بديع الزمان سعيد النورسي 4

القسم الثاني

دراسة تحليلية موجزة لرسائل النور

ملحوظة:

نود أن نذكر القارئ الكريم آن هذه الدراسة وان كانت موجزة ومقتضبة، إلاّ أنها تعطيه فكرة عامة واضحة عن بعض جوانب رسائل النور، ذلك ما استطعنا، ونرجو أن نوفق في جعل كل موضوع من موضوعاتها ما يستحق أن يكون مادة دراسة مستفيضة وكاملة إن شاء الله.

الأستاذ قبيل كتابة الرسائل:

يصف الأستاذ سعيد النورسي حالته الروحية أثناء وجوده في استانبول قائلاً:

)هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس )سعيد القديم( الغافل، ففكّر في قضية أن )الموت حق(. ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر واخذ كتاب )فتوح الغيب( للشيخ عبد القادر الكيلاني [1] رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، ووجد أمامه العبارة الآتية:

أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك..يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في )دار الحكمة الإسلامية( وكأنما جئت إليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال أنني كنت أشد مرضاً وأحوج إلى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.

نعم، هكذا خاطبني الشيخ: أنت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!..

قلت: كن أنت طبيبي أيها الشيخ!

وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم أتحمل، ولم أطق على تحمله.. لأني كـنت اعتبر كـلامه موجهاً إلي.

نعم، هكذا قرأته إلى ما يقارب نصفه.. لم أستطع إتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم أحسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة.. عدت إليه، وأتممت قراءة كتاب )أستاذي الأول(. واستفدت منه فوائد جليلة، وأمضيت معه ساعات طويلة أصغي إلى أوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.

ثم وجدت كتاب )مكتوبات( للإمام الفاروقي السرهندي [2]، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة )ميرزا بديع الزمان( فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبى )ميرزا( وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله.. إن هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير )الهمداني( الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد أن يكون هناك أحد غيره قد عاصر الإمام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد أن حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلك الرسالتين.. والإمام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل أخرى أن:

)وحّد القبلة( أي: اتبع إماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!

لم توافق هذه الوصية - آنذاك - استعدادي وأحوالي الروحية.. وأخذت أفكر ملياً: أيهما اتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، إذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم استطع أن اكتفي بواحد منهما.

وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة..إذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:

- إن بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو )القرآن الكريم( فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلاّ في القرآن الكريم.. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا أن نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـ)الكلمات( والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) إذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية.( [3]

كيف كانت تكتب الرسائل؟

لم يكن هناك أيّ مصدر عند المؤلف سوى القرآن الكريم، فكان يستلهم من الآية الكريمة معانيها، ويعيش حالات قلبية وروحية خالصة في أجوائها، فيملي على المختصين بالكتابة من الطلبة بسرعة فائقة ما يفتح الله عليه، وما يرد على قلبه من معاني الآية الكريمة، ولم يكن لتلك السنوحات والفتوحات القلبية من وقت معيّن ولا مكان معيّن. لذا فقد أحاط به طلبته ليل نهار، ولم يترك أيّ فتح رباني يفتح على قلبه أو أية خاطرة إلاّ ويمليها عليهم فيسجلونها، فضلاً عن انه قد كتب بعض رسائله بنفسه ولاسيما في السجون.

ولنستمع إلى أحد طلبته المختصين، وأول كتّاب رسائل النور:-

)كنا نذهب مع الأستاذ إلى أماكن خالية. كان يجلس في مكان وينظر إلى نقطة معينة، وكان يملي عليّ بسرعة، وكنت اكتب بسرعة أيضاً، فكان يشير إليّ: أن اكتب، ولا يحول نظره من تلك النقطة التي ركز عليها أولاً ثم يقول: قف.. ثم يدعوني إلى الكتابة مرة أخرى، فهناك رسائل كتبناها في ساعة واحدة وبعضها في ساعتين، فأنا اقسم أنني كنت اقضي يوماً أو يومين في استنساخ رسالة قد كتبناها في ساعة أو ساعتين(. [4]

ومثل ذلك انه أملى رسالة الحشر وهو يغدو ويروح ذهاباً وإياباً على ضفاف بحيرة )بارلا( ويردد أربعين مرة:

(فَانّظُرْ إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كيفَ يُحيى الاَرضَ بعدَ مَوتِهَا اِنَّ ذَلكَ لَمُحيى الموتى وهُوَ على كُلّ شئٍ قَديرٌ) (الروم: 50)

وهي رسالة قيمة جداً إذ تثبت الحشر بأدلة فطرية يستسيغها كل إنسان ويقنع بها.

أما رسالة )المعجزات الأحمدية( فقد أملاها على بعض طلبته خلال ثلاثة أو أربعة أيام وفي شعب الجبال والبساتين وبمعدل ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً، فكانت حصيلة ذلك )ثلاثمائة ونيف( من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذكر ما فيها من نقول وروايات، كل ذلك دونما مراجعة إلى مصدر. [5]

لذا كان الأستاذ يعتبر الرسالة هبة ربانية وإنعاماً إلهياً وإحساناً وفضلاً منه سبحانه ليس إلاّ. إذ لم يكن حظه من التأليف إلاّ الوقوف أمام الآية الكريمة بتوسل وتضرع إلى العلي القدير وطلب المدد منه أن يفتح الله عليه، فما أن ينشرح قلبه لأمر حتى يمليه فوراً وبسرعة يكاد الكتّاب لا يلحقون به. ولهذا أكّد الأستاذ كثيراً بعدم ربط الرسائل بشخصه فيحطون من قيمتها. إذ الإنسان له أخطاء وله عيوب قد سترها الله حيث يقول:

) ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لا يفي بغرضهم. فلابد إذن إلاّ ترتبط الرسائل المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضع اعتراضات كثيرة، ونقدٍ كثير.( [6]

وما اجمل تشبيه نفسه والرسائل كي يفهم القارئ أن الرسائل اللطيفة هذه ليست ملكه، إذ يقول:

)لا تبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة، فأنا كتلك الساق اليابسة لتلك الأعناب اللذيذة.. ولو بلغ صوتي إلى أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما أوتيت من قوة: إن (الكلمات) جميلة رائعة وإنها حقائق وإنها ليست مني وإنما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم أجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي.

وما مدحت القرآن بكلماتي ولكن مدحت كلماتي بالقرآن([7]

وفي النص الآتي دليل آخر نضيفه إلى هذا الموضوع:

)في هذا الوقت الذي يبدو في الظاهر انحسار وتقهقر تلك المشارب والمسالك الحقة القوية جداً - والتي ينضوي تحت لوائها الملايين من المؤمنين المستعدين لكل تضحية - أمام الهجوم العنيف لهذه الضلالة. تحملت رسالة النور جميع تلك الهجمات، وحملت على عاتقها الأعباء كافة فشقّت طريقها سابقة الجميع في طريق الإيمان. لذا، لا يمكن أن تُسند هذه الرسائل إلى رجل عاجز نصف أمي قضى حياته بين المنفى والسجن وتحت رقابة سلطات الدولة، وقيامها بتنفير الناس من حوله بالدعايات المغرضة. فمثل هذا الرجل لا يمكن أن يكون مالكاً لها. ولا يمكن أن يفتخر بها أو يدّعيها، فهي ليست نابعة من ذكائه ومهارته، بل هي معجزة من معجزات القرآن الكريم لهذا الزمن وهبتها الرحمة الإلهية، وكل ما في الأمر أن هذا الرجل وآلافاً من أصدقائه قد مدوا أيديهم إلى تلك الهدية الغالية النفيسة، فوقع الخيار عليه في بيانها.

والدليل على أن الرسائل ليست من بنات أفكاره أن هناك من الرسائل ما قد كُتبت في ست ساعات وأخرى في ساعتين، وبعضها في ساعة واحدة وأخرى في عشر دقائق.

فأنا اقسم انه لو كان لي حدّة ذكاء سعيد القديم وقوة حافظته لما تمكنت أن اكتب في عشر ساعات ما كُتب آنذاك في عشر دقائق ولا يمكنني أن اكتب في يومين ما كتب في ساعة.

فالرسالة التي تبحث في ماهية )أنا( (الذات الإنسانية)، والتي كتبت في ست ساعات لا يمكن أن تكتب لا من قبلي ولا من قبل الفلاسفة والعباقرة الباحثين، في ستة أيام. وهكذا.

فنحن إذن مع أننا مفلسون ليس لنا شئ. إلاّ أننا أصبحنا خداماً ودلالين في معرض أغلى المجوهرات. نسأل المولى الكريم أن يوفقنا وجميع طلاب رسائل النور - بفضله وكرمه - في هذه الخدمة بإخلاص تام. آمين(. [8]

ما رسائل النور ؟

أن الذي يراقب سلوك طالب النور عن كثب، ليعجب كل العجب من صلته الوثيقة بـ)رسائل النور( ذلك لأنه لا يكاد يغادرها أو يفارقها مطلقاً آناء الليل وأطراف النهار.

إلاّ أن هذا العجب يزول حينما يعلم يقيناً، أن: )رسائل النور( ليست رسائل اعتيادية لشرح مفاهيم الإسلام فحسب، وإنما هي (تفسير قيّم للقرآن الكريم) بل هي تفسير يتصف بعدة خصائص معينة ومهمة جداً، قد لا نجدها مجتمعة هكذا في غيرها من التفاسير وبالأخص في عصرنا هذا. فما هذه الخصائص البارزة التي تتصف بها رسائل النور حتى جعلتها بحق تفسيراً للقرآن الكريم، يخص هذا العصر؟

وما تلك الصفات التي تحلّى بها مؤلف هذه الرسائل الأستاذ النورسي )رحمه الله( بحيث أهّلته ليكون مفسراً للقرآن حقاً، وان يتولى مهمة الريادة والإمامة؟

يجيب عن هذه الأسئلة طالب النور الأمثل )زبير كوندوز آلب( في محاضرته التي ألقاها في جامعة أنقرة سنة 1950، نقتبس منها ونفصل بعض فقراتها، وعندها ندرك تماماً سر هذا الالتفاف الشديد حول رسائل النور من قبل )طلبة النور(.

من خصائص رسائل النور [9]

أولاً: أستاذية القرآن الكريم:

أن القرآن الكريم كان هو وحده الأستاذ والمرشد للمؤلف دائماً، فلم يغادره إلى أي كتاب آخر، ولم يتخذ غيره مصدراً، ولم يسترشد دونه مرشداً. وهذا ما شوهد منه طوال حياته في التأليف؛ حيث لم تكن لديه ثمة مكتبة، ولا حتى أي مصدر يعتمد عليه أو يرجع إليه.

ثانياً: إبراز القرآن بصفائه الكامل:

آ) أن القرآن الكريم هو كتاب الله الأقدس، وهو يضم بين دفتيه حقائق جميع العلوم، لذا فان المفسر يجب أن يكون علاّمة حقاً ومتخصصاً في كل علم من العلوم، سواء اللغوية أو الشرعية أو العلوم الكونية، وله فكر واسع، واطلاع شامل، ونظر ثاقب، وإخلاص تام، ودهاء سام، واجتهاد عميق نافذ، وله من القوة القدسية والعناية الربانية نصيب وافر. كل ذلك حتى يتمكن من أن يوضح تلك الحقائق على نصاعتها، ويكشف عن تلك المعاني الواسعة العميقة على حقيقتها؛ وإلاّ فسيبقى بعض الحقائق مستورة وغير واضحة.

ب) لا ينبغي أن يبقى المفسر تحت تأثير أذواقه الشخصية، ولا يخلط نهجه واجتهاداته الشخصية بتفسيره، وذلك لكي تبقى الحقيقة صافية نقية لا شائبة فيها، ومصونة من أهواء المؤلف.

فهذه الخصيصة أي (إبراز حقائق القرآن بصفائها الكامل) هي ما نراها في الرسائل وفي حياة الأستاذ - رحمه الله - فلقد اخذ عن جدارة فائقة بناصية العلوم كافة في زمانه حتى لقّب بـ)بديع الزمان(، إذ وهب ذكاءاً خارقاً، وعقلاً نيراً وعناية ربانية واضحة في حياته، فضلاً عن انه حرص في الرسائل على إبراز صفاء الحقائق القرآنية، فلم تختلط فيها الأهواء والرغبات لما رزقه الله من الإخلاص التام والمراقبة الشديدة لمداخل النفس، لذا لا ترى الرسائل ذات صبغة معينة، وإنما صبغتها القرآن والقرآن وحده.

ثالثاً: تجرد المفسر:

أي انه لا يبتغي من وراء عمله سوى رضاء الله سبحانه من دون أن يتحول نظره إلى أي غرض كان من الأغراض الدنيوية سواءً المادية أو المعنوية، لئلا يخالف الآية الكريمة ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً. فكل ثمن دون مرضاة الله قليل. فهذه الحالة من الإخلاص التام الأتم لابد أن تكون ظاهرة واضحة في واقع حياة المفسر نفسه؛ ولاشك أن سيرة حياة الأستاذ نفسها، نموذج رائع لهذا الإخلاص.

رابعاً: جدة القرآن ومخاطبته الطبقات كافة:

آ) أن احتفاظ القرآن الكريم بجدته وطراوته ونضارته وفتوته هو إحدى معجزاته الكبرى، إذ إن للقرآن الحكيم )وجهاً( لكل عصر يتوجه إليه لسدّ حاجات ذلك العصر، حتى لكأنه قد انـزل لذلك العصر بالذات وهو كذلك. لذا فان التفسير الأمثل لهذا العصر هو الذي يكشف ذلك الوجه المتوجه المطل على عصرنا هذا للقرآن الكريم والذي يسوق البراهين المثبتة لسدّ حاجات العصر.

ب) ولابد - كذلك - أن يخاطب الطبقات البشرية كافة إبتداءاً من العوام وانتهاءاً بالخواص بأسلوب سهل وشائق. إذ القرآن الكريم لم ينـزل لطبقة دون أخرى، ولا لمدارك أناس دون آخرين، فلابد أن يتصف تفسيره كذلك بهذه الصفة بحيث يمكن أن يستفيد منه الإنسان أياً كان مستواه، وان يسدّ حاجة أهم مشكلات عصره وإلاّ يبقى التفسير مقصوراً على فئة معينة ويحرم منه الآخرون.

فلعل اتصاف رسائل النور بهذه الخصيصة هو من أوضح صفاتها بحيث نرى أنها تخاطب المستويات كافة والمتحلقة حولها، فكل الناس - دون استثناء - يغترفون من منهلها القرآني العذب، وكل الناس يجدون فيها حاجتهم وبغيتهم - بلا صعوبة - سواءً في ذلك الصغير والكبير والأمي والعالم والرجل والمرأة.. الخ

خامساً: الإيجابية في الإثبات:

أن الدلائل والبراهين التي يسوقها المفسر ويفهّمها ويدرّسها في إثبات حقائق الإيمان والقرآن؛ لابد أن تكون دلائل قوية، وبراهين دامغة بحيث لا يمكن أن تجرح أو تفنّد أبداً. لذا فلا حاجة للركون إلى النظريات أو الآراء العلمية التي تتبدل بتبدل الأزمان أو يفهمها قوم دون قوم؛ بل لا يترك موضوعاً دون أدلة ثبوتية راسخة. فالمفسر إذن يتخذ لنفسه قاعدة ( الإثبات) فتلك هي المحاكم التي زادت على )الألف( - ورسائل النور مظان الهجوم الهادف من قبل الأعداء كلهم - لم تتمكن ولو مرة واحدة، من أن تجد ثغرة أو ثلمة - صغيرة أو كبيرة - في تلك الدلائل القوية الباهرة أبداً.

سادساً: مخاطبة جميع لطائف الإنسان:

كما أن القرآن يخاطب )العقل والروح والوجدان والنفس( معاً بحيث يطمئن كلاً منها ويغذيها ويعطيها نصيبها الوافر منه بسهولة بالغة. كذلك ينبغي أن يكون تفسيره أيضاً بليغاً جداً ونافذاً في الأعماق؛ بحيث ينير العقل والقلب والروح والوجدان والنفس وغيرها، ويسكب الطمأنينة في كل منها ويكون قوياً ومؤثراً إلى درجة بحيث يمسك بزمام النفس الأمارة بالسوء ويسخرها، لا.. بل يلزم الشيطان إلزاماً. وهذا هو ما يجده بالضبط قارئ الرسائل من إشباع وارتواء لجميع أقطار النفس والروح والعقل والفطرة والوجدان وغيرها من اللطائف الربانية في الإنسان، مع إلزام صارم للشيطان وطردٍ لهمزاته وحفظ للنفس من وساوسه.

سابعاً: تقويم السلوك:

أن القرآن الكريم قد حوّل - كما نعلم - مجتمعاً كاملاً إلى مجتمع جديد، وأنقذ كل إنسان من الأنانية والعجب وغيرهما من الصفات التي تحول دون إدراك الحقائق، ورسّخ بدلاً منها خصالاً سامية حميدة كالتواضع والتضحية وغيرهما.

لذا لابد أن يكون تفسيره - وكذلك المفسر نفسه - مغيراً لسلوك الفرد ومقوماً بل منقذاً له من تلك الصفات الهابطة. هذا وما واقع طالب النور- الذي يعيش في ذلك المجتمع - وقد تطهر من لوثات الضلالة والنفاق لشدة ارتباطه اليومي بالرسائل إلاّ دليل عملي على تأثير الرسائل في تقويم السلوك.

ثامناً: اتباع السنة النبوية الشريفة:

أن اتباع السنة النبوية الشريفة قولاً وعملاً، هو الطريق الأقوم للوصول إلى روح المعاني السامية للقرآن الكريم وبغيرها لا يمكن الوصول إليها بصواب وسلامة. لذلك فان اتباع السنة الشريفة - ضمن مذهب أهل السنة والجماعة - لهو الأساس للمفسر الذي يقوم بالتفسير. فلا بد أن يكون إذن؛ عاملاً بعلمه، وعظيم التقوى، وعظيم الزهد، وعظيم الإخلاص، وعظيم الثبات في خدمة الدين، وعظيم الصدق، وعظيم الوفاء والتضحية، مع اقتصاد وقناعة عظيمين.

وخلاصة القول:

أن يكون المفسر - برسائله القرآنية - أهلاً لنفحات العبودية الخالصة، والتقوى العظيمة، والقوة القدسية الربانية لأنوار الرسالة النبوية؛ حتى يصبح أهلاً بحق لأن يطلق عليه صفة (خادم القرآن).

