المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق 3

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الثالث: الأرض

الأرض (إرتــــس)

The Land (Eretz)

«الأرض» هي المقابل العربي لكلمة «إرتس» العبرية التي ترد عادةً في صيغة «إرتس يسرائيل» أي «أرض إسرائيل» (فلسطين). ويدور الثالـوث الحلولي حول الإله والشعب والأرض فتقـوم وحــدة مقدَّسـة بين الأرض والشعب لحلول الإله فيهما وتوحده معهما، ولذا ترتبط الديانات والعبادات الوثنية الحلــولية بـأرض محدَّدة أو بمكان محدَّد وبشعب يقيم على هذه الأرض أو على علاقة ما بها.

والحلولية طبقة جيولوجية مهمة تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي، تتبدَّى في إضفاء القداسة على الأرض نتيجة الحلول الإلهي فيها، ولذا فإن إرتس يسرائيل (فلسطين) تُسمَّى «أرض الرب» (يوشع 9/3)، وهي الأرض التي يرعاها الإله (تثنية 11/12)، ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الرب، والأرض المقدَّسة (زكريا 2/12) التي تفوق في قدسيتها أيَّ أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار. وقد جاء في التلمود: « الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة يسرائيل سوى أرض يسرائيل». وهي كذلك «الأرض البهية» (دانيال 11/16).

والواقع أن تعاليم التوراة، كتاب اليهود المقدَّس، لا يمكن أن تُنفَّذ كاملة إلا في الأرض المقدَّسة. بل، وكما جاء في أحد أسفار التلمود وفي أحد تصريحات بن جوريون، فإن السكنى في الأرض بمنزلة الإيمان: "لأن من يعيش داخل أرض يسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له". بل إن فكرة الأرض تتخطى فكرة الثواب والعقاب الأخلاقية (كما هو الحال دائماً داخل المنظومة الحلولية)، فقـد جـاء أن من يعيش خارج أرض الميعاد كمن يعبد الأصنام، وجاء أيضاً أن من يسر أربع أذرع في إرتس يسرائيل يعش لا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعـش في إرتـس يسـرائيل يطهر من الذنوب، بل إن حديث من يسكنون في إرتس يسـرائيل تـوراة في حد ذاته. وقد جاء في سفر أشعياء (33/24) أنه "لا يقول ساكـن [في الأرض] أنا مَرضْت. الشعب الساكن فيها مغفور الاثم".

وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً، فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تُتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد، كما أن شعائر السنة السبتية (سنة شميطاه)، والشعائر الخاصة بالزراعة وبعض التحريمات الخاصة بعدم الخلط بين الأنواع المختلفة من النباتات والحيوانات لا تُقام إلا في الأرض المقدَّسة. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض، ويردد المحتفلون بالعيد الرغبة في التلاقي العام القادم في أورشليم، والواقع أن الثمانية عشر دعاءً (أهم قسم في الصلوات اليومية ويُدعى «شمونة عسريه» بالعبرية) يتضمن دعاءً بمجيء الماشيَّح الذي سيأتي في آخر الأيام ويقود شعبه إلى الأرض. وحتى الآن، يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض ليُنثَر فوق قبورهم بعد موتهم.

وقد تَعمَّق التيار الحلولي، وتَعمَّق الارتباط اليهودي بالأرض، مع تدهور اليهودية، ولكنه مع هذا ظل ارتباطاً عاماً عاطفياً مجرداً بسبب وجود اليهود كجماعات منتشرة في العالم (لا يرغب معظمهم في العودة الفعلية). وقد عبَّر التراث التلمودي عن هذه الازدواجية بأن شجع على حـب صهيون والارتباط بـها، وحـذَّر في الوقت نفسـه من العودة الفعلية لها. وطالب الحاخامات اليهود بوجوب انتظار الماشيَّح والإذعان لإرادة الإله، وهو الرأي الذي رفضته الجماعات المشيحانية المختلفة ابتداءً بشبتاي تسفي وانتهاءً بالصهيونية التي ترتكب خطيئة «التعجيل بالنهاية» («دحيكات هاكيتس»). ومع هيمنة القبَّالاه، تَعمَّق الارتباط بالأرض وتعمقت قداستها، ولكن العودة ظلت أمراً محرماً، إلى أن نصل إلى العصر الحديث مع الحركة الصهيونية (أما في الإسلام، فإن الأمر مختلف حيث بدأ الإسلام في مكة والحجاز ثم انفصل عنهما لأنه دين مُرسَل إلى كل الناس في كل زمان ومكان، ولا تُقاس التقوى في الإسلام بمدى القرب أو البعد عن مكة، وإنما تقاس بمدى القرب أو البُعد عن القيم الأخلاقية الإسلامية، أي أن انفصال الإسلام عن المكان وارتباطه بمجموعة من القيم هو بمنزلة تأكيد لحرية الفرد المسلم ومسئوليته ومقدرته على تجاوز الواقع المادي والتسامي عليه إن أراد).

وإذا كان الشعب يمتزج بالأرض في النسق الحلولي، فإن الزمان المقدَّس (التاريخ اليهودي) يمتزج بالمكان المقدَّس (الأرض). ويتبدَّى هذا في أن الأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد، لأن الإله وعد إبراهيم وعاهده على أن تكون هذه الأرض لنسله. وهي أيضاً «أرض المعاد» التي سيعود إليها اليهـود تحـت قيادة الماشيَّح، أي الأرض التي سـتشهد نهاية التاريخ. والأرض هي مركز الدنيا لأنها توجد في وسط العالم، تماماً كما يقف اليهود في وسط الأغيار وكما يشكل تاريخهم المقدَّس حجر الزاوية في تاريخ العالم وتشكل أعمالهم حجر الزاوية لخلاص العالم. فإذا كان الشعب اليهودي هو أمة الكهنة، فإن الأرض بمنزلة المعادل الجغرافي لهذا التصور. وليس التاريخ اليهودي، حسب التصورات الحلولية التقليدية أو الصهيونية، إلا تعبيراً عن الارتباط بالأرض، وهو في الواقع ارتباط يجمع بين التاريخ الحي والجغرافيا الثابتة، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء وجود اليهود التاريخي خارج فلسطين. فهو وجود خارج الأرض، وبالتالي خارج التاريخ. كما يُلغي تاريخ الأرض نفسها باعتبار أنها مكان مطلق منبت الصلة بالزمان، خاو على عروشه، ينتظر ساكنيه الأزليين المقدَّسين.

وقد تَضخَّم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهود بها فتحولت إلى فكرة لاهوتية ونشأ ما يُسمَّى «لاهوت الأرض المقدَّسة». وكان من أهم المشكلات التي ناقشها لاهوت الأرض مشكلة حدودها، فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قـد قطع مع إبراهيم عهداً قـائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر العدد توجد خريطة مغايرة حددت على أنها «أرض كنعان بتخومها»، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر التكوين. وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.

ومن المشـكلات الطريفـة التي واجهها لاهـوت الأرض مشـكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب غير مقدَّس. فمنذ بدايةتاريخها وحتى عام 1000 ق.م، كان يقطن فيها الكنعانيون والفلستيون، ثم قطن فيها اليهود بضع مئات من السنين، ثم توافدت عليها بعد ذلك أقوام أخرى، إلى أن اختفى أي وجود يهودي حقيقي عام 70م. وهنا، كان على مفكري اليهود حل هذه المشكلة. وقد تناول الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: "في البدء خلق الإلهالسموات والأرض"، فكتب معلقاً: إن الإله يخبر جماعة يسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض يسرائيل وأخذتموها من أهلها فبإمكان اليهود أن يجيبوا بقولهم: « إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا ». فالأرض المقدَّسة، توجد، إذن، خارج التاريخ، وهي جزء من السماء والأرض اللتين خلقهما الإله قبل بداية التاريخ، والإله الذي يحل في الطبيعة والتاريخ هو صاحب التصرف فيهما معاً. وقد استخدم مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.

وقد حاولت اليهودية الإصلاحية أن تنفي أية إشارات إلى الأرض والعودة إليها في الصلوات اليهودية، على عكس اليهودية الأرثوذكسية والمحافظة التي تؤكد أهمية العلاقة الأزلية والرابطة الصوفية بين اليهودي والأرض. أما الصهيونية بجميع مدارسها، باستثناء الصهيونية الإقليمية، فتقوم على أساس التقديس العلماني أو الديني للأرض. وقد أحيا الفكرالصهيوني الثالوث الحلولي في اليهودية القديمة (وحدة الإله أو التوراة بالشعب بالأرض)، فترك فكرة القداسة بشكل عام دون تحديد مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة دنيوية مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض اليهودية كامنة فيهما (وهي التي تأخذ بها الصهيونية اللادينية). والصيغة الدينية هي حلولية متطرفة بحيث يتم تقديس الأرض لأنها متوحدة مع الإله، أما الصيغة العلمانية فهي حلولية بدون إله حيث تصبح الأرض هي الإله، وقد صرح ديان أن أرض يسرائيل هي ربه الوحيد. وقد استولى الصهاينة على الأرض الفلسطينية، وطردوا سكانها بالقوة العسكرية باعتبارها الأرض المقدَّسة. وأُسِّس الصندوق القومي اليهودي لتحويل المفهوم الصهيوني إلى حقيقة. وهكذا، فإنه يقوم بالحصول على الأرض باسم الشعب اليهودي، ويحرِّم دستوره تأجيرها أو بيعها لغيراليهود أو للأغيار العرب.

ونظراً لأن التراث الديني اليهودي يحتوي على عدة خرائط تتفاوت في اتساعها وضيقها، فإنه توجد مدارس صهيونية عديدة تطرح كل منها صيغتها التوسعية الخاصة. فمنهم من يوِّسع نطاق القداسة لتضم سيناء، ومنهم من يضيقها لتقف عند حدود 1948. وهناك مدارس مختلفة داخل الجيش الإسرائيلي. ويرى يوري أفنيري أن فكرة الأرض المقدَّسة تُستخدَم فقط كنوع من الاعتذاريات والمسوغات بعد عمليات الضم نفسها، وأن ما يقرر الضم والانسحاب هو حركيات القوة الذاتية الصهيونية. وقد أشار إلى أن مرتفعات الجولان ليست لها أية قداسة خاصة، أو أن درجة قداستها تقل عن قداسة شبه جزيرة سيناء. وقد انسحبت إسرائيل مع هذا من سيناء، ولكنها لم تنسحب منالجولان. ولذا، يرى أفنيري أن دراسة التوسعية الصهيونية تتطلب دراسة الملابسات السياسية والعسكرية لا الآراء الفقهية.

وكما يؤكد الفكر الصهيوني أهمية الأرض كعنصر أساسي في البعث القومي، يؤكد الفكر النازي أيضاً الشيء نفسه، فالشعب العضوي لا يمكنه أن ينهض إلا في أرضه التي يرتبط بها برباط عضوي قوي، وفي هذه الأرض وحدها يمكن أن تُولَد روح الشعب من جديد. ومن هنا أبدى النازيون تفهماً واضحاً لرغبة اليهود الصهاينة في الهجرة إلى أرضهم. ومن ثم قال أيخمان، في محاكمته،إن النازية كانت تهدف إلى وضع قليل من الأرض الثابتة تحت أقدام اليهود الجائلين.وهذا القول لا يختلف كثيراً عن الشعار الصهيوني «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فالصورة المشتركة هي صورة شعب جائل تائه يحتاج إلى أرض راسخة يضرب بجذوره فيها.

ويبدو أن الارتباط بالأرض (الوطن القومي البعيد) من السمات الأساسية للجماعات الوظيفية كافة، فهذا الارتباط يُضعف انتماءها للوطن الذي تعيش فيه. ومن ثم، يُضعف ارتباطها به، ويزيد انفصالها عنه وبالتالي تتزايد أيضاً موضوعيتها وتعاقديتها. كما أن الارتباط بالأرض (المقدَّسة البعيدة)، مقابل الأرض غير المقدَّسة القريبة، يزيد ترابط أعضاء الجماعة الوظيفية، وهو في نهاية الأمر يضعف الانتماء التاريخي، ومن ثم يعيش عضو الجماعة الوظيفية داخل مجتمع لا توجد بينه وبينها روابط تراحُم، فتزداد كفاءته في أداء وظيفته.

صهيون

Zion

«تسيون» اسم تل وقلعة في القدس (يُشار له في اللغة العربية بـ «جبل المكبر» أو «جبل الزيتون»). وأصل الاسم غير معروف، ولكن هناك من ذهب إلى القول بأن الاسم مشتق من الكلمة الحورية «صيا» التي تعـني «قلعـة أو صـخرة أو مكاناً جافاً أو ماءً جـارياً». وقد استُخدم الاسم، في بداية الأمر، للإشارة إلى قلعة اليبوسيين جنوب شرقي القدس أسفل تل أوفيل وجبل الهيكل أو جبل البيت أو هضبة الحرم. وقد سُمِّيت «بيت داود» بعد أن وقعت في يد داود. وبعد أن نقل لها حكمه، أصبحت كلمة «جبل صهيون» تشير إلى كل من تل أوفيل وجبل البيت، وهذا هو الاستعمال الذي شاع في زمن الحشمونيين حينما كان يُشار إلى جبل البيت بأنه جبل صهيون. ويُقال إن داود قد دُفن فيه. ولكن، مع القرن الأول الميلادي، أصبح الموضع الحالي الذي يوجد جنوب غربي مدينة القدس والذي يُشار إليه باعتباره جبل صهيون، مع أن معظم العلماء يرون أنه لا يمثل موضع جبل صهيون الأصلي.

وحسب الرؤية الحلولية اليهودية، يسكن الإله في هذا الجبل المقدَّس، فقد ورد في المزامير: « رِّنموا للرب الساكن في صهيون » (مزامير 9/11). ولكن الحلولية ترد كل شيء إلى مستوى واحد، وهو ما يعني تَداخُل الأشياء والظواهر وتَساقُط حدودها وذوبانها جميعاً في كلٍّ واحد. ولذا، تأخذ دلالة الكلمة في الاتساع إلى أن تشمل أي زمان ومكان لهما علاقة بالشعب المقدَّس. فكلمة «صهيون» لا تشير إلى الجبل وحده، بل إنها تشير أيضاً إلى المدينة المقدَّسة. ولكنها ليست مدينة وحسب، بل هي أيضاً «أم يسرائيل» التي سيُولَد الشعب اليهودي من رحمها. ولذا، يُطلَق على الشعب مُصطلَح «بنت صهيون». ويزداد نطاق دلالة الكلمة اتساعاً، فنجد أن صهيون ليست الأم فحسب، بل هي الزوجة المهجورة، أي أنها «الشعب اليهودي» نفسه الذي يقاسي من آلام النفي. ثم تتسع الدلالة أكثر، فنجد أن كلمة «صهيون» تشير إلى كلٍّ من الشعب والأرض، فالأرض المقدَّسة ككل تُسمَّى «صهيون». وتعني كلمة صهيون أيضاً «السماء». ومع هذا، تظل الدلالة تتسع حتى نكتشف أن صهيون (الجبل أو المدينة أو الأرض) ستصبح عاصمة العالم كله عند مقدم الماشيَّح، وتصبح ذات دلالات أخروية (إسـكاتولوجيـة) عميقة. وهكذا، تتمركز صهيون في وسط الجغرافيا والتاريخ، وعلى قمتهما.

وفي محاولة لتهدئة النزعة المشيحانية في اليهودية، ولترويض الاتجاهات المتطرفة، فسر فقهاء اليهود كلمة «صهيون» بأنها المكان الذي اختاره الإله واصطفاه بالمعنى الديني وحسب. وبالتالي، يُعَدُّ السكن في صهيون عملاً خيِّراً بالمعنى الديني، ويُصبح حب صهيون والحنين إليها أمراً دينياً، أي أن صهيون ليسـت موقـعاً جـغرافياً وإنما هي مفهوم ديني.

وقد أسقطت الحركة الصهيونية هذا التمييز وفسَّرت «صهيون» تفسيراً حرفياً، فلم تَعُد رمزاً دينياً، وإنما مكاناً ملائماً للاستيطان. وقد اشتق اسم الحركة الصهيونية من كلمة «صهيون».

وبسبب اختلاط المجال الدلالي للكلمة، طبعت الكنيسة الإنجليكانية في نيوزيلندا كتاب صلوات يُسقط كلمة «صهيون» وكلمة «إسرائيل» ويحل محلهما كلمات مثل: «جبل الإله المقدَّس» بدلاً من «صهيون»، و«شعب الإله» بدلاً من «إسرائيل». وبالتالي، فإن الكنيسة تضمن عدم الخلط بين المُصطلَحات، التي أفسدها الصهاينة باستيلائهم عليها، وبين القصد الديني الأصلي.

الأرض المقدسة

Holy Land

«الأرض المقدَّسـة» هي «إرتس يسرائيل»، أي أرض فلسطين )انظـر: «الأرض [إرتس]» ـ «إرتس يسرائيل»).

أرض الميعــــــــاد

The Promised Land

انظر: «الأرض (إرتس)».

احترام حياة اليهودي (بكوَّح نيفيش)

Pikuah Nefesh

«احترام حياة اليهودي» هي عبارة نستخدمها للتعبير عن مُصطلَح «بكوَّح نيفيش» العبري، وكلمة «نيفيش» تعني «نفس»، أما كلمة «بكوَّح» فتعني حرفياً «الوعي» (بقيمة الإنسان). وينطلق هذا التعبير من مفهوم تلمودي ويشير حرفياً إلى واجب إنقاذ الحياة الإنسانية إن تعرضت للخطر ولكنه يشير فعلياً إلى واجب إنقاذ حياة اليهود. وقد ورد في اللاويين (19/16) "لا تقف على دم قريبك" بمعنى أنك لن تقف متفرجاً حينما يسيل دم جارك (اليهودي). إذ يبدو أن احترام الحياة ينطبق على حياة أعضاء الشعب المقدَّس وحسب. ويذهب الحاخامات إلى أن مفهوم احترام الحياة يجبُّ حتى قوانين السبت وشعائره.

وقد دارت حرب بين الحاخامات في إسرائيل حول هذا المفهوم، إذ طالب حاخام السفارد الأكبر السابق عوبديا يوسف بالانسحاب من الأراضي المحتلة لإنقاذ حياة اليهود عملاً بمفهوم بكوَّح نيفيش هذا، وقد أيَّده بعض الفقهاء في رأيه واقتبسوا من العهد القديم من سفر التثنية الإصحاح 30، فقرة 19 "قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك». ومن الواضح مرة أخرى أن المقصود حياة اليهود. وقد اقتبس المعارضون لرأيه من سفر العدد، إصحاح 33، فقرة 52 ـ 53 «كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها». وتبيِّن المقطوعة أن الأرض هي المطلق، والارتباط بها والحفاظ عليها يجبُّ كل القيم الأخرى، ومنها حياة اليهود أنفسهم، وكان بوسع معارضي الحاخام عوبديا يوسف ألا يذهبوا بعيداً وأن يكتفوا باقتباس الفقرة التي تأتي بعد الفقرة التي اقتبسها مؤيدوه (سفر التثنية 30/20) والتي جاء فيها «إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها». والفقرة الثانيـة تجعل الحياة الإنسـانية (ومنها حياة اليهود) ثانوية بالنسبـة للأرض، فالإله يطيل حياة اليهود لكي يسكنوا الأرض.

والواقع أن الصراع هنا صراع بين رؤيتين داخل التركيب الجيولوجي اليهودي تعبِّران عن درجتين من الحلول، وفي الرؤية الأولى يتم الحلول الإلهي في الشعب اليهودي (دون الأرض) فيصبح اليهودي مركز الكون ومن ثم تصبح حياته أمراً مهماً. أما الرؤية الحلولية الأخرى فتختزل الوجود بأسره إلى مستوى واحد ويتم الحلول الإلهي في كل من الشعب والأرض، ليكتمل الثالوث الحلولي ويفقد الإنسان أية مركزية وأهمية لتحل الأرض محله وتسيل الدماء من أجلها. وقد وصف الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري أرض إسرائيل بأنها ليست مجرد قطعة أرض أو إقليم وإنما إلهة ثأر وثنية بذيئة لا تشبع قط من شرب دماء عابديها، فهي تطالب بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى. وقد لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عزرا أن الإسرائيليين الشباب الذين يخدمون في الجيش يشعرون بأن أهلهم، بالاشتراك مع الدولة، يضحون بهم بدون تعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون بأن هذه الحروب هي «تضحية علمانية بإسحق»، أي أنها تضحية تدور في إطار حلولية بدون إله، ولذا فهي تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.

