المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 8

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

2 ـ جماعة يهودية في الولايات المتحدة تنقسم بدورها إلى قسمين:

أ) قلة صغيرة متمسكة بتعاليم الدين اليهودي وتحاول قدر استطاعاتها أن تنفذ تعاليمه وتفهم شعائره.

ب) أغلبية باهتة الهوية لا تمارس الشعائر الدينية وإنما تقيم بعضها باعتبارها شكلاً من أشكال الفلكلور والهوية الإثنية، وهي تحاول رغم تزايد معدلات أمركتها أن تحافظ على بقايا الموروث الثقافي اليهودي الذي يعود بجذوره إلى شرق أوربا.

وهذا يعني أن الدياسبورا ستصبح أساساً الدياسبورا الأمريكية أو الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، أي أن أعضاء الجماعات اليهودية سيصبحون جزءاً لا يتجزأ من الشعب الأمريكي بعد أن كانوا جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستيطاني الغربي. وإذا ما أخذنا في الاعتبار اعتماد إسرائيل شبه الكامل على الولايات المتحدة، فيمكننا القول بأن يهود العالم في القرن القادم سيعيشون داخل الولايات المتحدة أو سيدورون في فلكها الحضاري والاقتصادي والسياسي.

الجزء الثالث: يهود أم جماعات وظيفية يهودية؟

الباب الأول: الجماعات الوظيفية اليهودية

يهـود أم جمـاعات وظيفيـة يهوديـة؟

Jews or Jewish Functional Groups?

تميل معظم الدراسات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية إلى النظر إليهم باعتبارهم كياناً واحداً متجانساً مستقلاً، له آلياته وحركياته وأنماط تطوره الخاصة به والمقصورة عليه، والتي يمكن فهمها من خلال إدراك ما يُسمَّى «الخصوصية اليهودية» ومن خلال دراسة ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ولكننا نرى أن كثيراً من جوانب حياة أعضاء الجماعات اليهودية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال دراسة سياقهم التاريخي والإنساني العام، ومقارنتهم بأعضاء الأقليات (الدينية والإثنية) الأخرى.

أي أنه لفهم أعضاء الجماعات اليهودية، لابد من العودة إلى أُطر ومرجعيات إنسانية عامة. ونحن نذهب إلى أن خصوصية الجماعات اليهودية هي، في واقع الأمر، خصوصيات مستمدة من المجتمعات التي تعيش أعضاء هذه الجماعات بينها، ومن ثم فهي لا تختلف عن الخصوصيات التي يتسم بها أعضاء الأقليات، كلٌّ حسب سياقه، وأنه لا توجد خصوصية يهودية (واحدة) أو جوهر يهودي أو عبقرية يهودية أو جريمة يهودية.

ولتوضيح هذا الجانب استخدمنا مجموعة من النماذج التفسيرية المتداخلة: الحلولية الكمونية ـ العلمانية (الشاملة) والإمبريالية ـ اليهودية والهوية اليهودية كتركيب أيديولوجي ـ الجماعات الوظيفية. وفي هذا المجلد من الموسوعة سنستخدم كل هذه النماذج مع التركيز على نموذج الجماعات الوظيفية.

الجماعـــات اليهـــودية والانتمــاء الطــبقي

Jewish Communities and Class Affiliation

كلمة «طبقة» هي المقابل العربي لكلمة «كلاس class»الإنجليزية وهي من الكلمة اللاتينية «كلاسيس classis» التي كانت تُطلَق على كل قسم من سكان روما حسب ملكيتهم. وقد عُرِّفت الطبقة بأنها فئة في المجتمع تتميَّز عن الفئات الأخرى وفقاً للتشابه في عوامل مادية ومعنوية مثل مستوى الدخل ومصادره وطبيعة المهنة ونصيب أفراده في ثروة المجتمع والقوة والسلطة الاقتصادية والمهنية. وفي المصطلح الماركسي، تُعبِّر كلمة «طبقة» عن الأشكال الأساسية للعلاقات ذات الصلة بوسائل الإنتاج، فالطبقة الرأسمالية هي التي تتحكم في أدوات الإنتاج أما الطبقة العاملة فهي التي لا تملك شيئاً سوى قوة أذرعها.

ويُفرِّق ماكس فيبر بين الطبقة من حيث إنها تشير إلى الوضع الاقتصادي والطبقة الاجتماعية من حيث إنها تؤكد معاني النفوذ وأسلوب الحياة والتداخل الوثيق بين عناصرها، كما يميِّز أيضاً بين الطبقة والمكانة أو ما يُسمَّى «طبقة المكانة»، أي الطبقة التي تتكون من أشخاص على مستوى متشابه من رموز الهيبة المشتقة من طريقةالحياة أو نموذج المهنة أو الأنشطة الاجتماعية أو السلالة أو الأسرة أو أية عوامل أخرى تُعتبر ذات أهمية خاصة في المجتمع.

وإذا ما حاولنا تحديد الطبقة أو الطبقات التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية عادةً، فسنجد أن هذا أمر مستحيل بطبيعة الحال، لأنهم ينتمون إلى مجتمعات مختلفة تمر بمراحل تطور مختلفة، مما يعني قدراً عالياً من عدم التجانس. وقد يمكن التوصل إلى تعميمات ما، ولكنها ستكون ذات طابع مجرد للغاية بحيث تصبح بلا قيمة تفسيرية. ولعل التعميم الوحيد الممكن هو أن أعضاء الجماعات اليهودية خاضعون للحركيات المختلفة للمجتمعات التي ينتمون إليها. ولذا، فإن العبرانيين القدامى كانوا، حتى عصر القضاة، رعاةً رحلاً. وبعد الاستقرار في عصر الملكية، انقسم المجتمع العبراني إلى طبقة حاكمة تضم الملك وكبار الملاك والنخبة العسكرية، وطبقات أخرى مثل الحرفيين والأرقاء. وبعد سقوط الدولة، كان منهم الفلاحون والحرفيون والجنود المرتزقة وكبار ملاك الأراضي والكهنة. وفي الصين، انضمت قيادتهم بأعداد متزايدة لطبقة الماندرين (نخبة المثقفين والعلماء التي حكمت الصين). وفي إنجلترا، في بداية القرن العشرين، كان منهم كبار الرأسماليين والبروليتاريا في آن واحد.

وأعضـاء الجماعـات اليهـودية جـزء لا يتـجزأ مـن مجتمعاتهم، فالجماعات اليهودية تعرف الصراع الطبقي فيما بين أعضائها والذي قد يصل إلى حد التطاحن والقتال كما حدث في فلسـطين إبـان التمردات المختلفـة ضـد الحشـمونيين والرومان، إذ أن أثرياء اليهود كانوا جزءاً من المؤسسة اليونانية (السلوقية) أو الرومانية، ولهذا كانت الثورات تندلع ضدهم. كما أن مختلف مؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال، كان يدور داخلها الصراع الطبقي وبحدة. وفي منطقة الاستيطان، كان العمال من أعضاء الجماعات اليهودية ينظمون إضرابات ضد الرأسماليين اليهود الذين كانوا يستغلونهم. كما أن الرأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية بدورهم كانوا يرفضون استئجار العمال اليهود حتى لا يخضعوا للضغوط الاجتماعية. وفي الولايات المتحدة قام الرأسماليون اليهود من أصول ألمانية باستغلال المهاجرين من يهود اليديشية.

ولكن من الممكن الوصول إلى تعميمات ذات مقدرة تفسيرية معقولة لو تخلينا عن الرؤية البانورامية العالمية الواسعة ومفهوم الطبقة وخفضنا مستوى التعميم واقتصرناعلى الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية. ويُلاحَظ أن انتماءات اليهود الطبقية داخل هذه الحضارة مُركَّبة إلى أقصى حد، ومع هذا يمكن القول بأن أحد أهم الأنماطالمتكررة هو نمط الجماعة الوظيفية المالية والحرَفيِّة. والجماعة الوظيفية ليـست لها علاقة مباشرة بالبناء الطبقي والاجتماعي للمجتمع، إذ تقف على هامشه وتتحدد علاقتها بالدور الذي تلعبه والوظيفة التي تضطلع بها. واليهود، كجماعة وظيفية (أقنان بلاط ـ يهود بلاط ـ يهـود أرندا)، كانوا هم أنفسـهم أداة إنتـاج في يد الحاكم، وكانت المواثيق التي يمنحها لهم تنص على أنهم ملكية خاصة له. وبهذا، لم يدخل أعضاء الجماعة اليهودية في علاقات إنتاج وإنما كانوا أداة تتحدد من خلالها علاقات الإنتاج؛ أداة لجمع الضرائب ولزيادة الفوائد على الربا. وقد كان وجود أعضاء الجماعة اليهودية داخل الجيتو، بمعزل عن بقية طبقات المجتمع، تعبيراً عن هذا الوضع الذي يتحدَّد من خلال الوظيفة خارج السلم الطبقي. وكان المجتمع ككل ينظر إلى أعضاء الجماعة اليهودية لا باعتبارهم أثرياء أو فقراء أو فلاحين أو نبلاء وإنما باعتبارهم مادة بشرية تضطلع بوظيفة التجارة والربا وغير ذلك من الوظائف المتميِّزة أو المشـينة. وكان أعضـاء الجماعة اليهودية الوظيفية، بسـبب طبيعة وضـعهم، يضـطرون إلى التلاحم فيما بينهم، الأمر الذي كان يقلل من حدة الصراع الطبقي بين أعضاء الجماعة.

ومع ظهور الدولة الحديثة، اختفى هذا الوضع إلى حدٍّ كبير، وتم استيعاب أعضاء الجماعة داخل البناء الطبقي والاجتماعي للمجتمعات الغربية، ولم يبق سوى صدى خافت لوضعهم السابق كأعضاء في جماعة وظيفية، ويتجلى ذلك في تَركُّزهم في صناعات ومهن بعينها دون غيرها، وفي كثير من القطاعات التي تُعدُّ هامشـية مثل الإعـلاموالإعـلان والسينما، وفي غيابهم عن قطاعات أولية مثل التعدين والزراعة.

ويمكن القول بأن عدم انتماء أعضاء الجماعات اليهودية إلى طبقة محددة، وتَحوُّلهم إلى جماعة وظيفية، هو الذي يُفسِّر سبب عدم مساهمتهم في بناء الرأسمالية الغربية الرشيدة وسبب عدم ظهورهم حركة استعمارية يهودية مستقلة، ويُفسِّر أيضاً لماذا تعيَّن على الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيـوني أن يكون اسـتعماراً عميلاً، امتداداً للجماعة الوظيفية العميلـة.

أسباب تحوُّل بعض الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية

Reasons for the Transformation of Some Jewish Communities into Functional Groups

يمكن تفسير ظاهرة تَحوَّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بمركب من الأسباب، تاريخي واجتماعي وديني. ويمكننا أن نبدأ بالعودة إلى الدولة العبرانية القديمة، وهي دولة لم تكن تتمتع بمستوى تكنولوجي أو حضاري متقدم، ولهذا كانت غير قادرة على تشغيل كل سكانها. كما أنها كانت دولة ضعيفة غير قادرة على حمايتهم الأمر الذي أسفر عن أسر عشرات وربما مئات الألوف منهم، حيث هُجِّروا إلى بابل وآشور فتحولوا إلى جماعات بشرية غريبة يمكن تجنيدها كمرتزقة أو مستوطنين، كما أنهم تخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها. ومما عمَّق هذا الاتجاه، وجود كثير من الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط وفي حوض البحر المتوسط، وهي منطقة سيطرت عليها عديد من الإمبراطوريات، الواحدة تلو الأخـرى، وكانت القوى الإمبراطورية الصـاعدة تتحـالف مع أعضـاء الجماعـات اليهودية نظراً لعدم خشيتها منهم وتجندهم في صفوفها كمرتزقة أو مستوطنين أو حتى جواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي، مركز اهتمامهم الديني، تساعد على إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد، وعلى عزلتهم عن مجتمعاتهم، وعلى انغلاقهم على أنفسهم. وكان من الممكن أن تختفي هذه الجماعات تماماً بسقوط الهيكل، ولكن الذي حدث أن فكرة الوطن الأصلي (الحنين إلى صهيون) حلت محل الوطن الأصلي ذاته، وهو ما أعطى أعضاء الجماعات اليهودية تَماسُكاً إثنياً - ولكنه تَماسُك وهمي لأنه لم يَعُد هناك مركز قومي فعلييحدد المعايير الدينية أو القومية. وبينما كانت الهويات اليهودية تتشكل في الواقع من خلال تشكيلات حضارية مختلفة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يدورون في إطار فكرة الهوية اليهودية الإثنية الدينية الواحدة. وهذه التركيبة مناسبة إلى أقصى درجة للجماعات الوظيفية، ففكرة الوطن تضمن تماسكهم وعزلتهم وتَجرُّدهم اللازم للاضطلاع بوظائفهم المختلفة، بينما يساعد تكيفهم الفعلي على زيادة كفاءتهم وعلى أن يصبحوا في المجتمع دون أن يكونوا منه. وقد دعَّم تدوين التلمود هذه الازدواجية: الاستقلالية الإثنية النفسية من ناحية، والتكيف والاندماج الفعلي من ناحية أخرى. فالتلمود يضم التفاصيل الخاصة بشعائر الصلوات في الهيكل وكل التفاصيل الخاصة برداء الكاهن الأعظم والشعائر الخاصة بسنة اليوبيل والسنة السبتية، كما يضم أدق التفاصيل الخاصة بما سيحدث بعد عودة الماشيَّح إلى صهيون وكل الشعائر الخاصة بحياة اليهودي خارج مجتمع الأغيار، أي أن التلمود كرس عزلة أعضاء الجماعة وقننها وزود فكرة الهوية اليهودية بإطار واضح وتَحوَّل هو ذاته إلى « وطن اليهود [الوهمي] المتنقل » الذي يشكل نقطة مرجعية نفسية دون أن يكون مأوى حقيقياً لهم.

ولكن أهم العوامل التي أدَّت إلى تَحوُّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب. وقد أشرنا إلى أن ظهور مثل هذه الجماعات يعود عادةً إلى وجود ثغرة في المجتمع بين رغباته و حاجاته من جهة، ومقدرته على الوفاء بها من جهة أخرى. وقد كانت مثل هذه الثغرة قائمة في المجتمع الإقطاعي الغربي، حيث كان يُوجَد نبلاء وفرسان من ناحية وفلاحون من ناحية أخرى. وكان النشاطان الأساسيان هما القتال والزراعة، أما القتال فكان مغلقاً تماماً بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية لأنها وظيفة كانت مرتبطة تمام الارتباط بطبيعة المجتمع الاقطاعي الغربي المسيحية. ورغم أن الزراعة كانت بديلاً مفتوحاً أماما أعضاء الجماعات اليهودية إلا أنه تم استبعادهم منها تدريجياً لأسباب سنبينها في مدخل آخر (انظر: «علاقة الجماعات اليهودية بالزراعة»). أما بخصوص النشاطات التجارية والمالية وبعض الحرف فكانت نشاطات هامشية وأحياناً وضيعة تحتاج لعنصر محايد غريب للاضطلاع بها. وقد قامت كلٌ من المدن المختلفة وأعضـاء الجماعـات اليهودية بسد هذه الثغرة. لكن بينما كان اندماج المدن في الاقتصاد القومي يتزايد على مرّ الأيام، حتى أصبحت جزءاً عضوياً منه وقامت بتغييره وقيادته في نهاية الأمر، كانت غربة أعضـاء الجماعـات اليهودية وعزلتهم وانفصـالهم تتزايـد، وكان وضعهم كجماعة وظيفية غير ملتحمة بالاقتصاد الوطني يتعمق. وكان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون، في كثير من الأحيان، الأقلية الوحيدة. وقد ساهمت عمليات الطرد المختلفة (التي استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر ووصلت إلى ذروتها مع وعد بلفور) في تدعيم هوياتهم كجماعات وظيفية لا تضرب بجذورها في أية رقعة جغرافية. ثم ظهرت الإمبريالية الغربية والاستعمار الاسـتيطاني، وكان أعضـاء الجماعات اليهودية من أهم العناصر المهاجرة، فانتقلت كتلتهم البشرية من شرق أوربا إلى الولايات المتحدة وبعض الدول الاستيطانية الأخرى. وعادةً ما تتحول جماعات المهاجرين إلى جماعات وظيفية.

عــــلاقة الجماعـــات اليهوديـــة بالزراعــة

Relationship between Jewish Communities and Agriculture

من أهم أسباب تَحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية علاقتهم بالزراعة وملكية الأرض الزراعية، ومن ثم فإن العرض التاريخي لتطور هذه العلاقة يلقي الضوء على آليات تكون الجماعة الوظيفية. كان العبرانيون، في الأساس، شعباً من البدو الرعاة. ولكن، بعد استقرارهم في كنعان، تحوَّلت أعداد منهم من الرعي إلى العمل بالزراعة. ويبدو أن عبارة «أرض اللبن والعسل» هي إشارة إلى اختلاط وظائفهم: فاللبن هو إشارة إلى مهنة الرعي. أما العسل، الذي يتطلب إنتاجه الاستقرار ومعرفة عالم الحيوان والنبات، فهو يرمز إلى الزراعة. وقد جاء في كلٍّ من التوراة والتلمود تعليمات كثيرة بشأن زراعة الأرض وتقديم القرابين في مواسم الحصاد.

وكانت الزراعة، في بادئ الأمر، بدائية تعتمد على مياه الأمطار والينابيع. ولكن العبرانيين أخذوا يتعلمون مهنة الزراعة بالتدريج من الكنعانيين. ولعل هذا هو الذي أدَّى إلى الابتعاد عن يهوه (إله الصحراء والرعي) والاقتراب من بعل (إله الزراعة والخصب)، بحيث أصبحت عقيدتهم خليطاً من التوحيد اليهودي والتعددية البعلية. وكانت ملكية الأرض محدودة، ولم تظهر إقطاعيات زراعية ضخمة في بادئ الأمر. ولهذا، نجد أن الملاك الزراعيين كانوا يعملون هم أنفسهم بالزراعة لصغر ملكياتهم. ثم ظهرت بالتدريج طبقة صغيرة من كبار (الملاك) الزراعيين، وطبقـة كبيرة من الفلاحـين المعدمين. وبدلاً من الزراعة العائلية، ظهرت الضياع الكبيرة التي يعمل فيها هؤلاء المعدمون. ولعل ظهور مؤسسة الملْكية كان تعبيراً عن هذا الوضع وتكريساً له، فهي مؤسسة كان لها بيروقراطيتها الكهنوتية والعسكرية والمهنية، وكان القائمون عليها يستولون على ريع الأراضي وعلى المحاصيل فيزدادون ثراء وتتركز المِلْكية الزراعية في أيديهم، وقد انتهت هذه المرحلة بهدم الهيكل على يد نبوختنصر.

وعند عودة المُهجَّرين من بابل، وجدوا أن الأرض الزراعية قد أقفرت. ومن ثم أصبح النمط السائد هو الزراعة العائلية، ولكن بدأت تظهر مرة أخرى طبقتان: أقلية من كبار ملاك الأراضي، وأغلبية ساحقة من الفلاحين المعدمين. إلا أنه يُلاحَظ هذه المرة بداية التشققات الحضارية التي ساهمت في القضاء على الوجود العبراني في فلسطين، إذ أن كبار ملاك الأراضي كانوا يتبنون ثقافة الإمبراطورية الحاكمة فتأغرقوا في العصر الهيليني وتحولوا إلى جماعة وظيفية تجمع الضرائب من الفلاحين لصالح الدولة الحاكمة وتشتغل بالتجارة المحلية والدولية ليصبحوا مُستوعَبين تماماً في البنية الإدارية والثقافية للإمبراطورية، بينما ظل الريف زراعياً سامياً آرامياً.

وهذا يعني، في الواقع، أن غالبية اليهود في فلسطين كانوا يعملون بالزراعة، وذلك على عكس يهود الإسكندرية وبرقة، الذين كانوا جماعات وظيفية استيطانية أو قتالية أو مالية. وقد أدَّى الاستقطاب الطبقي والثقافي في فلسطين إلى التمرد الحشموني ثم التمردين الأول والثاني ضد الرومان. وقد أُخمدت كل هذه التمردات مما عجَّل بانتشار اليهود على هيئة جماعات وظيفية.

وفي العصور الوسطى في الغرب، على عكس ما هو شائع، كان من حق اليهــود في كثير من بقـاع أوربا امتـلاك الأراضـي الزراعية. ولكن بدءاً من القرن الثالي عشر الميلادي، ضاقت الرقعة الزراعية في أوربا وظهرت قوانين تمنع اليهود (والأديرة والكنائس) من ملكية الأرض. وربما شكَّل اليهود بالذات خطراً على الرقعة الزراعية لأنهم عنصر تجاري متحرك، ولذا ظهر الخوف من أن يحوز اليهودي أرضاً زراعية وهو غريب متنقل، فتنتقل ملكيتها إلى غرباء ويصب ريعها خارج الإمارة التي توجد فيها الأرض.

وكان محرماً على أعضاء الجماعات اليهودية استئجار أرقاء مسيحيين لزراعة الأرض. وفي الوقت نفسه، حرَّمت عليهم الشريعة اليهودية استئجار أرقاء يهود، الأمر الذي جعل الملكية الزراعية شيئاً غير مثمر بالنسبة لليهودي. كما أن تحريم العمل على اليهودي في يوم السبت وتحريمه على المسيحيين يوم الأحد، جعل من المستحيل التعاون بينهما لأن هذا يعني إجازة أسبوعية مدتها يومان، مما جعل النشاط الزراعي غيرمربح، بل مستحيلاً، في بعض الأحيان. ويبدو أن الطبيعة الطائفية للجماعة اليهودية، وضرورة القيام بالشعائر الدينية، جعلت من الأفضل لليهود الإبقاء على الصلات الدائمة فيما بينهم للقيام بالشعائر التي لا يسهل القيام بها في ظروف الوحدات الريفية المتباعدة. وقد أوجد هذا البنيان المتميز اتجاهاً بين القادمـين الجـدد للبقـاء في التجـمعات التي أقامها أبناء ملتهم.

كل هذه الأوضاع اضطرت أعضاء الجماعات اليهودية لبيع أراضيهم الزراعية، وصدرت التشريعات التي تحرِّم عليهم امتلاكها فزاد تركزهم في التجارة وتبلور وضعهم كجماعة وظيفية تجارية أو مالية.

ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح ذلك هو الوضع القانوني والاقتصادي لمعظم الجماعات اليهودية في أوربا الإقطاعية. لكن هذا لم يكن يعني عدم وجود فلاحين يهود يعملون بالزراعة، فقد كان يوجد، في البلقان وبلاد الخزر والصين وبولندا وإسبانيا المسيحية، يهود يعملون بهذه المهنة.