وظاهر أن جميع طلاب النور وجميع الذين شاهدوا الأستاذ وعاشروه يشهدون باتصافه بتلك الصفات النبيلة، بل حتى الأعداء الألدّاء لم يتمكن أحد منهم أن ينال من خصاله الحميدة شيئاً. فهو لذلك قد حاز حقاً على شرف لقب )خادم القرآن( باستحقاق وامتياز.

تاسعاً: الاستعلاء على الضغوط والصعاب:

أن على المفسر الذي يوضح المسائل القرآنية أو الشرعية إلاّ يبقى تحت أيّ نوع من أنواع الضغط أو التأثير من أي جهة كانت، فليس له - مثلاً - أن يفتي تحت تأثير تلك الضغوط بفتوى. وإنما عليه أن يستهين بالموت، وان يمتلك قوة وصلابة إيمانية وشجاعة إسلامية بحيث يتمكن وحده أن يتحدى العالم بأسره دون تردد أو إحجام.

نعم، إن الذي ينشر رسائله القرآنية في فترة عصيبة جداً، وأحكام الإعدام تنفذ بالجملة، بل ترمي إلى إزالة القرآن الكريم وإطفاء نوره وتحظر حتى نشر أية رسالة كانت حول الدين وقضاياه.. نعم، أن الذي ينشر رسائله في مثل هذه الظروف وفي هذه الفترة بالذات لهو حقاً: مرشد فذّ.. ومفسر عظيم مرموق.. ورائد مقدام كامل للإسلام، وهكذا كان واقع أستاذنا سعيد النورسي رحمه الله.

لقد وصف الأستاذ الرسائل بقوله:

)أن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس وحقيقة ملهمة من كنـز علم الحقيقة ،وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته.( [10]

وإذا قيل: كيف تعدّ رسائل النور تفسيراً للقرآن الكريم مع أنها لا تشبه التفاسير المتداولة ؟ فالجواب:

)التفسير نوعان:

الأول: التفاسير المعروفة التي تبين وتوضح وتثبت معاني عبارات القرآن الكريم وجمله وكلماته.

القسم الثاني من التفسير: هو إيضاح وبيان واثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، إثباتاً مدعماً بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة. ولهذا القسم أهمية كبيرة جداً.

أما التفاسير المعروفة والمتداولة فإنها تتناول هذا النوع الأخير من التفسير تناولا مجملاً أحياناً. إلاّ أن رسائل النور اتخذت هذا القسم أساساً لها مباشرة. فهي تفسير معنوي للقرآن الكريم بحيث تلزم أعتى الفلاسفة وتسكتهم. ([11]

ويعيد المؤلف هذا المعنى دائماً إلى الأذهان من أن رسائل النور تفسير للمعاني المعجزة التي أتى بها القرآن الحكيم:

) أن رسائل النور ليست طريقة صوفية بل حقيقة، وهي نور مفاض من الآيات القرآنية ولم تستق من علوم الشرق ولا من فنون الغرب، بل هي معجزة معنوية للقرآن الكريم خاص لهذا الزمان([12]

فهي تفسير يختلف تماماً عن التفاسير الأخرى، إذ إن لكل تفسير عصره، فلا شك أن تفسيراً ألّف في عصر سابق وفي مجتمع إسلامي، لا يشبه تفسيراً يصدُّ تيار الضلالة المهاجمة في هذا العصر، فتلك التفاسير كانت تخاطب المؤمنين فحسب.

)أما رسائل النور، فلكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان و تحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة. حتى حكم كل من ينعم النظر فيها: بأنها أصبحت ضرورية في هذا العصر كضرورة الخبز والدواء.( [13]

ولعل الوصف الآتي يكون جامعاً لجواب ذلك السؤال الذي قد يرد إلى بعض الأذهان: ما طابع رسائل النور ؟ والذي سبق أن سألنا عنه في البداية:-

)لما كانت الألوان السبعة لشمس القرآن الكريم تتجلى بوضوح في منشور حقائق رسائل النور فهي إذن: كتاب شريعة وعقائد، وكتاب دعاء وحكمة وكتاب عبودية ودعوة وكتاب ذكر وفكر وكتاب حقيقة وتصوف وكتاب منطق وعلم كلام، وكتاب حث على العمل وإلجام للمعارضين وإسكات لهم ( [14]

هذا عدا رسالة واحدة وهي )إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز( التي ألفها في أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي ساحة الجهاد ضد الروس وباللغة العربية، فهي تشبه التفاسير المتداولة.

نخلص من هذا كله إلى أن رسائل النور تفسير لمعاني القرآن الحكيم وهي تعالج القضايا الأساسية في حياة الفرد، إذ تنشئ عنده تصورات إيمانية جديدة وتهدم التصورات الفاسدة والسلوك الضعيف. فإنها تدور حول معاني (التوحيد) بدلائل متنوعة و(حقيقة الآخرة) و(صدق النبوة) و(عدالة الشريعة) إلى آخره من الأمور التي ركّز عليها القرآن الكريم.

علاوة على ما تبحثه من أمور الدعوة إلى الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والشوق إلى الآخرة وأمور اجتماعية وسياسية مختلفة. لذا قال الأستاذ بحقها:

)أن رسائل النور قد حلّت اكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضحتها وكشفتها وألجمت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأثبتت كالشمس ما كان يظن بعيداً عن العقل كحقائق المعراج النبوي والحشر الجسماني للمعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى حظيرة الإيمان، فرسائل هذا شأنها لابد أن العالم - وما حوله - بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولابد أنها حقيقة قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جل اهتمامه، وأنها سيف ماسيّ بتار في قبضة أهل الإيمان( .[15]

طريقة عرض الموضوع:

يستلهم موضوع كل رسالة من آية أو عدة آيات تتصدر الرسالة، ثم يستهل بمقدمة مركزة تلخص الموضوع، ثم تتدرج في الموضوع توضيحاً وتبسيطاً مع ضرب للأمثال لعرض الفكرة وتجليتها. أي أن طريقتها في عرض الموضوع تختلف عن الطرق المعتادة لعرض الموضوع والتي تتدرج من البسيط إلى المعقد.

تبدأ الرسائل بما يصعب فهمه ويستغلق على القارئ أمره فتثير عنده الانتباه، وتشركه في فهم جوانب الموضوع وحل مغاليقه، لذا لا يظل القارئ في موقف المتفرج والمشاهد؛ وإنما ترغمه الرسالة على التتبع الجدي، والدراسة البطيئة المتقنة، كي يصل إلى الفهم المطلوب، أي أن الرسائل تجعل من القارئ دارساً لها ولا تجعله ناظراً فيها نظرة العجلان.

فالموضوع يتدرج بالوضوح رويداً رويداً فلا يشعر القارئ إلاّ وقد توصل إلى تذوق لذة تلك الآيات التي تصدرت الرسالة دون أن يجد في نفسه حائلاً بينها وبينه ودون أن يشعر بملل وضجر، وكأن الموضوع يأخذه في نـزهة بين بساتين الإيمان ورياضه لاستنشاق نسائمه، فيشعر بالمعاني الدقيقة في القرآن الكريم، ويعيش في أجوائه المباركة، فضلاً عن أن كل رسالة من الرسائل تقيم عند القارئ أيضاً بصورة متدرجة بناء تصورياً جديداً نابعاً من القرآن الكريم، بعد أن تهدم كثيراً مما بنته جاهلية الفلسفات أو الخرافات أو الأفكار والتصورات الخاطئة والتافهة في المجتمع، ووسيلتها في ذلك هي إقامة الحجج الفطرية والبراهين الدامغة بحيث يسلم بها الإنسان حتى لو كان من أعتى المعاندين. كل هذا مع إشباع للروح وشفافية في اختيار الكلمات والعبارات، وإطلاق للخيال في مجالاته وإشراق لروح الأمل وإثارة لكوامن التأمل والتفكير.

هذا وقد يعرض الموضوع بكامله أحياناً بشكل سؤال وجواب أو يرد السؤال والجواب أثناء سرد الموضوع أو في ثناياه وذلك لإثارة الانتباه وتحفيز التفكير عند القارئ، وقد يكون بعض الأسئلة حقيقية، أي وجهت إلى الأستاذ من قبل بعض تلاميذه أو هي أسئلة وشبهات ووساوس تلقيها شياطين الجن والأنس في قلب المؤمن أو هي كائنة من النوعين ورسالة (حكمة الاستعاذة) خير مثال لهذا النوع من عرض المادة.

الأسلوب:

رغم أن الرسائل تبحث موضوعاً أساساً واحداً وهو )الإيمان( فإنها لا تبحث هذه المسألة العظيمة العميقة بأسلوب تقليدي على وتيرة واحدة، بل إن الأسلوب يتغير حسب المواقف والموضوعات. فترى الأسلوب اللين الرقيق جداً، حتى تكاد تشعر انه همسات قلب أو أنفاس رقيقة حية، وترى الأسلوب العلمي الدقيق والعبارات المنطقية الفطرية، مما يدعو إلى إعمال الفكر والعقل. وترى في الدفاع - خاصة - الأسلوب القوي الهادر كالأمواج وكأنه نذير جيش.

وليست هذه الأساليب والأجواء مفصولاً بعضها عن بعض، وإنما قد تجدها وتتجول فيها في الرسالة الواحدة فتستنشق نسائم الربيع الإيماني مع إثارة كوامن التفكير وتحفيز قدرة التأمل وإقامة موازين علمية دقيقة وسياحات روحانية سامقة.

ولكن الأسلوب نفسه يتغير من موضوع إلى آخر أيضاً حسب )المخاطب(. فترى رسالة النوافذ مثلاً تخاطب الملحدين والمؤمن عندها في مقام الاستماع، بينما رسالة المعراج تخاطب المؤمنين الذين التبس عليهم الأمر فاستبعدوا المعراج، والجاحد عندها في مقام الاستماع. فأسلوب الخطاب في كل منهما ظاهر الاختلاف.

جاء في مقدمة رسالة المعراج تعليل لهذا النمط من الأسلوب:

)أن مسألة المعراج نتيجة تترتب على أصول الإيمان وأركانه، فهي نورٌ يستمد ضوءه من أنوار الأركان الإيمانية. فلا تُقام الحجج لإثبات المعراج بالذات للملحدين المنكرين لأركان الإيمان، بل لا يُذكَر أصلاً لمن لا يؤمن بالله جلّ وعلا ولا يصدِّق بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو ينكر الملائكة والسموات، إلاّ بعد إثبات تلك الأركان لهم مقدماً؛ لذا سنجعل المؤمن الذي ساوَرَتْه الشكوك والأوهام فاستبعد المعراجَ، موضعَ خطابنا، فنبين له ما يفيده ويشفيه بإذن الله. ولكن نلحظ بين آونة وأخرى ذلك الملحد الذي يترقب في موضع الاستماع ونسرد له من الكلام أيضاً ما يفيده.

ولقد ذُكِرَت لمعاتٌ من حقيقة المعراج في رسائل أخرى، فاستمددنا العناية من الله سبحانه وتعالى - مع إصرار اخوتي الأحبة - على جمع تلك اللمعات المتفرقة وربطها مع اصل الحقيقة نفسها لجعل مرآةٍ تعكس دفعةً واحدة كمالات جمال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.( [16]

ومن اعجب ما في أسلوب رسائل النور، انه رغم الترابط الوثيق بين فقرات البحث في كل الرسائل؛ فان كل فقرة منها تعطيك معنى كاملاً بحيث تستطيع أن تفهمها وحدها، وتستفيد منها دون الرجوع إلى اصل الموضوع، فرغم أن جميع الموضوعات منسوجة نسجاً بديعاً بل مسبوكة سبكاً محكماً؛ فان قراءة أية رسالة أو أية فقرة كانت من الرسالة تلبى حاجة في نفس القارئ وان لم يبذل جهداً، أو يصرف وقتاً طويلاً في إتمام جميع ما في الرسالة أو مجموعة الرسائل، ورغم ما يشعر به القارئ من سلاسة الأسلوب وعمق المعاني وسعة الخيال إلاّ انه غالباً ما يتوقف على جملة لا يغادرها إلاّ بعد إعادتها بل حتى على كلمة. والسر في ذلك نسمعه من المؤلف نفسه حيث يصف حالة جهاده مع النفس في مقدمة المثنوي العربي النوري:

"لا تظنن أني باختياري أشكلتُ عليك عبارة هذه الرسالة؛ إذ هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقتٍ مدهش. والكلمات إنما تولدتْ في أثناء مجادلة هائلة كإعصار يتصارع فيها الأنوار مع النيران، يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ومن الحضيض إلى الأوج، من الثرى إلى الثريا؛ إذ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود. فكلما صادفتُ نوراً نصبتُ عليه علامة لأتذكّره بها. وكثيراً ما أضع كلمةً على مالا يمكن لي التعبير عنه، للإخطار والتذكير، لا للدلالة.. فكثيراً ما نصبتُ كلمة واحدة على نور عظيم." [17]

أسلوب مخاطبة المعارضين:

لرسائل النور أسلوبها الخاص مع المعارضين حيث إن المعارضين عندها قسمان:

قسم هم أهل الضلالة وهم الذين يعارضون الحقائق الإيمانية ويرفضونها، بل يصدونها ويحاربونها بشتى الوسائل والسبل، سواءً بالقوة أو بإثارة التهم أو ببث الأفكار المناوئة والدعايات المضللة، وقسم آخر هم مسلمون إلاّ انهم يعترضون على بعض فقرات جاءت فيها أو طريقتها في العمل لخدمة الإسلام.

آ) مع أهل الضلالة:

يتصف أسلوب الرسائل مع هؤلاء بالهجوم العنيف وذلك بدحض أباطيلهم بإيراد الأدلة القوية الكافية، وتفنيد اتهاماتهم الظالمة مع التذكير المستمر بأن هناك عذاباً ينتظرهم في الدنيا، كما أن هناك عذاباً أليماً في الآخرة.

فنرى أن هذا الهجوم لا يفتر أبداً ولا يلين ويتصف بصفة مهمة وهي عدم تحديد الأسماء والأشخاص على الأغلب، فالرسالة تعبر عن هؤلاء على الإطلاق دون التقييد. فمثلاً تقول أهل الضلالة، أهل السفاهة، المنافقون، أهل الكفر والزندقة، وهكذا..

والقارئ اللبيب يفهم من سياق الموضوع ومن خلال مفردات الصفات المذكورة والأعمال والتصرفات التي قاموا بها من هم هؤلاء الضالون والمنافقون في كل عصر وفي كل مصر.

والرسالة لا تكتفي بالهجوم و الكشف عن السيئات الظاهرة لأهل الضلالة فحسب، وإنما تغزو أفكارهم وحججهم الواهية ونقاط استنادهم الفكري، فتغزوها في جحورها، وتشن هجوماً شديداً عليها حتى آخر معقل من معاقل الضلالة والأفكار المناوئة للإسلام محطمة جميع الأسس المتهرئة التي يقوم عليها بناء تصورهم الفكري وأباطيلهم لتشويه حقائق الإسلام وجماله المقدس كاشفة عن دسائسهم في التفريق بين المسلمين، وصدهم عن التلذذ بنعمة الإيمان. والذي يلفت النظر هو: أن الرسائل مع بيانها بياناً كافياً لجميع حقائق الإيمان دون كتمان أي جزء منها ومع تفنيدها لجميع أباطيل الخصوم وإحصائها لصفات أهل النفاق ومع تشخيصها الأعداء وكشفها عن هوياتهم.. مع كل هذا لم يتمكن العدو المتسلط أن يجد ثغرة في الرسائل ليدخل منها باسم القانون، وبالأخص في مثل تلك الظروف الحرجة. حيث إن القانون ينص على العلمانية والأعداء - الداخليين والخارجيين - قد انقضّوا على تركيا وتكالبوا عليها. فرغم تلك المحاكمات التي زادت على )الألف( لم تتمكن أية هيئة من تمييز أو جزاء أو أية هيئة تحقيقية من أن تجد مستمسكاً غير قانوني في رسائل النور مع ما لديهم من لجان تدقيق وخبراء علماء متحققين ينكبون على دراسة الرسائل اشهراً بل أعواماً.

فمثلاً لقد اتهم الأستاذ ومعه تلاميذه حين نشر )الشعاع الخامس( الذي يبحث عن )الدجال( بأنه يقصد به )مصطفى كمال وأعوانه( إلاّ أن الخبراء قرروا في جميع تلك المحاكمات أن: الشعاع الخامس ليس فيه ذكر مصطفى كمال وإنما هو شرح لبعض الأحاديث الشريفة الواردة حول الدجال وفتنة آخر الزمان.

لذا غدت خاصة من خصائص رسائل النور .. أنها - مع توضيحها لمفاهيم الإيمان والإسلام لا يمكن أن تصارع، وذلك لأنها لا تثير حفيظة المخالفين لها، ولا تأخذ قارئيها بالعزة بالإثم، لأنها تذكر تلك المفاهيم دون أن تتقيد بزمان أو مكان معين، وما هذا إلاّ توفيق رباني قد وهب الله سبحانه هذا الرجل الفقيه الحكيم بمحض فضله ونعمته.

ب) أما أسلوبها مع الذين اعترضوا عليها من علماء الدين وشيوخ المتصوفة، فهو أسلوب الدفاع وحده دون الهجوم ودون التهوين من شخصياتهم ورؤسائهم ولا من آرائهم، مع بيان صواب وجهة نظر رسائل النور، لذا لا ترى في جميع الرسائل جرحاً لهيئة أو جماعة مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد - وقد وضع الأستاذ رحمه الله أسساً للتعامل مع هؤلاء يسير وفقها طلاب النور وأرسلها من منفاه في قسطموني بعد أن أثار بعضهم - في تلك الفترة - غبار الشبه حول الرسائل. فكتب يقول:

)لما كان أولياء الله الصالحون لا يمكنهم أن يعرفوا الغيب - إن لم يلهمهم الله سبحانه تعالى - حيث لا يعلم الغيب إلاّ الله؛ لذا فان اعظم ولي صالح لا يستطيع أن يطلع على حقيقة وواقع الحال عند ولي آخر، بل ربما يعاديه لعدم علمه بحقيقته، وما حدث فيما بين بعض العشرة المبشرين بالجنة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، خير دليل على هذا. وهو يعنى أن وليين اثنين إذا ما أنكر أحدهما على الآخر، فان ذلك لا يسقطهما من مقام الولاية ومنـزلتها إلاّ إذا كان هناك أمر يخالف مخالفة كلية لظاهر الشريعة. لذا:

اتباعاً لدستور الآية الكريمة (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) (آل عمران: 134).

