه حينما تتابعت حلقاته ظهر أن النتيجة النهائية (المتتالية التي تحققت بالفعل) عكس ما كان مُتوقَّعاً (المتتالية المفترضة أو المثالية)، وأن الأحلام لم تكن سوى كوابيس.

- ولكن كلمة «مثالي» تعني أيضاً أنه يدور في إطار المرجعية المتجاوزة للمادة. و«النموذج المثالي» بهذا المعنى هو النموذج الذي يحوي عناصر لا تنتمي للواقع المادي وتتجاوزه. ويمكن أن نضعه مقابل «النموذج الواقعي أو المادي» الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة.

11 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الصورة المجازية الأساسية الكامنة فيها فنقسمها (على سبيل المثال) إلى «نماذج عضوية» وأخرى «آلية» أو «جيولوجية تراكمية».

12ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مضمونها المباشر:

- فيمكن أن يكون المضمون هو السياسة فنقول «نموذج سياسي» أو «نموذج اقتصادي» وهكذا.

- من أهم أنواع النماذج «النموذج الحضاري» وهو النموذج الذي نتصور أنه النموذج الحاكم في حضارة ما. ودراسة هذا النوع من النماذج محفوف بالمخاطر لأن الأبعاد والاتجاهات الحضارية التي يتم التعميم بناءً عليها، عناصر غير محسوسة أو ملموسة، توجد كامنة في الواقع، داخل آلاف التفاصيل التي لا يمكن فصلها الواحدة عن الأخرى، وهي ليست تفاصيل عادية وإنما مرتبطة بالمعنى الرمزي الذي يُسقطه الفاعل الإنساني عليها. ولذا فالتعميم، بناءً على مثل هذه الأبعاد والاتجاهات، أكثر خلافية وأقل يقينية من التعميم بناءً على العناصر الاقتصادية والسياسية. ولذا فحينما نتحدث عن النموذج الحضاري الغربي الحديث، فنحن نفعل ذلك بكثير من الحيطة والحذر.

- نحن نذهب إلى أن نموذج التأرجح بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية (التمركز حول الموضوع) وبين الصلابة والسيولة هو نموذج عام له مقدرة تفسيرية عالية.

- ومن أهم النماذج التي ظهرت مؤخراً نموذج الما بعد (كما في مصطلح «ما بعد الحداثة»(.

ورغم أننا قمنا بفصل هذه النماذج بعضها عن بعض، فإن هذا ضرورة تحليلية وحسب، فكل النماذج رغم اختلاف مضامينها وبنيتها مترابطة. فالنموذج، مهما بلغ من سطحية ومباشرة، يحوي بُعداً معرفياً نهائياً. وأي نموذج تفسيري، تحليلي أو إدراكي، يتسم بصفات مختلفة حيث إن نموذجاً ما يمكن أن يكون نموذجاً تفسيرياً اجتهادياً توليدياً مركباًً ويكون الآخر نموذجاً موضوعياً متلقياً تراكمياً اختزالياً، وهكذا. وعادةً ما تتسم النماذج المادية الموضوعية بالتراكمية والاختزالية والانغلاق، فهي تطمح إلى أن تَردَّ الواقع بأسره إلى مستوى واحد تدركه الحواس، أما ما لا تُدركه الحواس فلا وجود له. كما أنها تحاول أن تفسر الواقع تفسيراً شاملاً يحيط بكل جوانبه وأن تصل إلى مستوى عال من اليقينية. هذا على عكس النماذج التي تصدر عن رؤية مادية وغير مادية في آن واحد، فهي نماذج تفسيرية اجتهادية تتسم بالتوليدية والتركيبية والانفتاح، تطمح للوصول إلى مستوى معقول من التفسيرية ولا تطمح إلى الوصول إلى تفسيرات جامعة مانعة، ولذا فهي تقنع بقدر معقول من اليقينية دون محاولة للوصول إلى اليقينية التامة.

وقد استخدمنا كلمة «نموذج» في هذه الموسوعة للإشارة لكل هذه المدلولات. وحاولنا توضيح المعنى المقصود إما صراحةً أو من خلال السياق.

النموذج التصنيفى

«صَنَّف الأشـياء» عبارة معناها: جعل الأشـياء أصنافاً وميَّز بعضها عن بعض. ومن ذلك تصنيف الكتب وتصنيف العلوم. التصنيف، إذن، هو أن تجعل الأشياء أصنافاً وأضرباً على أساس يَسهُل معه تمييز بعضها عن بعـض، أو أن تُرتَب المعاني بحـسب العلاقات التي تربط بعضها بالبعض الآخر كعلاقة الجنس بالنوع أو الكل بالجزء. والنظام التصنيفي نظام هرمي بالضرورة يفترض وجود مركز وهامش، وقمة وقاع، ومهم وغير مهم. وهناك أسس تصنيفية عديدة، كل تصنيف له منطقه الخاص. فيمكن أن يتم التصنيف على أساس الانتماء الديني أو على أساس الانتماء العرْقي، كما يمكن التصنيف على أساس تاريخي أو على أساس بنيوي، المهم أن يتم التصنيف من خلال نموذج تفسيري يمكنه أن يبيِّن ما هو مهم ومركزي في ظاهرة ما. فالرصد الموضوعي الأفقي التراكمي يأتي بالمعلومات والمعطيات المختلفة ولكنه لا يمكنه ترتيبها أو تصنيفها إلا بشكل سطحي أو عشوائي، كأن يصنفها على أساس ألفبائي أو على أساس أي عنصر ثانوي يرد فيها. فيُقال إن قصة " ذات الرداء الأحمر " هي قصة عن الذئاب أو عن الغابة أو عن النبات أو عن اللون الأحمر وليس عن الانتقال من البراءة إلى الخبرة أو المواجهة بين الإنسان والطبيعة... إلخ. كما أن الرصد الموضوعي قد يكون عاماً جداً فيُقال " تعاملت هذه الدراسة مع اليهود " دون تخصيص أو تحديد.

وهذه الموسوعة تطرح نموذجاً تفسيرياً جديداً، ومن ثم فإن منطقها التصنيفي مختلف عن الدراسات الأخرى. على سبيل المثال، نحن نرى أن الصهيونية حركة ليست ذات جذور يهودية وإنما حركة ذات جذور غربية استعمارية تهدف إلى تخليص أوربا من اليهود عن طريق توطينهم في فلسطين، ومن ثم فنحن نرى أنها لا تُوضَع (أو تُصنَّف) كمقابل ظاهرة العداء لليهود وإنما هي امتداد لها. وقد طُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد صياغتها على أيدي بعض المفكرين غير اليهود على الجماهير اليهودية، وفي بعض الأحيان فُرضت على هذه الجماهير فرضاً. ومن هنا، يصبح عداء بلفور لليهود أمراً بالغ الأهمية، وتصبح شخصية مثل ألفريد نوسيج، الذي شارك في تأسيس الحركة الصهيونية مع هرتزل (لتخليص أوربا من اليهود) ثم امتد به العمر ليُقدِّم للجستابو مخططاً لإبادة يهود أوربا، ليس مجرد شخصية هامشية تشكل انحرافاً عن مسار الصهيونية وإنما يجب تصنيفه باعتباره شخصية نماذجية دالة، ومن هنا أهمية معاهدة الهعفراه بين النازيين والصهاينة. وقد طرحنا أيضاً نموذج الجماعة الوظيفية كنموذج تفسيري أساسي، وبناءً عليه أصبحت تجربة يهود بولندا في ظل الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا في أوكرانيا وعلاقتهم بطبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) ذات أهمية محورية. فمن خلال نموذجنا التفسيري أصبحت هذه الوقائع التي تُهمَّش في كتب التاريخ الصهيونية ذات دلالة نماذجية عميقة، وتم تصنيفها على هذا الأساس.

التعاقب والتزامن (نموذج تاريخى وبنيوى أو يدور حول موضوعات)

«تعاقَب الشيئان» عبارة معناها «خَلَف أحدهما الآخر»، و«تعاقَب القوم في الشيء أو الأمر» معناها «تناوبوه»، ومن ذلك كلمة «تعاقُب». أما «التزامن»، في علم الطبيعة، فهو ما يتفق مع غيره في الزمن. ومن ثم، يجيء «التعاقُب» في مقابل «التزامن». والوجود الإنساني يكون داخل كل من التعاقُب والتزامن، فالأيام تجري الواحدة تلو الأخرى، ومراحل حياة الإنسان تتعاقب وكذا الفصول. والتجربة الأساسية في حياة الإنسان (التاريخ والزمن) هي أيضاً تجربة تعاقُب، فتدول الدول وتحل محلها أخرى.

ولكن، إلى جانب التعاقُب، توجد تجربة التزامن. فإذا كان الزمان متغيِّراً، فإن المكان يتسم بقدر أكبر من الثبات، بل إن الزمان المُتعاقب نفسه يأخذ شكل أنماط متكررة تتسم بنفس السمات ومن ثم بقدر من الثبات. وهكذا يعيش الإنسان في تَعاقُب وتَزامُن يتغير ويتطور دون أن يعني تغيُّره وتطوُّره تحوُّله الكامل.

والتضاد بين التعاقب والتزامُن مقولة أساسية في الفلسفة البنائية التي تُعرِّف البنية بأنها مجموعة العلاقات بين العناصر المختلفة للظاهرة والتي تعطي لهذه الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. ومن يؤمن بالتَعاقُب وحسب يرى أن العالم لا ثبات فيه وأن كل الأمور زمنية نسبية (وهذا هو جوهر التفكير التاريخاني [بالإنجليزية: هيستوريسيست historicist])، أما من يؤمن بالتزامُن فهو يؤمن بالثبات والجمود وكأن الشيء الوحيد الحقيقي هو المُثُل الأفلاطونية وأن الواقع إن هو إلا انعكاس خافت لها، ومن ثم يكون البحث عن الثابت دون المتحول. والفكر الكـموني الواحـدي المـادي يتأرجح بين التعاقُب والتزامُن (تماماً مثلما يتأرجح بين الذات والموضوع من جهة، واليقين الكامل والنسبية الكاملة من جهة أخرى). وهو انعكاس للإشكالية الأساسية في النظم الكمونية بين النزعة نحو تأليه الكون وإنكاره. فالنزعة نحو تأليه الكون تأخذ شكل تَبنِّي نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التَعاقُب (نماذج تاريخية)، أما النزعة نحو إنكاره فتتبني نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التزامُن والثبات (نماذج بنيوية). ويُلاحَظ الانتقال من النماذج التفسيرية التاريخية إلى النماذج التفسيرية البنيوية في الحضارة الغربية، فقد كانت النماذج التفسيريةالتاريخية تسود فيها في عصر المادية البطولي والتحديث مع الإيمان بفكرة التقدم وبمقدرة الإنسان على أن يسيطر على الزمان والمكان من خلال مسار التاريخ. ومع أن النزعة الإمبريالية الغربية تنزع نحو إنكار تواريخ الآخرين (كما يفعل الصهاينة مع الفلسطينيين)، إلا أنها نزعة تستند أيضاً إلى رؤية تاريخية محددة للذات باعتبارها ثمرة تطور تاريخي حتمي وضعها في قمة سلم التقدم والتطور وأسبغ عليها حقوقاً مطلقة لهذا السبب. ولكن، مع فقدان الإنسان الغربي ثقته في نفسه ومع تراجُع الإمبريالية، بدأ الإنسان الغربي يفقد ثقته في التاريخ كمجال لتَحقُّق ذاته التاريخية، وبدأ الانتقال إلى نماذج بنيوية (الانتقال من هيجل وماركس إلى كيركجارد ونيتشه وأخيراً دريدا)، وبدأ الاهتمام بالأسطورة التي عرَّفها ليفي شتراوس بأنها آلات لخنق الزمان إلى أن نصل إلى أسطورة نهاية التاريخ.