أما العالم الإسلامي، فلم يحدث فيه، في تلك الفترة، تَمايُز وظيفي أو اقتصادي كبير لأعضاء الجماعة اليهودية عن بقية السكان، وإن كان يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية فيه لم يعملوا بأعداد كبيرة في الزراعة. والجدير بالملاحظة أن كثيراً من التجار والمموِّلين اليهود كانت لهم علاقة بالقطاع الزراعي، لا كمزارعين وإنما كتجار وجامعي ضرائب. فنظام الأرندا هو في جوهره نظام لتأجير الأراضي الزراعية. كما أن ارتباط اليهود ببيع الخمور هو نتيجة علاقتهم بالقطاع الزراعي. فضلاً عن أن كثيراً من التجار اليهود كانوا يتاجرون في المحاصيل الزراعية.

وثمة نظرية تذهب إلى أن بقاء اليهود واستمرارهم هو نتيجة عدم اشتغالهم بالزراعة. فحينما يبتعد أعضاء الجماعات اليهودية عن الزراعة فإنهم يتحولون عادةً إلى جماعة وظيفية يتم عزلها ثقافيا وفعلياً عن المجتمع، ومن ثم تتطور لها هوية مستقلة الأمر الذي يضمن استمرارها. هذا على عكـس وضع أعضـاء الجماعات اليهودية حينـما يعملـون بالزراعة، فهم يختلطون بالسكان ويكتسبون ملامحهم وخطابهم الحضاري ويذوبون فيهم، ومن ثم فإن الفارق بين القبائل العبرانية التي هُجِّرت إلى أشوروانصهرت واختفت وتلك التي هُجِّرت إلى بابل وبقيت هو أن الأولى عملت بالزراعة فذابت واختفت أما الثانية فقد اشتغل بعض أعضائها بالتجارة فتم عزلهم وتَحقَّق استمرارهم.

ولم تنقطع صلة المموِّلين اليهود بالقطاع الزراعي في العصر الحديث، فكثير منهم استثمروا أموالهم باعتبارهم جزءاً من الرأسمالية الغربية الناشئة. وكان كثير من أصحاب الضياع الكبيرة في جزر الهند الغربية من اليهود، وهي ضياع كانت جزءاً من الاقتصاد الرأسمالي الاستعماري والاستيطاني، تخصصت في زراعة السكر وتصديره، ومن ثم كانت جزءاً من المثلث اللعين الذي تُشكِّل تجارة الرقيق أحد أهم أضلاعه. وكان هناك عدد من المموِّلين اليهود (في ألمانيا وروسيا) تركزوا في صناعة الأخشاب والصناعات المرتبطة بالقطاع الزراعي.

ويُلاحَظ أن هذه النشاطات هي نشاطات تجارية في القطاع الزراعي، ومن ثم فهي تعني أن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا لا يعملون بالزراعة. وقد ظهر منذ عصر الاستنارة في الغرب نقد للشخصية اليهودية باعتبارها شخصية طفيلية هامشية تعيش على رزق الآخرين وكدهم ولا تبذل جهداً ولا تنتج شيئاً. وكان عدم اشتغال اليهود بالزراعة يُعَدُّ شاهداً على ذلك. ومن ثم، حاولت الدولة الحديثة التي اضطلعت بمعظم مهام الجماعات الوظيفية تشجيع أعضاء الجماعات اليهودية على الاشتغال بالزراعة والابتعاد عن التجارة والربا. وكان يُنظَر إلى هذه العملية باعتبارها عملية تطبيع لليهود (أي تحويلهم من أعضاء في جماعات وظيفية يرتبط نشاطها الاقتصادي بإثنيتها وعزلتها إلى شخصيات طبيعية سوية حديثة يمكن دمجها في المجتمع). كما كانت هذه العملية تُسمَّى تحويل اليهود إلى قطاع منتج، ولذا صدرت تشريعات عديدة في فرنسا بعد الثورة لتحقيق هذا الهدف ولفتح المجال الزراعي أمامهم.

وقد كان شرق أوربا هو المسرح الأساسي لهذه العملية التاريخية. فالتحديث الفجائي وظهور الدولة المركزية التي اضطلعت بكثير من أعمال الجماعات الوظيفية، ثمالانفجار السكاني بين يهود اليديشية، خلقا معاً فائضاً بشرياً يهودياً، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور ما يُسمَّى «المسألة اليهودية». وقد طُرح العمل بالزراعة باعتباره أحد الحلول، وخصوصاً أن روسيا كانت تضم أراضي زراعية كثيرة خالية من السكان يمكن توطين أعضاء الجماعات اليهودية فيها. كما ساهمت عقيدة النارودنيك (الشعبويين) في إضفاء غلالة من الرومانتيكية على مهنة الزراعة التي كانوا يعدونها أشرف المهن انطلاقاً من أن روح روسيا توجد بين الفلاحين لا بين سكان المدن. وقد أدَّى تَعثُّرالتحديث في روسيا إلى فشل كثير من هذه المحاولات، خصوصاً أن جهاز الدولة القيصرية لم يكن كفئاً ولا أهلاً للاضطلاع بالمسئولية.

وبعد الثورة البلشفية، قامت عدة محاولات لتحويل اليهود إلى القطاع الزراعي في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ولكن أهم المحاولات كانت تجربة بيروبيجان.

ويتمثل أحد أهداف الحركة الصهيونية في تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة لتطبيعهم. ولكن الزراعة الصهيونية كانت ذات طابع شبه عسكري لأنها تُوطِّن اليهود على أرض يشغلها شعب آخر، فالزراعة (هنا) هي إحدى آليات الاستيطان الإحلالي والتي تتجسد في بناء المزارع الجماعية والكيبوتسات التعاونية والموشافات، وفي طريقة تحديد مواقعها، أي أن الزراعة في الإطار الصهيوني لم تَعُد الآلية المُستخدَمة في تحويل أعضاء الجماعات اليهودية من جماعات وظيفية إلى أعضاء في مجتمع، وإنما هي آلية تحويلهم من جماعة وظيفية مالية إلى جماعة وظيفية استيطانية قتالية. ورغم كل الادعاءات الصهيونية بشأن نجاح الصهاينة في تطبيع اليهود، فإن نسبة عدد اليهود العاملين بالزراعة في الوقت الحالي لا تختلف كثيراً عن عدد من كان يعمل منهم بالزراعة في روسيا في عام 1882، أي قبل الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وهو عدد، على أية حال، آخذ في التناقص، مع تغلغل العمالة العربية في القطاع الزراعي من الاقتصاد الإسرائيلي. ومع هذا، كان عدد اليهود الذين يعملون بالزراعة في العالم عام 1935، حسب تقديرات روبين، حوالي 600.000، أي 3.6% من مجموع يهود العالم البالغ عددهم نحو ستة عشر مليوناً، أكثر من نصفهم من يهود روسيا وبولندا (250 ألفاً في روسيا و100 ألف في بولندا). كما ظهرت تجربة استيطانية زراعية يهودية في الأرجنتين برعاية البارون هيرش، وقد نتج عن ذلك وجود أعلى نسبة من اليهود العاملين في الزراعة في الأرجنتين عام 1935 (4.3% من يهود بولندا، و4.2% من يهود روسيا، و2.2% من يهود الولايات المتحدة، بالمقارنة مع 5.8% من يهود الأرجنتين). ولكن، مع حلول عام 1960، هبطت نسبة العاملين بالزراعة بين أعضاء الجماعات اليهودية إلى 2%، وهذا العدد يضم العاملين في القطاع الإداري في الريف.

الجماعـات الوظيفية اليهـودية في العـالم الغــربي

Jewish Functional Groups in the Western World

عرفت جميع المجتمعات البشرية تقريباً ظاهرة الجماعات الوظيفية (فهي تعبير عن شيء أساسي في النفس البشرية)، ومع هذا نميل إلى القول بأنها ظاهرة أخذت شكلاً أكثر حدة في الحضارة الغربية منها في الحضارة الإسلامية. وإذا نظرنا إلى وضع الجماعات اليهودية في الحضارة الإسـلامية، بالمقـارنة بالحـضارة المسـيحية الغربية، فإننا نجد أن عملية الحوسلة بالنسبة لهم لم تتم على نفس المستوى ولا بنفس الحدة، وأن تركيبتهم الطبقية والمهنية لم تكن تختلف كثيراً عن تركيبة بقية أعضاء المجتمع. كما يمكن أن نضرب مثلاً بأقباط مصر، فرغم أنهم يشكلون الأقلية العددية الهامة الوحيدة في المجتمع المصري (فالنوبيون وسكان الصحراء لا يشكلون قوى اجتماعية أو بشرية مهمة) إلا أننا نجد أن خطابهم الحضاري لا يختلف عن الخطاب الحضاري للمسلمين، كما أنهم لا يختلفون عنهم لا في الزي ولا في اللغة ولا في العادات أو التقاليد ولا في الانتماءات الطبقية أو في التَوزُّع الوظيفي أو السكاني. ومما لا شك فيه أن بعض قطاعات من أقباط مصر تمت حوسلتها في وظائف بعينها (مثل الربا في بعضقرى مصر، أو جمع القمامة لارتباط ذلك بتربية الخنازير)، إلا أن الحوسلة لم تكن كاملة أو جوهرية بل ظلت هامشية،وظل أقباط مصر جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم لا يمكن التعرف عليهم إلا من خلال أسـمائهم المتـميِّزة في بعض الأحيان.

وقد قام المجتمع الغربي بحوسلة اليهود داخله تماماً على هيئة جماعة وظيفية مالية حتى ارتبط اسم اليهود بدور المرابي والتاجر الطفيلي والذي اضطلع به اليهود وحدهم تقريباً. وقد أصبحت كلمة «تاجر» أو كلمة «مرابي» مرادفة لكلمة «يهودي»، وأصبح يُطلَق على هذه الوظائف اسم «الوظائف اليهودية» حتى أن الصينيون حينما يضطلعون بدور التاجر والمرابي في جنوب شرق آسيا يُطلَق عليهم «يهود جنوب شرق آسيا»، وحينما يضطلع الهنود بنفس الدور في أفريقيا (ومن بينهم مسلمون) يُسمون «يهود أفريقيا»، فكأن هناك مفهوماً كامناً لفكرة «اليهودي الوظيفي» أي الإنسان الوظيفي الذي يضطلع بالوظائف التي يُقال لها يهودية، وكل من يضطلع بها يصبح يهودياً (بالمعنى الوظيفي).

ومع هذا، ينبغي الإشارة إلى أن هناك جماعات من اليونانيين والأرمن كانت تقوم بهذه الوظائف في بعض الدول الغربية (في بولندا وفي بعض دول أوربا الشرقيةالأخرى). كما أنهم لعبوا نفس الدور في الدولة العثمانية. ولذا، كانت تُطلَق كلمة «يوناني» أو «أرمني» على كل من يعمل في هذه الوظائف، سواء كان يونانياً أو أرمنياً أو لم يكن.

ويبدو أن نموذج اليهود كجماعة وظيفية مُتجذِّر تماماً في الوجدان الغربي، ولذا حينما طُرحت المسألة اليهودية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر كان الحل هو تأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية، وهو إعادة إنتاج الجماعات اليهودية على هيئة دولة وظيفية بدلاً من جماعات وظيفية، كما أن النظام العالمي الجديد، وهو ثمرة من ثمرات الحضارة الغربية، يميل إلى تحويل كل البشر إلى عناصر وظيفية.

عــلاقة الجـــماعات اليهـودية بالصناعــــة

Relationship between Jewish Communities and Industry

يستطيع القارئ أن يرجع للباب المعنون «التحديث والمسألة اليهودية» (المجلد الثالث)، وذلك للإحاطة بجذور علاقة أعضاء الجماعات اليهودية (كجماعات وظيفية) بالصناعة في الحضارة الغربية. وتتناول المداخل الخاصة بالتراث اليهودي (الموروث الاقتصادي) في الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية» (المجلد الثالث) والمداخل الخاصة بتاريخ الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة (المجلد الرابع) تَطوُّر علاقة أعضاء الجماعة اليهودية بالصناعة وأثر الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية على وضعهم الاقتصادي والمهني في الوقت الحالي.

الرأسـمالية والاشـتراكية والجماعــات اليهوديــة

Capitalism, Socialism, and Jewish Communities

يستطيع القارئ أن يعود للباب المعنون «الرأسمالية والجماعات اليهودية» و«الاشتراكية والجماعات اليهودية» (المجلد الثالث) ليدرس كيف أثَّر تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية على علاقتهم بالرأسمالية وتَطوُّرها والاشتراكية وتَطوُّرها وفي موقف المفكرين الرأسماليين والاشتراكيين منهم.

تحوُّل أعضـاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية: تاريخ

Transformation of Jewish Communities into Functional Groups: History

يبدو أن العبرانيين،منذ بداية ظهورهم في التاريخ، كانوا يشكلون جماعة وظيفية. فقد كانوا بدواً رُحَّلاً تجندهم المجتمعات المختلفة للاضطلاع ببعض الوظائف التي يأنف أعضاء الأغلبية عن القيام بها. وكلمة «خابيرو»، التي يُقال إنها أصل كلمة «عبري»، تعني العبد الذي أصبح كذلك بمحض اختياره (أي مرتزق). ثم أخذ العبرانيونيستقرون تدريجياً منذ عصر القضاة وحتى عصر المملكة العبرانية المتحدة، حيث أصبحوا شعباً رعوياً تشتغل بعض قطاعاته في الزراعة والحرف البـدائية، ولم يعـملوابالتجـارة على نطـاق واسـع. وفي هذه الفترة بدأ يعمل بعض العبرانيين جنوداً مرتزقة. وقد استمر العبرانيون في العمل بالزراعة بعد التهجير البابلي، وإن بدأت تظهر بينهم قطاعات من الأثرياء الذين بدأوا يعملون في التجارة وأعمال الصيرفة، كما تزايد عدد اليهود المرتزقة وبدأت بعض الجماعات اليهودية تتحول إلى جماعات وظيفية استيطانية وقتالية وتجارية. ومع ظهور التجمعات اليهودية المختلفة خارج فلسطين، بدأ أعضاء الجماعات اليهودية يبتعدون عن الزراعة ويعملون في التجارة والحرف المختلفة. ويمكن القول بأن أول دياسبورا يهودية حقيقية هي الجمـاعة العبرانية الاستـيطانية القتالية التي وطَّنها فراعنة مصر في جزيرة إلفنتاين، لحماية حدود مصر الجنوبية، وهو تقليد استمر بعد ذلك في مصر البطلمية وفي سوريا السلوقية.

ويُلاحَظ أن الجماعات اليهودية بدأت تتحول بالتدريج إلى جماعات وظيفية. ولكن، مع حلول العصور الوسطى في العالم الغربي، ابتداءً من القرن التاسع الميلادي على وجه الخصوص، تسارعت هذه العملية وتبلورت حيث ملأ اليهود الفراغات بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين وأصبحوا أقنان بلاط، أي جماعة وظيفية مالية تابعة للبلاط الملكي تضطلع بدور التجارة والربا وجمع الضرائب، وكلها مسميات مختلفة للجماعة الوظيفية التي تُستخدَم كأداة نافعة. ونظراً لوجود جماعات يهودية في العالمين الإسلامي والمسيحي، فقد استفاد أعضاؤها من شبكة الاتصالات الدولية وأصبحوا يشكلون ما يشبه الجماعة الوظيفية المالية على المستوى الدولي، واشتغلوا بالتجارة الدولية (مثل تجارة الفراء والمنسوجات والتوابل والرقيق) وأعمال الصيرفة. وبدأ تَركُّزهم في الحرف التي تتطلب مهارة فنية فائقة مثل صناعة الزجاج والصباغة أو ترتبط بسلع معينة مثل الذهب ودبغ الجلود والخمور (وهي عادةً سلع نادرة أو نفيسة أو غير عادية وذات طابع استهلاكي) أو بالحرَف التي يمكن لصاحبها أن يحمل أدواته ورأسماله معه (السجاد - الجواهر - أدوات إنتاج خاصة).

ويُلاحَظ أن ظاهرة تَحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية لم تكن مقصورة على العالم الغربي وإنما امتدت لتشمل العالم الإسلامي، ولكن لم يكن اليهود هم الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة فيه. كما كان ثمة تَنوُّع في حرف ووظائف أعضاء الجماعات اليهودية ونشاطهم الاقتصادي في العالم الإسلامي، حتى أن هرمهم الاقتصادي والحرَفيكان لا يختلف أحياناً عن الهرم الاقتصادي والحرَفي في المجتمع ككل. ومن جهة أخرى، كان لأوضاع أعضاء الجماعات اليهودية، في الصين والهند وإثيوبيا، خصوصيتها المختلفة النابعة من الخصوصيات والحركيات المختلفة للمجتمعات التي يوجدون فيها. ولذا، فنحن لا نقترح نمطاً يهودياً عاماً وعالمياً، وإنما نقترح نمطاً خاصاً مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية.

لقد بدأ انسحاب أعضاء الجماعات اليهودية التدريجي من التجارة (الدولية والمحلية) في الغرب، حتى تخصصوا في الإقراض الربوي في الفترة بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. وبدأوا يعملون أيضاً ملتزمي ضرائب في أوربا الشرقية، حتى أصبحت هذه هي إحدى الوظائف الأساسية ليهود بولندا وليتوانيا، خصوصاً في أوكرانيا في القرن السادس عشر الميلادي (يهود الأرندا)، إذ قاموا بتمثيل النبلاء في إقطاعياتهم داخل إطار نظام الأرندا والإقطاع الاستيطاني. ولكن هذا النظام نفسه فتح لهم مجالات جديدة في الاستثمار والعمل، فظهرت طائفة من الحرَفييِّن اليهود يعملون في قطع الأخشاب وتقطير الخمور والصباغة ودبغ الجلود. وبرز في وسط أوربا يهود البلاط الذين كانوا عادةً من كبار المموِّلين وذوي الخبرة الإدارية والاتصالات الدولية والمعرفة بالشئون الاقتصادية، ولذا كانوا في منزلة وزراء اقتصاد وخارجية ومخابرات لأمراء الإمارات الألمانية وغيرها من دول وسط أوربا التي كانت ترغب في تنمية نفسها اقتصادياً. ويُلاحَظ أن الإقراض الربوي الذي كان يقوم به أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية قد تدهور، فبدلاً من إقراض كبار النبلاء والكنيسة، أصبح إقراض الفلاحين والحرَفييِّن نظير رهن أشياء مثل الملابس المستعملة والمجوهرات. ومن هنا، بدأ الحرفيون يعملون في حرف رتق الملابس والخياطة والصباغة. ومع القرن الثامن عشر الميلادي، صار معظم أعضاء الجماعات اليهودية في شرقي أوربا بورجوازيين صغاراً: بقالين وباعة جوالين وبائعي ثياب قديمة وخياطين. كما كان من الوظائف الأخرى المهمة لأعضاء الجماعات اليهودية قيامهم بعمليات الاستيطانوالريادة. ولكن الاضطلاع بهذه الوظيفة كان يعني، ابتداءً من القرن السابع عشر، الخروج من المجتمع الغربي والاستقرار في مجتمعات جديدة في إطار الاستعمارالاستيطاني الغربي.

ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية، بوظائفهم هذه، كانوا دائماً أصحاب أعمال مستقلين، وكان مستواهم المعيشي أحسن حالاً من الفلاحين والأرقاء المسيحيين. وكان أعضاء الجماعات اليهودية بمهنهم المختلفة (بوصفهم تجاراً دوليين ومرابين) يعملون في مهن غير منتجة، فهي مهن لا تهدف إلى إعادة صياغة المادة وإنما هي وظائف إدارية وعملها شكل من أشكال المضاربات، ومن هنا يجري وصف أعضاء الجماعات اليهودية داخل التشـكيل الحضاري الغربي بالهامشـية والطفيلية.

وقد بدأ هذا الوضع في التغير بعد الثورة التجارية وظهور المركنتالية ونظام الاتجار والإقراض اللذين يشكلان قلب النظام الاقتصادي الجديد. وداخل هذا الإطار الجديد،تغيَّر البناء الوظيفي لأعضاء الجماعات اليهودية. وحينما دخل يهود المارانو الاقتصاد الغربي في القرن السابع عشر الميلادي، لم يكونوا التجار أو الممولين الوحيدين، كما لم يقفوا على هامشه، وإنما أصبحوا مموِّلين داخل اقتصـاد تجاري مالي نشـط له مشروع استعماري استيطاني عالمي، فأصبحـوا جزءاً منه واسـتثمروا في شركاتهالاستيطانية المختلفة. وظهر يهود البلاط الذين أداروا ميزانيات كثير من الدول الملكية والإمارات المطلقة، خصوصاً في وسط أوربا، وساهموا في تحديثها. ومع القرنالتاسع عشر الميلادي وتَصاعُد الثورة الصناعية، بدأ تحديث البناء الوظيفي لليهود في أرجاء العالم الغربي غربه ووسطه وشرقه. وقد تم دمـج أعضـاء الجماعات اليهـوديةمهنياً ووظيفياً في غرب أوربـا بسرعة. ولكن عملية الدمج في شرق أوربا ووسطها استغرقت وقتاً أطول بسبب تَعثُّر التحديث، ولأن محاولة تحديث البناء الوظيفي كانتتتم بقرارات قانونية ودون إتاحة فرص أخرى حقيقية للعمل. وفي إحصاء عام 1897 في روسيا، حيث كان يعيش أغلبية يهود العالم، نجد أن اليهود كانوا موزَّعين وظيفياً علي النحو التالي:

3.55% - يعملون بالزراعة.

38.65% - في التجارة.

33.45% - في الصناعة و الصناعات اليهودية.

3.98% - في النقل.

11.76% - في الأشغال العامة والمهن الحرة.

6.61% - في الأعمال المنزلية.

لقد كان أعضاء الجماعات اليهودية في الأساس جماعة الوسطاء والحرَفييِّن ولم يكن بينهم عمال أو فلاحون، وهذا ما أسماه بوروخوف الهرم الوظيفي المقلوب. ولم يكن الوضع مختلفاً في الإمبراطورية النمساوية التي كانت تضم جماعة يهودية كبيرة.

وبالنسبة لروسيا السوفيتية، ونظراً لتأميم التجارة، فقد تغيَّر الوضع الوظيفي عام 1930 كليةً، فنجد أن 42% من اليهود كانوا يعملون في مهن إنتاجية: في الصنـاعـة 21.5%، وفي الحرَف اليدويـة 14.3% وفي الزراعـة 7.1%. ومع هذا، تَركَّز عدد كبير منهم (نحو 37.2%) في الأعمال الكتابية، ونحو 12.1% في المهن الحرة. ولعد أن هاجر اليهود إلى العالم الجديد، خصوصاً الولايات المتحدة، تغيَّر وضعهم. فنجد أنه ـ حسب إحصاء عام 1900 ـ كان 59.6% منهم عمالاً وفي صناعة الملابس على وجه الخصوص. ولم يكن يعمل في التجارة سوى 20.6% حسب الإحصاء نفسه. وقد تَحوَّل كثير من يهود الولايات المتحدة في الثلاثينيات إلى التجارة فبلغت نسبةالعاملين بها نحو 50%، في حين بلغت نسبتهم في الصناعة نحو 28%، وفي المهن الحرة نحو 10%. ومع السبعينيات، تَركَّز معظم اليهود في المهن الحرة.