وحفاظاً على إيمان المؤمنين من التصدع، وذلك بالمحافظة على حسن الظن القائم بينهم وبين شيوخهم أو رؤسائهم.

وبناء على ما يلزم من إنقاذ الأركان من طلاب النور المخلصين من سَورة الغضب المضرة - مع كونها محقة - على اعتراضات باطلة.

واجتناباً لما يستفيد منه أهل الإلحاد من هذه الخصومة بين طائفتين من أهل الحق بجرح الطائفة الأولى بسلاح الأخرى واعتراضاتها، وتهوين شأن الثانية بدلائل الأولى ثم دحرهما معاً.

على طلبة النور حسب الأسس المذكورة:

إلاّ يواجهوا المعارضين بالحدة والتهور، ولا يقابلوهم بالمثل. بل عليهم أن يكتفوا بالدفاع عن أنفسهم فحسب، مع إظهار روح المصالحة، والإجابة بوضوح عن نقاط الاعتراض، حيث إن الأنانية في عصرنا هذا قد تطاولت واشرأبت بعنقها حتى أصبح كل شخص لا يريد أن يذيب أنانيته - التي هي كقطعة ثلج بطول قامته - ولا يرغب في تغييرها بل يسوّغ لنفسه ويراها معذورة دائماً. وها هنا ينشأ النـزاع والخصومة ويكون موضع استفادة أهل الباطل والضلال على حساب أصحاب الحق وأهله.(.[18]

أسلوب الاستثناء:

أن تدهور الأخلاق الفظيع في الغرب وكثرة المظالم التي عانتها - وتعانيها - البشرية بأيدي الغربيين مع أسباب كثيرة أخرى أعطت المسوغ الكافي كي يكون هدفاً لهجوم لا هوادة فيه لكثير من الكتّاب والمفكرين.

فهل في الرسائل هجوم كهذا على الغرب ومفكريه ؟

نعم، ولا في الوقت نفسه. إذ إن الرسائل تهاجم الغرب ولكنه ليس كل الغرب، وإنما تستثنى منه الطيب النافع، ثم تشدد الهجوم على القسم الفاسد.

ننقل للقارئ الكريم فقرة من المحاورة التي يجريها الأستاذ مع الغرب، وهي محاورة لطيفة عميقة جداً، نجد في مستهلها هذا الاستثناء بوضوح ونرى أن هذا الأسلوب لا يسرى على الغرب وحده، وإنما هو قاعدة التخاطب مع جميع المعارضين. فالرسائل تستل الطيبين من مجموع الخبثاء، وتستنقذ الفكر الجيد من بين الجماعات والهيئات التي أثير حولها غبار الشبهات، وهكذا نرى عملية التحليل والفرز والاستثناء هي في مقدمة أي كلام حول موضوعات يختلط فيها النافع بالضار، والطيب بالخبيث، مما يجعل القارئ يشعر في هذا الأسلوب، التجرد الكامل والموضوعية الحقة، والأخذ بالحيطة والحذر، والاحتراز من توريط مَنْ هم خارج صفوف المعارضين. فلا يلتبس إذن أمر الطيب النافع من الخبيث المضر، ولا يؤخذ البريء بجريرة المتهم أو المجرم. فالهجوم إذن لا ينصب إلاّ على الخبثاء من الغربيين دون الطيبين منهم. ويبدأ غزو حصون الفلسفات المضللة المادية بعد ما تفصل من ركامها الفلسفة النافعة المؤدية إلى التقدم العلمي والصناعي ويستثني ذوي الدين من جماعة )الاتحاد والترقي( - مثلاً - من بين الذين يحملون الأفكار المعادية للإسلام، وهكذا..

والخلاصة أن أسلوب الاستثناء هذا خاصة من خصائص رسائل النور مع جميع مَن له علاقة معها سواءً الأشخاص الرسميين أو العلماء أو الطوائف أو الأحزاب أو الأفكار أو الفئات..

تبدأ المحاورة بوصف للحالة النفسية عند سعيد القديم وسعيد الجديد..

)حينما سار )سعيد الجديد( في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الأوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة - إلى حدّ ما - في أفكار )سعيد القديم( إلى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلات كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من )سعيد الجديد( إلاّ القيام بتمخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة المزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة. فرأى نفسه مضطراً لكبح جماح ما في روحه من أحاسيس نفسانية منحازة لصالح أوروبا إلى إجراء المحاورة الآتية مع الشخصية المعنوية لأوروبا، فهي محاورة مقتضبة من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية أخرى.

ولئلا يُساء الفهم لابد أن ننبه: أن أوروبا اثنتان.

إحداها: هي أوربا النافعة للبشرية، بما استفاضت من النصرانية الحقة وأدّت خدماتٍ لحياة الإنسان الاجتماعية، بما توصلت إليه من صناعات وعلوم تستند على العدل والإنصاف، فلا أخاطب - في هذه المحاورة - هذا القسم من أوربا. وإنما أخاطب أوربا الثانية (الوجه الآخر منها) تلك التي تعفّنت بظلمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالمادية الجاسية، وحَسِبتْ سيئات الحضارة حسناتٍ لها، وتوهّمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية إلى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

ولقد خاطبت في تلك السياحة الروحية الشخصية المعنوية الأوروبية بعد أن استثنيت محاسن الحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجهت خطابي إلى تلك الشخصية التي أخذت بيدها الفلسفة المضرة التافهة والحضارة الفاسدة السفيهة. وخاطبتها قائلاً:

يا أوروبا الثانية: اعلمي جيداً انك قد أخذت بيمينك الفلسفة المضلّة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرّة السفيهة، ومن تدّعين:

)أن سعادة الإنسان بهما( ألا شُلّت يداكِ وبئست الهدية هديتك ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود، ترى هل يمكن أن يسعد إنسان بمجرد تملكه ثروة طائلة، وترفّله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله بمصائب هائلة ؟ وهل يمكن أن نطلق عليه انه سعيد ؟! ألا ترين أنّ مَن يئس من أمر جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخابَ ظنّه من عمل تافه، كيف يتحول خيالهُ العذب مراً علقماً. وكيف يتعذب مما حوله من أوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا - كالسجن - بما رحُبت !. فكيف بمن اُصيب - بشؤمك - بضربات الضلالة في أعمق أعماق قلبه. وفي أغوار روحه، حتى انقطعت - بتلك الضلالة - جميع آماله، فانشقت عنها جميع آلامه، فأيّ سعادة يمكنك أن تضمني لمثل هذا المسكين الشقي ؟ وهل يمكن أن يطلق لمن روحه وقلبه يعذبان في جهنم. وجسمه فقط في جنة كاذبة زائلة.. انه سعيد ؟

لقد أفسدت أيتها الروح الخبيثة البشرية حتى طاشت بتعاليمك، فتقاسي منك العذاب المرير، بإذاقتك إياها عذاب الجحيم في نعيم جنة كاذبة.. الخ( [19]

تلك المحاورة اللطيفة الدقيقة التي تبين فيها كيف ضللت الحضارة الغربية الفاسدة، البشرية وأوردتها المهالك.

أما بالنسبة إلى عمليات الاستلال والاستثناء في الفلسفة، فسنذكرها في موضعها.

أسلوب ردّ الشبهات:

أما فيما يخص الشبهات الواردة على الإسلام أو على الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة سواءً من جهلة المسلمين أو من شياطين المستشرقين، فان الرسائل تردها جميعاً دون الذكر الصريح للشبهة إلاّ فيما ندر، والرد يكون رداً مقنعاً بحيث لا يترك زاوية من الزوايا الخفية في الشبهة إلاّ ويقتحمها، فمن كانت لديه تلك الشبهة فقد شفي قلبه منها، ومن لم تكن لديه شبهة، فلم يتكدر صفو قلبه وفكره ؟

جاء ذلك في مقدمة رسالة المعجزات القرآنية :

)أن كل آية من اكثر الآيات الواردة في هذه الرسالة )المعجزات القرآنية( إما أنها أصبحت موضع انتقاد الملحدين، أو أصابها اعتراض أهل العلوم الحديثة، أَو مسَّتها شبهات شياطين الجن والأنس وأوهامهم.

ولقد تناولت هذه )الكلمة الخامسة والعشرون( تلك الآيات وبيَّنت حقائقها ونكاتها الدقيقة على أفضل وجه، بحيث إن ما ظنه أهل الإلحاد والعلوم من نقاط ضعف ومدار نقص، أثبتته الرسالة بقواعدها العلمية أنه لمعات إعجاز ومنابع كمال بلاغة القرآن.

أما الشبهات فقد اُجيبت عنها أجوبة قاطعة من دون ذكر الشبهة نفسها وذلك لئلا تتكدر الأذهان. كما في الآية الكريمة (والشمس تجري..) (والجبال أوتاداً). إلاّ ما ذكرناه من شبهاتهم في المقام الأول من الكلمة العشرين حول عدد من الآيات.([20]

فهذا الأسلوب في الرد على الشبهات والشكوك هو خلاف ما دأب عليه المتكلمون السابقون حيث الرسائل تبين الحقيقة وحدها بياناً مقنعاً واضحاً إلى حد أنها ترغم المخالف على التسليم والقبول من غير أن تتعرض لشكوكه ولا إلى بسط دلائله ولا إلى ما تردى فيه من أودية الضلالة، وذلك كي لا تتأثر أفكار المؤمنين، ولا تتلوث وتتلون بلونها. وبهذا الأسلوب سدت الرسائل سبل انتشار الشبهات والأوهام الفاسدة بين الناس.

وقد وضح بيان الطلبة الجامعيين من طلاب رسائل النور الذي أصدروه فيما بعد سنة 1950 هذا الأسلوب على ضوء قاعدة لطيفة وضعها الأستاذ أوضح بيان:

)نعم، لو كانت لنا مئات الأيادي وملايين الملايين من الدنانير لحصرنا جميعها وصرفناها في خدمة الإيمان والقرآن، فلا نرى ثمة مجالاً للاهتمام بالتيارات الباطلة، فالعمر قصير والوقت ضيق، ولقد قال الأستاذ: )أن الاشتغال بالفناء فناء، وبالفساد فساد( لذا فان إيضاح المسائل الباطلة والاهتمام بحسن تصويرها من الأسباب المؤدية إلى تضليل الأذهان الصافية وتلويثها. وكثيراً ما يدرس المرءُ الأمور الباطلة قاصداً إثبات بطلانها، وجعل ذلك الإثبات وسيلة لإظهار الحق، إلاّ انه أثناء ذلك تتلون صحيفة فكره وتنصبغ شيئاً فشيئاً من غير أن يشعر، فيتناقص وفاؤه وتجرده وإخلاصه السابق تدريجاً وتتضاءل صلابته الدينية، وعندها لا يمكنه أن يميز الصواب من الخطأ. فيلتبس عليه الأمر والعياذ بالله...

أما رسائل النور فإنها تزيل الظلمة عن القلب نهائياً وتنوره بنور الإيمان الذي لا يزال يريه الحق حقاً، والباطل باطلاً، فلا يلتبس عليه الأمر..(

أسلوب بديع لدراسة التاريخ وتفسيره:

لاشك أن الأسلوب الغالب على كتب السيرة والتاريخ هو التقيد بالتسلسل الزمني، حيث تذكر الحوادث المهمة وفق التواريخ، ولكن قد يأخذ البعض منها بالعبر والفوائد الفقهية، بينما يدعها آخرون دون استنباط شئ.

إلاّ أننا إذا دققنا النظر في القرآن الكريم نرى أن له أسلوباً خاصاً في سرد الحوادث، إذ قد يسلط الأضواء على حوادث دقيقة جداً لا يمكن أن يذكرها التاريخ مطلقاً، ذلك لاستخلاص العبر العظيمة التي يكتنفها، ولبيان قدرة الله سبحانه، واطلاعه وعلمه بالأمور ما ظهر منها وما خفي، ولتوضيح سنته في الكون وكثير غيرها.

وكذلك لا يتقيد بالتسلسل الزمني، وإنما يذكر جزءاً من الحادثة أو القصة في سورة والجزء الآخر في سورة أخرى مثلاً، حسب سياق السورة وموضوعاتها.

فقارئ الرسائل أيضاً يشعر ضمنا انه يقرأ السيرة والتاريخ الإسلامي وفق المنهج القرآني، وليس وفق مناهج كتب السير والحوادث. حيث لا توجد رسالة خاصة في السيرة النبوية ماعدا المعجزات الأحمدية، وبعبارة أخرى تأخذ من السيرة حوادث خاصة وحوادث مهمة في عصر الراشدين ونتفاً من العهد الأموي والعباسي والسلاطين الأوائل من العهد العثماني. كل ذلك تراه مبثوثاً في أرجاء الرسائل، ويأتي حسب المقام والموضوع المناسب، أما العهد الأخير للعثمانيين ففي الرسائل تفاصيل ذلك العهد مع موازينه الاجتماعية والسياسية.

لذا فالقارئ يجد نفسه انه لا يقرأ السيرة فحسب، بل يعيش التاريخ عيش مشاركة تماماً.

وكذلك تسلط الرسائل الأضواء على حوادث الخلافات والفتن التي تدور حولها المناقشات فتحللها تحليلاً دقيقاً:

1- من وجهة النظر الدنيوية والأخذ بالأسباب الظاهرة.

2- من وجهة القدر الإلهي والرحمة الربانية.

ثم تستخلص الحكمة الإلهية في المسألة، بحيث لا تدع في أي جزء كان من زوايا النفس الإنسانية تساؤلاً عن الموضوع، مع تأكيدها عدم الخوض في مثل هذه المسائل النابعة عن اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. حيث أفضوا إلى ما قدموا وفقاً لنهج أهل السنة والجماعة.

والخلاصة: فإن قارئ رسائل النور يكون قد أحاط بأهم الحوادث التاريخية مع استنباطاتها وفقهها وعبرها، وقد تذوّقها تذوقاً قلبياً وفهمها وأدرك مراميها عقلاً، وقبل كل ذلك عرف شيئاً من الحكمة الإلهية وراء الأحداث، ولاشك أن هذا هو المطلوب من دراسة التاريخ.

نكتفي هنا بمثال واحد - حرصاً على الاختصار - فهناك أمثلة مماثلة كثيرة جداً حول هذا الموضوع )استخلاص الحكمة الإلهية وراء الأحداث(.

جاء في رسالة المعجزات الأحمدية في الإشارة الخامسة من المكتوب التاسع عشر من كتاب المكتوبات ما يأتي:

)فإن قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي أصابت الأمة الإسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق بأولئك الأبرار القهر ونـزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما أن الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالإسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع إلى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الإيمان وشمل الإسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ وإخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الإيمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الإيمان وصيانة الإسلام، وسَعَتْ في سبيل أداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الأرجاء، زهورٌ بهيجة بألوان زاهية شتى في عالم الإسلام، حتى غدا العالم الإسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. إلاّ انه للأسف ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ أهل البدع أيضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وأدارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء إلى أنحاء العالم الإسلامي وألجأتهم إلى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه.([21]

أما تاريخ الحركة الإسلامية في تركيا وبالأخص (حركة النور) فهي الأخرى مبثوثة بين ثنايا الرسائل، وبالأسلوب السابق نفسه، فقد يعرض بعض حوادثها للعبرة أو للحث على العمل أو بيان ثمرة الإخلاص لله، بحيث مَن يقتطفها من الرسائل يمكنه أن يحصل على سير الدعوة منذ بدايتها.

نظرة تحليلية إلى الخلافات الفكرية:

تدعو رسائل النور إلى نصب ميزان العدالة الإلهية الذي يزن به الله سبحانه أعمال المكلفين يوم الحشر وإلى إقامته في الدنيا كذلك عند ذكر الأشخاص أو الجماعات.

لذا ترى أنها عندما تضع موازين وقياسات بين المختلفين في أمر ما، لا تنحاز إلى جهة دون أخرى ولا تغمط حق أحدهما دون الآخر. فتذكر الحسنات والسيئات وتذكر الأسباب الداعية إلى الأخطاء، بدراسة العوامل المؤثرة مع عوامل المحيط.. وغيرها من الأمور.

هذا دأب الرسائل في الخلافات التاريخية سواء بين مفكري الإسلام أو بين الجماعات أو أي شكل من أشكال تلك الخلافات، وبدراسة النص الآتي يتمكن القارئ أن يلمّ ببعض الجوانب التحليلية الدقيقة والموضوعية الخالصة لنظرة رسائل النور إلى أي خلاف كان من الخلافات الفكرية في التاريخ:

)إن أهل الحق والاستقامة الذين يطلق عليهم )أهل السنة والجماعة( وهم يمثلون الغالبية العظمى في العالم الإسلامي، قد قاموا بحفظ حقائق القرآن والإيمان كما هي على محجتها البيضاء الناصعة، وذلك باتباعهم السنة الشريفة بحذافيرها كما هي، دون نقص أو زيادة، فنشأت الأكثرية المطلقة من الأولياء الصالحين من هذه الجماعة. ولكن شوهد أولياء آخرون في طريق تخالف أصول أهل السنة والجماعة، وخارجة عن قسم من دساتيرهم، فانقسم الناظرون في شأن هؤلاء الأولياء إلى قسمين:

الأول:

هم الذين أنكروا ولايتهم وصلاحهم، وذلك لمخالفتهم أصول أهل السنة والجماعة بل قد ذهبوا إلى أبعد من الإنكار، حيث كفّروا عدداً منهم.

أما الآخر:

فهم الذين اتبعوهم وأقروا ولايتهم، ورضوا عنهم، لذا قالوا:إن الحق ليس محصوراً في سبيل أهل السنة والجماعة. فشكلوا بهذا القول فرقة مبتدعة وانساقوا إلى الضلال. ناسين أن المهتدي لنفسه ليس من الضروري أن يكون هادياً لغيره، ولئن كان شيوخهم يُعذرون على ما ارتكبوا من أخطاء لأنهم مجذوبون، إلا انهم لا يعذرون في اتباعهم لهم.

وهناك قسم ثالث:

سلكوا طريقاً وسطاً، حيث لم ينكروا ولاية أولئك الأولياء وصلاحهم، إلا أنهم لم يرضوا بطريقتهم ومنهجهم، وقالوا: أن ما تفوهوا به من الأقوال المخالفة للأصول الشرعية، أما أنها ناشئة عن غلبة الأحوال عليهم مما جعلهم يخطئون، أو أنها شطحات شبيهة بالمتشابهات التي لا تعرف معانيها ولا تفهم مراميها.