إن الدائرة الحلولية بدون إله قد انغلقت على رأس المستوطنين، فالأرض مقدَّسة، بل «هي ربي الوحيد» على حد تعبير موشى ديان، وهي موضع الحلول الإلهي دون إله، ولذا فهي صماء لا تعي ولا تنطق، ولذا فلا مجال للحفاظ على حياة العرب ولا حياة الإسرائيليين أو اليهود، لا مجال لبكوَّح نيفيش، فهذا المفهوم الحلولي يفترض وجود إله يحابي شعبه، أما الصهيونية فقد أعلنت موت هذا الإله وبقيت الأرض مقدَّسة دون أي احترام لأي حياة، سواء كانت حياة اليهود أم غيرهم. ولذا لا يملك ديان إلا أن يقول: "إننا جيل من المستوطنين لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت بدون الخوذة الحديدية والمدفع، وعلينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا، علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".

الباب الرابع: الكتب المقدسـة والدينية

الكُتـــب المقدَّســـة والدينيــة

Sacred and Religious Books

تتَّسم اليهودية بتعدد كُتُبها الدينية المقدَّسة. ويعود هذا إلى عدة أسباب من أهمها فكرة العقيدة الشفوية الحلولية التي تضفي القداسة على كتابات الحاخامات الدينية واجتهاداتهم، بل تعادل بين الوحي الإلهي (التوراة) والاجتهاد البشري (التلمود). وقد مرّت اليهودية، كنسق ديني، بمراحل تطور تاريخية طويلة؛ متعددة ومتناقضة. ولذا، فهي تأخذ شكل تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات تتعايش جنباً إلى جنب، أو الواحدة فوق الأخرى، ويتبدَّى هذا التراكم الجيولوجي في الصراع الحاد بين التوحيد والحلولية، والذي يتضح في كتب اليهود المقدَّسة وأهمها الكتاب المقدَّس أو التوراة، والتي تُقسَّم إلى أسفار موسى الخمسة (وهي أهم أجزائه وأكثرها قداسة)، ثم كتب الأنبياء (وهي أكثر الأسفار توحيدية)، وأخيراً كتب الحكم والأمثال والأناشيد. وبعد انتهاء تدوين العهد القديم واعتماده من قبَل الحكماء اليهود، ظهرت كتب الرؤى وغيرها من الأسفار التي استُبعد بعضها، وأصبحت تُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) أو غير القانونية، وسُمِّي بعضها الآخر الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا). ومعظم هذه الكتب ذو أصل شعبي واتجاه حلولي واضح. وقد نسى اليهود هذه الكتب طوال العصور الوسطى في الغرب، ولم يكتشفوها إلا مع عصر النهضة. ومع القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي أصبح كتاب اليهود الديني الأول، حتى أنه حل محل العهد القديم نفسه، وبذلك تكون النزعة الحلولية قد انتصرت وبدأت في الهـيمنة التدريجـية على النسـق الديني اليهودي. ومع القرن الثالث عشر، ظهرت كتب القبَّالاه ابتداءً من الباهير فالزوهار ثم كتابات إسحق لوريا التي سادت الفكر الديني اليهودي تماماً حتى أن التلمود أُهمل من قبَل معظم أعضاء الجماعات وحاخاماتهم، وأصبح مقصوراً على أرستقراطية الحاخامات وحسب. ويشكل شيوع القبَّالاه الهيمنة الكاملة للطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. ولليهود كتب صلوات تضم صلواتهم، وتُضاف إليها بركات وأدعية وأناشيد وقصائد، بعضها حلولي والبعض الآخر توحيدي.

وقد انعكس هذا التركيب الجيولوجي على الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يضم اتجاهات فكرية مختلفة علمانية وإلحادية ووجودية وصوفية، كما انعكس على الصهيونية وعلى الفكر المعادي للصهيونية. ويجد كل فريق سنداً لرأيه في التراث الديني الذي يضم طبقات متراكمة مختلفة. ويمكن القول بأن الحلولية بدون إله قد وجدت هي الأخرى كتبها المقدَّسة، فقد أكد ماكس نوردو أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة والكتب الدينية الأخرى. ورغم مغالاة هذا الزعيم الصهيوني، فإن من يدرس الفكر الديني اليهودي، بعد أن تمت صهينته، وبعد أن تم إضفاء مركزية دينية على الدولة الصهيونية، لا في الوجدان الشعبي فقط وإنما في العقيدة نفسها، لا يملك إلا أن يرى قدراً كبيراً من الصدق في هذا القول. وقد جاء حاييم كابلان ليؤكد أن وثائق التاريخ الأمريكي تُعتبَر أيضاً من كتب اليهود المقدَّسة، كما أن الولايات المتحدة تشكل أساس المطلقية.

ويذهب أحد مفكري لاهوت موت الإله (إرفنج جرينبرج) إلى أن العهد القديم هو كتاب اليهود المقدَّس في مرحلة الهيكل، وأن التلمود كتاب مرحلة الشتات اليهودي، أما في المرحلة الثالثة (مرحلة ما بعد أوشفيتس وتشييد الدولة الصهيونية) فإن كتابهم المقدَّس هو النصوص التي تُذكِّر الشعب اليهودي بالإبادة وبضرورة البقاء، ومن هنا يعتبر جرينبرج كتابات إيلي فيزيل، على سبيل المثال، كتابات مقدَّسة، وكذلك إعلان استقلال إسرائيل. وحالة السيولة هذه أمر متسق تماماً مع الحلولية بدون إله.

العهــد القــديم

Old Testament

«العهد القديم» مصطلح يستخدمه المسيحيون للإشارة إلى كتاب اليهود المقدَّس، بينما يُستخدَم مصطلح «العهد الجديد» للإشارة إلى الأسفار التي تتضمنها الأناجيل الأربعة وإلى أعمال الرسل ورسائلهم (سبعة وعشرين سفراً). أما اليهود أنفسهم، فيستخدمون عبارة «سيفري هاقودش» أو «كتبي هاقودش»، أي «الكتب المقدَّسة»، ويستخدمون أحياناً تعبير «كتوفيم»، أي «الكتب». كما يُستخدَم لفظ «توراة» في بعض الأحيان. ومن الألفاظ الأخرى المستخدمة، لفظ «المقرا» و«تناخ». ويشتمل العهد القديم على الأقسام التالية:

أولاً: أسفار موسى الخمسة (بالعبرية: حوميش موشيه)، وتُعرَف أيضاً باسم «التوراة» أو «شريعة موسى». وهي تحتوي على الشرائع والقوانين والشعائر والوصاياالعشر التي أوصى الإله بها موسى، كما تضم أخباراً تاريخية عن جماعة يسرائيل:

1 ـ سفر التكوين. ويهتم بوصف الخليقة، وأصل العبرانيين (جماعة يسرائيل) حتى الخروج من مصر.

2 ـ سفر الخروج. ويروي تاريخ العبرانيين في مصر وخروجهم منها.

3 ـ سفر اللاويين. ويعالج واجبات الكهنة والطقوس الأخرى.

4 ـ سفر العدد. وفيه تعداد رؤساء الشعب وحاملي السلاح، وفيه أيضاً أخبار تذمُّر الشعب، والتجسس على أرض كنعان.

5 ـ سفر التثنية. أي تثنية الاشتراع أو إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل.

ثانياً: أسفار الأنبياء (بالعبرية: نفيئيم).

هذا القسم يتضمن ما وقع للعبرانيين من أحداث بعد موت موسى حتى هدم الهيكل المقدَّس. وهو يغطي فترة زمنية تمتد بين سنة 1300 وسنة 200 ق.م تقريباً، وينقسم إلى قسمين:

1 ـ الأنبياء الأولون أو المتقدمـون (نفيئيم ريشونيم)، وعدد أسفاره سـتة: سفر يشوع (يوشع بن نون) الذي يروي قصة احتلال جماعة يسرائيل أرض كنعان وتقسيم الأرض بين الأسباط أو القبائل العبرانية، وسفر القضاة الذي يذكر أسماء القضاة وتاريخ جماعة يسرائيل في عهدهم وانتصارهم على الفلستيين، وسفرا صموئيل: وهما (الأول والثاني) اللذان يعالجان تأسيس المملكة العبرانية المتحدة وقصة داود، وسفرا الملوك (الأول والثاني) وهما يغطيان فترة حكم داود وسليمان وسقوط المملكة الشمالية ثم المملكة الجنوبية.

2 ـ والأنبياء الآخرون أو المتأخرون (بالعبرية: نفيئيم أحرونيم): وهذا القسم يضم مجموعة من النبوءات والمواعظ والقصص، وعددها خمسة عشر سفراً، منها ثلاثة لأنبياء كبار (أشعياء، وإرميا، وحزقيال)، واثنا عشر لأنبياء صغار (هوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوفديا، ويونس [وهو نبي مرسل إلى نينوي وليس إلى جماعة يسرائيل]، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجاي، وزكريا، وملاخي).

وتتبع أسفار موسى الخمسة وأسفار الأنبياء نسقاً تاريخياً متصلاً يحكي تاريخ العبرانيين منذ ظهورهم في التاريخ حتى عودتهم من التهجير إلى بابل. وتشكل الأسفار كلها ما يشبه الملحمة، تدور أحداثها حول عبقرية هذا الشعب المختار والمصاعب التي واجهها، وطريقة انتصاره عليها وتحقيقه إرادته.

ثالثاً: كتب الحكمة والأناشيد (بالعبرية: كيتوفيم)، أي «الكتابات». وهي مجموعة من الأسفار التي تضم مواد تاريخية وقصصية وغنائية وعددها أحد عشر، إذا اعتبرنا سفري عزرا ونحميا سفراً واحداً. وترتيب هذه الأسفار حسب ورودها في العهد القديم كما يلي:

1 ـ مزامير داود. ويُنسَب معظمها إلى داود، وهي أناشيد شكر للإله وتراتيل روحية.

2 ـ سفر الأمثال.

3 ـ سفر أيوب. ويحدثنا عن حياة أيوب الصالح (ويُعتقَد أن هذا السفر من أصل عربي، فأيوب من بني عيسو).

4 ـ نشيد الأنشاد. وهو من الأغاني الشعبية للأفراح والزفاف، ويُقال إنه نشيد غزل بين الإله وجماعة يسرائيل، ويُنسب إلى سليمان.

5 ـ راعوث. وهي قصة بطلة ترجع إلى عصر القضاة.

6 ـ مراثي إرميا. وهي قصائد بكاء على أورشليم (القدس) بعد تخريبها.

7 ـ سفر الجامعة. وهو خواطر فلسفية ذات طابع عدمي.

8 ـ سفر إستير. ويتحدث عن خلاص جماعة يسرائيل على يد إستير. ويحتفل اليهود بهذه المناسبة في عيد النصيب.

9 ـ سفر دانيال. ويحدثنا عن سيرة هذا النبي.

10 ـ سفر عزرا. ويتحدث عن عودة العبرانيين (أعضاء جماعة يسرائيل) إلى أورشليم (القدس)، وإعادة بناء الهيكل الثاني.

11 ـ سفر نحميا. وهو يعنى أيضاً بعودة اليهود من السبي البابلي.

12و13 ـ سفرا أخبار الأيام (الأول والثاني). وهما تلخيص للوقائع التاريخية الواردة في العهد القديم منذ بدء الخليقة حتى السبي البابلي.

وقد أضاف المسيحيون، إلى كل ذلك، الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا)، ثم أضافوا العهد الجديد، وقد اتخذ كل هذا اسم «الكتاب المقدَّس».

ويختلف ترتيب العهد القديم عند الكاثوليك عنه عند البروتستانت، وهذا يعود إلى أن الكاثوليك يقرون الأسفار التي وردت في الترجـمة السـبعينية زائدةً عن الأصل العـبري، بل يفضلونه، ذلك لأنه ييسر عملية ربط العهد الجديد بالعهد القديم. هذا، بينما لا يعتبر معظم البروتستانت تلك الزيادات مقدَّسة، فهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم.

وتتضارب الآراء المتصلة بتاريخ تدوين الأسفار، ولا تزال المسألة خلافية. وأولى المشاكل هي الإشارات العابرة في العهد القديم إلى نصوص لم تُدوَّن، مثل: كتاب حروب الرب، وسفر ياشر، وسفر أخبار شمعيا، وسفر أمور سليمان، وسفر كلام ناتان النبي، وسفر أخبار الأيام لملوك يهودا، وسفر ملوك جماعة يسرائيل، وغيرها. وتـدل أســماء الأسـفار السـابقة على أن ملـوك العبرانيين كانوا يدونــون أخبـارهم على عادة ملـوك الشــرق الأدنى القديم، وأن كتب الأخبار وكتب الملوك الحالية هي كل ماتبقى.

والمشكلة الثانية هي أن نصوص العهد القديم تم تَناقُلها شفاهةً. ولذا، فإن معظم المؤرخين يرجحون تعرُّضها إلى ما تتعرض له عادةً كل الأقوال المنقولة مشافهة، وبالتالي دخلتها التناقضات وتداخلت النصوص والمصادر. ومن هنا، فقد قام علم نقد العهد القديم بتطوير نظرية المصادر وتفسير التناقضات وعدم التجانس الأسلوبي.

والواقع أن تدوين العهد القديم بدأ في فترة زمنية تَبعُد عن موسى مئات السنين، وكذلك عن كثير من الأحداث التي تم التأريخ لها. كما أن عملية التدوين لم تتم دفعة واحدة، وإنما تمت خلال مدة زمنية طويلة. وتم اختيار بعض النصوص المقدَّسة من بين نصوص مقدَّسة أخرى. ويرى كثير من الباحثين أن أول جزء من العهد القديم تم تدوينه هو أسفار موسى الخمسة، ويُقال إن هذه العملية تمت في بابل أثناء فترة التهجير (587 ق. م) أو ربما قبل ذلك بوقت قصير، ذلك أنه لم يأت ذكر لقراءة التوراة في الاحتفالات الخاصة بافتتاح الهيكل، وأول إشارة إلى قراءة التوراة هي قراءة عزرا عام 444 ق.م.

أما كُتُب الأنبياء، فمن الأرجح أنها دُوِّنت أثناء المرحلة الفارسية فيما قبل عام 333 ق.م. ومما يدعم هذا الرأي أن سفري الأخبار لم يحلا محل سفري صموئيل والملوك ولم يلحقا بهما، الأمر الذي يدل على أن كتب الأنبياء كان قد تم تدوينها والاعتراف بها ككتب قانونية. ولا توجد في أسفار الأنبياء أية كلمة إغريقية، ولا أية إشارة إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية أو ظهور الإمبراطورية اليونانية. ولكن لابد أن ثمة فترة زمنية قد مرَّت بين تدوين أسفار موسى الخمسة وتدوين أسفار الأنبياء، ذلك لأن هذه الأخيرة لم تكن تُقرأ في الاجتماعات العامة التي وُصفت في سفر نحميا (8 و10). كما أن السامريين الذين انفصلوا عن اليهود، وبنوا هيكلهم في جريزيم عام 428 ق.م، اعترفوا بالتوراة ولم يعترفوا بكتب الأنبياء. وقد جُمعت أسفار الأنبياء ونُظِّمت خلال الفترة الممتدة من القرن السادس حتى القرن الثالث قبل الميلاد، ويبدو أنها أُلِّفت في فترة كانت فيها أسفار موسى مجهولة منسية، إذ يَندُر أن تجد فيها ذكراً لاسمه. ويبدو أن بعض الأنبياء أيضاً (عاموس مثلاً) لم يكن لهم به علم.

أما القسم الثالث، وهو كتب الحكمة والأناشيد، فقد أُلِّف بعضه أثناء عصر الأنبياء، ولكنها لم تُضَم إلى كتب الأنبياء باعتبار أنها لم تكن ثمرة الوحي الإلهي. أما الكتب ذات الطابع النبوي، مثل كتب دانيال وعزرا والأخبار، فلابد أنها كُتبت في مرحلة متأخرة بحيث لم يمكن ضمها إلى كتب الأنبياء. ولقد ضُمَّت أسفار الحكمة والأناشيد، لكنها لم تُعتبَر جزءاً من العهد القديم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، فقبل ذلك التاريخ كان الحديث يتواتر عن التوراة باعتبارها أسفار موسى الخمسة والأنبياء دون إشارة إلى كتبالحكمة والأناشيد. ومن الأدلة الأخرى على أن هذه الأسفار كانت متأخرة، وجود كلمات يونانية في نشيد الأنشاد ودانيال، وكذلك الإشارة في سفر دانيال إلى سقوطالإمبراطورية الفارسية. ولا يشير بن سيرا إلى سفر دانيال أو إستير. وقد اسـتمر الجـدل حول أسـفار مثل: الأمثـال، ونشيد الأنشاد، وإستير، وسفر الجامعة، هل تُضَم مع الأسفار القانونية أم لا؟

ويُطلَق مصطلح «كانون Canon» أي «الأسفار القانونية»، على تلك الأسفار أو النصوص التي تم اعتمادها. أما الكتب غير القانونية، فتُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية أو الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا). والقواعد التي استخدمها محررو العهد القديم لضم أو استبعاد هذا أو ذاك النص غير معروفة، ولكن يبدو أن هذه القواعد هي بشكل عام:

1 ـ أن يكون النص مكتوباً بالعبرية. ويبدو أن بداية ونهاية سفر دانيال تُرجمتا من الآرامية إلى العبرية بسرعة حتى يمكن ضمهما إلى النص القانوني المُعتمَد.

2 ـ أن يكون النص قد كُتب في مرحلة ما قبل النبي مالاخي، أي في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي الفترة التي يرى الحاخامات أن النبوة توقفت عندها في جماعة يسرائيل.

3 ـ أن يتفق مضمون النص مع المعايير الدينية التي تبناها الحاخامات.

ويبدو أن مشادات فقهية بين الفقهاء، كانت تحدث من وقت لآخر، في شأن بعض الأسفار نظراً لما تحتويه من أفكار غنوصية مثل سفر حزقيال واتفقوا في نهاية الأمر على تركه داخل إطار الكتب القانونية مع عدم تدريسه للصغار.

ولغة الكتاب المقدَّس (اليهودي) هي العبرية، وإن كانت التراكيب والأساليب وبعض المفردات تختلف باختلاف هذه الأسفار وتنم عن الفترة التي وُضع فيها كل سفر. ومع هذا، فإن هناك أجزاء وُضعت باللغة الآرامية. والعبرية، مثلها مثل العربية، تتميَّز بالعلامات الصوتية المميِّزة للحرف، أي علامات التشكيل. ولما كان النص العبري الأصلي مكتوباً دون علامات التشكيل، فقد كان لابد أن يتم الاتفاق على قراءة معيارية. وبالفعل، ظهر النص المعتمد كتابةً وقراءة، وهو الذي يُطلَق عليه مصطلح النص «الماسوري» أو «ماسوراتي». ويُطلَق على المحققين الذين وضعوا علامات الضبط بالحركات «الماسوريون».

وقد قُسِّم العهد القديم إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع في القرن الثالث عشر، فنص التوراة الذي كُتب على لفائف التوراة لا يزال حتى الآن بدون علامات تشكيل ولا علامات فصل بين الأسفار والإصحاحات والفقرات المختلفة. وقد تُرجم الكتاب المقدَّس إلى مختلف لغات العالم تقريباً. ومن أهم الترجمات: الترجمة اليونانية، وهي ما يُعرَف باسم «الترجمة السبعينية»، والترجمة الآرامية وأهمها «الترجوم»، والترجمة اللاتينية وتُعرَف باسم «الفولجاتا أو الشعبية». كما تُرجم الكتاب المقدَّس إلى السريانية باسم «البشيطاه»، وكذلك تُرجم إلى العربية. وأقدم ترجمة هي ترجمة سعيد بن يوسف الفيومي، فيما نعلم، إلا أن ثمة محاولات سابقة عُثر عليها في الجنيزاه القاهرية باللهجة المصرية العامة.

ويرى اليهود الأرثوذكس أن كلمات العهد القديم، وأسفار موسى الخمسة بصفة خاصة، هي كلام الإله الذي أوحى به إلى موسى حرفاً حرفاً، وأملاه عليه حينما صعد إلى جبل سيناء، وهو كلام أزلي لا يتغيَّر. والكتب التاريخية وأسفار الأنبياء والأناشيد والحكم، هي الأخرى نتاج الروح المقدَّسة، وإن كانت بدرجة أقل، تلك الروح التي تغمر روح الإنسان فيتحدث باسم الإله. وتُعتبَر كل كلمة، وكل جملة وردت في العهد القديم، ذات معنى داخلي ومغزى عميق. لكل هذا، نجد أن العهد القديم، بالنسبة إلى اليهود الأرثوذكس، هو السلطة العليا التي لا يمكن التشكيك فيها، وهو المرجع الأخير في الحياة الدينية. ولكن أسفار موسى الخمسة، مع هذا، تظل أهم الأجزاء التي تشكل جوهر اليهودية وشريعتها.