والنموذج الذي نتبناه في هذه الموسوعة لا هو بالمتعاقب ولا هو بالمتزامن وإنما يحاول الجمع بينهما. فنحن نؤمن بوجود إنسانية مشتركة توجد داخل النظام الطبيعي، جانب منها خاضع لقوانين المادة والحركة والتعاقب (النزعة الجنينية)، وهي في الوقت نفسـه متميِّزة عن النظـام الطبيعي المادي إذ يوجـد فيها أيضاً القبـس الإلهي (النزعة الربانية). ولذا، فهي جزء من الطبيعة/المادة خاضعة لقوانين الحركة والتغير (التعاقب) التي لا تتم بشكل عشوائي وإنما حسب سنن وتأخذ شكل أنماط ثابتة (التعاقب). وهذه الإنسانية تدور داخل أنماط إنسانية عامة مشتركة (التزامن) ولكنها لا تتحقق دائماً (كلها وبنفس الصورة)، كما أنها تتحقق داخل الزمان (التعاقب) ويمكنها أن تحقق قدراً من الاستقلال والثبات (التزامن)، (الثبات الكامل لله وحده وهو يوجد خارج النظام الطبيعي تماماً).

وبهذا المعنى، فإننا نرى أن ثمة تداخلاً بين المتعاقب والمتزامن، ولذا فإن البنَى التاريخية بنَى متغيرة متعاقبة ولكنها تتبع نمـطاً معيَّناً (ليس مطـلقاً ثابتاً ومقرراً بصورة مسـبقة)، وهذا يعني أن ثمة مجالاً دائماً للحرية والفوضى، والانتصار والانكسار؛ أن ثمة إمكانية دائمة للمأساة والملهاة. ونحن في هذه الموسوعة نستخدم نماذج تحليلية تاريخية (مبنية على التعاقب) ونماذج تحليلية بنيوية (مبنية على التزامن).

النموذج الآلى والنموذج العضوى

نحن نذهب إلى أن ثمة نموذجين أساسيين في الحضارة الغربية، نموذج آلي ونموذج عضوي، وقد سُميا كذلك لأن كل واحد منهما يحوي صورة مجازية مختلفة: الصورة المجازية الآلية (العالم آلة) أو الصورة المجازية العضوية (العالم كائن حي) يُعبِّران عن الطبيعة/المادة. الصورة المجازية الأولى تُصوِّر العالم على هيئة آلة حركتها آلية والمبدأ الواحد فيها براني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من الخارج. أما الثانية فتُصوِّر العالم على هيئة كائن حي حركته حركة عضوية والمبدأ الواحد فيها جواني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من خلال نموها الداخلي وكلا النموذجين يستبعد الحيز الإنساني ويستوعبه. ويُلاحَظ أنه في عصر ما بعد الحداثة بدأت كل من الصور المجازية العضوية والآلية في الاختفاء أو التحرك نحو الهامش ليحل محلها صور تُعبِّر عن التفتت أو عن سطح مصقول بلا أعماق. ونحن نستخدم في هذه الموسوعة نموذج التكامل غير العضوي أو النموذج الفضفاض.

نموذج التركيب الجيولوجى التراكمى

«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنشير إلى أحد النماذج التفسيرية الذي يحاول أن يصف عمق عدم التجانس الذي تتسم به العقيدة/العقائد اليهودية، والهوية/الهويات اليهودية، وإلى أن نقط الاختلاف بين هذه العقائد والهويات أهم من نقط التشابه بينها. ويمكن لنسق ما أن يتسم بعدم التجانس وعدم الترابط (كما هو الحال في نموذج التكامل غير العضوي). ولكن التنوع يظل داخل إطار من الوحدة، فالنموذج لابد أن يكون له مركز وركيزة نهائية وحدود وسمات بنيوية تفصله عن غيره من الأنساق، وقد يتشابك النموذج مع غيره من النماذج ويتداخل. ولكن مهما بلغت درجة التنوع في النموذج ودرجة تشابكه مع النماذج الأخرى، فلابد أن يتصف بعدة سمات أساسية وجوهرية (ركيزة أساسية) تشكل هويته وتَصلُح أساساً لتفسيره وتصنيفه وعزله عن غيره من النماذج.

ولكن التركيب الجيولوجي التراكمي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة تراكمت الواحدة فوق الأخرى ولم تُلغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وقد تتشابه هذه الطبقات وقد تختلف وقد تتفق أوتتناقض، غير أن السمة الأساسية لها هي أنها تتجاور وتتزامن وتتواجد مع بعضها ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة الأخرى. ويمكن تشبيه التركيب الجيولوجي التراكمي بالجبل الذي قد تكون داخله طبقة جيولوجية من الحجر الجيري وأخرى من الحجر الرملي وثالثة من الفوسفات ورابعة من الذهب، لكل طبقة طبيعتها المستقلة وبنيتها المادية وتاريخها الذي يزداد طولاً وقصراً حسب الطبقة، ولا ينتظم كل الطبقات سوى وحدة شكلية خارجية، أي وجودها كجزء من هذا الجبل. وبالطبع، يمكن الاستمرار في التشبيه لنقول إن بعض هذه الطبقات توجد في الجبل عن طريق الصدفة، وأنها ممتدة في باطن الأرض قبل الجبل مستمرة بعده في الوادي المجاور، وأن وجودها في الجبل حدث مصادفة.

وإذا كانت الصورتان المجازيتان الآلية والعضوية صورتين مجازيتين واحديتين تؤكدان أشكالاً مختلفة من الوحدة والتماسك، فإن استعارة التركيب الجيولوجي التراكمي تشير إلى عدم التماسك وعدم وجود وحدة من أي نوع، فكل طبقة جيولوجية هي بنية مسـتقلة. والنمـوذج الجـيولوجي لا يتسم بالتعددية كما قد يبدو لأول وهلة، فالتعددية تفترض قدراً من الوحدة المبدئية، حيث لا تنوع دون قدر من الوحدة ولا بنية إن غابت المعايير المركزية والسمات الأساسية، والتركيب الجيولوجي يفتقر إلى مثل هذه الوحدة.

وتوجد داخل العقيدة اليهودية طبقات مختلفة متصارعة أهمها الطبقة التوحيدية والطبقة الحلولية الكمونية. وتاريخ اليهودية هو تاريخ الصراع بين هاتين الطبقتين والذي انتهى بانتصار الحلولية الكمونية وهيمنتها. أما داخل الهويات اليهودية، كتركيب جيولوجي، فإن تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية هو أهم الطبقات أو مكونات الهويات اليهودية المختلفة. ومنالمعروف أن أعضاء الجماعات الوظيفية يؤمنون برؤية حلولية كمونية للكون، ومن ثم تلتقي الطبقات الحلولية والوظيفية (وكلاهما يؤدي إلى العلمانية الشاملة).

النموذج الموضوعى المادى (المتلقى)

«النموذج الموضوعي المادي (المتلقي)» هو النموذج الذي ينطلق من الرؤية الموضوعية المادية المتلقية (انظر: «مشكلة الموضوعية الذاتية»). ونحن نذهب إلى أن النماذج الموضوعية المادية لها فعاليتها في مجالها (عالم الظواهر الطبيعية) ولكنها تفقد فاعليتها وتصبح أداة اختزال حين تُطبَّق على الظواهر الإنسانية، فهي حينذاك تختزل الإنساني إلى الطبيعي. ولذا لابد من استخدام نماذج تفسيرية اجتهادية. والنماذج الموضوعية المادية يمكن أن تكون اجتهادية مبدعة ولكن يمكن أن تكون متلقية، وهذا ما يحدث عادةً حين تُستخدَم في رصد الإنساني.

ونحن نضع «النموذج التفسيري (الاجتهادي)» مقابل «النموذج الموضوعي المادي (المتلقي)»، ومنطلقاتهما المعرفية مختلفة تماماً، بحيث يمكن تقسيم كل النماذج إلى موضوعية متلقية (تتسم بالتراكم والانغلاق والاختزال) وتفسيرية اجتهادية (تتسم بالتوليدية والانفتاح والتركيب(.

النموذج التفسيرى (الاجتهادى(

يمكن القول بأن منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هي عكس منطلقات النموذج الموضوعي المادي (المتلقي). ولذا قد يصلح النموذج الموضوعي المادي في تفسير بعض جوانب الواقع الطبيعي، ولكنه يخفق تماماً حينما يحاول تطبيقه على ظاهرة الإنسان. إذ يقوم النموذج الموضوعي المادي باستبعاد الإنسان كعنصر فاعل مركب كما يقوم أحياناً بتبسيط الطبيعة نفسها ثم إعطائها الهيمنة على الإنسان، أما النموذج التفسيري فهو ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كياناً مركباً تنبض بالحياة وتمور بالأسرار وتتسم باللاتحدد، ولكنها، مع هذا، تتبع سنناً ولها هدف وغاية. وكل شيء في الطبيعة له مكانته ووظيفته وقيمته في ذاته، فالعالم كل متكامل (ومن المنظور التوحيدي، كل شيء في الكون قد ناله نصيب من التكريم لأنه من خلق الله وبديع صنعه). وهـذا يعني أن الإنسان ليـس موجوداً في الكون بمفـرده، فالكائنات الأخرى لها مكانها، والإنسان لم يُمنَح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده دون حـدود، فلابد له من الحفاظ عليها (لأنه ـ حسب الرؤية التوحيدية ـ قد استخلفه فيها من هو أعظم منه، فكرَّمه ووضع حدوداً عليه).

إن العالَم المبارك المدهش الذي نعيش فيه عالَم مركب ثري، مليء بالمسافات والثغرات والثنائيات الفضفاضة والأسرار (التي لا يُسبَر لها غور). هذا العالَم يحوي داخله ما هو معروف ومحسوس وما هو مجهول وغير محسوس، وما هو حلم وما هو غيب (والغيب هنا هو غير المادي الذي لا يُقاس ولا يمكن إدخاله بقضه وقضيضه في شبكة السببية الصلبة) وهو ليس بسطح أملس يمكن رده إلى مبدأ واحد كامن فيه (كما يرى دعاة الكمونية الواحدية المادية من العقلانيين الموضوعيين الماديين).

ولكن أهم منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هو إدراك أن ثمة حيزاً إنسانياً يتحرك فيه الإنسان ويمارس فيه إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفاً عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسئول، يتجاوز حتميات النظام الطبيعي/المادي ولا يمكن أن يُردُّ في كليته إليه ولا يمكنه أن يمتزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها، فهو جزء يتجزأ من الواقع المحيط به لا يُستوعَب قط فيما حوله. هذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تُترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي، فالإنسان لا يتصل مباشرةً (من خلال جهازه العصبي) بالطبيعة لأن عقله متناه لا يمكنه أن يعكس الواقع كله، ولكنه لهذا السبب مبدع حتى في أبسط عمليات الإدراك فهو يدرك الواقع من خلال رموزه وذكرياته ونماذجه، وهو إنسان مركب لا يمكن معرفة دوافعه فهي مركبة إذ تحركه دوافعه المادية الأرضية كما تحركه أفكاره وأحلامه وذكرياته، والمعنى الذي يتسع للأشياء والرموز التي يستخدمها للتعامل معه، كما تحركه منظومته القيمية والجمالية التي قد تهديه سواء السبيل وقد تضلله، ولذا فهو قادر على النبل الخساسة، وعلى الخير والشر.