فالقسم الأول ولاسيما علماء أهل الظاهر قد أنكروا ولاية كثير من أولياء عظام - مع الأسف - وذلك بنية الحفاظ على طريق أهل السنة، بل ذهبوا مضطرين إلى الحكم بضلالهم تحدوهم تلك النية.

أما الآخرون المؤيدون لهم، فقد تركوا طريق الحق وأداروا ظهورهم لها، لما يحملون من حسن الظن المفرط بشيوخهم، بل حصل انجراف قسم منهم إلى الضلال فعلاً.( [22]

هذا وقد يتبادر إلى ذهن القارئ ما رأي رسائل النور في كل من شيخ الإسلام )ابن تيميه( وتلميذه المخلص )ابن قيم الجوزية( وهل لهما ذكر في الرسائل، ثم ما رأي الرسائل كذلك في الشيخ محي الدين بن عربي وطريقته ؟

ونحن - حرصاً على الاختصار - نقتطف هذه الفقرة التي يذكر فيها الأستاذ النورسي الشيخ ابن تيمية وابن قيّم الجوزية في رسالة أرسلها إلى أحد تلاميذه وهو في )اميرداغ( فيصفهما بـ)الجهبذين الداهيين( و)المثيرين للإعجاب( و)المشهورين( ويصف كتبهما كذلك بأنها من المؤلفات ذات الجاذبية القوية جداً والعجيبة جداً )... تتداول منذ أمد بعيد في استانبول كتب ملفتة للأنظار وجذابة لابن تيمية وهو من العباقرة المشهورين وتلميذه ابن قيم الجوزية( [23]

أما بالنسبة إلى الشيخ محي الدين بن عربي، فسنقتطف فقرتين من رسالتين مختلفين: أحدهما تُحلّل شخصيته والأخرى طريقته:

)لا يسعني الوقت الكافي لوضع ميزان بين الإفراط والتفريط بحق هذا الشخص فأكتفي بما يأتي:

أن محي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بمرشد ولا هاد وقدوة في جميع كتاباته، إذ يمضي غالباً دون ميزان في الحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة، ويفيد بعض أقواله - ظاهراً - الضلالة غير انه بريء من الضلالة، إذ الكلام قد يبدو كفراً بظاهره، إلاّ أن قائله لا يكون كافراً.([24]

ويحدد رأيه في كتبه في ختام الرسالة نفسها قائلاً:

)ولقد قال محي الدين: )تحُرم مطالعة كتبنا على من ليس منا( أي على من لا يعرف مقامنا. نعم أن قراءة كتب محي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.([25]

أما رأي رسائل النور حول طريقة )محي الدين( وغيره، فقد فصلت فيها كثيراً وحللتها من جميع جوانبها وبخاصة في المكتوب التاسع والعشرين وبينت أخطاءها بالتفصيل في اللمعة التاسعة. إلاّ أن الفقرة التالية تلقى ضوءاً واضحاً على أسلوب الرسائل في وزن مثل هذه الأفكار حسب المنهج القرآني، وان جميع الطرق والمناهج غير النابعة من القرآن لا توصل الإنسان إلى الحقيقة ولا الاطمئنان القلبي:

)إن ابن عربي يقول )لا موجود إلاّ هو( لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر إلى إنكار وجود الكائنات.

أما الآخرون فلأجل الحصول على الحضور القلبي أيضاً قالوا: )لا مشهود إلاّ هو( وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.

بينما المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن أنها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الإهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شئ مرآة تعكس المعرفة الإلهية وتفتح في كل شئ نافذة إلى المعرفة الإلهية( [26]

ضرب الأمثال

لا يخفى ما لضرب الأمثال من أهمية في تقريب المفاهيم وتبسيطها وغرسها في الذاكرة بحيث إن الموضوع يمكن تذكّره بمجرد ذكر المثال، وكذا صلاحيته للتفاهم مع مختلف المستويات العقلية والعلمية.

فالقرآن الكريم - وكذلك الحديث الشريف - قد ضربا أمثالاً كثيرة لتقريب الحقائق العظيمة لأفهام الإنسان وتعميقها.

وحيث إن رسائل النور تفسير للقران الكريم، فإنها كذلك قد أوردت كثيراً من الأمثال حتى يمكن أن يعدّ ضرب الأمثال طابعها المميز.

ومن هنا كان كل هذا الإقبال من العالم والجاهل والشاب والشيخ والرجل والمرأة على قراءتها، وكل هذا الاغتراف من منهلها العذب الصافي.

وهكذا فسر الأستاذ النورسي سر القوة في الرسائل عندما وجه إليه السؤال الآتي:

) لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في )الكلمات( المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، إذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود إلى إعجاز القرآن الكريم وليس إلى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلا حرج:

نعم! هو كذلك على الأغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً. وإيمانٌ وليست تسليماً. وتحقيق وليست تقليداً. وشهادة وشهود وليست معرفة. وإذعان وليست التزاماً. وحقيقة وليست تصوفاً . وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

أن الأسس الإيمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها إلى أسس الإيمان وأركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من )ضرب الأمثال( التي هي من اسطع معجزات القرآن وأوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة:

فبمنظار )ضرب الأمثال( قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً أنها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في )ضرب الأمثال( قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم )ضرب الأمثال( قد تُوصِّل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة )ضرب الأمثال( قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل إلى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام:

انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات )ضرب الأمثال( التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه إلاّ الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم (.[27]

مفعول الرسائل

أن الذي يستمر في قراءة الرسائل لا يجد في نفسه نشوة روحية وشفافية فحسب. وإنما يكتسب غذاء روحياً وعقلياً لذيذاً وسعة في الأفق وخصوبة في الخيال، حيث إنها تُشبع جميع اللطائف المندرجة في الإنسان، فيأخذ كل حقه وذلك:

) أن الرسائل ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراته، ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته.. وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا و امتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراق لا يصل إليها نظر الفلسفة المهاجمة فضلاً عن أقدامها وخطواتها، فتبين أنوار الحقائق الإيمانية وتوصلها إلى عيونها المطموسة.( [28]

والسر في هذا التأثير العميق لجميع الجوارح، ومن ثم إشباعها، هو في القوة الفائقة التي في معانيها ومراميها إذ إنها تحاول أولاً إقناع المؤلف نفسه ثم تخاطب الآخرين. أي أن المؤلف لا يكتب شيئاً إلا وهو مقتنع به تمام الاقتناع، بل قد شهده شهود قلب، وعانى منه معاناة حقيقية عميقة، فهي ليست نقولاً من مصادر، ولا هي تصور فكري فحسب.

) أن رسائل النور تحاول أولاً إقناع نفس مؤلفها ثم تخاطب الآخرين؛ لذا فالدرس الذي اقنع نفس المؤلف الأمارة بالسوء إقناعاً كافياً و تمكّن من إزالة وساوسها وشبهاتها إزالة تامة لهو درس قوي بلا شك، وخالص أيضا بحيث يتمكن وحده من أن يصد تيار الضلالة الحاضرة التي اتخذت شخصية معنوية رهيبة - بتشكيلاتها الجماعية المنظمة - بل أن يجابهها و يتغلب عليها.( [29]

فهذه الرسائل إذن تخاطب النفس البشرية مهما كانت طاغية وقاسية حتى ترغمها على الإنصات... جاء ذلك في مقدمة المثنوي العربي النوري:

) إن هذه الرسالة نوع تفسير شهودي لبعض الآيات القرآنية، وما فيها من المسائل أزاهير اقتطفت من جنات الفرقان الحكيم، فلا يوحشنك ما في عبارتها من الإشكال والإجمال والإيجاز. فكرر مطالعتها حتى ينفتح لك سر تكرار القرآن أمثال:

له ملك السموات والأرض، ولا تخف من تمرد النفس، لأن نفسي الأمارة المتمردة

المتجبرة انقادت وذللت تحت سطوة ما في هذه الرسالة من الحقائق، بل إن شيطاني الرجيم أفحم وانخنس.. كن من شئت.. فلا نفسك أطغى ولا أعصى من نفسي ولا شيطانك أغوى ولا أشقى من شيطاني(.[30]

وعندما سئل الأستاذ رحمه الله، لماذا يجد القارئ إيماناً وإذعاناً في قلبه ويشعر بشوق دائم ولذة جديدة عند قراءة الرسالة اكثر بكثير مما يجده في كتب أخرى ؟ أجاب:

)أن قسمًا من مصنفات العلماء السابقين واغلب الكتب القديمة للأولياء الصالحين تبحث في ثمار الإيمان و نتائجه و فيوضات معرفة الله سبحانه، ذلك لأنه لم يكن في عصرهم تحدّ واضح ولا هجوم سافر يقتلع جذور الإيمان وأسسه، إذ كانت تلك الأسس متينة ورصينة.

أما الآن فان هناك هجوماً عنيفاً جماعياً منظماً على أركان الإيمان وأسسه، لا تستطيع اغلب تلك الكتب والرسائل التي كانت تخاطب الأفراد وخواص المؤمنين فقط أن تصد التيار الرهيب القوي لهذا الزمان، ولا أن تقاومه.

أما رسائل النور، فلكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان و تحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائل كثيرة وبراهين ساطعة. حتى حكم كل من ينعم النظر فيها: بأنها أصبحت ضرورية في هذا العصر كضرورة الخبز والدواء.([31]

نعم، إن الذي يقرأ رسالة من رسائل النور يظل في نشوة روحية وشدّ روحي معها حتى لكأن الرسالة قد كتبت له بالذات، لذا فهو يطالعها باستمرار ويشعر حاجة دائمة إليها، ويحس شوقاً هائلاً نحوها.

ولعل هذا هو السر في أن طالب النور لا يجد في نفسه ميلاً لدراسة كتب أخرى متفرقة لما يجده في نفسه من ذوق وإشباع لروحه وعقله وقلبه في الرسائل، إلا مَن أراد التخصص في موضوع معين. ذلك أن ما تفتحه رسائل النور من آفاق علمية وروحية وقلبية في زمن يسير جداً قد لا تعلّمه مجلدات من الكتب الأخرى، حيث إن القارئ لا يجد حدثاً أو مشكلة أمامه إلاّ والرسالة قد بحثتها أو حلتها، سواء منها النفسية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسية.

ومجمل القول أن رسائل النور:

)تنور هذا العصر والذي يليه، وتخاطب الإنسانية قاطبة بحقائق القرآن الكريم، فتستجيب لحاجات الإيمان والإسلام والفكر والروح والقلب والعقل كافة، بما يكفي كلا منها(.[32]

ومن اجل هذا فطالب النور لا يصرف وقته سدى، ولو كان جزءاً يسيراً جداً وإنما يحييه بدراسة الرسائل والوصول إلى تذوق المعرفة الإيمانية للآيات والأحاديث، فينور عقله وقلبه وروحه معاً، ويرى في نفسه شوقاً دائماً إلى العمل، وتطبيق ما أمرت به الشريعة، إذ لا يرى في الرسائل وصايا وتعليمات وواجبات تسرد له سرداً، أو تذكر كنقاط، وإنما ترشده - مثلاً - إلى أهمية السنة النبوية ومكانتها، فتأخذ بيده بحنان ولطف وتوصله بالأدلة العقلية والفطرية والسياحة الروحية إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فتغسل أدران الروح وتزيل شوائب العقل وتفتح عين القلب إلى أمور تعذرت عليه رؤيتها، فلا يرى في نفسه إلاّ انه يصبح ويمسي مع الرسول الحبيب )صلوات الله عليه وسلامه( وصحبه الكرام رضوان الله عليهم، فلا يرى في نفسه تكاسلاً في تطبيق السنن والأدعية، ولا تقاعسا عن دعوة الناس بعد أن امتلأ قلبه بنور المحبة.

مصنفات رسائل النور:

إن عدد أجزاء )رسائل النور( يتجاوز (130) رسالة باللغة التركية، ضمت في مجلدات من الحجم المتوسط وهي:

1- سوزلر )الكلمات( وتضم 33 رسالة (كلمة) في 650 صفحة.

2- مكتوبات )المكتوبات( وتضم 33 رسالة (مكتوب) في 540 صفحة.

3- لمعلر )اللمعات( وتضم 33 رسالة (لمعة) في 430 صفحة.

4- شعاعلر )الشعاعات( وتضم 15 رسالة (شعاع) في 640 صفحة.

وهيكل هذه الرسائل جميعها هو البحوث الإيمانية. والمسائل التي تمس أركان الإيمان وخصائصه ووسائله، فيما عدا الأخيرة قضايا دفاع الأستاذ رحمه الله وبعض تلاميذه إليه أمام المحاكم المختلفة فضلاً عن المواضيع الدقيقة التي تمس التوحيد والآخرة وسائر أركان الإيمان.

وهناك (ملاحق) ألحقت - بعدئذ - بالرسائل وهي:

1- ملحق بارلا 210 صفحة

2- ملحق قسطموني 240 صفحة.

3- ملحق أميرداغ في جزئين 284 صفحة و220 صفحة.

وهذه الملاحق هي مجموعة رسائل توجيهية في أساليب الخدمة للقرآن الكريم في ظروفها المختلفة ومراحلها. وفي أمور متفرقة من المسائل التي تواجه الفرد المسلم في دعوته كان الأستاذ يوجهها إلى تلاميذه خفية من السجون.

هذا وان هناك بعض الرسائل في مسائل إسلامية دقيقة أو لتثبيت الجماعة المؤمنة، كان رحمة الله لا يرغب في أن تنشر في أوساط ليست مؤهلة لقراءتها إلاّ أن كثرة المراقبة والتفتيش والمحاكم أخرجت هذه الرسائل وكشفتها، لذا ضمت بعضها مع الملاحق وطبعت بشكل مستقل في مجلّد واحد مثل )ختم التصديق الغيبي( في 220 صفحة، وهو عبارة عن موضوعات ورسائل لتثبيت أهل الإيمان أمام تحديات الكفر والضلالة، مستخرجة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال الأئمة والأولياء والصالحين.

وهناك رسائل أخرى مستقلة في كتب صغيرة منها )المدخل إلى النور( و)مفتاح لعالم النور( وهي آخر رسالة كتبها الأستاذ و)محاكمات( و)سنوحات( و)مناظرات(. ومما يلفت النظر أن هناك رسائل ليست إلاّ بضع صفحات بينما هناك كتاب كامل يعتبر رسالة واحدة، والملاحق (التي هي أربعة مجلدات) تعتبر رسالة واحدة، وهي المكتوب السابع والعشرون، علما أن هذه جميعها لم تؤلف في فترات منتظمة، وإنما استغرق تأليفها من سنة 1927م إلى سنة 1950م، وكان الأستاذ رحمه الله يشير إلى تلاميذه بوضع هذه الرسالة في اللمعات مثلاً، ووضع الأخرى في الشعاعات، وهكذا.. وكان يأخذ بمشورة طلابه المخلصين فمثلاً إن أول رسالة كتبت هي )رسالة الحشر( بينما هي )الكلمة العاشرة(.

أما الرسائل باللغة العربية، فقد سبقت الرسائل المذكورة باللغة التركية، إذ انقطع التأليف باللغة العربية بانتهاء الدولة العثمانية، إلاّ أن الأستاذ ضم مؤلفات (سعيد القديم) إلى رسائل النور أيضاً، واعتبرها نوى وشتلات لرسائل النور فـ (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) التي ألفت أثناء الحرب العالمية الأولى اعتبرت (المكتوب الثلاثون) من الرسائل. )والمثنوي العربي النوري( الذي يضم اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية، عدّه الأستاذ (اللمعة الثالثة والثلاثون). واللمعة التاسعة والعشرون جميعها باللغة العربية وكذلك (الحزب الأكبر النورى).

ومن المعلوم أن جميع هذه الرسائل (باللغتين التركية والعربية) كانت بالحروف العربية حتى 1955، حيث إذن الأستاذ بنشر التركية منها بالحروف اللاتينية، كي لا يحرم طلاب المدارس الحديثة من رسائل النور.

وقد تخصصت الآن دور نشر عديدة فضلاً عن )دار سوزلر للنشر( في استانبول بمهمة طبع أجزاء رسائل النور ونشرها، سواءً في مجلدات كالكلمات والمكتوبات واللمعات والشعاعات أو بشكل مستلات كان الأستاذ قد أشار إليها مثل: رسالة الطبيعة، ورسالة الحشر، ورسالة الآية الكبرى، ورسالة النوافذ..الخ

أدب الرسائل:

انه أدب رفيع جداً، ويكفي أن يصف سيد شعراء الترك )محمد عاكف( أدب الأستاذ رحمه الله بقوله:

)إن شكسبير وهيجو وأضرابهما لا يبلغان إلاّ مرتبة تلميذ بديع الزمان في الأدب والفلسفة(.

وحسبنا هذا لكي نصف أدبه بأنه أدب رفيع جداً.

وحيث إن البلاغة هي الكلام بمقتضى الحال، أي ليس فيه إطناب ممل ولا إيجاز مخل، فلا شك أن قارئ الرسائل يصل إلى هذه النتيجة بمجرد قراءته لها، فيشعر انه يقرأ ابلغ ما كتب باللغة التركية، حيث لا استطرادات كثيرة، ولا حشو في الكلام مطلقاً، مما جعل الأستاذ )محمد حرب عبد الحميد( يعدّ الأستاذ سعيد النورسي أحد الثلاثة الذين وجّهوا وحوّلوا تيار الأدب التركي، في مقالة له في مجلة البلاغ الكويتية.

فليس في أدب رسالة النور تقعر كما في أدب أواخر الدولة العثمانية، ولا تمشدق بالألفاظ الإفرنجية التي نراها في الأدب التركي الحديث. وإنما جمع روعة الأداء واختيار الكلمات وعمق المعاني وشفافية الروح.[33]

ويكفي القارئ الكريم أن يقرأ الرسالة ويتذوقها، فلا يحس بنفسه إلاّ وكأنه يقرأ شعراً رقيقاً؛ لما فيها من الخيال الخصب والوصف البديع ومخاطبة الوجدان، ويرى نفسه كذلك أمام حجج وبراهين منطقية تقوّم فكره وعقله. لذا فلا ينتهي من رسالة إلاّ والعقل قد اخذ حظه الكامل والروح قد ارتوت والقلب والخيال كل قد اخذ نصيبه، بحيث يمكنك أن تطلق على كل رسالة أنها علمية وروحية وقلبية، فهي ليست لواحدة منها فحسب، وإنما مندمجة وممتزجة مزجاً بديعاً متقناً في أسلوب أدبي رفيع.