ويمكن القول بأن النمط الأساسي للحراك الوظيفي للمهاجرين اليهود كان يأخذ الشكل التالي: يصل المهاجر فيصبح عاملاً أو رأسمالياً صغيراً. ولكن العمال بوسعهم (بسبب خلفيتهم الثقافية والاجتماعية) الانسلاخ عن الطبقة العاملة أو مساعدة أولادهم على تَلقَّي التعليم، وهو ما يجعلهم يحققون حراكاً اجتماعياً وينسلخون عن الطبقة العاملة ويتحوَّلون إلى مهنيين. أما الرأسمالي الصغير، فيتحوَّل إما إلى رأسمالي كبير أو إلى مهني. ومن ثم، نجد أن غالبية يهود الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الاستيطانية) من المهنيين.

ومع هذا، ترك ميراث اليهود الاقتصادي، كجماعات وظيفية وسيطة وكمهاجرين، وكذلك الكفاءات التي اكتسبوها عبر تواريخهم بسبب وظيفيتهم هذه، أثرها في التركيبالوظيفي ليهود أمريكا، إذ أن هذه الخبرة التي حملوها معهم أينما هاجروا استمرت في تحديد نشاطاتهم الاقتصادية حتى بعد أن زالت الوظيفة. فيُلاحَظ مثلاً أن اشتغال يهودالعالم الغربي بالربا وأعمال الرهونات، جعلهم يتخصصون في حياكة الملابس، ذلك لأن كثيراً من الأشياء المرهونة كانت ملابس قديمة. ولذا، يُلاحَظ أن يهود العالم الغربي يتخصصون في صناعة النسيج والملابس الجاهزة. وقد أدَّى بهم هذا إلى أن يحققوا ثروات أثناء الحروب، لأن القوات المحاربة، خصوصاً في العصر الحديث، تحتاج إلى زي رسمي. وقد حدث هذا في حروب عديدة من بينها الحرب الأمريكية الأهلية حيث حقق أثرياء اليهود أرباحاً هائلة بسبب تركزهم في صناعات النسيج.

وكذلك، فإن الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (باعتبارهم جماعات وظيفية وسيطة تقف دائماً على الهامش) يجعلهم يتخصصون في الصناعات القريبة من المستهلك ويبتعدون عن الصناعات الثقيلة، إذ أن عضو الجماعة الوظيفية الوسيطة لا يحب الاستثمار في المنقولات الثابتة (مثل الأرض والصناعات الثقيلة) أو قد لا تُتاح له الفرصة أساساً في أحيان كثيرة. ولذا يفضل الاستثمار في الصناعات الخفيفة وفي المشاريع التجارية التي تتطلب قدراً عالياً من المهارة الإدارية، ومن هنا كان تخصصهم في التجارة وصناعة الأثاث والأحذية وقطاع الخدمات والطباق والكحول والسينما، وهي كلها صناعات قريبة من المستهلك، بعيدة عن الزراعة وعن الصناعات الثقيلة مثل المناجم (وجميعها صناعات مرتبطة بالأرض). كما يُلاحَظ أنهم يتركزون في تجارة التجزئة والأعمال العقارية ويعملون وكلاء مستشارين ووسطاء. كما أن تركزهم في المهن والمصارف هو أيضاً نتيجة هذا الميراث الاقتصادي. ويُقال إن هذا أيضاً يرجع إلى أن يهود العالم الغربي عنصر مهاجر، والعناصر المهاجرة تشغل دائماً المراحل العليا من الهرم الإنتاجي ولا تشغل قاعدته. ومن ثم، لا يوجد عمال أو فلاحون يهود، ونتج عن ذلك هامشية اليهود، أي أن نشاطاتهم الاقتصادية ليست في قلب العملية الإنتاجية. ولا يزال العدد الأكبر من يهود أمريكا اللاتينية يشتغلون بالأعمال التجارية.

ويمكن القول بأن الحل الاستعماري للمسألة اليهودية (والذي يقبله الصهاينة) ينبع من تعريف العالم الغربي للجماعة اليهودية كجماعة وظيفية استيطانية قتالية. فهي إذن مجموعة بشرية تُعرَّف من خلال وظيفتها، وهي مجموعة نبذتها الحضارة الغربية، ولكنها ستحل مسألتها عن طريق الاضطلاع بوظيفة الدفاع عن مصالح الحضارة الغربية بحيث يصبح الاستيطان والقتال هما وظيفة اليهود الأساسية.

ويُلاحظ أمنون روبنشتاين أنه، في عام 1945، كان نحو 24% فقط من اليهود المهاجرين إلى فلسطين يعملون في وظائف إنتاجية مثل الزراعة والصناعة والبناء والنقل، وهو ما يعكس هامشيتهم الاقتصادية وطفيليتهم. وبعد استيطانهم في فلسطين، أصبح 69% منهم يعمل في مجال الأعمال الإنتاجية. ولكن، بحلول عام 1975، انخفضت نسبة العاملين في القطاعات الإنتاجية إلى 23%، أي أن الدولة الصهيونية لم تنجح في تحقيق أحد أهدافها الأساسية المعلنة وهو تطبيع اليهود وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج. وقد أدَّى دخول العمالة العربية في الاقتصاد الإسرائيلي إلى حدوث نوع من المفارقة، إذ يقوم العرب بشغل قاعدة الهرم الإنتاجية تاركين قمته الإدارية لليهود. وقد ظهرت هامشية المُستوطَن الصهيوني مع اندلاع الانتفاضة وانسحاب العمالة العربية من قاعدة الهرم، الأمر الذي ترك أعمق الأثر في الاقتصاد الصهيوني.

السـمات الأساسـية للجماعات اليهــودية كجماعات وظيفيـة

Main Traits of Jewish Communities as Functional Groups

يمكننا القول بأن السمات الأساسية للجماعات الوظيفية وطبيعة علاقتها بالمجتمع المضيف تتضح بشكل متبلور في الجماعات اليهودية في العالم الغربي وفي طبيعة علاقتها به:

1 ـ التعاقدية (النفعية والحياد والترشيد والحوسلة):

تتسم علاقة الجماعات اليهودية بالمجتمع الغربي بأنها علاقة نفعية تعاقدية لا تتسم بالتراحم. فقد نظر العالم الغربي إلى أعضاء الجماعات اليهودية منذ البداية باعتبارهم وظيفة تُؤدَّى ودوراً يُلعَب وعنصراً موضوعياً مُجرَّداً ومحايداً، مجرد مادة بشرية، فكانوا يُستجلَبون ليؤدوا وظيفة التاجر والمرابي. وكان أعضاء الجماعة اليهودية عادةً من الغرباء، ولذا كانوا يُعَدون ملكية خاصة للملك (أقنان بلاط) الذي كان له حق امتلاك اليهود (باللاتينية: «جودايوس هابيري judaeos habere»»)، أو حق الاحتفاظ باليهود (باللاتينية: «جودايوس تنيري judaeos tenere».»)وكان من حقه بيعهم كما تبيع أية مدينة حق استعمال مناجمها أو طرقها العامة. ولذا، كان اليهود أقرب ما يكونون إلى ممتلكات تُفرَض علىها ضرائب أو أدوات إنتاج، فكان يُشار إليهم بوصفهم عبيداً أو ملْكاً منقولاً كالأثاث (بالإنجليزية: «تشاتيل chattel»)، وكانت كثير من المواثيق تشير إليهم باعتبار أنهم يخضعون للملك وملْك له، يرثهم من يرث العرش! ولعل السبب في وقوع قدر كبير من الخلل التحليلي هو أن كثيراً من الدارسين لم يدركوا طبيعة وضع الجماعات اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي من حيث هي وظيفة تُؤدَّى، واستمروا في اعتبارها طبقة أو أعضاء في طبقة. وكان أعضاء الجماعات اليهودية يُعطَون حقوقاً ومزايا تضمنها مواثيق يشترونها من الحاكم. ولكن المواثيق التي كانت تُمنَح لهم لم تكن قط نهائية وإنما كانت تُجدَّد دائماً. وكان يتعيَّن عليهم أحياناً دفع مبلغ للإمبراطور كل عام لتأكيد حقه في أنهم ملْك له (وهو استمرار للفيسكوس جواديكوس أو ضريبة اليهود التي فُرضت عليهم بعد سقوط الهيكل). ولعل حدة هذا الوضع قد خفتت قليلاً عبْر القرون والسنين ولكنها ظلت قائمة حتى أوائل القرن التاسع عشر في كثير من أنحاء أوربا (وقد تعيَّن على الفيلسـوف الألماني اليهودي موسى مندلسون أن يدفع ضريبة انتقال، حينما كان ينتقل من مدينة ألمانية إلى أخرى، تساوي ما كان يُدفَع لانتقال ثور). وقد نُوقشت المسألة اليهودية في الحضارة الغربية في إطار مدى نفع اليهود، وهو مفهوم استمر حتى الوقت الحاضر، ويتجلى في الحديث عن إسرائيل باعتبارها كنزاً إستراتيجياً! ويجب ملاحظة أن العلاقة بين الطرفين (الجماعات اليهودية والعالم الغربي) علاقـة نفعيـة، فكلاهمـا يحاول الاستفادة قدر المستطاع من الطرف الآخر، وكلاهما يحوسل الآخر، ولا يمكن الحديث في مثل هذه العلاقة المركبة عن مُستغل ومُستغَل.

2 ـ العزلة والغربة والعجز:

حينما استجلب المجتمع الغربي بعض أعضاء الجماعات اليهودية ليضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية ضرب عليهم العزلة، فكان أعضاء الجماعة اليهودية يعيشون في جيتو خاص بهم يرتدون أزياء خاصة مقصورة عليهم ويؤمنون بعقيدة مختلفة عن عقيدة مجتمع الأغلبية. بل كانوا، في حالة يهود اليديشية، يتحدثون لغة مختلفة عن لغة المجتمع المضيف. وقد انغلقت الجماعات اليهودية على نفسها فكونت شبكة عالمية واسعة مهمتها ضمان انتقال السلع والعملات والمعلومات بكفاءة عبر البلاد والقارات، وهذا هو سبب معرفة أعضاء الجماعة اليهودية بعديد من اللغات، وهو تعبير عن الغربة والحركية في ذات الوقت. وقد سيطرت القيادات الدينية والدنيوية، التي كانت تتمتع بدعم النخبة الحاكمة، على هذه الشبكة المغلقة التي كانت بمثابة الوسيط بين الجماعة اليهودية والمجتمع المضيف. كما تزايد اعتماد أعضاء الجماعات اليهودية على النخبة الحاكمة حتى أصبحوا في بعض الأحيان جماعات وظيفية عميلة، كما هو الحال مع المرابين، وأداة قمع في يد الحاكم لقمع الجماهير واستغلالهم.

وقد أدَّى هذا إلى تزايد ابتعاد أعضاء الجماعات اليهودية عن جماهير المجتمع المضيف، أي أن أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية لم يكونوا مشاركين في السلطة (فهم مجرد أداة) يعيشون في عزلة عن الشعب (في مسام المجتمع لا في صميمه)، وهم موضع كرهه وسخطه. وهذا ما يُسمَّى «إشكالية العجز وعدم المشاركة في السلطة». لكل هذا أصبح أعضاء الجماعات الوظيفية عرضة للهجمات الشعبية لأنهم أداة الاستغلال الواضحة والمباشرة. ومن ثم، فإن اضطلاع أعضاء الجماعة اليهودية بدور الجماعة الوظيفية هو الذي يفسر الهجمات الشعبية عليهم، كما يفسر كثيراً من اتهامات أعداء اليهود بأنهم مصاصو دماء (ومن هنا تهمة الدم) أو أنهم يقومون بتسميم الآبار. فهذه جميعاً صور مجازية حاول عن طريقها الإنسان العادي في الغرب فهم طبيعة العلاقة بينه وبين اليهود كجماعة وظيفية، إذ أن أداة القمع الماثلة أمامه تقوم بامتصاص دمه وتسميم مصدر حياته. ويمكن القول بأن الهجوم على اليهود كان يشبه الانتفاضة الشعبية حينما يقوم الثائرون بتدمير أدوات القمع والاستغلال (ولعل هذا ما دفع بأحد المفكرين إلى تسمية معاداة اليهود «اشتراكية المغفلين»، أي اشتراكية من لا يفهم الآليات الاقتصادية المركبة). كما أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية هو الذي يفسر اتهام الجماعات الشعبية لهم بأنهم سحرة. ففي المجتمع الإقطاعي مثلاً، كان أعضاء المجتمع يُنتجون من الأرض بصورة مباشرة، أما أعضاء الجماعة الوظيفية المالية (التجارية أو الربوية) فكانوا يحققون الثراء من خلال تحريك السلع وحسب في حالة التجار. بينما كان الأمر أسوأ بكثير في حالة المرابين، إذ كانوا يحققون الثراء من خلال تحريك الأموال وحسب.

وقد أدَّت هذه العزلة إلى ما نسميه «حدودية» أعضاء الجماعات اليهودية، أي وجودهم على حدود المجتمعات أو على هامشها، وفي الشقوق والثغرات. ولعل إحساس أعضاء الجماعات اليهودية بعدم الأمن (رغم النجاح الذي يحققونه) هو جزء من ميراث الجماعة الوظيفية، التي تُعَدُّ حركيتها مصدر أمن أساسياً لها. وقد أدَّى إحساسهم بعدم الأمن وعدم الانتماء إلى زيادة الرغبة في مراكمة الثروة لأنها الوسيلة الوحيدة لشراء الحماية من الحاكم. ولكن يُلاحَظ أنه رغم تزايد ثروات كثير من أعضاء الجماعات اليهودية إلا أنهم ظلوا بعيدين عن السلطة وعن مؤسسات صنع القرار. ولهذا السبب كانت هذه الثروات معرضة دائماً للتصفية.

ويُقابل عملية العزل البرانية من قبل المجتمع إحساس عميق جواني بالغربة لدى أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية، فيظهر لديهم إحساس بقداستهم (مركب الشعب المختار). ثم يحتفظون بهذه الغربة من خلال عقائدهم وشعائرهم الدينية ومن خلال ارتباطهم الوهمي بالوطن الأصلي الذي لم يَعُد له وجود والذي سيعودون إليه في نهاية التاريخ.

3 ـ الانفصال عن المكان والزمان والإحساس بالهوية (الوهمية(

يشعر أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية بالانتماء إلى وطن أصلي (صهيون/فلسطين) سيعودون إليه في آخر الأيام. وقد ترجم هذا نفسه إلى العقيدة المشيحانية التي أضعفت أواصر ارتباط أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية بالمكان الحالي (أوطانهم وتاريخها) باسم المكان السابق الذي نُفوا منه، وهو أيضاً المكان الذي سيعودون إليه في المستقبل.

ويُقابل الإحساس العميق بالغربة والعزلة والعجز والانفصال عن المكان تَعمُّق إحساس عضو الجماعة الوظيفية اليهودية بهويته، فهي إحدى آليات العزل غير الواعية. ومع هذا، فإن الهوية هنا حالة عقلية إذ أن هوية عضو الجماعة الوظيفية اليهودية تتشكل داخل حدود المجتمع الذي يعيش فيه لا خارجه، ومن خلال تفاعله اليومي المتعيِّن مع الخطاب الحضاري لمجتمعه لا رغماً عنه. ولذا فرغم ادعاءات أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية عن تَميُّزهم، إلا أنهم في واقع الأمر يندمجون في مجتمعاتهم. وثنائية ادعاء التميز وواقع الاندماج والذوبان مسألة أساسية لعضو الجماعة الوظيفية اليهودية حتى يتسنى له أن يلعب دوره الوظيفي، وحتى يظل « في المجتمع دون أن يكون منه »، يتعامل مع أعضاء المجتمع بكفاءة عالية لا يمكنه أن يحققها إلا بمعرفة المجتمع وتَملُّك ناصية خطابه الحضاري، ولكنه في الوقت نفسه لا يتعاطف معهم ويحتفظ بمسافة عقلية وعاطفية كبيرة بينه وبينهم بسبب هويته الوهمية.

4 ـ ازدواجية المعايير:

تظهر ازدواجية المعايير بشكل حاد في حالة أعضاء الجماعات اليهودية، فقد قسمت العقيدة اليهودية العالم في كثير من الأحيان إلى اليهود من جهة والأغيار من جهة أخرى. وكان بإمكان اليهودي أن يقرض الأغيار بالربا، ولكنه يُحرِّم على نفسه أن يفعل ذلك مع اليهود. وكان اليهود يعتبرون أنفسهم شعباً مقدَّساً (وهذا يعني أن أعضاء المجتمع مباحون). ولعل هذا يُفسِّر وجود أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في جرائم انتهاك الحرمات مثل البغاء ونشر المجلات الإباحية وغير ذلك. وحتى لا يتم استخلاص أية تعميمات عنصرية من ذلك، لابد أن نشير إلى أن أعضاء الجماعة الوظيفية يتسمون أيضاً بالأمانة الشديدة نظراً لحيادهم وخوفهم من النخبة والجماهير على حدٍّ سواء.

5 ـ الحركية:

كان أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات حركية داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم لم يكونوا مرتبطين بالأرض مثل الفلاحين أو النبلاء، ولا حتى بالمدن مثل سكانها، وإنما كانوا يتنقلون بحرية كبيرة في المجتمـع الوسـيط تحت حماية الملك الذي يمنحهم المواثيق. وقد ساعدت عمليات الطرد المستمرة، ثم الهجرة، على تعميق هذه الحركية. وقد تَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في قمة الهرم الاجتماعي وابتعدوا عن قاعدته (وهذا هو أهم أسباب المسألة اليهودية(.

6 ـ التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع ( الحلولية(

مركب الشعب المختار هو تعبير عن التمركز المتطرف حول الذات والذي يُيسِّر لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية أن يقوموا باستغلال الآخر وحوسلته وأن يقوموا كذلك بعزل أنفسهم كما يبرر غربتهم. ولكن عضو الجماعة الوظيفية اليهودية يتمركز أيضاً حول وظيفته الموضوعية ويقبل أن يكون أداة متحوسلة تضطلع بوظائف محدَّدة تُوكل له.

ويُعبِّر هذا التمركز حول الذات وحول الموضوع عن نفسه من خلال الإحساس المتطرف بالحرية الكاملة والحتمية الكاملة، ومن خلال مفهوم الاختيار والنفي والعودة، وهي مفاهيم تجسد هذه الازدواجية المتطرفة المتبلورة: فاليهودي حر تماماً لأنه مَنْفيٌّ عن أرضه لا جذور له، وهو يتمتع بمزايا عديدة لأنه مختار من قبل الإله، إرادته من إرادة الإله. ولكنه في الوقت نفسه لا حرية له لأنه مَنْفيٌّ من أرضه التي لا يقدر على تحقيق ذاته إلا فيها وحدها. كما أن الاختيار يعني التكليف أيضاً ومن ثم عدم القدرة على الحركة.

وتتضح علاقة الجماعات الوظيفية اليهودية بالحلولية الكمونية في تَصاعُد معدلات الحلولية الكمونية داخل اليهودية إلى أن سيطرت عليها تماماً.

وعلاقـة الجماعـات اليهـودية بالتحديث والعلمانية علاقة مركبة وعميقة، ذلك أن مسار الهجرة اليهودية قد تأثر بشكل عميق بالتحديث. فالجماعات اليهودية كانت جماعات وظيفية تتحرك أفقياً من مجتمع إلى آخر، لا رأسياً داخل المجتمع الواحد نفسه. فكانوا في البداية يُستجلَبون إلى المجتمعات المتخلفة كعنصر تحديثي أو استيطاني، ومن هنا كانت الهجرة اليهودية تتم دائماً من البلاد الأقل تَخلُّفاً إلى البلاد الأكثر تَخلُّفاً، من البحر الأبيض المتوسط إلى وسط أوربا ومنها إلى شرق أوربا. ولكن ابتداءً من القرن السادس عشر وبداية ظهور الرأسمالية والحركة الاستعمارية الغربية وبدايات التحديث في الغرب، نجد أن الهجرة تأخذ شكلاً مغايراً، فهي تنطلق من البلاد المتخلفة إلى البلاد الأكثر تقدماً. وقد اشترك اليهود في حركات الهجرة الاستيطانية وغير الاستيطانية.

ورغم أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا من حملة الفكر التحديثي والعلماني، إلا أنهم سقطوا ضحية عمليات التحديث والعلمنة. فهويتهم وإثنيتهم كانت مرتبطة تماماًبعزلتهم كجماعة وظيفية. ولكن، مع تَصاعُد معدلات التحديث، وظهور نُخَب محلية تتولى زمام الأمور، وكذلك ظهور الدولة القومية العلمانية المركزية، لم تَعُد هناك وظيفة لهم، وبدأت التحولات الوظيفية والطبقية العميقة تدخل على الجماعات اليهودية، فتحولوا إلى بروليتاريا وشحاذين وأصحاب مصانع وبورجوازية كبيرة وصغيرة، وفقدوا تماسكهم الإثني وعقيدتهم اليهودية. وتساقطت كل رموز العزلة، وتساقطت أسوار الجيتو، وتم تحديث أزيائهم ولغتهم، وبدأ التعلىم بين أعضاء الجماعات اليهودية يتحول من أداة لنقل الخبرات الخاصة وأسرار المهنة والحفاظ على الهوية والعزلة في المجتمع إلى وسيلة من وسائل تصفية الهوية شبه القومية ودمجهم في المجتمع وتدريبهم على الحراك الاجتماعي داخل طبقات المجتمع.

ورغم أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يُشكِّلون العمود الفقري للقطاع المالي والتجاري للمجتمع الغربي الوسيط، كما كانوا يشكلون جزءاً مهماً منه منذ عصر النهضة، إلا أنهم لم يساهموا في بناء الرأسمالية الحديثة الرشيدة، فقد نشأت هذه الرأسمالية داخل المدينة الغربية. أما رأسمالية أعضاء الجماعات اليهودية فكانت رأسمالية الجماعة الوظيفية المرتبطة بالمجتمع التقليدي، وقد سماها فيبر الرأسمالية المنبوذة (مقابل الرأسمالية الرشيدة(.

ومع تَصاعُد معدلات التحديث، يختفي اليهود كجماعات وظيفية. ومع هذا، يبقى هناك امتداد لدورهم التقليدي ولميراثهم الوظيفي إذ لا يكاد يُوجَد يهود في المهن الإنتاجية الأولية (الزراعة والتعدين)، بينما يتركزون في مجال الملكية العقارية وفي مهن الطب والتمثيل، وهي مهن تُوجَـد كلها عند قمـة الهرم الإنتاجي أو على هامشه في معظم أنحاء العالم، ولا يُوجَد أي تمثيل لليهود بين العمال والفلاحين ومختلف القطاعات الموجودة في قاعدة الهرم الإنتاجي.