كل هذا يعني ما يلي:

1 ـ لا يمكن دراسة الواقع الإنساني المركب من خلال النماذج السلوكية الواحدية البسيطة التي ترى الإنسان كائناً يتحرك في بيئة مادية يُرْصد بشكل آلي.

2 ـ لا يمكن دراسة الإنسان من خلال نموذج الرصد الموضوعي المادي الذي لا يكترث بالمعنى والرموز والدوافع والحرية.

3 ـ لا يمكن دراسة هذا الإنسان من خلال نموذج واحدي يدور في إطار السببية الواحدية والعمومية، إذ يتطلب الأمر دراسته من خلال عدة مستويات ودرجات مختلفة من السببية والتعميم والتخصص.

4 ـ لا يمكن تَصوُّر إمكان الإحاطة بكل جوانب هذا الإنسان أو إمكان الوصول إلى درجات عالية من اليقين، إذ تظل هناك أجزاء مستقلة عن الكل، ومنحنيات خاصة مستقلة عن الاتجاه العام وزوايا لا تستطيع العقلانية المادية المستنيرة أن تصل إليها.

5 ـ والمعرفة ليست مجرد تراكم وإنما هي أيضاً محاولات اجتهادية مستمرة، فإلى جانب التراكم يوجد الاكتشاف المستمر. فالعملية المعرفية عملية لا نهاية لها، ولذا لا نهاية للتاريخ.

6 ـ الهدف الكلي والنهائي من وجود الإنسان في الأرض ليس التحكم في العالم وحوسلته وإنما هو التمتع بالأرض والاستفادة منها داخل حدود دون تبديدها.

إن الإنسان كائن مركب يعيش في عالم براني مركب وعالم جواني مليء بالأسرار، ولذا فإن محاولة "شرح الإنسان" شرحاً كاملاً وتفسيره تفسيراً كاملاً وإدخاله شبكة السببية الصلبة والمطلقة هو ضرب من ضروب الخيلاء، ومحاولة التوصل إلى قوانين صارمة أو تفسيرات كلية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء محاولة ساذجة بلهاء، كما أن محاولة الوصول إلى المعرفة الكاملة محاولة فاوستية شيطانية محكوم عليها بالفشل، ولهذا فنحن نطرح مفهوم الاجتهاد كإطار معرفي كلي ونهائي. والاجتهاد يعني أن يحاول الدارس المجتهد الوصول إلى قدر من المعرفة عن الظاهرة موضع الدراسة يجعلها معقولة إلى حدٍّ ما وربما إلى حدٍّ كبير، وليس بالضرورة معقولة ومفهومة تماماً، أي أنه من الممكن شرح بعض جوانب الظاهرة (لا الظاهرة كلها)، ورد بعض جوانبها (لا الظاهرة بأسرها) إلى القوانين العامة، كما يمكن رصد جزء من الواقع لا الواقع كله. والاجتهاد يعني رفض الموقف الإمبريالي من الواقع الذي يود الإمساك به كله ويحاول أن يدفع به في شبكة السببية الصلبة والمطلقة والقانون العام. وهذا لا يعني بالضرورة سقوطاً في العدمية الكاملة أو النسبية المطلقة، فالاجتهاد يمكن أن يدور في إطار الإيمان بوجود مطلقات وثوابت ويمكن للباحث أن يتعامل مع الأمور الكلية والنهائية والمطلقة دون أن يكون خطابه نهائياً ومطلقاً. ويمكن أن يصل البـاحث إلى قدر من اليقين ولكنه يقين ليـس بكامل. وثمة تَواصُل ولكنه ليس باتصال والتحام عضويين، ومن ثم فإن المعرفة التي يتوصل إليها معرفة نسبية ولكنها ليست نسبية بشكل مطلق وإنما تظل نسبية بصورة نسبية (فالكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، وهو وحده الذي يعلم ما في الصدور، مركز العالم، المفارق له، وغير الكامن في إنسان أو شيء). وهذا ما يمكن أن نسميه «العقلانية أو الموضوعية الاجتهادية» (في مقابل «العقلانية المادية والموضوعية المتلقية المادية»). والنموذج التفسيري (الاجتهادي) هو الأداة التحليلية المُثلى التي يمكن من خلالها تجاوز إشكالية الذات والموضوع، فالنموذج أداة تحليلية يصوغها العقل من خلال عملية تجريد (استبقاء واستبعاد) لعناصر الواقع، فهو ثمرة لتفاعل الذات مع الموضوع، وهو صياغة ذهنية (ذاتية) لمجموعة من المعطيات والعلاقات المادية (الموضوعية). وكما قال الإمام أبو حنيفة "خذ رأيي واطلب دليلي".

والنموذج التفسيري (الاجتهادي) يختلف عن نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي)، فهو ليس أداة رصد سلبية موضوعية تتلقى المعلومات جاهزة صلبة نهائية من الواقع وتؤرشفهاوتحاول إدخال كل الظواهر في إطار شبكة السببية الصلبة أو في إطار قوانين عامة تنطبق على كل الحالات في كل الأزمنة والأمكنة، وإنما هو عملية تركيب واكتشاف للمعطيات المتاحة وترتيبها ومحاولة اكتشاف أنماط متكررة ومحاولة الربط بينها مع إدراك كامل للفرق بين الإنسان والطبيعة/المادة والفرق بين المناهج التي يمكن استخدامها لدراسة الظاهرتين الإنسانية والطبيعية. كما أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) يحاول تفسير بعض جوانب الظاهرة ويقَنَع بها دون محاولة تفسير الظاهرة ككل، فهو يستطيع أن يتعايش مع المجهول. وفي إطار النموذج التفسيري (الاجتهادي)، يصبح أساس اختيار الحقائق، لا الحقائق نفسها، هو ما يشكل مدى صدقها من زيفها. فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية نفسها وإنما في كيفية تناولها وفي القرار الخاص بما يُضَم وما يُستبعَد منها. ولذا، لا يصبح السؤال: ما الحقائق؟ ولكن: ما أهم الحقائق أو ما الحقائق الدالة؟ ويصبح ترتيب الحقائق هرمياً حسب أهميتها أكثر أهمية من مجردتسجيلها أفقياً بشكل متجاور، ويصبح تعريف ما هو مركزي وهامشي أهم من مجرد مراكمة المعلومات. وتصبح العلاقات بين المعطيات أكثر أهمية من المعطيات نفسها. وعلى كلٍّ، هذا هو جوهر الإبداع: اكتشاف علاقات جديدة في الواقع وتحديد ما هو مركزي وهامشي وتفكيك الواقع وإعادة تركيبه في ضوء هذا الاكتشاف

وبعد أن يُصاغ النموذج التفسيري (الاجتهادي)، لا يمكن أن نقول إن هذا نموذج خاطئ أو مصيب بطريقة أحادية فجة، وإنما نطلب إخضاعه لعملية اختبار (فهو مجرد اجتهاد). وحينما يُخضَع للاختبار، فلابد أنه سيفسر بعض المعطيات في الواقع ولكنه سيعجز عن تفسير البعض الآخر. وفي هذه الحالة، لا يُوصَف النموذج بعدم الموضوعية، فالنموذج لا يُحكَم عليه بمقدار موضوعيته وذاتيته (فهو ابتداءً مزيج من الموضوعية والذاتية لأنه تركيب) وإنما يُحكَم عليه في إطار مقدرته التفسيرية والتنبؤية، وفي إطار تركيبيته. فالنموذج الذي يفسر أكبر قدر ممكن من التفاصيل والعلاقات ويربط بينها ويتنبأ بعدد كبير من الظواهر هو النموذج الأكثر تفسيرية (الذي يُقال له موضوعي)، وهو نموذج المجتهد الذي أصاب (فله أجران)، أما النموذج الذي يفسر عدداً أقل من التفاصيل والعلاقات والذي يتسم بأن مقدرته التنبؤية ضعيفة فهو النموذج الأقل تفسيرية (والذي يُقال له ذاتي) نموذج من اجتهد ولم يفلح تماماً (فله أجر واحد). وبالتالي، لا يصبح المعيار هنا كمالمعلومات الذي تمت مراكمته وإنما جدواها في التفسير: وبذا يحل النموذج التفسيري مشكلة استقطاب الذات والموضوع. فالنموذج الذي تبنته حركات التمركز حول الأنثى قادر على تفسير بعض جوانب وجود المرأة وبعض مشاكلها، ولكنه عاجز عن تفسير المرأة في كليتها كأم وزوجة وأخت. وهذه الجوانب الكلية المركبة تحتاج إلى نموذج أكثر تركيبية.

وبعد اختبار النموذج، يمكن إعادة صياغته حتى يمكنه استيعاب المعطيات الجديدة التي فشل في تفسيرها، أي أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس صيغة نهائية تنجح أو تفشل (ولذا فنحن ندعو إلى إعادة صياغة النماذج التفسيرية الغربية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبعد أزمة الرأسمالية). ويُلاحَظ أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس نموذجاً استبعادياً، فالعناصر التي يظهر أنها أقل تفسيرية لا تُرفَض ولا تُستبعَد وإنما تفقد مركزيتها وتُنقل إلى الهامش، وهي قد تنتقل إلى المركز مرة أخرى فيما بعد، وقد توضَع في المركز داخل متتالية احتمالية يتم من خلالها رصد عناصر المستقبل الكامن في الحاضر.

والنموذج التفسيري (الاجتهادي) لا يدَّعي أن الراصد آلة فوتوغرافية تسجل موضوعياً ما حولها بدون اختيار وبدون قيم مسبقة وإنما هو يُسمِّي الأمور بأسمائها ويحدِّد للقارئ التحيزاتوالمكونات الذاتية الكامنة في المعرفة الموضوعية حتى يتحرز القارئ ولا يتصور أن ما يُقدِّم له هو الموضوع والواقع بل مجرد محاولة اجتهادية للوصول لهما (والله، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، أعلم). إن الذات الراصدة تعلن عن حدودها وتعلن أنها ستتوصل إلى جانب وحسب من الموضوع، لا الموضوع كله، ومن خلال اعترافها هذا فإنها تُحقق قدراً أكبر من الموضوعية.

وقد استخدمنا في هذه الموسوعة نماذج تفسيرية لا تدَّعي لنفسها الموضوعية الكاملة ولا المقدرة التفسيرية الشاملة الكاسحة، وهي ليست سوى محاولة اجتهادية لتفسير أكبر قدر من جوانب الظواهر اليهودية والصهيونية موضع الدراسة حسب ما هو متوافر من المعطيات والمعلومات حتى هذه اللحظة. وقد طرحنا ثلاثة نماذج تفسيرية مختلفة ومتداخلة: الحلولية الكمونية ـ العلمانية ـالجماعة الوظيفية ونموذج التركيب الجيولوجي التراكمي. فإن تناولنا قضية مثل قضية الرأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية الذين تسميهم الأدبيات الشائعة «رأسماليون يهود»، فنحن لا نرفض ما هو متوافر من معلومات وإنما نقبله (إن لم يكن مُختَلقاً) ثم نوسع سياق الظاهرة لتسمح بإضافة معلومات أخرى استبعدتها هذه الأدبيات وبذلك يمكننا اختبار نموذجنا التفسيري والبرهنة على مقدرته التفسيرية التي تفوق المقدرة التفسيرية للنماذج السائدة التي نراها أكثر ضيقاً واختزالاً، أي أقل تفسيرية.

أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية

نحن نذهب إلى أن مصطلح «موضوعي» يفترض وجوداً موضوعياً مطلقاً مغلقاً مستقلاًّ يمكن للعقل (الذي يشبه الصفحة البيضاء) رصده بشكل موضوعي محايد تماماً، وهو عقل قادر على الإحاطة بكل شيء ولكنه في الوقت نفسه قادر على الإذعان، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، للواقع المادي الصلب، فهو يدور في إطار مرجعية موضوعية مادية تستبعد الإنسان بهويته وذاتيته وأشواقه وغائيته. أما مصطلح «ذاتي» فهو يفترض وجود ذات فريدة مطلقة مغلقة (متأيقنة) تدور في إطار مرجعية ذاتية خالصة تستبعد الواقع والزمان. وهذه حالة استقطاب مستحيلة،فالواقع المُعاش يختلف عن هذا تماماً.

ونحن نطرح مصطلحي «أكثر تفسيرية» و«أقل تفسيرية» بدلاً من مصطلحي «موضوعي» و «ذاتي» لأنهما يستعيدان الواقع المعاش مرة أخرى، كما يستعيدان الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية، وهي طبيعة بشرية مستقلة عن المـادة إلى حدٍّ ما فهي تتحرك داخـل الحيز الإنساني، ولذا فهي تتمتع بقدر من الثبات وحرية الاختيار، ولكنها، في الوقت نفسه، ليست مستقلة تماماً عن العالم الموضوعي أو عن الحيز الطبيعي، فهي تتعامل معه وتدركه. والتفسير يقوم به إنسان مجتهد يجتهد وقد يصيب (فله أجران) أو يجتهد وقد يخطئ (فله أجر واحد)، أي أنه يُدرك أن تفسيره ليس التفسير النهائي، وأنه لا يَجبُّ التفسيرات السابقة وإنما يحاول استيعابها. وداخل هذا الإطار يمكن تحقيق قدر عال من «الموضوعية» عن طريق إدراك الباحث أنه ليس خلواً من الأفكار كالصفحة البيضاء، ولذا فهو يستطيع الاحتفاظ بمسافة بينه وبين أفكاره بحيث يمكنه أن يخضعها للتساؤل والاختبار. كما يمكن أن يخلق الباحث مسافة بين المتلقي وأفكاره عن طريق تنبيهه إلى ذاتيته وأفكاره المسبقة. وعملية التفسير لا تتم في فراغ وإنما هي تفسير لواقع موضوعي يوجد خارج الإنسان، ولذا يمكن اختبار التفسير «الذاتي» بالعودة للواقع «الموضوعي». وقد عرَّفنا ما هو «أكثر تفسيرية» بأنه النموذج القادر على تفسير أكبر عدد من المعطيات والربط بينها، كما أن اختيار النموذج هو اختيار مقدرته التنبؤية، فكلمـا زادت مقدرته أصـبح أكثر تفسـيرية. ولذا فالمناداة برفض مصطلحي «ذاتي» و«موضوعي» لا يعني رفض الرؤية العلمية (بالمعنى المركب الذي نطرحه) ولا رفض التجريب واختبار الأطروحات. فالتمييز بين ما هو «أقل تفسيرية» و«أكثر تفسيرية» لا يتم في فراغ وإنما يتم من خلال عمليات مركبة من التفكير العقلي والتجريب العملي والمعملي في الظروف التي تقتضي ذلك.

النموذج التوليدى والنموذج التراكمى

يتبدَّى الصراع بين النموذج الموضوعي (المتلقي) المادي مع النموذج التفسيري (الاجتهادي) في النقاش الدائر حول الإدراك كعملية توليدية تراكمية، أو كعملية تراكمية وحسب. فالعقل (حسب الرؤية الموضوعية المادية) جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة خاضع لقوانينها لا يتجاوزها، فهو صفحة سلبية بيضاء تسجل الواقع بشكل شبه فوتوغرافي. وعملية الإدراك حسب الرؤيةالموضوعية هي عملية تلق تتراكم من خلالها المعطيات الحسية على عقل الإنسان (ذرة على ذرة ـ معلومة على معلومة ـ حقيقة بجوار حقيقة). وهي عملية ترابطية إذ تترابط هذه المعطيات بشكل تلقائي آلي. والإنسان، حسب هذه الرؤية، هو إنسان طبيعي/مادي، ولذا فإن ثمة تصوراً بأن ثمة قانوناً طبيعياً/مادياً عاماً واحداً يسري على كل الظواهر المادية والإنسانية، ومن هنا الإيمان بوحدة العلوم وبإمكانية تطبيق النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية والنماذج الكمية على الإنسان. وثمة تَصوُّر بأن كل الناس (والعلماء) يسألون الأسئلة نفسها ويصلون إلى الإجابات نفسها (إن توافرت الظروف الموضوعية)، ومن ثم فإن عملية تراكم المعرفة عملية مستمرة تتبع خطاً مستقيماً واضحاً وتتم على مستوى الجنس البشري بأسره، ومن هنا ظهور النماذج واحديةالخط (بالإنجليزية: يوني لينيار unilinear) التي ترى أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها المعرفة ويتم الحكم على المعرفة من منظور مدى اقترابها من هذه النقطة أو ابتعادها عنها. والمفروض أن عملية التراكم هذه ستؤدي إلى التزايد التدريجي لرقعة المعلوم وإلى تَحكُّم الإنسان في الطبيعة وفي نفسه، وهذا ما سميناه «النموذج التراكمي». وهذا المفهوم هو المفهوم الأساسي الكامن في فكر هوبز وماكيافيللي وإسبينوزا ولوك وفكر حركة الاستنارة وعلم النفس الترابطي والسلوكي والفلسفة الوضعية وغيرها من الفلسفات المعادية للإنسان والتي تحاول إزاحته عن مركز الكون.

ولكن هناك من يرى أن العقل ليس صفحة بيضاء، وإنما هو أداة نشيطة مبدعة في أثناء أبسط عمليات الإدراك والتلقي، ولذا فهو قادر على تجاوز الطبيعة/المادة. وهذا النقد يضرب بجذوره في الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان التي تجعل عقل الإنسان هو موضع الكمون ومن ثم تؤكد فعاليته واستقلاليته عن الطبيعة/المادة (وبالتالي حريته ومقدرته على الاختيار). وأصحاب هذه الرؤية يذهبون إلى أن الحقيقة ليست نتيجة تراكم معطيات حسية على صفحة العقل المادية وعمليات التجريب، فليست كل المعرفة مكتسبة، إذ أن ثمة جزءاً هاماً من المعرفة الإنسانية يُولَد من داخل عقل الإنسان نفسه (ومن هنا تسمية هذا النموذج «النموذج التوليدي»)، وهذا الجزء هو الذي يجعل المعرفة الإنسانية إنسانية ومركبة وجوانية ومستعصية للرصد السلوكي البراني من خلال نماذج العلوم الطبيعية والكمية. والأفكار المركبة ليست نتيجة ترابط آلية تتم بشكل تلقائي بين المعطيات المادية وإنما هو نتيجة لجهد إبداعي من جانب البشر. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن القانون الطبيعي/المادي العام يسري على بعض جوانب من الإنسان ولكنه لا يسري عليه في كليته، ولا يمكن تطبيق النماذج المسـتمدة من العلـوم الطبيعـية والنمـاذج الكمية على الإنسان. ولعدم وجود قانون عام، فالمعرفة لا يمكن أن تتبع خطاً مستقيماً واضحاً وإنما يعني أن كل إنسان يسأل أسئلة مختلفة نابعة من موقفه ولحظته، وهذا يعني أن الخاص لا يذوب تماماً في العام ولا يفقد أهميته أو قيمته، وأن المعرفة لا تؤدي بالضرورة إلى تزايد تحكُّم الإنسان في الطبيعة والإنسان.

وقد تَجلَّى هذا النموذج من خلال كتابات كثير من الفلاسفة الغربيين لعل أولهم ديكارت (رغم تأرجحه بين النموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة والنموذج المتمركز حول الإنسان) والذي أكدوجود أفكار كامنة في عقل الإنسان. وقد كان الفيلسوف الإيطالي جان باتيستا فيكو (1668 ـ 1744) من أهم المدافعين عن المقدرة التوليدية للعقل البشري. وتدور فلسفة كانط حول الأفكار المفطورة في عقل الإنسان (مقولات الزمان والمكان والحس الخلقي والحس الجمالي). كما تَجلَّى النموذج في فكر حركة العداء للاستنارة (الفكر الرومانسي) وكل الفلسفات التي ترفض الرؤية التجريبية والفلسفة الوضعية التي تركز على محاولة اكتشاف بنَى العقل والوعي العميق مثل الفلسفة الفينومينولوجية والوجودية والبنيوية وعلم نفس الجشطالت وعلم النفس عند يونج وبياجيه وعلم اللغة عند تشومسكي. ويشترك كل هؤلاء في أنهم يؤمنون بوجود جوانب في الفكر الإنساني لا يمكن تفسيرها على أساس النموذج التراكمي (الموضوعي المادي)، وهو ما يدل على أنها ليست نتاج التجربة أو تراكم المعطيات الحسية، وأنها تضرب بجذورها في المقدرات الكامنة في عقل الإنسان ومقدرته على إعادة صياغة ما يتلقاه من معطيات مادية من الواقع. وقد أعطى كل مفكر اسماً مختلفاً لهذه المقدرة: الوعي الجمعي بما يحويه من رموز عند يونج ـ النمو حسب بنية كامنة عند بياجيه ـ المقدرة اللغوية عند تشومسكي ـ البنية عند البنيويين. فتشومسكي، على سبيل المثال، وجد أن الطفل الإنساني لو تعلَّم اللغة عن طريق اكتسابها من العالم المادي لاحتاج لسنوات طويلة من حياته. كما لاحظ أن الطفل يستخدم بعض قواعد القياس ويقوم بعمليات تجريد لم يعلِّمها له أحد، ولا يمكنه اكتسابها بشكل تدريجي عن طريق التعلم، ولذا طرح رؤيته عن العقل التوليدي.

ويُلاحَظ أن العنصر الذي يشير إليه دعاة النموذج التوليدي هو عادةً عنصر يتجاوز العالم المادي الحسي المباشر ولكنهم مع هذا يرون أنه ليس له وجود خارج العالم الطبيعي، فهو عنصر كامن في عقل الإنسان مفطور فيه (عقل الإنسان وليس دماغه) إذ لا يمكن العثور على خلايا مادية داخل هذا الدماغ يمكن أن نشير إليها بشكل تجريبي ونقول: "هذا هو العضو التشريحي الذي تُولَد منه اللغة والأبنية" (أي أن الغدة الصنوبرية التي كان ديكارت يحاول التوصل إليها ليس لها وجود). ويمكن القول بأن مدرسة فرانكفورت التي تؤسس نظريتها النقدية على أساس وجود إمكانية إنسانية كامنة دائمة لا يمكن استيعابها في الوضع القائم هي التي تجعل الإنسان قادراً على التجاوز والنقد، هذه المدرسة تتبنى رؤية توليدية للعقل الإنساني. وغني عن القول أن من يتبنى رؤية مركبة (مادية وروحية) للإنسان، لابد أن يَتبنَّى النماذج التوليدية ويتخلى عن النماذج التراكمية.