وهذا هو سر رسائل النور يتذوقها كل من يتعامل معها بقلب سليم ويكمن هذا السر في أن الرسالة لا تخاطب فئة دون أخرى ولا شخصاً دون آخر، وإنما تخاطب الفطرة الإنسانية وكينونتها. فالعالِم المتخصص، والأديب المتمرس يجد حاجته فيها والشاب المتعلم يجد بغيته فيها، وكما أنها تناجي وتناغي الطفل كذلك تخاطب المرأة برقة واضحة، وتشفي غليل الرجل كذلك، فالكل يجد فيها نصيبه وحقه بل الكل يرتوي منها.

أما الشعر في الرسائل، فهناك أبيات من الشعر العربي تساق للاستشهاد، وهناك رد قوي على التشاؤم المفرط لأبي العلاء المعرّي وتفنيد للبيت الآتي:

ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فاخبرَه بما فعل المشيب

بفتح آفاق الشباب الدائم الخالد في رياض الجنة بحيث تبقى إعادة الشباب في الدنيا أمراً تافهاً جداً.

أما الشعر الفارسي، فهو أيضاً كثير في الرسائل للاستشهاد أيضاً وبالأخص شعر جامي والشيخ سعدي وحافظ الشيرازي، مع ردّ قوي على عمر الخيام.

وترد مقاطع في بعض الرسائل باللغة الفارسية وربما تشكل جزءاً كبيراً من الرسالة شعراً أو نثراً كما في الكلمة السابعة عشرة.

أما الشعر التركي فليس في الرسائل، استشهاد كثير به إلاّ أبيات معدودة للشاعر الصوفي نيازي المصري، وفضولي البغدادي كما في (رسالة الشيوخ).

وفيها أيضاً نثر منظوم للأستاذ نفسه يشبه الشعر إلاّ انه ليس بشعر حيث روعي فيه المعنى اكثر من الوزن والقافية.

ورغم أن الأستاذ من اصل كردي إلاّ انه لم يكتب في الرسائل فقرة كاملة باللغة الكردية. حيث إن اللغة التركية يومئذٍ كانت لغة الدولة ورعاياها ولغة الحضارة العثمانية.

وهل هناك تكرار في الرسائل؟

لا شك أن البحث في الموضوع الواحد في مائة وثلاثين رسالة خلال فترة زمنية تمتد إلى ربع قرن يكون فيه التكرار الكثير بشكل أو آخر، ولكن التكرار في الرسائل نادراً ما يحس به أحد، حيث إن الموضوع الذي يكرر يضاف إليه معنى جديداً أو يصاغ صياغة جديدة، أو ينظر إليه من زاوية أخرى أو يلون بلون جديد، مما ينفي عنه الملل. ولعل هذا هو السر الكامن في تكرار الآيات القرآنية.

أما الإحالة، فما من رسالة إلاّ وفيها (إحالة) إلى رسالة أخرى قد بسط فيها الموضوع بشكل آخر إجمالاً أو تفصيلاً أو إيضاحاً لنقطة منها..

وهكذا نرى إحالات كثيرة في الرسائل، مما تجعلها كأنها رسالة واحدة.

أيّ رسالة أفضل ؟:

لما كان قارئ الرسائل يجد جواب جميع الأسئلة التي تحوم حول فكره وعقله وردّ جميع الوساوس والشبهات التي يلقيها شياطين الجن والأنس في قلبه وخياله، لذا فانه ما أن يقرأ رسالة إلاّ ويقول: كأن هذه الرسالة قد كتبت لي. فهي من أحسن ما قرأته، ثم ينتقل إلى أخرى ويقول هذه افضل وهكذا.. حتى تكون جميع الرسائل عنده حسنة وجيدة بحيث لا يمكنه أن يميز واحدة عن الأخرى. ورغم هذا فان الأستاذ رحمه الله قد ضمّ إحدى عشرة حجة من الحجج الإيمانية مع إحدى عشرة مسألة من رسالة الثمرة في مجموعة وسماها )عصا موسى( ليبطل بها عمل سحرة الضلالة العلمية وليفجر بها ينابيع الإيمان. وضم كذلك )المعجزات القرآنية( و )المعجزات الأحمدية( و )رسالة الحشر( في مجموعة أخرى وسماها )ذو الفقار( وقدّم في بداية كل مجموعة ما يأتي:

)في هذا العصر الغريب، كما أن أهل الإيمان في اشد الحاجة إلى رسائل النور، وان معلمي المدارس الحديثة بحاجة ماسة إلى )عصا موسى(، فان علماء الشريعة كذلك ومعلمي القرآن الكريم هم في اشد الحاجة إلى )ذو الفقار(.

بهذا أشار إلى أن (عصا موسى) يستفيد منها طلاب الجامعات، وان علماء الشريعة يجدون بغيتهم في )ذو الفقار(.

وجمع كذلك مجموعة أخرى من المسائل الدقيقة في العقيدة كالقضاء والقدر وحكمة خلق الإنسان والعالم والروح، ودمار العالم وسماها )الطلاسم(.

فطالب النور، بعد أن يستيقن الإيمان ويستقر في قلبه بدراسته لـ (الكلمات) ينتقل إلى (المكتوبات) ليغترف أجوبة لأسئلة كثيرة جداً أو ليعيش في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقل إلى (اللمعات) ليعيش مع الأنبياء عليهم السلام وليأخذ حذره من الشيطان ومكائده وضلالات العلوم الحديثة حتى يرقى في النهاية إلى تذوق معاني الأسماء الحسنى بعد أن اخذ حصته منها في )الكلمات(.

أما إذا رأى في نفسه خوفاً أو تردداً أمام أهل الضلالة وملاحقتهم له، فعليه أن يقرأ )الشعاعات( حيث فيها التوحيد الخالص وأمور الدجال ودفاع الأستاذ في المحاكم.

وحيث إن الأحداث اليومية، ومجاهدة النفس والناس تتجدد يومياً، فلابد أن طالب النور بحاجة إلى فقه العمل، لذا فقد وجه الأستاذ رسائله في هذا الصدد إليهم من السجون والمعتقلات وفي ظروف مختلفة وحثهم على العمل الدائب والشورى فيما بينهم، والحذر من مكائد أهل الضلالة والشيطان كل ذلك وغيره من الأمور الدقيقة يجدها الطالب في )الملاحق(.

هذا ولا يعني أن الطالب لا ينتقل من مجموعة إلى أخرى إلاّ بعد مرحلة، وإنما يعني أن لكل مجموعة نكهتها الخاصة بها.

أما الموازين الاجتماعية والسياسية، فان رسالة )الخطبة الشامية( تضم أسسها العامة وتحتوي الرسائل الأخرى نتفاً منها أيضاً، كما نجد في )السانحات( و )المناظرات( إقامة للموازين الدقيقة التي يتمكن بها تلميذ رسائل النور من وزن الأحداث حسب المفهوم الإيماني، فضلاً عما ضمته )الملاحق( من تلك الأمور.

مع السنة النبوية الشريفة:

لا تخلو رسالة من رسائل النور من ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أو جانب من جوانب حياته المباركة بأسلوب شائق جداً بحيث تشعر بالأدب الجم والتعظيم اللائق تحت تأثير تلك العبارة. وغالباً ما يسبق الحديث الشريف ما يهيئ القلب والعقل والروح لتقبله حتى تشعر بأنك ماثل أمام قائله صلى الله عليه وسلم ، فيشع ذلك الحديث بنوره في قلبك ويسرى بفعله في أعصابك وجوارحك. هذا وان رسائل خاصة في السُنَّة ودلائل النبوة ومعجزاته صلى الله عليه وسلم ومعرفة أصول الحديث وكيفية الاستزادة من محبته صلى الله عليه وسلم لا يقرأها أي مسلم حتى يغمر قلبه حباً وإجلالاً لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

وفي ثنايا كثير من الرسائل أسئلة وأجوبة حول بعض الأحاديث الشريفة التي قد يُظن أول وهلة انه - أي الحديث - بعيد عن الواقع أو لا يسلم به العقل، إلاّ أن الرسالة تشرح الأبعاد الشاسعة لذلك الحديث وأسراره وحكمه الكثيرة، فترد جميع الشبهات الواردة عليه، وتزيل جميع الوساوس والشبه في زوايا العقل والقلب، وفي الوقت نفسه تصد تلك الهجمات الموجهة إلى الحديث الشريف من قبل أهل الضلالة باسم العلم الحديث بحجج عقلية مستساغة.

والذي ينعم النظر في الرسائل بصورة عامة والتي تبحث عن السُنّة بصورة خاصة (وبالأخص في المعجزات الأحمدية) يكتسب خبرة في كيفية التجوال في كتب الصحاح والسنن، إذ تدله على تلك الرياض الوارفة، فتنقله بين بساتينها المزهرة الفواحة، فيستنشق عبيرها، مع أخذه القدر الكافي مما يلزم لكل مسلم من معرفة مصطلح الحديث.

وكذلك لا يجد أمراً نوقش - أو يناقش - بين المسلمين في الحديث الشريف أو التهم الموجهة إليه، إلاّ ويجد جوابه الشافي المقنع فيها بحيث تطمئن إليه النفس.

فمسائل الدجال ونـزول عيسى عليه السلام والمهدي والخضر ومسائل حول الملائكة وأشرط الساعة وثواب الأعمال وغيرها.. قد أشبعت بحثاً وتوضيحاً بحيث يرتاح إليه القلب وتسكن إليه الجوارح.

وقد تناولت الرسائل أيضاً تلك الأحاديث التي اُتخذت ذريعة للهجوم على أمهات كتب الحديث من قبل أهل البدع، فدافعت عن تلك الأحاديث وأبرزت جوانب خفية منها بما يلجم أي معاند ومكابر كان.

أما الأحاديث التي تضمنتها الرسائل بصورة عامة فهي على الأغلب بصيغتها العربية. وقد تذكر بالمعنى أحياناً لذا ذكر الأستاذ في مقدمة رسالة المعجزات الأحمدية ما يأتي:

)لقد أوردتُ أحاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الأحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، إذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، أي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من أخطاء في الألفاظ، فلينظر إليها باعتبارها )رواية بالمعنى(. [34]

مع الفقه

هناك رسالة خاصة في )الاجتهاد( تبين أن هناك ستة من الأسباب التي تحول في الوقت الحاضر دون ولوج هذا الباب المفتوح.

لذا فان رسائل النور لا تورد مسألة ـ ولو كانت جزئية - خلافاً لآراء الأئمة المجتهدين مطلقاً ولا تذكر أسماءهم إلاّ مع الاحترام والتوقير الذي يليق بهم.

أما المصطلحات الفقهية والأصولية، فإنها ليست مجموعة في رسالة معينة، وإنما مبثوثة في كثير من الرسائل وترد في مكانها ومقامها المناسب، فمثلاً ترى في الفقرة الآتية تعريفاً لمصطلحين فقهيين علماً أن الموضوع ليس بموضوع فقه:

)سؤال: لماذا لم تُنقل )المعجزات( باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة إلى الأحكام الشرعية، فهي )كفروض عين( لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل إنسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة إليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي )كفروض كفاية( إذ يكفي أن يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.([35]

وهكذا بقية المصطلحات ترد بين ثنايا موضوع آخر أو بشكل سؤال وجواب، وهو ايسر للفهم والاستيعاب.

)ولعل من ألطف الثمرات التي قدمتها مدرسة رسائل النور أنها وحدت بين وجهات النظر المختلفة لأصول الدراسة والتفكير بين المدرستين العقلية (الفقهية) والقلبية (الصوفية) وأزالت ما بينهما من المناقشات والخلافات الظاهرة التي أعاقت التقدم والمضي في تبليغ الإسلام، فوق سعيها الحثيث في تمكين الوحدة بين صفوف أهل الإيمان، حيث إنها تقنع عقول أهل هذا العصر حتى تحقق لدى أصحاب العقول النيرة: إن ما أنتجه هذا العصر من التفرقة لا تلم شملها إلاّ رسائل النور(.

هذا وفي الرسائل حث لعلمائنا اليوم ودعوة موجهة إليهم ليدرسوا رسائل النور ويقفوا في صف واحد ضد الضلالة المهاجمة دون أن تحول بينهم وبين ذلك، الغرور العلمي أو الخلافات الجزئية أو الخلود إلى الدعة ولا يكونوا من الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة، مع توجيهات متتالية كان الأستاذ يوجهها إلى طلاب النور في مواجهة اعتراضات مثل هؤلاء العلماء على رسائل النور، وقد بسطنا القول فيها في )أسلوب مخاطبة المعارضين( فلا داعي للتكرار.

أما مع العلماء الذين يتصدون لإرشاد الناس ووعظهم، فقد شخّصت رسائل النور الداء فيهم وبينت العلاج، حيث جاء:

)إنني استمعت إلى الوعاظ. فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت انه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

1- انهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيراً في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لا بد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر اكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

2- انهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم.

3- إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر. إلاّ انهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع. وان يكونوا أيضاً مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة. وان يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم أيضاً أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة .( [36]

وتعيد رسائل النور وتكرر الدعوة إلى الوفاق والتصالح بين المدارس المختلفة، )فلقد قلت مائة مرة وأعيدها أيضاً:

)انه لابد من الوفاق والتصالح بين أهل المدارس الفقهية والمدارس الحديثة والزوايا الصوفية، لأجل وحدة الهدف، وذلك بتبادل الأفكار، وميل بعضها لبعض، وذلك لأننا نرى - مع الأسف - أن تباين أفكارهم كما إنها تفرق الوحدة، فإنها توقف الرقي والتقدم كذلك(.

مع علم الكلام:

إن رسائل النور لا تنتقص من علم الكلام والتصوف كمصادر للمعرفة - رغم ما بينهما من بون شاسع - إلاّ أنها تعدهما قاصرين وناقصين إذا ما عرضا أمام المنهج القرآني الحكيم، فهناك نصوص كثيرة حول هذا إلاّ أننا نقتطف النص الآتي:

)حقاً! إن معرفة الله المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل الله العلي القدير أن يجعل كل جزء من أجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم.

ثم إن معرفة الله التي استقاها الرازي من علم الكلام كما تبدو ناقصة وقاصرة في نظر ابن عربي، فان المعرفة الناتجة عن طريق التصوف أيضاً ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها أمام المعرفة التي استقاها ورثة الأنبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول )لا موجود إلاّ هو( لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر إلى إنكار وجود الكائنات.

أما الآخرون فلأجل الحصول على الحضور القلبي أيضاً قالوا: )لا مشهود إلاّ هو( وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.

بينما المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن أنها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الإهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شئ مرآة تعكس المعرفة الإلهية وتفتح في كل شئ نافذة إلى المعرفة الإلهية، كما عبر عنها سعدي الشيرازي شعراً:

در نظر هوشيار هر ورقي دفتريست أز معرفت كردكار

ولقد شبهنا في كلمات أخرى من رسائل النور لبيان الفروق بين الذين يستلهمون نهجهم من القرآن الكريم - ذلك المنهج الأقوم - والذين يسلكون نهج علماء الكلام بمثال هو:

انه لأجل الحصول على الماء، هناك من يأتي به بوساطة أنابيب من مكان بعيد يحفره في اسفل الجبال. وآخرون يجدون الماء أينما حفروا ويفجرونه أينما كانوا. فالأول سير في طريق وعر وطويل والماء معرض فيه للانقطاع والشحة. بينما الذين هم أهل لحفر الآبار فانهم يجدون الماء أينما حلوا دونما صعوبة ومتاعب.

فعلماء الكلام يقطعون سلسلة الأسباب بإثبات استحالة الدور والتسلسل في نهاية العالم، ومن بعده يثبتون وجود واجب الوجود.

أما المنهج الحقيقي للقرآن الكريم فيجد الماء في كل مكان ويحفره أينما كان. فكل آية من آياته الجليلة كعصا موسى تفجر الماء أينما ضربت. وتستقرئ كل شئ القاعدة الآتية:

وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد

ثم إن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده، إذ إن هناك لطائف كثيرة للإنسان لها حظها من الإيمان فكما أن الأكل إذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع إلى مختلف العروق حسب كل عضو من الأعضاء، كذلك المسائل الإيمانية الآتية عن طريق العلم إذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فان كل لطيفة من لطائف الجسم - كالروح والقلب والسر والنفس وأمثالها - تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فان فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة إذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها(.[37]

ومن هنا يمكننا القول بان رسائل النور قد شقّت طريقاً جديداً في علم الكلام، بل هو في الحقيقة )علم كلام قرآني( - إن صح التعبير - حيث ترى أسلوب العرض القرآني لمسائل وجود اللّه سبحانه والوحدانية والنبوة والآخرة والقضاء والقدر بشكل واضح جلي، يخاطب قلب الإنسان وفكره وعقله وخياله، بل جميع لطائفه معاً ولا يحصر الكلام في العقل أو الذوق ويورد أمثلة مادية ملموسة من واقع المرء وبيئته من النباتات والحيوانات والنجوم ومن النفس الإنسانية .. الخ.

ثم إنها لا تجمع بين الآيات المتشابهات في موضوع واحد ولا في مكان واحد، وإنما توزع تفسيرها على جميع الرسائل وهذا أيضاً أسلوب قرآني.

ومحور جميع المسائل هو )أسماء الله الحسنى( حيث تحل الرسائل بهذه الأسماء المقدسة جميع المشاكل والأمور، وتحول الدنيا إلى ميدان امتحان وعمل، وتضع بيد الإنسان موازين دقيقة قرآنية، كي يزن بها الأمور، ومن هنا أصبحت جميع العلوم الكونية وسائل وألسِنة تنطق بالوحدانية ونوافذ تطل على الآخرة.

)ولئن كان التوصل إلى العقيدة الخالصة والإيمان الكامل والظفر بالحقائق المحضة - فيما مضى - محصوراً في المدارس الفقهية ومناهجها وقضاء خمس عشرة سنة من العمر فيها، فإن طريقة رسائل النور تختصر المسافة والزمن إذ يمكن الحصول على تلك النتائج الإيمانية الخالصة والحقائق الإسلامية الصافية في خمسة عشر شهراً، بل خمسة عشر اسبوعاً بدلاً من تلك السنين الطويلة.

لذا أصبحت خاصة من خصائص رسائل النور (طي الإقدام لا طي الأقدام). وحقاً إن من يديم مطالعة الرسائل بدقة وروية يتمكن من الاطلاع على ما فيها من الحقائق، فكما انه ينقذ نفسه من المهالك كذلك يكون عالماً مرشداً في هذا العصر(.