ولعل حالة يهود كايفنج في الصين تلقي بعض الضوء على ما قد يحدث لليهود في العالم الغربي بعد عملية تحديث وضعهم ووظائفهم. فبعد أن انضمت أعداد متزايدة من القيادة اليهودية إلى طبقة كبار العلماء/الموظفين (الماندرين)، فَقَد اليهود وضعهم كجماعة وظيفية، وزادت معدلات الاندماج بينهم حتى اختفوا تماماً. وقد تمت هذه العملية عبر مئات السنين في الصين. ومن الممكن أن نتصوَّر أن شيئاً مماثلاً سيحدث في العالم الغربي، لكن معدلات التحديث في الغرب تتفاوت سرعة وبطئاً من بلد لآخر، كما أن العملية تتعثر أحياناً بل تتوقف أحياناً أخرى. ولعل التعثر هو الذي أدَّى إلى عدم اختفاء كثير من الجماعات اليهودية أو تناقص أعدادها بشكل ملحوظ. كما أن التشكيل الاستعماري الغربي، بتأسيسه الدولة الصهيونية، أعاد إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة.

الجماعات الوظيفية اليهودية: أنواعها المختلفة

Jewish Functional Groups: Different Kinds

اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية بأدوار وظيفية عديدة من بينها ما يلي:

1 ـ الجماعات اليهودية الوظيفية الاستيطانية القتالية.

2 ـ الجماعات اليهودية الوظيفية المالية الوسيطة (التجارة ـ الربا ـ جمع الضرائب ـ المتعهدون العسكريون ـ تجارة الرقيق ـ تجارة الخمور(.

3 - جماعات وظيفية متنوعة (الطب ـ الجاسوسية ـ قطاع اللذة ـ البغاء وتجارة الرقيق الأبيض(.

وإذا كانت الجماعات اليهودية الوظيفية الاستيطانية القتالية هي أوَّل ما ظهر من الجماعات اليهودية، فإن أهمها هي الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة أو المالية.

الباب الثانى: الجماعات الوظيفية اليهودية القتالية والاستيطانية والمالية

جماعة يهـودية وظيفيـة قتاليــة اســتيطانية (المرتزقـة(

Jewish Military Settler Functional Group (Mercenaries)

«الجماعة الوظيفية الاستيطانية» هي الجماعة البشرية التي تُستجلَب من خارج المجتمع أو تُجنَّد من داخله ثم تُنقَل من مكان إلى مكان آخر لتُوطَّن فيه بغرض أن تؤدي وظيفة محدَّدة ذات طابع قتالي عادةً، ولكن ليس ضرورياً أن تكون كذلك دائماً، فقد تكون ذات طابع زراعي أو تجاري، أو ذات طابع مُختلَط؛ زراعي قتالي، أو تجاري قتالي، أو زراعي تجاري، وهكذا.

أما «الجماعة الوظيفية القتالية» فهي الجماعة التي يضطلع أعضاؤها بدور قتالي وحسب، فالجندي المرتزق هو الجندي الذي يُستجلَب من خارج المجتمع، أو يُجنَّد من داخله (عادةً من صفوف أقلية إثنية أو دينية معينة لها علاقة خاصة بالمجتمع). وهو يقوم بالقتال من أجل المال بالدرجة الأولى، فالدوافع هنا يجب ألا تكون دوافع داخليةمركبة (الانتماء ـ حب الوطن ـ الانتقام)، بل لابد أن يكون الدافع خارجياً بسيطاً وهو الربح المادي الذي يأخذ صورة أجر مادي عاجل ومباشر (راتب شهري) أو آجل (إقطاعية أو غيرها من العوائد المالية). وكل من العنصر الاستيطاني والقتالي يشكل جماعة وظيفية، فهو عنصر متحرك غير منتم لا يدين بالولاء لأحد إلا لراعيه الذي يقوم بتمويله، وهو عنصر لا يُعرَّف من خلال سماته الإنسانية وإنما من خلال وظيفته، فهو وسيلة لا غاية، وأداة لا هدف، والمجتمع ينظر إليه من ناحية مدى نفعه ومدى احتياجه إليه، ويدخل معه في علاقة تعاقدية محايدة. والجندي المرتزق والمستوطن هما وسيلة من وسائل الإنتاج، أو بتعبير أدق إحدى أدوات الفتك التي تنظم علاقات الإنتاج وعملية توزيع الثروة لصالح من يسيطر على هذه الآلة أو الوسيلة. وعادةً ما يعيش الجنود المرتزقة، وكذلك أعضاء الجماعات الاستيطانية، على مقربة من أعضاء الأغلبية، ولكنهم مع هذا يظلون في عزلة عنهم فهم منبتو الصلة بالجماهير مرتبطون بالنخبة الحاكمة التي تسخرهم لمصلحتها، دون أن تخشى بأسهم أو تخاف من أن يقوموا بمحاولة المشاركة في السلطة أو القرار السياسي، فهم بلا قاعدة ولا شرعية ولا سلطات إلا ما يستمدونه من الراعي، وذلك على عكس المقاتلين من أعضاء الأغلبية، فهؤلاء عادةً ما يطالبون بنصيبهم في السلطة إن قويت شوكتهم، كما أنهم يستندون إلى قاعدة جماهيرية يستمدون منها الشرعية.

وفي تقديرنا أن الجندي الذي يدافع عن وطنه ويتقاضى أجراً عن ذلك ليس بمرتزق، لأن دوافعه للقتال والاستيطان أكثر تركيباً من الجندي المرتزق، كما أنه أقل حركية لارتباطه بوطنه. والشيء نفسه ينطبق على المواطن الذي يرابط في مناطق حدودية دفاعاً عن الوطن، فهو مرتبط بوطنه ولا يتسم بأية حركية إلا في إطار رؤيته.

وهنا يمكن أن تثار قضية الغارات التي يشنها البدو أو القراصنة على المدن والسفن من أجل الغنائم، أي من أجل الربح المادي، وهل يمكن اعتبارهم مرتزقة. ونحن نميل إلى عدم تصنيفهم كمرتزقة، فرغم وجود عنصر مشترك أساسي بين المرتزقة من جهة والبدو والقراصنة من جهة أخرى (الحركية والقتال من أجل المال) إلا أن هناك عنصراً أساسياً آخر غائباً في حالة الفريق الثاني وهو الراعي أو الحامي الذي يصدر الأوامر للعنصر المرتزق ويوجهه ويوظفه. ومن هنا تظهر مشكلة تصنيف المماليك، فقد تم استجلابهم كرقيق ليقاتلوا نظير أجر أو نظير التمتع بمستوى معيشي مرتفع. ولكنهم، بالتدريج، أصبحوا يقاتلون لصالح أنفسهم كجماعة إثنية مُستجلَبة مستقلة. ولتحديد الأمور، يمكننا أن نتخيل مُتصَلاً أحد أطرافه المجاهد الذي لا يقاتل إلا ابتغاء مرضاة الله والمقاتل الذي يموت من أجل الوطن أو العقيدة ولا يستهلك إلا ما يضمن له الاستمرار في الجهاد والقتال دون الحصول على أية مكاسب مادية، والطرف الآخر للمُتصَل هو المرتزق الذي لا يقاتل إلا ابتغاء الأجر، ويمكننا أن نضع بينهما الجنديالذي يدافع عن قضية ويأخذ أجراً ويحقق مكاسب مادية وطبقية تزيد عن حاجته ، ثم نضع بعد ذلك المماليك بعد أن تحولوا إلى طبقة مقاتلة تقاتل من أجل زيادة مكاسبها وتدافع في الوقت نفسه عن الوطن (مصدر المكسب). ويجيء بعد ذلك جماعات البدو والقراصنة الذين يشنون الغارات من أجل الربح، ثم يجيء أخيراً الجندي المرتزق.

ويبدو أن كثيراً من المجتمعات (عبر التاريخ) نظرت إلى العبرانيين وإلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم مادة بشرية استيطانية وقتالية. وهذا لا يعني أن سائر المجتمعات كانت تنظر إلى سائر العبرانيين وإلى الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان من هذا المنظور، كما لا يعني أنها كانت تنظر إلى اليهود فقط من هذا المنظور (إذ تُوجَد عناصر بشرية استيطانية وقتالية أخرى كاليونانيين على سبيل المثال). ولا يعني هذا أيضاً أن اليهود بطبيعتهم مادة بشرية استيطانية وقتالية أو أن عندهم قابلية طبيعية ليصبحوا كذلك. فمن المعروف أن الغالبية الساحقة من العبرانيين ومن أعضاء الجماعات اليهودية لم تضطلع بأيٍّ من هاتين الوظيفتين. فالقضية، إذن، هي قضية مجموعة أو مجموعات من البشر عاشت تحت ظروف تاريخية اقتصادية وثقافية معيَّنة أدَّت إلى اضطلاع قطاعات منها بهذه الوظيفة. وما سنتناوله في هذا المدخل هو نمط تكرَّر بشكل لافت للنظر في عدد من المجتمعات في العالم القديم، ثم تكرَّر في بلاد الغرب بشكل أكثر وضوحاً في العصر الوسيط وبداية العصر الحديث، وترجم نفسه في نهاية الأمر إلى وعد بلفور ثم إلى الدولة الصهيونية في العصر الحديث. ولكن الطبيعة الاستيطانية والقتالية للدولة الصهيونية (التي نسميها «الدولة الوظيفية»)، وهيمنة هذه الدولة على أذهان الغالبية الساحقة ليهود العالم في الوقت الحالي، يُكسب هذا النمط أو النموذج أهمية غير عادية ويضفي علىه مركزية لم يكن يتمتع بها من قبل. ومن ثم يصبح من اللازم لنا اكتشاف جذوره وسُبُل تَشكُّله في ماضي العبرانيين والجماعات اليهودية.

لقد تَعمَّق هذا الاتجاه بسبب مانسميه «المسألة العبرانية»، أي قلة عدد العبرانيين وتَخلُّف المجتمع العبراني الحضاري والتكنولوجي والعسكري مع وجوده في واحد من أهم المواقع الإستراتيجية في العالم. فلم يتمكن المجتمع العبراني من استيعاب الطاقات البشرية داخله، ومن ثم كان لابد من تصديرها. وإلى جانب هذا، كان هذا المجتمع عُرضة لغزوات جيوش الإمبراطوريات الكبرى التي كانت تقوم بأسر أعداد كبيرة من العبرانيين ثم تُهجِّرهم إلى أماكن أخرى أو تُجنِّدهم في صفوفها.

ويبدو أن العبرانيين القدامى كانوا من المرتزقة منذ بداية ظهورهم في التاريخ، فكلمة «عبراني» ذاتها تشير إلى العبد الذي أصبح كذلك برضاه وحوَّل نفسه إلى أداة في يد الآخر. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن كلمة «خابيرو» (التي يذهب البعض إلى أنها تعني العبرانيين) تعني «الجندي المرتزق»، وأن الكلمة كانت تُطلَق على أية جماعات من الرحل أو الغرباء أو الأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم. ولكن يبدو أن الخابيرو، كانوا بدواً مرتزقة يغيرون لاستلاب الغنائم أو ربما جماعة كانت تنضم بشكل مؤقت لقوة محاربة نظامية أو غير نظامية من أجل تحقيق الربح. ولعل اشتراكهم مع الهكسوس في غزو مصر كان شيئاً من هذا القبيل. وعلى كل، ومهما كانت اشتقاقات الكلمة، فإن هناك مؤشرات عديدة على أن العبرانيين القدامى، مع استقرارهم في كنعان، كانوا يعملون كمرتزقة، كما أنهم حاربوا في صفوف الفلستيين كمرتزقة ضد بني جلدتهم.

وقد قام الملك العبراني أمصيا )769ـ 798 ق.م)، تاسع ملوك المملكة العبرانية، بجمع جيش من المرتزقة من المملكة الشمالية وحاول إخضاع أدوم للهيمنة العبرانية. كما تم تجنيد العبرانيين كمرتزقة في جيوش مصر الفرعونية حينما بدأ ملوك المملكة الجنوبية مبادلة الأحصنة بالجنود. وفي الأسرة السادسة والعشرين استعان بهم بسماتيك الأول (663 ـ 605 ق.م) الذي كوَّن جيشاً من المرتزقة كان يضم في صفوفه يهوداً، وقام بسماتيك الثاني (594 ـ 589 ق.م) من بعده بتوطين جماعة استيطانية في جزيرة إلفنتاين. وحينما سقطت المملكة الجنوبية، فرت جماعات من العبرانيين إلى مصر واستقرت في أماكن معروفة بأن فيها حاميات عسكرية. ويُلاحَظ أن الدياسبورا هنا (أي انتشار اليهود في بقـاع الأرض) مرتبطة بنشـاطين متلازمين همـا في واقع الأمر نشـاط واحد: الاستيطان والقتال كمرتزقة. والانتشار لا علاقة له بتحطيم الهيكل كما يدَّعي الصهاينة. ومما يجدر ذكره أن التهجيرين، الآشوري والبابلي، لم يكن الهدف منهما تأديب العبرانيين وحسب وإنما نقلهم ليصبحوا جماعة وظيفية استيطانية، إذ تحوَّل المُهجَّرون إلى العمل بالزراعة والشئون المالية، وليس هناك ما يدل على تَحوُّلهم إلى جماعة وظيفية قتالية. وقد اسـتخدم الفُـرس العبرانيين كجماعة اسـتيطانية قتالية، فأقاموا جماعات يهودية موالية للدولة الفارسية على هيئة مستعمرات في أرجاء الإمبراطورية، كما عمل اليهود جواسيس وجنوداً مرتزقة. وقد حوَّلت حامية إلفنتاين ولاءها من السلطة المصرية إلى السلطة الفارسية الفاتحة، فالمرتزقة كما أسلفنا يتبعون من يدفع لهم. وأسس دارا الأول جيشاً قوياً يضم جنوداً يونانيين ويهوداً مرتزقة.

وحينما فتح الإسكندر الشرق الأدنى القديم، تصاعدت ظاهرة تحويل اليهود إلى جماعات استيطانية قتالية بالدرجة الأولى خصوصاً أن الحكم البطلمي والسلوقي كان مبنياً أساساً على المرتزقة. وقد أبقى الإسكندر على المزايا التي منحها الفرس لليهود، فانضموا إلى الجيوش اليونانية كمرتزقة. ولم تكن هناك فرقة قومية خاصة باليهود، ولذا انضم المرتزقة اليهود إلى فرق الآسيويين الذين تَكاثَر عدهم بين عامي 200 و150 ق.م. وكان يُشار إلى اليهود أحياناً بوصفهم «فُرساً»، ويذكر يوسيفوس أن المرتزقة من يهود الإسكندرية كان يُشار إلىهم بوصفهم «مقدونيين».

وكان البطالمة ينظرون إلى اليهود كجماعة استيطانية قتالية وتجارية يتوقف أمن أعضائها على رضا النخبة الحاكمة الأمر الذي يجعل منهم عنصراً مأمون الجانب، ولذا شجعهم البطالمة على الهجرة إلى مصر للعمل فيها مرتزقة وتجاراً ومزارعين وأفراد شرطة وموظفين وملتزمي ضرائب. وحينما أسر سوتر الأول عدداً كبيراً من اليهود في إحدى حملاته على فلسـطين، وطنهم في مصـر ليسـتخدمهم أداة لقمع المصريين. وقد قام بطليموس الثاني (فيلادلوفوس) (283 ـ 244 ق.م) بإعتاق العبيد العبرانيين الذين أسرهم ثم وَطَّنهم في معسكرات باعتبارهم وحدات قتالية استيطانية (باليونانية: كليروخوا). وحينما فتح البطالمة برقة في عام 145 ق.م، وَطَّنوا اليهود فيها ليشددوا قبضتهم علىها (على حد قول يوسيفوس). وفي العام نفسه، شيَّد أونياس الرابع معبداً يهودياً في لينتوبوليس كانت تُرابط حوله فرقة من المرتزقة اليهود.

وقد خدم اليهود في فرق المشاة والفرسان على حدٍّ سواء، خصوصاً إبان حكم بطليموس السادس (180 ـ 145 ق.م) الذي سلَّم مملكته تقريباً إلى المرتزقة اليهود الذين وصلوا إلى أعلى المراتب العسكرية بما في ذلك القيادات. ويُقال إن الملكة كليوباترا الثالثة اعتلت العرش بفضل مساعدة قواد الجيش من اليهود. و كان من بينهم خلكياس وأنانياس ولدا أونياس اللذان قادا جيشها في فلسطين. وكان المرتزقة اليهود من أرباب الإقطاعات، وكان في وسعهم تأجير أرضهم وتوريثها لأبنائهم دون عناء كبير. وانخرط اليهود أيضاً في سلك الشـرطة وحراسـة الممتلكات وتحصيل المـكوس الجمركية على ضفتي النيل، وهو عمل ذو طابع عسكري، ولذا كان يُطلَق على المحصلين اسم «حراس النهر» لكن هناك من يذهب إلى أنهم كانوا موظفين من قبل الإدارة المالية ولا شأن لهم بأعمال الحراسة.

ولم يختلف موقف السلوقيين كثيراً عن موقف البطالمة، فقد نقل أنطيوخوس الثالث ألف أسرة يهودية من بابل (التي كانت تابعة للإمبرطورية السلوقية)، مع أجهزتها الحربية، إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى في عام 210 ق.م.، وذلك لتأسيس حامية منهم موالية للسلوقيين، ولقمع حركات السكان ضد الحكم السلوقي. ويبدو أن مثراديتيس قد وَطَّن بعض هؤلاء أو غيرهم في شبه جزيرة القرم.

ومع وصول الرومان إلى المنطقة، تم تسريح الجيش البطلمي، فانهـار الوضع الاقتصـادي المتميِّز لليهود والذي ارتبـط بوظيفتهم كمرتزقة، لا سيما أن الرومان كانوا لا يُجنِّدون سوى اليهود الذين تخلوا عن دينهم. ومع هذا، انخرط اليهود في سلك الجندية كمرتزقة واستمروا يعملون في الجيوش الرومانية حتى القرن الرابع الميلادي. وهذا يعني أن الرومان كانوا أيضاً يوطنونهم كعنصر استيطاني قتالي. ونحن نعرف أن أول توطين لليهود في أوربا كان مع الحامية الرومانية التي وُطِّنت في مدينة (كولونيا) والتي اشتُق اسمها من كلمة لاتينية تعني «مستعمرة» (وكلمة «كولونيالية» مشتقة من الجذر نفسه). ولكن يبدو أنهم لم يُوطَّنوا كعنصر قتالي وإنما كعنصر مالي. ومع هذا، يمكن القول بأن الاستيطان والقتال كانا متلازمين في معظم الأحوال في العالم القديم.

وقد اختلف الأمر بشكل جوهري مع انتشار المسيحية والإسلام. فالقتال لم يَعُد يُمارَس من أجل الكسب المالي وتحقيق المغانم الاقتصادية وحسب وإنما أصبح يتم أيضاً من منطلق عقائدي ديني، الأمر الذي نجم عنه استبعاد غير المؤمنين. ولذا لم يَعُد بإمكان المرتزقة اليهود الاستمرار في ممارسة مهنتهم، فانخرطوا في وظائف أخرى وأصبحأعضاء الجماعات اليهودية من الجماعات الوظيفية المالية الوسيطة التي تعمل بالتجارة والربا. ولابد هنا من ملاحظة أن حامل رأس المال الربوي لا يختلف كثيراً عن حامل السلاح نظير أجر، فكلاهما عنصر متعاقد غريب لا ينتمي للجماهير التي يضربها أو يستغلها، تم حوسلته تماماً، أي تحويله إلى وسيلة، تستخدمها الطبقة الحاكمة. وكلاهما عنصر حركي لا ولاء له (إلا إلى أرض بعيدة أو وطن وهمي أصلي يحلم بالعودة اليه ولا يعود له أبداً) ومن هنا تسميتنا للجماعة الوظيفية المالية «المماليك المالية» حتى يتبيَّن التواصل بين وظائف أعضاء الجماعات اليهودية الاستيطانية والقتالية ووظائفهم المالية (التجارية الربوية).

وقد صُنِّف اليهود في الحضارة الغربية على أنهم غرباء، والغريب في العرف الألماني (الذي حل محل القانون الروماني في كثير من المجالات) كان تابعاً للملك تبعية مباشرة، ومن ثم أصبح اليهود أقنان بلاط. ولكن من الصعب الحديث عن أقنان البلاط باعتبارهم جماعة استيطانية.

ومع هذا، فهناك حالات محددة من الاستيطان اليهودي في العصور الوسطى. فقد قام شارلمان بتوطين اليهود في جنوب فرنسا في ماركا هسبانيكا لتكون حاجزاً على حدود العالم المسيحي لوقف التوسع الإسلامي.ويمكن أن نستخدم عبارة «جماعة استيطانية» بشيء من التجاوز للإشارة إلى أعضاء الجماعة اليهودية الذين دعاهم شارلمان للاستيطان في فرنسا ذاتها بهدف تشجيع التجارة، وإلى أولئك الذين صاحبوا الغزو النورماندي لإنجلترا في القرن الحادي عشر،وإلى أولئك الذين استقروا فيها باعتبارهم مادة استيطانية تجارية.

وقد عرفت شبه جزيرة أيبريا الاستيطان اليهودي سواء في إسبانيا الإسلامية (الأندلس) أو المسيحية. فأثناء الفتح الإسلامي، كان المسلمون يُوطِّنون اليهود في المدن التييفتحونها، مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة وإشبيلية حتى يتفرغ المسلمون للعمليات القتالية. وقد ثار المسيحيون في إشبيلية، وفتكوا بأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم عنصراً استيطانياً قتالياً. كما لجأت القوات المسيحية إلى النهج نفسه أثناء حرب الاستعادة، فكانت تسمح، من الناحية الاسمية، لكل من اليهود والمسلمين بالاحتفاظ بمنازلهم والبقاء فيها، ولكنها من الناحية الفعلىة كانت تسمح لأعضاء الجماعة اليهودية وحسب بالاستيطان والبقاء في المناطق المفتوحة (مثل بالينسيا ولامنشا والأندلس وغيرها).

ولا ندري هل كانت الفرق المسماة «تشاليزيان» في المجر في القرن العاشـر جمـاعة استـيطانية قتالية أم كانت جمـاعة قتالية وحسب. فكلمة «تشاليزيان» مشتقة من الجذر نفسه الذي اشتُقت منه كلمة «حالوتسيم» العبرية (بمعنى رواد)، وهي الكلمة التي استخدمها الصهاينة فيما بعد لوصف طلائع المستوطنين الصهاينة. والرائد هو الجندي الذي يُوضَع في مقدمة الصفوف. ويبدو أن جنود التشاليزيان كانوا من بقايا يهود الخزر، إذ أن مملكة المجر اجتذبت أعـداداً كبيرة منهـم عند تأسيـسها، فعـملوا بالقتال نظـير المال، أي أنهم كانوا جماعة قتالية وربما استيطانية ولكنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية مالية.