ونحن نستخدم في هذه الموسوعة نموذجاً توليدياً. فنحن نؤمن بوجود ما نسميه «الإنسانية المشتركة» (لا الإنسانية الواحدة أو الطبيعة البشرية الثابتة)، وهي مقدرة كامنة في كل البشر تتحقق بدرجات متفاوتة تتحدَّد باختلاف البشر وظروفهم ومقدرتهم على التجاوز. ولكن مهما بلغت درجة تحقُّقها فإن هذه المقدرة الكامنة لا يمكن أن تُردَّ في كليتها إلى العالم المادي. ومن ثم، فنحننفترض أن ثمة تماثلاً بين البشر وأن من الممكن أن تسلك مجموعة من الأشخاص نفس السلوك بطريقة متشابهة دون أن يكونوا قد أثروا أو تأثروا ببعضهم البعض (بشكل مادي مباشر). فالذي يوجه سلوكهم ويولد أفكارهم هو هذه المقدرة الإنسانية المشتركة. ولكن، ورغم هذا التماثل، إلا أن الواحدية لا يمكن أن تسود، إذ أن كل إنسان وكل مجموعة بشرية تنتج حضارتها التي تحقق إنسانيتها الكامنة من خلال عناصر محدَّدة في الزمان والمكان تعطي هذه الحضارة خصوصية وتفرداً لا تعزلها عن بقية البشر وإنما تبيِّن انتماءهم الإنساني الذي لا يقبل إلا التنوع والتعدد. وإن طبقنا هذا على أعضاء الجماعات اليهودية فيمكننا القول بأن كل جماعة يهودية لها خصوصيتها وتفرُّدها (الذي تستمده من المجتمع الذي يعيش أعضاء الجماعة اليهودية بين ظهرانيه)، ولكنهم مع هذا بشر، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يشعرون بما نشعر به، ويحبون ويكرهون، وينتصرون وينكسرون، ويتفاعلون مع البيئة التي حولهم فيشكلونها ويتشكلون بها وتتنازعهم النزعات الجنينية والربانية، شأنهم في هذا شأن البشر كافة. وسـلوكهم من ثم ليـس نتيجـة مجموعة أفكار يقرأونها هنا أو هناك وإنما هو نتيجة هذه المقدرة الكامنة فيهم (للخير والشر). ولذا، إذا انخرط أعضاء الجماعات اليهودية في المحافل الماسونية بأعداد ملحوظة (على سبيل المثال)، فهذا ليس بسبب اكتشافهم الأفكار الماسونية وإنما هو تعبير عن النزوع الجنيني الكامن في الإنسان نحو الحلولية، هذا النزوع قد تَشكَّل من خلال البيئة الفكرية والاجتماعية في أوربا في القرن الثامن عشر وتَصاعُد معدلات العلمنة التي عبَّرت عن نفسها في المراحل الأولى من خلال الفكرالماسوني.

ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الاهتمام القومي العلماني بالأرض، فقد يقول البعض إن هذا يعود إلى أسفار موسى الخمسة حيث يرتبط الإله بشعبه وبأرضه ارتباطاً عضوياً حلولياً، وإن الفكرة وجدت طريقها إلى العلمانية الحديثة من خلال العهد القديم وأعضاء الجماعات اليهودية، وكأن الفكرة كيان مادي ينتقل كالبضاعة من مكان إلى آخر مع أن الأرض هي إحدى المفردات الأساسية في الخطاب الحلولي الذي يشكل العهد القديم أحد تجلياته وحسب إذ أن فكرة الأرض المقدَّسة (ككيان يحتوي داخله على القداسة) تُوجَد في معظم الوثنيات القديمة وفي كثير من المعتقدات الشعبية. وقد يكون من الأفضل أن نرى أن الحلولية نموذج كامن في الخطاب الإنساني يُعبِّر عن رغبة الإنسان الدفينة في العودة إلى الأرض واختزال الواقع تماماً، وهو نموذج تتولَّد منه مفردات أساسية مختلفة ويُعبِّر عن نفسه من خلال تجليات مختلفة (القبَّالاه اليهودية ـ القبَّالاه المسيحية)، وأن هذا النموذج تحوَّل تدريجياً من الصياغات الدينية داخل وحدة الوجود الروحية إلى الصياغات المادية داخل وحدة الوجود المادية، وأن تَحوُّله هذا هو نفسه ظهور العلمانية الحديثة.

ونحن، إن تخلينا عن النموذج التوليدي في التفسير، سنلاحظ أن هناك مجموعة من الأفكار المتشابهة يتداولها أعضاء الجماعات اليهودية، فنجد أنفسنا نتجه نحو التفسير التآمري إذ نرى أن اليهود أينما كانوا يقومون بدس نفس الأفكار ونشرها والترويج لها فنظن أنها مؤامرة عالمية كبرى دون أن ندرك أن الصينيين ـ على سبيل المثال ـ حينما يوضعون في نفس الوضع كثيراً ما يؤكدون نفس الأفكار ويسلكون نفس السلوك.

نموذج التأرجح بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع)وبين الصلابة والسيولة

نموذج الثنائية الصلبة الناجم عن الصراع بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية المادية(التمركز حول الموضوع) هو نموذج كامن في تلك النزعة الجنينية التي تشكل جانباً مهماً من إنسانيتنا المشتركة. ويتبدى هذا النموذج عبر تاريخنا البشري في منظومات فكرية وظواهر اجتماعية مثل: الحلولية الكمونية (الروحية والمادية) والعلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية (أ ـ ترمز إلى الواحدية الذاتية [التمركز حول الذات]، ب ـ ترمز إلى الواحدية الموضوعية المادية [التمركز حول الموضوع]. ويُلاحَظ أن كل الظواهر التي رصدناها تتبع نمط أ ـ ب إلا وحدة الوجود الروحية فهي مقلوب هذا النمط ب ـ أ).

1 ـ وحدة الوجود الروحية:

ب) يود المتصوف الحلولي، الزاهد في الدنيا وعالم الجسد، أن يترك الدنيا تماماً ليعود إلى الإله ويتحد به ويفنى فيه، كي يتحقق جوهره الرباني تماماً.

أ) إن تم الاتحاد الكامل وفناء الإنسان في الإله، فإن الفاصل بين الإله والإنسان يُمحى، وبدلاً من فناء الإنسان في الإله يفنى الإله في الإنسان، وبدلاً من إخضاع الذات للإله تتغول الذات وتتوحش.

2 ـ وحدة الوجود المادية (العلمانية الشاملة):

أ) يبدأ الإنسان العلماني في عالم الطبيعة/المادة، عالم الحواس الخمسة، فيبحث عن الإشباع الفوري والمباشر لحواسه وغرائزه، وعن تحقيق الحد الأقصى من الحرية الفردية والمتعة الشخصية، فلا إرجاء ولا تأجيل لإشباع الغرائز والحاجات، إذ يجب أن تختفي كل الحدود وأن تُزال كل القيود والسدود. وهكذا يركز العقل العلماني على عالم الذات وعالم الحواس والمعطيات المادية، مستبعداً أي شيء يتجاوز ذلك، فالإله والقيم المطلقة أفكار مجردة تجاوز حدوده. ويتزايد التركيز على الشخصي والمباشر والمتعين حتى يصبح جسد الإنسان الحقيقة النهائية والمطلقة الوحيدة وتصبح الأعضاء التناسلية (في الخطاب ما بعد الحداثي) الصورة المجازية النهائية.

ب) مع اختفاء المسافة بين الإنسان والطبيعة/المادة يذوب الإنسان فيا ويفقد ما يميِّزه كإنسان ويجد نفسه خاضعاً للحتميات الطبيعية، الموضوعية المادية. والطبيعة/المادة مجموعة من القوانين المجردة التي لا تكترث بالإنسان ولا بخصوصيته، ومن ثم تختفي تدريجياً كل الأشكال الخاصة والمتعينة وتحل محلها القوانين الطبيعية المجردة، والمعادلات والأرقام.

يتميَّز التمركز حول الذات وحول الموضوع بالصلابة. ولكن في إطار العلمانية الشاملة لا يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ تنتقل المنظومة ككل من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة (التي سنرمز لها بـ جـ).

جـ) يحـل المبـدأ الواحــد في كـل الأشــياء فتتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له، وبدلاً من الواحدية الموضوعية تظهر الواحدية الذرية السـائلــة، حيـث تصبح كل ذرة مستقلة بذاتها، ومن ثم ننتقل إلى حالة السيولة.

3 ـ الجماعات الوظيفية:

أ) الجماعات الوظيفية جماعات تؤمن برؤية حلولية للكون فترى نفسها مركز الكمون فهي مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها، تنظر للآخر باعتباره شيئاً للانتفاع.

ب) في تمركزها حول ذاتها، يتمركز عضو الجماعة الوظيفية حول وظيفته ويفقد ذاته فيها.

ويُلاحَظ أن مرحلة التمركز حول الذات (الواحدية الذاتية) لا تختلف في جوهرها عن التمركز حول الموضوع (الواحدية الموضوعية) ومن ثم تنشأ الثنائية الصلبة التي عادةً ما تُحسم لصالح الواحدية الموضوعية.

نموذج الما بعد

من أهم النماذج التي ظهرت نموذج «الما بعد» (ما بعد هي ترجمة لكلمة «بوست post» الإنجليزية وتنويعاتها الغربية المختلفة). وهو نموذج يشير إلى ما بعد ظاهرة ما دون أن يحدد شكل هذا الما بعد ولا اتجاهه. فهناك على سبيل المثال حديث عن «ما بعد الأيديولوجيا»، و«المجتمع ما بعد الصناعي»، و«ما بعد الرأسمالي»، و«ما بعد الميتافيزيقا» ، و«ما بعد الصهيونية»، وبطبيعة الحال «ما بعد الحداثة». ونموذج الما بعد يؤكد أن النموذج السائد (الرأسمالية ـ الحداثة.. إلخ) لم تَعُد له فعالية ولم يعد قادراً على تفسير الواقع الذي يشار إليه بأنه «رأسمالي» أو «حداثي». ولكن رغم أن القديم قد أخذ يموت إلا أن الجديد لم تتضح معالمه تماماً. ونظراً لعجز الإنسان الغربي عن تسميته الظاهرة الجديدة فإنه يكتفي بالإشارة إليها من خلال كلمة «ما بعد». وفي تصوُّرنا أن كلمة «ما بعد» تعني «نهاية» (وهي تظهر في اصطلاح «نهاية التاريخ» التي تعني «نهاية التاريخ الإنساني كما نعرفه»). ولكن لعل الإنسان الغربي قد وجد كلمة «نهاية» راديكالية وجذرية وتبلور الأمور أكثر مما ينبغي، ولذا اكتفى بكلمة «ما بعد».

الباب الثالث: النموذج الاختزالي والنموذج المركـب

النموذج الاختزالى

تشكل أطروحات نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) التربة الخصبة (وليس السبب الوحيد) لظهور النماذج الاختزالية التي تتسم بما يلي: التماسك الشديد ـ البساطـة ـ التجانس ـ الواحدية ـ السببية الصلبة ـ الطموح نحو شمـولية التفسـير ـ الطـموح نحـو درجة عالية من اليقينية ـ الطموح نحو الدقة المتناهية في المصطلحات.