فمسألة القضاء والقدر مثلاً التي أسهب فيها المتكلمون دون أن يحصدوا منها شيئاً وحيّروا العالم والمتعلم، وكذا الذين قلّدوهم من بعدهم، نرى أن (رسالة القدر) (الكلمة السادسة والعشرين) يفهمها المرء دون تكلف ولا صعوبة، علماً أنها لا تدع سؤالاً يرد إلى العقل ولا شبهة ترد إلى القلب إلاّ وتجيب عنها، وأسلوبها في هذا أسلوب مبتكر بديع ورصين مع انه بسيط مستساغ(.

مع التصوف:

قد يتصور الذي لم يطّلع على رسائل النور أنها رسائل صوفية وأن الأستاذ أحد شيوخ الصوفية، وأن جماعة النور جماعة من الصوفيين. وهذا الخطأ ناجم من الخلط بين الزهد والتصوف وعدم التمييز بينهما.

نعم، إن الأستاذ رحمه الله كان زاهداً حقاً، ولكنه لم يكن صوفياً ولا صاحب طريقة مطلقاً. لذا فليس رسائل النور رسائل صوفية ولا طلابها من الصوفيين، إذ كان الأستاذ يقول دائماً: ليس هذا العصر بعصر تصوف وطريقة، إنما هو عصر إنقاذ الإيمان.

فبيّن بهذا أن المهمة الأساس للمسلم في هذا العصر هي إنقاذ الإيمان وليس التصوف وأوضح ذلك في قوله:

)إني أخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني والشاه النقشبند[38] والإمام الرباني وأمثالهم من أقطاب الإيمان رضوان الله عليهم أجمعين في عصرنا هذا، لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الإيمانية والعقائد الإسلامية، ذلك لأنهما منشأ السعادة الأبدية، وان أي تقصير فيهما يعني الشقاء الأبدي.

نعم، لا يمكن دخول الجنة من دون إيمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف. فالإنسان لا يمكن أن يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة. فالتصوف فاكهة والحقائق الإسلامية خبز.

وفيما مضى كان الصعود إلى بعض من حقائق الإيمان يستغرق أربعين يوماً، بالسير والسلوك، وقد يطول إلى أربعين سنة، ولو هيأت الرحمة الإلهية في الوقت الحاضر طريقا للصعود إلى تلك الحقائق لا يستغرق أربعين دقيقة! فليس من العقل أن لا يبالي بهذا الطريق؟!

فالذين قرأوا بإنعام ثلاثاً وثلاثين رسالة من )الكلمات( يقرون بأن تلك )الكلمات( قد فتحت أمامهم طريقاً قرآنياً قصيراً كهذا.

فما دامت الحقيقة هكذا. فإني اعتقد:

أن )الكلمات( التي كُتبت لبيان أسرار القرآن هي أنجع دواء لأمراض هذا العصر وأفضل مرهم يمرر على جروحه، وانفع نور يبدد هجمات خيول الظلام الحالك على المجتمع الإسلامي، وأصدق مرشد ودليل لأولئك الحيارى الهائمين في وديان الضلالة( .[39]

ثم ترى في الرسائل مقارنات تعقد بن كتب الصوفية ورسائل النور، فالأولى تصف الأذواق والفيوضات لمن ارتقى إلى درجة الأولياء، بينما الثانية تخاطب كل إنسان وتريه الحقائق الإيمانية وتحثه على إنقاذ إيمانه الذي فيه سعادته.

)إن الدواوين والمؤلفات السابقة تقول:

كن ولياً وشاهد وارق في المقامات والدرجات، وابصر وتناول الأنوار والفيوضات!.

بينما رسائل النور تقول: كن من شئت وابصر! وافتح عينيك فحسب وشاهد الحقيقة وانقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية.([40]

لذا جاءت الرسائل للمستويات كافة بخلاف الكتب الصوفية التي تقتصر على فئة معينة.

وتلفت الرسائل النظر إلى الفرق بين طالب النور، والمريد الصوفي، أن للأول حججاً وبراهين يتمكن بها أن يغزو العالم بينما الآخر له قناعة ذاتية وشخصية حيث:

)إن ما نراه من حصيلة خدمتنا وجهودنا في ترسيخ الإيمان وتحقيقه في قلوب ألوف المؤمنين - حوالي ولاية إسبارطة - لكافٍ لخدمتنا هذه، بحيث لو ظهر من هو بمرتبة عشرة أقطاب من الأولياء الصوفية، واستطاع سوق ألفٍ من الناس إلى مراتب الولاية، فان عمله هذا لا ينقص من أهمية عملنا وقيمته ولا من ثمراته شيئاً. لذا فان طلاب رسائل النور الحقيقيين واثقون كل الثقة ومطمئنون كل الاطمئنان بمثل هذه النتائج وحصيلة الأعمال هذه إذ إن القناعة القلبية لدى مريدي ذلك القطب العظيم يحققها ويضمنها المقام الرفيع لأستاذهم ومرشدهم، ويضمنها أحكامه في المسائل، إلاّ أن رسائل النور تنشئ لدى طلابها درجة من القناعة أكثر بكثير مما عند مريدي ذلك القطب العظيم، بما فيها من حجج قاطعة تسري إلى الآخرين فتنفعهم أيضاً، بينما تبقى قناعة أولئك المريدين خاصة بهم وحدهم. إذ إن قبول أقوال الأشخاص العظام بغير دليل لا يفيد اليقين والقطعية - في علم المنطق - بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها الإنسان بالظن الغالب. أما البرهان الحقيقي - كما هو في المنطق - فلا ينظر إلى مكانة الشخص القائل وإنما إلى الدليل الذي لا يُجرح.

فجميع حجج رسائل النور هي من هذا القسم، أي من )البرهان اليقيني( لأن ما يراه أهل الولاية من الحقائق بالعمل وبالعبادة وبالسلوك وبالرياضة الروحية، وما يشاهدونه من حقائق الإيمان وراء الحجب، فان رسائل النور تشاهدها مثلهم أيضاً، إذ شقت طريقاً إلى الحقيقة في موضع العبادة ضمن العلم، وفتحت سبيلاً إلى حقيقة الحقائق في موضع السلوك والأوراد ضمن براهين منطقية وحجج علمية، وكشفت طريقاً مباشراً إلى الولاية الكبرى في موضع علم التصوف والطريقة ضمن علم الكلام وعلم العقيدة وأصول الدين؛ بحيث انتصرت على الضلالات الفلسفية التي تغلبت على تيار الحقيقة والطريقة في هذا العصر. والشاهد هو الواقع (.[41]

لذلك فان الرسائل تورث القناعة الكافية عند التلاميذ وتغرس الثقة المطلقة بأركان الإيمان عندهم اكثر بكثير مما عند مريدي المدارس الصوفية:

هذا وان المكتوب التاسع والعشرين، يبحث هذا الموضوع (الولاية والتصوف) [42] من كل جوانبه ويبين أن للقلب مجاله كما أن للعقل مجاله، وان العمل القلبي يكون بالذكر والتفكر، وان افضل واحسن طريقة هي اتباع السنة النبوية الشريفة، وان أهم أساس من أسس الولاية هو )الإخلاص( وان القوة النافذة فيها هي المحبة، وحيث إن الدنيا دار عمل وسعي وليست دار جزاء وثواب. لذا لا تطلب فيها اللذائذ والأذواق ولا يقصد فيها الكرامات، لهذا كله ينبغي الالتزام بالشريعة إذ الحقيقة والطريقة وسيلتان لخدمة الشريعة.

ثم يبين (ثماني ورطات) لطرق الصوفية ويردّ في اللمعة التاسعة من مجموعة )اللمعات( على القائلين بوحدة الوجود بحجج قوية منطقية يسلم بها الجميع.

وحيث إنه يمكن أن يلج كل جماعة - ومنها الصوفية - من هم ليسوا من أهلها، لذا لا يمكن أن يغمط حق الذين تصدوا للكفر والزندقة ورفعوا راية الإيمان في ظروف حالكة وجددوا الهمم والعزائم عند المسلمين، فأضاءوا السبل أمام الأجيال من أمثال الإمام الغزالي والإمام احمد الفاروقي السرهندي الرباني والإمام الشاه النقشبند والشيخ عبد القار الكيلاني وغيرهم كثير بحجة أخطاء وقعت فيها طائفة تسموا بـ (الصوفية).

لذا فان الرسائل تذكر أسماء هؤلاء المجددين العظام بالاحترام اللائق بمرتبتهم ومكانتهم، ثم إن الرسائل لا تذكر الصوفية قدحاً ولا مدحاً على التعميم، وإنما تضع إصبع الاتهام على أمور خالف فيها بعضهم قواعد أهل السنة والجماعة وترحب في الوقت نفسه بالبطولات المعنوية الرائعة وبالخدمات الجليلة التي قدموها في ميدان الإيمان ونشر الإسلام، وذلك بمقتضى العدل الإلهي الذي يزن الناس جميعاً يوم الحشر الأكبر وهو رجحان الحسنات والسيئات، من حيث الكمية والنوعية، فرب حسنة من نوعية ممتازة - وان كانت ضئيلة - تمحو سيئات كثيرة جداً.

أما العبادات القلبية من إخلاص وتوكل ودرجات الخوف والرجاء والمحبة والتخلص من الرياء والعجب والتكبر.. فهي الميدان الأول والواسع لرسائل النور، فترى تأكيد الإخلاص باستمرار، وأبحاثاً وعلاجات دقيقة جداً لأمراض الوساوس القلبية والخواطر الخبيثة وسبل مداخل الشيطان في النفس أو في صفوف الجماعة المسلمة. وكذلك معاني الصبر والوفاء والإيثار إلى آخر المعاني التي افتقدها المسلمون في الوقت الحاضر حتى غدت غير مألوفة لديهم.

ومن ابرز ما تهدف إليه رسائل النور في الإنسان هو إثارة ملكة التفكر عنده وقابلية التأمل لديه، إذ بدونهما لا يمكن أن يكون الإخلاص والإيمان والعمل ذاتياً.

مع العلوم الكونية:

مما لا يختلف في اثنان أن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد حثا على طلب العلم، فلا غرابة إذن أن نرى هذا الحث أيضاً في رسائل النور، مع وضع لأسس وقواعد البحث العلمي وما يجب أن يتحلى به كل باحث ودفع وتشويق إلى التخصص في مادة واحدة دون صرف الجهود إلى عدة علوم حيث:

)إن الشخص الواحد لا يستطيع أن يتخصص في علوم كثيرة، إلا مَن كان فذاً، فيستطيع أن يتخصص في أربعة أو خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملكة فيها(.[43]

ولما كان القرآن الكريم مصدر الهام رسائل النور - كما أعلنه الأستاذ مراراً - فلابد انه يعرض هذا الموضوع من استلهام الآيات القرآنية أيضاً، فنرى أن الرسائل توجه الأنظار إلى )أستاذية القرآن( للإنسانية قاطبة بما يحث البشر على السعي الدائب والعمل المتواصل للوصول إلى ما ذكره من معجزات الأنبياء عليهم السلام وكأنه يدلهم بها .

)نعم نفهم من أستاذية القرآن وإشارات درسه: أن القرآن بذكره معجزات الأنبياء، إنما يدل البشرية على أن نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل بالترقي، ويحث الإنسان على ذلك وكأنه يقول له: هيا اعمل واسعَ لتنجز أمثال هذه المعجزات، فاقطع مثلاً مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه السلام، واعمل على مداواة اشد الأمراض المستعصية كما داواها عيسى عليه السلام، واستخرج الماء الباعث على الحياة من الصخر وانقذ البشرية من العطش كما فعله موسى عليه السلام بعصاه. وابحث عن المواد التي تقيك شر الحرق بالنار، وألبسها كما لبسها إبراهيم عليه السلام. والتقط أبعد الأصوات واسمعها وشاهد الصور من أقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض الأنبياء. وألِن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلام، واجعل الحديد كالشمع في يدك ليكون مداراً لجميع الصناعات البشرية، كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما السلام. فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما. وهكذا قياساً على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية إلى الرقي المادي والمعنوي، ويلقي علينا الدروس ويثبت انه أستاذ الجميع.( [44]

ولكن الدراسة المنهجية في المدارس التي تضخم في أذهان الطلبة، أمر العلم والتكنولوجيا حتى تجعله مصدر السعادة والرفاه، وتهمل - في الوقت نفسه - مصدر السعادة النابعة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، تدفع الطلاب - والناس بدورهم - إلى الجرأة ليتساءلوا:

)إذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نـزل لأجل الإنسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وإنما يكتفي برمز مستتر، وإيماء خفي، وإشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: إن خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، إذ إن الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف وإشارة خفية ليس إلاّ.. فإنها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: إذا طالبت الطائرة البشرية القرآن الكريم قائلة:

- )أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك(. فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والأرض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- )انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر(

وإذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الأرض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- )إن مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!(

وإذا أرادت الكهرباء أن تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والأنجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

- )انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!(

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وأرادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- )اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والاختراعات - التي اكتشف اكتسابا بإرادة الإنسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الأجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

(إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلبُهم الذبابُ شيئاً لا يستنقذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ) (الحج:73) [45]

وهكذا تسرد الرسالة ما يستعظمة الإنسان من نتائج الاكتشافات العلمية، أنها حقيرة وصغيرة بل تافهة أمام عظمة مخلوقات اللّه سبحانه . وأما وظيفة العبودية للإنسان على الأرض.. وهو يرى أن ما كان يظنه قبل سنين من الأمور العظيمة والتي يطلق عليها خطأ )معجزات العلم( أصبحت من الأمور المألوفة والبديهية.

لذا نرى أن الرسائل تذكر الأمثلة العلمية وتخوض في اغلب العلوم المعروفة، ملتقطة منها أمثلة واقعية يفهمها القارئ ويستسيغها، حيث إنها تقر بالحقائق التي أتت بها العلوم الحاضرة إلاّ أنها تعزو سبب الضلالة الناشئة في العلوم الحاضرة إلى حصر النظر في الأسباب الظاهرة دون رؤية يد القدرة الحكيمة التي تهيئ وتسيّر تلك الأسباب وفق نظام دقيق. كما جاء في المسألة السادسة من رسالة الثمرة .

كذلك ترى مثل هذه الأمثلة من العلوم عند شرح معاني الأسماء الحسنى وفي رسالة الذرة الرائعة (المقصد الثاني من الكلمة الثلاثين) التي هي برهان ساطع على اتخاذ رسائل النور كل علم وسيلة لبيان التوحيد والآخرة والنبّوة..

نخلص مما سبق: إن الرسائل تنتهج مع العلوم الكونية الأسلوب الآتي:

1- إن قمة العلوم ونهاية حدودها قد خطها الأنبياء عليهم السلام بمعجزاتهم، وان جميعها تستند إلى الأسماء الحسنى وتنتهي إليها.

2- إن ما يستعظمه الإنسان - من المكتشفات الحديثة - سوف يكون من الأمور البسيطة في المستقبل، لذا لا يستحق ذلك الإعجاب إلاّ بقدر ما يذكّر بعظمة الله سبحانه.

3- إن جميع ما اكتشفه العلم ليس إلاّ اثر من آثار الله سبحانه في الوجود وهو احسن وسيلة لرؤية حكمته سبحانه وقدرته وعظمته.

4- لذا لابد من إثارة عنصر التفكير عند الإنسان عند النظر في ملكوت السموات والأرض، أي تعويده على العبادة الفكرية.

5- ولابد من سرد الأمثلة لتمهيد العقل وتهيئة النفس وتحضيرها لقبول الآيات والأحاديث بإذعان كامل. حيث ضاقت العقول التي سقيت بغير ماء الإسلام في المدارس أمام كثير من الآيات والأحاديث الشريفة.

ولما كانت الرسائل تجعل القارئ ينظر إلى الكون وكأنه كتاب رباني مفتوح وقد نقشت فيه أسماؤه الحسنى جل جلاله، لذا فانه يفهم بكل سهولة حكمة المخلوقات أو الحوادث أو الأمور المختلفة تحت أنوار تجليات تلك الأسماء الحسنى، حيث قد شرحتها مفصلاً في الرسائل المختلفة حتى غدت العلوم الحاضرة في حقيقتها آفاقاً لتجليات تلك الأسماء.

ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب النجاح الذي أحرزه (مركز البحوث العلمية) الذي شكّله طلاب النور في الآونة الأخيرة والذي اصدر كتيبات علمية إيمانية على مستوى راق [46]، حتى طبعت منها في السنة الواحدة، عشر طبعات، إذ قام بإصدارها أساتذة أكفاء تشربوا بمفاهيم رسائل النور ووعوها وعياً كاملاً، فتمكنوا من صياغة العلم الحديث بأسلوب إيماني بديع مراعين فيها إثارة التأمل والتفكير عند القارئ مع عرض لأحدث المكتشفات العلمية ونظرياتها ومن ثم الوصول إلى الحكيم المدبر في جميع هذه الآثار المبثوثة أمام عين الإنسان، ولا نعلم مثيلاً لهذا الأسلوب باللغة العربية كي نتمكن من مقارنته.

مع الفلسفة:

إن أهل الضلالة والإلحاد يستندون دائماً إلى الأسس الفاسدة للفلسفة الطبيعية المادية، فيوهمون بعض المسلمين بان لهم أسساً علمية يركنون إليها لصد حقائق الإسلام.

لذا نرى الرسائل تشن هجوماً عنيفاً وباستمرار على تلك الأفكار والكلمات والأسس الفاسدة التي يستند إليها الماديون الطبيعيون ولا تكتفي بإيراد بضعة أدلّة، وإنما تسرد الدلائل تلو الدلائل وتعقبها بأمثلة غزيرة ومتنوعة حتى ترى بوضوح بيّن أن الطريق التي يسلكها المنكرون من الماديين الطبيعيين هي بعيدة كل البعد عن المسلمات المنطقية والعقلية، بل تمجها العقول السليمة، وأنها محض خرافة خرقاء.

وسلوكها في ذلك هو بخطوات منطقية عقلية، فمثلاً جاء في مقدمة رسالة الطبيعة:

)أيها الإنسان: اعلم أن هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة، تخرج من أفواه الناس، وترددها ألسنة أهل الإيمان دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الخطورة:

أولاها: قولهم عن الشيء: )أوجدته الأسباب( أي أن الأسباب هي التي توجد الشيء المعين.

ثانيها: قولهم عن الشيء: )تشكّل بنفسه( أي أن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ، بنفسه، وينتهي إلى صورته التي انتهى إليها كما هي.

ثالثتها: قولهم عن الشيء: )اقتضته الطبيعة( أي أن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي أوجدته واقتضته.