أما بالنسبة إلى اليهود الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين، فإن العهد القديم يُعَدُّ مجرد إلهام من الإله وليس وحياً منه. وقد وصل هذا الإلهام إلى واضعي الكتاب المقدَّس بدرجات مختلفة. ولذا، فإن بعض أجزاء العهد القديم ذو قيمة روحية وأخلاقية أعلى من غيره. كما لم يكن الوحي الإلهي، أي الإلهام، خالصاً. فقد اصطبغ هذا الوحي بصبغة إنسانية، فلزم أن يقوم اليهودي بإعادة تفسيره ليستخلص الوحي الإلهي (المطلق) من النص الذي يضم عناصر إنسانية تاريخية (نسبية). ويُعتبَر العهد القديم العبري من مصادر التشريع اليهودي الأساسية، وقد ظل قروناً طويلة يشكل المنهج الدراسي الوحيد في المدارس الدينية اليهودية، وإلى جانبه التلمود الذي هو تفريع منه. وفي إسرائيل، فإن منهج الدراسة يتضمن خمس ساعات أسبوعياً لدراسة العهد القديم.

كما أن الصهاينة اللادينيين يعتبرون العهد القديم وكتب اليهود المقدَّسة كتباً عظيمة تشكل جزءاً مهماً من تراث اليهود وفلكلورهم القومي وهو تعبير عن انتشار الحلولية بدون إله بين الصهاينة. وقد نشر أحد التربويين الإسرائيليين في أحد الكيبوتسات كتاباً يروي قصص العهد القديم باعتبارها أدباً من صنع البشر، ومن ثم فإنه قد استبعد أي إشارة إلى الإله.

التوراة

Torah

«توراة» كلمة من أصل عبري مشتقة من فعل «يوريه» بمعنى «يُعلِّم» أو «يوجِّه»، وربما كانت مشتقة من فعل «باراه» بمعنى «يُجري قرعة». ولم تكن كلمة «توراة» ذات معنى محدد في الأصل، إذ كانت تُستخدَم بمعنى «وصايا» أو «شريعة» أو «علم» أو «أوامر» أو «تعاليم»، وبالتالي كان اليهود يستخدمونها للإشارة إلى اليهودية ككل، ثم أصبحت تشير إلى البنتاتوخ أو أسفار موسى الخمسة (مقابل أسفار الأنبياء وكتب الحكمة والأناشيد). ثم صارت الكلمة تعني العهد القديم كله، مقابل تفسيرات الحاخامات. ويُشار إلى التوراة أيضاً بأنها القانون أو الشريعة، ويبدو أن هذا قد تم بتأثير الترجمة السبعينية التي ترجمت كلمة «توراة» بالكلمة اليونانية «نوموس» أي «القانون». وقد شاع هذا الاستخدام في الأدبيات الدينية اليهودية حتى أصبحت كلمة «توراة» مرادفة تقريباً لكلمة «شريعة».

ويُلاحَظ أنه، داخل الإطار الحلولي، تتداخل حدود الأشياء والـدوال وتذوب المدلولات بعضـها في البعـض وتنفصل الدوال عن المدلولات، وهـذا ما يحـدث في لفظ «توراة» مـع هيمنـة الحلولية بشكل تدريجي. وقد وَسَّع الحاخامات معنى الكلمة استناداً إلى العقيدة أو الشريعة الشفوية الحلولية التي تساوي بين الوحي الإلهي والتفسير الحاخامي والقائلة بأن هناك توراتين أو شريعتين: واحدة مكتوبة تلقاها موسى عند جبل سـيناء، والأخرى شـفوية يتناقلـها الحاخامات عن موسى، ولها نفس قداسة التوراة المكتوبة. وبهذا أصبحت كلمة «توراة» تعني «هالاخاه»، وكل الأوامر والنواهي التي ورد ذكرها في كل من التوراة والتلمود والشولحان عاروخ وفتاوى الحاخامات وتفسيراتهم، بل أحياناً ما ورد ذكره في الكتب القبَّالية. وقد جاء في التلمود أن الإله يقول: "ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة" (حجيجاه 1/7)، وهي عبارة تعبِّر عن درجة عالية من الحلولية باعتبار أن التوراة هنا مطلق منفصل عن الإله، وربما يفوقه في الأهمية. والمقصود هنا هو التوراة الشفوية، أي آراء الحاخامات وتفسيراتهم.

ومن ناحية أخرى، فإن المجال الدلالي للكلمة واسع للغاية، وقد أشار القبَّاليون إلى التوراة الظاهرية والتوراة الباطنية أو توراة الخلق (بالآرامية: توراه دى بريئاه) وتوراة الفيض (بالآرامية: توراه دي أتسليوت). وتوراة الفيض هي التوراة التي يمكن أن يتوصل لها المفسرون العالمون بالقبَّالاه، وهي مختلفة تماماً عن التوراة المتداولة بين اليهود ولها تعاليم وشرائع تقف الواحدة أحياناً على الطرف النقيض من الأخرى. وتُستخدَم كلمة «توراة» أيضاً للإشارة إلى سلوك أتقياء اليهود وأقوالهم باعتبارها «توراة». وقد جاء في التلمود أن حديث من يعيش في أرض الميعاد «توراة»، كما أن الحسيديين كانوا يقولون إن حديث بعل شيم طوف توراة، بل كذلك حديث وأفعال كل تساديك حسيدي يلتصق بالإله!

وتحتل التوراة، بمعنييها الضيق والواسع، مكاناً مركزياً في الوجدان الديني لليهود، فهي أقدم من هذا العالم، بها ولها خلق الإله الدنيا، وهي عروس الرب التي تجلس إلى جواره على العرش، والتي ستُزَف إلى الماشيَّح حينما يأتي إلى هذا العالم. ويُحتفَظ في المعبد اليهودي بـ «تاج التوراة»، وبمؤشر من الذهب أو الفضة على شكل يدلاستخدامه في قراءة التوراة. ومن أقدس الأماكن في المعبد اليهودي، الدولاب المسمَّى «تابوت العهد» الذي يُحتفَظ فيه بلفائف الشريعة.

وتُستخدَم كلمة «توراة» كذلك للإشارة إلى كل التراث الديني اليهودي بقضه وقضيضه، وكل ما أوصى الإله به لجماعة يسرائيل، أو للعالم كله من خلال جماعة يسرائيل. وفي المصادر الكلاسيكية اليهودية لم يكن يشار إلى «اليهودية» وإنما إلى «التوراة»، بل لم يظهر مصطلح «يهودية» إلا في العصر الهيليني. ولكن، ورغم ترادف المصطلحين، فإن ثمة اختلافاً دقيقاً بينهما، فبينما تُستخدَم كلمة «توراة» للإشارة إلى الجوانب الإلهية الثابتة في العقيدة اليهودية، تستخدم كلمة «يهودية» للإشارة إلى الجوانب المتغيرة التاريخية، ومن هنا يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية»، أو «اليهودية الإصلاحية»، ولكن لا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية»، أو «التوراة الإصلاحية».

ويرى بعض علماء اليهود أن كلمة «توراة» هي، بالمعنى العام، المقابل لكلمة «لاهوت» في المسيحية، فلاهوت اليهودية هو التأمل في التاريخ اليهودي والتقاليد اليهودية،تماماً مثل اللاهوت المسيحي، ولكنه لاهوت معلمين وحاخامات وليس لاهوت كنيسة، جانبه الخارجي هو الهالاخاه، أي الشريعة، وجانبه الداخلي هو الأجاداه، أي القصص الوعظية، وكلاهما «توراة».

وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى مخطوط أسفار موسى الخمسة المكتوب بخط اليد (لفائف الشريعة)، والذي يُحفَظ في تابوت العهد في المعبد اليهودي. وكان الأطفال اليهود يتعلمون في الجيتو أن التوراة هي الشيء الوحيد الباقي، أما العالم فزائل، ولذا يجب على اليهودي أن ينفق كل وقته في دراستها، وأن هذا واجب ديني نص عليه العهد القديم. وفي واقع الأمر، لا يوجد مثل هذا النص لا في أسفار موسى الخمسة ولا في كتب الأنبياء، ويبدو أن فكرة دراسة التوراة ذات أصل يوناني. وقد قال أحد الفقهاء اليهود إن اليهود يعملون بالتجارة والربا، لأنهم بهذه الطريقة يحققون أرباحاً كبيرة سريعة دون أن يعملوا، وبذلك يتفرغون لدراسة التوراة.

على أن هـذه الدراسـة لا تهـدف إلى الخـروج من الذات وتحدِّيها، بقدر ما هي ضرب من عبادة الذات وتوثينها، إذ أننا نكتشف أن التوراة (مكتوبة وشفوية) ليست نتاج عبقرية الشعب فحسب، بل هي أيضاً «جماعة يسرائيل»، وهما معاً يكوِّنان شيئاً واحداً. ومن الواضح أن هناك جوانب قومية للاهتمام اليهودي بالتوراة، كما هو الحال مع الأنماط الحلولية. فالحكمة ملك لكل الشعوب، أما التوراة فهي الكتاب المقدَّس لليهود وحدهم وهي مصدر الحياة بالنسبة إليهم والشاهد على عبقريتهم الدينية وعلى اتخاذهم كشعب مختار دون سائر أهل الأرض. وتحتوي الصلوات اليهودية على شكر للإله لإرساله التوراة إلى الشعب. وحينما يُنادَى على أحد المصلين ليقرأ أسفار موسى الخمسة، فإنه يقول: «مبارك الرب الذي خلقنا من أجل جلاله وفضَّلنا عمن ضلوا سواء السبيل، وأرسل لنا التوراة، وبذا غرس الحياة الأبدية وسطنا فليفتح الرب قلوبنا على التوراة». وهكذا تكون التوراة تجسيداً لروح الإله، ولكنها في الوقت نفسه هي الشعب الذي هو بدوره تجسيد لروح الإله، أي أنها دائرة حلولية مقدَّسة مغلقة يعبِّر فيها كلٌّ من التوراة والشعب عن روح الإله بالدرجة نفسها.

والفقيه اليهودي الذي يربط في فتواه بين دراسة التوراة والتجارة والربا وضع يده (دون أن يدري) على العلاقة بين دراسة التوراة ودور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. فالجماعات الوظيفية تعيش في بلد ما دون أن تكون منه، ولذا فهي تحتاج إلى وطن أصلي. وفي حالة الجماعات اليهودية الوظيفية، كانت صهيون هي هذا الوطن الأصلي الذي تشتتوا منه والتوراة (والتلمود) هو الوطن المتنقل الذي يستطيعون التمركز حوله وتطوير هويتهم وضرب أسوار العزلة حول أنفسهم من خلاله، وهي عزلة أساسية كي يضطلعوا بدورهم. كما أن ارتباطهم بهذا الوطن يقلل حركيتهم، فهو وطن متنقل معهم.

والجدير بالذكر أن التوراة تشكل الأرضية المشتركة بين اليهود المؤمنين واليهود الملحدين، فهما يشتركان في تقديسها. فأما المؤمنون منهم، فإنهم يرونها مقدَّسة لأنها مرسلة من الإله. وأما الملحدون (الذين يدورون في إطار الحلولية بدون إله)، فإنهم يقدسونها لأنها جزء من فلكلور الشعب اليهودي وتعبير عن عبقريته. والخلاف في نهاية الأمر ظاهري لأن البنية الحلوليـة لليهـودية توحـد بين الشـعب والإله. وفي التراث الصهيوني، يؤكد المفكرون الصهاينة أهمية ثالوث الشعب والأرض والإله أو التوراة إذتؤمن الصهيونية الثقافية (اللادينية) بثالوث الشعب والأرض والتوراة، في حين تؤمن الصهيونية الدينية بثالوث الشعب والأرض والإله (الذي يعادل التوراة). وفي الوقت الحاضر، تُستخدَم كلمة «توراة» في العبرية الحديثة مرادفة لكلمة «عقيدة» أو «نظرية»، ومن هنا يمكن الحديث عن «التوراة العلمانية» أو «التوراة الماركسية».

الكتــــاب

The Book

«الكتاب» اصطلاح يُستخدَم للإشارة إلى العهد القديم أو إلى التوراة (بالمعنى المحدد للكلمة)، ويتحدث بعض المفكرين اليهود والصهاينة عن اليهود باعتبارهم «شعب الكتاب».

سـفـر

Book

«سفر» وهي «سيفر» بالعبرية وتعني «كتاباً». ويُشار إلى كتب العهد القديم بكلمة «أسفار». ويُقسَّم السفر إلى إصحاحات ويُقسَّم كل إصحاح إلى فقرات، وتُقسَّم كل فقرة إلى مقاطع.

إصـحـاح

Chapter

تُسمَّى أقسام الكتاب المقدَّس «أسفاراً»، ويُقسَّم كل سفر إلى إصحاحـات، ويُقسَّم كل إصحـاح إلى فقـرات والفقرات تُقسَّم إلى مقاطـع.

أسفار موسى الخمسة

Pentateuch

«أسفار موسى الخمسة» تشكل القسم الأول من العهد القديم، ويشمل خمسة أسفار، هي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية. ويعتقد اليهود المتدينون أن الإله أنزلها على موسى في سيناء وأملاها عليه حرفاً حرفاً، وهي تبدأ بسرد أحداث العالم منذ بدء الخليقة حتى وفاة موسى. والكلمة مرادفة لكلمة «توراه»، وإن كانت أكثر دقة كما أن دلالاتها أكثر تحدداً قياساً إلى كلمة «توراه» فضفاضة المعنى متعددة الأبعاد والدلالات.

تنــــاخ

Tanach

«تَناخ» اسم عبري للعهد القديم، وهو مختصر من الحروف الأولى لثلاث كلمات عبرية هي: التوراة (أسفار موسى الخمسة)، ونفيئيم (أسفار الأنبياء)، وكتوفيم (المزاميروسفر الأمثال ونشيد الأنشاد وبقية أسفار الحكمة وغيرها).

ويُفضِّل اليهود استخدام مصطلح «تَناخ» على عبارة «العهد القديم» لأن هذه العبارة الأخيرة تفيد أن العهد الجديد قد أكمل كتاب اليهود المقدَّس وحل محله. أما مصطلح «تَناخ» فهو تعبير وصفي وحسب، وهو يخلو من أي اعتراف ضمني بقدم الكتاب المقدَّس، وبأن «العهد الجديد» قد أكمله وحل محله.

الكــــــــــــتاب المقــــــــــد س

Bible; Holy Book; Holy Scriptures

«الكتاب المقدَّس» هو المقابل العربي للعبارة العبرية «كتيفي هاقودش». وتُستخدَم عبارة «الكتاب المقدَّس» عند المسيحيين للإشارة إلى العهدين القديم والجديد. أما في الدراسات اليهودية والصهيونية، فهي تشير إلى العهد القديم وحسب. ولذا، فقد يكون من المفيد ألا نستخدم هذا المصطلح («الكتاب المقدَّس») إلا إذا اضطرنا السياق إلى ذلك، نظراً لغموضه، ونستخدم بدلاً منه مصطلحات مثل: «العهد القديم» أو «تَناخ» أو «أسفار اليهود».

ومن أسماء الكتاب المقدَّس عند اليهود «المقرا» وتعني «القراءة» أو «المطالعة».

الإنجيل

Bible

«إنجيل» كلمة ذات أصل يوناني من كلمة «أونجليون» ومعناها «خبر طيب». والإنجيل هو الكتاب المقدَّس عند المسيحيين الذين يشيرون إلىه أحياناً بكلمة «العهد الجديد»، ويتكون من أربعة أقسام، هي: إنجيل متَّى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. وقد أطلق اليهود (بين القرنين الثالث والخامس) على الإنجيل «جليون هامينيم» أي «لفيفة المهرطقين».

الماسـوراه

Masorah

«ماسوراه» كلمة عبرية من فعل «مَسَار» بمعنى «تلقَّى» و«تناول»، ولكنها تشير إلى مجموعة القواعد التي وضعها الحاخامات عبر القرون والتي تتصل بطريقة هجاء وكتابة وقراءة العهد القديم. ويُشار إلى نص العهد القديم الذي ارتضاه العلماء ورفضوا ماعداه بأنه «النص الماسوري» أو «الماسوراتي». والكلمة لا تشير إلى نسخة العهد القديم التي جمعها عزرا، بل يضاف إلى ذلك ضبطها بالحركات، وتقسيمها إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع، وتعيين مواضع الفصل والوصل والوقوف عند التلاوة، وتحديد نطق بعض الألفاظ التي كُتبت بطريقة لا تؤدي إلى النطق الشرعي الصحيح.وقد استغرق إقرار هذا النص الشرعي،في صورته النهائية، عدة أجيال،واستمر حتى عهد الفقهاء (جاءونيم).

الترجـوم

Targum

«ترجوم» كلمة آرامية من الأصل الفارسي «تورجمان» وهي تعني «ترجمة». ويُطلَق هذا المصطلح على الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس. وقد وُضعت هذه الترجمات في الفترة الواقعة بين أوائل القرن الثاني وأواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أصبحت مثل هذه الترجمة أمراً مهماً وحيوياً بالنسبة إلى اليهود، نظراً لأن الآرامية حلَّت محل العبرية بعد التهجير البابلي. فمنذ أيام عزرا، كانت تُضاف ترجمة آرامية بعد قراءة أجزاء من العهد القديم، وقد صار هذا تقليداً ثابتاً. ومن أشهر الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس: ترجوم أونكيلوس لأسفار موسى الخمسة وحدها، وترجوم يوناثان لبقية أسفار العهد القديم. ويُعتقَد أن آرامية الترجوم كانت مُتكلَّفة إلى حدٍّ ما. وسعت التراجم الآرامية إلى إضفاء مسْحَة من ثقافة عصرها على النص فقام المترجمون بإدخال مصطلحات مثل «الجن والملائكة» بديلاً عن الإشارة إلى الرب مجسداً.

الفولجاتا (أو الشعبية)

Vulgate

«فولجاتا» من الكلمة اللاتينية «فولجاتوس Vulgatus» وتعني «شائع». وتُستخدَم الكلمة للإشارة لترجمة العهد القديم اللاتينية التي اضطلع بها إيرونيموس (340 ـ 420) عن الترجمة السبعينية، ومع هذا فإنها لم تأت مطابقة لها كل المطابقة. وقد اشتملت الفولجاتا على سفرين اثنين فقط للمكابيين، مقابل أربعة في السبعينية، وحُذفت منها أسفار عزرا الثلاثة وزيد عليها سفر باروخ. وفيما عدا ذلك، لا يوجد فرق يذكر بين الترجمتين. وقد أقرت الكنيسة الكاثوليكية جميع الأسفار والأجزاء الزائدة في الترجمة اللاتينية على الأصل العبري، واعتبرتها جميعاً أسفاراً أو أجزاء مقدَّسة من أسفار العهد القديم وأجزائه. ولكن معظم البروتستانت لا يعتبرون هذه الزيادات مقدَّسة، وهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم. أما اليهود، فإنهم يدخلونها في القسم الذي يسمونه الأسفار الخارجة أو الخفية (أبوكريفا).

البشيطَّاه

Peshitta

«بشيطَّاه» كلمة سريانية تعني «البسيطة». وتشير إلى الترجمة السريانية للعهد القديم التي تم إنجازها في القرن الثاني بعد الميلاد من نسخة للعهد القديم تختلف عن النص القياسي (الماسوري). ويتخذها مسيحيو سوريا والنسطوريون في العراق وفارس كتاباً مقدَّساً لهم.

الترجمة السبعينية

Septuagint

كلمة «سبتواجينت» الإنجليزية من الكلمة اللاتينية «سبتواجينتا» ومعناها «سبعون»، وهي إشارة إلى الأسطورة القائلة بأن اثنين وسبعين من علماء اليهود قاموا بترجمة العهد القديم العبري إلى اليونانية بأمر من بطليموس فيلادلفيوس (228 ـ 247 ق.م)، وهي أقدم ترجمات العهد القديم بأية لغة. وتقول الأسطورة إن كل عالم جلس في حجرته بمفرده ليترجم العهد القديم، وعند الانتهاء وجدوا أن الترجمات كلها متماثلة. وبغض النظر عن مدى صدق الأسطورة، فقد كان الغرض من الترجمة إلى اليونانية سد حاجة المصريين اليهود المتأغرقين الذين كانوا يجهلون العبرية تماماً بسبب اندماجهم في المحيط الهيليني، واتخاذهم اللغة اليونانية السائدة آنذاك في حوض البحر الأبيض المتوسط لغةً لهم. وقد تمت الترجمة بالتدريج ابتداءً من القرن الثالث قبل الميلاد، وتم الانتهاء منها في السنوات الأخيرة قبل رسالة المسيح. ولم تكن الترجمة على مستوى رفيع، فلم يكن المترجمون ملمين بالعبرية بالقدر الكافي، ولم تكن النصوص التي ترجموا عنها نصوصاً جيدة، كما أن المترجمين أخذوا في الاعتبار حساسيات العالم الهيليني. فمثلاً تُرجمت كلمة «الأرنب» (لاويين 11/6)، وهو حيوان مدنَّس حسب الشريعة اليهودية، بعبارة «ذو الأقدام الخشنة» لأن كلمة «الأرنب» باليونانية هي «لاجوسlagos»، وهـي أحـد ألقاب أسـلاف الأسرة البطلمية. وتم تغـيير عبـارة «آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك» (تثنية 26/5) فصارت «أبي ترك سوريا وذهب إلى مصر»، وذلك لإرضاء البطالمة أيضاً حيث كانت سوريا تحت حكم السلوقيين أعدائهم، وكلمة «آرامي» تعني «سوري» وأسقط المترجمون أسماء الأعلام التي كان يتسمَّى بها الإله مثل «أدوناي، و«شدَّاي صباءوت»، واستخدموا بدلاً من ذلك أسماء مثل «الإله» أو «الخالق». وبدلاً من تأكيد خصوصية الإله وخصوصية علاقته بالشعب، يصبح هو الكائن الأعظم للجنس البشري. وهذا يعود إلى وجود اتجاه عام في العالم الهيليني نحو تعظيم الخالق الواحد، وكانت الآلهة المحلية آخذة في الاختفاء. كما أسقط المترجمون العبارات التي تنسب إلى الخالق صفات جسدية، فبينما تتحدث النسخة العبرية عن أنهم «رأوا إله يسرائيل» (خروج 24/10)، فإن الترجمة اليونانية تتحـدث عـن أنهـم «رأوا المكان الذي كان قد وقف فيه إله يسـرائيل». والهدف من هذا كله هو:تقريب التوراة من العقل الهيليني.