ومن المعروف لنا أن الدولة العثمانية قامت، حينما ضمت أجزاء من المجر في عام 1526، بتهجير 2000 يهودي إليها ليكونوا عنصراً استيطانياً موالياً للسلطان العثماني. ولعل هذا كان ضمن نظام السورجون العثماني، و«سورجون» كلمة معناها «نفي أو ترحيل أو تهجير عنصر بشري ما، إما كشكل من أشكال العقاب أو لتحقيق خدمة للدولة العثمانية». وقد وطَّن العثمانيون اليهود في قبرص لموازنة العنصر المسيحي فيها، كما وطنهم ملوك بولندا في المدن البولندية لتشجيع التجارة.

ولكن أهم التجارب الاستيطانية شبه القتالية للجماعات اليهودية على الإطلاق (قبل التجربة الصهيونية) هي تجربتهم كجماعة استيطانية تجارية شـبه قتاليـة في إطار الإقطاع الاســتيطاني البولندي في أوكرانيا، حيث اضطلع بعض أعضاء الجماعة اليهودية بوظيفة الأرندا (دفع مقابل عائد الأراضي الزراعية) منذ أواخر القرن السادس عشر، فقاموا باستئجار ضياع النبلاء البولنديين (شلاختا) في أوكرانيا وإدارتها لحسابهم. وكان الأرنداتور (المديرون أو الوكلاء) اليهود يستأجرون مناطق ومدناً بأكملها فيعتصرون الأقنان الأوكرانيين لحساب النبلاء البولنديين. ولحماية هؤلاء الوكلاء وأسرهم، شيَّد النبلاء مدناً صغيرة تُسمَّى «شتتل» كانوا يعيشون فيها تحت حماية القوة العسكرية البولندية، كما كان عليهم هم أنفسهم أن يتدربوا على حمل السلاح.

ومن التجارب الاستيطانية الأخرى للجماعات اليهودية تجربة يهود رومانيا الذين كان يُطلَق عليهم اسم «هرسوفلتسي» (وهو مُشتق من كلمة «هرسوف» الرومانية وتعني «ميثاق»)،والذين وَطَّنهم النبلاء الإقطاعيون (البويار) في رومانيا بعد منحهم ميثاقاً حصلوا بمقتضاه على ميزات معيَّنة،من بينها الإعفاء من الضرائب لعدة سنين والحصول على أرض فضاء دون مقابل لإقامة معابدهم ومدارسهم وحمَّاماتهم ومقابرهم.وكانت علاقة الهرسوفلتسي بالبويار تشبه إلى حدٍّ كبير علاقة يهود الأرندا بالنبلاء الشلاختا،فقد أسس البويار لليهود مدناً صغيرة تشبه الشتتل من أوجه كثيرة.ويُلاحَظ أن اليهود هنا كانوا عنصراً استيطانياً تجارياً غير قتالي.ورغم أن التجربة الاستيطانية لليهود في رومانيا استمرت أساساً في الفترة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أننا ذكرناها مع تجارب الجماعة اليهودية الاستيطانية في العصر الوسيط في الغرب لأنها من ناحية البنية تقع داخل إطار الاستيطان الوسيط. وعلى كلٍّ، فقد كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الروماني تشبه إلى حدٍّ كبير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في أوربا الوسيطة.

ويمكننا الآن الدخول إلى العصر الحديث، لنقول إن كثيراً من أساطير وديباجات الاستيطان الغربي وُلدت مع الإصلاح الديني البروتستانتي. وقد ظهرت الأسطورة الاسترجاعية التي تذهب إلى أن الخلاص لن يتحقق إلا بعودة اليهود إلى صهيون كجماعة وظيفية اسـتيطانية دينية يسـهم توطينها في صهيون في الإسراع بعملية الخلاص. وبالتدريج، مع تَطوُّر مراحل الإمبريالية الغربية من الأطوار المركنتالية الأولى إلى المراحل التالية (المرحلة الصناعية وغيرها)، أخذت معالم الأسطورة تتكشف وتتحدد بحيث تحولت صهيون إلى فلسطين البلد الواقع في وسط بلاد الشرق ويطل على بوابات مصر والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وقناة السويس (بعد افتتاحها). وبدأ اليهود يتحولون من شعب مقدَّس أو شعب شاهد أو شعب منبوذ إلى جماعة وظيفية تجارية وقتالية نشطة. وبعد سنوات طويلة من المقاومة والرفض من جانب أعضاء الجماعات اليهودية، تلقفت الحركة الصهيونية الأسطورة وتحولت من أسطورة بروتستانتية إلى أسطورة يهودية. وهكذا أصبحت صهيون المكان الذي تَخرُج منه جيوشالمستوطنين اليهود «حالوتسيم» الذين يسيرون في المقدمة مسلحين أمام الرب.

وإذا كانت الأسطورة الاسترجاعية تجعل من اليهود جماعة استيطانية، فإن الأساطير الأخرى كانت تجعل من سائر المستوطنين الغربيين البيض يهوداً. فالبيوريتان، أي المُتطهِّرون، وهم المستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة، كانوا يتوحدون تماماً بالعبرانيين القدامى. فهم، في خروجهم من أوربا ودخولهم الأرض العذراء، كانوايتصورون أنهم يشبهون تماماً العبرانيين القدامى حينما خرجوا من مصر ودخلوا كنعان، وأن استيلاءهم على أرض أمريكا العذراء وإبادة سكانها يشبه استيلاء العبرانيين على المدن الكنعانية وإبادة سكانها (حسب الرواية التوراتية). ومن ثم، نجد أن أرض أمريكا كان يُشار إليها بوصفها صهيون الجديدة، وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم بأنهم أبناء العهد (بل لقد اقترح أحدهم، لدى التفكير في اختيار لغة للولايات المتحدة بعد استقلالها، أن تكون العبرية لغة الدولة الجديدة). ونجد أن الأسطورة نفسها تسيطر وبشكل درامي على المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا (الأفريكانر).

هذا من ناحية الإطار الفكري أو التصوري. أما من ناحية الممارسة التاريخية الفعلىة، فيمكننا القول بأن الاستيطان أصبح البُعد الأساسي في تجارب أعضاء الجماعات اليهودية. بل ويمكننا الذهاب إلى أنه لايمكن فهم تفاعلات هذه التواريخ وحركياتها إلا بإدراك مدى استيعاب أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي (أي غالبية يهود العالم) في تجربته الاستيطانية. فقد اشترك أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من النشاطات الاستيطانية خصوصاً في البلاد البروتستانتية إما كممولين أو كجماعة وظيفيةاستيطانية. ومع بداية العصر الحديث، كانت أهم جماعة يهودية في العالم تُوجَد في هولندا التي كانت من أنشط الدول الاستيطانية. وقد ساهم اليهود في كثير من النشاطاتالمرتبطة بالاستيطان الغربي، مثل شركتي الهند الشرقية والغربية الهولنديتين وغيرهما من الشركات وفي تجارة العبيد كما اشترك عدد من أعضاء الجماعات اليهودية في عملية الاستيطان ذاتها في بداية الأمر كان أعضاء الجماعة جزءاً من النشاط الاستيطاني الهولندي، فاستوطنوا ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر في الهند الغربية في ترينيداد والمارتينيك وجامايكا وجزر الباهاما وكوراساو وسورينام.

وكوراساو هي إحدى جزر الهند الغربية الهولندية على مقربة من سـاحل فنزويلا، مسـاحتها 212 ميلاً مربعـاً، احتلها الأسـبان عام 1527، ثم استولى عليها الهولنديونعام 1634. وتعود أهميتها إلى أنها من التجارب الأولى للجماعات اليهودية الاستيطانية، وإلى أنها تندرج في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي الذي بدأ نشاطه في العالم الجديد واستمر في التوسع إلى أن وصل إلى آخر حلقاته في فلسطين في العصر الحديث. وقد جرى أول استيطان يهودي في كوراساو عام 1650 حين وصلت 12 عائلة يهودية يحمل أفرادها خطاباً من مجلس هولندا يطلب من حاكم الجزيرة أن يمد لهم يد المساعدة، بأي صورة من الصور؛ بالعبيد أو بالأرض أو بالأحصنة أو القطعان أو الأجهزة. ويبدو أن اليهود كانوا جماعة استيطانية زراعية، على حين أن المستوطنين الهولنديين كانوا يهملون الزراعة لأن تجارة البضائع المهربة كانت أكثر ربحاً. ومع هذا، يبدو أن التجربة لم تنجح تماماً بسبب بعض القيود التي فُرضت على حركتهم (ربما بسبب جو محاكم التفتيش الذي ساد العالم الجديد والذي وجد طريقه إلى كوراساو رغم أنها كانت تابعة لهولندا). ولذا، حينما طلب مجلس هولندا إلى أحد أعضاء الجماعة اليهودية أن ينقل مزيداً من الأسر اليهودية إلى كوراساو وعرض منحهم حقوقاً وامتيازات اسـتثنائية (مثل الإعفاء من الضرائب لمدة عشـرة أعـوام، وحق حيازة الأراضي التي يجدونها ملائمة، وحق الامتناع عن العمل يوم السبت)، لم يجد هذا الطلب أذناً صاغية. وحينما استولت البرتغال على البرازيل من هولندا، عام 1654، فرت مجموعة من اليهود إلى كوراساو وأخذت رأس مالها معها. وقد كان ضمن نشاطاتهم الأساسية تجارة العبيد. وفي تلك الآونة، أُزيلت كل القيود عن الجماعة اليهودية. وفي عام 1693، رحلت مجموعة من اليهود إلى الولايات المتحدة، فكانت أول جماعة يهودية تستوطن فيها.

ولكن سورينام كانت أهم التجارب الاستيطانية الأولى، وقد بدأ وصـول اليهود إليـها عام 1639 من هـولندا ثم من إنجلترا عام 1652، فكُفلت لهم كل الحريات والمزايا، ومُنح اليهود الجنسية الإنجليزية. وبعد أن ضم الهولنديون سورينام مرة أخرى، عام 1667، حاول بعض اليهود عام 1674 الرحيل مع الرعايا البريطانيين، ولكن الهولنديين أرغموهم على البقاء فيها باعتبارهم جماعة استيطانية نافعة. وقد تَركَّز اليهود فيما يُسمَّى «يودين سافان»، أي «سافاناه اليهود»، وأسسوا مستوطنة يهودية في برزدينتس أيلاند عام 1670 كانت تتمتع بما يشبه الاستقلال الكامل (ومن ثم فهي أول دولة أو شبه دولة يهودية استيطانية قتالية في العصر الحديث). وكان اقتصاد المستعمرة يعتمد على العبيد الذين راحوا يشقون الطرق ويزيلون الغابات والأعشاب، حتى أقاموا مدينة جديدة محاطة بالطرق. وقد بلغ عدد سكان المستعمرة عشرة آلاف نسمة عام 1719، غالبيتهم الساحقة من العبيد بطبيعة الحال. وكان العبيد المُستجلَبون من أفريقيا يهربون ويلجأون إلى الأحراش ويختلطون بسكان الجزيرة الأصليين، فيضطر سكان المستوطنة إلى استجلاب المزيد من العبيد من أفريقيا، ولكنهم كانوا يهربون بدورهم وينضمون إلى السكان الأصليين. ثم بدأ تحالف من جماعات العبيد الأفارقة والسكان الأصليين في شن هجمات على المستوطنة في الفترة من 1692 ـ 1774، وكوَّن المستوطنون البيض ميليشيات عسكرية وجردوا الحملات ضد الثوار (تماما كما تفعل الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين)، ولكن الإرهاق من الحرب وانتشار الأمراض أدَّى إلى انتصار تَحالُف السود السكان الأصليين وإلى سقوط أول دولة يهودية في العصر الحديث.

كما استوطن اليهود معظم بلاد أمريكا اللاتينية، خصوصاً الأرجنتين التي وطَّن فيها المليونير هيرش آلاف اليهود، فيما يُعدُّ أهم تجربة اسـتيطانية زراعية في العصر الحديث بخلاف تجربة إسـرائيل.

ويُلاحَظ أن هذه النشاطات الاستيطانية تدور إما في إطار الاستعمار الهولندي (البروتستانتي) أو الاستعمار الإسباني والبرتغالي (الكاثوليكي). والمادة البشـرية الأسـاسية هنا هي يهود السـفارد (المارانو). ولكن المادة الاستيطانية الحقيقية كان مصدرها يهود اليديشية (الإشكناز في روسيا وبولندا في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة ليهود العالم مع نهاية القرن التاسع عشر، وهي أيضاً الفترة التي شهدت الهجرات الاستيطانية الغربية. ويمكننا أن نترك التسلسل التاريخي قليلاً، لنركز على حركة يهود اليديشية داخل إطار التشكيل الاستعماري الروسي (الأرثوذكسي) في عصر القياصرة ثم في عصر البلاشفة. وقد تحكمت في السياسة الاستيطانية عند الروسوالبلاشفة عدة عوامل متداخلة:

1 ـ المسألة اليهودية، ومحاولة دمج اليهود ثقافياً واقتصادياً.

2 ـ المشكلة السكانية في روسيا باعتبارها دولة مترامية الأطراف.

3 ـ محاولة الدولة الروسية ترويس المناطق التي ضمتها من الدولة العثمانية وغيرها من المناطق، وخَلْق كثافة سكانية روسية فيها (وهنا كان اليهود يُعَدّون جماعة وظيفية استيطانية روسية).

وفي محاولة دمج الجماعة اليهودية، كان التصور السائد أن المسألة اليهودية يمكن حلها، أو التخفيف من حدتها، بتحويل اليهود إلى جماعة وظيفية استيطانية تُنقل إلى أماكن مختلفة فتستفيد الدولة الروسية بتعمير الأراضي وتتخلص في الوقت نفسه من الفائض اليهودي (وهذا هو المنهج الغربي الصهيوني نفسه، أي حل المسألة اليهودية لدول أوربا عن طريق نقل اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها، وبذا تصبح فلسطين قاعدة للغرب).

وفي الفترة بين عامي 1807 و1808، خصَّص القيصر بعض أراضيه لتوطين بعض أعضاء الجماعة اليهودية فيها لتحويلهم إلى عنصر نافع، ولدمجهم في المجتمع. وبعد ضم الخانات التركية حول البحر الأسود، سُميَّت المنطقة المحتلة باسم «روسيا الجديدة»، وتم تشجيع اليهود على الاستيطان فيها بهدف تعميرها وتأكيد الوجود السكاني الروسي فيها. وقد استمر البلاشفة في الاتجاه الاستعماري الاستيطاني نفسه والذي يرمي إلى حل المسألة اليهودية وتعمير المناطق التي تم ضمها في آن واحد. وفي إطار هذا، تم توطين اليهود في بيروبيجان، وجري التفكير في توطينهم في القرم. ويجب أن نشير هنا إلى أن كثيراً من اليهود الموجودين في الجمهوريات السوفيتية (غير الروسية) السابقة، مثل جورجيا وأوزبكستان وبخارى وليتوانيا ولاتفيا، يوجدون فيها في إطار الاستعمار الاستيطاني الروسي السوفيتي الذي كان يرمي إلى خَلْق كثافة سكانية روسية.

ولكن النشاط الاستيطاني الأكبر ليهود اليديشية كان داخل التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني (البروتستانتي)، فاتجه ملايين اليهود إلى جنوب أفريقيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وهونج كونج، واتجهت غالبيتهم (85%) إلى الولايات المتحدة أهم التجارب الاستيطانية الغربية. وقد يُثار هنا سؤال: بأي معنى يمكن استخدام اصطلاح «جماعة وظيفية استيطانية» في حالة المهاجرين اليهود، مع أنهم كانوا ضمن جماعات أخرى من المهاجرين الغربيين الذين هاجروا بكامل حريتهم، علماً بأن الولايات المتحدة لم تعد دولة استيطانية بعد إعلان استقلالها؟ وسنقر ابتداءً بأن استخدام المصطلح في هذا السياق فيه شيء من التجاوز وقَدْر من المجاز، ومع هذا يمكن أن نشير إلى مايلي:

1 ـ لم تفقد الولايات المتحدة طابعها الاستيطاني إلا مع بداية القرن العشرين، بل إن عملية طرد السكان الأصليين وإبادتهم لم تبدأ إلا عام 1830. وقد ضمت الولاياتالمتحدة أراضي شاسعة من المكسيك وغيرها بعد ذلك التاريخ، وهي أراض احتاجت إلى مستوطنين. كما أن رعاة البقر (أو الكاوبوي) في الغرب الأمريكي ظلوا ملمحاً أساسياً في الحضارة الأمريكية، ورعاة البقر هم الرواد (حالوتسيم) الأمريكيون البيض.

2 ـ لم يكن اليهود أحراراً تماماً في عملية الهجرة، فقد صنفتهم أوروبا باعتبارهم فائضاً بشرياً منبوذاً.

3 ـ كانت الولايات المتحـدة تسـمح ليهــود اليــدشية بالهــجرة إلـيها والاستيطان فيها بقدر حاجتها إليهم، وبما يتفق مع أمنها القومي.

ويجب ملاحظة أن الدول الاستيطانية التي استقرت فيها غالبية اليهود، بدأت تفقد طابعها الاستيطاني وتتحول إلى دول مستقرة ذات بنية سكانية ثابتة واضحة. ومع اختفاء السكان الأصليين، تلجأ هذه المجتمعات إلى الحصول على المادة البشرية بطرق قانونية (عن طريق الهجرة)، وتقوم بدمج وصهر العناصر الوافدة. كما أنها دول ذات مستوى اقتصادي متقدم استوعب أعضاء الجماعات اليهودية فيه دون تمييز أو قيود، وهي مجتمعات ذات أصول بروتستانتية وصلت إلى درجة عالية من العلمنةوالتعاقدية. لكل هذا، فهي مجتمعات لا تحتاج إلى أي متعاقدين غرباء أو جماعة وظيفية تجارية أو زراعية أو استيطانية أو قتالية، إذ يتم تجنيد العاملين (والخبراءوالمقاتلين) من داخل المجتمع ذاته. ولعل هذا يُفسِّر سر اختفاء اليهود باختفاء الوظيفة التي كانت سبباً من أسباب استمرارهم.

من كل ما تَقدَّم يتبين مدى ارتباط الجماعات اليهودية في العالم (الغربي بالذات) بالاستيطان وبالقتال. ويمكن أن نشير هنا إلى ظاهرة أخرى وهي أن العالم العربي بدأ، منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في تحويل اليهود المستعربة، أي يهود العالم العربي المحليين، إلى جماعة وظيفية استيطانية تدين له بالولاء بغض النظر عن أصولهم العرْقية والحضارية. وقد تم هذا من خلال عدة قنوات:

1 ـ منح الجنسيات الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها لأعضاء الجماعة اليهودية.

2 ـ فرنسة يهود العالم الغربي من خلال مدارس الأليانس.

3 ـ هجرة عناصر يهودية غربية إلى العالم العربي تولت قيادة الجماعات اليهودية في العالم العربي.

ومع انتصاف القرن العشرين، وظهور الدولة الصهيونية، تم تحويل الغالبية العظمي من يهود العالم العربي إلى مادة استيطانية لاجذور لها في المنطقة وعلى استعداد لأن تُنقل إلى أي مكان وأن تُوظَّف لصالح من يقوم بعمليات النقل والتوظيف والتمويل .

ومن الأمور الجديرة بالذكر أن أعداداً كبيرة من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر كانوا يهوداً أتوا من فرنسا أو تم تجنيدهم من بين صفوف اليهود المحليين الذين كان يتم فرنستهم، كما كانت الفرقة الأجنبية (الفرنسية) تضم أعداداً كبيرة من اليهود.

ونحن نرى أن من الأفضل تفسيرياً أن ننظر إلى الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة عادية لها نمط إنتاجي مما هو معروف (إقطاعي ـ رأسمالي... إلخ) وإنما باعتبارها دولة وظيفية، فهي إعادة إنتاج لنمط الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية على هيئة دولة. وقد تم توقيع عقد بلفور بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية والذي جرى بمقتضاه نقل من يرغب من اليهود إلى فلسطين ليصبح عنصراً اسـتيطانياً قتالياً يدافع عن المصـالح الغربية نظير مستوى معيـشي مرتفع، وهذا هو نمط القتال نظير المال. ولذا، فإن إسرائيل، بالنسبة للراعي الإمبريالي الجديد (الذي حل محل البطالمة والسلوقيين والرومان والنبلاء البولنديين [شلاختا])، هي أساساً، وظيفة تُؤدَّى ودور يُلعَب.

ولم يُطلَق مصطلح «مرتزقة» على الصهاينة لأن هذا المصطلح لا يترك انطباعاً طيباً في النفس البشرية، ولذا يُطلق الصهاينة على أنفسهم اسم «حالوتسيم»، أي «المنخرطون في السلك العسكري في مقدمة الصفوف»، ومن هنا تأتي ترجمتها بكلمة «الرواد». ويُشار إلى إسرائيل بأنها قلعة على حدود أوربا في الشرق وحصن ضد الهمجية الشرقية. ومن المعروف أن المرتزقة، في العصور الحديثة، كانوا يوضعون دائماً في مقدمة الصفوف، أي على الحدود الأمامية، كما حدث على سبيل المثال عام 1956 عند إنزال القوات البريطانية أثناء العدوان على مصر، حيث أُنزل الأفارقة والهنود في بداية الأمر باعتبارهم مادة بشرية رخيصة، ثم أُنزلت المادة البشرية البريطانية الثمينة فيما بعد. وهذا هو وضع الدولة الصهيونية، والرواد الصهاينة، حيث يوضعون في المقدمة، فهم الشعب المختار للاستيطان والقتال.

ولا يُنظَر إلى الدولة الصهيونية إلا من منظور مدى نفعها: فهي تارة ثروة إستراتيجية، وهي تارة أخرى حاملة طائرات وحارس للمصالح الغربية. ولكنها، في جميع الأحوال، أداة ووسيلة وحسب لا غاية أو هدف. وتتسم الدولة الصهيونية الوظيفية أيضاً بالعزلة عما حولها حتى يتسنى لها الاضطلاع بوظيفتها بكفاءة.

وبعد أن ضمت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، تبلورت الأمور تماماً. وأدرك المستوطنون الصهاينة هويتهم كجماعة وظيفية استيطانية قتالية. وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته في فكر جماعة جوش إيمونيم التي ترى أن الاستيطان والقتال عبء مقدَّس ملقى على عاتق الشعب المختار، وأن على اليهودي أن يقبل مصيره الإلهي إذ لاخيار له.