نعم! مادامت الموجودات موجودة وقائمة أمامنا بما لا يمكن إنكارها مطلقاً، وان كل موجود يأتي إلى الوجود في غاية الإتقان والحكمة، وهو ليس بقديم أزلي، بل هو محدث جديد.

فيا أيها الملحد! إما انك تقول أن هذا الموجود - وليكن هذا الحيوان مثلاً - توجده أسباب العالم، أي أنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الأسباب المادية، أو أنه تشكل بنفسه، أو أنه يرد إلى الوجود بمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! أو عليك أن تقول:

إن قدرة الخالق القدير ذي الجلال هي التي توجده.

لأنه لا سبيل إلى حدوثه غير هذه الطرق الأربعة، حسب موازين العقل، فإذا ما أثبت - إثباتاً قاطعاً - أن الطرق الثلاثة الأولى محالة، باطلة ممتنعة، غير ممكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريق الرابع، وهو طريق وحدانية الخالق بيقين جازم لا ريب فيه.[47]

ثم تذكر الرسالة تلك المحاولات وتوضحها بأمثلة علمية سلسة متنوعة حتى لا تذر غباراً للشبهة الوسوسة في القلب والعقل، وهكذا يلمس القارئ الأسلوب العلمي المنطقي الرصين والمحاورة الهادئة الرزينة.

وكما ذكرنا في (أسلوب الاستثناء) فإن الرسائل لا تهاجم الفلسفة بصورة مطلقة وإنما تستثنى منها المفيدة، فقد جاء في مقدمة (المدخل إلى النور) ما يأتي:

) إن الضربة التي أهوت بها هذه الرسالة على الفلسفة هي الفلسفة المضرة للبشرية. والتي تعادي الدين وليس ذلك القسم من الفلسفة الذي يقف موقف الصداقة منه والذي ينفع البشرية..(.[48]

)... أما الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، فهي الفلسفة المضرة وحدها وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لان قسم الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهد للرقي الصناعي؛ فهي في وفاق ومصالحة مع القرآن، بل هي خادمة لحكمة القرآن، فلا تعارضها ولا يمكنها ذلك، لذا فرسائل النور لا تتصدى لهذا القسم من الفلسفة.

أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما انه اصبح وسيلة للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسن للفلسفة الطبيعية، فانه ينتج كذلك السفاهة واللهو والغفلة والضلالة ويعارض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائق المعجزة للقرآن الكريم.

لذا فان رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسفة في اغلب أجزائها بنصبها موازين دقيقة، وسوقها البراهين الدامغة، فتصفعها بصفعاتها القوية، في حين أنها لا تلتفت إلى القسم النافع منها.

ومن هنا لا يعترض طلاب المدارس الحديثة على رسائل النور بل ينضوون - وعليهم أن ينضووا - تحت لوائها دون تردد..(.[49]

ولابد للباحث في الفلسفة أن يسبر أغوارها ويفتش عن جذورها المتشعبة، وإلاّ فلا تسمى تلك البحوث التي تأخذ بالقشور وبعض الأمثلة البسيطة أنها بحوث رصينة أو علمية دقيقة.. فرسالة )أنا( مثلاً مثال رائع جداً على ما ذكرنا، فهي رسالة قيّمة جداً فيها التحليل الدقيق لجذور الفلسفات جميعها والمقارنة بينها وبين الأديان والنبوّة.

وبعد مقدمة رائعة تذكر..

إذا استوعبت هذه المقدمة، فهيا لندخل معاً إلى الحقيقة نفسها.

) إن في تاريخ البشرية - منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام إلى الوقت الحاضر - تيارين عظيمين وسلسلتين للأفكار، يجريان عبر الأزمنة والعصور، كأنهما شجرتان ضخمتان أرسلتا أغصانهما وفروعَهما في كل صوب، وفي كل طبقة من طبقات الإنسانية.

إحداهما: سلسلة النبوة والدين

والأخرى: سلسلة الفلسفة والحكمة

فمتى كانت هاتان السلسلتان متحدتين وممتزجتين، أي في أي وقت أو عصر استجارت الفلسفة بالدين وانقادت إليه وأصبحت في طاعته، انتعشت الإنسانية بالسعادة وعاشت حياة اجتماعية هنيئة. ومتى ما انفرجت الشقة بينهما وافترقتا، احتشد النور والخير كله حول سلسلة النبوة والدين، وتجمعت الشرور والضلالات كلها حول سلسلة الفلسفة.

والآن لنجد منشأ كلٍ من تلكما السلسلتين وأساسهما:

فان سلسلة الفلسفة التي عصت الدين، اتخذت صورة شجرة زقوم خبيثة تنشر ظلمات الشرك وتنثر الضلالة حولها. حتى أنها سلّمت إلى يد عقول البشر، في غصن القوة العقلية، ثمرات الدهريين والماديين والطبيعيين .. وألقت على رأس البشرية، في غصن القوة الغضبية ، ثمرات النماريد والفراعنة والشدادين.. وربّت، في غصن القوة الشهوية البهيمية، ثمرات الآلهة والأصنام ومدّعي الألوهية.

وبجانب هذه الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، نشأت شجرةُ طوبى العبودية للّّه، تلك هي سلسلة النبوة، فأثمرت ثمرات يانعة طيبة في بستان الكرة الأرضية، ومدّتها إلى البشرية، فتدلّت قطوفاً دانية من غصن القوة العقلية: أنبياء ومرسلون وصديقون وأولياء صالحون.. كما أثمرت في غصن القوة الدافعة: حكاماً عادلين وملوكاً طاهرين طهر الملائكة.. وأثمرت في غصن القوة الجاذبة: كرماء وأسخياء ذوي مروءة وشهامة في حسن سيرة وجمال صورة ذات عفة وبراءة.. حتى أظهرت تلك الشجرة المباركة:

إن الإنسان هو حقاً اكرم ثمرة لشجرة الكون.

وهكذا فمنشأ هذه الشجرة المباركة، ومنشأ تلك الشجرة الخبيثة، هما جهتا )أنا( ووجهاه، أي أن )أنا( الذي أصبح بذرة أصلية لتلكما الشجرتين، صار وجهاه منشأ كلٍ منهما. [50]

ثم تسرد التفاصيل الدقيقة مع المقارنة بين السلسلتين إلى أن تذكر:

) نعم ! إن الفلسفة القديمة لمصر وبابل، التي بلغت مبلغ السحر، أو تُوهّمت سحراً - لاقتصارها على فئة معينة - هي التي أرضعت الفراعنة والنماريد وربّتهم في أحضانها، كما أن حمأة الفلسفة الطبيعية ومستنقعها مكّنت الآلهة في عقول فلاسفة اليونان القدماء، وولدت الأصنام والأوثان. حقاً إن المحجوب عن نور الله بستار )الطبيعة ( يمنح كلَّ شيء ألوهيةً، ثم يسلطه على نفسه(.[51]

وبعد، لابد لكل من يتصدى لموضوع الفلسفة أن يدلي برأيه في الفلاسفة والشعراء الذين ظهروا في التاريخ الإسلامي والذين افتتنوا بالفلسفة اليونانية.. فما رأي الرسائل فيهم؟.. جاء ذلك في رسالة )أنا(.

) ونظراً لاستناد الفلسفة إلى مثل هذه الأسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة فان فلاسفة الإسلام الدهاة، الذين غرّهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا إلى طريقها كابن سينا والفارابي، لم ينالوا إلاّ أدنى درجة الإيمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الإسلام الإمام الغزالي حتى تلك الدرجة.

وكذا أئمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين، فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها وأوثقوا صلتهم بها، وحكّموا العقل، لم يظفروا سوى درجة المؤمن المبتدع الفاسق.

وكذا أبو العلاء المعري الذي هو من أعلام أدباء المسلمين والمعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وأمثالهما من الأدباء الأعلام ممن استهوتهم الفلسفة، وانبهرت نفوسهم الأمارة بها.. فهؤلاء .. قد تلقوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل أهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين: )أيها السفهاء انتم تمارسون السفه وسوء الأدب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربّون الزنادقة في أحضان أدبكم!(. [52]

وفي حاشية للرسالة نفسها يرد الأستاذ باستعلاء إيماني رائع على سؤال هو:

) وان قلت: فما تكون أنت حتى تنازل هؤلاء المشاهير؟ فهل أصبحت نظير ذبابة حتى تتدخل في طيران الصقور؟

وأنا أقول: لما كان لي أستاذ أزلي وهو القرآن العظيم، فلا أراني مضطراً أن أبالي ولو بقدر جناح ذبابة في طريق الحقيقة والمعرفة، بأولئك الصقور الذين هم تلاميذ الفلسفة الملوثة بالضلالة والعقل المبتلى بالأوهام. فمهما كنت أدنى منهم درجة إلاّ أن أستاذهم أدنى بدرجات لا حدّ لها من أستاذي، فبفضل أستاذي وهمته لم تستطع المادةُ التي أغرقتهم أن تبلل قدمي. نعم! إن الجندي البسيط الحامل لأوامر سلطان عظيم وقوانينه، يمكنه أن ينجز من الأعمال مالا ينجزه مشير لدى ملك صغير(. [53]

وهكذا ترى في هذه الرسالة وفي جميع الرسائل أستاذية القرآن ومنهجه الحكيم في كل أمر من الأمور. حتى أنها في نهاية هذه الرسالة تظهر في سياحة خيالية صعوبة الوصول إلى الحقيقة عن طريق الفلسفة أو عن طريق العقل المجرد وسهولة ذلك في النهج القرآني وذلك بأسلوب رائع جداً.

أما الفلاسفة المحدثون والنظريات المادية الحديثة، فهي بلا شك تستند في جذورها الأصلية إلى الفلسفة المادية القديمة، ولما كانت قد أثبتت بطلان تلك الجذور وتفاهتها، فلا حاجة إذن من حصر الموضوع في فلسفة معينة بالذات.

وهكذا لا تجد اسم (كانت) و (نيتشة) وغيرهما ولا ذكراً لنظرية دارون وغيره من الذين نفثوا بنظرياتهم الخبيثة سموماً في عقول أبناء هذا العصر إلاّ انك تقرأ بالتفصيل أدلّة مقنعة وقوية جداً لدحض أي فكرة أو نظرية تستند إلى الأسباب المادية والطبيعة المصادفة مع إقامة حجج وبراهين لإثبات الوحدانية والفعالية المستولية على الكون وذلك في رسالة (الطبيعة) و في بحث (هو ) اللذين يعتبران من السيوف البتارة والمطارق الشديدة على رؤوس أهل الضلالة والكفر من الماديين والمفلسفين.

المنهج الاستدلالي:

لا يمكن أن يذكر شئ في الرسالة إلاّ ومعه - أو قد سبقه - برهان ودليل لإثباته سواءً كانت تلك الأدلة شرعية نقلية أو أدلة عقلية أو فطرية أو تستند أحياناً إضافة لما سبق إلى كلام المجددين العظام أو على أمثلة مقنعة بحيث تدع القارئ يطمئن دائماً إلى جميع ما يرد في الرسائل ولعل هذا هو السر في إلزامها المعاندين وإلجامها لهم.

أما طريقتها في الاستشهاد بالآيات أو الأحاديث أو أية قاعدة شرعية كانت، فإنها تمهد العقل وتهيئ النفس لقبول ذلك الدليل الشرعي على وجهه الصحيح وليس العكس كأن تذكر الآية أو الحديث ثم تستطرد في الشرح.

فهذا الأسلوب لرسائل النور - وبالأخص في زماننا هذا - جدير بالإعجاب حيث إن اغلب العقول والنفوس قد انصبغت بآراء الفلاسفة الماديين ورانت على القلوب السيئات، مما حجبت الناس عن إدراك مرامي الآية أو الحديث أو أي دليل شرعي آخر، لذا لا نرى في الرسائل الاستشهاد الكثير بهما إلاّ بعد مقدمات تأخذ بأطراف النفس والعقل والروح.

هذا وان الرسائل تربي عند القارئ القدرة على معرفة الدليل ووزن الكلام المقروء والمسموع بميزان الإسلام.

حيث يقول:

)اَروني مفسداً يقول: أنا مفسد، وما هو إلاّ مفسد إلاّ أنه يتراءى في صورة الحق، أو يرى الباطل حقاً. نعم؛ ما من أحد يقول: مخيضي حامض.. فلا تأخذوا شيئاً إلاّ بعد إمراره على المحك، لأن أقوالاً مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار حتى كلامي أنا لا تأخدوه على علاّته بحسن ظنكم لأنه صادر عني فقد أكون مفسداً، أو اُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق إلى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فان ظهر اَنه ذهب فارسلوه إلى القلب، واحفظوه هناك، وان ظهر اَنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيراً من الغيبة وشيّعوه بسوء الدعاء عليّ وردّوه خائباً إليّ.([54]

أما منهج الرسائل في سوق البراهين فمن الأفضل أن نقتطف هنا ما دار في اجتماع طلبة النور للدراسات العليا في (كولن/ ألمانيا الغربية) في الشهر الرابع سنة 1979 الذي يعتبر خلاصة موضوعنا.

) لقد ركّز الأستاذ النورسي - رحمه اللّه - جل مساعيه على بيان (حقيقة الإيمان) التي تبعث الطمأنينة في الفرد، والسعادة في المجتمع، بدلاً من مجرد تقديم وصفات اجتماعية غير قابلة للتطبيق.

لذا وجهت رسائل النور الأنظار إلى الضروريات الدينية ومسلماتها التي لا تتأثر بتقادم الزمن ولا بالاكتشافات العلمية، فشرحت المسائل وفصلتها من هذه الزاوية سواءً في ميدان العقائد أو في ميدان الاجتماع، إذ الإيمان - كما يعرفه الأستاذ نفسه هو نور ناشئ من التصديق بالضروريات الدينية تفصيلاً وبما سواها إجمالاً. ومن هنا كان الحجر الأساس في رسائل النور هو الحقائق الإيمانية.

ويمكننا أن نلاحظ سبب اختيار رسائل النور هذا المنهج من تعبير الأستاذ نفسه في (إشارات الإعجاز).

) اعلم إن البرهان إما )لِمّيٌ( وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر. وإمّا )إنّيّ( وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر. وهذا اسلم ( [55]

أي كدلالة النار إلى الدخان - التي هي دلالة المؤثر على الأثر - وكدلالة الدخان على النار - أي دلالة الأثر على المؤثر - وان البرهان الإنِّي هذا هو أسلم من الشبهات.

فالأستاذ رجح الاستدلال بالأثر على المؤثر السالم من الشبهات وهو الطريق الأصوب للاستدلال ولاسيما في عصرنا هذا الذي اتخذ المادة أساسا لكل شئ. لذا ساق الأستاذ الأمثلة المادية الملموسة كدليل في المسائل الإيمانية، بخلاف علماء الغرب - المتدينين - الذين رجحوا الاستدلال بالمؤثر على الأثر حيث ساقوا المسائل التي استعصت على العلم الحديث - والتي لم يتمكن من كشف نتائجها وتوضيحها بعد - كشواهد لإثبات عظمة الخالق ودلائل قدرته سبحانه، وما عجز عنه إلى الله سبحانه! ولكن حينما تتوضح المسألة - بعد الكشف العلمي - وتصبح من الأمور البديهية، فان تلك الأدلة الاعتقادية سوف تتضعضع وبدورها يضعف الإيمان.. وقد انهار الإيمان عند بعضهم فعلاً.

غير أن الأستاذ النورسي الذي رجح الاستدلال النابع من الأثر على المؤثر، فقد وجّه الأنظار إلى (حكمة) كل شئ وكل حادثة من حوادث الكون سواء في ذلك علمت نتيجتها أم لم تعلم بعد. واختار التعريف بالمؤثر الحقيقي بصفاته الجليلة وأسمائه الحسنى، لذا فكلما يتقدم العلم ويعلن للأوساط حكماً جديدةً بكشفه عن كيفية نشوء الحوادث يصبح وسيلة لفهم أوضح للمسائل الإيمانية وبهذا يصدق نهج رسالة النور في دعواها:

)كلما شاب الزمان ازداد القرآن شباباً ونضارة اكثر واستبانت رموزه(.

نهج رسائل النور في التبليغ

وضح الأستاذ نهج رسائل النور في مخاطبة الناس، ولِمَ لا تهزم رغم جميع التحديات والعراقيل التي تضعها الضلالة والتيارات المعادية أمامها، وذلك في مقدمة رسالة الخطبة الشامية. ننقل ذلك النص :

)لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض إخواني النوريين، وما زالوا يسألون:

لماذا لا تُهزم )رسائل النور( أمام هذا الحشد الغفير من المعارضين والفلاسفة المُتعنّتين وأرباب الضلال؟ فعلى الرغم من إقامتهم سداً منيعاً - إلى حدٍ ما - ليحول دون انتشار ملايين الكتب الإيمانية والإسلامية القيمة.. وعلى الرغم من حرمانهم الكثير من الناس، ولا سيما الشباب الأبرياء من حقائق الإيمان بتسهيل سُبُل السفاهة لهم وإغرائهم بملذّات الحياة الدنيا.. وعلى الرغم من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل الغدر وأساليب الهجوم العنيف واختلاق الأكاذيب وإشاعة الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على التخلي عنها.. وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل النور. فما الحكمة من انتشارها انتشاراً لم يسبق له مثيل، حتى بلغ ما نسخ من معظمها باليد فقط ستمائة ألف نسخة، وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس بشوق بالغ في الخفاء، وتستقرئ نفسها في داخل البلاد وخارجها بكمال المسرّة والمحبة؟.

فجواباً عن أسئلة كثيرة تردُ بهذا المعنى نقول:

الجواب:

إن رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، ببيان إعجاز معانيه الجليلة، تبين أن في الضلالة جحيماً معنوياً في هذه الدنيا، كما تثبت أن في الإيمان نعيماً معنوياً في الدنيا أيضاً. وهي تبرهن أن في المعاصي والفساد والمتع المحرّمة آلاماً معنوية مبرّحة، كما أن في الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة.

فهي بهذا الأسلوب تنقذ مَن كان له مسكة من عقل من أهل السفاهة وأرباب الضلال من التمادي في غيّهم، ذلك لأن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين:

أولاها:

إن نوازع الإنسان وأحاسيسه المادية لا ترى العقبى فتفضّل درهماً من لذّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة، هذه الأحاسيس قد طغت - في هذا العصر - على عقل الإنسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لإنقاذ السفيه من سفهه، هو الكشف عن ألمه في لذته نفسها، ومساعدته على التغلب على أحاسيسه تلك؛ إذ المرء في زماننا هذا، مع علمه بلذائذ الآخرة ونعيمها الثمين كالألماس يفضّل عليها مُتعاً دنيوية تافهة أشبه ما تكون بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير إليها الآية الكريمة (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) (إبراهيم: 3). وبناء على هذا ولشدة حبّه للدنيا تراه ينساق وراء أرباب الضلالة ويتبعهم بعد أن كان من أهل الإيمان.