وقد تم أغرقة المصطلح تماماً في بعض الأحيان، فتُرجمت «توراة» بكلمة «نوموس» اليونانية، والتي تعني «قانون». أما كلمة «إيموناه»، وهي بمعنى «إيمان»، فتُرجمت بالكلمة اليونانية «بيستيس pistis» وتعني «الاعتقاد».

وتجدر بنا الإشارة إلى وجود صياغات في الترجمة السبعينية لم نجدها في النص العبري الحالي. ومع هذا عُثر على نظيرها العبري في مخطوطات قُمران، وهو ما يؤكد اعتماد المترجمين على نصوص عبرية متعددة.

وقد تجاهل العلماء الهيلينيون العهد القديم، ولم تصلنا أية تعليقات لهم عليه. ولكن الفقهاء اليهود في فلسطين، قبلوا الترجمة واعتمدوها في بادئ الأمر، فأجَّلها اليهود المتحدثون باليونانية، واستفادت اليهودية منها في عملية التبشير. ونظراً للاختلافات بين الترجمة والنص العبري، وهي اختلافات استفاد منها المسيحيون الأولون، وبعد أن اعترفت الكنيسة المسيحية بالترجمة السبعينية باعتبارها الإنجيل الرسمي، أظهر الحاخامات العداء لها، وخصوصاً ابتداءً من عام 70 الميلادي. وأصبحت الترجمة السبعينية تشبَّه بـ «العجل الذهبي».

وقد ساهمت الترجمة السبعينية في نشر المسيحية بين اليهود المتأغرقين وبين العناصر الهيلينية في الإمبراطورية الرومانية. وتشتمل الترجمة السبعينية على عدة أسفار لا توجد في الأصل العبري الذي وصل إلينا، وهي: سفر طوبيا، وسفر الحكمة لسليمان، وأسفار المكابيين وعددها أربعة أسفار، وسفر يهوديت، وسفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، ونشيد الأطفال الثلاثة، وسفر الحكماء الثلاثة، وسفر بعل والتنين، وثلاثة أسفار منسوبة إلى عزرا، وذلك زيادة على السفر المثبت في الأصل العبري، وبعض زيادات في سفر إستير ودانيال، وهي الأسفار التي أصبحت تشكل أبوكريفا العهد القديم (الكتب الخارجية أو الخفية). ولقد تُرجم العهد القديم إلى اللاتينية (في الترجمة المعروفة بالفولجاتا عن الترجمة السبعينية).

سفر التكوين

Genesis

يُسمَّى «سفر التكوين» في العبرية «يريشيت» بمعنى «في البدء»، وهي أول كلمة ترد في السفر. و«التكوين» اسم أول أسفار موسى الخمسة، ويحكي تاريخ العالم من بدء تكوين السماوات والأرض، وقصة آدم وحواء، ونوح والطوفان وأولاده سام وحام ويافث، ونسل سام إبراهيم وإسحق ويعقوب، والعهد بين الخالق وشعبه. وينتهي هذا السفر بقصة يوسف ومجيئه إلى مصر ولحاق يعقوب وأبنائه الأحد عشر به واستقرارهم في أرض الفراعنة.

وتعكس الأجزاء الأولى التقاليد الحضارية لبلاد الرافدين بعد أن دخلت عليها العناصر التوحيدية.ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن سفر التكوين ليس متجانساً وإنما قام بوضعه كُتَّاب مختلفون،في حين يرى البعض الآخر أنه عمل متكامل يستند إلى فلسفة متسقة مع نفسها،وأن تكرار بعض الأجزاء ليس إلا من قبيل الصيغة الأدبية، وأنه وُضع في القرن التاسع قبل الميلاد،أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.

سفر الخروج

Exodus

يُسمَّى «سفر الخروج» في العبرية «شيموت»، أي «الأسماء»، وهي كلمة مأخوذة بتركيب الحروف الأولى من كلمات العبارة الافتتاحية فيه. وسفر الخروج ثاني أسفار موسى الخمسة، ويعرض تاريخ جماعة يسرائيل في مصر. كما يأتي فيه ذكر قصة موسى وذهابه إلى سيناء، والوحي الإلهي الذي جاء فيه، والعهد بين الإله وجماعة يسرائيل، وعودة موسى إلى مصر ليساعد اليهود على الخروج من أرض العبودية. ثم تلقَّى موسى الوصايا العشر في سيناء، وقيادته جماعة يسرائيل حتى حدود أرض كنعان. كما يشتمل السفر على طائفـة من أحكـام الشريعة اليهـودية في العـبادات والمعاملات، وما إلى ذلك مما يشبه قوانين حمورابي، وترد فيه أيضاً قصة عبادة العجل الذهبي وما تبع ذلك من محاولات تطهير الدين.

ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن ثمة مصادر عديدة لهذا السفر، وأنه وُضع نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.

سفر العَدد

Numbers

يُسمَّى «سفر العَدد» بالعبرية «بميدبار»، أي «في البرية»، وهي أول كلمة ترد في السفر، وسفر العدد رابع أسفار موسى الخمسة. وسُمِّي سفر العدد بهذا الاسم لأنه يشتمل في معظمه على إحصاءات عن قبائل العبرانيين وجيوشهم وأموالهم وكثير مما يمكن إحصاؤه من شئونهم كما يشتمل على أحكام تتعلق بطائفة من العباداتوالمعاملات. ويأتي في هذا السفر ذكر تذمُّر جماعة يسرائيل من متابعة السير على خطوات موسى، وهو ما أثار غضبه عليهم، وقد دُوِّن هذا السفر بعد التهجير البابلي فيالقرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

ســفر التثنيـة

Deuteronomy

يُسمَّى «سفر التثنية» بالعبرية «ديفاريم»، أي «الكلمات»، وهي أول كلمة ترد في السفر. وهو يُسمَّى أيضاً «مشنا توراه»، ومعناها «إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من سيناء»، أو «تثنية الاشتراع». وهو آخر أسفار موسى الخمسة، ويتكون من:

أ) المقدمة، وتحوي مراجعة موسى لما حدث منذ عبور سيناء.

ب) نصائح موسى الأخلاقية (ومنها إعادة الوصايا العشر)، وتتضمن تلخيصاً للتشريع الذي قبلته جماعة يسرائيل.

جـ) خطب موسى الأخيرة.

د) أفعال موسى الأخيرة وأغنية الوداع ومعها سرد لأحداث موته.

ويختلف هذا السفر من حيث الأسلوب واللغة عن الأسفار السابقة، بل يناقضها أحياناً. ولذا، يرى بعض العلماء أن بعض القوانين التي أتت في سفر التثنية إنما هي من وضع مجموعة من المؤلفين قاموا بكتابة بعض الأجزاء الأخرى في أسفار موسى الخمسة. ويختلف العلماء في تحديد تاريخ هذا السفر، فيرى بعضهم أنه وُضع أثناء عصر القضاة، ويرى البعض الآخر أنه وُضع في وقت لاحق في أواخر القرن السابع قبل الميلاد.

سفر اللاويين

Leviticus

يُسمَّى «سفر اللاويين» في العبرية «فايقرا» أي «دعا أو نادى» وهي الكلمة التي يبدأ بها سفر اللاويين. وكان في الماضي يُعرَف باسم «تورات كوهانيم» أي «شريعة الكهنة»، وهو ثالث أسفار موسى الخمسة. ويتوقف السرد القصصي في هذا السفر ليحل محله تناول شئون العبادات، وخصوصاً ما يتعلق بالأعياد والأضحية والقرابين والمحرمات من الحيوانات والطيور وما يتعلق بالطهارة، وكذلك التعاليم الأخلاقية والنظم الاجتماعية التي لم ترد في سفر الخروج، والتعليمات الخاصة بخيمة الاجتماع.

واللاويون هم سدنة الهيكل والمشرفون على شئون الذبح والأضحية والقرابين. وثمة وحدة في الموضوع بين هذا السفر والجزء الأخير من سفر الخروج وجزء كبير من سفر العدد. ويرى بعض علماء الكتاب المقدَّس أن هذا السفر تجميع لوصايا متفرقة كُتبت على حدة في بداية الأمر، كما أن بعضهم يرى أن السفر كله لم يُكتب إلا بعد التهجير البابلي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

الوصــايــــــــا العشــــــــــر

Ten Commandments; Decalogue

ورد في العهد القديم، في سفر التثنية، عبارة «عسِّيريت هادبروت»، أي «الكلمات العشر» التي كُتبت على لوحي حجر (تثنية 4/13). ووردت العبارة نفسها تقريبـاً في سفر الخـروج (34/28): «فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر». وفي اللغة الإنجليزية يُفرَّق أحياناً بين تعبير «تن كوماندمنتس Ten Commandments» وكلمة «ديكالوج Decalogue»، فتُستخدَم العبارة الأولى عادةً للإشارة إلى ما يُسمَّى بالوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج (20/1 ـ 7) أو سفر التثنية (5/6 ـ 21)، أما كلمة «ديكالوج» فتشير إلى الشيء نفسه في هذه الصيغة أو الصيغ الأخرى التي وردت في العهد القديم، وهي كثيرة ومتنوعة. لكن التعبيرين كثيراً ما استُخدما بشكل يفيد الترادف.

ويذهب بعـض الدارسـين إلى أن الوصايا العشر هي جوهر اليهودية، وروح اليهودية والقوانين اليهودية ككل؛ لكننا لا نأخذ بهذا الرأي. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله طبقات عديدة، والوصايا العشر بصيغها المختلفة تعبير عن الظاهرة نفسها، فهي تضم وصايا ذات تَوجُّه توحيدي عالمي أخلاقي، وأخرى ذات تَوجُّه حلولي قومي لا أخلاقي. ومن ثم يكون من الصعب الحديث عن شيء متناقض مثل الوصايا العشر باعتباره جوهر اليهودية، إلا إذا كان في ذهننا تركيبها الجيولوجي.

وثمة مشاكل عديدة تثيرها الوصايا العشر، أولاها أن من المتفق عليه في الموروث الديني اليهودي أن موسى ذهب إلى جبل سيناء، وصام أربعين يوماً، ونزلت عليه الوصايا هناك، لكنه حطمها عندما اكتشف أن أعضاء جماعة يسرائيل يعبدون العجل الذهبي، وعاد فصام أربعين يوماً أخرى، وأعطاها الإله له مرة أخرى. ولكن ليس من المعروف على وجه الدقة هل أعطاها الإله له مباشرة، وقام هو بتوصيلها للشعب أم أنه أعطاها له على مسمع من الشعب، أم أن الإله أعطاها للشعب مباشرة. وهناك إشارات عديدة إلى كل هذه الاحتمالات في سفر الخروج (19/9 ـ 25 و20/18 ـ 2)، وسفر التثنية (4/10 و5/4ـ 5 و5/22)، بل يُقال في الاجتهادات الحاخامية إنالإله خطها بإصبعه على جانبي اللوحين (لوحي الشهادة)، أي أنها كانت صيغة مقروءة وليست مسموعة استناداً إلى النص الوارد في سفر الخروج (31/18، 32/15 ـ 16).

ولكن المشكلة الأكثر حدة هي ما أثاره نقاد العهد القديم، فالإشارة الواردة في سفر الخروج إلى الكلمات العشر تتعلق بالصيغة المألوفة الواردة في سفري الخروج (20/1 ـ 7) والتثنية (5/6 ـ 21). ولكن هناك صيغة ترد مباشرة قبل عبارة «الكلمات العشر» في سفر الخروج (34/28)، وهي في سفر الخروج أيضاً وفي الإصحاح نفسه (34/11 ـ 26)، وهي تختلف تماماً عن الصيغتين الأخريين المألوفتين شكلاً ومضموناً.

ولنبدأ بنـص الصـيغة غير المألـوفة: "احفظ ما أنا موصيك اليوم. هأنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحيثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخاً في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم:

1 ـ فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم، فتُدعَى وتأكل من ذبيحتهم، وتأخذ من بناتهم لبنيك، فتزنى بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن.

2 ـ لا تصنع لنفسك آلهة مسبوكة (أي من معدن مصهور).

أما بقية الوصايا، فجاءت على النحو التالي:

ـ تحفظ عيد الفطير (الفصح). سبعة أيام تأكل فطيراً كما أمرتك في وقت شهر أبيب. لأنك في شهر أبيب خرجت من مصر.

ـ لي كل فاتح رحم. وكل ما يُولَد ذكراً من مواشيك بكراً من ثور وشاه. وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه ولا يظهروا أمامي فارغين.

ـ ستة أيام تعمل. وأما اليوم السابع فتستريح فيه، في الفلاحة وفي الحصاد تستريح.

ـ وتصنع لنفسك عيد الأسابيع.

ـ أبكار حصاد الحنطة وعيد الجمع في آخر السنة. ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله يسرائيل فإني أطرد الأمم من قدامك وأوسع تخومك ولا يشتهي أحد أرضك حين تصعد لتظهر أمام الرب إلهك ثلاث مرات في السنة.

ـ لا تذبح على خمير دم ذبيحتي.

ـ ولا تبت إلى الغد ذبيحة عيد الفصح. أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الإله إلهك.

ـ لا تطبخ جدياً بلبن أمه.

ويرى نقاد العهد القديم أن هذه الصيغة تعود إلى المصدر القيني (K) أقدم مصادر العهد القديم، وهو مصدر يختلف اختلافاً تاماً عن المصادر الأخرى نصاً وروحاً. ويشير نقاد العهد القديم إلى هذه الصيغة باعتبارها «الوصايا القربانية»، لأنها تحتوي على عدد كبير من الطقوس الخاصة بالأعياد والقرابين، كما أن الأخلاقيات الواردة فيها بدائية إلى أقصى حد تعكس بيئة رعوية.

ويرى أحد نقاد العهد القديم أنه توجد صيغ أخرى مثل تلك الواردة في خروج (13/3 ـ 16، 23/10 ـ 19)، وهي لا تختلف كثيراً عن الصيغة السابقة في بدائيتها، وتعكس بيئة شمالية أكثر ثراء. كما يشيرون إلى صيغ أخرى موجودة بشكل متناثر في سفر التثنية. ويُفسَّر تعدُّد الصيغ بالإشارة إلى الثورات المختلفة في المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية ضد العبادات الأجنبية، وأن كل ثورة كانت تؤكد صيغة جديدة.

وأهم الصيغ التي وردت هي، كما تَقدَّم، في سفري الخروج (20/1 ـ 17) والتثنية (5/6 ـ 21)، والصيغتان متشابهتان تماماً إلا في تفاصيل قليلة لا دلالة لها، باستثناء الوصية الثالثة حيث نجد أن ثمة اختلافاً جوهرياً بين الصيغتين، والوصيتين التاسعة والعاشرة حيث هناك تباينات لفظية. وقد أوردنا فيما يلي الصيغة الأولى بأكملها، بعد أن أثبتنا بين قوسين في السياق الوصايا الثالثة والرابعة والتاسعة والعاشرة في صياغتها الأخرى:

ثم تكلم الإله بجميع هذه الكلمات قائلاً: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية:

1 ـ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن. لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي. وأصنـع إحسـاناً إلى ألـوف من محـبي وحافظـي وصاياي.

2 - لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً. لأن الرب لا يبرئ من نطق اسمه باطلاً.

3 - اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدَّسه [وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك. واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر. فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة. لأجل ذلك أوصاك الإله إلهك أن تحفظ يوم السبت].

4 ـ أكرم أباك وأمك لكي تطول على الأرض التي يعطيك الرب إلهك [أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك].

5 ـ لا تقتل.

6 ـ لا تزن.

7 ـ لا تسرق.

8 ـ لا تشهد على قريبك شهادة زور.

9 ـ لا تشته بيت قريبك [لا تشته امرأة قريبك].

10- لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك [لا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك]».

ويمكن تقسيم الوصايا علي النحو التالي من (1) إلى (3): وصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإله، وبقية الوصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإنسان. وتبدأ الوصايا بالإله يُعرِّف نفسه، وأهم سماته هي مساهمته في التاريخ اليهودي، فهو يُعرِّف نفسه بأنه الإله الذي «أخرجك من أرض مصر وأرض العبودية»، أي أن ديباجة الوصايا العشر ذات طابع حلولي ترسِّخ الإحساس بالعلاقة الخاصة بالإله الذي يتدخل في التاريخ لصالح جماعة يسرائيل، وتعمَّق الإحساس بكره الأغيار (المصريين). كما يُلاحَظ أن فكرة التوحيد ليست كاملة، إذ أن هذه الوصية تعترف ضمناً بوجود آلهة أخرى. أما الوصية الأولى، فهي تتحدث عن الإله الغيور الذي يتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائه، وهي بذلك تنسب صفات بشرية إلى الإله، وتتضمن أخلاقيات بدائية إذ يصبح الشر والخير بالضرورة مسألة موروثة وليست مسألة دينية مرتبطة بقيم أخلاقية وبالاختيار والمسئولية الفردية.

أما الوصية الثالثة، فهي الوصية التي يرد فيها تفسيران مختلفان لتقديس يوم السبت. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى تعدُّد المصادر، ولكن الحاخامات فسروا الاختلاف باعتبار أنه يعود إلى أن موسى حطم لوحي العهد، فلما عاد أتى بنسخة أخرى من الوصايا، وكانت النسخة الأخرى غير مطابقة تماماً للنسخة الأولى. وقد فسر آخرون هذا الاختلاف بأنه معجزة محضة، فقد أرسل الإله النسختين في آن واحد. وهو التفسير الذي ساد والذي يتسق إلى حدٍّ كبير مع تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي الذي تتعايش داخله الطبقات المتراكمة المتناقضة. ولهذا التفسير الحاخامي الأخير دلالة خاصة. فالصيغتان الأولى والثانية، كما بيَّنا، تتفقان في كل التفاصيل تقريباً، إلا في الوصية الثالثة التي تختص بتقديس يوم السبت، حيث يختلف تفسير مصدر القداسة من صيغة إلى أخرى، فصيغة سفر الخروج (20/11) تورد أن الإله قد خلق الأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، أما سفر التثنية (5/15) فيذكر أن ذلك اليوم مقدَّس لأنه اليوم الذي أخرج الإله فيه جماعة يسرائيل من مصر، أي أنه من خلال ربط الصيغتين يتم مزج المقدَّس بالدنيوي والإلهي بالقومي. فقد ساوت الصيغتان الحادثة الكونية (خلق العالم أو الطبيعة) بحادثة قومية تاريخية (الخروج من مصر) في بداية التاريخ اليهودي. وهكذا ترتبط الطبيعة والتاريخ، ويُمنَح اليهود عطلة يوم السبت لسببين: أحدهما كوني، والآخر تاريخي يختص بالشعب المقدَّس، ولكنهما يتساويان في الدرجة. والسبت في هذا لا يختلف عن معظم الأعياد اليهودية التي هي أعياد دينية تاريخية وهي في الوقت نفسه أعياد طبيعية لا علاقة لها بالدين أو التاريخ أو الأخلاق. وفي هذا اتساق مع النمط الحلولي الذي لاحظناه، وهو تداخل النسبي والمطلـق، والدنيـوي والمقدَّس، وإضفاء مركزية كونية على التاريخ اليهـودي.

وتعـالج بقيـة الوصايا قضايا أخلاقية عامة ومهمة لتنظيم أي مجتمع، وإن كان هناك تخصيص في الوصية الأخيرة التي توصي اليهودي بعدم ارتكاب المعاصي ضد أقاربه من اليهود، وتلتزم الصمت تجاه الأغيار.

وثمة تشابه واضح بين الوصايا العشر في موضوعاتها وعناصرها الأساسية وأقسامها وترتيب أجزائها من جهة والمعاهدات المعروفة في حدود النصف الأول من القرن الثالث عشر ق.م. مثل المعاهدات المبرمة بين الملوك الحيثيين والدويلات الخاضعة لهم من جهة أخرى. فهذه المعاهدات تبدأ بديباجة أو مقدمة تاريخية، يليها شروط تتعلق بحفظ المعاهدة. وقد أخذت الوصايا العشر شكل إحدى هذه المعاهدات. فالرب هو الحاكم الإلهي الذي يذكر لعبيده أفضاله عليهم، وما أسدي إليهم من جميل، ثم يملي عليهم شروطه، ويهدد بإنزال العقوبات على المخالفين منهم. كما كانت مثل هذه المعاهدات تتطلب أن تُقرأ نصوص المعاهدة علناً بشكل دوري، وأسلوب الوصايا العشر يدل على أنه يجب قراءتها بصوت عال على الملأ. وقد وُضعت الوصايا العشر في سفينة العهد التي كان يُنظَر إليها باعتبارها مسند قدم الإله. والواقع أن هذه العادة سادت الشرق الأدنى القديم حيث كانت تُودَع نسخ من المعاهدات تحت أقدام الإله الذي شهد عليها.

وثمة تشـابه بـين الجــانب الأخـلاقي في الوصـايا وبـين الدليـل الـذي كان يُوضَع بجـوار الموتى في مصر الفرعونيـة، ليهــديهم في اليـوم الآخر، والمسمَّى «إعلان البراءة»، الذي ورد فيه: «لم أسرق؛ لم أطمع في شيء؛ لم أقتل إنساناً؛ لم أكذب؛ لم أزن».

وقد أصبحت الوصايا العشر جزءاً من الصلاة التي تتلى في عيد الأسابيع (عيد نزول التوراة) وهو ما يدل على أنه كان هناك عيد يسرائيلي قديم (لتجديد العهد)، وأنه كان يتضمن قراءة نصوص الوصايا العشر. وكانت الوصايا العشر، في الأصل، جزءاً من الصلاة في الهيكل، وكان اليهود يريدون أن تصبح هذه الوصايا جزءاً من الصلاة اليومية، ولكنهم مُنعوا من ذلك، حتى تُدحَض ادعاءات الفرق اليهودية المهرطقة التي كانت تدَّعي أنها وحدها المنزلة من الإله وما عدا ذلك فهو اجتهاد بشري ولذا فهو غير مُلزم لأحد. ورداً على ذلك، جاء في الأجاداه أن هذه الأوامر والنواهي كانت مكتوبة على لوحي العهد في الفراغات بين الكلمات، وهذه محاولة لخلع القداسة على الشريعة الشفوية التي يحمل الحاخامات مشعلها. ولكل هذا، لم تُضَم الوصايا العشر إلى الصلوات اليومية. والواقع أن الأهمية الخاصة والوحيدة لهذه الوصايا هي أن المصلين يقفون عند تلاوتها في المعبد. وفي احتفالات بلوغ اليهودي سن التكليف الديني (برمتسفا) في المعابد الإصلاحية، يقوم المُحتفَـل به بتلاوتها أمام تابوت العهد.

وقد أضاف حاخامات اليهود ما يُسمَّى الأوامر والنواهي أو المتسفـوت وعـددها 613. ويوجد أيضاً ما يُسمَّى شريعة نوح، وهي تضم مجمـوعة من الأوامــر والنواهي الملزمة لليهود وغير اليهود.

سفر أيوب

Job

«أيوب» اسـم لا يُعرَف معناه على وجـه الدقـة، ليـس له اشتقاق عبري، أشار جيزينوس إلى أنه من أصل عربي من آب بمعنى رجع/عاد/تاب، ولعله قريب من اللفظة العربية «آيب» بمعنى «الراجع إلى الإله أو التائب»، و«أيوب» اسم سفر يعالج مسألة عذاب الأبرار، وتدور أحداثه حول رهان بين الإله وبين الشيطان الذي سُمح له بأن يختبر إيمان أيوب. وابتـلي أيوب، ففـقد ممتلكاتـه وحُرم من أسـرته وأصيب في جسده. وتلت المقدمة حوارات شعرية بين أيوب وثلاثة أصدقاء جاءوا لمواساته. ويضمالسفر إشارات عديدة يُفهم منها إنكار البعث والحياة في الآخـرة، وأن الثـواب والعقـاب يقتـصران على الحياة الدنيا. ومع هذا، يظهر الإله لأيوب في العاصفة ويوجه إليه اللوم على الاعتراض على حكمه، فعقل الإنسان قاصر عن إدراك حكمة الإله ولذا لا يحق له أن يعترض على حكمه، فيتوب أيوب وينيب ويعود إلى نجاح فاق نجاحه الأول.

ولا توجد أية إشارة إلى يهوه في الحوار الشعري الذي يدور في السفر، ولا إلى تاريخ جماعة يسرائيل، ولا إلى أيٍّ من شرائعهم، إذ أن تناول القوانين الأخلاقية يتم بشكل إنساني عام. كما أن السفر خال من الزخارف اللفظية، من الصور التي تسم الأسفار ذات الأصل العبراني. كل هذا حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن الكتاب من أصل أدومي أو تقليد لنص أدومي. ولم يُحدَّد، على وجه الدقة، تاريخ كتابة السفر، فالبيئة والظروف التي يتحدث عنها تشبه البيئة والظروف التي عاش فيها الآباء الأولون. ولذلكيُحتمَل أنه يرجع إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وإن كانت هناك آراء تذهب إلى أنه وُضع في تاريخ متأخر من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما بعد ذلك.

وكان الكاهن الأعظم يتلو سفر أيوب في يوم الغفران. ولا يزال السفارد يقرأونه في التاسع من آب.

سفر الأمثال

Proverbs

يُسمَّى «سفر الأمثال» بالعبرية «ميشاليم» وهو يضم مجموعة من الأمثـال، ويتـناول موضـوعات مختلفـة مثل: مخافة الإله، وطاعة الوالـدين، واحـترام المعلمـين، والنـهي عن المنكر، والأمر بالعدل، والصبر، وعدم الغش في الكيل، والتَبصُّر في الأمور. ويؤكد السفر أن الصالحين من العلماء سيُكافَأون وأن الصالحين من الجهلاء سيُجازون.والتوجه الأخلاقي للسفر فردي إنساني وليس قومياً. كما يخلو السفر من النهي عن عبادة الأوثان. وتُنسَب معظم أجزاء السفر إلى سليمان، كما تُنسَب أجزاء أخرى إلى مؤلفين آخرين حُدِّدت أسماء بعضهم ولم تُحدَّد أسماء البعض الآخر. ويشبه السفر كتب الحكم والأمثال المصرية، كما يُلاحَظ تأثره بأدب الأمثال الكنعاني والآشوري. ويختلف ترتيب مجمـوعات الأمثال في النسـخة العـبرية عن ترتيبها في الترجمة السبعينية، الأمر الذي يدل على تعدُّد المصادر.

وينسب الحاخامات نشيد الأنشاد وسفر الأمثال وسفر الجامعة إلى سليمان، فيقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في تمام عقله وحكمته، والثالث في شيخوخته.

سفر الجامعة

Ecclesiastes

ويُسمَّى بالعبرية «قوهيليت» أي «الجامعة»، وهو رابع المجلات الخمس، وأحد أسفار العهد القديم، يحاول واضعه أن يُعرِّف معنى الحياة وهدفها، ولكنه يرى أن كل شيءباطل وعبث، فيسقط في العدمية والحسية والقدرية، وشعاره هو "باطل الأباطيل، كل شيء باطل"، فكل شيء مقرَّر من قبل لا مجال للاختيار الإنساني. ويرى صاحب السفر أن الحكمة والمعرفة لا جدوى من ورائهما، فلا فرق بين الحيوان والإنسان، ولا حساب بعد الموت، ولذا فيوم الوفاة خير من يوم الميلاد، وأن يذهب الإنسان للعزاء خير من أن يذهب ليبارك مقدم مولود. وثمة تَماثُل في بعض الوجوه بين سفر الجامعة وبين الفلسفة اليونانية، إذ يقول بركليس: «إن الخير كل الخير ألا يولد الإنسـان أصلاً، ولكن ما يلي ذلك هو أن يمـوت الإنسان صغيراً». وقد ضُمِّن السفر في العهد القديم برغم رؤيته اللادينية. ويبدو أنه قد وُضع في القرن الثالث قبل الميلاد، وكُتب في أسلوب دقيق سهل ناصع، ولغته قريبة من عبرية المشناه. وينسب اليهود نشيد الأنشاد إلى سليمان، وكذلك سفر الأمثال وسفر الجامعة. ويقولون إنه كتب الأول في شبابه والثاني في تمام عقله وحكمته والثالث في شيخوخته. ويُقرأ سفر الجامعة في عيد المظال.

سفر المزامير

Psalms

ويُسمَّى بالعبرية «تهيليم» أي «المزامير». سُمِّي «سفر المزامير» بهذا الاسم لأنه يحوي مجموعة من الأغاني تُنشَد بمصاحبة المزامير. وتُقسَّم المزامير إلى خمس مجموعات (1)، (42)، (78)، (90)، (107)، وتُختَم كل مجموعة بتسبيحة شكر. وقد نُسبت المزامير أساساً إلى داود، ولكن بعضها نُسب إلى سليمان أو مؤلفين آخرين، كما أن بعضها لا يُنسب إلى أحد. ويتناول هذا السفر موضوعات كثيرة، كالترانيم والأدعية والتسابيح، والتعبير عن ثقة وإيمان المؤمنين بإله الكون، وأغان تعبِّر عن الحزن والفرح، وأناشيد تُغنَّى في مناسبات مثل يوم الزفاف الملكي واعتلاء العرش وفي الأعياد وأغاني الأفراح والحروب. وكان بعض المزامير يُغنَّى بشكل جماعي والبعض الآخر يُغنَّى بشكل فردي. ويشبه كثير من المزامير القصائد الأوجاريتية، كما يظهر في المزمور رقم 104 أثر قصيدة أخناتون التي يخاطب فيها معبوده الشمس، وتوجد أيضاً تأثيرات بابلية. ولا يُعرَف على وجه الدقة متى أصبح إنشاد المزامير جزءاً من الصلوات في المعبد اليهودي، وإن كانت أغلبية الباحثين تميل إلى القول بأن ذلك تم بعد التهجير البابلي. وقد أصبح كثير من المزامير جُزءاً من الصلوات اليهودية والمسيحية، نظراً لجمال بعضها وبساطته. ولكن البعض الآخر يتسم بالنزعة القومية العنصرية (بل العسكرية أيضاً). وقد خُصِّصت بعض المزامير لمناسبات معيَّنة ولأيام محدَّدة. وفي التراث القبَّالي، يُنظَر إلى المزامير باعتبارها «أسلحة» في يد المؤمن يبيد بها أعداءه. ومن ناحية أخرى، فإن إصحاحات السفر مرتبة في النـص العـبري بطريقة تختلـف في هذا السفر عنها في الترجمة السبعينية.

سفر نشيد الأنشاد

Song of Songs

بالعبرية «شيرهشيريم» أي «نشيد الأنشاد»، ويُسمَّى «نشيد الأنشاد» أحياناً «نشيد سليمان»، وهو أولى المجلات الخمس. يضم نشيد الأنشاد قصائد حب كُتبت على هيئةحوار، وقد فسرها البعض على أنها مسرحية شعرية ذات فصول ومناظر، شخصياتها هي الراعية شولاميت وبنات أورشليم والراعي الشاب، وتدور أحداثها حول غرام سليمان بشولاوميت التي كانت تحب الراعي بعد أن خطبت له، وبقيت وفية على حبها له إلى أن تزوجا في النهاية. ويرى البعض أنها مجرد أغاني حب وزفاف. وتتسم قصائد السفر بالإسراف في التعبير عن عاطفة الحب والحسية في الوصف الأمر الذي أثار الجدل حوله، وقد تم تفسيره تفسيراً رمزياً باعتباره نشيد زفاف جماعة يسرائيل إلى الإله، أو زفاف التوراة إلى جماعة يسرائيل. ويُعَد نشيد الأنشاد من أهم أسفار العهد القديم من منظور التراث القبَّالي لأنه يستخدم صوراً مجازية جنسية. ويُلاحَظ أن اسم الإله لم يُذكَر في هذا السفر إلا مرة واحدة (8/6): «اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك. لأن المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب».

ويُنسَب نشيد الأنشاد إلى سليمان، كما يُنسَب إليه الأمثال والجامعة. ويقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في أيام العقل والحكمة، والثالث في شيخوخته.

سفر المراثي (مراثي إرميا)

Lamentations

ثالثة المجلات الخمس (وهو بكلمة «إيخاه = كيف» العبرية ويضم مراثي أشبه بالبكائيات على الأطلال)، ويضم خمسة إصحاحات من المراثي تتناول هدم يهودا وأورشليم والهيكل على يد البابليين. وتقرر المراثي أن ما حدث من خراب ودمار لأورشليم، إنما هو نتيجة أعمال قاطنيها وشرورهم. ويبكي الشاعر احتلال أورشليم ورحيل حكامها، ويدعو إلى التوبة ويأمل في رحمة الإله وفي انتقامه من الأعداء، وأخيراً فإنه يستعطف الإله ويرجوه إرجاع المجد القديم. وتوجد كتب مراث للمدن المهدمة في الأدب السوري والأكادي، وكلها تتناول موضوعات مثل: المجاعة وتهديم المدينة والمعبد ونهب المدينة والأسر والنحيب، وهو ما يشير إلى احتمال تأثيرها في مراثي إرميا. ويُنشد السفر في التاسع من آب. ومن الواضح أن له أكثر من مؤلف .

تفســــير العهـــــد القـــــديم

Exegesis of the Old Testament

بالعبرية «بيروشيم أوبيئوريم» = «تفسيرات وشروح»، وتُعَدُّ قضية التفسير مسألة أساسية بالنسبة للعهد القديم، نظراً لعدم اتساقه وتعدُّد مصادره وعدم تمازجها. وتفسير العهد القديم هو ما يشكل الشريعة الشفوية التي فاقت في أهميتها (عند اليهود) الشريعة المكتوبة المتمثلة في العهد القديم. وكان أول طرح للقضية في القرن الأول قبل الميلاد، حينما تحوَّلت قضية التفسير إلى قضية سياسية في الصراع الدائر بين الفريسيين والصدوقيين، إذ رأى الفريسيون أن الشريعة المكتوبة لا تكفي، وأنه لابد من إكمالهـا بالشريعة الشفوية، أي بالتفسير الحاخامي، الأمر الذي يعني في واقع الأمر توسيع نطاق المشاركة في إدارة حياة اليهود وصياغة رؤيتهم للكون بحيث لا يستأثر الكهنة (الصدوقيون) بمفردهم بهذه العملية. وقد قدَّم الغيورون، وخصوصاً حَمَلة الخناجر منهم، تفسيراً شيوعياً بدائياً لليهودية وجد صداه بين الجماهير اليهودية، فاندلع التمرد الأول ضد الرومان.

وبعد استقرار اليهودية الحاخامية، مر تفسير العهد القديم بعدة فترات. تمتد الفترة الأولى حتى القرن السادس الميلادي. وقد بدأت هذه الفترة مع تدوين العهد القديم نفسه، إذ صاحب ذلك ظهور كتب المدراش المختلفة (بشقيها الهالاخي والأجادي، أي التشريعي والوعظي القصصي) التي تمثل النواة الأولى للشريعة الشفوية. وقد وُضعت قواعد مختلفة للتفسير، وظهرت مدارس مختلفة، لكن من الواضح أن التفسير اكتسب من البداية مركزية وحل محل النص المقدَّس كمرجع نهائي. وقد ظل التفسير ينطلق من النص ويعود إليه في حلقات متداخـلة حيـث يفرض المفسـر الرأي الراجـح في تصوُّره.

وقد ظهرت مدارس مختلفة للتفسير، منها الحرفي والمباشر (بيشاط)، ومنها ما يحاول أن يغوص في المعنى الكامن (دراش)، ومنها الرمزي (ريميز)، وأخيراً هناكالتفسير الذي يحاول أن يصل إلى المعنى الفلسفي أو اللاهوتي والباطني والغنوصي (سود)، وهو أيضاً التفسير الصوفي. وقد ساد النوعان الأول والثاني في بادئ الأمر،وفي هذه الفترة فسَّر فيلون العهد القديم تفسيراً مجازياً حاول فيه أن يوفق بين اليهـودية والفلسفـة اليونانية. ومن أشـهر مدارس التفسير، في هذه الفترة، بيت شماي وبيت هليل. وقد ظهرت الحلقات التلمودية، إبان هذه الفترة، في فلسطين وبابل ظهرت طبقات الشارحين المختلفة: الكتبة (سوفريم)، ومعلمي المشناه (تنائيم)، والشراح (أمورائيم)، والمفسرين (صابورائيم)، والفقهاء (جاؤنيم). ويرى بعض النقاد أن ترجمات العهد القديم، اليونانية (السبعينية) والسريانية (البشيطَّاه) واللاتينية (الفولجاتا)، هي في الواقع من قبيل التفسير إذ أن المترجمين كانوا يضيفون أحياناً كلمات هنا وهناك لتوضيح المعنى. كما أن فكرة الكتب الخارجية والخفية (أبوكريفا)، والكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا)، هي أيضاً من قبيل كتب التفسير التي تلقي الضوء على نصوص الكتاب المقدَّس. ومع نهاية هذه الفترة، جُمعت التفسيرات والفتاوى والشروح المختلفة في التلمود وفي كتب المدراش المختلفة. وبدأت التفسيرات الصوفية في الظهور، وخصوصاً تفسيرات قصة الخلق، كما ظهرت التأملات الخاصة بتركيب السماء والأرض.

أما في الفترة الثانية، فقد ظهرت طرق تفسير جديدة بتأثير الحضارة الإسلامية. وعلى سبيل المثال، ابتعد سعيد بن يوسف الفيومي عن التفسير الوعظي الملتصق بالنص، واشتهر باستخدام المعارف الدنيوية السائدة في عصره، وتطبيق طرق البحث الفلسفية واللغوية لتفسير العهد القديم. وقد تطورت هذه الطرق في إسبانيا، الإسلامية ثم المسيحية، حيث ظهرت جذور علم نقد العهد القديم. ووصل التفسير الفلسفي قمته في أعمال موسى بن ميمون الذي لم يكتب تفسيراً كاملاً للعهد القديم، ولكن أعماله الفلسفية تتضمن الكثير من التفسيرات للعديد من النصوص. وقد استخدم ابن ميمون معرفته بالفلسفة الإسلامية، والعلوم الدنيوية في الحضارة الإسلامية التي عاش في كنفها، ليقدم تفسيراً عقلانياً لا يستبعد الجوانب الرمزية، بل يستفيد من معرفة قوانين المنطق واللغة. أما في أوربا الغربية، فقد انحصر راشي (في القرن الحادي عشر) داخل نطاق التفسير الحرفي والمباشر، فلم يرجع إلا لكتب المدراش، وكانت تفسيراته ذات طابع لغوي ضيق.

ومما يجدر ذكره أن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي اكتسبت مركزية وأهمية في هذه الفترة. ويتبدى هذا في هيمنة الشريعة الشفوية التي تذهب إلى أن التفسير البشري أهم من الوحي الإلهي، ولذا نجد أن الحاخامات أعطوا أنفسهم الحق في إصدار تفسيرات وتشريعات لا تستند بالضرورة إلى النص وتهدف، في تصوُّرهم، إلى حماية الأوامر التوراتية. كما يُلاحَظ أن تفسيرات الحاخامات لها منزلة أعلى من النص نفسه، فإن تناقضت أحكامهم مع أحكام التوراة، أي مع كلمات الإله، فإن تفسيرهم يكون التفسير الملزم لأن التوراة، بعد أن أعطاها الإله للإنسان، أصبحت خاضعة لتفسيره. وقد جاء في التلمود أن الإله وافق على أنه يجب أن يُفسِّر الحاخامات ما قاله هو. وعلى كلٍّ تقرر الشريعة الشفوية أنها تَصدُر عن الإرادة الإلهية، شأنها في هذا شأن الشريعة المكتوبة، الأمر الذي عارضه السامريون والقرّاءون. وقد شهدت هذهالفترة هيمنة التلمود (ثمرة الشريعة الشـفوية) بحـيث حـل محـل العهـد القديم باعتباره أهم كتب اليهود المقدَّسـة.