ويمكننا أن نقول إن الدور الذي تلعبه الدولة الصهيونية، والوظيفة التي تضطلع بها، هما السلعة الأساسية التي تنتجها، وهما مصدر دخلها الثابت. ولذا، يمكننا الحديث عن هذا الدور باعتباره إحدى علاقات الإنتاج مع الإمبريالية (وعلاقات الفتك مع الشعب الفلسطيني المُستَهْدَف). وقد سمينا المستوطنين الصهاينة «المماليك الاستيطانية القتالية» تمييزاً لهم عن «المماليك المالية» وهم الجماعات اليهودية الوظيفية المالية. ونحن نرى أن هذا النموذج التحليلي أكثر تفسيرية لأنه يفسر كثـيراً من جوانب الاقتصاد الإسرائيلي والسياسية الخارجية الإسرائيلية. ومع هذا، فإننا نذهب إلى أن دور الدولة الوظيفية الصهيونية سيتغير، مع ظهور النظام العالمي الجديد، حيث سيتراجع دورها القتالي (المرتبط بوضعها الاستيطاني) وسيتحول «المماليك الاستيطانية القتالية» إلى «المماليك المالية» مرة أخرى، وسيحل رأس المال العالمي محل السيف والمدفع ورأس المال الربوي، وسيحمل الجنرال الإسرائيلي السابق السامسونايت بدلاً من المدفع الرشاش، وسيحضر بالطيران المدني المكيف بدلاً من الطيران العسكري وبالليموزين بدلاً من الدبابة، ولن يمطرنا بالصواريخ والنابالم، كما كان يفعل حتى عهد قريب، وإنما بعقود الصفقات التجارية المريبة والرشاوى الخفية التي تفسد العباد وتفلس البلاد.

وكما قال شمعون بيريز: « الشعب اليهودي لا يهدف إلى السيطرة وإنما يهدف إلى البيع والشراء »، أي أن الجنرال أصبح إنساناً اقتصادياً يمثل شعباً مختاراً لعمليات البيع والشراء والأعمال المالية. ومثل هذا الإنسان لا يحب ولا يكره فهو يبحث عن الربح، كما أنه لا يصدع رأسه بالحديث عن القيم أو المطلقات أو الهويات، ولا يكنُّ احتراماً للآخر لأنه لا يكنُّ احتراماً لذاته، وهو في النهاية عنصر حركي طرح عن نفســه تراثه وقيمه ونزع نفسه من وطنه ليستوطن أرض الآخرين. وعلى هذا، فإن هدف العمليات القتالية والاستيطانية والمالية واحد في كل هذه الحالات، ضمان تدفق خيرات هذه الأرض لقوى خارجها.

وقد لُوحظ أن أعداداً كبيرة من الإسرائيليين تعمل مرتزقة في بعض دول العالم الثالث. وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 2000 فرد من الجيش الإسرائيلي عملوا كمرتزقة ومدربين في أفريقيا على مدى الأعوام الثلاثين الماضية بدءاً بالطيارين في أوغندا وانتهاءً بالمظليين في زائير. وتُوجَد شركات خاصة (مثل شركة ليفدان) يديرها جنرالات سابقون ويشغل صفوفها أفراد سُرِّحوا حديثاً من الجيش الإسرائيلي. ويتلقى المرتزق الإسرائيلي مبلغ 2500 دولار علاوة على بدلات أخرى. وقد صرح مسئول من الشركة بأن ما تفعله هذه الشركة لا يختلف عما كانت تفعله الحكومة الإسرائيلية لسنوات طويلة.

جمـاعـة يهــودية وظيفيــة تجاريــة

Jewish Trading Functional Group

«الجماعة الوظيفية التجارية» هي الجماعة التي يضطلع أفرادها بالتجارة والنشاطات التجارية. وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية بمهنة التجارة في كثير من المجتمعات الإنسانية. ويُفسِّر أعداء اليهود هذه الظاهرة بصيغهم اللفظية الجاهزة، مثل: « الطبيعة اليهودية الخاصة » أو « خصوصية الشخصية اليهودية » أو « النزوع الأزلي عند اليهود نحو استغلال الآخرين ». وهناك أيضاً التفسير الصهيوني الذي لا يقل تهافتاً عن الصيغ السابقة، وهو « أن المجتمعات التي عاش فيها اليهود فرضت علىهم مهنة التجارة ثم الربا فرضاً ومنعتهم من الاشتغال بالزراعة أو ملكية الأراضي الزراعية ». وهكذا، فبينما يرى التفسير الأول (المعادي لليهود) أن الأغيار ضحية عنف اليهود، يرى التفسير الصهيوني أن اليهود هم ضحية عنف الأغيار. وهذه الأقوال السابقة كلها لا قيمة لها من الناحية التفسيرية، ولولا شيوعها لما كلفنا أنفسنا عبء ذكرها أو الرد عليها.

ولكن، بدلاً من استخدام النماذج التفسيرية العنصرية الجاهزة التي تختزل التفاصيل وتعفي الإنسان من مشقة التفكير والتمحيص، يمكننا أن نستقرئ أحداث التاريخ المتعيِّن وبعض تفاصيله الدالة لنصوغ منها نماذج أكثر تركيبية وتفسيرية. لقد ورد ذكر العبرانيين لأول مرة في التاريخ المدوَّن على أنهم بدو رحل يقومون بالرعي والتجارة. ولكن، عند استقرارهم في أرض كنعان عملوا بالزراعة أساساً وظل نشاطهم التجاري محدوداً بل يكاد يكون منعدماً. ويُلاحَظ أن لفظ «كنعاني» كان مرادفاً للفظ «تاجر» (هوشع 12/8 وأشعياء 23/8 وأمثال 31/24). ولعل هذا يُفسِّر خلو العهد القديم من الإشارة إلى التجارة باعتبارها نشاطاً اقتصادياً مهماً، بعكس الإشارات الكثيرة إلى الزراعة والقوانين والطقوس والشعائر والأعياد المرتبطة بها. وإن كان ثمة رأي يذهب إلى أن هذا لا يعكس بالضرورة حالة المجتمع العبراني قبل قيام المملكة المتحدة وإنما يعكس، في واقع الأمر، الموقف السلبي الذي اتخذه كُتَّاب العهد القديم المحافظون ضد التجار وشئون المال. ولكن مما له دلالته أن التلمود يضم كتاباً كاملاً يُسمَّى «زراعيم» يتناول أمور الزراعة.

ومهما تكن حقيقة الأمر، فقد تغيَّر الوضع مع ظهور المملكة العبرانية المتحدة التي كانت تشكل وحدة سياسية كبيرة نوعاً ما ولها سلطة مركزية أكثر مما كان علىه الحال إبان عصر القضاة. فقد كانت دولة في حاجـة إلى تمـويل المشـروعات المعمارية الكبرى مثل هيكل سليمان، ووجدت أنه قد يكون من الممكن توفير الاعتمادات اللازمة من خلال النشاط التجاري. ومما شجع على هذا الاتجاه موقع فلسطين باعتبارها ممراً رئيساً بين التشكيلين الحضاريين الأساسيين في الشرق الأدنى القديم (مصر وبلادالرافدين)، فضلاً عن وقوعها على واحد من أهم طرق التجارة في العالم القديم، بحيث كان بإمكان من يحكمها أن يحقق أرباحاً كبيرة من خلال التجارة. وبالفعل، قامت الدولة العبرانية بتطوير العلاقات التجارية مع مدينة صور إحدى أهم القوى التجارية الاقتصادية آنذاك. واشتركت الدولتان في إنشاء أسطول في عتسيون جابر، ونشطت تجارة وصناعة التجميع، فكانت المملكة تشتري العربات الحربية من مصر وتُجمِّعها وتشتري الأحصنة من مصادر أخرى وتبيعها لملوك سوريا من الحيثيين والأراميين. وقد تكون قصة ملكة سبأ وزيارتها لسليمان دليلاً على ازدهار التجارة الدولية للمملكة العبرانية المتحدة. ومما يجدر ذكره أن الدولة احتكرت هذه التجارة. أما التجارة الداخلية، فيبدو أنها ظلت ضئيلة الشأن وبدائية تأخذ شكل المقايضة. ولم يتغيَّر الوضع كثيراً بعد انقسام المملكة المتحدة إلى المملكتين الشمالية والجنوبية.

ولكن الصورة تبدأ في التغير قليلاً مع التهجير البابلي، حيث اشتغل بالتجارة كثير من أعضاء الجماعة اليهودية المهجَّرين، خصوصاً أن الإمبراطورية البابلية كانت لديها تجارة دولية نشطة في ذلك الوقت. وقد تحوَّلت الجماعة اليهودية في بابل إلى جماعة وظيفية وسيطة، وأصبح هذا هو النموذج السائد مع ازدياد انتشار الجماعات اليهودية في العالم القديم خارج فلسطين، إذ ظهرت جماعات يهودية وسيطة في أرجاء الدولة الفارسية وفي الإسكندرية وروما وفي أنحاء أخرى من العالم القديم. لكن هذا لا يعني أن جميع اليهود، في جميع أنحاء العالم، كانوا يعملون بالتجارة منذ التهجير البابلي، إذ أن من الثابت تاريخياً أن قطاعات كبيرة منهم ظلت تعمل بالزراعة في بابل وفي بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط.

وقد تبلور تماماً هذا الاتجاه نحو العمل بالتجارة مع سقوط الدولة الرومانية وبداية العصور الوسطى في القرن الخامس الميلادي، إذ تعرضت أوربا بعد سقوط الإمبراطورية لهجمات القبائل البربرية، مثل: الوندال والفرنجة والهن والقوط والسكسون والتيوتون وغيرهم، وهو ما أدَّى إلى تَحوُّل مركز الحياة ثانيةً من المدينة (التي كانت تمر بالمراحل الأولى من نموها) إلى الريف. وأدَّى هذا بدوره إلى حدوث تراخ شديد في عملية تَحوُّل الاقتصاد من إنتاج طبيعي استهلاكي يستند إلى القيمة الاسـتعمالية إلى إنتـاج بضاعي يسـتند إلى القيمـة التبادلية. ونتيجة ذلك، ظلت القارة الأوربية كياناً استهلاكياً بصورة أساسية، يُصدِّر العبيد والنساء والصبيان والفراء والسيوف ويستورد الأقمشة والحبوب والتوابل وغير ذلك من المنتجات التي تستهلكها بالدرجة الأولى طبقة الإقطاعيين والنبلاء. ونجم عن هذا استقطاب المجتمع الأوربي إلى طبقتين: طبقة السادة ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين. وكانت أولاهما تحتكر التجارة، أما الثانية فلم تكن قادرة على الاضطلاع بها لعدم تَوفُّر رأس المال أو الخبرة لديها. لكن النشاط التجاري لم يكن من الاتساع بحيث يستدعي ظهور طبقة تجارية محلية. وأدَّى هذا الوضع إلى اتساع الهوة بين الطبقتين، ومن هنا كان من الطبيعي أن يضطلع بوظيفة التجارة جسم غريب مثل أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يقطنون المدن والموانئ مع التجار الفينيقيين. ويقول الحاخام آجوس: « لقد ورثت المسيحية القانون الروماني المعادي للتجارة والربا، بينما ورث اليهود المدن والحياة في المدينة وتقاليدها القانونية والحضارية ». وهذا قول يتسم بكثير من المبالغة ولكنه، مع هذا، يصف جانباً مهماً من الواقع.

وبعد الفتح الإسلامي وضم منطقة سوريا وفلسطين، تبلور دور اليهود كتجار داخل التشكيل الحضاري الغربي بصورة نهائية. وبالتالي اختفى التجار الفينيقيون، وفُتح المجال على مصراعيه أمام اليهود ليصبحوا الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة تقريباً في الغرب. بل وأصبحت الجماعات اليهودية، بانتشارها في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي العالمين الإسلامي والمسيحي، تشكل أول نظام ائتماني عالمي يُسهِّل عملية انتقال التاجر من بلد إلى آخر ويُيسِّر عمليات التبادل التجاري وينظمها. وبذلك، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون الجسر التجاري والمالي بين العالمين الإسلامي والمسيحي مع بداية العصر الوسيط في الغرب، ولعبوا دوراً خطيراً في التجارة الدولية بينهما. ومما يجدر ذكره أن التجارتين الدولية والمحلية كانتا مرتبطتين تماماً، إذ كان التاجر يحمل السلعة من بلد إلى آخر أو من سوق إلى آخر ويبيعها بنفسه أو يبيعها لتاجر يهودي آخر مقيم في المدينة. ويُقال إن أعضاء النخبة الحاكمة في مملكة الخَزَر كانوا يرغبون في تطوير التجارة بمملكتهم، ومن ثم اعتنقوا اليهودية حتى يمكنهم التمتع بالتسهيلات الائتمانية التي يتمتع بها اليهود في شتاتهم، أي انتشارهم.

ومن العناصر التي ساهمت في تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، علاقتها الخاصة بالزراعة في أوربا إبَّان العصور الوسطى (انظر: «علاقة الجماعات اليهودية بالزراعة»).

ولعل العنصر الحاسم في عملية تحويل أعضاء الجماعة اليهودية إلى جماعة وظيفية وسيطة هو اكتمال ملامح النظام الإقطاعي، فهو مجتمع يقوم على التفرقة بين الطبقات والجماعات ويحافظ على استقلال كل واحدة منها وعلى هويتها، كما أنه مجتمع يستند إلى التضامن المسيحي. وقد كان على الفلاح أن يقسم يمين الولاء الديني، كما كان الملوك يحكمون بالحق الإلهي للملوك. ولهذا، لم يَعُد بإمكان اليهودي أن ينتمي إلى مثل هذا المجتمع بعد تبلور هويته المسيحية، فلم يَعُد بوسع اليهودي، على سبيل المثال، أن يؤدي الخدمة العسكرية أو يمتلك الأراضي أو يزرعها لأن كل هذا يتطلب يمين الولاء المسيحي. ولمّا كانت الزراعة والقتال هما الوظيفتان الأساسيتان في المجتمع الإقطاعي الغربي فقد تَحوَّل اليهودي بالدرجة الأولى إلى غريب، كما استُبعد على المستوى الاقتصادي والديني والحضاري، أي على جميع المستويات تقريباً. ولذا لم يكن أمام أعضاء الجماعات اليهودية سوى أن يملأوا الفراغات في المجتمع ويضطلعوا بالوظائف التي ليست من صميم بنيته، أي أنهم تَحوَّلوا إلى وسطاء عليهم شراء المواثيق من الملوك والأمراء، وتوثقت علاقتهم بالسلطة الدنيوية الحاكمة حتى أصبحوا أقنان بلاط يتبعون التاج الملكي والخزانة الملكية ويُوضَعون تحت حماية الملك ويشكلون ما يشبه الملْكية الخاصة له، يحققون له الأرباح عن طريق التجـارة والقيام بنشـاطات مالية وإدارية أخـرى مثل: جمع الضرائب والعمل في بعض الصناعات، أي أنهم أصبحوا جزءاً من الطبقة الحاكمة وأداة طيعة لها.

وقد يكون من المفيد هنا أن نحذر من افتراض وجود نموذج عام يُطبَّق بأسلوب واحد وعلى مستوى العالم الغربي من مرحلة زمانية إلى مرحلة زمانية أخرى. فالنموذج الذي طرحناه عام للغاية ويصلح إطاراً تصورياً متحرراً إلى حدٍّ ما من الزمان والمكان، وذا قيمة تحليلية وحسب، ويظل التطور التاريخي ذاته مختلفاً ومليئاً بالتعرُّجات والنتوءات. ويمكننا أن نقول إن النموذج ينطبق إلى حدٍّ كبير على إنجلترا، وبدرجة أقـل على فرنسـا حيث كان يوجـد يهود يعملـون بالزراعة. وفي ألمانيا، استولى النبلاء على حق ملكية اليهود إذ أصدر تشارلز الرابع مرسوماً بذلك في عام 1356 يسمح لهم بامتلاك وحماية اليهود. وكان هناك يهود يعملون بالحرَف، مثل الصباغة وصناعة الحرير والدباغـة والصياغـة، خصوصاً في إسـبانيا الإسـلامية وإسبانيا المسيحية. ويختلف الوضع في إيطاليا من مقاطعة إلى أخرى ومن مرحلة زمنية إلى أخرى. ويمكن أن نضيف أن شرق أوربا كان وثنياً حتى القرن العاشـر الميلادي، أي أنه ظل خـارج هذا الإطـار تماماً لفترة زمنية طويلة. وحينما انضوى تحت هذا الإطار، فإنه ظل تشكيلاً اقتصادياً له خصوصيته، ولعب اليهود داخله دوراً مغايراً بعض الشيء عن الدور الذي لعبوه في غرب أوربا ووسطها.

وبعد كل هذه التحفظات، يمكننا أن نبدأ في عرضنا التاريخي، ونشير إلى أن اليهود أصبحوا ـ منذ القرن الخامس الميلادي ـ تجاراً دوليين ومحليين وازدادت أهميتهم مع الفتح الإسلامي. وقد أشار ابن خرداذبة إلى التجار الراذانية باعتبارهم تجاراً دوليين يمتد نشاطهم في كل أرجاء العالم القديم. وقد احتكر أعضاء الجماعات اليهودية معظم التجارة الدولية، سواء في حوض البحر الأبيض المتوسط أو في الطريق البري الشمالي عبر القارة الأوربية من خلال بلاد السلاف، في الفترة بين عامي 800 و1200. وكانوا يقومون بتجارة الأنسجة والفراء والعقاقير والسلع التَرفَيِّة التي يأتون بها من الشرق والرقيق الذي يأتون به من بلاد السلاف التي اشتُق اسمها من كلمة من لاتينية العصور الوسطى إسكلافوس scelavus أي «عبد»، ومن هنا أيضاً تسميتهم «الصقالبة». ولهذا، أصبح اليهودي المتجول معروفاً في كل مدينة وبلدة وفي كل سوق ومولد. وكانت الدول التي تريد إنعاش حركة التجارة فيها ترسل في طلب بعض اليهود وتوطنهم كي يقوموا بدور الوسيط وينشطوا الحركة التجارية التي يعجز المجتمع الزراعي بتنظيمه الجامد التقليدي عن القيام بها. ولهذا السبب، كان يُنص في المعاهدات أحياناً على تَبادُل اليهود. فقد اشترطت مدينة رافنا في معاهدة عُقدت مع البندقية في أواخر العصور الوسطى أن ترسل المدينة الأخيرة بعض اليهود ليقوموا بالأعمال المصرفية والتجارية فيها. كما كان الملوك يحاولون الحفاظ على اليهود ضمن اهتمامهم بالتجارة والحركة التجارية. وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية بالتجارة إلى درجة أن كلمة «تاجر» أصبحت مرادفة لكلمة «يهودي» تقريباً. ففي أحد المواثيق الألمانية الصادرة في القرن العاشر الميلادي (965) ترد إشارة إلى « اليهود والتجار الآخرين ». غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن التجارة التي اشتغل بها أعضاء الجماعات اليهودية تتسم بصفتين أساسيتين، أولاهما أن التجارة اليهودية هي ما يعرف باسم «التجارة البدائية»، وهي تجارة تختلف عن التجارة الحديثة من عدة وجوه. فالتجارة الحديثة هي جزء عضوي وأساسي من نظام المجتمع الرأسمالي والرأسمالية الرشيدة، أما التجارة البدائية فتلعب دوراً ثانوياً وهامشياً في مجتمعات ما قبل الرأسمالية (العبودي والإقطاعي وغيرهما)، حيث يتميَّز الإنتاج في هذه المجتمعات بأنه إنتاج لقيمة استعمالية وليست تبادلية، أي أن الإنتاج كان موجهاً نحو إشباع حاجات المجتمع وحسب، وإذا ما تَبقَّى فائض من السلع بعد أن يستهلك المجتمع ما يريد، يقوم التاجر البدائي بنقله من هذا المجتمع إلى مجتمع آخر. كما كانت تنشأ داخل مجتمعات ما قبل الرأسمالية، حاجة إلى بعض السلع الكمالية مثل التوابل والذهب، فكان التاجر البدائي يقوم بتوريدها وسد الحاجة التي تنشأ إلىها. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار التجارة البدائية تجارة هامشية دون أن يضفي هذا الاعتبار إيحاءات سلبية، فهي لا تلعب أيَّ دور في حركة الإنتاج وإنما تظل على هامشها.

والصفة الثانية للتجارة اليهودية وثيقة الصلة بالأولى. فالتجاـرة اليهـودية، على خـلاف التجـارة التي تطورت بين المسيحيين، كانت منذ البداية مرتبطة بالطبقة الحاكمة في المجتمع الإقطاعي، حيث كان التاجر اليهودي (وكذلك المرابي اليهودي)، كما أسلفنا، ملكية للأمير أو الإمبراطور أو النبيل الإقطاعي، وكان يقوم بالتجارة ليحقق أرباحاً لاتتحول إلى رأسمال مستثمر في المجتمع وإنما تصب في خزائن النبيل الإقطاعي من خلال الضرائب والإتاوات التي كان على اليهود دفعها. ومن هنا، كانت التجارة اليهودية تعبيراً عن العلاقات القائمة في المجتمع الإقطاعي ولا تشكل نقيضاً لها على الإطلاق. ولعل هذا ما كان يعنيه ماركس حين أشار إلى وجود اليهود في مسام المجتمع الإقطاعي، فهم فيه وليسوا منه، وهم هامشيون في وجودهم لا يشكلون أي تحدٍّ له.

ولكن حركيات التطور داخل المجتمع الغربي، التي جعلت اليهود يضطلعون بدور التجارة الدولية والمحلية، هي ذاتها التي جعلت اسـتمرارهم فيها مسـتحيلاً. وبعد أن كان وضعـهم القانوني مستقراً، بدأ هذا الوضع في الانهيار مع تضاؤل أهمية دورهم الاقتصادي. ويمكن أن نورد بعض الأسباب التي أدَّت إلى هذا الوضع:

1 ـ سيطرت المدن الإيطالية في القرن العاشر الميلادي على التجارة في حوض البحر الأبيض المتوسط. ومما عقَّد الأمر بالنسبة للتجار اليهود، عدم وجود الإمكانات المالية أو العسكرية الكافية لامتلاك الأساطيل البحرية، وهو أمر كان متاحاً لمدينتي البندقية وجنوة اللتين كانتا تمتلكان أساطيل تجارية قوية وكانتا من أوائل المدن/الدول الأوربية التي ظهرت فيها طبقة تجارية نشطة. وقد حاولت هاتان المدينتان قدر استطاعتهما أن توقفا التجارة اليهودية. ومما عوض اليهود لبعض الوقت عن فقدانهم تجارة المتوسط تنشيط تجارتهم من خلال الطريق البري الذي يمر عبر الدول السلافية ابتداءً من إسبانيا وانتهاءً بالبحر الأسود.

2 ـ ساهمت حروب الفرنجة التي يُطلَق عليها اسم «الحروب الصليبية»، وهي تعبير عن الإرهاصات الأولى لولادة الرأسمالية الأوربية، في القضـاء علـى كثيـر من مراكز التجمـع التجـاري اليهـودي فـي أوربا. وإلى جانب ذلك، دعمت هذه الحروب العلاقات بين الدول الأوربية المختلفة وبدأت تظهر شبكة علاقات بينها. كما أصبح الطريق إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وغيره من الطرق، مفتوحاً بعد أن أخذ التجار المسيحيون يتحركون بسهولة خلف جنود حملات الفرنجة. وقد ظهرت شبكة طرق في القارة الأوربية استخدمها التجار المسيحيون، ولكنها لم تكن آمنة بالنسبة للتجار من أعضاء الجماعات اليهودية، حتى أن السلطات سمحت للتجار اليهود بالتظاهر بأنهم مسيحيون حتى يمكنهم الانتقال بسهولة والاستمرار في تجارتهم.