والنموذج الاختزالي (الذي يمكن أن يُشار إليه أيضاً بـ «النموذج البسيط» و«النموذج المُغلَق» و«النموذج الواحدي» و«النموذج المُصمَت» و«النموذج الموضوعي المادي (المتلقي)») يتجه نحو اختزال العالم إلى عدة عناصر (عادةً مادية) بسيطة. فالظواهر، حسب هذا النموذج، ليست نتيجة تفاعُل بين مركَّب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة، والمجهولة من جهة، وإرادة إنسانية حرة وعقل مبدع من جهة أخرى، وإنما هي نتاج سبب واحد بسيط عام أو سببين أو ثلاثة (قد يكون قانوناً طبيعياً واحداً، أو دافعاً مادياً واحداً، أو قوة مدبرة خارقة)، تنطبع على عقل متلق لهذا القانون أو الدافع أو القوة. والعنصر المشـترك هنا هو استبعاد الفاعل الإنساني ورده إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة أو هذا العنصر الواحد أو ذاك) فالنموذج الاختزالي لا يُفرِّق بين الطبيعة/المادة والإنسان. ومهما تنوَّعت الأسباب وتعدَّدت فإن التنوع والتعدد، من منظور النموذج الاختزالي، مسألة ظاهرية، إذ أن كل الأسباب عادةً ما تنحل كلها وتمتزج، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لتصبح مبدأً واحداً ثابتاً لا يتغيَّر، تخضع له كل الظواهر بشكل مباشر يُلغي كل الخصوصيات والثنائيات وأشكال التنوع.

ولهذا السبب فإن النماذج الاختزالـية نماذج مطلقة مغلقة ترى التاريخ كياناً يتحرك بطريقة واحدة ونحو نقطة واحدة. وأحداث التاريخ والواقع الإنساني ككل هي نتاج بطولة بطل أو بطلين، أو نتاج عقل واحد متآمر وضع مخطَّطاً جباراً وصاغ الواقع حسب هواه، أو نتاج نظرية ثورية فورية أو فكرة انقلابية جذرية أو عودة مشيحانية أو حتمية تاريخية أو بيئية أو وراثية أو العنصر الاقتصادي أو الدافع الجنسي.

هذا المبدأ الواحد يمكن أن يكون روحياً (الإله ـ البطل ـ العقل الثوري ـ المؤامرة الكبرى) أو مادياً (قانون الحركة ـ العنصر الاقتصادي ـ العنصر الجنسي) أو روحياً اسماً، مادياً فعلاً (نَفَس العالم ـ روح الشعب). وفي الحالة الأولى، يُفسَّر كل شيء تفسيراً روحياً أو مثالياً أو تآمرياً (فلا موجود إلا هو). وهذا هو التفكير الديني المتطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب والذي يعلن نهاية التاريخ المشيحانية والعودة إلى العصر الذهبي أو صهيون. أما في الحالة الثانية، فإن كل شيء يُفسَّر تفسيراً مادياً (ولا موجود إلا هي: الطبيعة/المادة، أو قانون الحركة). وهذا هو التفكير العلماني الشامل المادي المتطرف الذي يؤدي إلى النسبية والعدمية وإلى أشكال مختلفة من الإرهاب الفكري والفعلي مثل الستالينية وإعلان الحل النهائي النازي أو نهاية التاريخ الليبرالية أو اليوتوبيا التكنولوجية (التي أوشكت على التحقق في الحضارة الغربية كما هو الزعم هذه الأيام).

ويمكن أن نصف هذا التصور الواحدي للتاريخ بطريقة مغايرة فنقول إن المبدأ الواحد في النماذج المغلقة لا يتجاوز العالم ولا يظل منزَّهاً عنه، وإنما يتجسَّد فيه. وحينما يتجسَّد فيه، ينغلق النسق وتُلغَى الثنائيات الفضفاضة والخصوصيات. ويدور هذا النموذج في إطار السببية الصلبة المطلقة المغلقة حيث تُوجَد وحدات بسيطة تتفاعل بشكل بسيط لتؤدي إلى نتائج بسيطة يمكن رصدها ببساطة وبحيث تؤدي (أ) حتماً إلى (ب) دائماً في كل زمان ومكان. وكل شيء لابد أن يدخل شبكة السببية الصلبة حتى نستطيع أن نصل إلى التفسير الكامل الشامل. وكل هذا يعني سيادة الواحدية السببية وسيادة الحتمية. وحينما يتعامل هذا النموذج مع العام والخاص والكل والجزء فإنه يذيب الجزء والخاص في الكل والعام تماماً بحيث لا يتعامل إلا مع الكل والعام.

ومهما كان أساس التفسير أو طبيعة التوجه السياسي أو الفلسفي للنموذج الاختزالي، فإن الرؤية المعرفية الكامنة واحدة؛ وهي رؤية تذهب عادةً إلى أن عقل الإنسان كيان سلبي متلق يُسجِّل كل ما ينطبع عليه من معطيات مادية بشكل آلي، أو أن الواقع بسيط مكوَّن من عنصر واحد أو اثنين، ومن ثم فالعلاقة بين العقل والواقع بسيطة يمكن رصدها ببساطة، فالعقل إما أن يتحكم في الواقع تماماً أو يذعن له تماماً. هذا يعني في واقع الأمر أن السمة الأساسية للنماذج الاختزالية هي استبعادها التركيبية تماماً واستبعادها الفاعل (المدرك) الإنساني.

هذا هو وصف النموذج الاختزالي في عصر العقلانية المادية الشمولية. وقد حدثت ثورة عارمة ضد هذه الرؤية الاستنارية وضد هذا النسق المغلق الواحدي الصلب وظهر الفكر المعادي للاستنارة الذي يصل إلى قمته عند نيتشه. ولكن الثورة تمت في نفس الإطار المعرفي (الكلي والنهائي) المادي. ولذا رُفض الإطار التفسيري الاختزالي الشامل وحل محله إطار يرفض فكرة التفسير نفسها ولكنه لا يقل عنه اختزالية، فبدلاً من فكرة الكل المادي ظهرت فكرة الغياب المادي للكل، وبدلاً من المطلقات الشاملة ظهرت النسبيات المطلقة، وبدلاً من التحدُّد الكامل ظهر اللاتحدُّد الكامل، وبدلاً من السببية الصلبة ظهرت اللاسببية والصدفة، وبدلاً من التماسك المُصمَت ظهرت الذرية والتشتت، وبدلاً من اليقين الكامل ظهر الشك الكامل، وبدلاً من التركيز على العام وإنكار الخاص تم التركيز على الخاص وإنكار العام، وبدلاً من التجانس المتطرف ظهر اللاتجانس المفرط، وبدلاً من البسـاطة السطـحية ظهر التأيقن المنغلق عـلى ذاته، وبدلاً من الرغـبة في التحـكم الإمبريالي ظهرت السيولة الكاملة، أي بدلاً من العقلانية المادية (والاستنارة المنيرة) ظهرت اللاعقلانية المادية (والاستنارة المظلمة). وظهور التفكيكـية (التقويضية) هو تعبير عـن هذا الوضع، فكل شـيء نسبي لا يمكن الوصول إليه، فهو غير محدَّد ومُرجأ. فكأن اللوجوس، بدل أن يتجسَّد في كل شيء (على طريقة الحلولية الكمونية الواحدية)، انسحب منه تماماً وغابواختفى (مات الإله، على حد قول نيتشه). ولكن ما يجمع الاثنين هو الصورة المجازية الأساسية للتجسد: فإما حلولية عضوية كاملة نتيجة التجسد الكامل أو تشظ آلي كامل نتيجة لغياب التجسد. ولذا، فإذا كانت العقلانية المادية أنتجت نماذج واحدية مادية، فإن اللاعقلانية المادية تعادي فكرة النماذج، أو تكتفي بإنتاج نماذج لاعقلانية مادية، نماذج مايكرو صغيرة لا تتعدى فعاليتها نطاق ظاهرة أو اثنين. وهكذا يتم التأرجح بين الواحدية التفسيرية والواحدية اللاتفسيرية.

والنماذج الاختزالية ذات جاذبية خاصة للأسباب التالية:

1 ـ عملية نحت النماذج المركبة (بما تتضمنه من عملية التجريد والتفكيك والتركيب) عملية صعبة للغاية تتطلب جهداً إبداعياً واجتهاداً خاصاً، ولذا فإن ما يحدث في كثير من الأحيان أن يقومالناس أثناء عملية التفسير بعملية تجريد تفكيكية اختزالية أبعد ما تكون عن التركيب وتتسم بالتبسيط والوضوح والتحرك في إطار السببية البسيطة (الروحية أو المادية) واليقينية المطلقة أو شبه المطلقة. فيستبعدون بعض العناصر ذات القيمة الأساسية في عملية الفهم والتفسير والتغيُّر التي لم يُدرك صاحب النموذج الاختزالي أهميتها، بحيث يصبح التعامل مع الواقع مسألة سهلة وتصبح النتائج التي يتوصل لها الباحث يقينية (تقترب من اليقينية التي يتوصل لها الباحث في الظواهر الطبيعية) الأمر الذي يُولِّد لدى الإنسان وهم التحكم الكامل في واقعه والتفاؤل الشديد البسيط. والعقل الإنساني، منذ أن وُجد الإنسان، دائم البحث عن صيغة بسيطة يمكنه عن طريقها تفسير كل شيء والتحكم في كل شيء وحل كل مشاكله: خاتم سليمان أو مصباح علاء الدين أو جملةسحرية أو معادلة رياضية أو قانون علمي واحد يفك به كل الشفرات ويحل به كل الألغاز ويفتح به كل الكنوز، فثمة رغبة طفولية جنينية كامنة في النفس البشرية تدفع الإنسان إلى محاولة الوصول إلى عالم فردوسـي لا صراع فيه ولا تَدافُع ولا اختيارات أخلاقية، عالم كل الأمور فيه واضحة لا لبس فيها ولا إبـهام، ومن ثم يمكن التحكم فيه تماماً.

2 ـ أدَّى شيوع وهم الموضوعية الكاملة المتلقية والواقع الخام إلى شيوع النماذج الاختزالية، فنحن كثيراً ما نتصور أن الحقائق هي الحقيقة وأن الواقع الخام هو مُستَقَرها، ولذا فنحن نحاول أن نكون موضوعيين تماماً في رصد الحقائق فلا نُعْمل عقولنا. ومعظم الحقائق التي يأتي بها الاختزاليون حقائق موضوعية ووقائع ثابتة حدثت تحت سمع الناس وبصرهم، فهم لا يختلقون الحقائق (في أغلب الأحيان) وإنما يجتزئونها، ولكن كثيراً ما تكون الحقائق التي يذكرونها تافهة هامشية جزئية لا علاقة لها بالحقيقة الكلية (ولذا فهي تُسمَّى بالإنجليزية: ترو لايز true lies أكاذيب حقيقية، أي كلمة حق جزئي يُراد بها باطل كلي).