ويُقسِّم التلمود اليهود وفق ترتيب هرمي حدّي يتناسب مقدار الصعود أوالهبوط فيه تناسباً طردياً مع مدى التعمق في التفسير ومن ثَمَّ درجة الحلول الإلهي في التفسير. فأقل اليهود منزلة هم الجهلاء الذين لا يعرفون العهد القديم ولا تفسيراته، يعلوهم أولئك الذين يعرفون العهد القديم، ثم أولئك الذين يعرفون المشناه والأجزاء الوعظية القصصية (الأجادية) منها أو تلك الموجودة في الجماراه. أما أعلى اليهود منزلة، فهم أولئك الذين يعرفون الأجزاء التشريعية (الهالاخية) من المشناه والجماره ويفسرونها. وهذا الترتيب الهرمي يبين مدى علاقة التفسير بالسلطة بحيث نجد أن الحاخامات (مفسري الشريعة)، أصحاب الشريعة الشفوية، يقفون على قمة الهرم. وقد سادت القرن الثامن عشر طريقة البيلبول، وهي طريقة في التفسير تهدف إلى إبراز براعة المفسر ومقدراته، بغض النظر عن مدى صدق تفسيره أو مطابقته للنص.

وقد انفصلت الدراسات التلمودية تماماً عن الواقع، أي واقع، بحيث انغمست في الاعتبارات المنطقية التي لا يربطها أي رابط مع مشاكل أعضاء الجماعات اليهودية وحياتهم. وعلى سبيل المثال، فمن الضروري ألا يتزوج الكاهن الأعظم إلا عذراء. ورغم هدم الهيكل وانتهاء العبادة القربانية، فإن التلمود والحاخامات استمروا في مناقشة أدق التفاصيل الخاصة بذلك التحريم، مثل محاولة تعريف العذراء. ويتساءل التلمود عن امرأة تمزَّق غشاء بكارتها بسبب حادث وقع لها، فتطرح أسئلة مثل: هل وقع الحادث قبل أو بعد سن الثالثة؟ وعن طريق جسم معدني أو خشبي؟ وهل وقع الحادث بسبب تَسلُّق شجرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل وقع الحادث أثناء صعودها أم أثناء نزولها من الشجرة؟ وذلك إلى جانب عشرات من الأسئلة الأخرى.

ومع الدراسات التلمودية، نشأت التفسيرات الصوفية القبَّالية في القرن الرابع عشر، جنباً إلى جنب، وأخذت في الانتشار حتى سادت تماماً مع بدايات القرن السابع عشر، واتبعت منهجاً حلولياً باطنياً في التفسير.

والحلولية لا توحد الإله والطبيعة وحسب، وإنما توحد الكل والجزء كذلك، ولذا تصبح المادة والأجزاء، داخل الإطار الحلولي، إما الجسد الإلهي نفسه أو مادة مقدَّسة مُستمَدة من الإله لها معنى رمزي باطني، ولكن المفارقة تكمن في أنها قد تصبح عكس ذلك تماماً، مجرد مادة خام يسبر عقل الإنسان المقدَّس أغوارها ويشكلها حسب هواه ويفرض عليها أي معنى باطني يعن له باعتبار أن الإنسان تَجسُّد للإله الذي حل فيه.

ويُلاحَظ أن علاقة الدال بالمدلول داخل الإطار الحلولي تضطرب تماماً وتعكس الموقفين المتناقضين نفسيهما، فقد يلتصق الدال بالمدلول (التصاق أو تَوحُّد التوراة مع الإله) ليصبح الدال أو النص (مثل جسد الإله) مقدَّساً ويشمل كل شيء، أو العكس إذ يصبح الدال ظاهرياً جافاً منفصلاً عن مدلوله (الحقيقي) ومن ثم يفرض المفسر عليه أي معنى يشاء (وهذا يعني موت النص وهيمنة المفسر). وفي التراث القبَّالي، كل شيء انعكاس لشيء آخر بسبب اختفاء الحدود في النسق الحلولي وذوبان الكل في الجزء واختفاء الثغرة، ولذا يمكن أن يدل أي دال على أي مدلول. كما أن الرمز، لهذا السبب، يصبح أحياناً هو المعنى نفسه (مثل الصليب أو الأيقونة). وثمة تشابه بين هذه الطريقة في التفسير وبين بعض أطروحات المدرسة التفكيكية التي أسسها جاك دريدا، وخصوصاً مفهوم «لا ديفيرانس La differance» ، وهي كلمة مركبة تفيد الاختلاف والإرجاء، أي أن كل دال مختلف عن أي دال آخر، ومع هذا فهو على صلة بكل الدوال الأخرى فمعناه النهائي مختلف ومرجأ، ولذا نعبِّر عن هذا المفهوم بكلمة «الإخترجلاف». وفي كلتا الحالتين، يحاول المفسر أن يصل إلى المعنى الباطني وهو الغنوص الكامل الذي يمكن التحكم من خلاله في الإله ومن ثم في الكون.

وتذهب إحدى مدارس التفسير القبَّالية إلى أن التوراة عبارة عن مجرد مادة خام (هيولي) يشكلها المفسر القبَّالي بالطريقة التي يراها حسـب هواه. وقد ذكر إسـحق لوريا أن للتوراة سـتمائة ألف معنى أو وجه، وهذا العدد هو نفسه عدد أعضاء جماعة يسرائيل الافتراضي في سيناء حين أوحى الإله إلى موسى بالتوراة. ومعنى هذا أن لكل يهودي تفسيره الخاص، أو كما يقول لوريا: كل يهودي يقرأ التوراة بطريقته، حسب «جذره». وقد اتبع القبَّاليون منهج الجماتريا في التفسير وهو حساب القيمة الرقمية للأعداد وتحوير معاني المفردات، بحيث يستنطقها المفسر بما يريد من مدلولات، الأمر الذي يعني أن النص المقدَّس ينطق بما يراه المفسر.

وقد تعمقت الحلولية وازداد المجال الدلالي اضطراباً مع هيمنة القبَّالاه التي يدور موقفها من التوراة حول موضوعين أساسيين: أولهما أن «التوراة» اسم للإله أو دال عليه. ويُنظَر في التراث اليهودي إلى هذا الاسم باعتباره أعلى تركيز للمقدرة الإلهية (وهي فكرة لها علاقة بالسحر وبالتأمل الباطني)، ومعنى ذلك أن التوراة ليست مجرد مادة خام بل لم تَعُد كتاباً ينقل معنىً أو مدلولاً محدداً، وإنما هي وحدة صوفية تهدف إلى التعبير عن قدرة الإله المتركزة في اسمه، وما القصص والمواعظ والمعاني التي ترد فيها سوى رداء خارجي للاسم المقدَّس. وحينما كان القبَّاليون يشيرون إلى أن التوراة هي «اسم الإله»، فإنهم لم يكونوا يعنون بذلك أنها اسم يُنطَق به، وإنما كانوا يعتقدون أنها الوجود الإلهي المتسامي نفسه، أي أنها هي نفسها اللوجوس أي تجسُّد الإله وليس مجرد دال علىه أو رسالة منه (في التفسيرات المسيحية يُنظَر إلى النص باعتباره قصة رمزية بسيطة، بالإنجليزية: أليجوريكال allegorical) ، أي أن علاقة المستوى الرمزي بالمستوى الواقعي علاقة مباشرة وواضحة، ومن ثم فأحداث القصة علامات تشير إلى مغزى أخلاقي رمزي آخر، فتكون أحداث القصة الدال الذي يشير إلى مدلول وراءه). وقد جاء في الأجاداه أن التوراة أداة الإله في خلق العالم، كما جاء في أحد كتب المدراش أن الإله نظر إلى التوراة ثم خلق العالم، أي أن القانون الذي يحكم العالم يوجد في التوراة، وهنا يتداخل التأمل مع السحر. وتعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله، بل هي جزء منه. ومن هنا، فإن الإشارة كانت إلى التوراة الكونية (توراة قيدوماه) باعتبارها أحد التجليات النورانية العشرة (سفيروت). ومن هنا، كان الحديث عن أن التوراة هي الإله، حروفها جسده ومعناها روحه.

أما الموضوع الثاني، فهو أن التوراة كيان عضوي حيّ، وهذه فكرة نابعة من الفكرة السابقة. فالتوراة اسم، ولكنه اسم على هيئة كيان حيّ، ولذا يشار إليها بأنها شجرة الحياة تظهر على هيئة إنسان. وهنا يتحد كل من التوراة وجماعة يسرائيل، فالتوراة التي تجسد الإله متوازية مع الشعب، والشعب هو الشخيناه التي هي أحد تجليات الإله. وبالتالي، فإن الشعب أحد التجليات النورانية، أي أنه جزء عضوي من الإله.

وقد امتد هذا التصور ليشمل فكرة التوراة الشفوية التي تعتبر الكل الذي يضم مختلف فتاوى الحاخامات. والتوراة الشفوية هي التي تكمل التوراة المكتوبة وتجعلها متعيِّنة، أي أن التوراتين تمثلان كلاًّ عضوياً، وكل منهما تكمل الأخرى ولا يمكن تصوُّر الواحدة منفصلة عن الأخرى. وقد قرن القبَّاليون التوراة المكتوبة بالتجلي النوراني المسمَّى «تفئيرت» (الإله من حيث هو عنصر مذكر)، في حين تكون التوراة الشفوية الوعاء المتلقي أو الشخيناه، أي جماعة يسرائيل (الإله من حيث هو عنصر مؤنث)، ومعنى هذا أن الإله والتوراة والشعب يكوِّنون كلاًّ عضوياً. والواقع أن مضامين الفكرة جادة وخطيرة للغاية، فالتوراة المكتوبة تكتسب مضمونها من خلال التوراة الشفوية وليس العكس. ويكتسب الإله هويته من خلال الشخيناه (الشعب) وليس العكس (وهنا يتبدَّى النمط الحلولي الكامن الذي يبدأ بحلول الإله في الإنسان، ولكنه يصبح دونه مرتبةً ومنزلةً ومعتمداً عليـه). والشيء نفسـه يُقال عن التوراتين، فالتوراة الشفوية (التي وضعها الإنسان) تفوق التوراة المكتوبة المرسلة من عند الإله. وقد قال نحمانيدس إنه جاء في الأجاداه أن التوراة كُتبت بنار سوداء على نار بيضاء، ولذا فإن حروف التوراة المكتوبة لا معنى لها دون المفسرين، فهم يكتشفون التوراة المكتوبة بالنار البيضاء الخفية التي لا يمكن إلا لكبار المفسرين قراءتها، إذ أن التوراة التي بين أيدينا مكتوبـة بالحروف السـوداء التي تعطي معنى مباشراً عادياً، أي أنه ليست هناك سوى التوراة الشفوية في نهاية الأمر. بل إن نحمانيدس يذهب إلى القول بأن كتابة التوراة كانت متصلة بدون أي فراغ بين الكلمات، أي أنها كلمة واحدة متصلة الأمر الذي يجعل من الممكن قراءتها: إما بالطريقة التقليدية كتاريخ ووصايا، أو بالطريقة الباطنية كأسماء للإله. وجاء أيضاً أن موسى تلقى التوراة التي تُقرأ كوصايا، ولكن التوراة الشفوية هي التي ستمكنه من قراءتها بوصفها أسماء للإله. وقال بعض القبَّاليين بنظرية الحرف الناقص، وهو حرف الشين الغائب أو الباطني الذي له أربع أسنان على عكس الشين العبرية الظاهرة التي لها ثـلاث أسـنان فقط، مثلـها مثـل الشين العربية. ويقول البعض الآخر إن هناك حرفاً ناقصاً من العبرية المعـروفة لنا، وسيُكشَف هذا الحـرف للعـوام في الدورة الكونية المقبلة، ولكنه يمكن أن يُكشَف للعالمين بالقبَّالاه في الدورة الكونية الحالية. وحسب هذه النظرية، فعند قراءة أوامر ونواهي التوراة، تكون النواهي مرتبطة بهذا الحرف الناقص، فإن وُضع في موضعه فإن الأوامر مثل «لا تسرق، لا تزن» ستتحول إلى دعوة للإباحية بمعنى «فلتسرق، ولتزن». وستظهر هذه التوراة الكاملة البيضاء في العصر المشيحاني.

وقد طوَّر القبَّاليون فكرة التوراتين على أسس جديدة، فآمنوا بوجود توراتين: توراة الخلق الظاهرة (توراه دى بريئاه)، وتوراة الفيض الباطنة (توراة دي أتسيلوت). وهاتان التوراتان، على عكس التوراة المكتوبة والشفوية، كلماتهما واحدة ولكن ثمة معنى خفياً وراء النص الظاهر لا يمكن أن يصل إليه سوى الماشيَّح ومن هم في منزلته. والواقع أن توراة الخلق هي توراة هذا العالم المكتوبة على رقائق الجلد والورق وتحوي الأوامر والنواهي والتحريمات. أما توراة الفيض الكاملة، فهي توراة عالم الخلاص؛ توراة الحرية وعدم التقيد بأية حدود أو أوامر، توراة الإباحة الكامنة وراء توراة الخلق. ولذا، فإن من يدرك كنهها، مثل شبتاي تسفي وفرانك، يتحلل تماماً من الشريعة.

ويمكن القول بأن ثمة نمطاً كامناً وراء كل التفسيرات الحلولية يفترض أن ثمة تساوياً بين الإله والتوراة والشعب بحيث يصبح الشعب إلهاً، وهو ما يؤدي إلى الإباحة التي تؤدي بدورها إلى الإباحية الكاملة. ويتحدث التراث القبَّالي عن حادثة طرد آدم من الجنة، وكيف أنه بعد أن أكل من شجرة المعرفة اكتشف عورته التي بدا له أنها خطيئة، ولذا اضطر إلى ارتداء ثوب ليستر به عورته (معرفته). وبالمثل، فإن الشخيناه التي تتجسد في التوراة، والتي ترافق جماعة يسرائيل في منفاها، بل تصبح هي نفسها كنيست يسرائيل، تصبح في حاجة إلى الثياب لكي تغطي بها أصلها الحقيقي. ومن ثم، فإنها ترتدي ملابس الحداد الكئيبة (الأمر الذي يوضح أثر فكرة السقوط المسيحية وفكرة الجسد من حيث هو خطيئة). والتوراة/الشخيناه ترتدي هي الأخرى الثياب التي تتمثل في الأوامر والنواهي التي ينبغي على اليهودي مراعاتها في عالم المنفى، أي في عالم السقوط (إذا استخدمنا المصطلح المسيحي). أما في عصر الخلاص أو العصر المشيحاني، فإن التوراة التي بين أيدينا (توراة شجرة المعرفة المغطاة برداء من الوصايا) سوف تتجرد من ملابسها لتظهر التوراة الحقيقية (توراة شجرة الحياة)، ومن ثم تكون العودة إلى الحالة الفردوسية (قبل السقوط) حين كان آدم وحواء يقفان عاريين دون حاجة إلى ثياب تستر عورتهما، أي أن كل شيء ينتهي في الفردوس ليسود الحلول الإلهي الكامل ويترسخ إلغاء الشريعة والإباحية والترخيصية، ويباح كل شيء.

ومعنى التوراة الخفي، الذي لا يدركه سوى العالمين بأسرار القبَّالاه، مرتبط بفكرة الدوائر الكونية التي تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام، وكل واحدة تتكون من وحدات من سبعة أعوام، والتاريخ يتكـون من سـبع دورات كونية، ويُقال إننا في ثاني هـذه الدورات. وفي كل دورة تأخذ التوراة شكلاً محدداً، والتوراة التي بين أيدي اليهود هي مجرد شكل للتوراة في دورتها الحالية، ولكن هذا الشكل ليس الشكل الأوحد أو النهائي لها، فلكل دورة كونية توراتها، ولكل توراة معنى مختلف تماماً.

ويؤكد التراث القبَّالي وجود درجات وطبقات للمفسرين تعبِّر عن درجات القداسة أو الحلول الإلهي، أهمها هو من «يعرف التوراة وجهاً لوجه». وقد جاء في التوراة أن موسى عرف الإله وجهاً لوجه، أي رآه رؤية العين. ولكن كلمة «عرف» تعني في العهد القديم، «نكح»: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين» (تكوين 4/1). وفي التراث اليهـودي الصوفي، يُقال إن موسـى عرف الشخيناه، أي الحضرة الإلهية، بمعنى أنه ضاجعها ونكحها. وكذلك تفسير التوراة، فمن يعرفها وجهاً لوجه يكون كمن نكحها. وتصور القبَّالاه مراحل التفسير مستخدمة هذه الصورة المجازية الجنسية، فالعابد يدخل مخدع حبيبته التوراة، فتقف من خلف حجاب كثيف، وكلما تَعمَّق في القراءة وغاص في المعنى كشفت له عن نفسها حتى تتجرد تماماً من ملابسها وتقف عارية أمامه، فيقف هو أمامها وجهاً لوجه فيما يشبه الزواج المقدَّس. وهذا هو أساسجميع التهويمات الفكرية والجنسية (فلنقارن هذا بفكرة لذة النص عند رولاند بارت، ولنتذكر أن الصورة المجازية الجنسية أساسية في النسق الحلولي وفي فلسفة ما بعدالحداثة).

ومما يجدر ذكره أن كتب القبَّالاه (مثل الباهير والزوهار وكتابات لوريا)، وكلها كتب تفسير للعهد القديم، حلت بين الجماهير وصغار الحاخامات محل التلمود وأصبحت في واقع الأمر الشريعة الشفوية. وكان هذا هو الوضع السائد حين لاح العصر الحديث في الغرب وقام مندلسون بترجمة العهد القديم وكتب مع بعض زملائه تعليقه الشهير عليه ، وهو ما يُعرَف باسم «البيئور». وقد استفاد مندلسون من التفاسير القديمة، ولكنه وَجَّه الأنظار نحو المعرفة الدنيوية على حساب التقاليد. وبعد ذلك، اتسع نطاق نقد العهد القديم، وظهر ما يُسمَّى «علم اليهـودية» والتفسـيرات الحديثـة المختلفة التي تستفيد من المعارف الدنيوية، مثل علم النفس وعلم الأنثربولوجيا.

ومن أهم الاتجاهات في التفسير ما يمكن تسميته «الاتجاه الوجودي الحلولي» عند مارتن بوبر، وهو اتجاه يرى أن ما يهم ليس النص في حد ذاته وإنما المواجهة بين الإله والإنسان (أو بين الإله واليهودي)، بمعنى أن النص (كمادة خام له ستمائة ألف معنى) يختفي لتظهر بدلاً منه ذات المفسر، الأمر الذي يعني موت النص ومولد الناقد وهيمنته. وهذا الموقف لا يختلف في أساسياته عن التفسيرات القبَّالية التي تفرض أي معنى باطني على النص، والتي تقتل المؤلف (الإله) وتُعلي إرادة المفسر.

لكل ما تقدَّم، يصبح من المهم جداً، عند قراءة نص توراتي أو تلمودي، أن نحدِّد التفسير المقصود. ولنأخذ، على سبيل المثال، العبارة التي وردت في التلمود حيث يقولالإله: «ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة»، فهل المقصود بهذا التوراة الناقصة أم أن المقصود التوراة الكاملة، توراة الخلق أم توراة الفيض، أم أن المقصود أقوال الحاخامات، أي التوراة الشفوية؟ وعلى كلٍّ، فإن معنى كلمة «توراة» (كما بيَّنا) متداخل ومتضارب في المجال الدلالي، ولذا فإن الجملة في حد ذاتها لا تعني شيئاً، والمهم هو تفسير المقصود من كلمة «توراة».

والشيء نفسه ينطبق على أي اقتباس من التوراة، فعبارة مثل تلك التي ترد في الشماع «الإله واحد» تحمل معاني مختلفة بعضها حلولي مغرق في الحلولية والشرك لا علاقة له بالتوحيد. فحينما يقولها القبَّالي بمفهوم التجليات العشرة النورانية، فإنه يعني شيئاً مختلفاً تماماً عما يقصد إليه الحاخام الإصلاحي أو الأرثوذكسي. وإن اقتبس أحدعبارة من تلك العبارات التي تحضه على الإحسان إلى «أخيك»، فإن الأخ في كثير من التفسيرات تعني «اليهودي» وحسب.والوصية الخاصة بترك لقاط الحصيد «للمسكين والغريب» (لاويين 19/9، 10)، تُفسَّر بأن المقصود المسكين اليهودي والغريب اليهودي وحسب. بل أية إشارة إلى الإنسان أو الرجل هي، حسب كثير من التفسيرات، إشارة إلى اليهودي وحده.