والسبيل الوحيد لإنقاذه من خطر الانسياق هذا، هو إظهار آلام جهنم وعذابها في الدنيا أيضاً.

وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور.

إن ما في عصرنا الحاضر من تعنّت الإلحاد، وصدود الضلالات الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها والإعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي، قد جعلت نسبةَ مَن يتّعظ واحداً من مجموع عشرة أشخاص، أو ربما واحداً من عشرين شخصاً، بعد أن يُعرَّف له الخالق جل جلاله ويثبت له وجود جهنم ويخوَّف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات، ثم تراه يقول: )إن الله غفور رحيم.. إن جهنم بعيدة جداً!.( ثم قد يستمر في لهوه وعبثه، فينهزم قلبُه وتنهار روحُه أمام طغيان شهواته.

وهكذا فان )رسائل النور( تبين العواقب الوخيمة الأليمة التي تترتب على الكفر والضلال في هذه الدنيا، في معظم الموازنات التي تعقدها، فتنفِّر أشد الناس اتباعاً لهواهم وأكثرهم تعنّتاً وعناداً، من الخوض في متعهم المحرمة وسفاهتهم المشؤومة، وتدفع بالعقلاء منهم إلى طَرقِ باب التوبة والاستغفار.

وعلى سبيل المثال: الموازنات المبسطة التي تتضمنها الكلمات: السادسة، والسابعة، والثامنة من )الكلمات الصغيرة(، والموازنة المطوّلة التي يتضمنها الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين. هذه الموازنات تحمل اشد الناس سفاهة وضلالة على الرهبة والرعب، وعلى قبول إرشادها والاتعاظ بها.

ومثلاً: نشير هنا باختصار إلى ما رآه - أي سعيد القديم - من حقائق في أثناء تجوالٍ خيالي من خلال التدبر في آية )النور(. وتفصيله في )القسم الخامس من المكتوب التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات( فمن شاء فليراجعه. والخلاصة هي:

في أثناء سياحتي الخيالية تلك، رأيت عالم الحيوان، ذلك العالم المحتاج إلى الرزق والتقوّت. وعندما تأملته من وجهة نظر الفلسفة المادية، أظهر لي - ذلك العالَم من الأحياء - عالماً رهيباً مؤلماً؛ بما فيه من ضعف وعجز فضلاً عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!

ولما كنت انظر إليه بعين أهل الضلال والغفلة أطلقتُ صرخةً ملؤها الألم والحزن، وإذا بي أرى ذلك العالم بمنظار الإيمان وحكمة القرآن، فإذا باسم )الرحمن( يشرق من برج )الرّزاق( كشمسٍ ساطعة، فأنار ذلك العالمَ الجائع البائس من الأحياء واسبغ عليه نور رحمته.

ثم رأيت عالَماً آخر في عالم الحيوان هذا، ذلك هو عالَم الأفراخ الصغار التي تنتفض ضعفاً وعجزاً وعَوزاً، وقد تغشاه ظلام محزن أليم، يدعو كل إنسان إلى الإشفاق عليه. ولما كنت انظر بعين أهل الضلالة، صحتُ قائلاً: وا حسرتاه! وإذا بالإيمان يمنحني نظّارة، شاهدتُ من خلالها: طلوع اسم )الرحيم( من برج الشفقة، ينشر أضواءه الزاهية الجميلة، حتى حوّل ذلك العالم المحزن إلى عالم بهيج، وقَلَب عبرات الشكوى والألم والحزن المنهمرة من عيني إلى دموع الفرح والشكر والامتنان.

ثم تراءى لي عالم الإنسان كشاشة سينمائية، فأنعمتُ النظر فيه بمنظار أهل الضلالة، وإذا به: عالم مظلم مرعب.. لم أتمالك معه نفسي فأطلقتُ صرخة ألمٍ من أعماق قلبي قائلاً: وا أسفاه! ذلك لأن آمال الناس وأمانيهم الممتدة إلى الأبد، وتصوراتهم وأفكارهم المحيطة بالكون، وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم الفطرية التواقة إلى الخلود والجنة والسعادة الأبدية، وقواهم الطليقة غير المحددة فطرياً، واحتياجاتهم المتوجهة إلى غايات ومقاصد لا منتهى لها، وتعرضهم - مع ضعفهم وعجزهم - لهجمات ما لا يحصى من المصائب والأعداء.. مع كل هذا، لهم عمرٌ جدّ قصير، ويحيون حياةً ملؤها الصخب والقلق، يذوقون مرارة الموت كل يوم بل كل ساعة، يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم ويتجرعون آلام الفراق والزوال التي هي اوجع للقلب واثقل على الوجدان، فضلاً عن انهم ينظرون إلى القبر والمقبرة نظر أهل الغفلة وكأنه باب إلى ظلام سرمدي، يُرمَون في غياهبه فرداً فرداً وطائفة إثر طائفة!

وهكذا.. ففي الوقت الذي رأيت عالم الإنسان هذا غارقاً في مثل هذه الظلمات وإذ أنا على وشك الصراخ من أعماق قلبي وروحي وعقلي، بل بجميع مشاعري بل بجميع ذرات وجودي، إذا بالنور المنبعث من القرآن والإيمان الراسخ الناشئ منه، يحطّم ذلك المنظار المضلّ، ويهب لعقلي بصراً نافذاً أرى به الأسماء الإلهية الحسنى وقد أشرقت كالشمس الساطعة من بروجها؛ فاسم الله )العادل( رأيته بازغاً من برج )الحكيم( واسم )الرحمن( من برج )الكريم( واسم )الرحيم( من برج )الغفور( - أي بمعناه - واسم )الباعث( من برج )الوارث( واسم )المحيي( من برج )المحسن( واسم )الرب( من برج )المالك( فأضاءت هذه الأسماء بنورها الباهر عوالم كثيرة داخل عالم الإنسان المظلم، وحوّلتها إلى عوالم مشرقة بهيجة، كما بددتْ تلك الحالات الجهنّمية بما فتحتْ من نوافذ إلى عالم الآخرة، حتى نثرت الأنوار إلى جميع جوانب ذلك العالم البائس للإنسان. فقلتُ: )الحمد لله(..)الشكر لله..( بعدد ذرات العالم، ورأيت بعين اليقين وعلمتُ علم اليقين:

)إن في الإيمان حقّاً جنة معنوية، وان في الضلال جحيماً معنوياً أيضاً في هذه الدنيا ذاتها(.

ثم ظهر في تلك الجولة عالمُ كرة الأرض، فعكست القوانين العلمية المظلمة بالفلسفة غير المنقادة للدين، إلى خيالي عالماً في منتهى الغرابة والدهشة. إذ تأملت هذه الأرض التي تزيد سرعة حركتها على سرعة طلقة المدفع بسبعين مرة وتقطع مسافة خمسة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وهي مع شيخوختها وهرمها معرضة للتشتت والتحطّم في كل لحظة، وتحمل في باطنها زلازل مخيفة، وعلى ظهرها هذا الإنسان البائس الذي تجوب به أجواء الفضاء غير المحدود.. فأشفقتُ على وضع هذا الإنسان وسط هذا الظلام الدامس الموحش المخيم عليه، ودار رأسي من هول ما رأيتُ وأظلمتِ الدنيا أمام عيني، فطرحتُ نظارة الفلسفة أرضاً وحطمتها كليا. ونظرت إلى الأمر ببصيرة وضاءة بحكمة القرآن، وإذا بأسماء خالق الأرض والسموات: القدير، العليم، الرب، الله، ربّ السموات والأرض ومسخر الشمس والقمر، قد أشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية شروق الشمس. فغمرت ذلك العالم الحالك الموحش المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أبصر بعينيّ المؤمنتين هاتين: أن الكرة الأرضية في غاية الانتظام والتسخير والتكامل للإنسان، وهي في أمان وسلام، فيها رزق كل مَن يدبّ عليها، كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنـزه والراحة والاستجمام والتجارة. تتجول بما عليها من مخلوقات، حول الشمس في مملكة ربانية واسعة، وهي مشحونة بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع والصيف والخريف.فقلت وقتئذٍٍ )الحمد لله على نعمة الإيمان( بعدد ما في الأرض من ذرات.

وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيراً من الموازنات الأخرى التي تتضمنها )رسائل النور( والتي تثبت: أن أرباب السفاهة والضلال يذوقون في الدنيا نفسها عذاباً جهنمياً معنوياً، كما أن أهل الصلاح والإيمان يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا. وبإمكانهم أن يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم ولطائفهم الإسلامية والإنسانية وبتجليات الإيمان وجلواته. بل يمكنهم الاستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت درجاتهم الإيمانية.

بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تسود فيه التيارات المعطّلة للمشاعر، والصارفة لأنظار البشرية إلى الآفاق الخاوية والغرق فيها، قد أوجدتْ صعقةً من النوع الذي يعطّل الإحساس، لذا فان أرباب الضلال لا يشعرون بعذابهم المعنوي مؤقتاً، وان أهل الهداية بدورهم قد داهمتهم الغفلة فلا يستطيعون أن يقـدروا لـذّة الإيمان الحقيقية حق قـدرهـا.

الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي:

إن أنواع الضلالة الناشئة من الإلحاد والعلوم الطبيعية، والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي، ليعتبران من الضآلة بحيث لا يُذكَران إذا ما قيسا بما عليه الوضع في وقتنا الراهن، لذا فقد كانت أدلّة علماء الإسلام ودراساتهم كافية لسدّ حاجات عصرهم، إذ كان كفر عصرهم مبنيّاً على الشك، فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث كان الإيمان بالله يسود أوساط الناس، وكان من اليسير إرشاد الكثيرين إلى طريق الهداية والصراط السوي، وإنقاذهم من السفاهة والضلال، وذلك بالتذكير بالله سبحانه والتخويف من عذابه فكان الكثيرون يتخلَّون عن غيهم.

أما اليوم فقد تغير الحال، إذ بينما كان يوجد - في الماضي - ملحد واحد في بلد، يمكن العثور الآن على مائة كافر في قصبة واحدة. وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمرّد في وجه حقائق الإيمان أضعاف أضعاف الماضي بمائة مرة. ولما كان هؤلاء المعاندون يعارضون الحقائق الإيمانية بغرور فرعوني وبتضليلات رهيبة، فلا مناص من أن يجابَهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية، لتحطّم مبادءَهم وأسسهم في هذه الدنيا وتقف زحفهم وتجاوزهم، بل تحمل قسماً منهم على التسليم والإيمان.

فنحن نحمد الله اجزل الحمد ونشكره شكراً لا منتهى له على أن )رسائل النور( قد أصبحت ترياقاً شافياً لجروح عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن الحكيم، ولمعة من لمعاته، فلقد استطاعت بموازناتها العديدة أن تحارب اشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن الألماسي، وتنصب الحجج وتقيم الأدلّة على الوحدانية الإلهية وحقائق الإيمان بعدد ذرات الكون.

ولعل هذا السرّ هو الذي جعلها لا تُغلَب ولا تنهزم منذ خمسة وعشرين عاماً، في وجه اشد الحملات شراسة، بل كانت هي الغالبة على الدوام(.[56]

ترجمة رسائل النور:

آ- الترجمة العربية:

كان الأستاذ النورسي (رحمه الله) يرغب في أن تترجم الرسائل التي يكتبها إلى العربية فوقع اختياره على أخيه - الملا عبدالمجيد -ـ من بين الملمّين باللغة العربية ليقوم بترجمة رسائله، وقد ترجم (رسالة الإخلاص)، (التستّر)، (الاقتصاد) ومجموعة (عصا موسى).. وغيرها.

إلاّ أن هذه الترجمات جاءت ضعيفة أفقدت الرسائل الكثير من جمالها وروائها ومع هذا فقد وافق عليها الأستاذ لعدم وجود افضل منها في حينه، ولحين أن يهيئ الله من يقوم بالترجمة بشكل افضل واحسن.

وقد قام الأستاذ محمد سعيد رمضان البوطي لأول مرة - جزاه الله خيراً - بتعريف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في كراس صغير ثم على صفحات مجلة حضارة الإسلام السورية تحت عنوان: )سعيد النورسي - أعجوبة الثورة الإسلامية في تركيا( ثم في كتاب (من الفكر والقلب).

وفي سنة 1974 قامت جماعة من طلبة النور بالترجمة والطبع والنشر في بيروت لبعض أجزاء رسائل النور، فجاءت ترجمتهم افضل مما سبق، منها )ذو الفقار( و )رائد الشباب( و )رسائل النور لا تنطفئ( و )الخطبة الشامية(.

وقد قامت كذلك مجلة (التربية الإسلامية) الصادرة ببغداد (العراق) بنشر مقالات من ترجماتنا وما زالت تنشرها بفضل الله. ثم وفقنا المولى القدير على ترجمة كليات رسائل النور كاملة في عشرة مجلدات.

ب - الترجمة الإنكليزية

ترجمت الأخت الكريمة شكران واحدة (مريم ويلد) من كليات رسائل النور: الكلمات، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات.. كما ألّفت مجلداً كاملاً في تاريخ حياة الأستاذ النورسي فضلاً عن ترجمتها عدداً كثيراًً من الرسائل الصغيرة.

ج - وقد بدأت ترجمات الرسائل تأخذ طريقها في كل من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وروسيا ورومانيا وبلغاريا والبوسنة كل بلغاتها.

د- ترجمات باللغات الشرقية:

1- ترجم الأستاذ محمد طاهر حسيني إلى اللغة الفارسية كثيراً من الرسائل طبعت منها: المعجزات الأحمدية، مرشد الشباب، الآية الكبرى، الإخلاص والاخوة، وتاريخ حياة الأستاذ.

2- ترجم الأخ فاروق رسول يحيى كثيراً من الرسائل إلى اللغة الكردية وطبعت ما يقارب العشرين منها.

3- ترجم عدد من الرسائل الصغيرة إلى الأوردية واللغة الهندية والماليزية كما ترجمت إلى كثير من لغات دول آسيا الوسطى.

تم بعون الله وتوفيقه

[1] هو مجدد عصره (470-561هـ ) ومؤسس الطريقة القادرية استقام على يديه كثير من المسلمين واسلم كثير من اليهود والنصارى.

[2] (971-1034هـ ) ينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. جاهد فتنة الملك (اكبر)، حباه الله بكرامات عظيمة ظاهرة، ادّى مهمة التجديد حق الاداء، يعتبر من أعاظم الطريقة النقشبندية، له مؤلفات كثيرة، منها "مكتوبات" ترجمه الى اللغة العربية محمد مراد في مجلدين وسماه "الدرر المكنونات" .

[3] المكتوبات / 457-459

[4] ذكريات عن سعيد النورسي/ ترجمة أسيد إحسان قاسم

[5] المكتوبات/ 111.

[6] المكتوبات/476.

[7] المكتوبات/477.

[8] الملاحق – قسطموني/181.

[9] من المحاضرة التي ألقيت في جامعة أنقرة سنة 1950

[10] الملاحق – قسطموني/220.

[11] الشعاعات/562.

[12] الملاحق – قسطموني/202

[13] الملاحق – قسطموني/105

[14] ملحق اميرداغ 1/97 "بالتركية".

[15] الملاحق – اميرداغ/248

[16] الكلمات/666

[17] المثنوي العربي النوري/35

[18] الملاحق – قسطموني/199

[19] اللمعات/176

[20] الكلمات/420

[21] المكتوبات/129

[22] المكتوبات/440

[23] الملاحق – قسطموني/297

[24] اللمعات/445

[25] اللمعات/445

[26] المكتوبات/424

[27] المكتوبات/486

[28] الملاحق – قسطموني/105

[29] الملاحق – قسطموني/105

[30] المثنوي العربي النوري/34

[31] الملاحق – قسطموني/104

[32] نفسه /143

[33] وقد حصل الأستاذ سمير رجب محمد درجة الدكتوراه سنة 1984 في بحث قدمه الى جامعة عين شمس حول الفكر الأدبي والديني عند سعيد النورسي.

[34] المكتوبات/112

[35] المكتوبات/121

[36] صيقل الإسلام- المحكمة العسكرية/473

[37] المكتوبات/424-426

[38] النقشبند (الشاه): هو محمد بهاء الدين مؤسس الطريقة النقشبندية ولد في قرية قصر عارفان، قرب بخارى، ودرس في سمرقند، تزوج في الثامنة عشرة من عمره، انتسب الى شيوخ كثيرين وعاد أخيراً الى بخارى ولم يغادرها حتى وفاته، وانشأ فيها طريقته ونشرها، وتوفي 3 ربيع الأول 791هـ 1389م عن (73) سنة من العمر. من مصنفاته: الأوراد البهائية، حياتنامة، تنبيه الغافلين.

[39] المكتوبات/27

[40] الملاحق – قسطموني/105

[41] الملاحق – اميرداغ 1/275

[42] المكتوبات/571-597

[43] صيقل الإسلام – محاكمات/42

[44] صيقل الإسلام – الخطبة الشامية/499

[45] الكلمات/293

[46] منها: أسرار النجوم، الذرة، المخ وكيف يعمل، جسم الإنسان، من الذرة إلى الخلية، الطاقة والحياة، الكوكب الحي، دارون ونظرية التطور، من الخلية إلى الإنسان، مولد الكون، علم البيئة، المنظومة الشمسية، الإنسان ومعجزة الحياة، أسرار النباتات، الدم وجهاز الدوران، مذكرات نحلة، وأسرار الذرة…..الخ.

وقد قام السيد أورخان محمد علي بترجمة باقة من هذه الرسائل العلمية المبتكرة إلى اللغة العربية ونشرها في العراق منها: دارون ونظرية التطور، الإنسان ومعجزة الحياة، مولد الكون، أسرار الذرة، ومذكرات نحلة.

[47] اللمعات/268

[48] Nurun ilk kapisi

[49] الملاحق – اميرداغ 1/286

[50] الكلمات/639

[51] الكلمات/640

[52] الكلمات/645-646

[53] الكلمات/648

[54] صيقل الإسلام – المناظرات/390

[55] إشارات الإعجاز/150

[56] صيقل الإسلام – الخطبة الشامية/483-487