3 ـ النموذج الاختزالي هو النموذج السائد في الصحافة والإعلام على وجه العموم، بسبب أن المشتغل بالإعلام عادةً ليس عنده فسحة من الوقت للنظر العميق في الوقائع التي يكتب عنها (فرئيـس التحرير يود أن يجد الخبر فوراً على مكتبه) ولذا ارتبط الإعلام تماماً بالآن وهنا وبما يسمونه الأحداث الساخنة، التي يضطر الإعلامي لعزلها عن أي سياق أو خلفية تاريخية أواجتماعية وأية دوافع إنسانية مُركَّبة وأية إشكاليات سابقة. وإن حدث وأدرك الإعلامي بعض الأبعاد المركبة للحادثة التي يكتب عنها فهناك مشكلة أن السيد رئيس التحرير الافتراضي يريدها في حيز صغير جداً (200 كلمة ـ 3 دقائق). وقد أدَّى كل هذا إلى سيادة النماذج الاختزالية على الإعلام والإعلاميين، وبسبب سيطرة الإعلام على عقول الناس بدأت النماذج الاختزالية تهيمن على السواد الأعظم من البشر.

4 ـ وقد عمَّق هذا الاتجاه ظهور الصورة كمصدر أساسي للمعرفة، فالصورة منغلقة على نفسها توصِّل رسالتها بشكل مباشر إلى وجدان الإنسان العادي، الأمر الذي لا يتيح له أية فرصة للتأمل أو التفكر.

5 ـ لا شك في أن إيقاع الحياة الحديثة ذاته الآخذ في التسارع لا يسمح بأي تأمل أو تفكُّر، ولذا فمن الأفضل للإنسان أن يدور في إطار الصيغ اللفظية الجاهزة (الكلشيهات) والصور النمطية.

والأسباب السابقة تجعل البشر وبخاصة في العـصر الحديث، يميلون إلى تبنِّي النماذج الإدراكية والتحليليـة الاختزالية. غير أن هناك عناصر تكمُن في واقع أعضاء الجماعات اليهودية ساعدت على انتشار النماذج الإدراكية الاختزالية التبسيطية بين دارسي الظواهر اليهودية.

1 ـ لعل من أهم هذه الأسباب أن ظاهرة الجماعات اليهودية ظاهرة شديدة التركيب وعدم التجانس. فهم ينتمون لعدة مجتمعات في مراحل تاريخية مختلفة وغالبيتهم تعيش في الوقت الحاضر في الولايات المتحدة. ولكن هناك كتلة بشرية يهودية في الشرق الأوسط تدَّعي أنها أقامت دولة يهودية. وهم يوجدون في كل الطبقات القائمة، فمنهم كبار الرأسماليين في الولايات المتحدة ومنهم الحرفيون البدائيون في إثيوبيـا. لكن العقل البشري (ربما تأثُّراً بالرؤية التوراتية والإنجيلية لليهود) نظر إليهم باعتبارهم شعباً واحداً (مقدَّساً أو شاهداً أو شهيداً أو مختاراً أو وضيعاً أو منبوذاً) ثم هيمنت مقولة وحدة اليهود هذه وتم رصد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم ظاهرة واحدة ينتظمها إطار واحد، وتمت عملية التراكم المعرفي في هذا الإطار الذي يفترض وجود مثل هذه الوحدة الوهمية. وقد استنام معظم الباحثين لهذه الأطروحة السهلة، ولم يَعُد أحد يختبرها مع أنها قابلة للاختبار بالعودة إلى الواقع المتنوع الثري وغير المتجانس للجماعات اليهودية في التاريخ. ولو فعلنا ذلك لاكتشفنا أن اليهود ليسوا يهوداً والسلام، بل هم جماعات يهودية لا ينتظمها تاريخ يهودي واحد وإنما تواريخ إنسانية متعددة، ولاكتشفنا أيضاً أن عناصر عدم التجانس بين هذهالجماعات أكثر أهمية من الناحية التفسيرية من العناصر المشتركة بينها، وأن الجماعات اليهودية «جماعات» أكثر أهمية من كونها «يهودية». ولكن التوصل إلى هذا المستوى من التعميم يتطلب جهداً بحثياً وإبداعياً شاقاً، عادةً ما يستغرق وقتاً طويلاً، إذ يجب أن يقوم الباحث بمقارنة يهود الصين مثلاً بيهود إثيوبيا بيهود الولايات المتحدة ويهود العالم الإسلامي، في الماضي والحاضر، وعلى المستويات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والسكانية... إلخ، وذلك حتى يكون بوسعه أن يحدِّد العناصر المشتركة بينهم، والثوابت والمتغيرات، وعلاقة الواحد بالآخر، وهكذا.

2 ـ يمكن القول بأن الشعائر اليهودية المركبة التي لا يستطيع الكثيرون من غير اليهود فهمها تُعَدُّ من أهم العناصر التي ساهمت في إشاعة النماذج الاختزالية في دراسة الظواهر اليهودية. فحينما لا يفهم الإنسان شيئاً فإنه كثيراً ما يلجأ إلى تفسيرات اختزالية (تآمرية أو صهيونية) تريحه من عناء التفكير.

3 ـ ساهمت النزعة الانعزالية في الدين اليهودي، والتصورات الدينية اليهودية الخاصة بالشعب المختار والمركزية الكونية والتاريخية التي يضفيها اليهود على أنفسهم في تعميق شكوك غيراليهود فيهم. ومع هذا، يجب التنبه إلى أن ثمة نزعة توحيدية قوية في العقيدة اليهودية رغم هيمنة النزعة الحلولية الواحدية (ابتداءً من القرن السادس عشر على وجه الخصوص).

4 ـ يُلاحَظ أن اليهود يلعبون دوراً مركزياً في الدراما التاريخية المسيحية (نزول المسيح ـ صلبه على يد اليهود ـ هداية اليهود تمهيداً للعصر المشيحاني... إلخ). وقد ارتبطت فكرة الخروج في الوجدان الغربي باليهود، فهم دائماً في حالة خروج (ودخول) من فلسطين (أرض كنعان) إلى مصر، ثم من مصر إلي فلسطين، ثم من فلسطين إلى بابل، ومن بابل إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى أرض الشتات، وهكذا. وساهم كل هذا في تحويل اليهود إلى مقولة غير زمانية وفي اختزالهم إلى بُعد واحد.

ومع أن اليهود لم يلعبوا دوراً متميِّزاً مماثلاً في الإسلام، فقد كانوا أهل كتاب وذوته، إلا أنه من خلال تفسير حرفي يطابق بشكل هندسي بين ما جاء في القرآن ووقائع التاريخ المتناثرة، تم الربط بين ما جاء في القرآن والسنة عن اليهود وبين يهود العالم في العصر الحديث. ومن ثم، تَحوَّل اليهود إلى مقولة ثابتة غير زمانية، وتم اختزالهم مرة أخرى إلى بُعـد واحد رغم المفاهيم الإسلامية الحاكمة الخاصة بالفطرة والتدافع وقبول الآخر.

5 ـ مما لا شك فيه أن وجود اليهود داخل عديد من المجتمعات الغربية، كجماعات وظيفية متفرقة تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة، والتي تَحقَّق من خلالها قدر كبير من النجاح التجاري والمالي، عمَّق الرؤية الاختزالية التآمرية في النظر لليهود. وقد بلغت هذه الشبكة قمة تماسُكها وقوتها في القرن السابع عشر حين كانت تصل بين يهود الأرندا في شرق أوربا (في بولندا وأوكرانيا)، ويهود البلاط في وسطها وغربها، ويهود السفارد في البحر الأبيض والدولة العثمانية وشبه جزيرة أيبريا والعالم الجديد. وخلق هذا الوجود إحساساً عميقاً لدى كثير من الدارسين بأن ثمة تنسيقاً تآمرياً بين اليهود في كل أنحاء العالم (وقد انحلت هذه الشبكة تماماً بقيام النظام المصرفي الحديث وظهور الدول القومية العلمانية الحديثة).

6 ـ أدَّى تعثُّر التحديث في الإمبراطورية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر وتَزايُد عدد اليهود نتيجة انفجار سكاني صغير (ولمُركَّب آخر من الأسباب) إلى خلق مشكلة عدم تأقلُم لدى الكثيرين من أعضاء الجماعات اليهودية إزاء النظام الاقتصادي الجديد، الأمر الذي اضطر أعداداً كبيرة منهم للهجرة، وقد وُصف هذا بأنه دليل على رغبة اليهود الأزلية في الخروج من أوطانهم ودليل على تطلُّعهم الدائم لصهيون.

7 ـ ومع ضعف المجتمعات الغربية وبنائها القيمي، بسبب انتشار قيم النفعية واللذة، ومع تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من الحركات الفوضوية وفي قطاع اللذة (الكباريهات ـ السينما ـ السياحة)، تَعمَّق الإحساس بأن ثمة مؤامرة يهودية لا تهدف إلى السيطرة على العالم وحسب، بل تهدف أيضاً إلى إفساده (مع العلم بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت من أكثر القطاعاتالبشرية محافظة من الناحيتين الأخلاقية والسياسية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولم تكن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين معروفة بينهم).

وطريقة صياغة النموذج الاختزالي لا تختلف عن طريقة صياغة أية نماذج تحليلية أخرى، فهي عملية تفكيك وتركيب:

1 ـ يحدِّد صاحب النموذج الاختزالي الواحدي (الروحي أو المادي) أطروحته الأولية (الفرض العلمي)، وهي عادةً أطروحة بالغة البساطة، وفائقة العمومية بسبب استبعادها لتركيبية الواقع وتركيبية الفاعل الإنساني (اليهود إن هم إلا عناصر بورجوازية ـ اليهود إن هم إلا شياطين... إلخ).

2 ـ تُمنَح الأطروحة البسيطة مركزية تفسيرية.

3 ـ تتم مراكمة المعلومات في ضوء هذه الأطروحة البسيطة، ومهما بلغت سذاجة وبساطة الأطروحات والفروض الأولية، فهناك دائماً في الواقع بعض المعطيات والحقائق التي يمكنها أن تضفي قدراً من المصداقية على هذه الأطروحات والافتراضات، وهي عادةً حقائق صلبة وصادقة تماماً من الناحية الإخبارية المباشرة، أي أنها موجودة بالفعل في الواقع.

4 ـ ولكن ما يحدث لهذه الحقائق الصلبة هو ما يلي:

أ ) تُنزَع الوقائع والتفاصيل من سياقها التاريخي والإنساني، بحيث تصبح لا تاريخ لها ولا أصول اجتماعية ولا أبعاد إنسانية.

ب) تُعزَل الوقائع والتفاصيل عن كل أو معظم الحقائق الأخرى، وعن أية نماذج أو أنماط تاريخية أو اجتماعية أو إنسانية أخرى، أي أن المنظور المقارن يُسقَط تماماً.

جـ) بعد إتمام هاتين العمليتين يمكن فرض أي اتجاه على هذه الحقائق فتتحوَّل إلى مؤشر إمبريقي دقيق ودليل مادي قاطع على صدق الأطروحة أو الفرضية الأولية، فهناك عدد لا بأس به من البورجوازيين من أعضاء الجماعات اليهودية، ولا شك في أن هناك من اليهود من يسلك سلوكاً شيطانياً (شأنهم في هذا شأن بعض البشر).

وبعد أن تتم صياغة النموذج البسيط وتوثيقه، لابد أن يتسم من يتلقَّى "الأطروحة الموثقة" بمقدرة فائقة على تَقبُّل الحقائق المادية الصلبة دون مساءلة وعلى استبعاد الفاعل الإنساني، فهو مُتلقٍّ موضوعي محايد، إن رأى أرقاماً آمن بها على التو، وإن سمع عن واقعة حدثت فعلاً عليه أن يصدقها بكل ما أوتي من عنف وموضوعية دون تفكيك أو تركيب، ودون استدعاء حقائق وأنماط أخرى، ودون إدراك السياق الاجتماعي والتاريخي الإنساني للتفاصيل والوقائع التي تُعرَض عليه، ودون تساؤل عن مدى أهميتها ومركزيتها.