ومن أهم التطورات في تاريخ اليهودية ظهور ما يمكن تسميته «حلولية شحوب الإله» وهي مرحلة تالية لمرحلة وحدة الوجود الروحية، فبعـد الحـلول الكامل يتوحد الإله مع المادة (الأرض المقدَّسة ـ الشعب المقدَّس) فيَضمُر ويشحُب ويصبح لا أهمية له بل يموت داخلها (وهذا يُشكل مرحلة الانتقال من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وهي حلولية بدون إله)، وبذا تصبح المادة مصدر القداسة. وقد تبدَّى هذا في الفكر الديني اليهودي حين وصف أحد زعماء جوش إيمونيم الجيش الإسرائيلي بأنه القداسة الكاملة (مادة مقدَّسة دون مرجعية إلهية متجاوزة). وقد أخذ بن جوريون الخطوة المنطقية وأعلن أن الجيش الإسرائيلي خير مفسر للتوراة، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للقداسة الإسرائيلية المسلحة لكي تفرض التفسير الذي تراه. وعلى كلٍّ، فإن هذا أمر مفهوم تماماً إذا كانت الكلمات دالاً بدون مدلول، أو كان مدلولها مرجئاً ومؤجلاً (على حد قول دريدا)، ذلك لأن ما يحدد المعنى في هذه الحالة هو القوات المسلحة أو المخابرات العسكرية، فهي وحدها القادرة على إغلاق النسق المتبعثروتزويده بالمركز والمعنى، وهي وحدها القادرة على أن تحوِّل كلمة «فلسطين» إلى «إرتس يسرائيل» بحيث يصبح الدال (فلسطين) يشير إلى مدلولات أخرى يرتضيها صاحب السلاح الأقوى.

ويُلاحَظ أن المدارس المسيحية لتفسير العهد القديم تختلف في منهجها عن المدارس اليهودية، فهي تميل إلى التفسير المجازي، أو تميل إلى التفسير الرمزي الذي يفترض وجود علاقة بين الرمز ومجاله الدلالي، على عكس كثير من المدارس اليهودية التي إما أن ترتبط بالتفسيرالحرفي أو تتركه تماماً وتفصل الدال عن المدلول تماماً. ويُلاحَظ أن كثيراً من مدارس التفسير البروتستانتية (المتطرفة) يأخذ بتفسير حرفي لنصوص العهد القديم ويفرض عليه معنىً صهيونياً. وقد تأثر كثير من النقاد اليهود، من دعاة المدرسة التفكيكية، بالقبَّالاه اللوريانية وبطرق التفسير القبَّالية. ولهارولد بلوم كتاب بعنوان القبَّالاه والنقد.

نقـــــد العهـــــــــد القــــــــديم

(Biblical Criticism (of the Old Testament

جـاء في التلمـود (بابا باترا، 14ب ـ 15أ) أن موسى هو الذي كتب، أي حرَّر ودوَّن التوراة (أسفار موسى الخمسة)، والجزء الخاص عن بلعام وسفر أيوب، وأن يوشع بننون هو كاتب السفر المسمَّى باسمه وآخر ثماني مقطوعات في أسفار موسى الخمسة، وأن صموئيل كتب السفر المسمَّى باسمه وسفري القضاة وراعوث، وأن داود هو صاحب المزامير وقد ضمنها كتابات من سبقوه مثل آدم وإبراهيم، وأن إرميا كتب السفر المسمَّى باسمه وكتب الملوك والمراثي، وأن حزقيال كتب سفر أشعياء والأمثال ونشيد الأنشاد وسفر الجامعة، وأن أعضاء المجمع الكبير كتبوا (أي حرروا) سفر حزقيال وأسفار الاثني عشر نبياً وسفر دانيال وسفر إستير، وأن عزرا كتب السفر المسمَّى باسمه.

وقد قسَّم علماء التلمود المتناقضات في العهد القديم إلى ما يلي:

أ ) متناقضات تامة، تناقض المقطوعة منها الأخرى تماماً (بالعبرية: هحخحاشوت).

ب) ما يثير الدهشة (بالعبرية: تموهوت) مثل خلق الطير من الماء.

جـ) المتقدم والمتأخر (بالعبرية: موقدام أو مؤْحَر)، أي عدم ترتيب المادة التاريخية في العهد القديم.

وفي العصر الحديث، يذهب علماء العهد القديم إلى أن هذا الرأي يتنافى مع القرائن الموجودة داخل النصوص نفسها. فعلى سبيل المثال، يُلاحَظ أنه ورد في نهاية سفر التثنية: «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسـب قـول الرب» (34/5). ثم يسـتمر السفر، حتى نهايته، في الحديث عن موت موسى. وجاء في سفر التكوين ما يلي: «وهؤلاء هم الملوك الذين ُمِّلكوا في أرض أدوم قبلما مَلَكَ ملكٌ لبني يسرائيل» (تكوين 36/31)، أي أن كاتب هذه الفقرة عاش بعد أن عرفت جماعة يسرائيل نظام الملكية، ولم يحدث ذلك إلا بعد عدة قرون من موت موسى. كما أن التوراة كُتبت بالعبرية، ولم يكن موسى الذي عاش في مصر يتحدث العبرية، وإنما كان في الأغلب يتحدث لغة المصريين القدامى أو كان يتحدث لغة كنعانية متأثرة بالمصرية القديمة.

لكل هذا، ظهر ما يُسمَّى «نقد العهد القديم»، وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة نصوص العهد القديم باعتبارها نصوصاً تاريخية على الدارس أن يُطبِّق عليها كل المعايير التي يطبقها على أية نصوص تاريخية أخرى. كما يهدف إلى اكتشاف أسباب التناقضات التي قد توجد بين نص وآخر، وعدم الاتساق فيما بينها، ثم محاولة تفسيرها في ضوء المعطيات التاريخية. ويلجأ علم نقد العهد القديم إلى تحليل النصوص المختلفة ليصل إلى عناصرها الأساسية، وإلى الربط بينها لإيضاح تتابعها التاريخي بحيث تلقي الضوء على تطوُّر العبرانيين وعقائدهم منذ مراحلهم البدائية حتى اكتمال النسق الديني اليهودي، أي أن نقد العهد القديم هو العلم الذي يهدف إلى إبراز وتوضيح سائر المشاكل الخاصة بنصوص العهد القديم، وبالتالي وضع أساس للدراسات الأخرى، الاجتماعية والتاريخية والدينية، التي تتناول العصور التي تم فيها وضع العهد القديم وتدوينه.

وقديماً كان يتم التمييز بين الدراسة النقدية أو الأدبية (العليا) والدراسة النقدية (الدنيا) أو الأولية. فبينما كانت الدراسة الأولية تختص بدراسة النص وحسب، فإن الدراسة العليا كانت تركز على تحليل مؤلف النص وظروفه التاريخية والمغزى من مؤلفه. ولكن الجهد يتجه الآن نحو مزج الدراستين، وبالتالي قد تؤدي الدراسة التاريخية أو الأدبية (العليا) لنـصٍّ ما إلى إعـادة صياغة كلمات النـص وطريقة نطقها (الدراسة الأولية)، والعكس صحيح، بمعنى أن اكتشاف طريقة جديدة لنطق بعض الكلمات قد يلقي ضوءاً على مؤلف النص وتاريخه.

وقد أدرك الحاخامات، منذ البداية، وجود التناقضات وعدم الإتساق داخل النصوص التوراتية، ولكن جل همهم انصرف إلى محاولة تفسيرها. فعلى سبيل المثال، عرف الحاخامات أن الإصحاح رقم 34 في سفر التثنية لا يمكن أن يكون موسى قد كتبه، ففُسِّر على أساس أنه كتبه وهو يموت، وأن الإله أملى عليه هذه الكلمات، وأنها كُتبتبروح النبوة. وقد أدرك الحاخامات كذلك، منذ أيام الترجمة السبعينية، أن عدد السنين التي تفصل بين لاوي وموسى لا تصل إلى 430 سنة (حسبما ورد في سفر الخروج) ففسروها بأن الفترة الزمنية بدأت مع مولد إسحق.

وقد بدأ نقد العهد القديم على يد المؤلف اليهودي القرّائي (حيوي البلخي) الذي عاش في القرن التاسع. وقد ظهرت محاولات متفرقة هنا وهناك، أهمها دراسة إسحق أبرابانيل (1447 ـ 1508) الذي قدَّم أول دراسة علمية لنصوص العهد القديم. كما أن ابن حزم الأندلسي وبعض الدارسين المسلمين القدامى لاحظوا أن ما ينسبه العهد القديم إلى الأنبياء من جرائم، يُعدُّ دخيلاً على النص الأصلي. ولكن العلم نفسه، بالمعنى الحديث، بدأ مع الفيلسوف اليهودي إسبينوزا الذي قال بأن أسفار موسى ليست من تأليف موسى، وأن عزرا مؤلفها الحقيقي. وبعد ذلك، تتالى العلماء الغربيون في دراسة العهد القديم من وجهة نظر نقدية. وكان أول الكتب لجان إستروك الأستاذ في جامعة باريس عام 1753، وتبعه كتاب ج. آيتشورن عام 1779، وهناك آخرون بينوا مصادر العهد القديم المختلفة، ولم يبق سوى تبيان تتاليها التاريخي، وهو ما أنجزه فون جراف عام 1866، وفلهاوزن (1876ـ 1878)، وكونهيل. ويُلاحَظ أن هـؤلاء الثلاثة من أشـهر علماء الإسلاميات في الغرب، ولابد أن النقد القرآني للتحريفات التي وردت في التوراة، كان دافعاً لدراستهم النقدية. وقد انضم إليهم آخرون، من بينهم جايجر (أحد مؤسسي اليهودية الإصلاحية) وجراييتس وكاوفمان وكوهلر. وظهر علماليهودية الذي يحاول اكتشاف الأسس التاريخية للنصوص المقدَّسة.

وقد استخدم نقاد العهد القديم في دراساتهم المعايير التالية:

1 ـ التناقض في الأجزاء التشريعية: وكما هو واضح في الحكمة من فرض شريعة السبت، فقد ورد مرة أنه فُرض "لأن الرب استراح في اليوم السابع بعد أن خلق السماوات والأرض" (خروج 20/11). أما في سفر التثنية، فلا يوجد ذكر للخلق، وإنما الإشارة إلى الخروج من مصر (تثنية 5/12 ـ 15).

2 ـ التناقض في القصص: فقد ورد في سفر التثنية (2/4) أن العبرانيين مرُّوا بأرض الأدوميين (بني عيسو) في طريقهم إلى كنعان. أما في سفر العدد (20/21)، فقد وردشيء مخالف تماماً.

3 ـ التناقض بين ما جاء في الشرائع وما ورد في القصص: فسفر التثنية (12/5، 6) يصر على ضرورة تقديم القرابين في مذبح مركزي، ومع هذا قدَّم إلياهو قرابين على جبل الكرمل (ملوك أول 18/19 - 37). وتؤكد أسفار موسى الخمسة أهمية تقديم القرابين خلال سنوات التيه، بينما يؤكـد النبي عامـوس أن مثل هـذه القرابين لم تُقدَّم (عاموس 5/25). وينكر إرميا أن الإله أمر بمثل هذه القرابين ( إرميا 7/22).

4 ـ تباين الأسلوب الأدبي: وقد توصَّل الباحثون، بعد دراسة الاختلافات الواضحة في مفردات النصوص وأفكارها، إلى أن هذه النصوص تعود إلى فترات زمنية مختلفة. فسفر الخروج يعلن أن الآباء يعرفون الإله باسم «شدَّاي»، وهو ما يساعد على تحديد هذه النصوص وتحديد تاريخها، وأنها تعود إلى المصدر نفسه. كما أن اختلاف الخلفيات التاريخية في سفر أشعياء والمزامير يُسهِّل عملية معرفة المؤلف وتاريخ التأليف.

5 ـ استخدام ترجمات العهد القديم المختلفة: يجد النقاد أن الترجمات القديمة للعهد القديم تظهر فيها نصوص أو مقطوعات ليست في النص العبري، كما وجدوا أيضاً ما هو مخالف. فالترجمة السبعينية لسفر أيوب (38/2) تضم فقرة لا توجد في النص العبري تُغيِّر تفسير السفر تماماً.

6 ـ الاكتشافات الأثرية: يدرس ناقدو العهد القديم الآثار والمدونات الآشورية والبابلية والمصرية ليحصلوا على المعلومات التي تلقي ضوءاً جديداً على التاريخ. وتتفق هذه المدونات مع الرواية التوراتية أحياناً، وأحياناً تتناقض معها. وقد ألقت عقائد أمم الشرق الأدنى القديم الكثير من الضـوء على عقائد العبرانيين القــدامى، وعلى تطـوُّر العقيدة اليهودية.

وقد اتفق نقاد العهد القديم على أن أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع بن نون ترتد إلى مصادر (بالإنجليزية: سورسيز (Sources أربعة أساسية:

1 ـ المصدر اليهوي: مصدر (J) وهذا هو الحرف الأول من كلمة «Jahwist» نسبة إلى «جهوفاه». ومن الواضح أن هذا المصدر يحمل اسم الإله يهوه، ويرجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ويُرجعه البعض الآخر إلى القرن العاشر. وقد سُمِّي «مصدر يهوه» لأنه يستخدم هذا الاسم للإشارة إلى الإله، وكان رواته من المملكة الجنوبية. والواقع أن تصوُّر الإله في هذا المصدر قَبَلي ضيق يتداخل فيه المقدَّس والزمني والمطلق والنسبي (فهو حلولي وثني)، والإله سلطته محدودة بمكان خاص باليهود، وهو يتعصب لليهود ويناصرهم على أعدائهم ويتجلى في تاريخهم، وهو ذو سمات بشرية عديدة. فالإله لا يختلف كثيراً عن مخلوقاته، فهو يغار منهم، ويخشى أن يصبح الإنسان عاقلاً أو قوياً، وهو يصارع يعقوب ولكن يعقوب يهزمه. كما أن قيمه الأخلاقية ليست سامية ولا عالمية، فإبراهيم يكذب على فرعون ليضمن بقاءه، ويجعل زوجته تدَّعي أنها أخته «ليكون لي خير بسببك» (تكوين 12/13)، فهي امرأة حسـنة المنـظر. وبالفعل «رآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فـرعون، فأُخـذت المرأة إلى بيـت فرعون. فصنع إلى أبرام خيراً بسببها» و«صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال» (تكوين 12/11 ـ 16). ويعقوب يخدع إسحق وعيسو، ويهودا يضاجع زوجة ابنه، وهكذا.

وقصص هذا المصدر متأثرة بالأدب الشعبي والقصص الديني للشعوب التي عاش العبرانيون بينها، سواء في الفكرة أو الحبكة القصصية. ويؤكد هذا المصدر أهمية سبط يهودا، ويرى أن عصر داود هو العصر الذهبي الذي تحقَّق فيه الثالوث الحلولي، إذ ارتبط الإله بالشعب بالأرض في رباط حلولي عضوي. وهذا المصدر هو الذي يشير إلى أرض كنعان باعتبارها أرض يسرائيل.

2 ـ المصدر الإلوهيمي: مصدر (E) نسبة إلى «إلوهيم Elohim». ويحمل هذا المصدر اسم «إلوهيم» باعتباره اسم الإله، ويتحاشى اسم «يهوه»، وقد أُلِّف حوالي 770 ق.م في المملكة الشمالية. وهذا المصدر يتسم بالرؤية التوحيدية أو شبه التوحيدية للإله، فهو يصوِّرالإله في صورة أسمى مما يفعل المصدر اليهوي، فهو الإله الذي يقول «كن فيكون» ويتسامى عن صفات وعواطف البشر. وهو إله شامل قد تكون له علاقة خاصة بشعبه، ولكنها علاقة لا تنتقص من عالميته، كما أن ثمة شعوراً دينياً عميقاً بطاعة الإله والولاء له. ويُلاحَظ على هذا المصدر تأكيد البُعد الأخلاقي بكل وضوح على حساب الجانب الشعائري. كما تسيطر عليه رؤية الأنبياء إذ هناك أحكام مشابهة لأحكام الأنبياء. وهو ينفرد بنسبة النبوة إلى إبراهيم ويوسف وموسى (ولذا، فإن كثيراً من النقاد يعتبرون المصدر الإلوهيمي الإطار النظري لحركة النبوة). والواقع أن المصدر الإلوهيمي يفتح الباب واسعاً أمام أعضاء جماعة يسرائيل لإعلان توبتهم وندمهم على ما اقترفوه من أخطاء، وعن طريق التوبة والندم يحدث العفو الإلهي. والمصدر الإلوهيمي ينظر إلى المصريين نظرة أكثر تسامحاً. ويُعنى هذا المصدر بسرد التاريخ الديني لجماعة يسرائيل، كما أنه يعكس بيئة المملكة الشمالية. وقد استقى المصدر قصصه من قبيلة أفرايم.

3 ـ مصدر التثنية: مصدر (D) نسبة إلى «ديتيرونومي Deuteronomy» أو تثنية الشريعة. وقد أُدخل هذا المصدر في صميم العهد القديم عام 621ق.م. ويحاولالمصدر التوفيق بين المصدرين الإلوهيمي واليهوي، وبين تراث الشمال وتراث الجنوب. وكذلك بين الفكر النبوي والفكر الكهنوتي المتعارضين، فالأول يركز على الجوانب الروحية، والثاني يركز على العبادة القربانية، ولذا فإن هذا المصدر يحتفظ بالاتجاه القومي العنصري (اليهوي) والاتجاه العالمي المثالي (الإلوهيمي). كما أن هذا المصدر صادر عن وسط مثقف مرتبط بالإصلاح الديني (التثنوي) الذي حدث عام 622 ق.م، حين أرسل الملك يوشيا (641 ـ 611 ق.م)، أي بعد وفاة موسى بما يقرب من سبعمائة عام، أحد أتباعه إلى الكاهن الأعظم، ليحسب النقود التي دفعها زوار الهيكل. فوجد «توراة موسى» في بيت الإله وندموا على أنهم كانوا قد نسوها. ويبدو أن كاتب هذا السفر هو أحد الكهنة.

والواقع أن النص كان يمثل رد فعل للغزو الثقافي الآشوري الذي اكتسح العبرانيين آنذاك فانصرفوا عن عبادة يهوه، ولذا كان لابد للكهنة والأنبياء أن يوحدوا صفوفهم، وهو ما ينجزه هذا المصدر الذي يشـبه أسلـوبه أسـلوب إرمـيا الذي عــاش في ذلك الوقت. كما أنه يصر على أن التضحية ليهوه لابد أن تتم في مكان واحد يختاره هو، أي الهيكل، وهو الأمر الذي يتفق مع إصلاحات يوشيا ومع أهداف الكهنة، كما يتفق مع محاولة تقوية الدولة من خلال العبادة القربانية المركزية.

4 ـ المصدر الكهنوتي (حواشي الكهنة): مصدر (P) من كلمة «بريستلي Priestly»، أي الكهنوتي ويعـود تاريخـه إلى ما بعـد فترة التهجير البابلي. ويضم أساساً قوانين اللاويين والإحصاءات والأرقام التي وردت في أسفار موسى الخمسة، كما يضم بعض الروايات التي وردت في سفر التكوين والخروج والعَدد. ويستخدم هذا المصدر القصص إطاراً للشرائع، بهدف إعطاء القوانين والشرائع صفة القدسية. والإله في هذا المصدر هو خالق كل شيء، كائن وحاضر في كل آن ومكان، وفي كل شيء. ومؤلفو هذا المصدر يتمتعون بثقافة عالية، ولذا فهو يتسم بالصياغات المنطقية. كما أن أسلوبهم دقيق ونمطي وجاف، ويظهر فيه التمييز بين الكهنة واللاويين، ويرد فيه أول ذكر للأعياد ووصف تفصيلي لخيمة الاجتماع.

وقد امتزج المصدران، اليهوي والإلوهيمي، حوالي عام 650 ق.م، ولذا يشار أحياناً إلى المصدر (JE) الواحد، أي المصدر اليهوي الإلوهيمي. كما توجد مصادر سابقة أخرى، مثل مصدر (H) نسبة إلى «هولينيس Holiness» ويُطلَق عليه «مصدر القداسة». ويُنسَب إلى مجموعة من الكتاب أثناء السبي البابلي، وقد حاولوا أن يعطواطابعاً شخصياً للإيمان الديني يَبعُد عن الشـعائر البرانيـة الجافة، وقد تبنوا مجموعة من المبادئ الأخلاقية العالية. وأخيراً، فإن هناك مصدر (K) من «كينايت Kenite»، أي «المصدر القيني»، ويُقـال إنه أقدم المصـادر على الإطلاق، ولكن أجزاءً كثيرةً منه فُقدت. وقد استفاد منه كتَّاب المصدرين اليهودي والإلوهيمي وحذفا منه الكثير. ويذكر الدكتور محمد خليفة حسن أحمد في كتابه علاقة الإسلام باليهودية أن ثمة مصادر أخرى للتوراة غير هذه المصادر الأربعة الأساسية، ولكنها تقل عنها كثيراً في الأهمية وفي وجودها داخل النص. وقد اتجه بعض النقاد إلى ضم هذه المصادر. بل مال بعضهم إلى تقسيم المصدر الواحد إلى عدة مصادر داخلية والتمييز بينها بإعطاء رقم معيَّن كأن نقول مثلاً يهوي1، يهوي2، يهوي3 أو إلوهيمي2، إلوهيمي3، وهكذا.