3 ـ بدأت تظهر هياكل مركزية حكومية في بعض الدول الأوربية مثل إنجلترا وفرنسا مع القرن الثالث عشر الميلادي، وفي إسبانيا بعد ذلك التاريخ. وهذه الهياكل لم تجد في أعضاء الجماعات اليهودية ـ من حيث هم أقنان بلاط ـ فائدة كبرى، ولذا طُرد اليهود في تلك المرحلة. ورغم عدم قيام سلطة مركزية في ألمانيا، فإن وضع اليهودتخلخل تماماً هناك.

4 ـ بدأت تظهر في أوربا طبقة تجارية محلية بلغت شيئاً من القوة في القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أخذت قوة هذه الطبقة في التعاظم، فبدأ التجار والحرَفيون في تكوين نقابات تضمهم وتقوم بالضغط لصالحهم، وتحاول طرد التاجر اليهودي المنافس الذي كان يحظى بالدعم من السلطة الإقطاعية. وبدأت المدن تكتسب شيئاً من القوة والاستقلال، ووصلت حركة استقلالها إلى ذروتها مع القرن الثالث عشر الميلادي، واستولى التجار من الطبقة الوسطى بصورة متزايدة على المجالس المدنية والحكومات المحلية.

ومما يجدر ذكره أن الرأسمالية الحديثة أو الرشيدة في الغرب وُلدت على يد هؤلاء التجار المسيحيين وداخل جدران هذه المدن المستقلة الجديدة لا بين صفوف أعضاء الجماعات اليهودية أو داخل الجيتو أو الشتتل. حيث قام هؤلاء التجار بالاستثمار بعيد المدى في إنتاج سلعة ما وتخصصوا فيها وفي تصنيعها وتسويقها، أي أن العملية الإنتاجية لم تَعُد تهدف إلى إشباع الرغبات كما هو الحال داخل النظام الإقطاعي، بل إلى إنتاج سلع بهدف بيعها. وقد قام هؤلاء التجار المسيحيون بتضييق الخناق على التجار اليهود بدرجات متفاوتة من النجاح. وبدأت تسقط معاقل التجارة اليهودية في غرب أوربا ووسطها حتى اختفت التجارة اليهودية تماماً مع القرن السادس عشر الميلادي، باستثناء بعض الجيوب في إيطاليا ووسط ألمانيا حيث تَركَّز نشاطهم بالدرجة الأولى في الربا وأعمال الرهونـات، وإن ظلـوا يقومون بدور تجـاري أيضاً.

وبالتدريج، أخذ أعضاء الجماعات اليهودية في تحويل مدخراتهم إلى النوع السائل الذي يَسهُل حمله من بلد إلى بلد، وتَحوَّل اليهودي إلى مبادلة النقد ثم إلى إقراضه بالفائدة العالية، أي أنه وجد نفسه خارج النشاط الزراعي ثم خارج النشاط التجاري فتَحوَّل من تاجر إلى مراب، وتَحوَّل اليهود ككل من جماعة وظيفية وسيطة تقوم بدور الوساطة بين طبقات المجتمع إلى جماعة وسيطة عميلة تقوم بدور الوساطة ولكنها في الوقت نفسه أداة في يد الطبقة الحاكمة أولاً وقبل كل شيء.

ولكن معدلات النمو لم تكن متساوية في أوربا، فلم تكن البنية الاقتصادية لشرق أوربا تشبه البنية الاقتصادية لغربها مع بداية العصور الوسطى. ولذا، رحبت النخبة الإقطاعية الحاكمة في بولندا وليتوانيا في أواخر القرن الثالث عشر بالعناصر التجارية، مثل اليهود والأرمن والتجار الألمان، لتطوير القطاع التجاري الدولي والمحلي فيها، دون اللجوء إلى بورجوازية محلية لها جذور في المجتمع ولها قاعدة جماهيرية فيه قد تطالب بقدر من الاستقلال بعد أن يقوى ساعدها، وقد تطالب بالمشاركة في صنع القرار وتُصرُّ على تَبنِّي سياسة تهدف إلى حماية الصناعة والتجارة المحلية، الأمر الذي قد يُضرُّ بمصالح كبار الملاك الإقطاعيين الذين كانوا يُصدِّرون محاصيلهم إلى الغرب ويحتكرون التجارة في بعض السلع الحيوية. ومن ثم، وجد النبلاء الإقطاعيون البولنديون في التجار اليهود ضالتهم المنشودة لأنهم أكثر العناصر بُعداً وغربة عن البيئة، وبالتالي يمكنهم القيام بالنشاط التجاري والمالي والصناعي دون تشكيل أي خطر على انفتاح الاقتصاد الإقطاعي البولندي، فأصبحوا أداة هذا الإقطاع. وقد ظهر في بولندا يهود الأرندا الذين لعبوا دوراً أساسياً في تصدير المحاصيل البولندية إلى أوربا، ولاسيما إبَّان حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648(.

وقد اضطلع يهود الأرندا بأنشطة مالية وصناعية أخرى مثل تحصيل الضرائب واحتكار تجارة الملح، وساهموا بذلك في ملء خزائن النبلاء وفي ضرب البورجوازية المحلية.

وبعد سقوط التجارة اليهودية في غرب أوربا ووسطها وانسحاب التجار اليهود منها، ظهر عنصر جديد هو يهود إسبانيا والبرتغال من المارانو السفارد الذين طُردوا من شبه جزيرة أيبريا مع نهاية القرن الخامس عشر وانتشروا في أوربا والدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي. وكان يهود المارانو يمتلكون الخبرات اللازمة ورأس المال اللازم للأعمال المالية الكبرى، وهو ما جعلهم يمولون كثيراً من الشركات الاستعمارية الجديدة وعمليات الاستيطان والاستثمار في العالم الجديد. فاستقروا في البرازيل واشتركوا في تجارة السكر والرقيق والمنسوجات حيث استفادوا بعلاقاتهم بالحكومة البرتغالية التي كانت تملك مستعمرات في أفريقيا مثلت مصدراً جيداً للعبيد.

وشهد منتصف القرن السابع عشر الميلادي ذروة تطوُّر الدور الاقتصادي للجماعات اليهودية في أوربا والعالم، حيث اكتملت حلقة ما يمكن تسميته «التجارة الدولية اليهودية» ووصلت إلى قمتها وأصبحت عالمية بشكل لم يسبق له مثيل. وكان يهود المارانو هم حلقة الوصل الأساسية في هذه التجارة، فتركزوا في المدن الأوربية الكبرى، خصوصاً في تلك البلاد التي يتبعها إمبراطوريات مثل هولندا وإنجلترا وإسبانيا والبرتغال، حيث احتفظ المارانو بعلاقتهم مع أقاربهم الذين لم يُطرَدوا من شبه جزيرة أيبريا. وبذلك أصبحوا يلعبون دوراً أساسياً في تجارة الأطلسي والعالم الجديد. كما تركز المارانو في هامبورج وبوردو وبايون، وظهر من بينهم (ومن صفوف الإشكناز) يهود البلاط الذين لعبوا دوراً أساسياً في تجارة الإمارات الألمانية ووسط أوربا بشكل عام. وكانت تساعد هذا المركز الأوربي قاعدة ضخمة من صغار التجار اليهود وتجار العملة، حيث كان يهود الأرندا الإشكناز في بولندا، الذين امتدت نشاطهم من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، يشكلون أحد أجنحتهم المهمة. أما الجناح الآخر، فتَمثَّل في يهود الدولة العثمانية الذين تمركزوا في موانئ البحر الأبيض المتوسط. بل وكان للمارانو - كما أشرنا - قاعدة في المغرب وفي المستعمرات البرتغالية في أفريقيا وفي المسـتعمرات الهولندية والإسـبانية والبرتغـالية والإنجليزية في العالم الجديد. وهكذا اكتملت هذه الحلقة التجارية الدولية الضخمة. ومع أواخر القرن السابع عشر الميلادي، بدأ يهود الإشكناز انتشارهم مرة أخرى في أنحاء العالم إلى أن أصبحوا أغلبية يهود العالم.

ويُلاحَظ أن عودة اليهود إلى دول غرب أوربا، في القرن السابع عشر الميلادي، كانت عودة إلى دول لها مشروعها الرأسمالي الاستعماري الضخم المتكامل. ولكن، رغم أنهم كانوا يمثلون عنصراً تجارياً نشطاً، إلا أنهم لم يشكلوا عنصراً مستقلاً يمثل تجارة يهودية ملتصقة بالإقطاع، بل أصبحوا تجاراً يدينون باليهودية ويشكلون جزءاً من كلٍّ غربي لا يتحكمون فيه ولا يشكلون فعالية مستقلة داخله، حتى وإن تمتعوا بقدر من الاستقلال، لأنه في النهاية قَدْر صغير لا يؤثر على الاتجاه العام للرأسماليات التي ينتمون إليها. وقد ظلت التجارة اليهودية الهامشية قائمة في وسط أوربا وشرقها بدرجة أكبر حتى عصر الإعتاق (في القرن الثامن عشر)، فظهرت بورجوازيات محلية في ألمانيا ثم بولندا أخذت تزاحم التجار اليهود وتطردهم. وقد تدهور وضع التجار اليهود، خصوصاً في بولندا بعد تقسيمها وبعد تَدنِّي وضع اليهود الاقتصادي فيها. ومن هنا ظهرت مسألة يهودية في كل من هذه البلاد.

وكان للتجارة اليهودية دائماً بُعد سلبي أو مظلم، فقد كانت تجارة هامشية طفيلية " تعيش على تَخلُّف المجتمع " على حد قول ماركس، وتتسلل دائماً إلى الشقوق الناجمة عنالتخلف، وإلى الأطراف التي تحفّ بها المخاطر ولا تجد من يعمل فيها، ولذا نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية اشتغلوا بتجارات مشينة مثل: تجارة الرقيق والمشروباتالكحولية والرقيق الأبيـض، وهـي جميعاً تجارات كريهة للنفس البشرية. فكانت تجارة المشروبات الكحولية في شرق أوربا من النشاطات التجارية الأساسية بينهم، وكانت مشكلة السكْر مشكلة أساسية تواجه الفلاحين والأقنان في شرق أوربا، وهو ما زاد سخط الجماهير عليهم. كما أن احتكار أعضاء الجماعات اليهودية لبعض السلع الأساسية، مثل الملح (لحساب النبلاء الإقطاعيين)، جعلهم في حالة احتكاك وتوتر دائمين مع الفلاحين وكل عملائهم، رغم أن أرباح تجارة الكحول والملح كانت تَصبُّ أساساً في خزائن النبلاء ولم يكن اليهود سوى وسطاء فيها. ومنذ عام 1880، ومع تدهور دورهم التجاري، اشتغل بعض أعضاء الجماعات اليهودية بتجارة الرقيق الأبيض، فكانوا يُصدِّرون الفتيات اليهوديات من منطقة الاسـتيطان عبر جاليشـيا إلى العـالم الجديد، خصوصاً إلى الأرجنتين. وقد وصل نشاط تجار الرقيق الأبيض من اليهود إلى مصر والهند والصين أيضاً.

كما أدَّى التدني التدريجي لوضع أعضاء الجماعات اليهودية، وتضييق الخناق عليهم، إلى اشتغالهم بأنواع من التجارة غير المشروعة مثل تهريب السلع دون دفع جمارك عليها. وساعدهم في ذلك تَوفُّر شبكة الاتصالات الضخمة لديهم، وتَحدُّثهم باللغة اليديشية التي لم يكن يفهمها سواهم. وكانت مثل هذه النشاطات مسئولة عن ظهور الصورة السلبية التي أشاعها عن اليهود المعادون لهم، وعمموها بعد عزلها عن الظروف الاجتماعية التي أدَّت إلى ظهورها، بحيث تحوَّلت هذه الصورة إلى نموذج يُعبِّر عنالطبيعة الأزلية لليهود!

وقد حاربت مختلف الحكومات بقايا التجارة اليهودية وعزلتها، وحاولت دمج أعضاء الجماعات اليهودية عن طريق تحويلهم إلى عناصر اقتصادية منتجة، إلى أن قضت الثورات الشيوعية والإبادة النازية لبعض يهود الغرب على البقية الباقية من التجارة اليهودية الشرعية وغير الشرعية.

ويُلاحَظ أنه لا يوجـد أثر للتجـارة اليهـودية في الولايات المتحدة، إذ أن اليهود هاجروا مع ملايين المهاجرين إلى مجتمع تجاري علماني نفعي يحكم على الأعضاء بمقدار مدى نفعهم ومدى إسهامهم الاقتصادي في مجتمعهم.

ومع هذا، تركت التجارة اليهودية أثرها في يهود روسيا السوفيتية حيث تواجدت أعداد كبيرة منهم في قطاع تجارة التجزئة والسوق السوداء. أما في الولايات المتحدة، فيظهر أثر الميراث الاقتصادي للمهاجرين اليهود في تَركُّز رأس المال اليهودي في الصناعات القريبة من المستهلكين، مثل السينما والملابس، وفي بُعدهم عن الصناعات الثقيلة التي تتطلب استثماراً بعيد المدى وتنطوي على مخاطر كبيرة. ولكن ميراث التجارة اليهودية آخذ في الزوال تماماً.

وقد ترك اشتغال يهود العالم الغربي بالتجارة والأعمال المالية أثره العميق فيهم، إذ يُعَدُّ اشتغالهم بالتجارة سبباً في « استمرارهم » واحتفاظهم بنوع من الاستقلال العرْقيوالقومي، وهذه سمة أساسية في الجماعات الوظيفية.

والتجارة اليهودية التي تفترض انعزال التاجر عن مجتمعه هي الأساس الاقتصادي للجيتو ولكثير من التصورات الدينية والفكرية التي يُقال لها «قومية» والتي تتحدث عن «الشعب اليهودي» و«الشعب المختار» الذي يُوجَد على هامش التاريخ أو ربما خارجه، شأنها شأن التاجر اليهودي.

والتجارة اليهودية مسئولة عن تحديد صورة اليهودي في أدبيات معاداة اليهود. فاليهودي يظهر على أنه التاجر والمموِّل الشره والرجعي المحافظ في آن واحد. وربما يعود هذا إلى أن التجارة اليهودية نشاط شبه رأسمالي ولكنها تجارة مرتبطة بالنظام الإقطاعي، ولذلك فهي شيء مُبهَم يَصعُب تصنيفه. بل ويُقال إن الفلاحين كانوا ينظرون إلى التجارة اليهودية باعتبارهـا ضرباً من السحر، نظراً لطبيعتها الهامشـية والطفيليـة. فالنبيل الإقطاعي والفلاح يعملان بالزراعة، ولا غرابة إذا ظهرت ثمرة جهدهما، لأنهما يقومان بجهد في تحويل مادة ما (الأرض) إلى شيء آخر (الثمرة) من خلال الجهد الإنساني، أما اليهودي فكان لا يملك سوى رأسماله الذي يقوم بتحريكه (شراء السلع وبيعها) فيراكم الثروات دون جهد أو عمل دون أن ينتج شيئاً ملموساً وكأنه ساحر يخرج الأرنب من القبعة بتحريكها.

والفكر الصهيوني ذو بُعد تجاري واضح، فهرتزل والصهاينة يتحدثون باستمرار وجدية عن شراء حائط المبكى بل وعن شراء فلسطين ذاتها. وانطلاقاً من التصور التجاري نفسه، لا يزال الإسرائيليون يتحدثون عن دفع تعويضات للفلسطينيين نظير أن يبحثوا لأنفسهم عن وطن آخر، كما تُقدِّم الحركة الصهيونية ما يشبه الرشوة لليهود السوفييت ليهاجروا إلى الأرض المقدَّسة. وأخيراً، فإننا نميل إلى تسمية الدولة الصهيونية بالدولة الوظيفية، فهي تلعب دوراً يشبه في كثير من النواحي دور التجارة اليهودية في أوربا. كما أن الدولة الصهيونية هامشية ترتبط مصالحها بمصالح الإمبريالية الغربية مثل ارتباط التجار اليهود بالطبقات الحاكمة التي كانت تستخدمهم أداة لضرب القوى الوطنية المحلية.

الراذانيـــة

Radhanites

«الراذانية» جماعة من التجار اليهود، وورد اسمهم في صيغتين: الراذانية عن ابن خرداذبه و الرادانية عند ابن فقيه. ويُقال إن الاسم مُشتق من كلمة «ردن» الفارسية بمعنى «عرف الطريق». وهناك من يذهب إلى أنه من الكلمة «رادنوس» اللاتينية (نهر الرون). ويختلف الباحثون في أصلهم فيقول البعض إنهم من جنوب فرنسا، بينما يذهب البعض الآخر إلى أنهم أصلاً من العراق. وقد وصف ابن خردازبه في كتابه المسالك والممالك نشاطهم في المجال التجاري، قائلاً إنهم يتكلمون « العربية والفارسية والرومية [اليونانية] والإفرنجية [لغة الفرنجة أي الفرنسية القديمة] والأندلسية [الإسبانية] والصقلية [اللغات السلافية] ». وهم يسافرون من الغرب إلى الشرق براً أو بحراً، من فرنسا إلى السند والهند والصين ثم يعودون حاملين من الصين المسك والعود والكافور. وهم في رحلتهم هذه يسلكون عدة طرق. يجلبون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف. وقد استمر نشاط التجار الراذانية حتى القرن التاسع الميلادي حين سيطرت المدن/الدول الإيطالية على التجارة الدولية.

جماعـة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)

Jewish Financial Functional Group (Usury and Money Lending)

«الجماعة الوظيفية المالية» هي الجماعة التي يضطلع أعضاؤها بوظائف مالية مختلفة مثل الربا وجمع الضرائب. ويُفرِّق علم الاقتصاد الحديث والمؤرخون الاقتصاديون في الغرب بين الربا والإقراض بفائدة. ففي الإطار الربوي يتم الإقراض لسد حاجة أو لدفع ضريبة أو جزية أو لبناء قصر أو كنيسة أو لتجريد حملة عسكرية. والقرض الربوي لا يصبُّ في أية عملية إنتاجيـة، كما أن سـعر الفائـدة يكـون عالياً جداً وغير محدَّد، وغالباً ما يُحدَّد في ضوء مدى حاجة المدين إلى القرض. أما الإقراض بفائدة، فقد عُرِّف بأنه إقراض مبلغ من المال بهدف استثماره في شراء البضائع أو في مشروع صناعي لتحقيق ربح، والقرض هنا يصبُّ في العملية الإنتاجية وعادة ما يتم تحديد نسبة فائدة معقولة. لكن هذه التفرقة لم تكن معروفة أو معمولاً بها في العصور القديمة حتى الثورة الصناعية في الغرب. ولذلك، فسوف نستخدم مصطلح «الربا» للإشارة إلى عملية الإقراض بفائدة أياً كان الهدف وأياً كان سعر الفائدة، خصوصاً وأن الإقراض اليهودي كان في معظمه ربوياً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. وقد ارتبطت صورة اليهودي بشخصية المرابي في العقل الغربي وعَبْر التاريخ الغربي، وهي الصورة التي خلدها شكسبير بشخصية شيلوك في مسرحية تاجر البندقية. وقد فسر المعادونلليهودية اشتغال اليهود بالربا، مثلما فسروا اشتغالهم بالتجارة، على أنه جزء من طبيعتهم الأزلية ونزوعهم الأبدي نحو امتصاص دم الآخرين، في حين فسره المؤرخونالصهاينة بأنه وظيفة فُرضت على اليهود فرضاً باعتبارهم ضحايا أزليين لذئاب الأغيار. وليس لهذين التفسيرين أية علاقة بالواقع المتعيِّن للجماعات اليهودية.

فقد كان العبرانيون، حين ظهروا لأول مرة في التاريخ، بدواً رُحَّلاً لا يتعاملون بالنقود، ولذا لم يكن هناك مجال للإقراض أو الاقتراض. ولم يكن اقتصاد المملكة العبرانية المتحدة متقدماً بما فيه الكفاية ليتطلب السيولة النقدية اللازمة لعمليات الاستثمار أو حتى لشراء السلع التَرفَيِّة، حيث كان الاقتصاد الداخلي بدائياً مبنياً على المقايضة والتبادل. أما الإنشاءات المعمارية التي قامت بها الدولة، فتم تمويلها من خلال التجارة الدولية التي احتكرتها.

واشتغل العبرانيون المُهجَّرون إلى بابل بالزراعة، ولكن أعداداً منهم بدأت تقطن المدينة حيث اشتغلوا بالتجارة الدولية والمحلية، وظهرت بيوتات مالية تجارية ـ مثل بيت موراشو ـ كانت تُقدِّم القروض نظير فوائد. ويبدو أن بعض يهود الإسكندرية اشتغلوا بأعمال الربا، فيَذكُر يوسيفوس أن كبير الموظفين (ألبارخ) الإسكندري أقرض الملك أجريبا مبلغاً من المال. ولكن حالة يهود الإسكندرية كانت الاستثناء وليست القاعدة، ولذا لا نجد حتى القرن الرابع الميلادي أي هجوم على اليهود باعتبارهم مرابين.

ومع القرن السادس الميلادي، بدأ اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا في الإمبراطورية الفرنجية. كما ظهر مرابون يهود في العالم الإسلامي، ولكنهم لم يحتكروا هذه المهنة إذ اشتغل بها أعضاء الأقليات العرْقية والدينية الأخرى كما اشتغل بها بعض أعضاء الأغلبية. ولم تتركز أغلبية اليهود في هذه المهنة بل كانوا يعملون في معظم الحرف والمهن الأخرى. وبدأ تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي في مهنة الربا ابتداءً من القرن العاشر الميلادي. وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة، تُساق عدة أسباب ربما كان أهمها اضطرار اليهود إلى اعتزال التجارة الدولية والمحلية، وظهور المدن/الدول الإيطالية، وحروب الفرنجة، وتشكيل نقابات الحرَفيين. ومن ثم اضطر اليهود إلى تحويل ممتلكاتهم إلى رأسمال سائل يَسهُل حمله، وإلى الاشتغال بأعمال الصيرفة واستبدال العملة ثم الربا. وقد شجعت على هذه العملية عدة أسباب أخرى أهمها:

1 ـ كان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في التشكيل الحضاري الغربي. والجماعة الوسيطة هي التي تضطلع بوظائف (مثل الاتجار والإقراضبالربا) لا يقبل أعضاء المجتمع القيام بها بسبب ارتباطهم بأواصر قرابة أو صداقة أو جيرة تجعل دخولهم في علاقات موضوعية باردة محايدة أمراً عسيراً. ومن هنا كان من المنطقي أن يعمل أعضاء الجماعة اليهودية الوسيطة، الذين يقومون بمهنة التجارة، بالربا حينما تضطرهم الظروف إلى تغيير وظيفتهم.