وتتسم النماذج الاختزالية، روحية كانت أم مادية، بالواحدية، وتُعبِّر هذه الواحدية عن نفسها إما في مستوى متدن جداً من الخصوصية في حالة النماذج الروحية أو مستوى عال جداً من التعميم في حالة النماذج المادية (كما يمكن أن يتأرجح النموذج الاختزالي بشدة بين المستويين)، فالنماذج الاختزالية التآمرية ترى اليهود ظاهرة واحدة متماسكة (شعب واحد ـ طبقة واحدة ـ تشكيل حضاري واحد)، وهو شكل من أشكال التعميم المفرط. وتبدأ هذه الدراسات في الحديث عن تاريخ واحد مع أن مثل هذا التاريخ غير موجود. والأبحاث التي تقبل مثل هذه المقولات تجد نفسها تدور داخل حدود ضيقة متحيزة تؤكد بعض العناصر الهامشية وتهمِّش (أو تُسقط تماماً) بعض العناصر الأساسية، ثم يجد الباحث نفسه يراكم الحقائق داخل هذه الحدود ويبحث عن أنماط مستمرة حيث لا أنماط ولا استمرار، فتفرض عليه المقدمات المتحيزة الكامنة نتائج مضلِّلة. ثم يجد نفسه في نهاية المطاف يكتشف خصوصية يهودية تعزل الظواهر اليهودية عن الظواهرالإنسانية الأخرى، أي أن النموذج الاختزالي التآمري انتقل من التعميم المفرط إلى التخصيص المفرط.

وقد يكون من المفيد أن نضرب بعض الأمثلة على ذلك: حين يفترض الباحث ذو النزعة الاختزالية (التآمرية) أن اليهود (وليس، على سبيل المثال، أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في روسيا) يتحركون داخل التاريخ اليهودي (وليس داخل التاريخ الروسي بشكل مُحدَّد)، فإنه يبحث عن أسباب ظهور الصهيونية داخل هذا النطاق اليهودي الضيق، وذلك بدلاً من أن ينظر إلى الديناميات الحضارية والإنسانية الأشمل والأكثر فعالية مثل تَعثُّر التحديث في روسيا القيصرية وظهور التشكيل الاستعماري الغربي وتآكُل المنظومات الأخلاقية للمجتمع القيصري ككل. بدلاً من ذلك يشير صاحب النزعة التآمرية إلى إحدى خصائص اليهود الفريدة: اتجاههم نحو التعالي على غير اليهود، الأمر الذي يستفز الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.

وحينما تُكتَشف عصابة مخدرات ودعارة في كاليفورنيا يديرها مهاجرون سوفييت أو يُعلَن عن وجود مافيا من اليهود السوفييت والإسرائيليين، فإن هذه الواقعة تتحوَّل في ذهن التآمريين من أعداء اليهود إلى مؤشر على انحلال الشخصية اليهودية. وفي الوقت نفسه وافق بعض الصهاينة على هذا ولكنهم يحوِّلون هذا الانحلال إلى مؤشر صلب وأكيد يدل على أن اليهود إن عاشوا خارج أرض الميعاد فإنهم يصابون بالانحلال الخلقي والتفسخ الاجتماعي بسبب اغترابهم ولا صلاح لهم إلا بالعودة لوطنهم القومي. ولا يرد في سياق هذا التحليل أي شيء عن معدلات الجريمة في كاليفورنيا، ولا نسبة اشتراك الجماعات المهاجرة الأخرى فيها، ولا نسبة اشتراك المهاجرين السوفييت، ولا نسبة اشتراك اليهود الأمريكيين (الذين استقروا في الولايات المتحدة منذ أمدطويل).

وحينما يظهر مجرم يهودي، فهذا تعبير عن الإجرام المتأصل في الطبيعة اليهودية (بالنسبة للمعادين لليهودية) ولا تتم الإشارة إلى عتاة المجرمين الآخرين من غير اليهود. وإن حصل يهودي على جائزة نوبل، فإن الصهاينة يشيرون إلى أن اليهود عباقرة بطبيعتهم، وإلى أن اليهود يشكلون 3% من الشعب الأمريكي بينما بلغ عدد اليهود من الحاصلين على جائزة نوبل 30% (مثلاً) وذلك دون الإشارة إلى أن العلماء اليهود الذين يكسبون جائزة نوبل يُوجَدون دائماً داخل التشكيل الحضاري الغربي ولم يظهر عباقرة بين يهود الهند أو إثيوبيا (وهو ما يدل على أن العنصر الثابت ليس يهودية العبقري وإنما وجوده في الحضارة الغربية بما تتيحه من إمكانيات وإعلام). وما يحدث هنا أن نقطة البدء هي حقيقة صلبة جزئية يتم تعميمها على اليهود ككل (وهذا هو جوهر التفكير العنصري).

أما النموذج الاختزالي العلمي فاختزاليته تتضح عادةً في رفضه أية خصوصية. فاليهود ظاهرة عامة ليس لها ما يُميِّزها. والصهيونية إن هي إلا نتاج تفاعل عوامل اقتصادية سياسية (عادةً واضحة ومحددة) داخل المجتمعات الأوربية في نهاية القرن التاسع عشر. وهي لا علاقة لها بالدين اليهودي أو ميراث الجماعات اليهودية أو بوضعها المتميِّز داخل الحضارة الغربية. ومن ثم فإن الأشكال الحضارية المختلفة هي عبارة عن قشور (بناء فوقي)، والدين إن هو إلا الأفيون يستخدمه المستغلون لخداع الجماهير. ويتم إسقاط عشرات العناصر التاريخية والإنسانية والسقوطفي التعميمات الكاسحة المخلة مثل القول بأن "الصهيونية هي جزء عضوي لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية" أو أن "الصهيونية تعبير عن مصالح البورجوازية اليهودية". ومن هنا طُرح في وقت من الأوقات شعار "وحدة الطبقة العاملة العربية واليهودية ضد البورجوازيات العربية واليهودية والاستعمار العالمي المتحالف مع الصهيونية"... إلخ، وهي شعارات وأقوال تنم عن عدم إدراك أصحابها لخصوصية العمال من أعضاء الجماعات اليهودية وخصوصية وضع هذه الجماعات في الحضارة الغربية وخصوصية الحضارة العربية. وتتضح هذه السذاجة الاختزالية حينما انطلق أحد كبار علماء السياسة العرب من إيمانه بأن النظام السياسي الإسرائيلي يشبه أي نظـام "ديموقراطي آخر" ولـذا قرَّر أن هـذا النظام ينتمي إلى نظام الحزبين على النمط البريطاني، وفي ذهنه بالطبع حزبا العمال والمحافظين مقابل المعراخ والليكود. والمقارنة صادقة تماماً لكنها سطحية جداً، فالحزب داخل النظام الاستيطاني الصهيوني يضطلع بوظائف تختلف تماماً عن وظائف الحزب في النظام الرأسمالي الديموقراطي الغربي، كما أن بنية الحزب وطريقة تمويله في إنجلترا مختلفتان عن مثيلتيهما في إسرائيل إذ لا يُوجَد نظير للمنظمة الصهيونية العالمية في النظام السياسي البريطاني. وعلى هذا النحو، يتم تناول النظام السياسي أو البنية الاقتصادية أو البناء الطبقي في إسرائيل وكأنها لا تختلف عن نظائرها في المجتمعات الأخرى. وهذا بطبيعة الحال مناف تماماً للواقع، فالظواهر الصهيونية الإسرائيلية لها أبعادها الخاصة وقوانين حركتها المتميِّزة. ومما يجدر ذكره في هذا المضمار أن بعض الصهاينة يحاولون قدر استطاعتهم أن يطرحوا تصوُّراً للصهيونية باعتبارها تشكيلاً قومياً مثل أي تشكيل قومي آخر وتصوُّراً لإسرائيل باعتبارها دولة صغيرة مثل أية دولة صغيرة.

وما يحدث هنا أن نقطة الانطلاق هي قانون عام أو بدهية واضحة يتقبلها الباحث باعتبارها مسلَّمة لا تخضع للبحث ويظل الباحث حبيساً فيها ثم يُعمم منها على الواقع، متجاهلاً كل السمات الخاصة التي قد تُشكِّل جوهر الظاهرة.

ومن الممكن أن يلتقي النموذجان الاختزاليان، التآمري والعلمي. فإذا كان الباحث التآمري الاختزالي يتخذ اضطهاد اليهود دليلاً على شيطانيتهم المتأصلة، فبإمكان أصحاب النموذج الاختزالي العلمي أن يأخذوا الظاهرة نفسها باعتبارها تعبيراً عن بؤس اليهود وضرورة تعويضهم عما لحق بهم من أضرار وأذى، وما لا يدركه الفريقان أنهما لم يتحركا خارج حدود الظاهرة اليهودية ليدرساها في إطارها الإنساني الأوسع.

وأطروحة اللوبي الصهيوني القوي، التي تُدرَس بعلمية وموضوعية شديدتين، هي نتاج هذه العقلية الاختزالية التي تبدأ من أطروحة بدهية: الولايات المتحدة دولة ذات مصالح ـ من بين هذه المصالح البترول والنفوذ في الشـرق الأوسـط ـ يمكن أن تخدم الولايات المتحدة مصالحها عن طريق التعاون مع العرب، ولكنها مع هذا تعاديهم. وهنا، فإن العقلية الاختزالية تركن إلى تفسير مثل هذا السلوك اللا عقلاني من قبَل دولة يُفترض فيها أنها عقلانية بالعودة لعنصر خارجي هو اللوبي الصهيوني الذي يحرِّك كل شيء، وتصبح هذه المقولة المنطقية الإطار الذي تُراكَم داخله المعلومات ولا يختبرها أحد. ولا يسأل أحد: هل يوجد لوبي شيلي قوي في الولايات المتحدة يجعلها تطيح بالرئيس ألليندي وتؤيد حكم بينوشيه العسكري؟ هل يوجد لوبي صربي قوي يضغط على الولايات المتحدة (وهيئة الأمم) بحيث يَضطرهم لتَرْك الصرب يذبحون البوسنيين ويكتفي العالم الحر بإصدار البيانات الصارمة؟ أليس من المحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد حدَّدت "صالحها" بطريقة تختلف عن تصوُّرنا العقلاني، وأنها ترى الأمور بطريقة مختلفة ومع هذا تتصوَّر أنها طريقة عقلانية تماماً؟

ومن أطرف الأمثلة على سذاجة النموذج الاختزالي (التآمري والعلمي) وبساطته وطريقة عمله ما ورد في إحدى الدراسات التي قام كاتبها بحشد عدد هائل من الحقائق الصلبة المتناثرة. كان بين هذه الحقائق الصلبة: وجود صديقة يهودية لليدي بيرد (زوجة الرئيس الأمريكي جونسون) في البيت الأبيض أثناء حرب 1967 وقد قُدِّمت هذه الحقيقة الصلبة باعتبارها دليلاً مادياً علمياً وقاطعاً على قوة النفوذ....

الصفحة التالية ß إضغط هنا