وهناك مصدر مهم لم يتمكن النقاد من ضمه بسهولة إلى مادة المصادر الأربعـة الرئيسـية. ولهذا، فقـد اتجه بعض النقاد، مثل إيسفلت، إلى إعطائه علامة تميِّزه عن غيره. ووقع اختيار إيسفلت على الرمز (L) للدلالة على مادة هذا المصدر. وهذا الرمز اختصار لكلمة «لاي Lay» التي نترجمها هنا إلى كلمة «العامي» أو «غير الكهنوتي»، وقد اعتبر إيسفلت هذا المصدر أقدم المصادر على الإطلاق لاحتوائه على عناصر تبدو أصلية وبدائية في آن واحد. منها، مثلاً، نظرته إلى الإنسان القديم بوصفه بدوياً، وإلى البشرية آنذاك باعتبارها جماعةً من البدو، وإلى جماعة يسرائيل باعتبارها جماعةً بدويةً، وهي صورة لا نجدها في بقية المصادر. كما أن تصوير هذا المصدر للألوهية تصوير تجسيدي تشبيهي.

ويجب ألا تُفسَّر كلمة «مصدر» بأنها نص كتبه مؤلف واحد، فقد يكون نصاً كتبته مجموعة من المؤلفين في فترة زمنية واحدة. وقد تداخلت المصادر كالطبقات الجيولوجية دون أي تمازج، وهو ما يفسر وجود التناقضات المختلفة، وخصوصاً في مفاهيم محورية مثل مفهوم الخالق، إذ تتفاوت بين الحلولية ذات النزعة الأخلاقية القومية والتوحيدية ذات النزعة الأخلاقية العالمية. ويتضح تعدُّد المصادر وعدم تمازجها بصورة كبيرة في أسفار موسى الخمسة، ثم يطَّرد التناقض في أسفار القضاة والملوك والأيام. ونجد أن أسفار الأنبياء عادةً ما تضم خطبهم ونبوءاتهم وتتسم بكثير من الاتساق ماعدا سفري أشعياء وزكريا. أما كتب الحكم والأمثال، فمصادرها متنوعة وكثيرة ومتناقضة.

وتعبير «تكستوال ويتنسيز textual witnesses» يشير إلى تلك البقايا (الترسبات) التي وردت من عصور مختلفة لتدلنا على فترة (أو فترات) زمنية لم يكن كل مصدر فيها قد تبلور بعده وتُعَدُّ لفيفة المعبد (مجيلات هامقدش) من تلك الشواهد، كما أن مخطوطات قمران والترجمة السبعينية تُعَدُّ هي الأخرى دليلاً على أن هناك حالة من الاضطراب في وضع المصادر سادت بين المحررين للتوصل إلى قدر من المواءمة بين النصوص (بالإنجليزية: هارمونيست تكست harmonist text، أي «نصمتوائم»). وهذه المصادر هي النص في حالة سديمية. فمخطوطات قمران هي النص في الحالة الجنينية ومرحلة النص الماسوري هي المرحلة الناضجة.

والواقع أن أثر نقد العهد القديم في اليهودية المعاصرة واضح بيِّن، فاليهودية الإصلاحية تنطلق من تَقبُّل نتائجه، فهي تنطلق من دنيوية أو نسبية أو تاريخية أو زمنية التراث الديني اليهودي بأسره، وهذا ما يعني أنه ليس مرسلاً من الإله وإنما نتيجة قريحة عقل الإنسان، وربما بإلهام (وليس بوحي) من الإله. ولا تختلف اليهودية المحافظة أوالتجـديدية عن اليهـودية الإصلاحيـة في هـذه الناحيــة إلا من ناحية الدرجة.

كما أن الصهيونية وسائر التيارات التي تعرِّف اليهودية بأنها انتماء إثني أو عرْقي، وليس دينياً، تستند إلى معطيات نقد العهد القديم الذي يحوِّل كتب اليهود المقدَّسة إلى شكل من أشكال الفلكلور. واليهودية الأرثوذكسية وحدها هي التي ترفض نقد العهد القديم.

أما الفكر المسيحي، فقد استفاد بنقد العهد القديم في نقده اليهودية، إذ يشير كثير من المفكرين الدينيين المسيحيين إلى أن اليهودية تحوي عناصر وتراكمات وثنية عديدة حاول الأنبياء القضاء عليها وتطهير النسق الديني اليهودي منها، وقد نجحوا في ذلك بعض الوقت. ولكن اليهودية سقطت مرة أخرى في الوثنية والعبادة القربانية، والالتفاف حول الهيكل، والانغماس في النزعة العرْقية. ولذا، فلم يكن بالإمكان إنقاذ الجوهر الديني الحق لليهودية إلا عن طريق المسيحية.

الكتب الخارجية أو الكتب الخفية (أبوكريفا)

Apocrypha

«الكتب الخارجية»، كمصطلح، يقابل كلمة «أبوكريفا»، وهي كلمة يونانية تعني «الخفي» أو «غير الموثوقة» أو «غير المعترف به». وقد كان هناك نوعان من المعرفة الدينية عند اليونان: النوع الأول يشمل عقائد وطقوساً عامة، بإمكان جميع طبقات البشر معرفتها وممارستها. أما النوع الثاني، فيشمل حقائق عميقة غامضة لا يمكن أن يفهمها أو يدرك كُنهها إلا قلة من الخاصة، ولذلك بقيت مخفاة عن العامة. ومصطلح «أبوكريفا» يشير إلى النصوص المقدَّسة غير القانونية، التي لم يعترف بها اليهود ضمن أسفار العهد القديم، ولم تُسجَّل باعتبارها أجزاء معتمدة منه، ولا تبلغ نفس درجته من القداسة عندهم. والواقع أن كلمة «أبوكريفا» تسمية مغلوطة، فالكتب التي أوصى الحاخامات بإخفائها، أي «سيفاريم جينوزيم» (دانيال 11/43) الكنوز المخفية عن العامة (على أن يطلع عليها الخاصة وحدهم) لا تتعدى كتاباً واحداً أو اثنين. أما بقية الكتب فهي «أبوكريفا»، بمعنى أنها استُبعدت من الكتاب المقدَّس المعتمد لدى اليهود لأسباب أخرى فهي تنطوي مثلاً على تناقض مع ما جاء في التوراة، أو كُتبت بعد انتهاء عهد الأنبياء والوحي وبعد أن قام عزرا بتدوين العهد القديم، أو هي مجرد كتب حكمة لا علاقة لها بالدين ودُوِّنت إعجاباً بقيمتها، أو هي كتب لا ترتفع إلى المستوى الروحي الماثل في الأسفار القانونية، ولذلك لا يمكن اعتبارها وحياً. كما استُبعدت بعض النصوص الأسطورية التي تروي قصصاً نشورية تتصل بنهاية العالم. ونظراً لاستبعادها، يسميها بعض الباحثين بالكتابات الخارجية.

وقد كُتبت معظم الكتب الخفية في الفترة بين عامي 200 قبل الميلاد و100 بعده، وهي:

1 ـ أسفار تاريخية ورؤياوية، وتشمل: عزرا الثاني الذي يُقال له أسدراس الأول في الترجمة السبعينية وأسدراس الثالث في الفولجاتا، والمكابيين الأول والثاني، وإضافات إلى سفر دانيال، وهي (أ) نشيد الثلاثة الفتية المقدَّسين (ب) تاريخ سوسنة (جـ) تاريخ انقلاب بيل (بيل والتنين)، وبقية سفر إستير، وباروخ الأول، ورسالة إرميا (التي تظهر كجزء من باروخ الأول)، وصلاة منَسَّى.

2 ـ أسفار قصصية تحوي أساطير، وهي سفر باروخ وسفر طوبيت، وسفر يهوديت.

3 ـ سفران تعليميان، هما سفر حكمة سليمان وسفر حكمة يشوع بن سيراخ. لكن كثيراً من هذه الكتب وُضع أصلاً بالآرامية، وفُقد الأصل ولم يبق سوى الترجمة اليونانية المتمثلة في الترجمة السبعينية أو اللاتينية المتمثلة في الفولجاتا.

وتجب التفرقة بين الكتب الخفية والكتب المنحولة أو المنسوبة (سيود إبيجرفا)، فالأولى ذات توجُّه أخلاقي واجتماعي (ويُقال إن الفريسيين هم واضعوها) والثانية ذات توجُّه أخروي حاد (ويُقال إن الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين هم واضعوها). والكتب الخفية التي استبعدها علماء اليهود، اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية كجزء معتمد من الكتاب المقدَّس (باستثناء عزرا الثاني) وإن كان أُطلق عليها مصطلح «كتب تثنوية» (أي مجموعة ثانية من الكتب المعتمدة). وقد حذت حذوها الكنائس الأرثوذكسية: اليونانية والأرمنية والقبطية الإثيوبية. ومن الطريف أن يهود الفلاشاه يحذون حذو الكنائس القبطية. أما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد اعتمدتها وإن كانت قد أعطتها مكانة أقل من كتب العهدين القديم والجديد. أما الكنيسة القبطية المصرية، فقد استبعدت هذه الكتب ولم تعطها أية قيمة دينية. كما استبعدها البروتستانت وقالوا إن قراءتها أمر مستحسن.

ورغم أن الكتب الخفية والمنسوبة كتبها يهود ليقرأها اليهود، فإن حاخامات العصور الوسطى في الغرب كانوا يجهلون أمرها تماماً، إذ أن الكنيسة هي التي احتفظت بها. ولا توجد أية إشارات لها في التلمود إلا كتاب حكمة بن سيراخ، ولم يَعُد علماء اليهود إلى دراستها مرة أخرى إلا في عصر النهضة. ويطلق الكاثوليك كلمة «أبوكريفا» على الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا).

الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا)

Pseudepigrapha

«الكتب المنسوبة»، مصطلح يقابل كلمة «سيودإبيجرفا» اليونانية، وتعني «المنسوبة خطأ لغير مؤلفها» أو «الزائفة النسبة» أو «المنحولة». وتشير هذه الكلمة إلى الكتبالتي تُنسَب إلى بعض مشاهير أبطال الكتاب المقدَّس، مثل باروخ وحنوخ، والتي لم تُضَم إلى الترجمة السبعينية اليونانية أو الفولجاتا (الترجمة اللاتينية). ولذا، فهي ليست من الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا). والكتب المنسوبة أكثر عدداً من الكتب الخفية، ولا يزال بعضها يُكتَشف حتى الوقت الحاضر، ومن أهمها: مزامير سليمانوصعود موسى وصعود أشعياء ووصايا الآباء الاثنتا عشرة، وهو عمل أخلاقي مهم ينصح فيه أبناء يعقوب أولادهم ضد الخطيئة التي ارتكبها كل واحد منهم. وترد في هذا الكتاب فكرة الماشيَّحين: أحدهما من قبيلة يهودا والآخر من قبيلة لاوي. وتختلف الكتب الخارجية أو الخفية عن الكتب المنسوبة في أن الأولى تشبه كتب الحكم والأمثال فيالكتاب المقدَّس. أما الكتب المنسوبة، فهي ذات توجه أخروي حاد، ولذا يُقال إنها في أغلب الأمر من وضع الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين الذين أداروا ظهرهمللمجتمع. كما أنها لم تكن موجهة إلى اليهود ككل، وإنما إلى قطاعات منهم وحسب. أما الكتب الخفية، فيُقال إنها من وضع الفريسيين الذين كانوا حريصين على التعامل معالمجتمع كله، ولذا فهي موجهة إلى اليهود بأجمعهم. ولهذا، فإن الفريسيين، مبالغةً في الحرص من جانبهم، فرقوا بين الكتب المعتمدة (العهد القديم) وأية كتب أخرى سواء كانت من الكتب الخفية أو المنسوبة، وأقاموا سياجاً حول العهد القديم لحمايته. وقد تبنت الكنيسة الكاثوليكية الكتب الخفية لأنها موجهة إلى الشعب ككل، على عكس الكتبالمنسوبة ذات الطابع الطائفي. ولذا، أصبحت الأولى جزءاً من كتابها القياسي المعتمد، وأصبحت الكتب المنسوبة هي أبوكريفا الكاثوليكية.

مخطوطات البحر الميت

Dead Sea Scrolls

هي لفائف مدوَّنة على الرق والبردي، بالعبرية والآرامية واليونانية، من أسفار أصلية من العهد القديم وكتابات أدبية أخرى وُجدت على هيئة مخطوطات في كهوف ومغاور النهاية الشمالية الغربية للبحر الميت في فلسطين منها: خربة قمران، ووادي المربعات، وخربة المرد (شمال وادي النار)، وكهف القشخة، وكانت اللفائف الكتابية مُغلقة، وملفوفة، ومحفوظة بعناية في قدور كبيرة من الفخار لصيانتها من الرطوبة أو العبث. وقد كشفت لنا البعثات الأثرية (المُشكَّلة من إرساليات المدارس الإنجليزية والفرنسية، وبعد ذلك الهيئة الأثرية الإسرائيلية) عن أحد عشر كهفاً حتى الآن، ولا تزال الاكتشافات تتوالى في المنطقة وما حولها (وتقوم بها ـ حالياً ـ جمعية دراسة «إرتس يسرائيل»وآثارها وهي تابعة للجامعة العبرية).

وقد عُثر في المغارة الرابعة منها على الكم الأكبر من هذه المكتبة بعد إعادة التنقيب عنها (على مدى ثلاث بعثات للتنقيب) منها كتب تراتيل وطلاسم سحرية وأدعية وتعاويذ لإبعاد الأرواح الشريرة والشياطين. وعلى ما يبدو، يميل الاتجاه الغالب لدى الباحثين إلى نسبة تلك الكتابات إلى جماعة الأسينيين وافتراض أن أفرادها دأبوا على نسخ تلك المخطوطات التي تتضمن حتى الآن ما يلي:

1 ـ أسفار العهد القديم:

أهم ما وصل إلينا منها كاملاً، سفر أشعياء النبي، وهو من نسختين إحداهما كاملة وتتفق في النص مع السفر المعتمد حالياً وإن اختلفت في بعض الفقرات والقراءات وفي هجاء بعض الكلمات، وأخرى متفقة نصاً مع النص المعتمد (الماسورتي). وتُعدُّ اللفيفة المدوَّنة في أربعة وخمسين عموداً أقدم نسخة كاملة لسفر من أسفار العهد القديم. وبالإضافة إلى ذلك، عُثر على أجزاء عديدة من أسفار العدد وصموئيل.

وتبدو أهمية هذه الأسفار في أنها تُمثل لنا اتجاهاً مبكراً إلى إيجاد نصوص متوائمة تتلافى التناقضات التي يعثر عليها الباحثون في النص الحالي للعهد القديم، وهو ما يدلنا على انفصال كُتَّابها عن المدرسة الكتابية للعهد القديم. وفي عام 1950، نشرت المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية لأول مرة النص المخطوط من سفر أشعياء، وتابعت المدرسة الفرنسية للدراسات الأثرية نشر ما يُعثر عليه من لفائف العهد القديم.

2 ـ تفاسير على أسفار العهد القديم:

وهي تفاسير متنوعة أهمها تفسير كامل لسفر حبقوق. ونُلاحظ اقتصار الناسخ على إصحاحين فقط، وهو ما يدل على عدم قانونية الإصحاح الثالث (وهو أمر ألمح إليه النقاد الدارسون للعهد القديم). وأسلوب التفسير الذي تنتهجه طائفة قمران هو الأسلوب الباطني بمعنى العودة بالنص إلى مدلول مختلف وإخراجه من سياقه المباشر أو شبه المباشر. وتُلقي التفاسير الضوء على الفترة التي عاشت فيها الطائفة القمرانية وعلى نظرتها للأحداث مثل دخول بومبي القدس وتناظر بينه وبين أحداث الماضي (دخولسنخريب للقدس).

3 ـ ميثاق الجماعة (سرَخ هايحاد):

ويضم ثلاث وثائق منفصلة نصاً ولكنها تتفق مضموناً في تنظيم شئون الجماعة وعلاقتها الحالية والمستقبلية بما حولها. وتدلنا هذه الوثيقة على انتهاج الطائفة أساليب صارمة في التنظيم وفرضها لعقوبات على من يخالف نظامها أو ينشر أسرارها، وهي تشير إلى علاقة الفرد بالآخرين ممن هم خارج جماعته وإلى عدم جواز مخالطتهم أو الإفاضة عليهم مما أفاء الله عليه من علم بالشريعة وأسرارها!

4 ـ لفيفة حرب أبناء النور وأبناء الظلام:

هي خطة حربية محكمة (خيالية) يتوقع أفراد الجماعة أنهم سيخوضونها قريباً، بعد عودتهم من «صحراء الأمم» في دمشق فسيُعينهم الرب بملائكته وجنده ليقضوا على كل الأعداء التقليديين المذكورين في العهد القديم (الفلسطينيين والآشوريين.. إلخ). وتبدو الإشارات إلى الشعوب المعادية في اللفيفة كإشارات رمزية إلى جماعات عرْقية سكنت فلسطين في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول الميلادي.

5 ـ مخطوطة لامك (أبوكريفون جينسيس أو بريشيت أبوكريفون):

هو سفر غير قانوني يُعتبَر إعادة صياغة لأحداث قصة لامك. والشخصية الأساسية في السفر هي شخصية لامك حفيد حنوخ والد نوح. إلا أن المضمون العام يتضمن تكرار قصة الخلق والآباء مع إضافات عديدة منها ما يشير إلى التشكك في ولادة نوح والتساؤل عن ولادته الإعجازية بتناسل البشر مع أنصاف الملائكة (وهي كائنات سماوية شاع الاعتقاد في وجودها في الفترة من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي)، الأمر الذي يوضح صلة طائفة قمران بالمسيحية الناشئة التي تبنَّت مثل هذه الاعتقادات.

6 ـ مزامير التسبيح والشكر (هودايوت):

هي أكثر من 300 من المزامير الترتيلية تُستهَل بعبارة «أوديخاي أودناي» أي «أشكرك يا ربي»، وهي تتضمن تصويراً لمعلِّم الجماعة ومعاناته مع مناوئيه، ومحاولتهمإثناءه عن شريعة الرب. ومع أنه لا يذكر اسمه تحديداً، إلا أن الإشارة إلى الأسرار الإلهية التي انكشفت له تعبِّر عن الاتجاه الغنوصي الواضح داخل فكر الجماعة.

7 ـ الوثيقة الدمشقية والأسفار الخارجية:

عُثر من الوثيقة الدمشقية (سفر عهد دمشق) على 12 جزءاً مقتطفاً من سفر عهد دمشق القاهري الذي كان قد عثر عليه سلومو شيختر عام 1890 ونشر نسختيه عام 1910. وكان أول نص عُثر عليه في القاهرة في معبد بن عزرا (بالفسطاط)، وأُطلق عليه "جذاذات من وثيقة صدوقية". وقد دلتنا الأسفار الخارجية (بالعبرية والآرامية) التي لها صلة وثيقة بمضمون كتابات الطائفة وبلغتها على أنها جميعاً تنتمي إلى التيار الديني نفسه الذي تمثله جماعة قمران المنشقة. وتمثل وثيقة دمشق القاهرية نقداً لاذعاً للفرق الدينية التي انعزلت عنها الجماعة، وتكمل لنا صورة التطور التاريخي للجماعة اليهودية عموماً. وتطلق الجماعة على أفرادها اسم «أبناء العهد الجديد»، وهو الاسم الذي أدَّى ببعض الباحثين للربط بينها وبين المسيحية.

ودلنا الكشف الأثري على الدأب الذي تميَّز به سكان قمران في استنساخ الأسفار المقدَّسة وكتابات الطائفة، وعلى أنهم خصصوا لهذه الغاية قاعة معيَّنة أقاموا فيها الموائد والمقاعد للكتابة، وأنشأوا مغاسل (قاعات استحمام) للتطهر الطقوسي قبل بداية أداء الشعائر وقسَّموها حسب درجة قدسية كل فرد ينتمي إلى الجماعة.

وقدَّر الباحثون عمر المخطوطات اعتماداً على دراسة اللغة والخطوط والمادة المكتوبة عليها والمادة التي دُوِّنت بها وشكل الأحرف والصياغة والرق والكتان والنحاس والأوعية الفخارية والعملات. ونجح البحث الأثري (باستخدام طريقة الكربون 14 المشع لفحص الكتان الذي لُفت به الوثائق والجرار الفخارية) في إعطائنا معلومات تقديرية عن عمر المخطوطات حيث قُدِّرت بالفترة من 300 قبل الميلاد حتى 70 ميلادية.

لقد كُتب أكثر من ثلاثة آلاف دراسة عن المخطوطات: مضمونها وتفسيرها وشروحها وتأويل ما بها وتقدير الأحداث التي تتناولها بالاستعانة بالبحث التاريخي المقارن.ولا ندري هل ستؤدي هذه الدراسات إلى إجراء تعديلات أو تأويلات مختلفة حول نشوء المسيحية، فهذه مسألة تنتظر إجابات بعد الدراسات النهائية الكاملة المقارنة بالنصوص التاريخية ونصوص العهد القديم المعتمدة والترجمة عنها.

الصفحة التالية ß إضغط هنا