2 ـ ولعل التنظيم الجامد للمجتمع الإقطاعي الغربي لعب دوراً أساسياً في هذا المضمار، فلم يكن أمام التاجر اليهودي الذي كانت تُغلَق أمامه فرص التجارة بدائل كثيرة مطروحة، إذ لم يكن بمقدوره أن يعمل في الزراعة أو القتال أو في كثير من الحرف الأخرى، خصوصاً بعد تشكيل نقابات الحرفيين التي كانت تُعَد أكثر القطاعات عداء لليهود.

3 ـ تُحرِّم الكنيسة الربا على المسيحيين حيث صدرت عدة قرارات في هذا الشأن. وكان أولها قرار اتُخذ في مجمع نيقيا في عام 325 ثم في مجمع أورليان في عام 538، ولكن هذه القرارات كانت تُحرِّم الربا على رجال الدين لا على جميع المسيحيين، إلى أن صدر قرار شارلمان عام 789. ووصل التحريم قمته في المجمع اللاتراني الثالث عام 1179 حيث شمل التحريم كل المسيحيين ( « إن الذين يجهرون بالربا لا يُقبَلون في العشاء الرباني وإذا ماتوا وهم على إثمهم لا يُدفَنون دفن المسيحيين، وليس لقسيس أن يقبل صلواتهم»). أما اليهودية فلم تُحرِّمه، ولكنها حرَّمت إقراض اليهودي لأخيه اليهودي بالربا، فقد جاء في سفر التثنية (23/19 - 20) « لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يُقرَض بربا للأجنبي. تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها » ومن المعروف أن الجماعات الوظيفية تتبنى مقاييس أخلاقية مزدوجة، مقاييس تنطبق على عضو الجماعة وأخرى تنطبق على أعضاء المجتمع المضيف. ومع هذا، يجب الإشارة إلى أن الفقه الديني اليهودي لم يتقبل بسهولة مسألة الإقراض بربا وقد قال راشي في القرن الحادي عشر الميلادي «إن كل من يقرض أجنبياً بفائدة سيهلك »

وقد أصبح التحريم أقل حدة في القرن الحادى عشر الميلادي عندما أصدر أحد الحاخامات فتوى مفادها أن اليهودي ينبغي عليه ألا يقرض الأغيار بربا، حين يكون بوسعه أن يكسب رزقه بطريقة أخرى. كما أصـدر الحاخـام أليعـازر بن ناثان (من ألمانيـا) فتوى مماثلة جاء فيها: « حينما لا يملك اليهود حقولاً أو كروماً يمكنهم العيش من ريعها، يصبح إقراض المال بربا ضرورياً لكسب رزقهم ومسموحاً به ». وقد جاء في المشناه « بإمكان الإنسان أن يُقرض ويقترض بربا من الكفار ». ولكن وردت إلى جانب ذلك تحفظات بحيث لا تصبح المسألة مطلقة، فأورد التلمود اقتباساً من المزمور 15 الذي جاء فيه « فضته لا يعطيها بالربا »، كما جاء في سفر الأمثال (28/8) ما يبيِّن أن الإقراض بالربا ليس مُحرَّماً ولكنه مع هذا مكروه، ثم ذُكر أن الإقراض بالربا مباح إذا كانت الفائدة ضرورية لحياة الإنسان وليس الهدف منها الحصول على الثروة والترف.

4 ـ تزامنت عملية تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية عن التجارة مع ظهور حاجة ماسة إلى المال السائل اللازم لتجريد حملات حروب الفرنجة ولبناء الكاتدرائيات والكنائس. بل وبدأت تظهر في أوربا، بسبب التحولات الاقتصادية العميقة التي كانت تخوضها آنذاك، حاجة ماسة إلى اقتراض النقود، لا لسـد الحاجة الشـخصية وإنما للاسـتثمار التجاري، أي أن عملية الاقتراض بدأت تصبح مسألة أساسية للنظام الاقتصادي.

وفي القرن الحادي عشر الميلادي، تصاعدت وتيرة تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية عن التجارة واشتغالهم بالربا. وبعد عدة عقود، كان معظم السكان في أوربا المسيحية، في غربها ووسطها، مدينين لليهود الذين أصبحوا مالكين لقرى ومدن بل بعض الأماكن المسيحية المقدَّسة مثل الأضرحة والمزارات. وقد احتكر اليهود عملية الإقراض نظير فائدة عالية بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين، وأصبح الربا هو مصدر حياة معظم يهود أوربا. وأصبحت كلمتا «مرابي» و«يهودي» مترادفتين مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.

وقد مارس المرابون اليهود نشاطهم في إنجلترا مع بداية القرن الحادي عشر الميلادي حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. أما في فرنسا، فقد مارسوا نشاطهم في فترات مختلفة من نهاية القرن الثاني عشر الميلادي حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. واكتسب أعضاء الجماعات اليهودية أهميتهم في ألمانيا، بوصفهم مرابين، من القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن الخامس عشر الميلادي. ثم امتد نشاطهم بعد ذلك إلى بولندا واستمر حتى القرن التاسع عشر الميلادي. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن كل أعضاء الجماعات اليهودية تحولوا عن التجارة، إذ ظل هناك يهود يعملون بها حتى القرن الخامس عشر الميلادي بل وحتى بعد ذلك التاريخ، خصوصاً في الدول السلافية. كما أن من المعروف أن التجارة اليهودية وصلت قمة ازدهارها في القرن السابع عشر الميلادي أيام يهود البلاط.

وقد كُسر احتكار أعضاء الجماعات اليهودية للربا مع ظهور جماعات من المرابين المسيحيين مثل جماعات فرسان المعبد الألمانية، واللومبارد في إيطاليا، والكوهارسين في فرنسا. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها كانت متورطة في عمليات الإقراض بالربا وكانت تلتف حول التحريم الذي أصدرته بأن تقوم بإقراض المال المطلوب للمدين الذي يقدم كضمان قطعة أرض تقوم الكنيسة باستثمارها لحسابها وتستولى على ريعها الذي يشكل الفائدة إلى حين استرداد القرض الأصلي. كما ساندت الكنيسة كثيراً من جماعات المرابين. وقد منح البابا إنوسنت الرابع في عام 1248 لقب «أبناء الكنيسة الرومانية المميَّزين» للمرابين المسيحيين. ومع هذا، كان ارتباط كلمة «المرابي» بكلمة «اليهودي» من القوة حتى أن إحدى القصائد الألمانية تشير إلى «اليهود المسيحيين» أي «المرابين المسـيحيين». وكانت كلمـة «لومبـارد» أيضـاً مرادفة لكلمة «مرابي»، ولذا يُوجَد نص فرنسي (1315) يشير إلى «اللومبارد واليهود والمرابين الآخرين ».

وقد احتدمت المنافسة في بداية الأمر بين أعضاء الجماعات اليهودية من جهة، واللومبارد والكوهارسين من جهة أخرى. فهؤلاء المرابون كانوا يشغلون المكانة نفسها ويضطلعون بالوظيفة نفسها ويتمتعون بالمزايا نفسها وتنزل بهم الكوارث نفسها، فقامت صراعات بينهم لهذا السبب. وحينما اضطهد هنري الثالث ملك إنجلترا الكوهارسين في عام 1251 وزج ببعضهم في السجن (وفرَّ البعض الآخر)، عم الفرح أعضاء الجماعة اليهودية. ولكن بعد عامين، حينما قام لويس التاسع بطرد اليهود، استولى الكوهارسين على بيوتهم وممتلكاتهم بحماس غير عادي.

وكانت المواثيق تعامل أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم من المرابين على قدم المساواة، وكانوا أحياناً يُطرَدون جميعاً كما حدث عام 1427 في برن (سويسرا).

ومع ذلك لم يقوَ المرابون اليهود على الاستمرار في المنافسة، إذ تمتَّع المرابون المسيحيون بمساندة حكوماتهم التي كانوا يوفرون لها قدراً كبيراً من الأمن اللازم للعمليات المالية. ولكن الأهم من هذا أن جـماعات اللومـبارد أو الكوهارسين كانت لديهم شبكة اتصال ضخمة، وكان بوسعهم تدبير قروض ضخمة لم يكن بمقدور اليهود تدبيرها. ومع تراجع الكنيسة باعتبارها أحد المنافسين، وتأييدها اللومبارد وغيرهم، ومع تزايد ابتزاز الأمراء لأقنان البلاط، أي المرابين اليهود، سقط الربا اليهودي مع نهاية العصور الوسطى ولم تعد لرأس المال اليهودي أهمية كبرى، كما لم يعـد هناك رأسـمال يهودي ضـخم عند وقوع الثورة التجارية.

وبينما كان المرابي اليهودي في البداية يُقرض الملوك والأباطرة ثم كبار النبلاء الإقطاعيين، فإنه راح يُقرض صغار النبلاء والفرسان ثم بعد ذلك الحرفيين والفلاحين والفقراء. وبدلاً من وجوده بجوار الطبقة الحاكمة، انسحب إلى الهامش حيث لم يَعُد اليهود يشكلون الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة. وهبط اليهودي من مرتبة الصيرفي إلى المرابي الذي يُقرض مبالغ صغيرة لمدة قصيرة بفائدة عالية وبضمان رهونات بسيطة مثل درع أو قطعة حلي أو بعض الملابس. ولعل ماحدث في مدينة ريجنزبرج في ألمانيا مثل جيد على هذا التدهور التدريجي التاريخي، فحتى عام 1250 كانت بلدية المدينة هي أهم مدين لليهود، وحتى عام 1400 كان أهم المدينين هم النبلاء ورجال الدين. أما بعد ذلك التاريخ، فقد احتل الفرسان ومواطنو المدن والحرفيون هذا المكان. وفي القرن الثالث عشر الميلادي، كان القرويون في جنوب فرنسا يُشكلون 65% من المقترضين حيث اقترضوا 43% من المبالغ، وكان سكان المدينة يشكلون 30% من عملاء المرابين اليهود حيث اقترضوا 41%، وكان الفرسان والنبلاء يمثلون 2% واقترضوا 9%، ورجال الدين 1% واقترضوا 5%. ولم يكن النمط مختلفاً في إنجلترا، حيث تخصص المرابي اليهودي في إقراض الطبقات الفقيرة التي يقترض أعضاؤها أموالاً ثم يجدون بعد ذلك في الغالب صعوبة بالغة في تسديد الديون.

وقد امتد نشاط المرابي اليهودي إلى بني جلدته على عكس تصورات المعادين لليهود. ولكن الإقراض في هذه الحالة كان يأخذ شكلاً خاصاً حتى يتم التحايل على أشكال التحريمات الدينية الخاصة بعدم إقراض اليهودي بالربا. فكان المرابي يصبح شريكاً موصياً أو شريكاً يشترك بالمال لا بالعمل وينال نصيباً من الربح إذا كسبت التجارة، ولا يخسر شيئاً من ماله إذا لم يربح، وهذا هو ما تفعله بعض البنوك الإسرائيلية الآن لتتمكن من إقراض الإسرائيليين دون الإخلال بالقواعد الدينية.

وكان المرابي يلعب دوراً اقتصادياً أساسياً في المجتمع الغربي، فإن أراد الأمير الإقطاعي تزويج ابنته أو تجريد حملة في حروب الفرنجة أو تعمير أرض جديدة، أوأزمعت دار البلدية بناء كنيسة أوكاتدرائية، أو واجه أعضاء الطبقات الفقيرة مصاعب شخصية فجائية، في كل هذه الحالات كان المرابي هو الذي يزود المجتمع بالأموالالسائلة التي يحتاج إليها والتي تضمن استمراره. وعلى سبيل المثال، ساعد هارون (من لنكولن في إنجلترا) في القرن الثاني عشر الميلادي في بناء ما لا يقل عن تسعكاتدرائيات. كما موَّل المرابون اليهود بعض حملات حروب الفرنجة.

والربا اليهودي، شأنه شأن التجارة اليهودية، كان عملية هامشية غير منتجة. فالمرابي برغم أهميته لا يلعب دوراً متعيِّناً واضحاً في العملية الإنتاجية، إذ إن أساس فائضالقيمة في النظام الإقطاعي هو نمط الإنتاج الإقطاعي ذاته الذي ينتج قيمة استهلاكية وحسب دون الاهتمام بالقيمة التبادلية. وكان الأمير الإقطاعي والفلاح يشتركان فيالإنتاج، أما المرابي فيظل خارج العملية أو على هامشها. ومن هنا، فإن الإقراض الربوي، شأنه شأن التجارة البدائية، لا يلعب دوراً في العملية الإنتاجية لأنه إقراض من أجل الاستهلاك أو نشاطات أخرى تقع خارج نطاق العملية الإنتاجية، على عكس الإقراض الرأسمالي الذي يُوظَّف في العملية الإنتاجية ذاتها. بل إن الإقراض هو أحد أسس عملية الإنتاج الرأسمالي. ولا شك في أن هذه الهامشية جعلت عناصر المجتمع تنظر إلى اليهودي على أنه شخصية طفيلية لا تبدع ولا تنتج، ولكنها تستولي على عائد الإنتاج. بل كان البعض يرون أن الربا، مثله مثل التجارة البدائية، يُعَدُّ شكلاً من أشكال السحر، إذ ينتج المرابي الثروة عن طريق تحريك أمواله لا عن طريق أي جهد إبداعي متعيِّن.

لكن المرابي اليهودي لم يكن سوى أداة في عملية اقتصادية ضخمة إذ كان يَعُدُّ من أقنان البلاط، أي ملكية خاصة للملك يبيعهم متى شاء. وكانت أموال المرابي تئول إلى الملك من الناحية القانونية، ولكنه كان من الناحيـة الفعـليـة يتركهـا لأولاد المرابي حـتى يســتمروا في وظيفتهم. وكان الأمير أو الملك يبيع لليهود المواثيق التي تحميهم، وتحدد حقوقهم وتؤكدها، وتضمن لهم الأمن اللازم للاستمرار في العمليات المالية. وهذه حقوق لم يكن يتمتع بمثلها سكان المدن أو عامة الشعب. وكانت عملية بيع المواثيق هذه تضمن أن تصب ثمرة العملية الربوية بأسرها في خزانة الملك الذي كان يُسمَّى «شيخ المرابين». أما اليهود فلم يكونوا سوى الوسيط الذي يلعب دور الإسفنجة، فهم يمتصون ثروة الشعب التي يعتصرها الحاكم فيما بعد عن طريق منح المواثيق لأعضاء الجماعة اليهودية وفرض الضرائب علىهم. وقد كان اليهود أكبر مصدر دخل للملك في إنجلترا، حيث كانوا يشكلون حوالي 12% من كل مصادر دخله. وفي بعض الإمارات المسيحية، في إسبانيا مثلاً، كانوا يشكلون نسبة أكبر من ذلك.

وقد اضطر أعضاء الجماعات اليهودية إلى الاعتماد الكامل على الملك أو الأمير الإقطاعي لحمايتهم من غضب الجماهير وفتكها، وكان هو بدوره يفضلهم في مرحلة منالمراحل على غيرهم من المرابين نظراً لعجزهم وانفصالهم عن المجتمع ولعدم وجود قاعدة بشرية تدعمهم وتساندهم، وهو ما جعل منهم جماعة وظيفية وسيطة مثالية. وهنا لابد من الإشارة إلى أننا نميِّز بين الجماعة الوظيفية الوسيطة والجماعة الوظيفية الوسيطة العميلة. فالجماعة الوسيطة، رغم قربها من الطبقة الحاكمة، تؤدي خدمة لكل طبقات المجتمع. أما الجماعة العميلة، فهي أداة في يد الحاكم يستخدمها لصالحه ضد بقية طبقات المجتمع. وعلى هذا، كان التاجر اليهودي وسيطاً، أما المرابي اليهودي فكان عميلاً.

ولكل هذا، كان الملك يبذل قصارى جهده ليمنع المرابين من اعتناق المسيحية إذ أن هذا يشكل إضعافاً وتبديداً للأداة التي يستخدمها. وكان المرابي الذي يَتنصَّر يفقد كل ثروته التي كانت تئول إلى العرش، لأنه لا يحق له أن يتمتع بثمرة الرذيلة (أو هكذا كان التبرير والادعاء). كما كان الملك يمنع اليهود من العمل في أي وظيفة أخرى، وكانت المواثيق التي تُمنَح لهم تمنع المسيحيين من الاشتغال بالربا. وقد طُرد طبيب ألماني مسيحي من مدينته لأنه تعدى على الحقوق والاختصاصات التجارية والمالية لليهود بأن اسثمر أمواله في الربا من خلال صديق يهودي له. وكان الملك يلجأ عند عجزه عن تسديد ديونه، إلى منح المرابي اليهودي حق جَمْع الضرائب من الفلاحين. ولكنه كان يلقي بالمرابي اليهودي إلى الجماهير الغاضبة، كبشاً للفداء، إذا ما ثبت أنه يكلف أكثر مما يفيد. ولعل هذا هو السبب في أن أعضاء الجماعات اليهودية لميراكموا قط رأسمالاً كافياً ولم يتحولوا قط إلى طبقة حاكمة، بل كانوا يعملون دائماً من خلال السلطة الحاكمة وفي خدمتها.

ورغم أن المرابي اليهودي كان مجرد أداة، إلا أنه أصبح محط كراهية معظم أعضاء المجتمع وطبقاته، بما في ذلك المستفيدون منه. فقد كانوا يرون الربا شراً لابد منه، ولكنه شر أكيد، حيث تُعَدُّ كراهية المرابي أمراً متأصلاً في المجتمعات البشرية. وكان لفظ «سكتور sector» يُطلَق على كل من المرابي والقاتل في الإمبراطورية الرومانية. وربما يُعزَى توجيه تهمة الدم لليهود والقول بأنهم يطبخون عجين عيد الفصح بدم طفل مسيحي إلى اشتغالهم بمهنة الربا، فهم يمتصون دم ضحاياهم مجازاً. وليس من الصعب على الوجدان الشعبي أن يضع ما هو مجازي مقام الحقيقة الواقعة.

وثمة أسباب متباينة جعلت المرابي اليهودي محط كراهية شديدة من كثير من الطبقات. فبالنسبة للطبقات الفقيرة، كان المرابي هو أداة الاستغلال المباشرة حيث كان يحتك بهم بشكل دائم، فضلاً عن أنهم كثيراً ما كانوا يخفقون في تسديد ديونهم فيفقدون مصدر رزقهم ذاته سواء كان هذا المصدر قطعة الأرض أو الآلات التي يعملون بها أو ملابسهم ذاتها. أما كبار النبلاء، فكانوا يرون في اليهودي قوة مالية ضخمة تساند الملك في صراعه معهم، كما أن المرابي اليهودي كان يعوق محاولتهم الاستيلاء على أراضي صغار البارونات الذين كان المرابي اليهودي يقرضهم فيحققون البقاء والاستمرار. وكان سكان المدن يرون في المرابي اليهودي غريماً لهم، وأداة في يد الحاكم الإقطاعي يستخدمها لقمعهم ولإعاقة تطورهم، خصوصاً أنه كان يتمتع بمزايا لا يتمتعون بها. ثم كان هناك عداء الكنيسة لهم، وهو عداء له بطبيعة الحال جذوره الدينية العقائدية وإن كان قد اكتسب بعداً اقتصادياً أيضاً لأن الكنيسة كما أسلفنا كانت تقوم هي ذاتها بالإقراض وتساند جماعات من المرابين.

ومن أكبر مصادر الكراهية، ارتفاع سعر الفائدة عن معدلها المفترض وهو 12.5%. لكن المرابي لم يكن يتمتع في العصور الوسطى بضمانات كافية، بل كان معرضاً باستمرار لخسارة أمواله وفقدان حياته. كما لم يكن في مقدور المرابين على الدوام أن يلزموا مدينيهم بالوفاء بالتزاماتهم عن طريق الالتجاء إلى القانون، فكانوا دائماً مهدَّدين بالطرد. ويضاف إلى ذلك أن القانون المسيحي في العصور الوسطى، بتحريمه الربا، قد اضطر المرابين إلى ابتداع حيل قانونية عديدة من بينها وجود وسيط بين الدائن والمدين، الأمر الذي كان يؤدي إلى زيادة سعر الفائدة. فوصلت الفائدة في إنجلترا إلى ما بين 43 و86% وفي النمسا (في عام 1244) إلى 173% وفي بروفانس (فرنسا) إلى 300%. ومن الصعب على من يقترض بمثل هذه الفائدة أن يسدد ديونه. ولذا، كانت عملية الإقراض والتسديد تنتهي بتوجيه تهمة السرقة إلى المرابي، وهي كذلك بشكل من الأشكال. ومما كان يدعم شكوك الناس في المرابي أن المواثيق التي كانت تُمنَح للمرابين اليهود تجعل من حقهم الاستيلاء على الأشياء المرهونة حين يعجز أصحابها عن تسديد القرض والتصرف فيها حتى لو اكتُشف أنها مسروقة، وكان هذا يتناقض مع القانون والأعراف الألمانية. ومن هنا، تصورت الجماهير أن المواثيق التي تُمنح لليهود تحابيهم وأنها بمنزلة ستار لتغطية عمليات السرقة الفعلية.

وكان اليهودي يسقط ضحية الثورات الشعبية لأنه قريب ومتاح ومباح باعتباره عضواً في جماعة وظيفية، على خلاف الملك الموجود في قصره خلف حراسه، والذي يشكل الهجوم عليه لا مجرد مظاهرة شعبية وإنما ثورة هائلة. ويُلاحَظ في الهجمات الشعبية على المرابين أنها لم تستهدفهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم مرابين. ومن هنا كانت الجماهير لا تميِّز بين اليهود أو اللومبارد والكوهارسين أو غيرهم من المرابين مثل أعضاء العصبة الهانسية في إنجلترا (حوالي عام 1381). وحينما كانت الجماهير تطلب طرد المرابين، فإنها لم تكن تخص المرابين اليهود وحدهم بهذا الطلب بل كان يتم طرد وملاحقة كل المرابين. وحينما كان المرابون اليهود يُطردون « إلى الأبد » من مدينة أو مقاطعة ويحل محلهم مرابون لومبارد أو كوهارسين، كانت الجماهير تكتشف أن المرابين الجدد ليسوا أفضل من اليهود الأشرار. بل تذكر المصادر أن متوسط معدل الفائدة الذي كان يتقاضاه اليهود كان أقل في العادة من المعدل الذي كان يتقاضاه اللومبارد والكوهارسين، ربما بسبب ضعف مركزهم. ولكن هناك حالات، كما حدث في بوهيميا في نهاية القرن الخامس عشر، تقاضى فيها اليهود ضعف معدل الفائدة الذي كان يتقاضاه المرابي غير اليهودي، وذلك حتى يمكنهم تسديد الضرائبالمفروضة عليهم. وكثيراً ما كانت المدن التي تطرد اليهود تطلب عودتهم من جديد، وترحب بهم، وتعتبرهم منقذين، لتقوم بطردهم مرة أخرى بعد فترة. وفي الفترة من 1300 إلى 1500 طُرد اليهود مائة وخمسين مرة من أماكن في جنوب ووسط أوربا، ولكن ورغم ذلك، لم تخل هذه المنطقة منهم في أية لحظة تاريخية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا